ﰡ
١٢٣ - قال اللَّه تعالى: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج الترمذي وأبو داود والنَّسَائِي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان رجل يُقال له مرثد بن أبي مرثد، وكان رجلاً يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، قال: وكانت امرأة بغيٌ بمكة يُقال لها عناق، وكانت صديقة له، وأنه كان وعد رجلاً من أَسارى مكة يحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، قال: فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط فلما انتهت إليَّ عرفت، فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد. فقالت: مرحباً وأهلاً هَلُمَّ فبت عندنا الليلة. قال: قلت: يا عناقُ حرم اللَّه الزنا، قالت: يا أهل الخيام، هذا الرجل يحمل أُسراءَكم، قال: فتبعني ثمانية، وسلكت الخندمة فانتهيت إلى كهف أو غار فدخلت، فجاؤوا حتى قاموا على رأسي فبالوا فظل بولهم على رأسي، وعماهم اللَّه عني، قال: ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته وكان رجلاً ثقيلاً حتى انتهيت إلى الإذخر،
٢ - وأخرج النَّسَائِي وأحمد عن عبد اللَّه بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت امرأة يُقال لها أم مهزول، وكانت بجيادٍ وكانت تسافح، فأراد رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتزوجها، فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد أورد بعض المفسرين هذين الحديثين ومعهما غيرهما عند تفسيرها منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
قال الطبري: (اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في بعض من استأذن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نكاح نسوة كن معروفات بالزنا من أهل الشرك، وكن أصحاب رايات يكرين أنفسهن فأنزل اللَّه تحريمهن على المؤمنين) اهـ.
وذهب ابن عاشور إلى أن الآية نزلت بسبب مرثد الغنوي فقال: (وسبب نزول هذه الآية ما رواه أبو داود والترمذي وحسنه أنه كان رجل يقال له مرثد ابن أبي مرثد الغنوي من المسلمين فذكر الحديث بكماله... حتى قال: فتبين أن هذه الآية نزلت جوابًا عن سؤال مرثد ابن أبي مرثد هل يتزوج عناق) اهـ.
وعندي - واللَّه أعلم - أنه يمكن أن تكون كنية عناق أمَّ مهزول وحينئذٍ يكون المراد من الحديثين امرأة واحدة.
فإن لم يكن الأمر كذلك فلا مانع أن تكون الآية نازلةً جواباً لسؤال أحد
* النتيجة:
أن الآية نزلت فيمن استأذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نكاح من كن معروفات بالزنى، وذلك لدلالة لفظ الآية، وأقوال المفسرين والأحاديث المروية على ذلك والله أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - (أ) أخرج البخاري وأحمد والدارمي ومسلم وأبو داود والنَّسَائِي وابن ماجه عن سهل بن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن عويمراً العجلانيَّ جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له: يا عاصم، أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم عن ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأل عاصم عن ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكره رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسائل وعابها، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما رجع عاصمٌ إلى أهله، جاءه عويمر فقال: يا عاصم، ماذا قال لك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال عاصم: لم تأتني بخير، قد كره رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسألة التي سألته عنها، قال عويمر: واللَّه لا أَنتهي حتى أسأله عنها، فأقبل عويمر حتى أتى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسط الناس، فقال: يا رسول اللَّه أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (قد أنزل اللَّه فيك وفي صاحبتك فاذهب فَأُتِ بها) قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول اللَّه إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(ب) وفي لفظ للبخاري: فقال عويمر: واللَّه لآتينَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاء وقد أنزل الله تعالى القرآن خلف عاصم، فقال له: (قد أنزل الله فيكم قرآناً).
٢ - أخرج البخاري ومسلم والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: ذُكر التلاعن عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال عاصم بن عدي في ذلك قولاً، ثم انصرف فأتاه رجل من قومه يشكو إليه أنه قد وجد مع امرأته رجلاً، فقال عاصم: مما ابتليتُ بهذا إلا لقولي، فذهب به إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بالذي وجد عليه امرأته، وكان ذلك الرجل مصفرًّا، قليل اللحم، سَبْطَ الشعر، وكان الذي ادعى عليه أنه وجده عند أهله خَدْلاً آدم كثير اللحم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اللهم بيِّن) فجاءت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده، فلاعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما.
قال رجل لابن عبَّاسٍ في المجلس: هي التي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لو رجمتُ أحدًا بغير بينة رجمتُ هذه) فقال: لا تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء.
(ب) وفي رواية للبخاري ومسلم عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: فرّق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أخويْ بني العجلان وقال: (اللَّه يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب) فأبيا، فقال: (اللَّه يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب). فأبيا فقال: (اللَّه يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب) فأبيا، ففرق بينهما.
٤ - أخرج مسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجه عن عبد اللَّه بحن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إنا ليلة الجمعة في المسجد. إذ جاء رجل من الأنصار
٥ - أخرج مسلم والنَّسَائِي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن هلال بن أُمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، وكان أخا البراء بن مالك لأمه. وكان أول رجل لاعن في الإسلام. قال: فلاعنها فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أبصروها فإن جاءت به أبيض سبطاً قضيء العينين فهو لهلال بن أُمية وإن جاءت به أكحل جعداً حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء) قال: فأُنبئتُ
ولفظ النَّسَائِي: إذ نزلت عليه آية اللعان: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ).
٦ - أخرج البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن هلال بن أُمية قذف امرأته عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشريك بن سحماء فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (البينة أو حد في ظهرك) فقال: يا رسول اللَّه، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (البينة وإلا حد في ظهرك) فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل وأنزل عليه: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) فقرأ حتى بلغ (إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فانصرف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأرسل إليها، فجاء هلال فشهد، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب) ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة.
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآيات. وقد أورد جمهور المفسرين هذه الأحاديث أو بعضها على اختلاف بينهم منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية، والقرطبي وابن كثير، وابن عاشور.
قال ابن عطية: (والمشهور أن نازلة هلال قبل وأنها سبب الآية، وقيل نازلة عويمر قبل وهو الذي وسط إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاصم بن عدي) اهـ.
قال القرطبي: (قال الطبري: يستنكر قوله في الحديث هلال بن أُمية وإنما القاذف عويمر بن زيد بن الجد بن العجلاني رماها بشريك بن السحماء والسحماء أمه، قيل لها ذلك لسوادها وهو ابن عبدة بن الجد بن العجلاني، كذلك كان يقول أهل الأخبار... وذكر كلامًا إلى أن قال: قال الكلبي: والأظهر أن الذي وجد مع امرأته شريكًا عويمر العجلاني لكثرة ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعنَ بين العجلاني وامرأته، واتفقوا على أن هذا الزاني هو شريك بن عبدة وأمه السحماء، وكان عويمر وخولة بنت قيس وشريك بني عم عاصم) اهـ.
وقال ابن عاشور: لما ذكر قصة عويمر: (فكانت هذه الآية مبدأ شرع الحكم في رمي الأزواج نساءهم بالزنى. واختلط صاحب القصة على بعض الرواة فسموه هلال ابن أُمية الواقفي. وزيدَ في القصة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: (البينة وإلا حد في ظهرك) والصواب أن سبب نزول الآية قصة عويمر العجلاني وكانت هذه الحادثة في شعبان سنة تسع عقب القفول من غزوة تبوك، والتحقيق أنهما قصتان حدثتا في وقت واحد أو متقارب) اهـ.
وبعد نقل أقوال بعض المفسرين سأنقل ما وقفت عليه من أقوال المحدثين:
وقد نقل البيهقي بإسناده إلى الشافعي أنه قال: (وقد قذف العجلاني امرأته بابن عمه، وابن عمه شريك بن السحماء).
ثم قال: هكذا ذكره الشافعي في الإملاء أن القاذف كان العجلاني وهو عويمر العجلاني المذكور في حديث سهل بن سعد الساعدي، والذي رُمي به شريك بن السحماء وهو المذكور في حديث عكرمة عن ابن عبَّاسٍ وفي حديث أنس بن مالك وبمعناه نقل المزني في المختصر، فذهب بعض مشايخنا إلى أن هذا غلط، فإن القاذف بشريك بن سحماء هو هلال بن أُمية، وكذلك رواه عكرمة عن ابن عبَّاسٍ أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، أما عويمر العجلاني فإنه لم يسم من رمى امرأته به.
كذلك رواه سهل بن سعد الساعدي وعبد اللَّه بن عمر دون اسم المرمي به غير أن في رواية سهل ما دلّ على أنه رماها برجل بعينه لأنه قال في حديثه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن جاءت به لنعت كذا فلا أراه إلا قد صدق عليها، فلولا أنه كان مسمى بعينه لما جعل شبه الولد به علاقة لصدقه إلا أنه لم ينقله سهل.
وهذا الذي ذهب إليه هذا القائل محتمل غير أن الشافعي - رحمه الله - لم ينفرد بهذا القول وتبع فيما قال من رواية من رواه كذلك وهي رواية المغيرة بن عبد الرحمن وابن أبي الزناد عن أبي الزناد عن القاسم بن محمد عن ابن عبَّاسٍ أنه سمع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعنَ بين العجلاني وامرأته وكانت حاملاً وكان الذي رميت به ابن السحماء. ثم فكر كلامًا حتى قال:
والذي يغلب على ظني أن الذي رواه ابن عبَّاسٍ وابن عمر وسهل بن
وخالف هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أنس سهلاً وابن عمر، ثم رواية القاسم عن ابن عبَّاسٍ فيها.
وإذا صرنا إلى الترجيح فرواة حديث ابن عمر وسهل بن سعد أحفظ وأوثق ومع روايتهم روايةُ القاسم بن محمد عن ابن عبَّاسٍ التي جمع فيها بين تسميته الرامي والمرمي به فالاعتماد على روايتهم في اسم القاذف.
وعلى رواية عكرمة وهشام بن حسان في اسم المرمي به.
ثم على رواية القاسم بن محمد عن ابن عبَّاسٍ في اسمهما جميعًا، وقول الشافعي في الإملاء صحيح على ما ذكرناه واللَّه أعلم) اهـ بتصرف.
وقال ابن العربي: (السابعة وهو عويمر وقد روى ما قدمنا هلال بن أمية قال الناس هو وهم من هشام بن حسان، وعليه دار الحديث لابن عبَّاسٍ بذلك وحديث أنس وقد رواه القاسم عن ابن عبَّاسٍ كما رواه الناس فيهن فيه الصواب) اهـ.
وقال القاضي عياض: (جاء في هذه الأحاديث هلال بن أمية وهو خطأ، والصحيح أنه عويمر) اهـ.
وقال القرطبي: ((قوله: أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان) هو - والله أعلم - عويمر العجلاني المتقدم الذكر) اهـ
وقال في موضع آخر: (وقوله في هلال بن أُمية إنه كان أول من لاعنَ في
وقال النووي: (واختلف العلماء في نزول آية اللعات هل هو بسبب عويمر العجلاني أم بسبب هلال بن أمية فقال بعضهم. بسبب عويمر العجلاني واستدل بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك، وقال جمهور العلماء: سبب نزولها قصة هلال بن أُمية واستدلوا بالحديث الذي ذكره مسلم في قصة هلال قال وكان أول رجل لاعن في الإسلام، قال الماوردي من أصحابنا في كتابه الحاوي: قال الأكثرون قصة هلال بن أمية أسبق من قصة العجلاني قال والنقل فيهما مشتبه ومختلف وقال ابن الصباغ من أصحابنا في كتابه الشامل: قصة هلال تبين أن الآية نزلت فيه أولاً قال وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعويمر إن اللَّه قد أنزل فيك وفي صاحبتك فمعناه ما نزل في قصة هلال لأن ذلك حكم عام لجميع الناس.
قلت: ويحتمل أنها نزلت فيهما جميعاً فلعلهما سألا في وقتين متقاربين فنزلت الآية فيهما وسبق هلال باللعان فيصدق أنها نزلت في ذا وفي ذاك وأن هلالاً أول من لاعنَ واللَّه أعلم) اهـ
وقد تكرر كلام ابن حجر في عدة مواضع فقال مرة: (ولا مانع أن تتعدد القصص ويتحد النزول).
وقال أيضاً: (ويحتمل أن النزول سبق بسب هلال، فلما جاء عويمر ولم يكن علم بما وقع لهلال أعلمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحكم، ولهذا قال في قصة هلال (فنزل جبريل) وفي قصة عويمر (قد أنزل اللَّه فيك) فيؤول قوله قد أنزل اللَّه فيك أي وفيمن كان مثلك).
وقال أيضاً: (وقد قدمت اختلاف أهل العلم في الراجح من ذلك وبينت كيفية الجمع بينهما بأن يكون هلال سأل أولاً، ثم سأل عويمر فنزلت في شأنهما معا، وظهر لي الآن احتمال أن يكون عاصم سأل قبل النزول ثم جاء هلال بعده فنزلت عند سؤاله فجاء عويمر في المرة الثانية التي قال فيها: (إن الذي سألك عنه قد ابتليت به) فوجد الآية نزلت في شأن هلال فأعلمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنها نزلت فيه، يعني أنها نزلت في كل من وقع له ذلك لأن ذلك لا يختص بهلال) اهـ.
وقال أيضاً: (ولا يمتنع أن يتهم شريك بن سحماء بالمرأتين معاً) اهـ
وبعد استقراء أقوال المفسرين والمحدثين في المسألة تبين اقتصارها على أربعة أقوال:
الأول: أن الآية نزلت بسبب عويمر العجلاني، واختار هذا الكلبي والشافعي والطبري وأبو عبد اللَّه بن أبي صفرة وابن بطال والبيهقي وابن العربي والقاضي عياض وأبو العباس القرطبي، والنووي احتمالاً، وكذا ابن عاشور.
وحجتهم ما يلي:
١ - كثرة ما روي أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعنَ بين العجلاني وامرأته وهو ما يصدق على عويمر دون هلال بن آمية.
٢ - توقف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحكم فيها حتى أنزل الله فيها الآية ولو أنهما قضيتان لم يتوقف عن الحكم فيها، ولحكم في الثانية بما أنزل اللَّه في الأولى.
٣ - أن الأحاديث خبر عن قصة واحدة لاتفاقهم على ذكر نزول الآية، والنزول يكون مرة واحدة واتفاقهم على أنه رماها وهي حامل وأن
٤ - أن حديث سهل وإن لم يُسمِّ فيه المقذوف فإنه كان معروفاً بعينه ولهذا ذكر أوصافه.
٥ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعويمر: (قد أنزل اللَّه فيك وفي صاحبتك).
٦ - أنه قد روى المغيرة بن عبد الرحمن وابن أبي الزناد عن أبي الزناد عن القاسم بن محمد عن ابن عبَّاسٍ قال: لاعنَ بين العجلاني وامرأته وكان الذي رميت به ابن السحماء.
٧ - أن عكرمة وهشاماً قد خالفا القاسم بن محمد وسهلاً وابن عمر في تسميتهما القاذف بهلال بن أُمية، ثم إن رواة حديث ابن عمر وسهل بن سعد أحفظ وأوثق ومع روايتهم رواية القاسم عن ابن عبَّاسٍ.
٨ - أن هشام بن حسان قد غلط في الحديث ووهم.
٩ - أن أهل الأخبار كانوا يقولون: إن القضية في عويمر العجلاني.
القول الثاني: أن الآية نزلت بسبب هلال بن أمية واختار هذا الماوردي وعزاه إلى الأكثرين وابن الصباغ، ونسبه النووي إلى جمهور العلماء ومال إليه بعض الشافعية وذكره ابن حجر احتمالاً.
وحجتهم ما يلي:
١ - لما روى البخاري عن عكرمة عن ابن عبَّاسٍ، ومسلم عن هشام عن ابن سيرين عن أنس.
٢ - أن المقذوف في قصة هلال قد سمي بخلاف قصة عويمر.
٣ - لما روي مسلم في قصة هلال (وكان أول رجل لاعنَ في الإسلام).
٤ - أنه جاء في قصة هلال (فنزل جبريل).
القول الثالث: أن تكون القصتان وقعتا في وقت واحد أو متقارب فسألا فنزلت الآية فيهما معاً، واختاره ابن حجر وابن عاشور، وذكره القرطبي والنووي احتمالاً.
والحجة فيه: اختلاف السياقين وخلو أحدهما مما وقع في الآخر، وما وقع بين القصتين من المغايرة.
وليس لهذا القول حجة إلا الخوف من توهيم الرواة.
وهذان القولان الثالث والرابع متلازمان يؤولان إلى تعدد الواقعة لأن تكرر النزول نتيجة لتكرر الحدث.
وقبل مناقشة هذه الأقوال يحسن عقد مقارنة بين صفات القاذفين وأخرى بين صفات المقذوفين فلعل نتيجة المقارنة تجيب على الكثير من الأسئلة التي تدور في الذهن. ثم المقارنة بين صفات القاذف والمقذوف.
وقد قمت بجمع الأوصاف الخِلقية من مصادر السنة التي روت القصة برواياتها المختلفة، وسأشرح الألفاظ الغريبة منها وإن كان قد تقدم شرحها لما في ذلك من الإيضاح والبيان.
دلت الروايات على أن صفة القاذف في قصة عويمر العجلاني ما يلي:
١ - عن سهل بن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وإن جاءت به أحمر قصيراً كأنه وَحَرَة فلا أُراها إلا قد صدقت وكذب عليها.
ب - عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: وكان ذلك الرجل مصفرًا، قليل
جـ - عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: وكان زوجها حمش الساقين والذراعين، أصهب الشعرة.
فاجتمع من هذه الأحاديث الأوصاف التالية: أحمر، قصيراً، وَحَرَة، مصفراً، قليل اللحم، سبط الشعر، حمش الساقين والذراعين، أصهب الشعرة.
دلت الروايات على أن صفة القاذف في قصة هلال بن أُمية ما يلي:
١ - عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أبصروها فإن جاءت به أبيض سبطاً قضيء العينين فهو لهلال بن أمية.
ب - عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن جاءت به أُصيهب، أُريصح، أُثيبج، حمش الساقين فهو لهلال.
وهنا يحسن أيضاً النظر في صفات القاذفين ليتبين هل بينها توافق أو تعارض؟.
١ - أما اللون: فقد جاء فيه أبيض، أحمر، مصفراً.
٢ - أما حال الشعر: فإنه سبط.
٣ - أما لون الشعر: فأشقر.
٤ - أما العينان: فإنه قضيء العينين.
٥ - أما الإليتان: فإنه أُريصح.
٦ - أما الساقان: فإنه حمش الساقين.
٧ - أما القامة: فإنه قصير.
٨ - أما اللحم: فإنه قليل اللحم.
٩ - أما حال ما بين الكتفين والكاهل فإنه أُثيبج.
١٠ - أما الحجم: فإنه كالوحرة صغير الحجم.
ولونه الأبيض لا يعارض الأحمر لأن الأحمر يراد به الأبيض أحياناً، والصفرة لا تعارض البياض، ومن المشاهد أن لون الإنسان يتبدل ويتشكل بحسب ما يعتريه من العوارض الحياتية كالمرض، والهزال، والحزن، ونحو ذلك.
ويمكن أن يُقال أيضاً إن وصفه بالصفرة ليس وصفاً نبوياً سالماً من الخطأ بل هو وصف ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حيث قال: وكان ذلك الرجل مصفرّاً.
وربما رآه ابن عبَّاسٍ كذلك بعدما نزلت به تلك المصيبة فيكون الاصفرار عارضاً بسبب الحزن، وحينئذٍ يلغى الوصف إن كان يعارض وصف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويظل وصف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياه بالحمرة والبياض أصلاً.
أما سائر الأوصاف فليس فيها اختلاف أو تناقض بل هي مكملة لبعضها. واللَّه أعلم.
دلت الروايات على أن صفة المقذوف في قصة عويمر العجلاني ما يلي:
(ب) عن سهل بن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وإن جاءت به أسود أعين، ذا إليتين فلا أُراه إلا قد صدق عليها) فجاءت به على المكروه من ذلك.
(جـ) عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: وكان الدي وجد عند أهله آدم، خدلاً، كثير اللحم، جعداً، قططاً. فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اللهم بيِّن) فوضعت شبيهاً بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجد عندها.
(د) عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: فولدت غلامًا أسود، أجلى،
دلت الروايات على أن صفة المقذوف في قصة هلال بن أمية ما يلي:
(أ) - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: (أبصروهها فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الإليتين، خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء) فجاءت به كذلك.
(ب) - عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وإن جاءت به أكحل جعداً، حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء) فأُنبئت أنها جاءت به أكحل جعداً، حمش الساقين.
(جـ) - عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فإن جاءت به أورق، جعداً، جمالياً، خدلج الساقين، سابغ الإليتين فهو للذي رميت به فجاءت به أورق، جعداً، جماليا، خدلج الساقين سابغ الإليتين) والقاذف هنا هلال فيكون المقذوف شريكاً.
هـ - عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لعلها أن تجيء به أسود، جعداً) فجاءت به أسود، جعدًا.
وهنا يحسن النظر في صفات المقذوفين ليتبين ما بينها من التوافق والتعارض.
١ - أما اللون: فقد جاء فيه أسحم، أسود، آدم، أورق.
٢ - أما حال الشعر: فقد جاء فيه جعدًا، قططاً.
٣ - أما العينان: فإنه أكحل العينين، أدعج العينين، أعين.
٤ - أما الذراعان: فإنه عبْل الذراعين.
٥ - أما الإليتان: عظيم الإليتين، ذا إليتين، سابغ الإليتين.
٦ - أما الساقان: فإنه خدلج الساقين، خدل، حمش الساقين.
٧ - أما الطول: فإنه ربْع.
٨ - أما اللحم: فإنه كثير اللحم.
٩ - أما الحجم: فإنه جماليٌّ.
١٠ - أما كثافة الشعر: فإنه أجلى.
وبناءً على تلك الأوصاف المتقدمة فلونه الأسود والأسحم معناهما واحد، والآدم والأورق معناهما السمرة، والسمرة لا تنافي السواد لأنها سواد خفيف. وقد وصف كل واحد منهما بأنه آدم وأسود.
أما العينان: فالأدعج لا ينافي الأكحل فهما دائران على سواب في العين وغيرها كالجفن. والأعين، وإن كان ليس بمعناهما، لكنه لا يخالفهما بل يجتمع معهما.
أما الساقان: فقد تقدم أن وصفهما بالحموشة وهم، ولعل مما يؤكد هذا أن الحموشة لا تتفق مع كثرة اللحم، وعظم الإليتين، وضخامة الأعضاء لأن العادة أن السمن والضخامة يشمل البدن كله، كما أن النحافة والنحول كذلك.
أما بقية الأوصاف فليس بينها تعارض بل هي مكملة لبعضها. واللَّه أعلم.
وإذا أردنا أن نعقد مقارنة بين خلاصة أوصاف القاذف والمقذوف تبين الآتي:
* * * [القاذف] * * * * * * * [المقذوف]
١ - أبيض اللون - * * * * * أسود
٢ - سبط الشعر - * * * * * جعد قطط
٣ - قضيء العينين * * * * * أدعج العينين
٤ - خفيف لحم الإليتين * * عظيمهما
٥ - حمش الساقين * * * * خدلج الساقين
٦ - قصير القامة * * * * * ربْع في طوله
٧ - قليل اللحم * * * * * كثير اللحم
٨ - صغير الحجم كالوحرة * * * كبير الحجم كالجمل
وقبل الوصول إلى نتيجة بحث التعدد سأذكر بعض الاحتمالات في المقذوف والقاذف فأقول: الأوصاف المذكورة في المقذوف متفقة ومتطابقة تماما وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من حالين اثنين لا ثالث لهما:
وهذا الاحتمال بعيد جداً، حتى إن مجرد تصوره كافٍ في اطراحه.
الثانية: أن تكون هذه الأوصاف لموصوف واحد وعلى هذا يرد احتمالان:
الأول: أن يقع الفعل منه بالمرأتين جميعاً في زمن متقارب ثم يذهب الزوجان إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليخبراه الخبر، ثم يقع لعان المرأتين ثم تلدان ذكرين، كلٌّ منهما يشبه المقذوف هذا من البعيد أيضاً وإن كان أقرب من الأول.
ومن العجيب أن الحافظ ابن حجر قال: (ولا يمتنع أن يتهم شريك بن سحماء بالمرأتين معاً). ونتيجة ذلك ثلاثة يتطابقون في الشبه.
الثاني: أن يقع الفعل منه بامرأة واحدة فتحمل منه وتنجب ذكراً يشبهه وهذا ممكن وواقع وليس بغريب ولا بعيد.
وإذا كان المقذوف واحداً فمن يكون؟
فالجواب: أنه شريك بن سحماء لأمرين:
الأول: أن كل الروايات التي تسمي لا تذكر إلا شريك بن سحماء باسمه.
الثاني: أن كل الروايات التي لم تُسمِّ المقذوف ذكرت أوصافاً تطابق أوصاف شريك بن سحماء.
بقي سؤال أخير هنا وهو هل وقع الفعل من شريك بامرأة واحدة أو اثنتين؟
أما القاذف فالأوصاف المذكورة فيه متفقة ومتكاملة وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من حالين اثنين لا ثالث لهما:
الأولى: أن تكون هذه الأوصاف لموصوفين اثنين وعلى هذا يرد احتمالان:
الأول: أن يحمل كل واحد منهما نفس الصفات التي يحملها الآخر، ثم يقع الفعل من زوجتيهما في زمن متقارب جداً ثم تحملان ثم تضعان ذكرين وهذان الذكران يشبهان المقذوف وهذا الاحتمال بعيد ومتكلف.
الثاني: أن يحمل كل واحد من القاذفين بعض الصفات الواردة، ثم يقع الفعل من زوجتيهما في زمن متقارب جداً ثم تحملان وتضعان ذكرين يشبهان المقذوف وهذا لا يمكن لسببين:
١ - إنه من البعيد أن تكون صفات القاذفين بمجموعهما تقابل صفات المقذوف تماماً، كما هو حاصل معنا حيث تقابلت الصفات تماماً.
ب - أن المقابلة بين القاذف والمقذوف كما أرادها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تتحقق من كل وجه، لأن القاذف ناقص الصفات، والمقذوف كامل الصفات فالناقص لا يقابل الكامل إلا في بعضها.
الثانية: أن تكون هذه الأوصاف لموصوف واحد قذف أهله بفاحشة الزنى، وهذا هو الصحيح لا ريب أنه ليس ثمَّ إلا قاذف واحد.
وبناءً على ما تقدم يتبين جواب السؤال السابق هل وقع الفعل من شريك بامرأة واحدة أو اثنتين؟
فيقال: بل بامرأة واحدة فقط.
وحينئذٍ يرد السؤال الأخير من هو القاذف؟
والجواب: أنه قد تبين فيما تقدم من دراسة حديثي أنس بن مالك وابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - والنظر في طرقهما أن ذكر هلال بن أمية وامرأته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خطأ، وأن الصواب في قضية اللعان التي وقعت في عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن
ولعل مناقشة الأقوال الأربعة تكشف المزيد من الأدلة لهذه النتيجة.
وسأبدأ بالقول الرابع: وهو أن الآية أُنزلت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرتين.
وهذا القول ضعيف إذ قد تبين مما تقدم أن القصة واحدة فلماذا تنزل الآية مرتين، وإذا كان قائله قد جعله احتمالاً بعيداً ألجأه إليه الخوف من توهيم الرواة فكيف يقبله غيره؟.
أما القول الثالث: وهو أن تكون القصتان وقعتا في وقت واحد أو متقارب فسألا فنزلت الآية فيهما، واحتجاجهم باختلاف السياقين.
فالجواب: أنه قد تقرر أن القصة واحدة لم تتكرر، واختلاف السياقين ليس دليلاً على اختلاف القصة. وإذا كان قد وقع من الرواة خطأً إقحامُ هلال وزوجه في قضية ليس لهما فيها ناقة ولا جمل مع عِظَم ذلك فوقوع الأقل من باب أولى.
أما القول الثاني: وهو أن الآية نزلت بسبب هلال بن أمية فالجواب عن أدلتهم بما يلي:
١ - حديث ابن عبَّاسٍ عند البخاري، وأنس عند مسلم قد تقدم جوابه.
٢ - أن المقذوف في قصة هلال قد سمي بخلاف قصة عويمر فهذا حق، لكن المقذوف في قصة عويمر قد وُصِف وصفاً يعرف به بعينه، وربما كان الوصف أبلغ؛ لأن الاشتراك في الأسماء أكثر من الاشتراك في الأوصاف، ولهذا لما اشتركا في الأوصاف قلنا هي لرجل واحد.
٣ - أن قول أنس: (وكان أول رجل لاعنَ في الإسلام) لا حجة فيه لأنه مقابل بغيره وذلك في حديث ابن عمر: (إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان) وجاء في حديثه (فرق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أخوي بني العجلان) وهو ما يصدق على عويمر دون هلال لأنه واقفي وليس عجلانياً.
٤ - أنه جاء في قصة هلال: (فنزل جبريل) وهذا لا حجة فيه لأنه مقابلٌ بمثله وأكثر منه ومن ذلك: (قد أنزل اللَّه فيك وفي صاحبتك) وفيه (قد أنزل اللَّه فيكم قرآناً) وفي حديث ابن عمر: (فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - هؤلاء الآيات في
أما القول الأول: فقد ذكروا عددًا من الحجج على قولهم إنها في عويمر وأعتقد أن جميع ما ذكر هو الصحيح باستثناء قولهم: إن أهل الأخبار كانوا يقولون إن القضية في عويمر العجلاني فإني لم أجد من قال هذا من الأخباريين.
أما قولهم: إنه قد روى المغيرة بن عبد الرحمن وابن أبي الزناد عن أبي الزناد عن القاسم بن محمد عن ابن عبَّاسٍ فسأذكر هذا الحديث لأهميته إذ اجتمع فيه ذكر القاذف والمقذوف تصريحاً. فعن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعنَ بين العجلاني وامرأته، قال: وكانت حبلى، فقال: والله ما قربتُها منذ عَفَرْنا. - قال: والعَفْرُ: أن يُسقى النخل بعد أن يترك من السقي، بعد الإبَار بشهرين - قال: وكان زوجها حمش الساقين والذراعين، أصهب الشعرة، وكان الذي رميت به ابن السحماء، قال: فولدت غلامًا أسود، أجلى، جعداً، عبل الذراعين، قال: فقال ابن شداد بن الهاد لابن عبَّاسٍ: أهي المرأة التي قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لو كنت راجماً بغير بينة لرجمتها)؟ قال: لا تلك امرأة كانت قد أعلنت في الإسلام.
وبهذا يتبين أن أصح الأقوال وأسعدها بصحيح المنقول وصريح المعقول هو القول الأول وأن القصة نزلت بسبب عويمر العجلانى حين قذف امرأته بالزنى مع شريك بن سحماء العجلاني.
* النتيجة:
أن سبب نزول آيات اللعان أن عويمراً العجلاني قذف امرأته بشريك بن سحماء وذلك لصحة الأحاديث في ذلك وخلوها من معارض راجح والله أعلم.
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي، فخرجت مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدما نزل الحجاب فأنا أُحمل في هودجي وأُنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عقد لي من جَزْع ظَفَار قد انقطع، فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه،
وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلهن اللحم، إنما تأكل العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها دلّ ولا مجيب، فأممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليَّ.
فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد اللَّه بن أبي ابن سلول، فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهراً، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يَرِيبُنِي في وجعي أني لا أعرف من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيسلم ثم يقول: (كيف تيكم). ثم ينصرف، فذاك الذي يريبني ولا أشعر، حتى خرجت بعدما نقهت، فخرجت معي أم مسطح قبل
فانطلقت أنا وأم مسطح، وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلاً شهد بدراً. قالت: أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال؟ قالت: قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً على مرضي.
فلما رجعت إلى بيتي ودخل علي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعني - سلم ثم قال: (كيف تيكم). فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأنا حينئذٍ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، قالت: فأذن لي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك، فواللَّه لقلما كانت امرأة قط وضيئة، عند رجل يحبها، ولها ضرائر إلا كثرن عليها. قالت: فقلت: سبحان اللَّه، ولقد تحدث الناس بهذا؟
قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي، فدعا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد فأشار على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود. فقال: يا رسول اللَّه، أهلك وما نعلم إلا خيراً. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول اللَّه لم يضيق اللَّه عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بريرة فقال: (أي بريرة،
فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستغدر يومئذ من عبد الله بن أبي ابن سلول، قالت: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر: (يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي).
فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، أمرتنا ففعلنا أمرك.
قالت: فقام سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحًا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى همو أن يقتتلوا، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
قالت: فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، قالت: فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا، لا أكتحل بنوم، ولا يرقأ لي دمع، يظنان أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، فاستأذنت عليَّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي.
قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهراً لا
قالت: (فلما قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقالته قلص دمعي، حتى ما أحسن منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما قال: قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت لأمي: أجيبي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: ما أدري ما أقول لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قالت: فقلت، وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن: إني واللَّه لقد علمت: لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة، واللَّه يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، واللَّه يعلم أني منه بريئة لتصدقني، واللَّه ما أجد لكم مثلاً إلا قول أبي يوسف قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ). قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي. قالت: وأنا حينئذٍ أعلم أني بريئة، وأن اللَّه مبرئي ببراءتي، ولكن واللَّه ما كنت أظن أن اللَّه منزل في شأني وحيًا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم اللَّه فيَّ بأمر يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النوم رؤيا يبرئني اللَّه بها.
قالت: فواللَّه ما رام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات، من ثقل القول الذي ينزل عليه. قالت: فلما سري عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سري عنه وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: (يا عائشة، أما اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فقد برأك). فقالت أمي: قومي إليه، قالت: فقلت: واللَّه لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله - عَزَّ وَجَلَّ -، وأنزل اللَّه:
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآيات وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث وجعلوه سببًا لنزول الآيات الكريمات كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
قال ابن عطية: (هذه الآية وما بعدها إلى ست عشرة آية أُنزلت في عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - وما اتصل بذلك من أمر الإفك). اهـ.
وقال القرطبي: (وسبب نزولها ما رواه الأئمة من حديث الإفك الطويل في قصة عائشة - رضوان اللَّه عليها - وهو خبر صحيح مشهور أغنى اشتهاره عن ذكره). اهـ.
وقال ابن كثير: (هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لها ولنبيه - صلوات اللَّه وسلامه عليه - فأنزل الله تعالى براءتها صيانة لعرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اهـ.
وقال السعدي: (وهذه الآيات نزلت في قصة الإفك المشهورة الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد). اهـ.
* فائدة:
قد أفاد الحديث فائدة جليلة وهي أن طول الأمد بين الواقعة والحدث وبين نزول الآيات لا يمنع السببية، قالت عائشة: (وقد لبث شهراً لا يُوحى إليه في شأني) ومع هذا فقد أجمع المفسرون على أن واقعة الإفك هي سبب نزول هذه الآيات.
* النتيجة:
أن هذا الحديث سبب لنزول الآيات لصحة سنده وموافقته لسياق القرآن وإجماع المفسرين على ذلك.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله مما قالوا، فقال أبو بكر الصديق، وكان ينفق على مسطح لقرابته منه: واللَّه لا أُنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة فأنزل الله: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى.. ) الآية قال أبو بكر: بلى والله إني لأُحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أَنزعها عنه أبداً.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي والشنقيطي وابن عاشور.
قال ابن العربي: (قد بينا أن ذلك نزل في أبي بكر، قالت عائشة في حديثها فحلف أبو بكر ألا ينفع مسطحاً بنافعة أبداً فأنزل الله الآية: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ) قال أبو بكر: بلى والله يا ربنا إنا لنحب أن يغفر لنا وعاد لما كان يصنع له). اهـ.
قال ابن عطية: (المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر ومسطح بن أُثاثة وذكر كلامًا حتى قال: وكان أبو بكر ينفق عليه لمسكنته فلما وقع أمر الإفك وقال فيه مسطح ما قاله حلف أبو بكر أن لا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعةٍ أبداً). اهـ.
وقال ابن كثير: (وهذه الآية نزلت في الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أُثاثة بنافعةٍ أبداً بعدما قال في عائشة ما قال). اهـ.
وقال السعدي: (كان من جملة الخائضين في الإفك (مسطح بن أثاثة) وهو قريب لأبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان مسطح فقيراً من المهاجرين في سبيل اللَّه، فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه لقوله الذي قال، فنزلت هذه الآية ينهاهم عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه ويحثه على العفو والصفح ويعده بمغفرة الله إن غفر له). اهـ.
وقال الشنقيطي: (نزلت هذه الآية في أبي بكر ومسطح بن أثاثة ابن عباد بن عبد المطلب، وكان مسطح المذكور من المهاجرين وهو فقير، وكانت أمه ابنةَ خالة أبي بكر، وكان أبو بكر ينفق عليه لفقره وقرابته وهجرته وكان ممن تكلم في أم المؤمنين عائشة بالإفك المذكور فلما نزلت براءة عائشة حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح ولا ينفعه بنافعةٍ بعدما رمى عائشة بالإفك ظلماً وافتراءً فأنزل اللَّه في ذلك:
(وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ | ) الآية اهـ بتصرف يسير. |
أن سبب نزول الآية الكريمة الحديث المذكور لصحة سنده وتصريحه بالنزول وموافقته لسياق القرآن واحتجاج المفسرين به والله أعلم.
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج مسلم وأبو داود والنَّسَائِي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن جارية لعبد اللُّه بن أبى ابن سلول يُقال لها مسيكة. وأخرى يُقال لها أُميمة فكان يكرههما على الزنا. فشكتا ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل اللَّه: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ) إلى قوله (غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وفي لفظ آخر لمسلم عنه - رضي الله عنه - قال: كان عبد اللُّه بن أُبي ابنُ سلول يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئاً فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وقد أورد جمهور المفسرين هذه القصة مع اختلاف بينهم في لفظها.
فالطبري وابن عطية والقرطبي وابن كثير ذكروا اللفظ الذي معنا.
قال الطبري: (لا تكرهوا إماءكم على البغاء وهو الزنا إن أردن تعففاً عن الزنا لتلتمسوا بإكراهكم إياهن على الزنا عَرَض الحياة، وذلك ما تعرض لهم
قال ابن كثير: (كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت فلما جاء الإسلام نهى اللَّه المؤمنين عن ذلك. وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول، فإنه كان له إماء فكان يكرههن على البغاء طلبًا لخراجهن ورغبةً في أولادهن ورياسةً منه فيما يزعم) اهـ.
أما البغوي وابن العربي وابن عاشور فقد ذكروا ألفاظًا مقاربة.
قال البغوي: (نزلت في عبد اللَّه بن أبي ابن سلول المنافق كانت له جاريتان معاذة ومسيكة، وكان يكرههما على الزنا بالضريبة يأخذها منهما، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤجرون إماءهم، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين فإن يك خيرًا فقد استكثرنا منه، وإن يك شرًا فقد آن لنا أن ندعه، فأنزل اللَّه هذه الآية) اهـ.
وقال ابن العربي: (وروى الزهري أنه كان لعبد اللَّه بن أُبَيّ جارية يقال لها معاذة، وكان رجل من قريش أُسر يوم بدر، فكان عنده، وكان القرشي يريد الجارية على نفسها، وكانت الجاربة تمتنع منه لإسلامها، وكان عبد اللَّه بن أبي يضربها على امتناعها من القرشي، رجاء أن تحمل منه فيطلب فداء ولده فأنزل الله الآية) اهـ.
قال السعدي: (وإنما نهى عن هذا لما كانوا يستعملونه في الجاهلية من كون السيد يجبر أمته على البغاء ليأخذ منها أجرة ذلك ولهذا قال: (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فلا يليق بكم أن تكون إماؤكم خيرًا منكم وأعف عن الزنا، وأنتم تفعلون بهن ذلك لأجل عرض الحياة، متاع قليل يعرض ثم يزول.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده وتصريحه بالنزول، وموافقته لسياق القرآن، واتفاق المفسرين عليه والله أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أبو داود عن عكرمة أن نفراً من أهل العراق قالوا: يا ابن عبَّاسٍ كيف ترى في هذه الآية التي أُمرنا فيها بما أُمرنا ولا يعمل بها أحد قول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) قرأ القعنبي إلى (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قال ابن عبَّاسٍ: إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حِجال، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل. والرجل على أهله، فأمرهم اللَّه بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم اللَّه بالستور والخير، فلم أر أحداً يعمل بذلك بعد.
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد أورد هذا الحديث ابن العربي والقرطبي وابن كثير.
قال ابن العربي: (وقال ابن عبَّاسٍ: قد ذهب حكمها. ثم ساق الحديث، ثم قال: وهذا ضعيف جداً بما بيناه في غير موضع من أن شروط النسخ لم تجتمع فيه من المعارضة، ومن التقدم والتأخر فكيف يصح لناظر أن يحكم به؟) اهـ.
والظاهر - والله أعلم - أن الحديث المذكور ليس سببًا لنزول الآية الكريمة للأسباب التالية:
أولاً: أن أكثر المفسرين عنايةً بالأسباب أعرضوا عنه فلم يذكروه ولو كان مما يحتج به عندهم لما تركوه.
ثانياً: أن الحديث ضعيف كما تبين من دراسة إسناده.
ثالثاً: أن الذين ذكروا الحديث لم يذكروه محتجين به على السببية، بل يذكرون الإحكام والنسخ كما هو ظاهر من أقوالهم.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور ليس سببًا لنزول الآية الكريمة لضعف سنده، وخلوه من التصريح بالسببية وإعراض المفسرين عنه. واللَّه أعلم.
* * * * *