تفسير سورة لقمان

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وآياتها ٣٤ وقيل ٣٣

ويعقوب: ولا يستحقنك، أى: لا يفتننك فيملكوك ويكونوا أحق بك من المؤمنين.
عن رسول الله ﷺ «من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك سبح الله بين السماء والأرض وأدرك ما ضيع في يومه وليلته» «١».
سورة لقمان
مكية [إلا الآيات ٢٧ و ٢٨ و ٢٩ فمدنية] وآياتها ٣٤ وقيل ٣٣ [نزلت بعد الصافات] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
الْكِتابِ الْحَكِيمِ ذى الحكمة. أو وصف بصفة الله تعالى على الإسناد المجازى. ويجوز أن يكون الأصل: الحكيم قائله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فبانقلابه مرفوعا بعد الجر استكن في الصفة المشبهة هُدىً وَرَحْمَةً بالنصب على الحال عن الآيات، والعامل فيها:
ما في تلك من معنى الإشارة. وبالرفع على أنه خبر بعد خبر، أو خبر مبتدإ محذوف لِلْمُحْسِنِينَ للذين يعملون الحسنات وهي التي ذكرها: من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيقان بالآخرة ونظيره قول أوس:
الألمعى الّذى يظن بك الظّنّ كأن قد رأى وقد سمعا «٢»
(١). أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبى بن كعب.
(٢).
أيتها النفس احملي جزعا إن الذي تحذرين قد وقعا
إن الذي جمع السماحة و النجدة والبر والتقى جمعا
الألمعى الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا
أودى فلا تنفع الاشاحة من أمر لمن يحاول البدعا
لأوس بن حجر، يرثى فضالة بن كلدة. يقول: يا نفس احتملي جزعا عظيما، إن الذي تخافين منه قد حصل، وبينه بقوله: إن الذي جمع المكارم كلها أودى، أى: هلك. وجمع- بالضم-: توكيد للصفات قبله. والألمعى:
نصب على الصفة للذي، وفسره بأنه الذي يظن بك، يعنى كل مخاطب، أى: يظن الظن الحق، كأنه قد رأى وسمع ما ظنه أو يظن الظن فيصيب، كأنه قد رآه إن كان فعلا، أو سمعه إن كان قولا. وفيه نوع من البديع يسمى التفسير، وهو أن يؤتى بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفته بدون تفسيره، ذكره السيوطى في شرح عقود الجمان. والاشاحة:
الشجاعة والجد في القتال. وضمن «تنفع» معنى «تحفظ» فعداه بمن، أى: فلا تحفظ الشجاعة من مكروه أحدا.
وعداه باللام، نظرا للفظه. والأقرب أن من واللام زائدتان لتوكيد الكلام، أى: فلا تنفع الاشاحة شيئا من النفع أحدا من الناس يحاول ويطلب بدائع الأمور وعظائمها، يعنى: أن فضالة كان كذلك فمات، وفيه نوع تسل. [.....]
حكى عن الأصمعى: أنه سئل عن الألمعى فأنشده ولم يزد. أو للذين يعملون جميع ما يحسن من الأعمال، ثم خص منهم القائمين بهذه الثلاث بفضل اعتداد بها.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٦ الى ٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧)
اللهو كل باطل ألهى عن الخير وعما يعنى ولَهْوَ الْحَدِيثِ نحو السمر بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها، والتحدث بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام، وما لا ينبغي من كان وكان، ونحو الغناء وتعلم الموسيقار «١»، وما أشبه ذلك. وقيل: نزلت في النضر بن الحرث، وكان يتجر إلى فارس، فيشترى كتب الأعاجم فيحدث بها قريشا ويقول: إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة، فيستمحلون حديثه ويتركون استماع القرآن. وقيل: كان يشترى المغنيات، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. وفي حديث النبي ﷺ «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن ولا التجارة فيهنّ ولا أثمانهنّ «٢» «وعنه ﷺ «ما من رجل
(١). قوله «وتعلم الموسيقار» يونانية. ومعناه: علم الغناء، وبغير راء: ذات الغناء، كذا قيل. (ع)
(٢). أخرجه الطبري وابن أبى حاتم وغيرهما من رواية عبيد الله بن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة بهذا. وهو عند أحمد وابن أبى شيبة والترمذي وأبى يعلى من هذا الوجه وهو ضعيف، ورواه الطبراني من طريق يحيى بن الحارث عن القاسم نحوه. وله طريق آخر عند ابن ماجة من رواية عبيد الله الأفريقى عن أبى أمامة، قال: «نهى رسول الله ﷺ عن بيع المغنيات وعن شرائهن، وعن كسبهن وعن أكل أثمانهن وفي الباب عن عمر. أخرجه الطبراني وابن عدى من رواية يزيد بن عبد الملك النوفلي عن يزيد بن خصيف عن السائب بن يزيد عن عمر نحوه، ويزيد بن عبد المطلب ضعيف وعن على أخرجه أبو يعلى وابن عدى.
وفيه الحارث بن نهان وهو ضعيف، وعن عائشة أخرجه البيهقي وفيه ليث بن أبى سليم وهو ضعيف.
490
يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين: أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت «١» «وقيل: الغناء منفدة للمال، مسخطة للرب، مفسدة للقلب. فإن قلت: ما معنى إضافة اللهو إلى الحديث؟ قلت:
معناها التبيين، وهي الإضافة بمعنى من، وأن يضاف الشيء إلى ما هو منه، كقولك: صفة خز، وباب ساج «٢»
. والمعنى: من يشترى اللهو من الحديث، لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره، فبين بالحديث. والمراد بالحديث. الحديث المنكر، كما جاء في الحديث: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش «٣» » ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى «من» التبعيضية، كأنه قيل: ومن الناس من يشترى بعض الحديث الذي هو اللهو منه. وقوله يَشْتَرِي إما من الشراء، على ما روى عن النضر: من شراء كتب الأعاجم أو من شراء القيان. وإما من قوله اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ أى استبدلوه منه واختاروه عليه. وعن قتادة: اشتراؤه:
استحبابه، يختار حديث الباطل على حديث الحق. وقرئ: لِيُضِلَّ بضم الياء وفتحها.
وسَبِيلِ اللَّهِ دين الإسلام أو القرآن. فإن قلت: القراءة بالضم بينة، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو: أن يصدّ الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت: فيه معنيان، أحدهما: ليثبت على ضلاله الذي كان عليه، ولا يصدف عنه، ويزيد فيه ويمدّه، فإن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصدّ الناس عنه.
والثاني: أن يوضع ليضل موضع ليضل، من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة، فدل بالرديف على المردوف. فإن قلت: ما معنى قوله بِغَيْرِ عِلْمٍ؟ قلت: لما جعله مشتريا لهو الحديث بالقرآن قال: يشترى بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق.
ونحوه قوله تعالى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أى: وما كانوا مهتدين للتجارة بصراء بها: وقرئ وَيَتَّخِذَها بالنصب والرفع عطفا على يشترى. أو ليضل، والضمير للسبيل، لأنها مؤنثة، كقوله تعالى وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً.
(١). أخرجه أبو يعلى وإسحاق والحارث من طريق أبى أمامة وهو عند الطبراني من رواية يحيى بن الحارث عن القاسم في الحديث الذي قبله.
(٢). قوله «كقولك صفة خز وباب ساج» لعله محرف. وأصله جبة خز، ثم رأيت في الصحاح: صفة الدار والسرج: واحدة الصفف اه، فلعل صفة السرج تكون من خز. (ع)
(٣). تقدم في براءة.
491
وَلَّى مُسْتَكْبِراً زاما «١» لا يعبأ بها ولا يرفع بها رأسا: تشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو سامع كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أى ثقلا ولا وقر فيهما، وقرئ: بسكون الذال. فإن قلت: ما محل الجملتين المصدرتين بكأن؟ قلت: الأولى حال من مستكبرا والثانية من لم يسمعها: ويجوز أن تكونا استئنافين، والأصل في كأن المخففة: كأنه، والضمير: ضمير الشأن.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٨ الى ١١]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١)
وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا مصدران مؤكدان، الأوّل: مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره، لأن قوله لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ في معنى: وعدهم الله جنات النعيم، فأكد معنى الوعد بالوعد. وأما حَقًّا فدال على معنى الثبات: أكد به معنى الوعد، ومؤكدهما جميعا قوله لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه شيء ولا يعجزه، يقدر على الشيء وضده، فيعطى النعيم من شاء والبؤس من شاء، وهو الْحَكِيمُ لا يشاء إلا ما توجبه الحكمة والعدل تَرَوْنَها الضمير فيه للسماوات، وهو استشهاد برؤيتهم لها، غير معمودة على قوله بِغَيْرِ عَمَدٍ كما تقول لصاحبك: أنا بلا سيف ولا رمح تراني فإن قلت: ما محلها من الإعراب؟ قلت: لا محل لها لأنها مستأنفة. أو هي في محل الحرّ صفة للعمد أى: بغير عمد مرئية، يعنى: أنه عمدها بعمد لا ترى، وهي إمساكها بقدرته هذا إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته. والخلق بمعنى المخلوق. والَّذِينَ مِنْ دُونِهِ آلهتهم، بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله وأنشأه. فأرونى ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة، ثم أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورّط في ضلال ليس بعده ضلال.
[سورة لقمان (٣١) : آية ١٢]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢)
هو لقمان بن باعورا: ابن أخت أيوب أو ابن خالته. وقيل: كان من أولاد آزر، وعاش
(١). قوله «زاما لا يعبأ بها» في الصحاح: زم بأنفه، أي: تكبر، فهو زام. (ع)
ألف سنة، وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام، فلما بعث قطع الفتوى، فقيل له؟ فقال: ألا أكتفى إذا كفيت؟ وقيل: كان قاضيا في بنى إسرائيل، وأكثر الأقاويل أنه كان حكيما ولم يكن نبيا، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لقمان لم يكن نبيا ولا ملكا. ولكن كان راعيا أسود، فرزقه الله العتق، ورضى قوله ووصيته، فقص أمره في القرآن لتمسكوا بوصيته. وقال عكرمة والشعبي: كان نبيا. وقيل: خير بين النبوّة والحكمة فاختار الحكمة «١». وعن ابن المسيب: كان أسود من سودان مصر خياطا، وعن مجاهد: كان عبدا أسود غليظ الشفتين متشفق «٢» القدمين. وقيل: كان نجارا. وقيل: كان راعيا وقيل: كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة. وعنه أنه قال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض. وروى أن رجلا وقف عليه في مجلسه فقال: ألست الذي ترعى معى في مكان كذا؟ قال: بلى. قال ما بلغ بك ما أرى؟
قال: صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني. وروى أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدرع وقد لين الله له الحديد كالطين، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله، فقال له داود: بحق ما سميت حكيما. وروى أن مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين، فأخرج اللسان والقلب، ثم أمره بمثل ذلك بعد أيام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب، فسأله عن ذلك؟ فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا، وأخبث ما فيها إذا خبثا. وعن سعيد بن المسيب أنه قال لأسود: لا تحزن، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان: بلال، ومهجع مولى عمر، ولقمان. أَنِ هي المفسرة، لأنّ إيتاء الحكمة في معنى القول، وقد نبه الله سبحانه على أنّ الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي: هو العمل بهما وعبادة الله والشكر له، حيث فسر إيتاء الحكمة بالبعث على الشكر غَنِيٌّ غير محتاج إلى الشكر حَمِيدٌ حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد.
[سورة لقمان (٣١) : آية ١٣]
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣)
قيل: كان اسم ابنه «أنعم» وقال الكلبي: «أشكم» وقيل: كان ابنه وامرأته كافرين، فما زال
(١). ذكر محمود في ذلك اختلاف العلماء في نبوته، وذكر أثناء ذلك أنه خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة. قال أحمد: وفي هذا بعد بين، وذلك أن الحكمة داخلة في النبوة، وقطرة من بحرها، وأعلى درجات الحكماء تنحط عن أدنى درجات الأنبياء بما لا يقدر قدره. وليس من الحكمة اختيار الحكمة المجردة من النبوة،
(٢). قوله «متشفق» في الصحاح: «الشفق» : الرديء من الأشياء. يقال: غطاء مشفق، أى: مقلل اه والظاهر أنه متشقق بقافين. (ع)
بهما حتى أسلما لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لأنّ التسوية بين من لا نعمة إلا هي منه، ومن لا نعمة منه البتة ولا يتصوّر أن تكون منه-: ظلم لا يكتنه عظمه.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥)
أى حَمَلَتْهُ تهن وَهْناً عَلى وَهْنٍ كقولك رجع عودا على بدء، بمعنى، يعود عودا على بدء، وهو في موضع الحال. والمعنى: أنها تضعف ضعفا فوق ضعف، أى: يتزايد ضعفها ويتضاعف، لأنّ الحمل كلما ازداد وعظم، ازدادت ثقلا وضعفا. وقرئ: وهنا على وهن، بالتحريك عن أبى عمرو. يقال: وهن يوهن. ووهن يهن. وقرئ: وفصله أَنِ اشْكُرْ تفسير لوصينا ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أراد بنفي العلم به نفيه، أى: لا تشرك بى ما ليس بشيء «١»، يريد الأصنام، كقوله تعالى ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ. مَعْرُوفاً صحابا، أو مصاحبا معروفا حسنا بخلق جميل وحلم واحتمال وبر وصلة، وما يقتضيه الكرم والمروءة وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ يريد: واتبع سبيل المؤمنين في دينك ولا تتبع سبيلهما فيه- وإن كنت مأمورا بحسن مصاحبتهما في الدنيا- ثم إلىّ مرجعك ومرجعهما، فأجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما، علم بذلك حكم الدنيا وما يجب على الإنسان في صحبتهما ومعاشرتهما: من مراعاة حق الأبوة وتعظيمه، وما لهما من المواجب التي لا يسوغ الإخلال بها، ثم بين حكمهما وحالهما في الآخرة. وروى: أنها نزلت في سعد بن أبى وقاص وأمّه. وفي القصة: أنها مكثت ثلاثا لا تطعم ولا تشرب حتى شجروا فاها «٢» بعود. وروى أنه قال: لو كانت لها سبعون نفسا فخرجت، لما ارتددت إلى الكفر. فإن قلت: هذا الكلام كيف وقع في أثناء وصية لقمان؟ قلت: هو كلام اعترض به على سبيل الاستطراد، تأكيدا لما في وصية لقمان من النهى عن الشرك. فإن قلت:
فقوله حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ كيف اعترض به بين المفسر والمفسر؟ قلت: لما
(١). قال محمود: «معناه: ما ليس بشيء، وعبر بنفي العلم عن نفى المعلوم» قال أحمد: هو من باب قوله:
على لا حب لا يهتدى بمناره
أى: ما ليس باله فيكون لك علم بالالهية، وليس كما ذكره في قول فرعون ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي وقد مر معناه فيما تقدم.
(٢). قوله «حتى شجروا فاها بعود» في الصحاح: شجرة بالرمح، أى: طعنه. (ع)
وصى بالوالدين: ذكر ما تكابده الأمّ وتعانيه من المشاق والمتاعب في حمله وفصاله هذه المدّة المتطاولة، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا «١». وتذكيرا بحقها العظيم مفردا، ومن ثمّ قال رسول الله ﷺ لمن قال له: من أبر؟ «أمّك ثم أمّك ثم أمّك» ثم قال بعد ذلك «ثم أباك «٢» ». وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه بنفسه:
أحمل أمّى وهي الحمّاله ترضعنى الدرّة والعلالة
ولا يجازى والد فعاله «٣»
فإن قلت: ما معنى توقيت الفصال بالعامين؟ قلت المعنى في توقيته بهذه المدة أنها الغاية التي لا تتجاوز، والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم: إن علمت أنه يقوى على الفطام فلها أن تفطمه. ويدل عليه قوله تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وبه استشهد الشافعي رضى الله عنه على أن مدة الرضاع سنتان، لا تثبت حرمة الرضاع بعد انقضائهما، وهو مذهب أبى يوسف ومحمد. وأما عند أبى حنيفة رضى الله عنه.
فمدة الرضاع ثلاثون شهرا. وعن أبى حنيفة: إن فطمته قبل العامين فاستغنى بالطعام ثم أرضعته، لم يكن رضاعا. وإن أكل أكلا ضعيفا لم يستغن به عن الرضاع ثم أرضعته، فهو رضاع محرم.
[سورة لقمان (٣١) : آية ١٦]
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦)
قرئ مِثْقالَ حَبَّةٍ بالنصب والرفع، فمن نصب كان الضمير للهنة «٤» من الإساءة أو الإحسان،
(١). قال محمود: «فيه تخصيص حق الأم، وهو مطابق لبدايته، فذكرها في وجوب البر في الحديث المأثور» قال أحمد: وهذا من قبيل ما يقوله الفقهاء: إن اللأم من عمل الولد قبل الحلم جله، وهو مما يفيد تأكيد حقها، والله أعلم.
(٢). أخرجه أبو داود والترمذي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال «قلت يا رسول الله من أبر؟
الحديث»
وله شاهد في الصحيحين من حديث أبى زرعة عن أبى هريرة قال «جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: من أحق بصحابتى؟ - الحديث»
(٣). لعربي يحمل أمه إلى الحج، وهي الحمالة: جملة حالية، أى: كثيرة الحمل بحسب ما كان. أو من عادتها ذلك، وترضع: حال متداخلة، والدرة- بالضم: كثرة اللبن وسيلانه، والمراد بها: اللبن الكثير. والعلالة- بالضم-:
بقية اللبن، والحلبة بين الحلبتين، وتطلق على بقية جرى الفرس. والعلل: الشرب الثاني، والشرب الأول النهل:
وروى ترضعنى الدرة. والفعال- بالفتح-: فعل الخير وأراد بالوالد: الأم، أو ما يشمل الأب والأم.
(٤). قوله «للهنة من الاساءة» في الصحاح «هن» : على وزن أخ: كلمة كناية. ومعناه: شيء، ومؤنثه:
هنة. والقماءة: الصغر والحقارة. كذا في الصحاح (ع) [.....]
أى: إن كانت مثلا في الصغر والقماءة كحبة الخردل، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة «١» أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلى يَأْتِ بِهَا اللَّهُ يوم القيامة فيحاسب بها عاملها إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يتوصل علمه إلى كل خفى خَبِيرٌ عالم بكنهه.
وعن قتادة: لطيف باستخراجها، خبير بمستقرّها. ومن قرأ بالرفع: كان ضمير القصة، وإنما أنث المثقال لإضافته إلى الحبة، كما قال:
كما شرقت صدر القناة من الدّم «٢»
وروى أنّ ابن لقمان قال له: أرأيت الحبة تكون في مقل البحر- أى: في مغاصه- يعلمها الله؟ فقال: إنّ الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة، لأنّ الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء.
وقيل: الصخرة هي التي تحت الأرض، وهي السجين يكتب فيها أعمال الكفار. وقرئ: فتكن، بكسر الكاف. من وكن الطائر يكن: إذا استقر في وكنته، وهي مقره ليلا.
[سورة لقمان (٣١) : آية ١٧]
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧)
وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ يجوز أن يكون عاما في كل ما يصيبه من المحن، وأن يكون خاصا بما يصيبه فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: من أذى من يبعثهم على الخير وينكر عليهم الشر إِنَّ ذلِكَ مما عزمه الله من الأمور، أى: قطعه قطع إيجاب والزام. ومنه الحديث «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل «٣» » أى لم يقطعه بالنية: ألا ترى إلى قوله عليه السلام «لمن لم يبيت السيام» «٤» ومنه «إنّ الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه» «٥»
(١). قال محمود: «هذا من البديع الذي يسمى التتميم» قال أحمد: يعنى أنه تمم خلفاءها في نفسها بخفاء مكانها من الصخرة، وهو من وادى قولها كأنه علم في رأسه نار.
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٣٩٥ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٣). تقدم في البقرة.
(٤). تقدم أيضا.
(٥). أخرجه ابن أبى شيبة وابن عدى من طريق أبى سلمة عن أبى هريرة «أن رجلا قال يا رسول الله، أقصر الصلاة في سفري؟ قال: نعم، إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بفريضته» وفيه عمر بن عبد الله بن أبى خشعم اليمامي وهو منكر الحديث: قاله ابن عدى، وأخرجه أيضا من طريق سعد بن سعيد بن أبى سعيد، حدثني أخى عبد الله عن أبيه. أن أبى هريرة مرفوعا نحوه، ورواه ابن حبان وأحمد والبزار، وأبو يعلى من رواية حرب ابن قيس عن نافع عن ابن عمر بلفظ «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» وفي الباب عن ابن عباس. أخرجه ابن حبان والطبراني وأبو نعيم في الحلية من رواية هشام بن حسان عن عكرمة عنه بلفظ ابن عمر وعن ابن مسعود أخرجه الطبراني والعقيلي وأبو نعيم من رواية معمر بن عبد الله الأنصارى عن شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن علقمة عنه تفرد برفعه معمر، ووقفه غندر وروح بن عبادة وغيرهما عن شعبة. أخرجه ابن أبى شيبة وغيره. وعن عائشة: أخرجه ابن عدى من رواية الحكم بن عبد الله الأيلى عن القاسم عن عائشة ومن رواية عمر بن عبيد البصري عن هشام عن أبيه عنها والحكم وعمر ضعيفان. وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق إسماعيل بن عيسى العطار، حدثنا عمر بن عبد الجبار، حدثنا عبد الله بن زيد بن آدم عن أبى الدرداء وأبى أمامة وواثلة وأنس به وقال: لا يروى إلا بهذا الاسناد تفرد به إسماعيل. قلت: والاسناد مجهول. قوله «وقولهم عزمة من عزمات ربنا» هذا طرف من حديث أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والحاكم والبيهقي من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، في أثناء حديثه قال فيه «ومن منعها يعنى الزكاة فانا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ليس لآل محمد منها شيء وإسناده حسن.
وقولهم: عزمة من عزمات ربنا. ومنه: عزمات الملوك. وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده:
عزمت عليك إلا فعلت كذا، إذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بدّ من فعله ولا مندوحة في تركه.
وحقيقته: أنه من تسمية المفعول بالمصدر، وأصله من معزومات الأمور، أى: مقطوعاتها ومفروضاتها. ويجوز أن يكون مصدرا في معنى الفاعل. أصله: من عازمات الأمور، من قوله تعالى فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ كقولك: جد الأمر، وصدق القتال. وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات، وأنها كانت مأمورا بها في سائر الأمم، وأنّ الصلاة لم تزل عظيمة الشأن، سابقة القدم على ما سواها، موصى بها في الأديان كلها.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١٨ الى ١٩]
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)
تصاعر، وتصعر: بالتشديد والتخفيف. يقال: أصعر خدّه، وصعره، وصاعره: كقولك أعلاه وعلاه وعالاه: بمعنى. والصعر والصيد: داء يصيب البعير يلوى منه عنقه. والمعنى: أقبل على الناس بوجهك تواضعا، ولا تولهم شق وجهك وصفحته، كما يفعل المتكبرون. أراد:
وَلا تَمْشِ تمرح مَرَحاً أو أوقع المصدر موقع الحال بمعنى مرحا. ويجوز أن يريد: ولا تمش لأجل المرح والأشر، أى لا يكن غرضك في المشي البطالة والأشر كما يمشى كثير من الناس لذلك، لا لكفاية مهم دينى أو دنيوى. ونحوه قوله تعالى وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ. والمختال: مقابل للماشي مرحا، وكذلك الفخور للمصعر خدّه كبرا وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ واعدل فيه حتى يكون مشيا بين مشيين: لا تدب دبيب المتماوتين، ولا تثب وثيب الشطار. قال رسول الله ﷺ «سرعة المشي نذهب بهاء المؤمن» «١» وأما قول
(١). جاء من حديث أبى هريرة وأبى سعيد وابن عمر، وأخرجه ابن عدى من رواية عمار بن مطرد وهو لتروك، وقد تابعه الوليد بن سلمة وهو أو هي منه، لكنه قال: عن ابن أبى ذئب عن المغيرة عن أبى سعيد والوليد بن سلمة. وفيه إسناد آخر أخرجه ابن عدى من روايته عن عمرو بن صهبان عن نافع عن ابن عمر، وأخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق أبى معشر عن سعيد عن أبى هريرة وإسناده ضعيف أيضا
عائشة في عمر رضى الله عنهما «كان إذا مشى أسرع» «١» فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت. وقرئ: وأقصد، بقطع الهمزة، أى: سدّد في مشيك من أقصد الرامي إذا سدّد سهمه نحو الرمية وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ وانقص منه واقصر، من قولك: فلان يغض من فلان إذا قصر به ووضع منه أَنْكَرَ الْأَصْواتِ أوحشها، من قولك: شيء نكر، إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت. والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نهاقه. ومن استفحاشهم لذكره مجردا وتفاديهم من اسمه: أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به، فيقولون: الطويل الأذنين، كما يكنى عن الأشياء المستقذرة: وقد عدّ في مساوي الآداب: أن يجرى ذكر الحمار في مجلس قوم من أولى المروءة. ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا وإن بلغت منه الرجلة «٢»، فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، تم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه وإخراجه مخرج الاستعارة- وإن جعلوا حميرا وصوتهم نهاقا- ومبالغة شديدة في الذم والتهجين وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه. وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان. فإن قلت: لم وحد صوت الحمير ولم يجمع؟ قلت: ليس المراد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع، وإنما المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده.
[سورة لقمان (٣١) : آية ٢٠]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠)
ما فِي السَّماواتِ الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك وَما فِي الْأَرْضِ البحار والأنهار والمعادن والدواب وما لا يحصى وَأَسْبَغَ وقرىّ بالسين والصاد، وهكذا كل سين اجتمع معه الغين والخاء والقاف، تقول في سلخ، صلخ، وفي سقر: صقر، وفي سالغ: صالغ «٣»
(١). ذكره ابن الأثير في النهاية، قلت: لعله أخذه عن الفائق، وفي الطبقات لابن سعد من رواية سليمان ابن أبى حثمة قال قالت الشفاء بنت عبد الله، وهي أم سليمان: كان عمر إذا مشى... فذكره.
(٢). قوله «منه الرجلة» أى: المشي برجله، يعنى: وإن أتعبه المشي وعدم الركوب. وفي الصحاح «الرجل» بالتحريك: مصدر قولك: رجل- بالكسر- أى: بقي راجلا. (ع)
(٣). قوله «وفي سالغ صالغ» في الصحاح: سلغت البقرة والشاة، إذا أسقطت السن التي خلفت السديس والسلوغ في ذوات الأظلاف: بمنزلة البزول في ذوات الأخفاف. (ع)
وقرئ: نعمه، ونعمة، ونعمته. فإن قلت: ما النعمة؟ قلت: كل نفع قصد به الإحسان، والله تعالى خلق العالم كله نعمة، لأنه إما حيوان، وإما غير حيوان. فما ليس بحيوان نعمة على الحيوان، والحيوان نعمة من حيث أنّ إيجاده حيا نعمة عليه. لأنه لولا إيجاده حيا لما صح منه الانتفاع، وكل ما أدى إلى الانتفاع وصححه فهو نعمة. فإن قلت: لم كان خلق العالم مقصودا به الإحسان؟ قلت: لأنه لا يخلقه إلا لغرض، وإلا كان عبثا، والعبث لا يجوز عليه ولا يجوز أن يكون لغرض راجع إليه من نفع، لأنه غنى غير محتاج إلى المنافع، فلم يبق إلا أن يكون لغرض يرجع إلى الحيوان وهو نفعه. فإن قلت: فما معنى الظاهرة والباطنة؟ قلت: الظاهرة كل ما يعلم بالمشاهدة، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل، أو لا يعلم أصلا، فكم في بدن الإنسان من نعمة لا يعلمها ولا يهتدى إلى العلم بها، وقد أكثروا في ذلك: فعن مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصرة على الأعداء، والباطنة: الأمداد من الملائكة. وعن الحسن رضى الله عنه: الظاهرة: الإسلام. والباطنة الستر. وعن الضحاك: الظاهرة: حسن الصورة، وامتداد القامة. وتسوية الأعضاء. والباطنة:
المعرفة. وقيل: الظاهرة البصر، والسمع، واللسان، وسائر الجوارح الظاهرة. والباطنة:
القلب، والعقل، والفهم، وما أشبه ذلك. ويروى في دعاء موسى عليه السلام: إلهى، دلني على أخفى نعمتك على عبادك، فقال: أخفى نعمتي عليهم النفس. ويروى: أن أيسر ما يعذب به أهل النار: الأخذ بالأنفاس «١».
[سورة لقمان (٣١) : آية ٢١]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١)
معناه أَيتبعونهم وَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ أى في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب.
[سورة لقمان (٣١) : آية ٢٢]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢)
قرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه: ومن يسلم بالتشديد، يقال: أسلم أمرك وسلم أمرك إلى الله. فإن قلت: ماله عدّى بإلى، وقد عدّى باللام في قوله بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ؟ قلت:
معناه مع اللام: أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما لله. أى خالصا له. ومعناه- مع إلى-:
(١). لم أجده.
أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه. والمراد: التوكل عليه والتفويض إليه فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى من باب التمثيل: مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أى هي صائرة إليه.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤)
قرئ: يحزنك، ويحزنك: من حزن، وأحزن. والذي عليه الاستعمال المستفيض: أحزنه ويحزنه. والمعنى: لا يهمنك كفر من كفر وكيده للإسلام، فإن الله عزّ وجلّ دافع كيده في نحره، ومنتقم منه، ومعاقبه على عمله إِنَّ اللَّهَ يعلم ما في صدور عباده، فيفعل بهم على حسبه نُمَتِّعُهُمْ زمانا قَلِيلًا بدنياهم ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ شبه إلزامهم التعذيب وإرهاقهم إياه باضطرار المضطرّ إلى الشيء الذي لا يقدر على الانفكاك «١» منه. والغلظ: مستعار من الأجرام الغليظة. والمراد الشدّة والثقل على المعذب.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ إلزام لهم على إقرارهم بأنّ الذي خلق السماوات والأرض هو الله وحده، وأنه يجب أن يكون له الحمد والشكر. وأن لا يعبد معه غيره، ثم قال بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ ذلك يلزمهم، وإذا نبهوا عليه لم ينتبهوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن حمد الحامدين المستحق للحمد، وإن لم يحمدوه.
(١). قال محمود: «شبه إلزامهم التعذيب باضطرار المضطر إلى الشيء الذي لا يقدر على الانفكاك منه» قال أحمد:
وتفسير هذا الاضطرار في الحديث في أنهم لشدة ما يكابدون من النار يطلبون البرد، فيرسل الله عليهم الزمهرير.
فيكون عليهم كشدة اللهب، فيتمنون عود اللهب اضطرارا، فهو إخبار عن اضطرار. وبأذيال هذه البلاغة تعلق الكندي حيث يقول:
500
قرئ: والبحر، بالنصب عطفا على اسم إنّ، وبالرفع عطفا على محل إن، ومعمولها على.
ولو ثبت «١» كون الأشجار أقلاما، وثبت البحر ممدودا بسبعة أبحر. أو على الابتداء والواو للحال، على معنى. ولو أنّ الأشجار أقلام في حال كون البحر ممدودا، وفي قراءة ابن مسعود:
وبحر يمدّه على التنكير، ويجب أن يحمل هذا على الوجه الأوّل. وقرئ: يمدّه، ويمدّه. وبالتاء والياء. فإن قلت: كان مقتضى الكلام أن يقال: ولو أنّ الشجر أقلام، والبحر مداد. قلت:
أغنى عن ذكر المداد قوله: يمدّه، لأنه من قولك: مدّ الدواة وأمدّها، جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، وجعل الأبحر السبعة مملوءة مدادا، فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع. والمعنى:
ولو أنّ أشجار الأرض أقلام، والبحر ممدود بسبعة أبحر. وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله، لما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد، كقوله تعالى قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي. فإن قلت: زعمت أنّ قوله وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ حال في أحد وجهى الرفع، وليس فيه ضمير راجع إلى ذى الحال. قلت: هو كقوله:
وقد اغتدى والطّير في وكناتها «٢»
و: جئت والجيش مصطف، وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف. ويجوز أن يكون المعنى: وبحرها، والضمير للأرض. فإن قلت: لم قيل مِنْ شَجَرَةٍ على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة، حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بريت أقلاما. فإن قلت: الكلمات جمع قلة، والموضع موضع التكثير لا التقليل. فهلا قيل: كلم الله؟ قلت: معناه أنّ كلماته لا تفي بكتبتها البحار، فكيف بكلمة؟
وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنها نزلت جوابا لليهود لما قالوا «قد أوتينا التوراة وفيها كل الحكمة» وقيل: إن المشركين قالوا: إنّ هذا يعنون الوحى- كلام سينفد، فأعلم الله أن كلامه لا ينفد. وهذه الآية عند بعضهم مدنية، وأنها نزلت بعد الهجرة، وقيل هي مكية، وإنما أمر اليهود وقد قريش أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تتلو فيما أنزل عليك: أنا قد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شيء حَكِيمٌ لا يخرج من علمه وحكمته شيء، ومثله لا تنفد كلماته وحكمه.
(١). قوله «ومعمولها على: ولو ثبت» لعله: على معنى ولو... الخ. (ع)
(٢).
وقد اغتدى والطير في وكناتها... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
لامرئ القيس من معلقته. وقد: للتكثير. والوكنات: جمع وكنة بضمتين، وبتثليث أوله وسكون ثانيه:
موضع الطير الذي يبيت فيه، والباء للملابسة، والمجرد: دقيق الشعر قصيره. أو سريع الجري. وشبه الفرس بالقيد تشبيها بليغا: أى: لا تنفك منه الأوابد: وهي الوحوش، ولا تفوته هيكل: عظيم الجسم.
501

[سورة لقمان (٣١) : آية ٢٨]

ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨)
إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إلا كخلقها وبعثها، أى: سواء في قدرته القليل والكثير، والواحد والجمع، لا يتفاوت، وذلك أنه إنما كانت تفاوت النفس الواحدة والنفوس الكثيرة العدد:
أن لو شغله شأن عن شأن وفعل عن فعل، وقد تعالى عن ذلك إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يسمع كل صوت ويبصر كل مبصر في حالة واحدة، لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك بعض، فكذلك الخلق والبعث.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠)
كل واحد من الشمس والقمر يجرى في فلكه، ويقطعه إلى وقت معلوم: الشمس إلى آخر السنة، والقمر إلى آخر الشهر. وعن الحسن: الأجل المسمى: يوم القيامة. لأنه لا ينقطع جريهما إلا حينئذ. دلّ أيضا بالليل والنهار وتعاقبهما وزيادتهما ونقصانهما وجرى النيرين في فلكيهما كل ذلك على تقدير وحساب، وبإحاطته بجميع أعمال الخلق: على عظم قدرته وحكمته. فإن قلت: يجرى لأجل مسمى، ويجرى إلى أجل مسمى: أهو من تعاقب الحرفين؟ قلت: كلا، ولا يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق العطن «١». ولكن المعنيين. أعنى الانتهاء والاختصاص كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض لأنّ قولك يجرى إلى أجل مسمى: معناه يبلغه وينتهى كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض، لأنّ قولك يجرى إلى أجل مسمى: معناه يبلغه وينتهى إليه. وقولك: يجرى لأجل مسمى: تريد يجرى لإدراك أجل مسمى، تجعل الجري مختصا بإدراك أجل مسمى. ألا ترى أن جرى الشمس مختص بآخر السنة، وجرى القمر مختص بآخر الشهر، فكلا المعنيين غير ناب به موضعه ذلِكَ الذي وصف من عجائب قدرته وحكمته التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون. فكيف بالجماد الذي تدعونه من دون الله، إنما هو بسبب أنه هو الحق الثابت إلهيته. وأنّ من دونه باطل الإلهية وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الشأن الْكَبِيرُ السلطان. أو ذلك الذي أوحى إليك من هذه الآيات بسبب بيان أنّ الله هو الحق، وأنّ إلها غيره باطل، وأنّ الله هو العلىّ الكبير عن أن يشرك به.
(١). قوله «إلا بليد الطبع ضيق العطن» في الصحاح: أنه مبرك الإبل عند الماء، لتشرب عللا بعد نهل. (ع) [.....]

[سورة لقمان (٣١) : آية ٣١]

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١)
قرئ: الفلك، بضم اللام. وكل فعل: يجوز فيه فعل، كما يجوز في كل فعل فعل، على مذهب التعويض. وبنعمات الله: بسكون العين. وعين فعلات يجوز فيها الفتح والكسر والسكون بِنِعْمَتِ اللَّهِ بإحسانه ورحمته صَبَّارٍ على بلائه شَكُورٍ لنعمائه، وهما صفتا المؤمن، فكأنه قال: إنّ في ذلك لآيات لكل مؤمن.
[سورة لقمان (٣١) : آية ٣٢]
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)
يرتفع الموج ويتراكب، فيعود مثل الظلل، والظلة: كل ما أظلك من جبل أو سحاب أو غيرهما وقرئ: كالظلال، جمع ظلة، كقلة وقلال فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ متوسط في الكفر والظلم، خفض من غلوائه، وانزجر بعض الانزجار. أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر، يعنى أنّ ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف، لا يبقى لأحد قط، والمقتصد قليل نادر. وقيل: مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر. والختر: أشدّ الغدر. ومنه قولهم: إنك لا تمدّ لنا شبرا من غدر إلا مددنا لك باعا من ختر، قال:
يرون الموت قداما وخلفا فيختارون والموت اضطرار
وإنّك لو رأيت أبا عمير ملأت يديك من غدر وختر «١»
[سورة لقمان (٣١) : آية ٣٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣)
لا يَجْزِي لا يقضى عنه شيئا. ومنه قيل للمتقاضى: المتجازى. وفي الحديث في جذعة
(١). الغدر: أشد الختر. وروى: أن رسول الله ﷺ رأى رجلا عد بأصابع يده اليمنى: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، وبأصابع اليسرى: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني واجبرني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ملأت يديك خيرا، شبه المعقول بالمحسوس على سبيل المكنية. وملء اليدين: تخييل، وذكرهما لأن الرجل عد بهما، فضربه الشاعر مثلا لحال أبى عمير ومن يراه على سبيل الاستعارة التمثيلية التهكمية، فان من رآه وعد معايبه، كأنه ملأ يديه شرا لا خيرا، وحذف العد إشارة إلى أنه بمجرد الرؤية يحصل ذلك.
ابن نيار: تجزى عنك ولا تجزى عن أحد بعدك «١». وقرئ: لا يجزئ: لا يغنى «٢». يقال:
أجزأت عنك مجزأ فلان. والمعنى: لا يجزى فيه، فحذف الْغَرُورُ الشيطان. وقيل: الدنيا وقيل: تمنيكم في المعصية المغفرة. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: الغرّة بالله: أن يتمادى الرجل في المعصية ويتمنى على الله المغفرة. وقيل: ذكرك لحسناتك ونسيانك لسيئاتك غرّة.
وقرئ بضم الغين وهو مصدر غره غرورا، وجعل الغرور غارّا، كما قيل: جدّ جدّه، أو أريد زينة الدنيا لأنها غرور. فإن قلت: قوله وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف «٣» عليه. قلت: الأمر كذلك، لأنّ الجملة الاسمية آكد من الفعلية، وقد انضم إلى ذلك قوله هُوَ وقوله مَوْلُودٌ والسبب في مجيئه على هذا السنن: أنّ الخطاب للمؤمنين وعليتهم «٤» : قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلى، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس فيهم: أن ينفعوا آباءهم في الآخرة، وأن يشفعوا لهم، وأن يغنوا عنهم من الله شيئا، فلذلك جيء به على الطريق الآكد. ومعنى التوكيد في لفظ المولود: أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه، لم تقبل شفاعته، فضلا أن يشفع لمن فوقه من أجداده، لأنّ الولد يقع على الولد وولد الولد، بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك.
[سورة لقمان (٣١) : آية ٣٤]
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)
روى أنّ رجلا من محارب وهو الحرث بن عمرو بن حارثة أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، أخبرنى عن الساعة متى قيامها، وإنى قد ألقيت حباتى في الأرض وقد
(١). تقدم في أوائل البقرة.
(٢). قوله «وقرئ لا يجزئ لا يغنى» لعله: أى لا يغنى. (ع)
(٣). قال محمود: «إن قلت: لم أكد الجملة الثانية دون الأولى؟ قلت: لأن أكثر المسلمين كان آباؤهم قد ماتوا على الكفر، فلما كان إغناء الكافر عن المسلم بعيدا لم يحتج تأكيدا، ولما كان إغناء المسلم عن الكافر قد يقع في الأوهام أكد نفيه» قال أحمد: وهذا الجواب تتوقف صحته على أن هذا الخطاب كان خاصا بالموجودين حينئذ، والصحيح أنه عام لهم ولكل من ينطلق عليه اسم الناس، فالجواب المعتبر- والله أعلم- أن الله تعالى لما أكد الوصية على الآباء، وقرن شكرهم بوجوب شكره عز وجل، وأوجب على الولد أن يكتفى والده ما يسوءه بحسب نهاية إمكانه قطع هاهنا وهم الوالد في ان يكون الولد في القيامة مجزيه بحقه عليه، ويكفيه ما يلقاه من أهوال القيامة كما أوجب الله عليه في الدنيا ذلك في حقه، فلما كان إجزاء الولد عن الوالد مظنون الوقوع- لأن الله حضه عليه في الدنيا- كان جديرا بتأكيد النفي لازالة هذا الوهم، ولا كذلك العكس، فهذا جواب كاف شاف للعليل، إن شاء الله تعالى.
(٤). قوله «وعليتهم» أى أشرافهم وعظماؤهم. (ع)
504
أبطأت عنا السماء، فمتى تمطر؟ وأخبرنى عن امرأتى فقد اشتملت ما في بطنها، أذكر أم أنثى؟
وإنى علمت ما علمت أمس، فما أعمل غدا؟ وهذا مولدي قد عرفته، فأين أموت «١» ؟ فنزلت وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «مفاتح الغيب خمس» «٢» وتلا هذه الآية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب، إياكم والكهانة فإن الكهانة تدعو إلى الشرك والشرك وأهله في النار. وعن المنصور أنه أهمه معرفة مدّة عمره، فرأى في منامه كأن خيالا أخرج يده من البحر وأشار إليه بالأصابع الخمس، فاستفتى العلماء في ذلك، فتأوّلوها بخمس سنين، وبخمسة أشهر، وبغير ذلك، حتى قال أبو حنيفة رحمه الله: تأويلها أنّ مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أيان مرساها وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ في إبانه من غير تقديم ولا تأخير، وفي بلد لا يتجاوزه به وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أذكر أم أنثى، أتام أم ناقص، وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال وَما تَدْرِي نَفْسٌ برّة أو فاجرة ماذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر، وربما كانت عازمة على خير فعملت شرا، وعازمة على شر فعملت خيرا وَما تَدْرِي نَفْسٌ أين تموت، وربما أقامت بأرض وضربت أوتادها وقالت: لا أبرحها وأقبر فيها، فترمى بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها، ولا حدّثتها به ظنونها. وروى أنّ ملك الموت مرّ على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه، فقال الرجل من هذا؟ قال: ملك الموت، فقال: كأنه يريدني. وسأل سليمان أن يحمله على الريح ويلقيه ببلاد الهند، ففعل، ثم قال ملك الموت لسليمان كان دوام نظري إليه تعجبا منه، لأنى أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك «٣». وجعل العلم لله والدراية للعبد، لما في الدراية من معنى الختل والحيلة. والمعنى: أنها لا تعرف- وإن أعملت حيلها- ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها، ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما، كان من معرفة ما عداهما أبعد. وقرئ: بأية أرض. وشبه سيبويه تأنيث «أىّ» بتأنيث «كل» في قولهم: كلتهنّ.
عن رسول الله ﷺ «من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقا يوم القيامة وأعطى من الحسنات عشرا عشرا بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن المنكر «٤».
(١). هكذا ذكره الواحدي والثعلبي بغير سند. وأخرجه الطبري وابن أبى حاتم من طريق ابن أبى نجيح عن مجاهد، قال «جاء رجل من أهل البادية فقال يا محمد إن امرأتى حبلى فأخبرنى متى تلد؟ فذكره»
(٢). أخرجه البخاري من حديث ابن عمر
(٣). موقوف. رواه أحمد في الزهد وابن أبى شيبة قالا حدثنا عبد الله بن نمير عن الأعمش عن خيثمة عن شهر بن حوشب قال «دخل ملك الموت، فذكره»
(٤). أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم عن أبى بن كعب.
505
Icon