ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة ص (٣٨) : آية ٥٠]جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠)
تأمل قوله، كيف تجد تحته معنى بديعا؟ وهو أنهم إذا دخلوا الجنة لم تغلق أبوابها عليهم، بل تبقى مفتحة كما هي. وأما النار فإذا دخلها أهلها أغلقت عليهم أبوابها. كما قال تعالى: ١٠٤: ٨ إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ أي مطبقة مغلقة. ومنه سمي الباب وصيدا. وهي مؤصدة في عمد ممددة قد جعلت العمد ممسكة للأبواب من خلفها. كالحجر العظيم الذي يجعل خلف الباب.
قال مقاتل: يعني أبوابها عليهم مطبقة. فلا يفتح لها باب، ولا يخرج منها غم. ولا يدخل فيها روح آخر الأبد.
وأيضا فإن في تفتيح الأبواب لهم إشارة إلى تصرفهم وذهابهم وإيابهم وتبوئهم في الجنة حيث شاؤوا، ودخول الملائكة عليهم كل وقت بالتحف
وأيضا فيه إشارة إلى أنها دار أمن، لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب، كما كانوا يحتاجون إلى ذلك في الدنيا.
وقد اختلف أهل العربية في الضمير العائد من الصفة على الموصوف في هذه الجملة. فقال الكوفيون: التقدير مفتحة لهم أبوابها. والعرب تعاقب بين الألف واللام والاضافة، فيقولون: مررت برجل حسن العين، أي عينه. ومنه قوله تعالى: فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى أي مأواه. وقال بعض البصريين: التقدير مفتحة لهم الأبواب منها. فحذف الضمير وما اتصل به.
قال: وهذا التقدير في العربية أجود من أن يجعل الألف واللام بدلا من الهاء والألف. لأن معنى الألف واللام ليس من معنى الهاء والألف في شيء. لأن الهاء والألف اسم، والألف واللام دخلتا للتعريف. فلا يبدل حرف من اسم، ولا ينوب عنه.
قالوا: وأيضا لو كانت الألف واللام بدلا من الضمير لوجب أن يكون في «مفتحة» ضمير الجنات، ويكون المعنى: مفتحة هي، ثم أبدل منها الأبواب ولو كان كذلك لوجب نصب الأبواب، لكون «مفتحة» قد رفع ضمير الفاعل فلا يجوز أن يرفع به اسم آخر، لامتناع ارتفاع فاعلين بفعل واحد.
فلما ارتفع «الأبواب» دل على أن «مفتحة» حال من ضمير، و «الأبواب» مرتفعة يه. وإذا كان في الصفة ضمير تعين نصب الثاني، كما تقول: مررت برجل حسن الوجه. ولو رفعت الوجه ونونت «حسنا» لم يجز. فالألف واللام إذا للتعريف ليس إلا، فلا بد من ضمير يعود على الموصوف الذي هو «جنات عدن» ولا ضمير في اللفظ. فهو محذوف، تقديره: الأبواب منها.
وعندي أن هذا غير مبطل لقول الكوفيين. فإنهم لم يريدوا بالبدل إلا أن الألف واللام خلف وعوض عن الضمير تغني عنه. وإجماع العرب على قولهم: حسن الوجه، وحسن وجهه: شاهد بذلك. وقد قالوا: إن التنوين
فالكوفيون أرادوا أن الألف واللام في «الأبواب» أغنت عن الضمير أو قيل: أبوابها، وهذا صحيح. فإن المقصود الربط بين الصفة والموصوف بأمر يجعلها له، لا مستقلة. فلما كان الضمير عائدا على الموصوف نفي توهم الاستقلال وكذلك لام التعريف فإن كلا من الضمير واللام يعين صاحبه، هذا يعين مفسره وهذا يعين ما دخل عليه. وقد قالوا في زيد نعم الرجل: أن الألف واللام أغنت عن الضمير. والله أعلم.
وقد أعرب الزمخشري هذه الآية إعرابا اعترض عليه فيه. فقال «جنات عدن» معرفة لقوله: ١٩: ٦١ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ وانتصابها على أنها عطف بيان لَحُسْنَ مَآبٍ و «مفتحة» حال، والعامل فيها ما في «المتقين» من معنى الفعل. وفي «مفتحة» ضمير الجنات، والأبواب بدل من الضمير، تقديره: مفتحة هي الأبواب، كقولهم: ضرب زيد اليد والرجل. وهو من بدل الاشتمال. هذا إعرابه.
فاعترض عليه بأن «جنات عدن» ليس فيها ما يقتضي تعريفها. وأما قوله «التي وعد الرحمن عباده» فبدل لا صفة. وبأن جنات عدن لا يسهل أن يكون عطف بيان لحسن مآب، على قوله. لأن جريان المعرفة على النكرة عطف بيان لا قائل به. فإن القائل قائلان. أحدهما: أنه لا يكون إلا في المعارف، كقول البصريين. والثاني: أنه يكون في المعارف والنكرات، بشرط المطابقة، كقول الكوفيين وأبي علي الفارسي.
وقوله: إن في «مفتحة» ضمير الجنات. فالظاهر خلافه. فإن الأبواب ترتفع به ولا ضمير فيه.
كان فيه تكثير للاضمار وتقليله أولى.
[سورة ص (٣٨) : آية ٧٥]
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥)
إن لفظ اليد جاء في القرآن على ثلاثة أنواع. مفردا، ومثنى، ومجموعا.
فالمفرد: كقوله: ٦٨: ١ بِيَدِهِ الْمُلْكُ والمثنى كقوله: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ والمجموع كقوله: عَمِلَتْ أَيْدِينا.
فحيث ذكر اليد مثناة. أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد، وعدى الفعلى بالباء إليهما، وقال: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.
وحيث ذكرها مجموعة أضاف الفعل إليها، ولم يعدّ الفعل بالباء.
فهذه ثلاثة فروق: فلا يحتمل «خلقت بيدي» من المجاز ما يحتمله عَمِلَتْ أَيْدِينا فإن كل أحد يفهم من قوله: عَمِلَتْ أَيْدِينا ما يفهمه من قوله: عملنا وخلقنا، كما يفهم ذلك من قوله: فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وأما قوله: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ فلو كان المراد منه مجرد الفعل لم يكن لذكر اليد بعد نسبة الفعل إلى الفاعل معنى فكيف وقد دخلت عليها الباء؟ فكيف إذا ثنيت؟
وسرّ الفرق أن الفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد، والمراد الإضافة إليه. كقوله: بِما قَدَّمَتْ يَداكَ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وأما إذا أضيف إليه الفعل، ثم عدي بالباء إلى اليد مفردة أو مثناة، فهو مما باشرته يده.
وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن «أهل الموقف يأتونه يوم القيامة، فيقولون:
يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده»
وكذلك قال آدم لموسى في محاجته له
«اصطفاك الله بكلامه، وخطّ لك الألواح بيده»
وفي لفظ آخر «كتب لك التوراة بيده»
وهو من أصح الأحاديث. وكذلك
الحديث المشهور «أن الملائكة قالوا: يا رب خلقت بني آدم يأكلون ويشربون، وينكحون، ويركبون، فأجعل لهم الدنيا ولنا الأخرى، فقال الله تعالى: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ونفخت فيه من روحي، كمن قلت له: كن فكان».
وهذا التخصيص إنما فهم من قوله «خلقت بيديّ» فلو كان مثل قوله:
مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا لكان هو والأنعام في ذلك سواء. فلما فهم المسلمون أن قوله: ٣٨: ٧٥ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ يوجب له تخصيصا وتفضيلا بكونه مخلوقا باليدين على من أمر أن يسجد له، وفهم ذلك أهل الموقف حين جعلوه من خصائصه: كانت التسوية بينه وبين قوله:
٣٦: ٧١ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً خطأ محضا.