تفسير سورة المائدة

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

السورة التي تذكر فيها المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم سماع اسم الله يوجب الهيبة، (والهيبة) «١» تتضمن الفناء والغيبة، وسماع الرحمن الرحيم يوجب الحضور والأوبة، والحضور يتضمن البقاء والقربة.
فمن أسمعه «بِسْمِ اللَّهِ» أدهشه فى كشف جلاله، ومن أسمعه «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» عيّشه بلطف أفضاله.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)
«يا» حرف نداء، و «أي» اسم منادى، «ها» تنبيه، و «الَّذِينَ آمَنُوا» صلة المنادى. ناداهم قبل أن بداهم، وسمّاهم قبل أن براهم، وأهّلهم فى آزاله لما أوصلهم إليه فى آباده.
شرّفهم بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»، وكلّفهم بقوله «أَوْفُوا»، ولما علم أن التكليف يوجب المشقة قدّم التشريف بالثناء على التكليف الموجب للعناء.
ويقال الإيمان صنفان: أحدهما يشير إلى عين الجود، والثاني إلى بذل المجهود.
فبذل المجهود خدمتك، وعين الجود قسمته فبخدمتك عناء الأشباح، وبقسمته ضياء الأرواح.
وحقيقة الإيمان تحقق القلب بما أخبر من الغيب.
ويقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» : يا من دخلوا فى إيمانى، ما وصلتم إلى أمانى إلا بسابق إحسانى.
ويقال يا من فتحت بصيرتهم لشهود حقى حتى لا يكونوا كمن أعرضت عنهم من خلقى.
- وذكر الإمام أحمد بإسناد آخر أكثر صحة مما سبق.
ومن الأقوال التي ذكرت عن الكلالة انها مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه ولهذا فسرها اكثر العلماء بمن يموت وليس له ولد، ومن الناس من يقول الكلالة من لا ولد له كما دلت عليه الآية (إن امرؤ هلك ليس له ولد).
(١) أضفناها لأن السياق يستدعيها، إذ نرجح أنها سقطت فى النسخ.
قوله جل ذكره: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.
كلّ مكلّف مطالب بالوفاء بعقده، والعقد ما ألزمك بسابق إيجابه، ثم وفّقك- بعد ما أظهرك عند خطابه- بجوابه «١»، فانبرم العقد بحصول الخطاب، والقبول بالجواب.
ويدخل فى ذلك- بل يلتحق به- ما عقد القلب معه سرّا بسرّ من خلوص له أضمره، أو شىء تبيّنه، أو معنى كوشف به أو طولب به فقبله.
ويقال الوفاء بالعهد بصفاء القصد، ولا يكون ذلك إلا بالتبرّى من المنّة، والتحقق بتولي الحق- سبحانه- بلطائف المنّة «٢».
قوله جل ذكره: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.
تحليل بعض الحيوانات وإباحتها من غير جرم سبق منها، وتحريم بعضها والمنع من ذبحها من غير طاعة حصلت منها- دليل على ألّا علّة لصنعه.
وحرّم الصيد على المحرم خصوصا لأن المحرم متجرّد عن نصيب نفسه بقصده إليه، فالأليق بصفاته كفّ الأذى عن كل حيوان.
قوله جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ.
لا حجر عليه فى أفعاله، فيخصّ من يشاء بالنّعماء، ويفرد من يشاء باليلوى فهو يمضى الأمور فى آباده على حسب ما أراد وأخبر وقضى فى آزاله.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)
الشعائر معالم الدّين وتعظيم ذلك وإجلاله خلاصة الدين، ولا يكون ذلك إلا بالاستسلام عند هجوم التقدير، والتزام الأمر بجميل الاعتناق، وإخلال الشعائر (يكون) بالإخلال بالأوامر.
قوله جل ذكره: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ.
(١) يشير القشيري إلى قوله تعالى يوم الذر: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى».
(٢) يفرّق القشيري بين المنة للعبد والمنة للحق. [.....]
397
تعظيم المكان الذي عظّمه الله، وإكرام الزمان الذي أكرمه الله. وتشريف الإعلام على ما أمر به الله- هو المطلوب من العبيد أمرا، والمحبوب منه حالا.
قوله جل ذكره: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً.
وبالحرىّ لمن يقصد البيت ألا يخالف ربّ البيت.
والابتغاء للفضل والرضوان بتوقّى موجبات السخط، ومجانبة العصيان.
قوله جل ذكره: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا.
وإذا خرجتم عن أمر حقوقنا فارجعوا إلى استجلاب حظوظكم، فأمّا ما دمتم تحت قهر بطشنا فلا نصيب لكم منكم، وإنكم لنا.
قوله «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ... » أي لا يحملكم بغض قوم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام على ألا تجاوزوا حدّ الإذن فى الانتقام، أي كونوا قائمين بنا، متجردين عن كل نصيب وحظّ لكم.
قوله جل ذكره: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى.
البرّ فعل ما أمرت به، والتقوى ترك ما زجرت عنه.
ويقال البرّ إيثار حقه- سبحانه، والتقوى ترك حظّك.
ويقال البرّ موافقة الشرع، والتقوى مخالفة النّفس.
ويقال المعاونة على البرّ بحسن النصيحة وجميل الإشارة للمؤمنين، والمعاونة على التقوى بالقبض على أيدى الخطائين بما يقتضيه الحال من جميل الوعظ، وبليغ الزجر، وتمام المنع على ما يقتضيه شرط العلم.
والمعاونة على الإثم والعدوان بأن تعمل شيئا مما يقتدى بك لا يرضاه الدّين، فيكون قولك الذي تفعله ويقتدى بك (فيه) سنّة تظهرها و (عليك) نبوّ وزرها. وكذلك المعاونة
398
على البر والتقوى أي الاتصاف بجميل الخصال على الوجه الذي يقتدى بك فيه.
قوله جل ذكره: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
العقوبة ما تعقب الجرم بما يسوء صاحبه. وأشد العقوبة حجاب المعاقب عن شهود المعاقب فإنّ تجرّع كاسات البلاء بشهود المبلى أحلى من العسل والشهد.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
وأكل الميتة أن تتناول من عرض أخيك على وجه الغيبة «١»، وليس ذلك مما فيه رخصة بحال لا بالاضطرار ولا بالاختيار، وغير هذا من الميتة مباح فى حال الضرورة.
ويقال كما أنّ فى الحيوان ما يكون المزكى منه مباحا والميتة منه حراما فكذلك من ذبح نفسه بسكاكين المجاهدات وطهّر نفسه- مباح قربه، حلال صحبته. ومن ماتت نفسه فى ظلمة غفلته حتى لا إحساس له بالأمور الدينية فخبيثة نفسه، محظور قربه، حرام معاشرته، غير مباركة صحبته.
وإنّ السلف سموا الدنيا خنزيرة، ورأوا أنّ ما يلهى قربه، وينسى المعبود ركونه، ويحمل على العصيان جنوحه- فهو محرّم على القلوب ففى طريقة القوم حبّ الدنيا حرام على القلوب، وإن كان إمساك بعضها حلالا على الأبدان والنفوس.
قوله جل ذكره: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ.
كما أنّ المذبوح على غير اسمه ليس بطيّب فمن بذل روحه فيه وجد روحه منه، ومن تهارشته كلاب الدنيا، وقلته مخالب الأطماع، وأسرته مطالب الأغراض والأعراض- فحرام ماله على أهل الحقائق فى مذهب التعزز، فللشريعة الظرف والتقدير.
وأمّا المنخنقة فالإشارة منه إلى الذي ارتبك فى حبال المنى والرغائب، وأخذه خناق
(١) يشير القشيري بذلك إلى قوله تعالى: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً... ».
399
الطمع، وخنقته سلاسل (الحرص) «١» فحرام على السالكين سلوك خطتهم، ومحظور على المريدين متابعة مذهبهم.
وأمّا الموقوذة فالإشارة منها إلى نفوس جبلت على طلب الخسائس حتى استملكتها كلها فهى التي ذهبت بلا عوض حصل منها، وأمثال ذلك حرام على أهل هذه القصة.
والإشارة من المتردية إلى من هلك فى أودية التفرقة، وعمى عن استبصار رشد الحقيقة فهو يهيم فى مفاوز الظنون، وينهك فى متاهات المنى.
والإشارة من النطيحة إلى من صارع الأمثال، وقارع الأشكال، وناطح كلاب الدنيا فحطموه بكلب حرصهم، وهزموه بزيادة تكلبهم، وكذلك الإشارة من:
قوله جلّ ذكره: وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ.
وأكيلة السبع ما ولغت فيه كلاب الدنيا، فإن الدنيا جيفة، وأكلة الجيف الكلاب ويستثنى منه المزكى وهو ما تقرر من متاع الدنيا لله لأن زاد المؤمن من الدنيا: ما كان لله فهو محمود، وما كان للنّفس فهو مذموم.
قوله جل ذكره: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ.
فهو ما أرصد لغير الله، ومقصود كلّ حريص- بموجب شرعه- معبوده من حيث هواه قال الله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» يعنى اتخذ هواه إلهه.
«وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ»، الإشارة منه إلى كل معاملة ومصاحبة بنيت على استجلاب الحظوظ الدنيوية- لا على وجه الإذن- إذ القمار ذلك معناه. وقلّت المعاملات المجرّدة عن هذه الصفة فيما نحن فيه من الوقت.
قوله جل ذكره: ذلِكُمْ فِسْقٌ.
أي إيثار هذه الأشياء انسلاخ عن الدّين.
(١) وردت (الحرس) وهى خطأ فى النسخ.
400
قوله جل ذكره: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ.
أي بعد ما أزحتم عن قلوبكم آثار الحسبان، وتحققتم بأن المتفرد بالإبداع نحن، فلا تلاحظوا سواى، ولا يظلّلن قلوبكم إشفاق من غيرى.
ويقال إذا كانت البصائر متحققة بأن النّفع والضر، والخير والشر لا تحصل شظية منها إلا بقدرة الحق- سبحانه، فمن المحال أن تنطوى- من مخلوق- على رغب أو رهب.
قوله جل ذكره: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
إكماله الدين- وقد أضافه إلى نفسه- صونه العقيدة عن النقصان وهو أنه لما أزعج قلوب المتعرفين لطلب توحيده أمّلها بأنوار تأييده وتسديده، حتى وضعوا النظر موضعه من غير تقصير، وحتى وصلوا إلى كمال العرفان من غير قصور.
ويقال إكمال الدّين تحقيق القبول فى المآل، كما أن ابتداء الدّين توفيق الحصول فى الحال فلولا توفيقه لم يكن للدين حصول، ولولا تحقيقه لم يكن للدين قبول.
ويقال إكمال الدين أنه لم يبق شىء يعلمه الحق- سبحانه- من أوصافه وقد علّمك.
ويقال إكمال الدين أن ما تقاصر عنه عقلك من تعيين صفاته- على التفصيل- أكرمك بأن عرّفك ذلك من جهة الإخبار.
وإنما أراد بذكر «الْيَوْمَ» وقت نزول الآية. وتقييد الوقت فى الخطاب بقوله «الْيَوْمَ» لا يعود إلى عين إكمال الدّين، ولكن إلى تعريفنا ذلك الوقت.
والدّين موهوب ومطلوب فالمطلوب ما أمكن تحصيله، والموهوب ما سبق منه حصوله.
قوله جل ذكره: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي.
النعمة- على الحقيقة- ما لا يقطعك عن المنعم بل يوصلك إليه، والنعمة المذكورة
401
هاهنا نعمة الدّين، وإتمامها وفاء المآل، واقتران الغفران وحصوله. فإكمال الدين تحقيق المعرفة، وإتمام النعمة تحصيل المغفرة. وهذا خطاب لجماعة المسلمين، ولا شك فى مغفرة جميع المؤمنين، وإنما الشك يعترى فى الآحاد والأفراد هل يبقى على الإيمان؟
قوله جل ذكره: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.
وذلك لما قسم للخلق أديانهم فخصّ قوما باليهودية، وقوما بالنصرانية، إلى غير ذلك من النّحل والملل، وأفرد المسلمين بالتوحيد والغفران.
وقدّم قوم الإكمال على الإتمام، فقالوا: الإتمام يقبل الزيادة، فلذلك وصف به النعمة لقبول النّعم للزيادة، ولا رتبة بعد الكمال فلذلك وصف به الدين.
ويقال لا فرق بين الدّين والنعمة المذكورة هاهنا، وإنما ذكر بلفظين على جهة التأكيد، ثم أضافه إلى نفسه فقال: «نِعْمَتِي» وإلى العبد فقال: «دِينِكُمْ». فوجه إضافته إلى العبد من حيث الاكتساب، ووجه إضافته إلى نفسه من حيث الخلق. فالدين من الله عطاء، ومن العبد عناء «١»، وحقيقة الإسلام الإخلاص والانقياد والخضوع لجريان الحكم بلا نزاع فى السّرّ.
قوله جل ذكره: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
الإشارة من هذه الآية أنه لو وقع لسالك فترة، أو لمريد فى السلوك وقفة، ثم تنبّه لعظيم واقعه فبادر إلى جميع الرّجعة باستشعار التحسّر على ما جرى تداركته الرحمة، ونظر الله- سبحانه- إليه بقبول الرجعة.
والإشارة من قوله «غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ» أي غير معرّج على الفترة، ولا مستديم لعقدة الإصرار، ويحتمل أن يكون معناه من نزل عن مطالبات الحقائق إلى رخص العلم لضعف وجده فى الحال فربما تجرى معه مساهلة إذا لم يفسخ عقد الإرادة.
(١) هذه العبارة تساوى فى المعنى ما سبق ذكره ان «الدين موهوب ومطلوب» والمقصود بالعناء أن الدين معاناة وممارسة من جانب العبد.
402
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)
لما علموا أن الحسن من أفعالهم ما ورد به الأمر وحصل فيه الإذن تعرّفوا ذلك من تفصيل الشرع، فقال: «يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ» ثم قال:
«قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» وهو الحلال الذي تحصل من تناوله طيبة القلوب فإنّ أكل الحرام يوجب قسوة القلب، والوحشة مقرونة بقسوة القلب، وضياء القلوب وطيب الأوقات متصل بصون الخلق عن تناول الحرام والشبهات.
وقوله: «وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ» : ولمّا كان الكلب المعلّم ترك حظّه، وأمسك ما اصطاده على صاحبه حلت فريسته، وجاز اقتناؤه، واستغرق فى ذلك حكم خساسته فكذلك من كانت أعماله وأحواله لله- سبحانه- مختصة، ولا يشوبها حظّ تجلّ رتبته وتعلو حالته.
ويقال حسن الأدب يلحق الأخسّة برتبة الأكابر، وسوء الأدب يردّ الأعزّة إلى حالة الأصاغر.
ثم قال: «وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» : بيّن أنّ الأكل- على الغفلة- غير مرضىّ عنه (فى القيمة) «١» «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» بحيث لا يشغله شأن عن شأن، وسريع الحساب- اليوم- مع الأحباب والأولياء، فهم لا يسامحون فى (الخطوة) «٢» ولا فى اللحظة، معجّل حسابهم، مضاعف- فى الوقت- ثوابهم وعقابهم.
(١) وضعت (فى القيمة خطأ) بعد سريع الحساب وقد أثبتناها فى موضعها الصحيح.
(٢) ربما كانت فى الأصل (الخطرة) بالراء فالأكابر يحاسبون على أدق خاطر يخطر على قلوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٥]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)
ليس الطّيّب ما تستطيبه النفوس، ولكن الطيب ما يوجد فيه رضاء الحق- سبحانه- فتوجد عند ذلك راحة القلوب.
«وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ» : القدر الذي بيننا وبينهم من الوفاق فى إثبات الربوبية لم يعر من أثر فى القربة فقال الله تعالى: «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى» «١» وكذلك الأمر فى المحصنات من نسائهم. وأحل الطعام والذبيحة بيننا وبينهم من الوجهين فيحلّ لنا أكل ذبائحهم، ويجوز لنا أن نطعمهم من ذبائحنا، ولكن التزوج بنسائهم يجوز لنا، ولا يجوز تزوجهم بنسائنا لأن الإسلام يعلو ولا يعلى.
ثم قال «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» يعنى إنهم وإن كانوا كفارا فلا تجب صحبتهن بغير نكاح تعظيما «٢» لأمر السّفاح، وتنبيها على وجوب مراعاة الأمر من الحق. وكذلك «وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ» لأنه إذا لم يجز تعلق قلبك بالمؤمنين على وجه المخادنة فمتى يسلم ذلك مع الكفار الذين هم الأعداء؟
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
(١) آية ٨٢ سورة المائدة.
(٢) تعظيما هنا معناها تهويلا واستبشاعا.
404
كما أنّ فى الشريعة لا تصحّ الصلاة بغير الطهور فلا تصحّ- فى الحقيقة- بغير طهور.
وكما أن للظاهر طهارة فللسرائر أيضا طهارة، وطهارة الأبدان بماء السماء أي المطر، وطهارة القلوب بماء الندم والخجل، ثم بماء الحياء والوجل.
وكما يجب غسل الوجه عند القيام إلى الصلاة يجب- فى بيان الإشارة- صيانة الوجه عن التبذّل للأشكال عن طلب خسائس الأعراض.
وكما يجب غسل اليدين فى اليدين فى الطهارة يجب قصرهما عن الحرام والشبهة.
وكما يجب مسح الرأس يجب صونه عن التواضع والخفض لكل أحد.
وكما يجب غسل الرجلين فى الطهارة يجب صونهما فى الطهارة الباطنة عن التنقل فيما لا يجوز قوله جل ذكره: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ.
كما يقتضى غسل جميع البدن فى الطهارة، كذلك فى الطهارة الباطنة ما يوجب الاستقصاء وذلك عند ما تقع للمريد فترة فيقوم بتجديد عقد، وتأكيد عهد، والتزام عزامة، وتسليم وقت، واستدامة ندامة، واستشعار خجل.
وكما أنه إذا لم يجد المتطهر الماء ففرضه التّيمم فكذلك إذا لم يجد المريد من يفيض عليه صوب همته، ويغسله ببركات إشارته، ويعينه بما يئوب به من زيادة حالته- اشتغل بما تيسّر له من اقتفاء آثارهم، والاستراحة إلى ما يجد من سالف سيرهم، وما ورد من حكاياتهم
405
وكما أن فرض التيمم على الشطر والنقصان فكذلك المطالبات على إصفاء هذه الحالة تكون أخف لأنه وقت الفترة وزمان الضعف.
قوله جل ذكره: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ.
وتلوح من هذه الجملة الإشارة إلى أنه إذا بقي المريد عن أحكام الإرادة فليحطط رجله بساحات العبادة، فإذا عدم اللطائف فى سرائره فليستدم الوظائف على ظاهره، وإذا لم يتحقّق بأحكام الحقيقة فليتخلق بآداب الشريعة، وإن لم يتحرج عن تركه الفضيلة فلا يدنس تصرفه بالحرام والشبهة.
قوله جل ذكره: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ.
أي يطهر ظواهركم عن الزلة بعصمته، ويطهر قلوبكم عن الغفلة برحمته.
ويقال يطهر سرائركم عن ملاحظة الأشكال، ويطهر ظواهركم عن الوقوع فى شباك الأشغال.
ويقال يطهر عقائدكم عن أن تتوهموا تدنّس المقادير بالأعلال.
قوله جل ذكره: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
إتمام النعمة على قوم بنجاة نفوسهم، وعلى آخرين بنجاتهم عن نفوسهم، وشتّان بين قوم وقوم!.
ويقال إتمام النعمة فى وفاء العاقبة فإذا خرج من الدنيا على وصف العرفان والإيمان فقد تمّت سعادته، وصفت نعمته.
ويقال إتمام النعمة فى شهود المنعم فإنّ وجود النعمة لكل أحد ولكنّ إتمامها فى شهود المنعم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٧]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
الإشارة منه إلى التعريف السابق الذي لولاه ما علمت أنه من هو.
ويقال أمرهم بتذكّر ما سبق لهم من القسم وهم فى كتم العدم، فلا للأغيار عنهم خبر،
ولا لهم عين ولا أثر، ولا وقع عليهم بصيرة، وقد (سماهم) «١» بالإيمان، وحكم لهم بالغفران قبل حصول العصيان، ثم لما أظهرهم وأحياهم عرّفهم التوحيد قبل أن كلّفهم الحدود، وعرض عليهم بعد ذلك الأمانة وحذّرهم الخيانة، فقابلوا قوله بالتصديق، ووعدوا من أنفسهم الوفاء بشرط التحقيق، فأمدّهم بحسن التوفيق، وثبّتهم على الطريق، ثم شكرهم حيث أخبر عنهم بقوله جل ذكره: «إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا».
ثم قال: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» : يعنى فى نقض ما أبرمتم من العقود، والرجوع عمّا قدمتم من العهود، «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» لا يخفى عليه من خطرات قلوبكم ونيات صدوركم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨)
لا يعوّقنّكم حصول نصيب لكم فى شىء عن الوفاء لنا، والقيام بما يتوجّب عليكم من حقنا.
ويقال من لم يقسط عند مواعد رغائبه، ولم يمح عنه نواجم شهواته ومطالبه لم يقم لله بحق ولم يف لواجباته بشرط.
قوله جل ذكره: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.
أي لا تحملكم ضغائن صدوركم على الحلول بجنبات الحيف فإنّ مرتع الظلم وبيء، ومواضع الزيغ مهلكة.
ثم صرّح بالأمر بالعدل فقال: «اعْدِلُوا» ولا تكون حقيقة العدل إلا (بالعدول) «٢» عن كل حظ ونصيب.
(١) نرجح أنها فى الأصل (وسمهم) فالوسم فى الاصطلاح تتعلق بالأزل وهذا يتفق مع السياق.
(٢) وردت (بالعدوان) والصواب أن تكون (بالعدول) كما هو واضح.
والعدل أقرب إلى التقوى، والجور أقرب من الرّدى، ويوقع عن قريب فى عظيم البلوى.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٩]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩)
والمغفرة لا تكون إلا للذنب، فوصفهم بالأعمال الصالحات، ثم وعدهم المغفرة ليعلم أن العبد تكون له أعمال صالحة وإن كانت له ذنوب تحتاج إلى غفرانها، بخلاف ما توهّم من قال إن المعاصي تحبط الطاعات.
ويقال بيّن أن العبد وإن كانت له أعمال صالحة فإنه يحتاج إلى عفوه وغفرانه، ولولا ذلك لهلك، خلافا لمن قال إنه لا يجوز أن يعذّب البريء ويجب أن يثيب المحسنين «١».
ويقال لو كان ثواب المحسنين واجبا، وعقوبة البريء غير حسنة لكان التجاوز عنه واجبا عليه، ولم يكن حينئذ فضل يمن به عليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠)
لهم عقوبتان: معجلة وهى الفراق، ومؤجلة وهى الاحتراق.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
يذكّرهم ما سلف لهم من نعم الدفع «٢» وهو ما قصر عنهم أيدى الأعداء، وذلك من أمارات
(١) يشير القشيري بذلك إلى أقوال المعتزلة بوجوب إثابة المطيع ومعاقبة العاصي- على الله، فلا وجوب- فى نظره- على الله، وإنما كل شىء منه فضل، ولا قيمة لعمل العبد بجانب هذا الفضل.
(٢) يميز القشيري بين نعمتين: نعمة دفع ونعمة نفع.
العناية. ولقد بالغ فى الإحسان إليك من كان يظهر لك الغيب من غير التماس أو سبق شفاعة فيك، أو رجاء نفع من المستأنف «١» منك، أو حصول ربح فى الحال عليك، أو وجود حق فى المستأنف لك.
ثم قال: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» يعنى كما أحسنت إليكم فى السالف من غير استحقاق فانتظروا جميل إحسانى فى (الغابر) «٢» من غير (استيجاب) «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٢]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢)
يذكرهم حسن أفضاله معهم، وقبح (فعلهم) «٤» فى مقابلة إحسانه بنقضهم عهدهم.
وعرف المؤمنين- تحذيرا لهم- ألا ينزلوا منزلتهم فيستوجبوا مثل ما استوجبوه من عقوبتهم.
قوله جل ذكره: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ.
أي لئن قمتم بحقي لأوصلن إليكم حظوظكم، ولئن أجللتم أمرى فى العاجل لأجلّن قدركم فى الآجل.
وإقامة الصلاة أن تشهد من تعبده، ولذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اعبد الله كأنّك تراه».
ويقال إقامة الصلاة شرطها أن تقبل على من تناجيه بأن تستقبل القطر الذي الكعبة فيه.
وأمّا إيتاء الزكاة فحقّه أن تكسب المال من وجهه، وتصرفه فى حقه، ولا تمنع الحق
(١) أي ما يمكن أن نقدمه من طاعات فى المستقبل، فالله غنى عنه.
(٢) نرجح أنها (الحاضر) حتى ينسجم السياق فإن (الغابر) و (السالف) بمعنى (الماضي).
(٣) يعنى استحقاق. [.....]
(٤) وردت (فعلهم) بميم زائدة من الناسخ.
الواجب فيه عن أهله، ولا تؤخر الإيتاء عن وقته، ولا تحوج الفقير إلى طلبه فإنّ الواجب عليك أن توصل ذلك إلى مستحقه.
وتعزير «١» الرسل الإيمان بهم على وجه الإجلال، واعتناق أمرهم بتمام الجد والاستقلال، وإيثارهم عليك فى جميع الأحوال.
قوله جل ذكره: وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً.
الأغنياء ينفقون أموالهم فى سبيل الله، والفقراء يبدلون مهجتهم وأرواحهم فى طلب الله، (فأولئك) «٢» عن مائتى درهم يخرجون خمسة، وهؤلاء لا يدخرون عن أمره نفسا ولا ذرّة.
قوله جل ذكره: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.
التكفير هو الستر والتغطية، وإنه يستر الذنوب حتى عن (العاصي) «٣» فيمحو من ديوانه، وينسى الحفظة سوالف عصيانه. وينفى عن قلبه تذكر ما أسلفه، ولا يوقفه فى العرصة على ما قدّم من ذنبه، ثم بعد ذلك يدخله الجنة بفضله كما قال: «وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ»، كما قيل:
ولما رضوا بالعفو عن ذى زلة حتى أنالوا كفّه وازدادوا
قوله جل ذكره: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.
فمن جحد هذه الأيادى بعد اتضاحها فقد عدل عن نهج أهل الوفاء، وحاد عن سنن أصحاب الولاء.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٣]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
جعل جزاء العصيان الخذلان للزيادة فى العصيان.
(١) وردت (وتعزم) والصحيح (وتعزير) والعزر في اللغة الرد ومعناها هنا رددتم عنهم أعداءهم ونصرتموهم.
(٢) وردت (فهؤلاء) وقد جعلناها أولئك إشارة إلى البعيد ليتميز كل فريق.
(٣) وردت (المعاصي) بالميم والصواب بدونها فهكذا يتطلب السياق.
410
قوله جل ذكره: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ.
وتحريفهم الكلم عن مواضعه نوع عصيان منهم، وإنما حرّفوا لقساوة قلوبهم. وقسوة القلب عقوبة لهم من قبل الله تعالى على ما نقضوه من العهود، ونقض العهد أعظم وزر يلم به العبد، والعقوبة عليه أشد عقوبة يعاقب بها العبد، وقسوة القلب عدم التوجع مما يمتحن به من الصدّ، وعن قريب يمتحن بمحنة الرد بعد الصدّ «١»، وذلك غاية الفراق، ونهاية البعد.
ويقال قسوة القلب أولها فقد الصفوة ثم استيلاء الشهوة ثم جريان الهفوة ثم استحكام القسوة، فإن لم يتفق إقلاع عن هذه الجملة فهو تمام الشقوة.
ومن تحريف الكلم- على بيان الإشارة- حمل الكلم على وجوه من التأويل مما تسوّل لصاحبه نفسه، ولا تشهد له دلائل العلم ولا أصله «٢».
قوله جل ذكره: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.
أوّل آفاتهم نسيانهم، وما عصوا ربهم إلا بعد ما نسوا، فالنسيان أول العصيان، والنسيان حاصل من الخذلان.
قوله جل ذكره: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.
الخيانة أمرها شديد وهى من الكبار أبعد، وعليهم أشد وأصعب. ومن تعوّد اتباع الشهوات، وأشرب فى قلبه حبّ الخيانة فلا يزال يعيش بذلك الخلق إلى آخر عمره، اللهم إلا أن يجود الحقّ- سبحانه- عليه بجميل اللطف.
قوله جل ذكره: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
قد يكون موجب العفو حقارة قدر المعفو عنه إذ ليس كل أحد أهلا للعقاب. وللصفح
(١) من هذا نفهم أن (الرد) عند القشيري أقرب وأشد وقعا من (الصد).
(٢) هذا أصل من أصول التأويل المقبول فى نظر القشيري، وهو في الوقت نفسه يوضح صفة في التفسير الإشارى.
411
على العفو مزية وهى أن فى العفو رفع الجناح، وفى الصفح إخراج ذكر الإثارة من القلب، فمن تجاوز عن الجاني، ولم يلاحظه- بعد التجاوز- بعين الاستحقار والازدراء فهو صاحب الصفح.
والإحسان تعميم- للجمهور- بإسداء الفضل.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٤]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
الإشارة فى هذه الآية أن النصارى أثبت لهم الاسم بدعواهم فقال: «قالُوا إِنَّا نَصارى».
وسموا نصارى لتناصرهم، وبدعواهم حرّفوا وبدّلوا، وأما المسلمون فقال: «هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ» «١».
كما قال: «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» «٢» فلا جرم ألا يسموا بالتناصر. ولمّا سمّاهم الحقّ بالإسلام ورضى لهم به صانهم عن التبديل فعصموا.
ولما استمكن منهم النسيان أبدلوا بالعداوة فيما بينهم، وفساد ذات البين فأرباب الغفلة لا ألفة بينهم. وأهل الوفاء لا مباينة لبعضهم من بعض، قال صلّى الله عليه وسلّم:
«المؤمنون كنفس واحدة» «٣»، وقال تعالى فى صفة أهل الجنة: «إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» «٤».
(١) آية ٧٨ سورة الحج.
(٢) آية ٢ سورة المائدة.
(٣) فى رواية الإمام مسلم عن النعمان بن بشير.
المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله... » صحيح مسلم ج ٤ ص ٢٧١.
(٤) آية ٤٤ سورة الصافات.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٥ الى ١٦]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
وصف الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- بإظهار بعض ما أخفوه، وذلك علامة على صدقه إذ لولا صدقه لما عرف ذلك. ووصفه بالعفو عن كثير من أفعالهم، وذلك من أمارات خلقه إذ لولا خلقه لما فعل ذلك فإظهار ما أبداه دليل علمه، والعفو عما أخفى برهان حلمه.
قوله جل ذكره: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
أنوار التوحيد ظاهرة لكنها لا تغنى عند فقد البصيرة، فمن استخلصه بقديم العناية أخرجه من ظلمات التفرقة إلى ساحات الجمع فامتحى عن سرّه شواهد الأغيار، وذلك نعت كل من وقف على الحجة المثلى.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٧]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
من اشتملت عليه أرحام الطوامث متى يفارقه نقص الخلقة؟
ومن لاحت عليه شواهد التغيّر أنّى يليق به نعت الربوبية؟
ولو قطع البقاء عن جميع ما أوجد فأى نقص يعود إلى الصمد؟
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٨]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨)
البنوة «١» تقتضى المجانسة، والحقّ عنها منزّه، والمحبة بين المتجانسين تقتضى الاحتظاظ والمؤانسة، والحق سبحانه عن ذلك مقدّس.
فردّ الله- سبحانه- عليهم فقال تعالى: «بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ».
والمخلوق لا يصلح أن يكون بعضا للقديم فالقديم لا بعض له لأن الأحدية حقه، فإذا لم يكن له عدد لم يجز أن يكون له ولد. وإذا لم يجز له ولد لم تجز- على الوجه الذي اعتقدوه- بينهم وبينه محبة.
ويقال فى الآية بشارة لأهل المحبة بالأمان من العذاب والعقوبة به لأنه قال: «قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ».
ويقال بيّن فى هذه الآية أن قصارى الخلق إمّا عذاب وإمّا غفران ولا سبيل إلى شىء وراء ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٩]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩).
(١) وردت (النبوة) وهى خطا فى النسخ لأن الإشارة عائدة إلى ما جاء فى الآية:
«نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ»
يقال فى: كل زمان تقع فترة فى سبيل الله ثم تتجدد الحال، ويعمّ الطريق بإبداء السالكين من كتم العدم، ولقد كان زمان الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- أكثر الأزمنة بركة، فأحيا بظهوره ما اندرس من السبيل، وأضاء بنوره ما انطمس من الدليل، وبذلك منّ عليهم، وذكّرهم عظيم نعمته فيهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٠]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠)
كان الأمر لبنى إسرائيل- على لسان نبيّهم- بأن يتذكروا نعمة الله عليهم، وكان الأمر لهذه الأمة «١» - بخطاب الله لا على لسان مخلوق- بأن يذكروه فقال: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» «٢» وشتان بين من أمره بذكره- سبحانه- وبين من أمره بذكر نعمته! ثم جعل جزاءهم ثوابه الذي هو فضله، وجعل جزاء هذه الأمة خطابه الذي هو قوله تعالى:
«فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ».
قوله جل ذكره: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً.
الملك من المخلوقين من عبد الملك الحقيقي.
ويقال الملك من ملك هواه، والعبد من هو فى رقّ شهواته.
ويقال «جَعَلَكُمْ مُلُوكاً» : لم يخرجكم إلى أمثالكم، ولم يحجبكم عن نفسه بأشغالكم، وسهّل إليه سبيلكم فى عموم أحوالكم.
قوله جل ذكره: وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ.
لئن آتى بنى إسرائيل بمقتضى جوده فقد أغنى عن الإيتاء هذه الأمة فاستقلوا بوجوده، والاستقلال بوجوده أتمّ من الاستغناء بمقتضى جوده.
(١) يقصد أمة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
(٢) آية ١٥٢ سورة البقرة.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٢١]
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١)
من الفرق بين هذه الأمة وبين بنى إسرائيل أنه أباح لهم دخول الأرض المقدسة على الخصوص فقال: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» ثم إنهم لم يدخلوها إلا بعد مدة، وبعد جهد وشدة، وقال فى شأن هذه الأمة «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» «١» فأولئك كتب لهم دخول الأرض كتابة تكليف ثم قصروا، وهذه الأمة كتب لهم جميع الأرض على جهة التشريف، ثم وصلوا إلى ما كتب لهم وما قصروا.
وقال: «ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ.....» وقال لهذه الأمة: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» «٢» فهؤلاء ذلّل لهم وسهّل عليهم، وأولئك صعّب عليهم الوصول إلى ما أمرهم فيما أنزل الله عليهم.
قوله جل ذكره: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ.
الارتداد على قسمين: عن الشريعة وإقامة العبودية وذلك يوجب عقوبة النفوس بالقتل، وعن الإرادة وذلك يوجب الشّقوة- التي هى الفراق- على القلوب.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٢]
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢)
لاحظوا الأغيار بعين الحسبان فتوهموا أن شيئا من الحدثان، وداخلتهم هواجم الرعب فأصروا على ترك الأمر. ومن طالع الأغيار بأنوار البصائر شاهدهم فى أسر التقدير قوالب متعرية عن إمكان الإيجاد، ولم يقع على قلبه ظلّ التّوهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٣]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣)
(١) آية ١٠٥ سورة الأنبياء. [.....]
(٢) آية ١٥ سورة الملك.
أنعم الله (عليهما) «١» بأنوار العرفان فلم يحتشما من المخلوقين، وعلما أن من رجع إليه بنعت الاستكفاء تداركته عواجل الكفاية ثم قال:
(وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
أي من شأن المؤمنين أن يتوكلوا، وينبغى للمؤمن أن يتوكل.
ويحتمل أن يقال التوكل من شرط الإيمان. وظاهر التوكل الذي لعوام المؤمنين العلم بأن قضاءه لا رادّ له، وحقائق التوكل ولطائفه التي لخواص المؤمنين شهود الحادثات بالله ومن الله ولله، فإنّ من فقد ذلك انتفى عنه اسم الإيمان.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٤]
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤)
من أقصته سوابق التقدير لم يزده تواتر (العظة) «٢» إلا نفورا وجحودا.
قوله جل ذكره: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ.
تركوا آداب الخطاب فصرّحوا ببيان الجحد ولم يحتشموا من مجاهرة الرد.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٥]
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥)
لما ادّعى أنّه يملك نفسه عرف عجزه عن ملكه لنفسه حيث أخذ برأس أخيه يجرّه إليه.
ويقال لا أملك إلا نفسى أي لا أدخرها عن البذل فى أمرك. لا أملك إلا أخى فإنه لا يؤثر نفسه عن الذي أكلفه من قبلك.
(١) (عليهما) زيادة أضفناها ليتضح المعنى.
(٢) وردت (العظمة) والمعنى يرفضها ويتطلب (العظة) التي وردت فى الآيات السابقة.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٦]
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
مجاهرة الرد تعجّل العقوبة فإن من ماكر الحقيقة أبدت الحقيقة له من مكامن التقدير ما يلجئه إلى التطوّح فى أوطان الذّلّ.
ويقال حيّرهم فى مفاوزهم حتى عموا عن القصد فصاروا يبيتون حيث يصبحون، بعد طول التعب وإدامة السير، وكذلك من حيّره الله فى مفاوز القلب يتقلب ليلا ونهارا فى مطارح الظنون ثم لا يحصل إلا على مناهل الحيرة، فيحطون بحيث يرحلون عنها، فلا وجه للرأى الصائب يلوح لهم، ولا خلاص من بعده للتجويز يساعدهم، والذي التجأ إلى شهود الصمدية استراح عن نقلة فكره، ووقع فى روح الاستبصار بعد أتعاب التوهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٧]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧)
كانت الدنيا بحذافيرها فى أيديهما فحسد أحدهما صاحبه، فلم يصبر حتى أسرع فى شىء بإتلافه، وحين لم يقبل قربانه اشتد حسده على صاحبه، ورأى ذلك منه فهدّده بالقتل.
فأجابه بنطق التوحيد.
قوله جل ذكره: قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.
يعنى إنما يتقبّل القربان ممّن «١» طالع فى القربان مساعدة القدرة، وألقى توهّم كونه باستحقاقه واستيجابه.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٨]
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨).
(١) وردت (من) وهى خطأ فى النسخ.
لئن بدأتنى بالإثارة «١» لم أقابلك كأوصاف أهل الجهل بل أكل أمرى إلى من بيده مقاليد الأمور.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٢٩]
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)
تحقّق بأنّ العقوبة لاحقة به على ما يسلفه من الذّنب فرضى بانتقام الله دون انتقامه لنفسه.
وقوله: «أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ» الذي تستوجبه بسبب قتلك إياى، فأضافه إلى نفسه، وإذا رأى المظلوم ما يحلّ بالظالم من أليم البلاء يهون عليه ما يقاسيه ويطيب قلبه.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٠]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠)
لا تستولى هواجس النفوس على صاحبها إلا بعد استتار مواعظ الحق، فإذا توالت العزائم الرديئة، واستحكمت القصود الفاسدة من العبد صارت دواعى الحق خفية مغمورة.
والنّفس لا تدعو إلا (إلى) «٢» اتباع الشهوات ومتابعة المعصية «٣»، وهى مجبولة على الأخلاق المجوسية. فمن تابع الشهوات لا يلبث أن ينزل بساحات الندم ثم لا ينفعه ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣١]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١).
(١) وردت (الإشارة) والملائم أن تكون (الإثارة).
(٢) سقطت (إلى) من الناسخ والمعنى يستلزمها.
(٣) وردت (العصيبه) ولا معنى لها هنا وإنما الملائم (المعصية).
إرادة الحق- سبحانه- وصول الخلق إلى لطف الاحتياط فى أسباب التعيش، فإذا أشكل عليهم وجه من لطائف الحيلة سبّب الله شيئا يعرّفهم ذلك به.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٢]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
هذا قريب مما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«من سنّ حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة «١» ».
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٣]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣)
السعى فى الفساد على ضربين: بالظاهر وعقوبته معلومة فى مسائل الفقه بلسان العلم، وفى الباطن وعقوبته واردة على الأسرار، وذلك بقطع ما كان متصلا من واردات الحق، وكسوف شمس العرفان، والستر بعد الكشف، والحجاب بعد البسط. والحجاب استشعار
(١) فى رواية مسلم عن جرير بن عبد الله: (.. من سنّ فى الإسلام سنة حسنة فعمل بها كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن فى الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيئا) ج ٤ ص ٢٠٥٩ ط ع الحلبي.
الوحشة بعد الأنس، وتبديل توالى التوفيق بصنوف الخذلان، والنفي على بساط العبادة «١».
والإخراج إلى متابعة النفوس، وذلك- والله- خزى عظيم وعذاب أليم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٤]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
من أقلع عن معاصيه، وارتدع عن ارتكاب مساويه، قبل أن يهتك عنه ستر السداد لا تقام عليه- في الظاهر- حدود الشريعة لاشتباهها على الإمام، ولا يؤاخذه الحق سبحانه بقضايا إجرامه أخذا بظاهر ما يثبت من حاله ماله فى استيجاب السداد، فإذا بدا للإمام «٢» جرمه أقيم عليه الحدّ وإن تقنّع بنقاب التقوى.
وكذلك إذا سقط العبد عن عين الله لم يصل بعده إلى ما كان عليه من معاودة تقريب الحق- سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥)
ابتغاء الوسيلة التبري عن الحول والقوة، والتحقق بشهود الطول والمنّة.
ويقال ابتغاء الوسيلة هو التقريب إليه بما سبق لك من إحسانه.
ويقال الوسيلة ما سبق لك من العناية القديمة.
ويقال الوسيلة اختياره لك بالجميل.
ويقال الوسيلة خلوص (العقد) «٣» عن الشك.
ويقال ابتغاء الوسيلة استدامة الصدق فى الولاء إلى آخر العمر.
ويقال ابتغاء الوسيلة تجريد الأعمال عن الرياء، وتجريد الأحوال عن الإعجاب، وتخليص النّفس عن الحظوظ.
(١) أي الإخراج من نطاق الارادة إلى نطاق العبادة.
(٢) وردت (للايمان) وهى خطأ فى النسخ إذ الامام هو الذي يقيم الحد.
(٣) وردت (العقد) وربما كانت (العقل) فهو الذي يصاب بآفة الشك، وكلاهما مقبول فى المعنى
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦)
اليوم- يقبل من الأحباب مثقال ذرة، وغدا- لا يقبل من الأعداء ملء الأرض ذهبا، كذا يكون الأمر.
ويقال إفراط العدو فى التقرب موجب للمقت، وتستر الولي «١» فى التودد إحكام لأسباب الحب.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٧]
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)
كما أن الأعداء لا محيص لهم من النار كذلك المبعدون عن التوفيق كلما أرادوا إقلاعا عن التهتك أدركهم- من فجأة الخذلان- ما يركسهم فى وهدة العناء.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٨]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)
لو أنّ وليا من الأولياء سرق نصابا من جرد، ووجد فيه استحقاق القطع، أقيم عليه الحدّ كما يقام على المتهتك، ولا يسقط الحدّ لصلاحه. والإشارة فيه أن أمر الملك مقابل بالتعظيم، بل كل من كان أعلى رتبة فخطره أتمّ وأخفى، والمطالبة عليه أشدّ «٢». فلا يستخفنّ أحد الإلمام بزلة «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ».
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٩]
فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩)
(١) وردت (المولى والصواب أن تكون (الولي) ضد (العدو) حسبما نعرف من أسلوب القشيري
(٢) لأن أصحاب الرتبة الكبيرة بهم اقتداء فعليهم وزرهم ووزر من تبعهم.
من استوفى أحكام التوبة فتدارك ما ضيّعه، وندم على ما صنعه، وأصلح من أمره ما أفسده- أقبل الله عليه بفضله فغفره «١»، وعاد إليه باللطف فجبره.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٠]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)
بيّن أنه لا يعذّب من يعذّب بعلّة، ولا يرحم من يرحم بعلة، وإنما يتصرف فى عبده بحق ملكه، وأنّ الحكم حكمه، والأمر أمره.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤١]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)
من أقصاه الحقّ عن محلّ التقريب، وأرخى له عنان الإمهال وكله إلى مكره، ولبّس عليه حاله وسرّه، فهو ينهمك فى أودية حسبانه، وإنما يسعى فى أمر نفسه فيعمل بما يعود إليه وباله، فأمر نبيّه- صلّى الله عليه وسلّم- بترك المبالاة بأمثالهم، وقلة الاهتمام بأحوالهم، وعرّفه أنهم بمعزل عن رحمته وإنّ من ردّته القسمة الأزلية لا تنفعه الأعلال
(١) غفره أي غطاه وستر خطاياه. [.....]
فى الاستقبال، فقال: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» يعنى إن أهّله الله للحرمان، وقيّده بشباك الخذلان فشفاعة الأغيار فيه غير مقبولة، ولطائف القبول إليه غير موصولة.
قوله جل ذكره: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ.
أولئك الذين لم تعجن طينتهم بماء السعادة فجبلوا على نجاسة الشرك فإن عدم الطهارة الأصلية لا يتنقّى بفنون المعاملات.
ويقال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ» :
من أرسل عليه غاغة الهوى، وسلّط عليه نوازع المنى، وأذلّه ( ) «١» القضاء، فليس يلقى عليه غير الشقاء.
قوله جل ذكره: لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ.
وردوا من الهوان إلى الهوان، ووعدوا بالفراق، وردّوا إلى الاحتراق، فلا تدرى أي حاليهم أقرب من استيجاب الذل؟ بدايتهم فى الرد أم نهايتهم فى الشرك والجحد؟
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٢]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢)
يعنى إنهم طرحوا حشمة الدّين، وقنعوا بالحظوظ الخسيسة واكتفوا (بالأعواض) «٢» (النذرة) «٣»، فإذا تحاكموا إليك فأحللهم من حلمك على ما يستحق أمثالهم من (الآزال) «٤»،
(١) مشتبهة.
(٢) الأعواض جمع عوض وربما كانت في الأصل (الأعراض) جمع عرض، وكلاهما مقبول.
(٣) (النذرة) أي القليلة الهينة ولا نستبعد أنها (العذلة) أي الخسيسة وعند ذلك تكون الكلمة التالية رقم
(٤) الأنذال جمع نذل، وليس بمستبعد أن تكون الانزال أي الاحلال فيكون السياق (فأحللهم من حلمك على ما يستحق أمثالهم من الاحلال الانزال. من قولهم خللت بالمكان أي نزلت به).
وربما كان المقصود بالآزال ما سبق لهم من القسمة.
وأنت مخير فيما تريد فسواء أقبلت عليهم فحكمت أو أعرضت فرددت فالاختيار لك.
قوله: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» : الإقساط الوقوف على حدّ الأمر من غير (حنف) «١» إلى الحظ.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٣]
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)
يعنى أنهم قارفوا الجحد، وأصرّوا على الغى، وتعودوا الإعراض عن الإيمان، فمتى تؤثّر فيهم دعوتك، وقد سدّت مسامعهم عن القبول، وطبع على قلوبهم سابق الحكم؟
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٤]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)
يخبر أنه استحفظ بنى إسرائيل التوراة فحرّفوها، فلما وكل إليهم حفظها ضيّعوها.
وأمّا هذه الأمة فخصّهم بالقرآن، وتولّى- سبحانه- حفظه عليهم فقال: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» «٢» فلا جرم لو غيّر واحد حركة أو سكونا من القرآن لنادى الصبيان بتخطيئه.
قوله جل ذكره: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ.
إنّ الخلق تجرى عليهم أحكام القدرة وأقسام التصريف فالخشية منهم فرع من المحال، فإنّ من ليس له شظية من الإيجاد فأنّى تصحّ منه الخشية؟!
(١) حنف- ميل وليس بمستبعد أن تكون فى الأصل (حيف) إلى الحظ وكلاهما مقبول.
(٢) آية ٩ سورة الحجر.
قوله جل ذكره: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.
لا تأخذوا على جحد «١» أوليائى والركون إلى ما فيه رضاء أعدائى عوضا يسيرا فتبقوا بذلك عنّى، ولا يبارك لكم فيما تأخذون من العوض.
«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ » فمن اتخذ بغيره حكما، ولم يجد- تحت جريان حكمه- رضى واستسلاما»
ففى شرك خامر قلبه، وكفر قارن سرّه. وهيهات أن يكون على سواء! قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٥]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
بيّن أن اعتبار العدالة كان حتما فى شرعهم، ولمّا جنحوا إلى التضييع استوجبوا الملام.
«فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ»، يعنى فمن آثر ترك ماله باعتناق العفو لم يخسر علينا باستيجاب الشكر، ومن أبى إلا تماديا فى إجابة دواعى الهوى فهم الذين وضعوا الشيء فى غير موضعه أي استبدلوا بلزوم الحقائق متابعة الحظوظ، وبإيثار الفتوة موافقة البشرية «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٦]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦)
(١) وردت (جهد) بالهاء والملائم أن تكون (جحد) فهكذا تشير الآية الكريمة، وكذلك السياق إن رضاء الأعداء يقابله جحد الأولياء.
(٢) وردت (واستلاما) والصواب (استسلاما) أي أي انقيادا وطاعة.
(٣) لأن من عناصر الفتوة- عند الصوفية- البذل والإيثار والتضحية.
يعنى أتبعناهم بعيسى ابن مريم، وخصصناه بالإنجيل، وفى الإنجيل تصديق لما تقدّمه، وتحقيق لما أوجب الله وألزمه، فلا الدّين قضوا حقه، ولا الإنجيل عرفوا فرضه، ولا الرسول حفظوا أمره ففسقوا وضلوا، وظلموا وزلّوا.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٧]
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)
قال الله تعالى فى هذه السورة «١» :«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ».
وقال فى موضع آخر «... فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» وقال فى هذه الآية «... فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» أمّا فى الأول فقال: «وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا... فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» لأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو جاحد والجاحد كافر.
وفى الثاني قال: «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ... فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» لأن من جاوز حدّ القصاص واعتبار المماثلة، وتعدى على خصمه فهو ظالم لأنه ظلم بعضهم على بعض.
وأمّا هاهنا فقال: «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ... فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» أراد به معصية دون الكفر والجحد «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٨]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨).
(١) وردت فى هذه (الآية) والصواب أن تكون (السورة) لأن القشيري ألقى نظرة شاملة على آية واحدة ذات نهايات شتى فى السورة كلها.
(٢) وهذه هى المنزلة بين الكفر والإيمان- كما يسميها بعض علماء الكلام.
427
قدّم تعريفه- صلّى الله عليه وسلّم- قصص الأولين على تكليفه باتباع ما أنزل الله عليه لئلا يسلك سبيل من تقدّمه فيستوجب ما استوجبوه.
قوله جل ذكره: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ.
لا تتملكك مودة قريب أو حميم، واعتنق ملازمة أمر الله- تبارك وتعالى- بترك كل نصيب لك.
ثم قال: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً» يعنى طريقة وسنّة أي أفردنا كلّ واحد منكم- معاشر الأنبياء- بطريقة، (وأمّا «١» ) أنت فلا يدانيك فى طريقتك أحد، وأنت المقدّم على الكافة، والمفضّل على الجملة، ولو شاء الله لسوّى مراتبكم، ولكن غاير بينكم ابتلاء، وفضّل بعضكم على بعض امتحانا.
قوله جل ذكره: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.
مسارعة كل أحد على ما يليق بوقته فالعابدون تقدمهم من حيث الأوراد، والعارفون همتهم من حيث المواجد «٢».
ويقال استباق الزاهدين برفض الدنيا، واستباق العابدين بقطع الهوى، واستباق العارفين بنفي المنى، واستباق الموحدين بترك الورى، ونسيان الدنيا والعقبى.
(١) وردت (ولما) وهى خطأ فى النسخ.
(٢) وقع الناسخ فى تكرار عبارة (والعارفون..) فحذفناها
428
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٩]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩)
قم بالله فيما تحكم بينهم، وأقم حقوقه فيما تؤخر وتقدم، ولا تلاحظ الأغيار فيما (تؤثر) «١» أو تذر، فإن الكلّ محو فى التحقيق.
قوله جل ذكره: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ.
يعنى (عظهم) «٢» بلسان العلم فإن أبوا قبولا فشاهدهم بعين الحكم. ويقال: أشدد عليهم باعتناق لوازم التكليف، فإن أعرضوا فعاينهم بعين التصريف فانّ الحقّ- سبحانه- بشرط التكليف يلزمهم وبحكم التصريف يؤخرهم ويقدمهم، فالتكليف فيما أوجب، والتصريف فيما أوجد، والعبرة بالإيجاد والإيجاب.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٠]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
أيعودون فى ظلمة الحجاب ووحشة الالتباس بعد ما سطع فجر العرفان، وطلعت شموس التحقيق، وانهتكت أستار الريب؟
ويقال أيطلبون منك أن تحيد عن المحبة المثلى، وقد اتضحت لك البراهين وتجلّى اليقين؟
ويقال أيطمعون فى استتار الحقائق فى السرائر وقد تجلت شموس اليقين؟
(١) وردت (تؤشر) بالشين وهى خطأ فى النسخ. [.....]
(٢) وردت (عظمهم) بزيادة ميم وهى خطأ فى النسخ.
ويقال أتحسبون أن (....) «١» ظلمة الشك لها سلطان، وقد متتع نهار الحقائق «٢»... كلّا، فإن ذلك محال.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٥١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١)
لا تجنحوا إلى الموالاة مع أعدائه- سبحانه- إيثارا للسكون إلى الحظ، أو احتشاما من القيام للحق، أو ركونا إلى قرابة نسب، أو استحقاقا لمودة حميم، أو تهيبا من استيحاش صديق. بل صمموا عقودكم على التبرّى منهم بكل وجه فهم بعضهم أولياء بعض، والضدية بينكم وبينهم قائمة إلى الدين «٣». «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ» التحق بهم، وانخرط فى سلكهم، وعدّ فى جملتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣).
(١) مشتبهة
(٢) متوع النهار اصطلاح صوفى تحدث القشيري عنه فى مواضع أخرى من هذا الكتاب ضمن اللوائح واللوامع والطوالع.
(٣) قائمة إلى الدين اى راجعة إلى اختلاف دينهم عنكم، وربما سقطت من الناسخ كلمة يوم قبل (الدين) فيكون المعنى: إن العداوة بينكم وبينهم قائمة دائمة إلى يوم الدين.
يعنى إن الذين سقمت ضمائرهم، وضعفت فى التحقيق بصائرهم تسبق إلى قلوبهم مداراة «١» الأعداء خوفا من معاداتهم، وطمعا فى المأمول من صحبتهم، ولو استيقنوا أنهم فى أسر العجز وذل الإعراض ونفى الطرد لأمّلوا الموعود من كفاية الحق، والمعهود من جميل رعايته، ولكنهم حجبوا عن محل التوحيد فتفرّقوا فى أودية الحسبان والظنون، وعن قريب يأتيكم الفرج- أيها المؤمنون، وترزقون الفتح بحسن الإقبال، والظفر بالمسئول لسابق الاختيار، فيشعرون الندم، ويقاسون الألم، وأنتم (تعلون) «٢» رءوسكم بعد الإطراق، وتصفو لكم مشارب الإكرام، وتضىء بزواهر القرب مشارق القلوب. حينئذ يقول الذين آمنوا هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم يعاينون بأبصارهم ما تحققوه بالغيب فى أسرارهم، ويصلون من موعودهم إلى ما يوفى ويربو على مقصودهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)
جعل صفة من لا يرتدّ عن الدين أن الله يحبه ويحبّ الله، وفى ذلك بشارة عظيمة للمؤمنين لأنه يجب أن يعلم أن من كان غير مرتد فإنّ الله يحبه. وفيه إشارة دقيقة فإن من كان مؤمنا يجب أن يكون لله محبا، فإذا لم تكن له محبة فالخطر بصحة إيمانه. وفى الآية دليل على جواز محبة العبد لله وجواز محبة الله للعبد.
ومحبة الحق للعبد لا تخرج عن وجوه: إمّا أن تكون بمعنى الرحمة عليه أو بمعنى اللطف والإحسان إليه، والمدح والثناء عليه.
أو يقال إنها بمعنى إرادته لتقريبه وتخصيص محله.
وكما أن رحمته إرادته لإنعامه فمحبته إرادته لإكرامه، والفرق بين المحبة والرحمة على هذا القول أن المحبة إرادة إنعام مخصوص، والرحمة إرادة كل نعمة فتكون المحبة أخصّ من الرحمة،
(١) وردت (هرارة)، وبالرجوع إلى كتب التفسير ساعدتنا على اختيار (مداراة) (انظر تفسير وجدي).
(٢) وردت (تعلمون) والملائم أن تكون (تعلون) رءوسكم بعد الإطراق.
431
واللفظان يعودان إلى معنى واحد فإن إرادة الله تعالى واحدة وبها يريد سائر مراداته، وتختلف أسماء الإرادة باختلاف أوصاف المتعلق.
وأمّا محبة العبد لله- سبحانه- فهى حالة لطيفة يجدها فى قلبه، وتحمله تلك الحالة على إيثار «١» موافقة أمره، وترك حظوظ نفسه، وإيثار حقوقه- سبحانه- بكل وجه.
وتحصل العبارة عن تلك الحالة على قدر ما تكون صفة العبد فى الوقت الذي يعبّر عنه فيقال المحبة ارتياح القلب لوجود المحبوب، ويقال المحبة ذهاب المحبّ بالكلية فى ذكر المحبوب، ويقال المحبة خلوص المحب لمحبوبه بكل وجه، والمحبة بلاء كل كريم، والمحبة نتيجة الهمة فمن كانت همته أعلى فمحبته أصفى بل أوفى بل أعلى.
ويقال المحبة سكر لا صحو فيه ودهش فى لقاء المحبوب يوجب التعطّل عن التمييز، ويقال المحبة بلاء لا يرجى شفاؤه، وسقام لا يعرف دواؤه. ويقال المحبة غريم يلازمك لا يبرح، ورقيب من المحبوب يستوفى له منك دقائق الحقوق فى دوام الأحوال، ويقال المحبة قضية توجب المحبة فمحبة الحق أوجبت محبة العبد «٢».
قوله جل ذكره: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
لولا أنه يحبهم لما أحبوه، ولولا أنه أخبر عن المحبة فأنّى تكون للطينة ذكر المحبة؟
ثم بيّن الله تعالى صفة المحبين فقال «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ». يبذلون المهج فى المحبوب من غير كراهة، ويبذلون الأرواح فى الذبّ عن المحبوب من غير ادخار شظية من الميسور.
(١) وردت خطأ (إيسار) بالسين
(٢) كلام القشيري فى المحبة هنا لا يكاد يختلف كثيرا عن كلامه عنها فى (الرسالة)
432
ثم قال تعالى فى صفتهم: «يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي يجاهدون بنفوسهم من حيث استدامة الطاعة، ويجاهدون بقلوبهم بقطع المنى والمطالبات، ويجاهدون بأرواحهم بحذف العلاقات، ويجاهدون بأسرارهم بالاستقامة على الشهود فى دوام الأوقات.
ثم قال: «لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ» أي لا يلاحظون نصح حميم، ولا يركنون إلى استقلال حكم، ولا يجنحون إلى حظ ونصيب، ولا يزيغون عن سنن الوفاء بحال.
ثم بيّن- سبحانه- أن جميع ذلك إليه لا منهم فقال: و «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» متفضّل عليم بمن يخصّ بذلك من عبيده.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٥]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥)
الولي أي الناصر، ولا موالاة بين المؤمنين وبين أعداء الحق- سبحانه- فأعداء الحقّ هم أعداء الدّين.
و «إِنَّما» حرف يقتضى أن ما عداه بخلافه، وأعدى عدوّك نفسك- كما فى الخبر- ومن عادى نفسه لم يخرج بالمخاصمة عنها مع الخلق وبالمعارضة فيها مع الحق «١».
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٦]
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)
الفائزون على حظوظهم الذين هم خصم للحقّ على أنفسهم لا خصم لأنفسهم على مولاهم، والغلبة بالحجّة والبرهان دون اليد.
ويقال من قام لله بصدق انخنس دونه كلّ مبطل. ويقال إذا طلعت أنوار الحق أدبر ليل أهل الباطل.
(١) أي إن من خاصم نفسه لم تقم بينه وبين الناس ولا بينه وبين الحق خصومة من أجل نفسه فقد، انتفت حظوظها بالكلية وأسلمها لربه بلا معارضة.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧)
نبّههم على وجوب التحيز عنهم والتميز منهم، فإن المخالف فى العقيدة لا يكون موافقا فى الحقيقة.
ويقال أمرهم بأن يلاحظوهم بعين الاستصغار كما لاحظوا دين المسلمين بعين الاستحقار.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٨]
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨)
الأذان دعاء إلى محلّ النجوى، فمن تحقّق بعلوّ المحلّ فسماع الأذان يوجب له روح القلب واسترواح الروح، ومن كان محجوبا عن حقيقة الحال لاحظ ذلك بعين اللعب وأدركه بسمع الاستهزاء، وذلك حكم الله: غاير بين عباده على ما يشاء.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٩]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩)
ما لنا عندكم عيب إلا أننا تحققنا أننا محو فى الله، (وأنّ الكائنات حاصلة بالله ولا نتقفى أثرا سوى لله فى الله) «١»، وهذا- والله- عيب زائل، ونقص ليس له- فى التحقيق- حاصل.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٠]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠)
(١) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من النص حسب العلامة المميزة.
يعنى أخسّ من المذكورين قدرا، وأقل منهم خطرا من سقط عن عين الله فأذلّه، وأبعده عن نعت التخصيص فأضلّه، ومنعه عن وصف التقريب وأبعده، وحجبه عن شهود الحقيقة وطرده.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦١]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)
أظهروا الصدق، وفى التحقيق نافقوا، وافتضحوا من حيث أوهموا ولبّسوا فلا حالهم بقيت مستورة، ولا أسرارهم كانت عند الله مكبوتة «١»، وهذا نعت كل مبطل. وعند أرباب الحقائق أحوالهم ظاهرة فى أنوار فراستهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٢]
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢)
تملكتهم الأطماع فاستهوتهم فى متاهات العناء، وذلك نعت كل (طالع) «٢» فى غير مطمع ذلّ حاضر، وصغار مستول.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٣]
لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣).
(١) وردت (مكتوبة) والصواب أن تكون مكبوتة لتلائم مستورة التي سبقت.
(٢) ربما كانت (طامع) فى غير مطمع وربما كانت (ضالع)
الربّانىّ من كان لله وبالله لم تبق منه بقية لغير الله.
ويقال الرّبانىّ الذي ارتقى عن الحدود.
والربانىّ من توقّى الآفات ثم ترقّى إلى الساحات، ثم تلقّى ما كوشف به من زوائد القربات، فخلا عن نفسه، وصفا عن وصفه، وقام لربّه وبربّه.
وقد جعل الله الربانيين تالين للأنبياء الذين هم أولو الدّين، فهم خلفاء ينهون الخلق بممارسة أحوالهم أكثر مما ينهونهم بأقوالهم، فإنهم إذا أشاروا إلى الله حقق الله ما يؤمئون إليه، وتحقق ما علقوا هممهم به.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٤]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)
صغّر سوء قالة الموحّدين- فى اغتياب بعضهم لبعض بعد ما كانوا بالتوحيد قائلين وبالشهادة ناطقين- بالإضافة إلى ما قاله الكفار من سوء القول فى الله يعنى أنهم وإن أساءوا قولا فلقد كان أسوأ قولا منهم من نسبنا إلى ما نحن عنه منزّه، وأطلق فى وصفنا ما نحن عنه مقدّس.
ثم إن الحق- سبحانه قال: «غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا» فلا ريح الصدق يشمون، ولا نفسا من الحقّ يجدون.
ثم أثنى على نفسه فقال: «بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ» «١» أي بل قدرته بالغة ومشيئته نافذة، ونعمته سابغة وإرادته ماضية.
ويقال «بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ» أي يرفع ويضع، وينفع ويدفع، ولا يخلو أحد عن نعم النفع وإن خلا عن نعم الدفع.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٥]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥)
إنما وعدهم الغفران بشرط التقوى ودليل الخطاب يقتضى أنه لا يغفر لمن لم يتق منهم.
وقال لظالمى هذه الأمة: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» «٢» ثم قال فى آخر الآية: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها» أي أهل التقوى لأنه هو أهل المغفرة، فإن تركتم التقوى فهو أهل لأن يغفر ويقال لو أنهم راعوا أمرنا أصلحنا لهم أمرهم، ولكنهم وقفوا فوقفوا.
قوله جلّ ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٦]
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦)
أي لو سلكوا سبيل الطاعة لوسّعنا عليهم أسباب المعيشة وسهّلنا لهم الحال حتى إن ضربوا بيمين ما لقوا غير اليمن، وإن ذهبوا يسرة ما وجدوا إلا اليسر.
قوله جل ذكره: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ.
المقتصد الواقف على حدّ الأمر لا يقصّر فينقص، ولا يجاوز فيزيد.
(١) لاحظ كيف يؤول القشيري (اليد) ليبعد عنها كل دلالة حسية ويجعلها من الأوصاف الالهية.
(٢) آية ٣٢ سورة فاطر. [.....]
ويقال المقتصد الذي تساوى فى همّته الفقد والوجود فى الحادثات.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٧]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧)
لا تكتم شيئا مما أوحينا إليك ملاحظة لغير، إذ لا غير- فى التحقيق- إلا رسوم موضعة، وأحكام القدرة عليها جارية.
ويقال بيّن للكافة أنك سيّد ولد آدم، وأنّ آدم دون لوائك.
ويقال بلّغ ما أنزل إليك أنّى أغفر للعصاة ولا أبالى، وأردّ من المطيعين من شئت ولا أبالى. «١»
قوله جل ذكره: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ.
يحفظ ظاهرك من أن يمسّك أذاهم، فلا يتسلط بعد هذا عليك عدوّ، أو يصون سرّك عنهم حتى لا يقع عليه احتشام منهم.
ويقال يعصمك من الناس حتى لا تغرق فى بحر التوهم بل تشاهدهم كما هم وجودا بين طرفى العدم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٨]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨).
(١) يتضح من هذه الإشارة شيئان: أولهما مدى اتساع صدور الصوفية للتسامح وفطرتهم المتفائلة إلى سعة الرحمة الإلهية مما يطمئن العصاة ويحمس على التوبة، وثانيهما مدى مخالفة القشيري للمعتزلة فى مسألة وجوب المثوبة أو العقوبة على الله سبحانه، فلا وجوب- عنده- على الله بخلافهم.
أي ليس انتعاشكم ولا نظام معاشكم، ولا قدركم فى الدنيا والعقبى، ولا مقداركم ولا منزلكم فى حال من حالاتكم إلا بمراعاة الأمر والنهى، والمحافظة على أحكام الشرع.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٩]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)
بيّن أنهم- وإن نجنّست أحوالهم- فبعدما تجمعهم أصول التوحيد فلهم الأمان من الوعيد، والفوز بالمزيد.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)
داروا مع الهوى فوقعوا فى البلاء. ومن أمارات الشقاء الإصرار على متابعة الهوى، وحسبوا ألا تكون فتنة، فعموا وصموا. واغتروا بطول الإمهال فأصروا على قبيح الأعمال، فلما أخذتهم فجاءة الانتقام لم ينفعهم الندم، وبرّح بهم الألم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٢]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢)
سقمت بصائرهم والتبست عليهم أمارات الحدوث، فخلطوا فى عقائدهم استحقاق أوصاف القدم بنعوت الحدوث! قوله جلّ ذكره:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤)
بلغ الخذلان بهم حدا أن كابروا الضرورة فحكموا للواحد بأنه ثلاثة، ولا يخفى فساد هذا على مجنون.. فكيف على عاقل؟! قوله: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لم يغلق باب التوبة عليهم- مع قبيح أقوالهم، وفساد عقائدهم- تضعيفا «١» لآمال المؤمنين بخصائص رحمته.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٥]
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
من اشتملت عليه الأرحام، وتناوبته الآثار المتعاقبة أنّى يليق بوصف الإلهية؟
ثم من مسّته الحاجة حتى اتصف بالأكل وأصابته الضرورة إلى أن يخلص من بقايا الطعام فأنّى يليق به استيجاب العبادة والتسمية بالإلهية؟
انظر- يا محمد- كيف نزيد فى إيضاح الحجة وكيف تلبّس عليهم سلوك المحجة؟
(١) تضعيفا أي جعلها مضاعفة.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٦]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)
تعليق القلوب- بدون الرب- فى استدفاع الشر واستجلاب الخير بمحيق للوقت فيما لا يجدى، وإذهاب للعمر فيما لا يغنى إذ المتفرد بالإيجاد برىء عن الأنداد.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٧]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧)
التعمق فى الباطل قطع لآمال الرجوع فكلما كان بعد المسافة من الحقّ أتمّ كان اليأس من الرجعة أوجب، ومتّبع الضلالة شرّ من مبتدعها لأن المبتدع يبنى والمتّبع يتمّ البناء، ومن به كمال الشرّ شرّ ممن منه ابتداء الشر.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٨]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨)
أمر الأنبياء- عليهم السلام- حتى ذكروا الكفار بالسوء، وأمّا الأولياء فخصّهم بذكر نفسه فقال: «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ» «١» فلعنة الكفار بلسان الأنبياء، وذكر المؤمنين بالجميل بلسان الحقّ- سبحانه، ولو كان ذلك ذكرا بالسوء لكان فيه استحقاق فضيلة، فكيف وهو ذكر بالجميل!؟ ولقد قال قائلهم:
لئن ساءنى أن تلقني بمساءة فقد سرّنى أني خطرت ببالكا
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٩]
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)
(١) آية ٤٣ سورة الأحزاب.
«١» الرضاء بمخالفة أمر الحبيب موافقة للمخالف، ولا أنفة بعد تميز الخلاف. والسكوت عن جفاء تعامل به كرم، والإغضاء عما يقال فى محبوبك دناءة.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٠]
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠)
شرّ خصال اللئام مطابقة من يضاد الصديق، فإذا كان سخط الله فى موالاة أعدائه، فرحمته- سبحانه فى معاداة أعدائه.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٨١]
وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)
صرّح بأنّ موافق من ناوءك «٢» آثر التباعد عنك إذ لو كانت بينكما شهرة غير منقطعة لأخلصت «٣» فى موالاته، وأخلص فى مصافاتك.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٢]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢)
بيّن أنّ صفة العداوة وإن كانت تجمعهم فمعاداة بعضهم تزيد على بعض، وبقدر
(١) سقطت (فعلوه) من الناسخ فاثبتناها.
(٢) وردت (ناولك) وربما كانت فى الأصل (ناواك) والتبست على الناسخ فظنها لاما.
(٣) أخطأ الناسخ فكتبها (لأخصلت).
.
ما للنصارى من التّرهّب أثر فيهم (بالمقاربة) «١» من أهل الحق فإنهم وإن لم ينتفعوا بهم من حيث الخلاص فقد ذكرهم الله سبحانه- بمقاربة أهل الاختصاص.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٣]
وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣)
هذه صفة من نظر إليه الحق نظر القبول، فإذا قرعت سمعهم دعوة الحقّ ابتسمت البصيرة فى قلوبهم، فسكنوا إلى المسموع لما وجدوا من التحقيق.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٤]
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤)
وأي عذر لنا فى التعريج فى أوطان الارتياب، وقد تجلّت لقلوبنا الحجج؟ ثم ما نؤمله من حسن العاقبة. متى بدونه يمكن أن نطلبه؟
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٥]
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥)
لمّا صدقت آمالهم قابلها بالتحقيق، سنّة منه- سبحانه- ألا يخيب راجيه، ولا يرد مؤمليه «٢»، وإنما علّق الثواب على قول القلب الذي هو شهادة عن شهوده، فأمّا النظر المنفرد عن البصيرة فلا ثواب عليه ولا إيجاب «٣».
(١) وردت (بالمقارنة) والصواب أن تكون (المقاربة) فقد وردت كذلك فيما بعد إشارة إلى ما فى الآية (أقربهم مودة... ). وربما قبلنا (المقارنة) على أساس مقارنة النصارى باليهود.
(٢) وردت (مؤلميه) وهى خطأ فى النسخ.
(٣) لاحظ هنا قيمة الإيمان النظري بالقياس إلى الإيمان القلبي ومغزى ذلك فى التسامح الديني.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٦]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)
(هذا) أثر الإعراض عن الأعداء فى مقابلة أثر الإقبال على الأولياء معجّلا ومؤجلا.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧)
من أمارات السعادة الوقوف على حد الأمر إن أباح الحقّ شيئا قبله، وقابله بالخشوع، وإن حظر شيئا وقف ولم يتعرض للجحود.
ومما أباحه من الطيبات الاسترواح إلى نسيم القرب فى أوطان الخلوة، وتحريم ذلك: إن استبدل تلك الحالة بالخلطة دون العزلة والعشرة دون الخلوة، وذلك هو العدوان العظيم والخسران المبين.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٨]
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)
الحلال الصّافى بأن يأكل العبد ما يأكل على شهوده- سبحانه- فإن نزلت الحالة عن هذا فعلى ذكره- سبحانه- فإنّ الأكل على الغفلة حرام فى شريعة الإرادة.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٩]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
الإشارة منه إلى وقت يغلب على قلبك التعطش إلى شىء من إقباله أو وصاله، فتقسم عليه بجماله أو جلاله أن يرزقك شظية من إقباله، فكذلك فى شريعة الرضا نوع من اليمين، فيعفو عنك رحمة عليك لضعف حالك. والأولى الذوبان والخمود بحسن الرضا تحت ما يجرى عليك من أحكامه فى الردّ والصد، وأن تؤثر استقامتك فى أداء حقوقه على إكرامك بحسن تقريبه وإقباله، كما قال قائلهم:
أريد وصاله ويريد هجرى... فأترك ما أريد لما يريد
ومن اللغو فى اليمين- عندهم- ما يجرى على لسانهم فى حال غلبات الوجد من تجريد العهد وتأكيد العقد، فيقول:
وحقّك ما نظرت إلى سواكا، ولا قلت بغيرك.. ولا حلت عن عهدك، وأمثال هذا...
وكلّه فى حكم التوحيد لغو، وعن شهود عهد الأحدية سهو... ومن أنت فى الرّفعة حتى تعدم نفسك؟ وأين فى الدار ديّار حتى تقول بتركه أو تتحقق بوصله أو هجره؟ كلا... بل هو الله الواحد القهار «١».
وكما أن الكفّارة الشرعية إمّا عتق أو إطعام وإما كسوة فإن لم تستطع فصيام ثلاثة أيام: فكفّارتهم- على موجب الإشارة- إمّا بذل الروح بحكم الوجد، أو بذل القلب بصحة القصد، أو بذل النفس بدوام الجهد، فإن عجزت فإمساك وصيام عن المناهي والزواجر.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠)
(١) وشبيه بذلك قول الشبلي حين سئل عن التوحيد (من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوى، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق فيه فهو غافل... وكل ما ميزتموه بأوهامكم وأدركتموه بعقولكم فى أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم، محدث مصنوع مثلكم» الرسالة ص ١٤٩.
445
الخمر ما خامر العقول، والخمر حرام.
والإشارة فيه أنه يزيد نفاد العقل بما يوجب عليه من الالتباس.
ومن شرب من خمر الغفلة فسكره أصعب فشراب الغفلة يوجب البعد عن الحقيقة.
وكما أن من سكر من خمر الدنيا ممنوع عن الصلاة فمن سكر من خمر الغفلة فهو محجوب عن المواصلات.
وكما أنّ من شرب من خمر الدنيا وجب عليه الحدّ فكذلك من شرب شراب الغفلة فعليه الحدّ إذ يضرب بسياط الخوف.
وكما أنّ السكران لا يقام عليه الحدّ ما لم يفق فالغافل لا ينجح فيه الوعظ ما لم ينته.
وكما أن مفتاح الكبائر شرب الخمر (فالغفلة) «١» أصل كلّ زلّة، وسبب كلّ ذلّة وبدء كل بعد وحجبة عن الله تعالى.
ويقال لم يحرم عليه الشراب فى الدنيا إلا وأباح له شراب القلوب فشراب الكبائر محظور (وشراب الاستئناس مبذول، وعلى حسب المواجد حظى القوم بالشراب) »
، وحيثما كان الشراب كان السكر، وفى معناه أنشدوا:
فما ملّ ساقيها وما ملّ شارب... عقار لحاظ كأسه يسكر اللّبّا
فصحوك من لفظى هو الوصل كله... وسكرك من لحظى يبيح لك الشربا
وحرّم الميسر فى الشرع، وفى شريعة الحب القوم مقهورون فمن حيث الإشارة أبدانهم مطروحة فى شوارع التقدير، يطؤها كل عابر سبيل من الصادرين من عين المقادير، وأرواحهم مستباحة بحكم القهر، عليها خرجت القرعة من (... ) «٣» الحكم، قال تعالى «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ»
«٤».
(١) أضفنا (الغفلة) وليست موجودة فى النص ليتضح المعنى.
(٢) ما بين القوسين مثبت فى الهامش نقلناه إلى موضعه حسب العلامات.
(٣) مشتبهة.
(٤) آية ١٤١ سورة الصافات. [.....]
446
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٩١]
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)
طال بعدهم عن الحقيقة فقاسوا الهوان فى مطارح الغربة، وصاروا سخرة للشيطان فبقوا الصلاة التي هى محل النجوى وكمال الراحة، وفسدت ذات بينهم بما تولد من الشحناء والبغضاء.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٢]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢)
كلما كان العبد أعرف بربه كان أخوف من ربه، وإنما ينتفى الحذر عن العبد عند تحقيق الموعد بقوله: «أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ» «١» وذلك عند دخول الجنة. وحقيقة الحذر نهوض القلب بدوام الاستغاثة مع مجارى الأنفاس.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٣]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)
من حافظ على الأمر والنهى فليس للقمة يتناولها من الخطر ما يضايق فيها، وإنما المقصود من العبد التأدب بصحبة طريقه سبحانه، فإذا اتّقى الشرك تعرّف، ثم اتقى الحرام فما تصرّف، ثم اتقى الشحّ فآثر وما أسرف.
(١) آية ٨٢ سورة الأنعام.
وقوله «ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا... » يعنى اتقوا المنع «١» وأحسنوا للخلق- وهذا للعموم. ثم اتقوا شهود الخلق فأحسن الشهود الحقّ، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه- وهذا للخواص.
والله يحب المحسنين أعمالا والمحسنين (آمالا) «٢» والمحسنين أحوالا.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥)
أباح الصيد لمن كان حلّالا «٣»، وحرّم الصيد على المحرم الذي قصده زيارة البيت.
والإشارة فيه أن من قصد بيتنا فينبغى أن يكون الصيد منه فى الأمان، لا يتأذى منه حيوان بحال، لذا قالوا: البرّ من لا يؤذى الذر ولا يضمر الشر.
ويقال الإشارة فى هذا أن من قصدنا فعليه نبذ الأطماع جملة، ولا ينبغى أن تكون له مطالبة بحال من الأحوال.
(١) أي منع الإحسان.
(٢) نرجح أنها فى الأصل (أموالا).
(٣) الحلال- الخارج من الإحرام (المنجد: مادة حل).
وكما أنّ الصيد على المحرم حرام إلى أن يتحلل فكذلك الطلب والطمع والاختيار- على الواجد- حرام ما دام محرما بقلبه.
ويقال العارف صيد الحق، ولا يكون للصيد صيد.
وإذا قتل المحرم الصيد فعليه الكفّارة، وإذا لاحظ العارف الأغيار، أو طمع أو رغب فى شىء أو اختار لزمته الكفّارة، ولكن لا يكتفى منه بجزاء المثل، ولا بأضعاف أمثال ما تصرّف فيه أو طمع، ولكن كفّارته تجرده- على الحقيقة- عن كل غير، قليل أو كثير، صغير أو كبير.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٦]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)
حكم البحر خلاف حكم البر. وإذا غرق العبد فى بحار الحقائق سقط حكمه، فصيد البحر مباح له لأنه إذا غرق صار محوا، فما إليه ليس به ولا منه إذ هو محو، والله غالب على أمره.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٧]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)
حكم الله سبحانه- بأن يكون بيته- اليوم ملجأ يلوذ به كل مؤمّل، ويستقيم ببركات زيارته كلّ مائل عن نهج الاستقامة، ويستنجح بابتهاله هنا لك كلّ ذى أرب.
والبيت حجر والعبد مدر، والحق سبحانه ربط المدر بالحجر ليعلم أنه الذي لم يزل لا سبيل إليه للحدثان والغير.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٨]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨)
شديد العقاب للأعداء، غفور رحيم للأولياء.
ويقال شديد العقاب للخواص بتعجيل الحجاب إن زاغوا عن الشهود لحظة، غفور رحيم للعوام إن رجعوا إليه بتوبة وحسرة.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)
المتفرّد بالإلهية الله. والرسول- وإن جلّ قدره- فليس عليه إلا البلاغ وهو أيضا (بتسييره) «١».
قوله: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ: الخبيث ما اكتسبه الغافل عن الله تعالى فى حالة اكتسابه، والطيب ما اكتسبه على شهود الحق.
ويقال الخبيث ما لم يخرج منه حقّ الله تعالى، والطيب ما أخرج منه حقه- سبحانه.
ويقال الخبيث ما ادخرته لنفسك، والطيب ما قدّمته لأمره.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١).
(١) لا نستبعد ايضا انها ربما كانت فى الأصل (بتيسيره)، وكلاهما مقبول فى السياق.
إذا أسبل عليكم ستر اللطف فلا تتعرضوا لعلم أخفى عنكم، فيتنغص (بالتج... ) «١»
- عليكم- عيشكم.
ويقال لا تتعرضوا للوقوف على محل الأكابر- حيث لا تستوجبون ذلك- فيسوءكم تقاصر رتبتكم.
ويقال إذا بدا من الإعراض علم فاطلبوا له عندكم وجها من (التفال) «٢» ولا تطلبوا أسرار الباري، واركنوا إلى روح المنى فى استدفاع ما (ظلكم) «٣» ولا تبحثوا عن سر ذلك، وراعوا الأمر مجملا.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٢]
قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)
يعنى توهّم قوم أنهم محررون عن التأثر فيما يصادفهم من فجاءة التقدير، وذلك منهم ظنّ، كما يقول بعضهم:
تبيّن يوم البين أنّ اعتزامه... على الصبر من إحدى الظنون الكواذب
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٣]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣)
هذه أحكام ابتدعوها، فردّهم الحقّ- سبحانه- عن الابتداع، وأمرهم بحسن الاتّباع، وأخبر أنّ ما صدر من عاداتهم لا يعدّ من جملة عباداتهم.
قوله جل ذكره
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٤]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)
(١) بقية الكلمة مشتبهة ولكنها أقرب ما تكون إلى (التجسس) وهى مقبولة هكذا فى السياق أي لا تجعلوا التجسس ومحاولة معرفة الأسرار ينغص عليكم عيشكم.
(٢) هكذا فى النسخ ونرجح أنها فى الأصل (التأويل) وإن كانت بعيدة فى الرسم.
(٣) أي ما غشيكم من سحب الإعراض.
إذا هتفت بهم دواعى الحقّ بالجنوح إلى وصف الصدق صدّهم عن الإجابة ما مرنوا عليه من سهولة (التقليد) «١»، وإن أسلافهم الذين وافقوهم لم يكونوا إلّا فى ضلال.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
يكفى للفقير أن يمشى وقد جبر بعض (كسره) «٢»، فأمّا إذا ادّعى التقدم أو الطمع فى إنجاد من سواه فمحال من (الحدث) «٣» والظن.
ويقال من يفرغ إلى غيره يتشاغل عن نفسه، ومن اشتغل بنفسه لم يتفرّغ إلى غيره.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)
(١) وردت (التقليل) والصواب (تقليد) ابائهم وأسلافهم كما فى الآية.
(٢) وردت (كثره) بالثاء والصواب: جبر (كسره) بالسين.
(٣) ربما كانت فى الأصل (الحدس) لتتمشى مع الظن.
حكم هذه الآية كان ثابتا فى الشرع ونسخ، وفى بيان التفسير تفصيله.
والنسخ هو الإزالة، وذلك جائز فى العبادات.
ومعنى النسخ يوجد فى سلوك المريدين فهم فى الابتداء فرضهم القيام بالظواهر من حيث المجاهدات. فإذا لاح لهم من أحوال القلوب شىء آلت أحوالهم إلى مراعاة القلوب فتسقط عنهم أوراد الظاهر، فهو كالنسخ من حيث الصورة.
قال تعالى: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» «١». واتصافهم بمراعاة الثلوب أتمّ بتأديبهم بأحكام المعاملات «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٩]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩)
يكاشفهم بنعت الجلال فتنخنس فهومهم وعلومهم حتى ينطقوا بالبراءة عن التحقيق
(١) آية ١٠٦ سورة البقرة.
(٢) أي أن مراعاة الحقيقة تتم بمراعاة الشريعة.
ويقولون: «لا عِلْمَ لَنا»، وهكذا تكون الحالة غدا: من قال لشىء، أو مال لشىء مما يكون نعتا بمخلوق فعند ظهور وابل التعزّز تتلاشى الجملة، فالملائكة يقولون: «ما عبدناك حق عبادتك» والأنبياء يقولون: «لا عِلْمَ لَنا».
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٠]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠)
التذكير بوجوه النعم يستخرج خلاصة الحب والهيمان فى المذكور «١»، وكلّ وقت للأحباب يمضى يصير لهم حديثا يتلى من بعدهم: إما عليهم وإمّا عنهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١١١]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١).
(١) أعلى درجات الذكر أن يفنى الذاكر فى المذكور وفيها ينتقل العبد من مرتبة ذكر النعم إلى ذكر المنعم. فكأن القشيري يقصد بإشارته إلى ان تذكير عيسى وامه بالنعم التي وردت فى الآية حث لهما على الارتقاء من مرحلة النظر إلى النعم إلى مرحلة النظر إلى صاحبها سبحانه وتعالى، وحبه والهيمان فيه. [.....]
وإنما خصّهم بالوحى إليهم إلهاما وإكراما لانبساط ضياء عيسى عليهم «١»، وفى الأثر:
«هم القوم لا يشقى بهم جليس».
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٢ الى ١١٣]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣)
طلبوا المائدة لتسكن قلوبهم بما يشاهدونه من عظيم الآية وعجيب المعجزة، فعذروا وأجيبوا إليها إذ كان مرادهم حصول اليقين وزيادة البصيرة.
ويقال كل يطلب سؤله على حسب ضرورته وحالته، فمنهم من كان سكونه فى مائدة من الطعام يجدها، ومنهم من يكون سكونه فى (فائدة) «٢» من الموارد يردها، وعزيز منهم من يجد الفناء «٣» عن برهان يتأمله، أو بيان دليل يطلبه.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٤]
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤)
شتّان بين أمة طلب لهم نبيّهم سكونا بإنزال المائدة عليهم، وبين إمة بدأهم- سبحانه-
(١) وهذا يطابق فكرة القشيري فى الولاية وكيف انها ملحقة بالمعجزة، فما يظهر على الولي من كرامة هو بركة النبي الذي الولي من أمته وعصره.
(٢) ربما كانت (مائدة) ليتم التقابل بين المائدتين الحسية والمعنوية.
(٣) ربما كانت (الغناء) اى يجد الاستغناء عن كل برهان ودليل، وتصح (الفناء) بالفاء على معنى أن فناءه فى الله لا يحوجه إلى برهان أو دليل..
بإنزال السكينة عليهم، من غير سؤال أحد، قال الله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» «١» وقال فى صفتهم «وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً» «٢» وفرق بين من زيادة إيمانه بآياته التي تتلى عليهم وبين من يكون سكونهم إلى كرامات وعطايا تباح لهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٥]
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)
أجابه إلى سؤاله لهم، ولكن توعدهم «٣» بأليم العقاب لو خالفوا بعده ليعلم السالكون أنّ المراد إذا حصل، وأن الكرامة إذا تحققت- فالخطر أشدّ والحال من الآفة أقرب، وكلما كانت الرتبة أعلى كانت الآفة أخفى، ومحن الأكابر إذا حلّت جلّت.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٦]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦)
المراد من هذا السؤال إظهار براءة ساحته عما نسب إليه من الدعاء إلى القول بالتثليث، فهذا ليس خطاب تعنيف بل هو سؤال تشريف.
(١) آية ٤ سورة الفتح.
(٢) آية ٢ سورة الأنفال.
(٣) وردت (يوعدهم).
ثم إن عيسى- عليه السّلام- حفظ أدب الخطاب فلم يزكّ نفسه، بل بدأ بالثناء على الحق- سبحانه- فقال: تنزيها لك! إننى أنزهك عما لا يليق بوصفك.
ثم قال: «ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» أي إنى إن كنت مخصوصا من قبلك بالرسالة- وشرط النبوة العصمة- فكيف يجوز أن أفعل ما لا يجوز لى؟.
ثم إنى «إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ». كان واثقا بأن الحقّ- سبحانه- عليم بنزاهته من تلك القالة.
«تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي» : أي علمك محيط بكل معلوم.
«وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ» أي لا أطلع على غيبك إلا بقدر ما تعرّفني بإعلامك. «إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» الذي لا يخرج معلوم عن علمك، ولا مقدور عن حكمك.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٧]
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧)
ما دعوتهم إلا لعبادتك، وما أمرتهم إلا بتوحيدك وتقديسك، وما دمت حيا فيهم كنت (....) «١» على هذه الجملة، فلما فارقتهم كان تصرفهم فى قبضتك على مقتضى مشيئتك، فأنت أعلم بما كانوا عليه من وصفي وفاقهم وخلافهم، ونعمتى اقتصادهم «٢» وإسرافهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٨]
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨).
(١) مشتبهة.
(٢) الاقتصاد هنا معناها الاعتدال.
بيّن أن حكم المولى فى عبيده نافذ بحكم إطلاق ملكه، فقال إن تعذبهم يحسن منك تعذيبهم وكان ذلك لأنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أي المعز لهم بمغفرتك لهم.
ويقال أنت العزيز الحكيم الذي لا يضرك كفرهم.
ويقال «الْعَزِيزُ» القادر على الانتقام منهم فالعفو (عند) «١» القدرة سمة الكرم، وعند العجز أمارة الذّلّ.
ويقال إن تغفر لهم فإنك أعزّ من أن (تتجمل) «٢» بطاعة مطيع أو تنتقص «٣» بزلّة عاص. وقوله «الْحَكِيمُ» ردّ على من قال: غفران الشّرك ليس بصحيح فى الحكمة.
قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١١٩]
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩)
من تعجّل ميراث صدقه فى دنياه من قبول حصل له من الناس، أو رياسة عقدت له، أو نفع وصل إليه من جاه «٤» أو مال. فلا شىء له فى آجله من صواب صدقه، لأن الحقّ- سبحانه- نصّ بأنّ يوم القيامة ينفع فيه الصادقين صدقهم.
قوله جل ذكره: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
ورضاء الحق- سبحانه- إثبات محلّ لهم، وثناؤه عليهم ومدحه لهم، وتخصيصهم بأفضاله وفنون نواله. ورضاؤهم عن الحق- سبحانه- فى الآخرة وصولهم إلى مناهم فهو الفوز العظيم والنجاة الكبرى.
(١) وردت (عن) وهى خطأ فى النسخ.
(٢) وردت (تتحمل) وهى خطأ فى النسخ.
(٣) وردت (تنتقض) بالضاد وهى خطأ فى النسخ.
(٤) وردت (جاره) وهى خطأ فى النسخ.
Icon