تفسير سورة الطور

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة الطور من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مكية وآياتها ٤٩.

تفسير سورة «الطّور»
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١ الى ١٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩)
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤)
أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦)
قوله عز وجل: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ... الآية، هذه مخلوقات أقسم الله- عز وجل- بها تنبيهاً على النظر والاعتبارِ بها، المؤَدِّي إلى توحيد اللَّه والمعرفة بواجب حَقِّه سبحانه قال بعض اللغويين: كُلُّ جبلٍ طُورٌ، فكأَنَّه سبحانه أقسم بالجبال، وقال آخرون:
الطور: كُلُّ جبل أجردَ لا ينبت شجراً، وقال نوف البكاليُّ: المراد هنا جبل طُورِ سَيْنَاءَ، وهو الذي أقسم اللَّه به لفضله على الجبال، والكتاب المسطور: معناه/ بإجماع:
المكتوبُ أسطاراً، واخْتَلَفَ الناس في هذا الكتاب المُقْسَمِ به، فقال بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: هو الكتاب المُنْتَسَخُ من اللوح المحفوظ للملائكة لتعرفَ منه جميعَ ما تفعله وتصرفه في العالم، وقيل: هو القرآن إذ قد علم تعالى أَنَّه يتخلد في رَقٍّ منشور، وقيل: هو الكُتُبُ المُنَزَّلَةُ، وقيل: هو الكتاب الذي فيه أعمال الخلق، وهو الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً، والرَّقُّ: الورق المُعَدَّةُ للكتب، وهي مُرَقَّقَةٌ فلذلك سُمِّيَتْ رَقًّا، وقد غلب الاستعمال على هذا الذي هو من جلود الحيوان، والمنشور خلاف المَطْوِيِّ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ: هو الذي ذُكِرَ في حديث الإسراء قال جبريل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: هَذَا الْبَيْتُ المَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لاَ يَعُودُونَ إلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ «١»، وبهذا هي عمارته، وهو في السماء السابعة، وقيل: في السادسة، وقيل: إنَّه مقابلٌ للكعبة، لو وَقَعَ حجر منه، لَوَقَعَ على ظهر
(١) أخرجه البخاري (٦/ ٣٤٨، ٣٥٠)، كتاب «بدء الخلق» باب: ذكر الملائكة (٣٢٠٧)، وكتاب «مناقب الأنصار» باب: المعراج (٣٨٨٧)، والنسائي (١/ ٢١٧، ٢٢٠)، كتاب «الصلاة» باب: فرض الصلاة وذكر اختلاف الناقلين في إسناد حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، واختلاف ألفاظهم فيه، وأحمد (٣/ ١٤٨- ١٤٩)، (٤/ ٢٠٨، ٢١٠).
309
الكعبة، وقال مجاهد، وقتادة، وابن زيد: في كل سماء بيت معمور، وفي كل أرض كذلك، وهي كُلُّها على خط من الكعبة، وقاله علي بن أبي طالب «١»، قال السُّهَيْلِيُّ:
والبيت المعمور اسمه «عريباً»، قال وهب بن مُنَبِّهٍ: مَنْ قال: سبحانَ اللَّهِ وبحمده، كان له نور يملأ ما بين عريباً وحريباً، وهي الأرض السابعة، انتهى.
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ: هو السماء، واختلف الناس في الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ فقال مجاهد وغيره «٢» : المُوْقَدُ ناراً، ورُوِيَ أَنَّ البحرَ هو جَهَنَّمُ، وقال قتادة «٣» : الْمَسْجُورِ:
المملوء، وهذا معروف من اللغة، ورَجَّحَهُ/ الطبريُّ «٤»، وقال ابن عباس «٥» : هو الذي ذهب ماؤه، فالمسجور الفارغ، ورُوِيَ أَنَّ البحار يذهب ماؤها يومَ القيامة، وهذا معروف في اللغة، فهو من الأضداد، وقيل: يوقد البحر ناراً يَوْمَ القيامة، فذلك سجره، وقال ابن عباس أيضاً «٦» : الْمَسْجُورِ: المحبوس ومنه ساجور الكلب، وهي القلادة من عود أو حديد تمسكه، وكذلك لولا أَنَّ البحر يُمْسِكُ لفاض على الأرض، والجمهور على أَنَّه بحر الدنيا، وقال منذر بن سعيد «٧» : المُقْسَمُ به جهنم، وسمَّاها بحراً لِسَعَتِها وتموجها كما قال صلّى الله عليه وسلّم في الفرس: «وَإنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْراً» «٨»، والقسم واقع على قوله: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ١٨٦) عن مجاهد، وقتادة، وابن زيد.
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٤٨٢) برقم: (٣٢٣١١)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٨٦)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٤٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٤٦)، وعزاه لابن جرير.
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٤٨٣) برقم: (٣٢٣١٣)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٨٦)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٤٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٤٦)، وعزاه لابن جرير.
(٤) ينظر: «تفسير الطبري» (١١/ ٤٨٣).
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٤٨٣) برقم: (٣٢٣١٤)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٨٦)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٤٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٤٦)، وعزاه للشيرازي في «الألقاب» من طريق الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن ذي الرمة.
(٦) أخرجه الطبري (١١/ ٤٨٣) برقم: (٣٢٣١٥)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٨٦)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٤٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٤٥)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٧) ذكره ابن عطية (٥/ ١٨٧). [.....]
(٨) أخرجه البخاري (٥/ ٢٨٤- ٢٨٥) كتاب «الهبة» باب: من استعار من الناس الفرس، حديث (٢٦٢٧)، (٦/ ٤٢) كتاب «الجهاد والسير» باب: الشجاعة في الحرب والجبن، حديث (٢٨٢) (٦/ ٦٩) كتاب «الجهاد والسير» باب: اسم الفرس والحمار، حديث (٢٨٥٧)، (٦/ ٧٨)، باب: الركوب على الدابة الصعبة والفحولة من الخيل، حديث (٢٨٦٢)، (٦/ ٨٣) باب: الفرس القطوف، حديث (٢٨٦٧)، (٦/ ١٤٣) كتاب «الجهاد والسير» باب: مبادرة الإمام عند الفزع، حديث (٢٩٦٨)، باب: السرعة والركض في الفزع، حديث (٢٩٦٩)، (١٠/ ٦٠٩- ٦١٠)، كتاب «الأدب» باب: المعاريض مندوحة على الكذب، حديث (٦٢١٢)، ومسلم (٤/ ١٨٠٢)، كتاب «الفضائل» باب: في شجاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم وتقدمه للحرب، حديث (٤٩/ ٢٣٠٧)، وأبو داود (٢/ ٧١٥)، كتاب «الأدب» باب: ما روي في
310
لَواقِعٌ يريد: عذاب الآخرة واقع للكافرين قاله قتادة «١»، قال الشيخ عبد الحق في «العاقبة» : وَيُرْوَى أَنَّ عمر بن الخطاب- رضي اللَّه عنه- سَمِعَ قارئاً يقرأ:
وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ قال: هذا قسم حقّ، فلمّا بلغ القارئ إلى قوله- عز وجل-: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ظنَّ أَنَّ العذاب قد وقع به فغشي عليه، انتهى، وتَمُورُ معناه: تذهب وتجيء بالرياح متقطعةً مُتَفَتِّتَةً، وسير الجبال: هو في أَوَّلِ الأمر، ثم تتفتَّتُ حتى تصير آخرا كالعهن المنفوش، ويُدَعُّونَ قال ابن عباس وغيره «٢» : معناه:
يُدْفَعُونَ في أعناقهم بشدة وإهانة وتَعْتَعَةٍ، ومنه: يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون: ٢]، وفي الكلام محذوف، تقديره: يقال لهم: هذه النار التي كنتم بها تكذبون توبيخاً وتقريعاً لهم، ثم وقفهم سبحانه بقوله: أَفَسِحْرٌ هذا... الآية: ثم قيل لهم على جهة قطع رجائهم:
اصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا سواء عليكم، أي: عذابكم حتم، فسواء جَزَعُكُمِ/ وَصَبْرُكُمْ، لا بدّ من جزاء أعمالكم.
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠)
وقوله سبحانه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ... الآية: يحتمل أَنْ يكونَ من خطاب أهل النار، فيكون إخبارُهم بذلك زيادةً في غَمِّهِمْ وسُوءِ حالهم، نعوذ باللَّه من سخطه! ويحتمل، وهو الأظهر، أن يكون إخبارا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومعاصريه، لما فَرَغَ من ذكر عذاب الكفار عَقَّبَ بذكر نعيم المتقين- جعلنا اللَّه منهم بفضله- ليبين الفرقَ، ويقعَ التحريضُ على الإيمان، والمتقون هنا: مُتَّقُو الشرك لأَنَّهم لا بُدَّ من مصيرهم إلى الجنات، وكلما زادت الدرجة في التقوى قَوِيَ الحصولُ في حكم الآية، حتّى إنّ المتقين
الرخصة في ذلك، حديث (٤٩٨٨)، والترمذي (٤/ ١٧١- ١٧٢)، كتاب «الجهاد» باب: ما جاء في الخروج عند الفزع، حديث (١٦٨٥- ١٦٨٦- ١٦٨٧)، وابن ماجه (٢/ ٩٢٦)، كتاب «الجهاد» باب:
الخروج في النفير، حديث (٢٧٧٢)، وأحمد (٣/ ١٤٧، ١٨٠، ١٨٥، ٢٧١، ٢٧٤، ٢٩١)، وأبو داود الطيالسي (٢/ ١٢١) - منحة رقم: (٢٤٣٨)، وأبو يعلى (٥/ ٣٣٦) رقم: (٢٩٦٢)، والبيهقي (١٠/ ٢٥) كتاب «السبق والرمي» باب: ما جاء في تسمية البهائم والدواب (١٠/ ٢٠٠)، كتاب «الشهادات» باب: من سمى المرأة قارورة، من حديث أنس بن مالك.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٤٨٤) برقم: (٣٢٣١٩).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٤٨٤) برقم: (٣٢٣٢٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٨٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٤٦)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
على الإطلاق هم في هذه الآية قطعاً على اللَّه تعالى بحكم خبره الصادق، وقرأ جمهور الناس: «فاكهين» «١» ومعناه: فَرِحِينَ مسرورين، وقال أبو عُبَيْدَةَ: هو من باب: «لاَبِنٌ» و «تَامِرٌ»، أي: لهم فاكهة «٢»، قال ع «٣» : والمعنى الأَوَّلُ أبرع، وقرأ خالد فيما روى أبو حاتم: «فَكِهِينَ» «٤» والفَكِهُ والفاكه: المسرور المتنعم.
وقوله تعالى: بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي: من إنعامه ورضاه عنهم.
وقوله تعالى: وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ هذا متمكن في مُتَّقِي المعاصي، الذي لا يدخل النارَ وَوَقاهُمْ مشتق من الوقاية، وهي الحائل بين الشيء وبين ما يضرُّه.
وقوله: كُلُوا وَاشْرَبُوا أي: يقال لهم: كلوا واشربوا، وهَنِيئاً نُصِبَ على المصدر.
وقوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ معناه: أَنَّ رُتَبَ الجنة ونعيمها بحسب الأعمال، وأَمَّا نَفْسُ دخولها فهو برحمة اللَّه وفضلِهِ، وأعمالُ العباد الصالحاتُ لا تُوجِبُ على اللَّه تعالى التنعيمَ إيجاباً لكِنَّهُ سبحانه قد جعلها أَمارةً على مَنْ سبق في علمه تنعيمه، وعَلَّقَ الثوابَ والعِقَابَ بالتكسب الذي في الأعمال، والحُورُ: جمع حَوْرَاءُ، وهي البيضاء القويةُ بياضِ بياضِ/ العَيْنِ وَسَوَادِ سَوَادِها، والعِينُ: جمع عَيْنَاءُ، وهي كبيرة العينين مع جمالهما، وفي قراءة ابن مسعود والنَّخَعِيِّ: «وَزَوَّجْنَاهُمْ بِعِيسٍ عِينٍ» «٥» قال أبو الفتح: العيساء:
البيضاء.
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٢١ الى ٢٨]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥)
قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨)
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٨٨)، و «البحر المحيط» (٨/ ١٤٥)، و «الدر المصون» (٦/ ١٩٧).
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ١٨٨).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٨٨).
(٤) ينظر: مصادر القراءة السابقة.
(٥) ينظر: «المحتسب» (٢/ ٢٩٠)، و «مختصر الشواذ» ص: (١٤٦)، و «المحرر الوجيز» (٥/ ١٨٨)، وقال: وحكى أبو عمرو عن عكرمة أنه قرأ «بعيس عين» على إضافة «عيس» إلى «عين».
312
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ اختُلِفَ في معنى الآيةِ، فقال ابن عباس، وابن جبير، والجمهور: أخبر اللَّه تعالى أَنَّ المؤمنين الذين اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يلحق الأبناء في الجنة بمراتب الآباء، وإنْ لم يكن الأبناء في التقوى والأعمال كالآباء كرامةً للآباء «١»، وقد ورد في هذا المعنى حديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فجعلوا الحديثَ تفسيراً للآية، وكذلك وردت أحاديث تقتضي أَنَّ اللَّه تعالى يرحم الآباء رعياً للأبناء الصالحين، وقال ابن عباس أيضاً والضَّحَّاكُ. معنى الآية: أَنَّ اللَّه تعالى يلحق الأبناء الصغار بأحكام الآباء المؤمنين، يعني في الموارثة والدفن في مقابر المسلمين، وفي أحكام الآخرة في الجنة «٢»، وقال منذر بن سعيد: هي في الصغار لا في الكبار «٣» قال ع «٤» : وأرجح الأقوال في هذه الآية القول الأَوَّل لأَنَّ الآياتِ كلَّها في صفة إحسان اللَّه تعالى إلى أهل الجنة، فذكر من جملة إحسانِهِ سبحانه أَنَّه يرْعَى المحسنَ في المسيء، ولفظة أَلْحَقْنا تقتضي أَنَّ لِلْمُلْحَقِ بعضَ التقصير في الأعمال.
ت: وأظهرُ مَنْ هذا ما أشار إليه الثعلبيُّ في بعض أنقاله: أَنَّ اللَّه تعالى يجمع لعبده المؤمن ذُرِّيَّتَهُ في الجنة، كما كانوا في الدنيا، انتهى، ولم يتعرَّضْ لذكر الدرجات في هذا التأويل، وهو أحسن لأَنَّهُ قد تقرَّرَ أَنَّ رفع الدرجات هي بأعمال العاملين، والآياتُ/ والأحاديث مُصَرِّحَةٌ بذلك، ولما يلزم على التأويل الأَوَّلِ أَنْ يكونَ كلّ من دخل الجنة مع آدم ع في درجةٍ واحدة إذ هم كُلُّهم ذرِّيَّتُهُ، وقد فتحتُ لك باباً للبحث في هذا المعنى منعني من إتمامه ما قصدته من الاختصار، وباللَّه التوفيق.
وقوله: وَما أَلَتْناهُمْ أي: نقصناهم، ومعنى الآية أَنَّ اللَّه سبحانهُ يُلْحِقُ الأبناء بالآباء، ولا يُنْقِصُ الآباء من أجورهم شيئاً، وهذا تأويل الجمهور، ويحتمل أَنْ يريدَ: مِنْ عمل الأَبناء من شيء من حسن أو قبيح، وهذا تأويل ابن زيد «٥»، ويُؤيِّدُهُ قوله سبحانه:
كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ والرهين: المُرْتَهِنُ، وفي هذه الألفاظ وعيد، وأمددتُ الشيءَ: إذا سرّبْتُ إليه شيئا آخر يكثره أو يكثر لديه.
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٤٨٧) برقم: (٣٢٣٣٨)، و (١١/ ٤٨٨) برقم: (٣٢٣٣٩)، وذكره البغوي (٤/ ٢٣٩)، وابن عطية (٥/ ١٨٩)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٤١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٤٨)، وعزاه لابن أبي حاتم.
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ١٨٩).
(٣) ينظر: المصدر السابق.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٨٩).
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٤٩١) برقم: (٣٢٣٦٤)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٩٠). [.....]
313
وقوله: مِمَّا يَشْتَهُونَ إشارة إلى ما رُوِيَ من أَنَّ المُنَعَّمَ إذا اشتهى لحماً نزل ذلك الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها، وليس يكون في الجنة لحم يحتز، ولا يُتَكَلَّفُ فيه الذبح، والسلخ، والطبخ، وبالجملة لا كلفة في الجنة، ويَتَنازَعُونَ معناه:
يتعاطون ومنه قول الأخطل: [البسيط]
نَازَعْتُهُ طَيِّبَ الَّراحِ الشَّمُولِ وَقَد صَاحَ الدَّجَاجُ وَحَانَتْ وَقْعَةُ السَّارِي «١»،
قال الفخر «٢» : ويحتمل أنْ يقال: التنازع: التجاذُبُ، وحينئذ يكون تجاذُبُهُمْ تجاذبَ مُلاَعَبَةٍ، لا تجاذب منازعة، وفيه نوعُ لَذَّةٍ، وهو بيان لما عليه حال الشُرَّابِ في الدنيا فإنَّهم يتفاخرون بكثرة الشرب، ولا يتفاخرون بكثرة الأكل، انتهى، والكأس: الإِناء فيه الشراب، ولا يقال في فارغ كأس قاله الزَّجَّاج «٣»، واللغو: السَّقَطُ من القول، والتأثيم:
يلحق خَمْرَ الدنيا في نفس شُرْبِهَا وفي الأفعال التي تكون من شاربيها، وذلك كُلُّه/ مُنْتَفٍ في الآخرة.
ت: قال الثعلبيُّ: وقال ابن عطاء: أيُّ لغوٍ يكون في مجلس: مَحَلُّهُ جَنَّةُ عدن، والساقي فيه الملائكة، وشربُهم على ذكر اللَّه، ورَيحانُهم تحيَّةٌ من عند اللَّه، والقومُ أضياف اللَّه.
وَلا تَأْثِيمٌ أي: فعل يُؤْثِمُهُمْ، وهو تفعيل من الإثم، أي: لا يأثمونَ في شربها، انتهى، واللؤلؤ المكنون أجملُ اللؤلؤ لأَنَّ الصون والكَنُّ يُحَسِّنُهُ، قال ابن جبير: أراد الذي في الصّدَفِ لم تنله الأيدي «٤»، وقيل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا كَانَ الْغِلْمَانُ كَاللُّؤْلُؤ المَكْنُونِ فَكَيْفَ المَخْدُومُونَ؟ قال: هُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» «٥».
ت: وهذا تقريب للأفهام، وإلاَّ فجمال أهلِ الجَنَّةِ أَعْظَمُ من هذا، يَدُلُّ على ذلك أحاديث صحيحة ففي «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرةَ- رضي الله عنه- قال:
(١) ينظر: البيت في «ديوانه» (١٤٢)، و «جمهرة أشعار العرب» (٧٢٥)، والقرطبي (١٧/ ٤٦)، و «روح المعاني» (٢٧/ ٣٤)، و «البحر المحيط» (٨/ ١٤٧).
والساري: الذي يمشي ليلا.
(٢) ينظر: «تفسير الرازي» (١٤/ ٢١٨).
(٣) ينظر: «معاني القرآن» (٥/ ٦٣).
(٤) ذكره البغوي (٤/ ٢٤٠)، وابن عطية (٥/ ١٩٠).
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٤٩٢) برقم: (٣٢٣٦٩)، (٣٢٣٧٠)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٤٩)، وعزاه إلى عبد الرزاق، وابن المنذر.
314
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ- وفي رِوَايَةٍ: «مِنْ أُمَّتِي» عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ على أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ في السَّمَاءِ إضَاءَةً» «١»، وفي رواية:
«ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنَازِلُ» الحديثَ، وفي «صحيح مسلم» أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ في الجَنَّةَ لَسُوقاً يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمْعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ، فَتَحْثُو في وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، وَيَزْدَادُونَ حُسْناً وَجَمَالاً، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: واللَّهِ، لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْناً وَجَمَالاً! فَيَقُولُونَ: وَأَنْتُمْ واللَّهِ، لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْناً وَجَمَالاً» «٢»، انتهى، وقد أشار الغَزَّاليُّ وغيره إلى طَرَفٍ من هذا المعنى، لَمَّا تكلَّم على رؤية العارفين للَّه سبحانه في الآخرة، قال بعد كلام: ولا يَبْعُدُ أَنْ تكونَ ألطاف الكشف والنظر في الآخرة متواليةً إلى غير نهاية، فلا يزالُ النعيمُ واللَّذَّةُ متزايداً أبَدَ الآبادِ، وللشيخ أبي الحسن الشاذلي هنا كلام حسن قال: لو كُشِفَ عن نور المؤمن لعبد من دون اللَّه، ولو كُشِفَ عن نور المؤمن العاصي لطبق السماء والأرض، / فكيف بنور المؤمن المطيع؟! نقل كلامه هذا ابن عطاء اللَّه وابن عَبَّاد، انظره.
ثم وصف تعالى عنهم أَنَّهُم في جملة تنعمهم يَتَساءَلُونَ أي: عن أحوالهم وما نال كُلَّ واحد منهم، وأَنَّهم يتذكرون حالَ الدنيا وخشيتَهم عذابَ الآخرة، والإشفاقُ أشدّ الخشية ورقّة القلب، والسَّمُومِ: الحارّ، ونَدْعُوهُ: يحتمل أَنْ يريد: الدعاءَ على بابه، ويحتمل أنْ يريد نعبده، وقرأ نافع والكسائيُّ: «أَنَّهُ» - بفتح الهمزة-، والباقون بكسرها «٣» والْبَرُّ الذي يبرّ ويحسن.
(١) أخرجه البخاري (٦/ ٣٦٧) كتاب «بدء الخلق» باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (٣٢٤٥، ٣٢٤٦، ٣٢٥٤)، (٦/ ٤١٧)، كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: خلق آدم وذريته (٣٣٢٧)، ومسلم (٤/ ٢١٧٨)، (٢١٨٠)، كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب: أول زمرة تدخل الجنة على هيئة القمر ليلة البدر، وصفاتهم وأزواجهم (١٤/ ٢٨٣٤) - مكرر، (١٥- ١٦/ ٢٨٣٤)، والترمذي (٤/ ٦٧٨)، كتاب «صفة الجنة» باب: في صفة أهل الجنة (٢٥٣٧)، وأحمد (٢٠، ٢٣٠، ٢٣١، ٢٣٢، ٢٤٧، ٢٥٣، ٢٥٧، ٣١٦، ٥٠٢، ٥٠٧)، وابن ماجه (٢/ ١٤٤٩)، كتاب «الزهد» باب: صفة الجنة (٤٣٣٣)، وابن حبان (١٦/ ٤٣٦)، كتاب «إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن مناقب الصحابة» باب: وصف الجنة وأهلها (٧٤٢٠)، (١٦/ ٤٦٣- ٤٦٤)، كتاب «إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن مناقب الصحابة» باب: وصف الجنة وأهلها (٧٤٣٦- ٧٤٣٧)، والحميدي (٢/ ٤٨٣- ٤٨٤) (١١٤٣)، والدارمي (٢/ ٣٣٣- ٣٣٤)، كتاب «الرقائق» باب: في أول زمرة يدخلون الجنة، وابن المبارك في «الزهد» (١/ ٥٤٩) (١٥٧٥)، (١/ ٥٥٢) (١٥٨٥) مثله ونحوه.
قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
(٢) أخرجه مسلم (٤/ ٢١٧٨)، كتاب «الجنة وصفة نعيمها» باب: في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم (١٣/ ٢٨٣٣).
(٣) ينظر: «السبعة» (٦١٣)، و «الحجة» (٦/ ٢٢٧)، و «معاني القراءات» (٣/ ٣٤)، و «شرح الطيبة» (٦/ ٢٣)، و «العنوان» (١٨١)، و «حجة القراءات» (٦٨٣)، و «شرح شعلة» (٥٩٠)، و «إتحاف» (٢/ ٤٩٧).
315

[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٢٩ الى ٣٤]

فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤)
وقوله سبحانه: فَذَكِّرْ أمر لنبيّه ع بإدامة الدعاء إلى الله عز وجل، ثم قال مؤنساً له: فَما أَنْتَ: بإِنعام اللَّه عليك ولُطْفِهِ بك- كاهِنٌ ولا مجنون.
وقوله سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ أي: بل يَقُولُونَ شاعِرٌ... الآية: رُوِيَ أَنَّ قريشاً اجتمعت في دار الندوة، فكثرت آراؤهم في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حَتَّى قال قائل منهم: تَرَبَّصُوا به رَيْبَ المَنُونِ، أي: حوادِثَ الدهر، فَيَهْلِكَ كما هَلَكَ من قبله من الشُّعَرَاءِ: زُهَيْرٌ، والنَّابِغَةُ، وَالأَعْشَى، وغيرُهم، فافترقوا على هذه المقالة، فنزلت الآية في ذلك، والتَّرَبُّصُ: الانتظار، والمنون: من أسماء الموت، وبه فسر ابن عباس «١»، وهو أيضاً من أسماء الدهر، وبه فَسَّرَ مجاهد «٢»، والرَّيْبُ هنا: الحوادث والمصائب: ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّما فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا» «٣» الحديثَ.
وقوله: قُلْ تَرَبَّصُوا وعيد في صيغة أمر.
وقوله سبحانه: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا الأحلام: العقول، وقوله: بِهذا يحتمل أنْ يشيرَ إلى هذه المقالة: هو شاعر، ويحتمل أَنْ يشير إلى ما هم عليه من الكُفْرِ وعبادة/ الأصنام، وتَقَوَّلَهُ معناه: قال عن الغير أَنَّهُ قاله، فهي عبارة عن كَذِبٍ مخصوص، ثم عَجَّزَهُمْ سبحانه بقوله: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ والضمير في مِثْلِهِ عائد على القرآن.
وقوله: إِنْ كانُوا صادِقِينَ
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٤٩٤) برقم: (٣٢٣٧٦)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٩١)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٤٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٥٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٤٩٤) برقم: (٣٢٣٧٥)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٩١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٥٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(٣) أخرجه مسلم (٤/ ١٩٠٢- ١٩٠٣)، كتاب «فضائل الصحابة» باب: فضائل فاطمة بنت الرسول- عليه الصلاة والسلام- (٩٣، ٩٥/ ٢٤٤٩)، وأحمد (٤٣٢٣، ٤٣٢٦، ٣٢٨، ٣٣٢)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (٢/ ٤١).
ت: أي: في أَنَّ محمداً تَقَوَّلَهُ قاله الثعلبيّ.
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦)
وقوله سبحانه: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ قال الثعلبيُّ: قال ابن عباس: من غير أَبٍ ولا أُمٍّ، فهم كالجماد لا يعقلون، ولا تقوم للَّه عليهم حُجَّةٌ، أليسوا خُلِقُوا من نطفة وعلقة، وقال ابن كَيْسَانَ: أَمْ خلقوا عَبَثاً، وَتُرِكُوا سُدًى من غير شيء، أي: لغير شيء لا يؤمرون ولا يُنْهَوْنَ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ: لأَنفسهم، فلا يأتمرون لأمر اللَّه، انتهى، وعَبَّرَ ع «١» : عن هذا بأَنْ قال: وقال آخرون: معناه: أمْ خُلِقُوا لغير عِلَّةِ ولا لغاية عقاب وثواب فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرَّعون.
ت: وقد يحتمل أَنْ يكونَ المعنى: أم خُلِقُوا من غير شيء خَلَقَهُمْ، أي: من غير مُوجِدٍ أَوْجَدَهُمْ، ويَدُلُّ عليه مقابلته بقوله: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ وهكذا قال الغَزَّاليُّ في «الإِحياء»، قال: وقوله عز وجل: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي: من غير خالق، انتهى بلفظه من كتاب، آداب التلاوة قال الغَزَّالِيُّ: ولا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الآيةَ تَدُلُّ أَنَّه لا يُخْلَقُ شَيْءٌ إلاَّ من شيء! انتهى، وقال الفخر «٢» : قوله تعالى: مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ فيه وجوه، المنقول منها: أم خُلِقُوا من غير خالق، [وقيل: أَمْ خُلِقُوا لا لغير شيء عَبَثاً] «٣»، وقيل: أم خلقوا من غير أَبٍ وأُمِّ، انتهى، وأحسنها الأَوَّلُ كما قال الغَزَّالِيُّ، واللَّه أعلم بما أراد سبحانه، وفي الصحيح عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قال: «سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَقْرَأُ في الْمَغْرِبِ بالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هذه الآيَةَ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ إلى قَوْلِهِ: الْمُصَيْطِرُونَ- كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ»، وفي رواية: «وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا/ وَقَرَ الإِيمَانُ في قَلْبِي» «٤» انتهى، وأسند أبو بكر ابن الخطيب في «تاريخه» عن جُبَيْرِ بن مطعم قال: «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في فِدَاءِ أَهْلِ بَدْرٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ في الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَكَأَنَّمَا تَصَدَّعَ قَلْبِي حِينَ سَمِعْتُ القرآن» انتهى.
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٣٧ الى ٤٣]
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١)
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣)
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٩٢).
(٢) ينظر: «تفسير الرازي» (١٤/ ٢٢٣).
(٣) سقط في: د. [.....]
(٤) أخرجه البخاري (٨/ ٤٦٩)، كتاب «التفسير» برقم: (٤٨٥٤).
وقوله سبحانه: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ بمنزلة قوله: أم عندهم الاستغناء في جميع الأمور؟ والمصيطر: القاهر، وبذلك فسر ابن عباس «١» الآية، والسُّلَّمُ: السبب الذي يُصْعَدُ به، كان ما كان من خشب، أو بناء، أو حبال، أو غير ذلك، والمعنى: ألهم سُلَّمٌ إِلى السماء يستمعون فيه، أي: عليه أو منه، وهذه حروف يَسُدُّ بعضُها مَسَدَّ بعض، والمعنى:
يستمعون الخبر بِصِحَّةِ ما يدعونه، فليأتوا بالحُجَّةِ المبينة في ذلك.
وقوله سبحانه: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ الآية، قال ابن عباس «٢» : يعني أَمْ عندهم اللوحُ المحفوظ، فَهُمْ يَكْتُبُونَ: ما فيه، ويخبرون به، ثم قال: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً: بك وبالشرع، ثم جزم الخبر بأنَّهم هُمُ الْمَكِيدُونَ أي: هم المغلوبون، فَسَمَّى غَلَبَتَهُمْ كيداً إذ كانت عقوبةُ الكَيْدِ، ثم قال سبحانه: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ: يعصمهم ويمنعهم من الهلاك، قال الثعلبيُّ: قال الخليل: ما في سورة الطور كُلِّها من ذكر «أم» كُلُّه استفهام لهم، انتهى.
ثم نَزَّهَ تعالى نفسه: عَمَّا يُشْرِكُونَ به.
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٤٤ الى ٤٩]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩)
وقوله: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً أي: قطعةً يقولون لشدة معاندتهم هذا سَحابٌ مَرْكُومٌ:
بعضُه على بعض، وهذا جوابٌ لقولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء: ١٨٧] وقولهم: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الإسراء: ٩٢] يقول: لو فعلنا هذا بهم لما/ آمنوا، ولقالوا: سحاب مركوم.
وقوله تعالى: فَذَرْهُمْ، وما جرى مَجْرَاهُ من الموادعة- منسوخ بآية السيف،
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٤٩٦) برقم: (٣٢٣٨٦)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٩٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٥٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) ذكره البغوي (٤/ ٢٤٢)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٩٣).
318
والجمهورُ أَنَّ يومهم الذي فيه يُصْعَقُونَ، هو يوم القيامة، وقيل: هو موتهم واحداً واحداً، ويحتمل أن يكون يوم بدر لأَنَّهُمْ عُذِّبُوا فيه، والصعق: التعذيب في الجملة، وإنْ كان الاستعمالُ قد كَثُرَ فيما يصيب الإنسانَ من الصَّيْحَةِ المُفْرِطَةِ ونحوه، ثُمَّ أخبر تعالى بِأَنَّ لهم دُونَ هذا اليوم، أي: قبله عَذاباً واخْتُلِفَ في تعيينه، فقال ابن عباس وغيره «١» : هو بدر ونحوه، وقال مجاهد «٢» : هو الجُوعُ الذي أصابهم، وقال البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وابن عباس أيضاً «٣» : هو عذاب القبر، وقال ابن زيد «٤» : هي مصائب الدنيا، إذْ هي لهم عذاب.
ت: ويحتمل أَنْ يكونَ المراد الجميع قال الفخر «٥» : إنْ قلنا إنَّ العذابَ هو بدر فالذين ظلموا هم أهل مَكَّةَ، وإنْ قلنا: العذابُ هو عذابُ القبر، فالذين ظلموا عامٌّ في كل ظالم، انتهى.
ثم قال تعالى لنبيِّهِ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا أي: بمرأى ومنظر، نرى ونَسْمَعُ ما تقول، وأَنَّك في حفظنا وحيطتنا كما تقول: فلان يرعاه المَلِكُ بعين، وهذه الآية ينبغي أَنْ يُقَرِّرَهَا كُلُّ مؤمن في نفسه فإنها تُفَسِّحُ مضايق الدنيا.
وقوله سبحانه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قال أبو الأحوص «٦» : هو التسبيح المعروف، يقول في كل قيام: سبحان اللَّهِ وبحمدِهِ، وقال عطاء «٧» : المعنى حين تقومُ من كُلِّ مجلس.
ت: وفي تفسير أحمدَ بن نصر الداوديّ قال: وعن ابن المُسَيِّبِ قال: حَقٌّ على كل مسلم أنْ يقول حين يقومُ إِلى الصلاة: سبحان اللَّهِ وبحمده لقولِ اللَّه سبحانه لِنَبِيِّهِ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ، انتهى، / وقال ابن زيد «٨» : هي صلاة النوافل، وقال
(١) ذكره البغوي (٤/ ٢٤٣)، وابن عطية (٥/ ١٩٤).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٤٩٩) برقم: (٣٢٣٩٨)، وذكره البغوي (٤/ ٢٤٣)، وابن عطية (٥/ ١٩٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٤٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٥١)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٤٩٩) برقم: (٣٢٣٩٤)، (٣٢٣٩٥)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٩٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٥٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٤٩٩) برقم: (٣٢٣٩٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٩٤).
(٥) ينظر: «تفسير الرازي» (١٤/ ٢٣٥).
(٦) أخرجه الطبري (١١/ ٥٠٠) برقم: (٣٢٤٠١)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٩٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٥/ ١٩٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٥١)، وعزاه لابن أبي شيبة.
(٧) ذكره البغوي (٤/ ٢٤٣)، وابن عطية (٥/ ١٩٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٥/ ١٩٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٥١)، وعزاه للفريابي، وابن المنذر.
(٨) ذكره ابن عطية (٥/ ١٩٤).
319
الضَّحَّاكُ «١» : هي الصلوات المفروضة، وَمَنْ قال هي النوافل جعلَ أدبار النجوم رَكْعَتَيِ الفجر، وعلى هذا القول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، وقد رُوِيَ مرفوعاً، ومَنْ جعله التسبيحَ المعروفَ جعل قوله: حِينَ تَقُومُ مثالاً، أي: حين تقومُ وحينَ تَقْعُدُ، وفي كل تَصَرُّفِكَ، وحكى منذر عن الضَّحَّاكِ أَنَّ المعنى: حين تقومُ في الصلاة [بعد] تكبيرة الإحرام، فقل: «سُبْحَانَكَ اللهمّ، وبحمدك، وتبارك اسمك» «٢» الحديث.
(١) ينظر: المصدر السابق.
(٢) أخرجه أبو داود (١/ ٢٦٥)، كتاب «الصلاة» باب: من رأى الاستفتاح بسبحانك وبحمدك (٧٧٥)، والترمذي (٢/ ٩- ١٠)، كتاب «الصلاة» باب: ما يقول عند افتتاح الصلاة (٢٤٢)، وابن ماجه (٢/ ٢٦٤)، كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب: افتتاح الصلاة (٨٠٤)، والنسائي (٢/ ١٣٢)، كتاب «الافتتاح» باب: نوع آخر من الذكر بين افتتاح الصلاة وبين القراءة (٨٩٩)، وأحمد (٣/ ٥٠، ٦٩)، (١/ ٢٨٢)، كتاب «افتتاح الصلاة» باب: ما يقال بعد افتتاح الصلاة، وابن خزيمة (١/ ٢٣٨) جماع أبواب الأذان والإقامة، باب: إباحة الدعاء بعد التكبير وقبل القراءة... (٤٦٧).
320
Icon