تفسير سورة الأنعام

تفسير الرازي
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي .
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
قال ابن عباس رضي الله عنه : إنها مكية نزلت جملة واحدة، فامتلأ منها الوادي، وشيعها سبعون ألف ملك، ونزلت الملائكة فملؤوا ما بين الأخشبين، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم الكتاب وكتبوها من ليلتهم إلا ست آيات فإنها مدنيات ﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ إلى آخر الآيات الثلاث وقوله ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ الآية وقوله ﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾ وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما نزل علي سورة من القرآن جملة غير سورة الأنعام، وما اجتمعت الشياطين لسورة من القرآن جمعها لها، وقد بعث بها إلي مع جبريل مع خمسين ملكا أو خمسين ألف ملك يزفونها ويحفونها حتى أقروها في صدري كما أقر الماء في الحوض، ولقد أعزني الله وإياكم بها عزا لا يذلنا بعده أبدا، فيها دحض حجج المشركين ووعد من الله لا يخلفه » وعن ابن المنكدر : لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :«لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق ».
قال الأصوليون : هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة. أحدهما : أنها نزلت دفعة واحدة، والثاني : أنها شيعها سبعون ألفا من الملائكة، والسبب فيه أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين، وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الجلالة والرفعة، وأيضا فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله تعالى قدر حاجتهم، وبحسب الحوادث والنوازل. وأما ما يدل على علم الأصول فقد أنزله الله تعالى جملة واحدة، وذلك يدل على أن تعلم علم الأصول واجب على الفور لا على التراخي.

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

سُورَةُ الْأَنْعَامِ
مَكِّيَّةٌ إِلَّا الْآيَاتِ: ٢٠ وَ ٢٣ وَ ٩١ وَ ٩٣ وَ ١١٤ وَ ١٤١ وَ ١٥١ وَ ١٥٢ وَ ١٥٣ فَمَدَنِيَّةٌ، وَآيَاتُهَا ١٦٥ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْحِجْرِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَامْتَلَأَ مِنْهَا الْوَادِي، وَشَيَّعَهَا سَبْعُونَ ألف ملك، ونزلت الملائكة فملئوا مَا بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ، فَدَعَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُتَّابَ وَكَتَبُوهَا مِنْ لَيْلَتِهِمْ إِلَّا سِتَّ آيَاتٍ فَإِنَّهَا مَدَنِيَّاتٌ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الْأَنْعَامِ: ١٥١] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ وَقَوْلُهُ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الْأَنْعَامِ: ٩١] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الْأَنْعَامِ: ٩٣]
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَزَلَ عَلَيَّ سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ جُمْلَةً غَيْرَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمَا اجْتَمَعَتِ الشَّيَاطِينُ لِسُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ جَمْعَهَا لَهَا، وَقَدْ بُعِثَ بِهَا إِلَيَّ مَعَ جِبْرِيلَ مَعَ خَمْسِينَ مَلَكًا أَوْ خَمْسِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَزُفُّونَهَا وَيَحُفُّونَهَا حَتَّى أَقَرُّوهَا فِي صَدْرِي كَمَا أُقِرَّ الْمَاءُ فِي الْحَوْضِ، وَلَقَدْ أَعَزَّنِي اللَّه وَإِيَّاكُمْ بِهَا عِزًّا لَا يُذِلُّنَا بَعْدَهُ أَبَدًا، فِيهَا دَحْضُ حُجَجِ الْمُشْرِكِينَ وَوَعْدٌ مِنَ اللَّه لَا يُخْلِفُهُ»
وَعَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ سَبَّحَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ:
«لَقَدْ شَيَّعَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا سَدَّ الْأُفُقَ»
قَالَ الْأُصُولِيُّونَ: هَذِهِ السُّورَةُ اخْتُصَّتْ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْفَضِيلَةِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَالثَّانِي:
أَنَّهَا شَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَإِبْطَالِ مَذَاهِبِ الْمُبْطِلِينَ وَالْمُلْحِدِينَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالرِّفْعَةِ، وَأَيْضًا فَإِنْزَالُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ قَدْ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ أَنْ يُنْزِلَهُ اللَّه تَعَالَى قَدْرَ حَاجَتِهِمْ، وَبِحَسَبِ الْحَوَادِثِ وَالنَّوَازِلِ. وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى عِلْمِ الْأُصُولِ فَقَدْ أَنْزَلَهُ اللَّه تَعَالَى جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ عِلْمِ الْأُصُولِ وَاجِبٌ على الفور لا على التراخي.
[سورة الأنعام (٦) : آيَةً ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)
اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُسْتَقْصَى فِي قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نُعِيدَ بَعْضَ تِلْكَ الْفَوَائِدِ، وفيه مسائل:
471
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَدْحِ وَالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْمَدْحَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ، وَالْحَمْدَ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ.
أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمَدْحَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ، فَلِأَنَّ الْمَدْحَ يَحْصُلُ لِلْعَاقِلِ وَلِغَيْرِ الْعَاقِلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا يَحْسُنُ مَدْحُ الرَّجُلِ الْعَاقِلِ عَلَى أَنْوَاعِ فَضَائِلِهِ، فَكَذَلِكَ قَدْ يُمْدَحُ اللُّؤْلُؤُ لِحُسْنِ شَكْلِهِ وَلَطَافَةِ خِلْقَتِهِ، وَيُمْدَحُ الْيَاقُوتُ عَلَى نِهَايَةِ صَفَائِهِ وَصَقَالَتِهِ! فَيُقَالُ: مَا أَحْسَنَهُ وَمَا أَصْفَاهُ، وَأَمَّا الْحَمْدُ: فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنَ الْإِنْعَامِ وَالْإِحْسَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَدْحَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ.
وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْحَمْدَ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ، فَلِأَنَّ الْحَمْدَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ الْفَاعِلِ لِأَجْلِ مَا صَدَرَ عَنْهُ مِنَ الْإِنْعَامِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْإِنْعَامُ وَاصِلًا إِلَيْكَ أَوْ إِلَى غَيْرِكَ، وَأَمَّا الشُّكْرُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْظِيمِهِ لِأَجْلِ إِنْعَامٍ وَصَلَ إِلَيْكَ وَحَصَلَ عِنْدَكَ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَدْحَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّمَا لَمْ يَقُلِ الْمَدْحُ للَّه لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَدْحَ كَمَا يَحْصُلُ لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، فَقَدْ يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ. أَمَّا الْحَمْدُ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. فَكَانَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ تَصْرِيحًا بِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي وُجُودِ هَذَا الْعَالَمِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ خَلَقَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَلَيْسَ عِلَّةً مُوجِبَةً لَهُ إِيجَابَ الْعِلَّةِ لِمَعْلُولِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْفَائِدَةَ عَظِيمَةٌ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلِ الشُّكْرُ للَّه، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الشُّكْرَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْظِيمِهِ بِسَبَبِ إِنْعَامٍ صَدَرَ مِنْهُ وَوَصَلَ إِلَيْكَ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا ذَكَرَ تَعْظِيمَهُ بِسَبَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ النِّعْمَةِ فحينئذ يكون المطلوب الأصلي به وَصُولَ النِّعْمَةِ إِلَيْهِ وَهَذِهِ دَرَجَةٌ حَقِيرَةٌ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: الْحَمْدُ للَّه، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ حَمِدَهُ لِأَجْلِ كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ لَا لِخُصُوصِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْصَلَ/ النِّعْمَةَ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ الْإِخْلَاصُ أَكْمَلَ، وَاسْتِغْرَاقُ الْقَلْبِ فِي مُشَاهَدَةِ نُورِ الْحَقِّ أَتَمَّ، وَانْقِطَاعُهُ عَمَّا سِوَى الْحَقِّ أَقْوَى وَأَثْبَتَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَمْدُ: لَفْظٌ مُفْرَدٌ مُحَلًّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيُفِيدُ أَصْلَ الْمَاهِيَّةِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ يُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْمَاهِيَّةَ للَّه، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْحَمْدِ لِغَيْرِ اللَّه، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَ أَقْسَامِ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ لَيْسَ إِلَّا للَّه سُبْحَانَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ، مِثْلُ شُكْرِ الْأُسْتَاذِ عَلَى تَعْلِيمِهِ، وَشُكْرُ السُّلْطَانِ عَلَى عَدْلِهِ، وَشُكْرُ الْمُحْسِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ، كما
قال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّه».
قُلْنَا: الْمَحْمُودُ وَالْمَشْكُورُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: صُدُورُ الْإِحْسَانِ مِنَ الْعَبْدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ دَاعِيَةِ الْإِحْسَانِ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَحُصُولُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ فِي القلب ليس من العبد، وإلا لا فتقر فِي حُصُولِهَا إِلَى دَاعِيَةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، بَلْ حُصُولُهَا لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه سُبْحَانَهُ فَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ عِنْدَ حُصُولِهَا يَجِبُ الْفِعْلُ، وَعِنْدَ زَوَالِهَا يَمْتَنِعُ الْفِعْلُ فَيَكُونُ الْمُحْسِنُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه، فَيَكُونُ الْمُسْتَحِقُّ لِكُلِّ حَمْدٍ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ أَحْسَنَ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ إِلَى الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ الْإِحْسَانِ إِمَّا لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، أَمَّا جَلْبُ الْمَنْفَعَةِ: فَإِنَّهُ يَطْمَعُ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْإِحْسَانِ بِمَا يَصِيرُ سَبَبًا لِحُصُولِ السُّرُورِ فِي قَلْبِهِ أَوْ مُكَافَأَةٍ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فِي الدُّنْيَا أَوْ وِجْدَانِ ثَوَابٍ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا دَفْعُ الْمَضَرَّةِ، فَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى حَيَوَانًا فِي ضُرٍّ أَوْ بَلِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَرِقُّ قَلْبُهُ عَلَيْهِ، وَتِلْكَ الرِّقَّةُ أَلَمٌ مَخْصُوصٌ يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ عند
472
مُشَاهَدَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ فِي تِلْكَ الْمَضَرَّةِ فَإِذَا حَاوَلَ إِنْقَاذَ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ مِنْ تِلْكَ الْمَضَرَّةِ زَالَتْ تِلْكَ الرِّقَّةُ عَنِ الْقَلْبِ وَصَارَ فَارِغَ الْقَلْبِ طَيِّبَ الْوَقْتِ، فَذَلِكَ الْإِحْسَانُ كَأَنَّهُ سَبَبٌ أَفَادَ تَخْلِيصَ الْقَلْبِ عَنْ أَلَمِ الرِّقَّةِ الحسيّة، فثبت أن كل ما سِوَى الْحَقِّ فَإِنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِفِعْلِ الْإِحْسَانِ إِمَّا جَلْبُ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعُ مَضَرَّةٍ، أَمَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِنَّهُ يُحْسِنُ وَلَا يَسْتَفِيدُ مِنْهُ جَلْبَ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعَ مَضَرَّةٍ، وَكَانَ الْمُحْسِنُ الْحَقِيقِيُّ لَيْسَ إِلَّا اللَّه تَعَالَى، فَبِهَذَا السَّبَبِ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ لِكُلِّ أَقْسَامِ الْحَمْدِ هُوَ اللَّه، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كُلَّ إِحْسَانٍ يُقْدِمُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ فَالِانْتِفَاعُ بِهِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ إِحْسَانِ اللَّه، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ أَنْوَاعَ النِّعْمَةِ وَإِلَّا لَمْ يَقْدِرِ الْإِنْسَانُ عَلَى إِيصَالِ تِلْكَ الْحِنْطَةِ وَالْفَوَاكِهِ إِلَى الْغَيْرِ، وَأَيْضًا فلولا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُ الْمِزَاجَ الصَّحِيحَ وَالْبِنْيَةَ السَّلِيمَةَ وَإِلَّا لَمَا أَمْكَنَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ إِحْسَانٍ يَصْدُرُ عَنْ مُحْسِنٍ سِوَى اللَّه/ تَعَالَى، فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ إِحْسَانِ اللَّه تَعَالَى. وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا مُحْسِنَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّه، وَلَا مُسْتَحِقَّ لِلْحَمْدِ إِلَّا اللَّه. فَلِهَذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِجَمِيعِ النِّعَمِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْمُنْتَفِعِ بَعْدَ كَوْنِهِ حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا، وَنِعْمَةُ الْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ لَيْسَتْ إِلَّا مِنَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَالتَّرْبِيَةُ الْأَصْلِيَّةُ وَالْأَرْزَاقُ الْمُخْتَلِفَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنَ اللَّه سُبْحَانَهُ مِنْ أَوَّلِ الطُّفُولِيَّةِ إِلَى آخِرِ الْعُمُرِ. ثُمَّ إِذَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِي آثَارِ حِكْمَةِ الرَّحْمَنِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَوَصَلَ إِلَى مَا أَوْدَعَ اللَّه تَعَالَى فِي أَعْضَائِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ عَلِمَ أَنَّهَا بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيَمِ: ٣٤] فَبِتَقْدِيرِ: أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ الْعَبْدَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنْعِمَ عَلَى الْغَيْرِ إِلَّا أَنَّ نِعَمَ الْعَبْدِ كَالْقَطْرَةِ، وَنِعَمَ اللَّه لَا نِهَايَةَ لَهَا أَوَّلًا وَآخِرًا وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ الْمُطْلَقِ وَالثَّنَاءِ الْمُطْلَقِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ فَلِهَذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَمْ يَقُلْ: أَحْمَدُ اللَّه، لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَمْدَ صِفَةُ الْقَلْبِ وَرُبَّمَا احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إِلَى أَنْ يَذْكُرَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ حال كونه غافلا يقلبه عَنِ اسْتِحْضَارِ مَعْنَى الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، فَلَوْ قَالَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَحْمَدُ اللَّه، كَانَ كَاذِبًا وَاسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ، حَيْثُ أَخْبَرَ عَنْ دَعْوَى شَيْءٍ مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا. أَمَّا إِذَا قَالَ: الْحَمْدُ للَّه، فَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَاهِيَّةَ الْحَمْدِ وَحَقِيقَتَهُ مُسَلَّمَةٌ للَّه تَعَالَى. وَهَذَا الْكَلَامُ حَقٌّ وَصِدْقٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعْنَى الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ حَاضِرًا فِي قَلْبِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَكَانَ تَكَلُّمُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ عِبَادَةً شَرِيفَةً وَطَاعَةً رَفِيعَةً فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ. وَثَانِيهَا:
رُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْمُرُهُ بِالشُّكْرِ، فَقَالَ دَاوُدُ:
يَا رَبِّ وَكَيْفَ أَشْكُرُكَ؟ وَشُكْرِي لَكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا أَنْ تُوَفِّقَنِي لِشُكْرِكَ وَذَلِكَ التَّوْفِيقُ نِعْمَةٌ زَائِدَةٌ وَإِنَّهَا تُوجِبُ الشُّكْرَ لِي أَيْضًا وَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَلَا طَاقَةَ لِي بِفِعْلِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ. فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى دَاوُدَ: لَمَّا عَرَفْتَ عَجْزَكَ عَنْ شُكْرِي فَقَدْ شَكَرْتَنِي.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ قَالَ الْعَبْدُ أَحْمَدُ اللَّه كَانَ دَعْوَى أَنَّهُ أَتَى بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ السُّؤَالُ. أَمَّا لَوْ قَالَ، الْحَمْدُ للَّه فَلَيْسَ فِيهِ ادِّعَاءٌ أَنَّ الْعَبْدَ أَتَى بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، بَلْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ الْحَمْدِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَحْمَدُ اللَّه كَانَ ذَلِكَ مُشْعِرًا بِأَنَّهُ ذَكَرَ حَمْدَ نَفْسِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ حَمْدَ غَيْرِهِ. أَمَّا إِذَا قَالَ:
الْحَمْدُ للَّه، فَقَدْ دَخَلَ فِيهِ حَمْدُهُ وَحَمْدُ غَيْرِهِ مِنْ أَوَّلِ خَلْقِ الْعَالَمِ إِلَى آخِرِ اسْتِقْرَارِ الْمُكَلَّفِينَ فِي دَرَجَاتِ الْجِنَانِ
473
ودركات النيران، كما قَالَ تَعَالَى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: ١٠] فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَذْكُورَةٌ فِي أَوَّلِ سُوَرٍ خَمْسَةٍ. أَوَّلُهَا: الْفَاتِحَةُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَةِ: ٢] وَثَانِيهَا: فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: ١] وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ لِأَنَّ الْعَالَمَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّه تَعَالَى، فَقَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّه تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ إِلَّا خلق السموات وَالْأَرْضِ وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ سَائِرُ الْكَائِنَاتِ وَالْمُبْدَعَاتِ، فَكَانَ التَّحْمِيدُ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ كَأَنَّهُ قِسْمٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ التَّحْمِيدِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَتَفْصِيلٌ لِتِلْكَ الْجُمْلَةِ. وَثَالِثُهَا: سُورَةُ الْكَهْفِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الْكَهْفِ: ١] وَذَلِكَ أَيْضًا تَحْمِيدٌ مَخْصُوصٌ بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ النِّعْمَةِ وَهُوَ نِعْمَةُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالْقُرْآنِ، وَبِالْجُمْلَةِ النِّعَمُ الْحَاصِلَةُ بِوَاسِطَةِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَرَابِعُهَا: سُورَةُ سَبَأٍ وَهِيَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [سَبَأٍ: ١] وَهُوَ أَيْضًا قِسْمٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَخَامِسُهَا: سُورَةُ فَاطِرٍ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فَاطِرٍ: ١] وَظَاهِرٌ أَيْضًا أَنَّهُ قِسْمٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَظَهَرَ أَنَّ الْكَلَامَ الْكُلِّيَّ التَّامَّ هُوَ التَّحْمِيدُ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ إِمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَإِمَّا مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ.
وَوَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا بِإِيجَادِ اللَّه تَعَالَى وَتَكْوِينِهِ وَالْوُجُودُ نِعْمَةٌ فَالْإِيجَادُ إِنْعَامٌ وَتَرْبِيَةٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَأَنَّهُ تَعَالَى الْمُرَبِّي لِكُلِّ مَا سِوَاهُ وَالْمُحْسِنُ إِلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ. فَذَلِكَ الْكَلَامُ هُوَ الْكَلَامُ الْكُلِّيُّ الْوَافِي بِالْمَقْصُودِ.
أَمَّا التَّحْمِيدَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّوَرِ فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ ذَلِكَ التَّحْمِيدِ وَنَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَبَيْنَ الْفَاطِرِ وَالرَّبِّ؟ وَأَيْضًا لِمَ قَالَ هَاهُنَا خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمَاضِي؟ وَقَالَ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْأَوَّلِ: الْخَلْقُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ وَهُوَ فِي حَقِّ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمِهِ النَّافِذِ فِي جَمِيعِ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ الْوَاصِلِ إِلَى جَمِيعِ ذَوَاتِ الْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَأَمَّا كَوْنُهُ فَاطِرًا فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الإيجاد والا بداع، فَكَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا إِشَارَةٌ إِلَى صِفَةِ الْعِلْمِ، وَكَوْنُهُ فَاطِرًا إِشَارَةٌ إِلَى صِفَةِ الْقُدْرَةِ، وَكَوْنُهُ تَعَالَى رَبًّا وَمُرَبِّيًا مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَكْمَلَ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْخَلْقَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ وَهُوَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمِهِ بِالْمَعْلُومَاتِ، وَالْعِلْمُ بِالشَّيْءِ يَصِحُّ تَقَدُّمُهُ عَلَى وُجُودِ الْمَعْلُومِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْلَمَ الشَّيْءَ قَبْلَ/ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ. أَمَّا إِيجَادُ الشَّيْءِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا حَالَ وُجُودِ الْأَثَرِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِنَا أَنَّ الْقُدْرَةَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي وُجُودِ الْمَقْدُورِ حَالَ وُجُودِ الْمَقْدُورِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِهَا قبل وجودها، وقال: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَكُونُ فَاطِرًا لَهَا وَمُوجِدًا لَهَا عِنْدَ وُجُودِهَا.
474
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ احْمَدُوا اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا جَاءَ عَلَى صِيغَةِ الْخَبَرِ لِفَوَائِدَ: إِحْدَاهَا: أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ يُفِيدُ تَعْلِيمَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَلَوْ قَالَ: احْمَدُوا لَمْ يَحْصُلْ مَجْمُوعُ هَاتَيْنِ الْفَائِدَتَيْنِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى مُسْتَحِقُّ الْحَمْدِ سَوَاءٌ حَمِدَهُ حَامِدٌ أَوْ لَمْ يَحْمَدْهُ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ ذِكْرُ الْحُجَّةِ فَذِكْرُهُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ أَوْلَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ مَعْنَاهُ قُولُوا الْحَمْدُ للَّه. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ تَعْلِيمُ الْعِبَادِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ إِلَّا بِالْعِبَادِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْحَمْدِ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّ الْحَمْدَ لَا يَحْسُنُ إِلَّا عَلَى الْإِنْعَامِ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ هَذَا الْأَمْرُ حَامِلًا لِلْمُكَلَّفِ عَلَى أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي أَقْسَامِ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ النِّعَمَ يُسْتَدَلُّ بِذِكْرِهَا عَلَى مَقْصُودَيْنِ شَرِيفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ قَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحْدِثٍ وَمُحَصِّلٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ الْعَبْدَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُرِيدُ تَحْصِيلَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ النِّعَمِ لِنَفْسِهِ، فَلَوْ كَانَ حُصُولُ النِّعَمِ لِلْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ وَاصِلًا إِلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ النِّعَمِ إِذْ لَا أَحَدَ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ تَحْصِيلَ كُلِّ النِّعَمِ لِنَفْسِهِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِحُدُوثِ هَذِهِ النِّعَمِ مِنْ مُحْدِثٍ وَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُحْدِثَ لَيْسَ هُوَ الْعَبْدَ، فَوَجَبَ الْإِقْرَارُ بِمُحْدِثٍ قَاهِرٍ قَادِرٍ، وَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ مَقَاصِدِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ الْقُلُوبَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا فَإِذَا أَمَرَ اللَّه تَعَالَى الْعَبْدَ بِالتَّحْمِيدِ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِالتَّحْمِيدِ مِمَّا يَحْمِلُهُ عَلَى تَذَكُّرِ أَنْوَاعِ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى، صَارَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ حَامِلًا لِلْعَبْدِ عَلَى تَذَكُّرِ أَنْوَاعِ نِعَمِ اللَّه عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ النِّعَمُ كَثِيرَةً خَارِجَةً عَنِ الْحَدِّ وَالْإِحْصَاءِ، صَارَ تَذَكُّرُ تِلْكَ النِّعَمِ مُوجِبَةً رُسُوخَ حُبِّ اللَّه تَعَالَى فِي قَلْبِ الْعَبْدِ. فَثَبَتَ أَنَّ تَذْكِيرَ النِّعَمِ يُفِيدُ هَاتَيْنِ الْفَائِدَتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: الِاسْتِدْلَالُ بِحُدُوثِهَا عَنِ الْإِقْرَارِ بِوُجُودِ اللَّه تَعَالَى. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الشُّعُورَ بِكَوْنِهَا نِعَمًا يُوجِبُ ظُهُورَ حُبِّ اللَّه فِي الْقَلْبِ، وَلَا مَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ إِلَّا هَذَانِ الْأَمْرَانِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، لِأَنَّ الْعَالَمَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى، وَمَا سِوَى اللَّه إِمَّا جِسْمٌ أَوْ حَالٌّ فِيهِ أَوْ لَا جِسْمٌ وَلَا حَالٌّ فِيهِ، وَهُوَ الْأَرْوَاحُ. ثُمَّ الْأَجْسَامُ إِمَّا فَلَكِيَّةٌ، وَإِمَّا عُنْصُرِيَّةٌ. أَمَّا الْفَلَكِيَّاتُ فَأَوَّلُهَا الْعَرْشُ الْمَجِيدُ، ثُمَّ الْكُرْسِيُّ الرَّفِيعُ. وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْعَرْشَ مَا هُوَ، وَأَنَّ الْكُرْسِيَّ مَا هُوَ، وَأَنْ يَعْرِفَ صِفَاتِهِمَا وَأَحْوَالَهُمَا، ثُمَّ يَتَأَمَّلَ أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، وَالْقَلَمَ وَالرَّفْرَفَ، وَالْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، وَسِدْرَةَ الْمُنْتَهَى مَا هِيَ، وَأَنْ يَعْرِفَ حَقَائِقَهَا، ثُمَّ يتفكر في طبقات السموات وَكَيْفِيَّةِ اتِّسَاعِهَا وَأَجْرَامِهَا وَأَبْعَادِهَا، ثُمَّ يَتَأَمَّلَ فِي الْكَوَاكِبِ الثَّابِتَةِ وَالسَّيَّارَةِ، ثُمَّ يَتَأَمَّلَ فِي عَالَمِ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ وَالْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ، ثُمَّ يَتَأَمَّلَ فِي كَيْفِيَّةِ حِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى فِي خَلْقِهِ الْأَشْيَاءَ الْحَقِيرَةَ وَالضَّعِيفَةَ كَالْبَقِّ وَالْبَعُوضِ، ثُمَّ يَنْتَقِلَ مِنْهَا إِلَى مَعْرِفَةِ أَجْنَاسِ الْأَعْرَاضِ وَأَنْوَاعِهَا الْقَرِيبَةِ وَالْبَعِيدَةِ، وَكَيْفِيَّةِ الْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهَا، ثُمَّ يَنْتَقِلَ مِنْهَا إِلَى تَعَرُّفِ مَرَاتِبِ الْأَرْوَاحِ السُّفْلِيَّةِ وَالْعُلْوِيَّةِ وَالْعَرْشِيَّةِ وَالْفَلَكِيَّةِ، وَمَرَاتِبِ الْأَرْوَاحِ الْمُقَدَّسَةِ عَنْ عَلَائِقِ الْأَجْسَامِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٩] فَإِذَا اسْتَحْضَرَ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِقَدْرِ الْقُدْرَةِ وَالطَّاقَةِ، فَقَدْ حَضَرَ فِي عَقْلِهِ ذَرَّةٌ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعَالَمِ، وَهُوَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ عِنْدَ هَذَا يَعْرِفُ أَنَّ كُلَّ مَا
475
حَصَلَ لَهَا مِنَ الْوُجُودِ وَكَمَالَاتِ الْوُجُودِ فِي ذَوَاتِهَا مِنْ صِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا وَعَلَائِقِهَا، فَمِنْ إِيجَادِ الْحَقِّ وَمِنْ جُودِهِ وَوُجُودِهِ، فَعِنْدَ هَذَا يَعْرِفُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ذَرَّةً، وَهَذَا بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَكَلَامٌ لَا آخِرَ لَهُ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّا وَإِنْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أُجْرِيَ مَجْرَى قَوْلِهِ قُولُوا: الْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ فَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْعَبْدِ فَلِهَذَا السَّبَبِ افْتَقَرْنَا هُنَاكَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ. أَمَّا هَذِهِ السُّورَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ ثَنَاءَ اللَّه تَعَالَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا يَدُلُّ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الشبيه في اللذات وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ جَارٍ مَجْرَى مَدْحِ النَّفْسِ وَذَلِكَ قَبِيحٌ فِي الشَّاهِدِ، فَلَمَّا أَمَرَنَا بِذَلِكَ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قِيَاسُ الْحَقِّ عَلَى الْخَلْقِ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا قَبِيحٌ مِنَ الْخَلْقِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقْبُحُ مِنَ الْحَقِّ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ كُلُّ مَا يَقْبُحُ مِنَ الْخَلْقِ وَجَبَ أَنْ يَقْبُحَ مِنَ الْحَقِّ. وَبِهَذَا الطَّرِيقِ وَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ كَلِمَاتُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ مَا قَبُحَ مِنَّا وَجَبَ أَنْ يَقْبُحَ مِنَ اللَّه.
إِذَا عَرَفْتَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّ أَفْعَالَهُ لَا تُشْبِهُ أَفْعَالَ الْخَلْقِ، فَكَذَلِكَ صِفَاتُهُ لَا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْخَلْقِ، وَذَاتُهُ لَا تُشْبِهُ ذَوَاتَ الْخَلْقِ، وَعِنْدَ هَذَا يَحْصُلُ التَّنْزِيهُ الْمُطْلَقُ وَالتَّقْدِيسُ الْكَامِلُ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى/ مُشَابِهًا لِغَيْرِهِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، فَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ وَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا شَبِيهَ لَهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: فِي السُّؤَالَاتِ الْمُتَوَجِّهَةِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِنَّ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ جَارٍ مَجْرَى مَا يُقَالُ: جَاءَنِي الرَّجُلُ الْفَقِيهُ. فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ رَجُلٍ آخَرَ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ إِلَى ذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ حَاجَةٌ كذا هاهنا قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يوهم أن هناك إلها لم يخلق السموات وَالْأَرْضَ، وَإِلَّا فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ (اللَّه) جَارٍ مجرى اسم العلم. فإذا ذكر الوصف لا سم الْعَلَمِ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْوَصْفِ التَّمْيِيزَ، بَلْ تَعْرِيفَ كَوْنِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُسَمَّى، مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَةِ. مِثَالُهُ إِذَا قُلْنَا الرَّجُلُ الْعَالِمُ، فَقَوْلُنَا: الرَّجُلُ اسْمُ الْمَاهِيَّةِ، وَالْمَاهِيَّةُ تَتَنَاوَلُ الأشخاص المذكورين الكثيرين. فكان المقصود هاهنا مِنْ ذِكْرِ الْوَصْفِ تَمْيِيزَ هَذَا الرَّجُلِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ عَنْ سَائِرِ الرِّجَالِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: زَيْدٌ الْعَالِمُ، فَلَفْظُ زَيْدٌ اسْمُ عَلَمٍ، وَهُوَ لَا يُفِيدُ إِلَّا هَذِهِ الذَّاتَ الْمُعَيَّنَةَ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْلَامِ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْإِشَارَاتِ. فَإِذَا وَصَفْنَاهُ بِالْعِلْمِيَّةِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَمْيِيزَ ذَلِكَ الشَّخْصِ عَنْ غَيْرِهِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَعْرِيفُ كَوْنِ ذَلِكَ الْمُسَمَّى مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ (اللَّه) مِنْ بَابِ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ، لَا جَرَمَ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ واللَّه أَعْلَمُ.
476
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ قَدَّمَ ذِكْرَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ التَّنْزِيلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ مُقَدَّمٌ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ؟
وَالْجَوَابُ: السَّمَاءُ كَالدَّائِرَةِ، وَالْأَرْضُ كَالْمَرْكَزِ، وَحُصُولُ الدَّائِرَةِ يُوجِبُ تَعَيُّنَ الْمَرْكَزِ وَلَا يَنْعَكِسُ، فَإِنَّ حُصُولَ الْمَرْكَزِ لَا يُوجِبُ تَعَيُّنَ الدَّائِرَةِ لِإِمْكَانِ أَنْ يُحِيطَ بِالْمَرْكَزِ الْوَاحِدِ دَوَائِرُ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَلَمَّا كَانَتِ السَّمَاءُ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْأَرْضِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَجَبَ تَقْدِيمُ ذِكْرِ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ ذَكَرَ السَّمَاءَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَالْأَرْضَ بِصِيغَةِ الْوَاحِدِ مَعَ أَنَّ الْأَرَضِينَ أَيْضًا كَثِيرَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطَّلَاقِ: ١٢].
وَالْجَوَابُ: أَنَّ السَّمَاءَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْفَاعِلِ وَالْأَرْضَ مَجْرَى الْقَابِلِ. فَلَوْ كَانَتِ السَّمَاءُ وَاحِدَةً لَتَشَابَهَ الْأَثَرُ، وَذَلِكَ يُخِلُّ بِمَصَالِحِ هَذَا الْعَالَمِ. أَمَّا لَوْ كَانَتْ كَثِيرَةً اخْتَلَفَتِ الِاتِّصَالَاتُ الْكَوْكَبِيَّةُ فَحَصَلَ بِسَبَبِهَا الْفُصُولُ/ الْأَرْبَعَةُ، وَسَائِرُ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَحَصَلَ بِسَبَبِ تِلْكَ الِاخْتِلَافَاتِ مَصَالِحُ هَذَا الْعَالَمِ. أَمَّا الْأَرْضُ فَهِيَ قَابِلَةٌ لِلْأَثَرِ وَالْقَابِلُ الْوَاحِدُ كَافٍ فِي الْقَبُولِ، وَأَمَّا دَلَالَةُ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى تَعَدُّدِ الْأَرَضِينَ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ فِيهَا واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ الصانع. وتقريره أن أجرام السموات وَالْأَرْضِ تَقَدَّرَتْ فِي أُمُورٍ مَخْصُوصَةٍ بِمَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ إِلَّا بِتَخْصِيصِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. أَمَّا بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ فَمِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ فَلَكٍ مَخْصُوصٍ اخْتَصَّ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الَّذِي كَانَ حَاصِلًا مِقْدَارًا أَزْيَدَ مِنْهُ أَوْ أَنْقَصَ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ فَلَكٍ بِمِقْدَارٍ مُرَكَّبٍ مِنْ أَجْزَاءٍ، وَالْجُزْءُ الدَّاخِلُ كَانَ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ خَارِجًا وَبِالْعَكْسِ. فَوُقُوعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي حَيِّزِهِ الْخَاصِّ أَمْرٌ جَائِزٌ. وَالثَّالِثُ:
أَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ جَائِزَانِ عَلَى كُلِّ الْأَجْسَامِ بِدَلِيلِ أَنَّ الطَّبِيعَةَ الْجِسْمِيَّةَ وَاحِدَةٌ. وَلَوَازِمَ الْأُمُورِ الْوَاحِدَةِ وَاحِدَةٌ. فَإِذَا صَحَّ السُّكُونُ وَالْحَرَكَةُ عَلَى بَعْضِ الْأَجْسَامِ، وَجَبَ أَنْ يَصِحَّا عَلَى كُلِّهَا. فَاخْتِصَاصُ الْجِسْمِ الْفَلَكِيِّ بِالْحَرَكَةِ دُونَ السُّكُونِ اخْتِصَاصٌ بِأَمْرٍ مُمْكِنٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ وُقُوعُهَا أَسْرَعَ مِمَّا وَقَعَ وَأَبْطَأَ مِمَّا وَقَعَ، فَاخْتِصَاصُ تِلْكَ الْحَرَكَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ مِنَ السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ اخْتِصَاصٌ بِأَمْرٍ مُمْكِنٍ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ، وَقَعَتْ مُتَوَجِّهَةً إِلَى جِهَةٍ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ وُقُوعُهَا مُتَوَجِّهَةً إِلَى سَائِرِ الْجِهَاتِ. فَاخْتِصَاصُهَا بِالْوُقُوعِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْخَاصِّ اخْتِصَاصٌ بِأَمْرٍ مُمْكِنٍ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ كُلَّ فَلَكٍ فَإِنَّهُ يُوجَدُ جِسْمٌ آخَرُ إِمَّا أَعْلَى مِنْهُ وَإِمَّا أَسْفَلَ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ وُقُوعُهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ أَمْرًا مُمْكِنًا، بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَجْسَامَ لَمَّا كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي الطَّبِيعَةِ الْجِسْمِيَّةِ، فَكُلُّ مَا صَحَّ عَلَى بَعْضِهَا صَحَّ عَلَى كُلِّهَا، فَكَانَ اخْتِصَاصُهُ بِذَلِكَ الْحَيِّزِ وَالتَّرْتِيبِ أَمْرًا مُمْكِنًا. وَالسَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ لِحَرَكَةِ كُلِّ فَلَكٍ أَوَّلًا، لِأَنَّ وُجُودَ حَرَكَةٍ لَا أَوَّلَ لَهَا مُحَالٌ. لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَرَكَةِ انْتِقَالٌ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ. وَهَذَا الِانْتِقَالُ يَقْتَضِي كَوْنَهَا مَسْبُوقَةً بِالْغَيْرِ. وَالْأَوَّلُ يُنَافِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ. فَثَبَتَ أَنَّ لِكُلِّ حَرَكَةٍ أَوَّلًا، وَاخْتِصَاصُ ابْتِدَاءِ حُدُوثِهِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ، دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ اخْتِصَاصٌ بِأَمْرٍ مُمْكِنٍ. وَالثَّامِنُ: هُوَ أَنَّ الْأَجْسَامَ، لَمَّا كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ كَانَ اتِّصَافُ بَعْضِهَا بِالْفَلَكِيَّةِ وَبَعْضِهَا بِالْعُنْصُرِيَّةِ دُونَ الْعَكْسِ، اخْتِصَاصًا بِأَمْرٍ مُمْكِنٍ. وَالتَّاسِعُ: وَهُوَ أَنَّ حَرَكَاتِهَا فِعْلٌ لِفَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَلَهَا أَوَّلٌ. بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهَا لَوْ كَانَ عِلَّةً مُوجِبَةً بِالذَّاتِ لَزِمَ مِنْ دَوَامِ تِلْكَ الْعِلَّةِ دَوَامُ آثَارِهَا، فَيَلْزَمُ
477
من دوام تلك، دَوَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَقَوِّمَةِ فِي هَذِهِ الْحَرَكَةِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُحَالًا ثَبَتَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهَا لَيْسَ عِلَّةً مُوجِبَةً بِالذَّاتِ، بَلْ/ فَاعِلًا مُخْتَارًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَجَبَ كَوْنُ ذَلِكَ الْفَاعِلِ مُتَقَدِّمًا عَلَى هَذِهِ الْحَرَكَاتِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهَا بِدَايَةٌ. الْعَاشِرُ: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ حَصَلَ خَارِجَ الْعَالَمِ خَلَاءٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنْفُسَنَا وَاقِفِينَ عَلَى طَرَفِ الْفَلَكِ الْأَعْلَى فَإِنَّا نُمَيِّزُ بَيْنَ الْجِهَةِ الَّتِي تَلِي قُدَّامَنَا وَبَيْنَ الْجِهَةِ الَّتِي تَلِي خَلْفَنَا، وَثُبُوتُ هَذَا الِامْتِيَازِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ حَصَلَ خَارِجَ الْعَالَمِ خَلَاءٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحُصُولُ هَذَا الْعَالَمِ فِي هَذَا الْحَيِّزِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ دُونَ سَائِرِ الْأَحْيَازِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ، فثبت بهذه الوجوه العشرة: أن أجرام السموات وَالْأَرَضِينَ مُخْتَلِفَةٌ بِصِفَاتٍ وَأَحْوَالٍ، فَكَانَ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ حُصُولُ أَضْدَادِهَا وَمُقَابَلَاتِهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ هَذَا الِاخْتِصَاصُ الْخَاصُّ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ وَمُقَدِّرٍ وَإِلَّا فَقَدْ تَرَجُّحِ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْخَلْقِ إِلَّا التَّقْدِيرُ. فَلَمَّا دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى حُصُولِ التَّقْدِيرِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْعَشَرَةِ، وَجَبَ حُصُولُ الْخَلْقِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْعَشَرَةِ. فَلِهَذَا الْمَعْنَى. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ واللَّه أَعْلَمُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذكر السموات وَالْأَرْضِ وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِيهَا من المنافع.
واعلم أن منافع السموات أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحِيطَ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا المجلدات، وذلك لأن السموات بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَوَالِيدِ هَذَا الْعَالَمِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَبِ وَالْأَرْضَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأُمِّ فَالْعِلَلُ الْفَاعِلَةُ سَمَاوِيَّةٌ وَالْعِلَلُ الْقَابِلَةُ أَرْضِيَّةٌ وَبِهَا يَتِمُّ أَمْرُ الْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ. وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي شَرْحِ ذلك لا سبيل له.
أَمَّا قَوْلُهُ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَفْظُ (جَعَلَ) يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى أَحْدَثَ وَأَنْشَأَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى صَيَّرَ كَقَوْلِهِ وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزُّخْرُفِ: ١٩] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْجَعْلِ أَنَّ الْخَلْقَ فِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَفِي الْجَعْلِ مَعْنَى التَّضْمِينِ وَالتَّصْيِيرِ كَإِنْشَاءِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وَتَصْيِيرِ شَيْءٍ شَيْئًا، وَمِنْهُ: قَوْلُهُ تعالى: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الأعراف: ١٨٩] وقوله وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً
[الرعد: ٣٨] وَقَوْلُهُ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: ٥] وَإِنَّمَا حسن لفظ الجعل هاهنا لِأَنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ لَمَّا تَعَاقَبَا صَارَ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنَّمَا تَوَلَّدَ مِنَ الْآخَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي لَفْظِ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا الْأَمْرَانِ الْمَحْسُوسَانِ بِحِسِّ الْبَصَرِ وَالَّذِي يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا. وَأَيْضًا هَذَانِ الْأَمْرَانِ إِذَا جُعِلَا مَقْرُونَيْنِ/ بذكر السموات وَالْأَرْضِ، فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُمَا إِلَّا هَاتَانِ الْكَيْفِيَّتَانِ الْمَحْسُوسَتَانِ وَالثَّانِي: نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ أَيْ ظُلْمَةَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ وَالنُّورُ يُرِيدُ نُورَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْيَقِينِ.
وَنُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: يَعْنِي الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، فَكَانَ قَوْلُ الْحَسَنِ كَالتَّلْخِيصِ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَوْلَى، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلِأَنَّ الظلمات والنور إذا كان ذكرهما مقرونا بالسموات وَالْأَرْضِ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْأَوْلَى حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا مَعًا. وأقول هذا مشكل لأنه حمل اللفظ عَلَى مَجَازِهِ، وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ
478
بِالِاعْتِبَارِ الْوَاحِدِ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الظُّلُمَاتِ عَلَى ذِكْرِ النُّورِ لِأَجْلِ أَنَّ الظُّلْمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ النُّورِ عَنِ الْجِسْمِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ قَبُولُ النُّورِ، وَلَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ كَيْفِيَّةٍ وُجُودِيَّةٍ مُضَادَّةٍ لِلنُّورِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا جَلَسَ إِنْسَانٌ بِقُرْبِ السِّرَاجِ، وَجَلَسَ إِنْسَانٌ آخَرُ بِالْبُعْدِ مِنْهُ، فَإِنَّ الْبَعِيدَ يَرَى الْقَرِيبَ وَيَرَى ذَلِكَ الْهَوَاءَ صَافِيًا مُضِيئًا، وَأَمَّا الْقَرِيبُ فَإِنَّهُ لَا يَرَى الْبَعِيدَ وَيَرَى ذَلِكَ الْهَوَاءَ مُظْلِمًا، فَلَوْ كَانَتِ الظُّلْمَةُ كَيْفِيَّةً وُجُودِيَّةً لَكَانَتْ حَاصِلَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الظُّلْمَةَ ليست كيفية وجودية.
وإذا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: عَدَمُ الْمُحْدَثَاتِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى وُجُودِهَا، فَالظُّلْمَةُ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التَّقْدِيرِ وَالتَّحَقُّقِ عَلَى النُّورِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا فِي اللَّفْظِ، وَمِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ مَا
يُرْوَى فِي الْأَخْبَارِ الْإِلَهِيَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ ذَكَرَ الظُّلُمَاتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَالنُّورَ بِصِيغَةِ الْوَاحِدِ؟ فَنَقُولُ: أَمَّا مَنْ حَمَلَ الظُّلُمَاتِ على الكفر والنور على الإيمان، فكلامه هاهنا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَالْبَاطِلَ كَثِيرٌ، وَأَمَّا مَنْ حَمَلَهَا عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمَحْسُوسَةِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ النُّورَ عِبَارَةٌ عَنْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ الْكَامِلَةِ الْقَوِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَقْبَلُ التَّنَاقُصَ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَتِلْكَ الْمَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ. فَلِهَذَا السَّبَبِ عَبَّرَ عَنِ الظُّلُمَاتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ التَّسْوِيَةُ. يُقَالُ: عَدَلَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إِذَا سَوَّاهُ بِهِ، وَمَعْنَى يَعْدِلُونَ يُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ عُطِفَ قَوْلُهُ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّه حَقِيقٌ بِالْحَمْدِ عَلَى كُلِّ مَا خَلَقَ لِأَنَّهُ مَا خَلَقَهُ إِلَّا نِعْمَةً ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فَيَكْفُرُونَ بِنِعْمَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ على معنى أن خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَحَدٌ سِوَاهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَعْدِلُونَ بِهِ جَمَادًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى ثُمَّ؟
قُلْنَا: الْفَائِدَةُ فِيهِ اسْتِبْعَادُ أَنْ يَعْدِلُوا بِهِ بَعْدَ وُضُوحِ آيَاتِ قدرته واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢)
[فِي قَوْلُهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ ذِكْرَ دَلِيلٍ آخَرَ مِنْ دَلَائِلَ إثبات الصانع تعالى، ويحتمل أن لا يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ ذِكْرَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْمَعَادِ وَصِحَّةِ الْحَشْرِ.
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ: أن اللَّه تعالى لما استدل بخلقه السموات وَالْأَرْضَ وَتَعَاقُبِ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ أَتْبَعَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِهِ الْإِنْسَانَ، عَلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ فَقَالَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ كَانَ مَخْلُوقًا مِنْ طِينٍ. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: هُوَ
479
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ
وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَنِيِّ ومن دم الطمث، وهما يتولدان مِنَ الدَّمِ، وَالدَّمُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، وَالْأَغْذِيَةُ إِمَّا حَيَوَانِيَّةٌ وَإِمَّا نَبَاتِيَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانِيَّةً كَانَ الْحَالُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ كَالْحَالِ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ الْإِنْسَانِ، فَبَقِيَ أَنْ تَكُونَ نَبَاتِيَّةً، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنَ الْأَغْذِيَةِ النَّبَاتِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنَ الطِّينِ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الطِّينِ. وَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هُنَا الطِّينُ قَدْ تَوَلَّدَتِ النُّطْفَةُ مِنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ تَوَلَّدَ مِنَ النُّطْفَةِ أَنْوَاعُ الْأَعْضَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الصِّفَةِ وَالصُّورَةِ وَاللَّوْنِ وَالشَّكْلِ مِثْلَ الْقَلْبِ وَالدِّمَاغِ وَالْكَبِدِ، وَأَنْوَاعُ الْأَعْضَاءِ الْبَسِيطَةِ كَالْعِظَامِ وَالْغَضَارِيفِ وَالرِّبَاطَاتِ وَالْأَوْتَارِ وَغَيْرِهَا، وَتَوَلُّدُ الصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْمَادَّةِ الْمُتَشَابِهَةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ حَكِيمٍ وَمُدَبِّرٍ رَحِيمٍ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَقْرِيرُ أَمْرِ الْمَعَادِ، فَنَقُولُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ تَخْلِيقَ بَدَنِ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا حَصَلَ، لأن الفاعل الحكيم والمقدر الرحيم، رتب حلقة هَذِهِ الْأَعْضَاءِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ بِحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَتِلْكَ الْقُدْرَةُ وَالْحِكْمَةُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مَوْتِ الْحَيَوَانِ فَيَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِعَادَتِهَا وَإِعَادَةِ الْحَيَاةِ فِيهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْمَعَادِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ قَضى أَجَلًا فَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: لَفْظُ الْقَضَاءِ قَدْ يَرِدُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْأَمْرِ. قَالَ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاءِ: ٢٣] وَبِمَعْنَى الْخَبَرِ وَالْإِعْلَامِ. قَالَ تَعَالَى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الْإِسْرَاءِ: ٤] وَبِمَعْنَى صِفَةِ الْفِعْلِ إِذَا تَمَّ. قَالَ تَعَالَى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فُصِّلَتَ: ١٢] وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ قَضَى فُلَانٌ حَاجَةَ فُلَانٍ. وَأَمَّا الْأَجَلُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِانْقِضَاءِ الْأَمَدِ، وَأَجَلُ الْإِنْسَانِ هُوَ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِانْقِضَاءِ عُمُرِهِ، وَأَجَلُ الدَّيْنِ مَحِلُّهُ لِانْقِضَاءِ التَّأْخِيرِ فِيهِ وَأَصْلُهُ مِنَ التَّأْخِيرِ يُقَالُ أَجِلَ الشَّيْءُ يَأْجِلُ أَجُولًا، وَهُوَ آجِلٌ إِذَا تَأَخَّرَ وَالْآجِلُ نَقِيضُ الْعَاجِلِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ ثُمَّ قَضى أَجَلًا مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ مَوْتَ كُلِّ وَاحِدٍ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَذَلِكَ التَّخْصِيصُ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ مَشِيئَتِهِ بِإِيقَاعِ ذَلِكَ الْمَوْتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٥].
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ فَاعْلَمْ أَنَّ صَرِيحَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ أَجَلَيْنِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِهِمَا عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ قَوْلُهُ ثُمَّ قَضى أَجَلًا الْمُرَادُ مِنْهُ آجَالُ الْمَاضِينَ مِنَ الْخَلْقِ وَقَوْلُهُ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ الْمُرَادُ مِنْهُ آجَالُ الْبَاقِينَ مِنَ الْخَلْقِ فَهُوَ خَصَّ هَذَا الْأَجَلَ. الثَّانِيَ: بِكَوْنِهِ مُسَمًّى عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْمَاضِينَ لَمَّا مَاتُوا صَارَتْ آجَالُهُمْ مَعْلُومَةً، أَمَّا الْبَاقُونَ فَهُمْ بَعْدُ لَمْ يَمُوتُوا فَلَمْ تَصِرْ آجَالُهُمْ مَعْلُومَةً، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ:
وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَجَلَ الْأَوَّلَ هُوَ أَجَلُ الْمَوْتِ وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى عِنْدَ اللَّه هُوَ أَجَلُ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ لَا آخِرَةَ لَهَا وَلَا انْقِضَاءَ وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ فِي هَذَا الْأَجَلِ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
480
وَالثَّالِثُ: الْأَجَلُ الْأَوَّلُ مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ. وَالثَّانِي: مَا بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ وَهُوَ الْبَرْزَخُ. وَالرَّابِعُ:
أَنَّ الْأَوَّلَ: هُوَ النَّوْمُ وَالثَّانِيَ: الْمَوْتُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْأَجَلَ الْأَوَّلَ مِقْدَارُ مَا انْقَضَى مِنْ عُمُرِ كُلِّ أَحَدٍ، وَالْأَجَلَ الثَّانِي: مِقْدَارُ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِ كُلِّ أَحَدٍ. وَالسَّادِسُ: وَهُوَ قَوْلُ حُكَمَاءَ الْإِسْلَامِ أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَجَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
الْآجَالُ الطَّبِيعِيَّةُ. وَالثَّانِي: الْآجَالُ الِاخْتِرَامِيَّةُ. أَمَّا الْآجَالُ الطَّبِيعِيَّةُ: فَهِيَ الَّتِي لَوْ بَقِيَ ذَلِكَ الْمِزَاجُ/ مَصُونًا مِنَ العوارض الخارجية لا لَانْتَهَتْ مُدَّةُ بَقَائِهِ إِلَى الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ، وَأَمَّا الْآجَالُ الِاخْتِرَامِيَّةُ: فَهِيَ الَّتِي تَحْصُلُ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْخَارِجِيَّةِ: كَالْغَرَقِ وَالْحَرْقِ وَلَدْغِ الْحَشَرَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْضِلَةِ، وَقَوْلُهُ مُسَمًّى عِنْدَهُ أَيْ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ أَوْ مَذْكُورٌ اسْمُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَمَعْنَى عِنْدَهُ شَبِيهٌ بِمَا يَقُولُ الرَّجُلُ فِي الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ كَذَا وَكَذَا أَيْ هَذَا اعْتِقَادِي وَقَوْلِي.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُبْتَدَأُ النَّكِرَةُ إِذَا كَانَ خَبَرُهُ ظَرْفًا وَجَبَ تَأْخِيرُهُ فَلِمَ جَازَ تَقْدِيمُهُ فِي قَوْلِهِ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ قُلْنَا: لِأَنَّهُ تَخَصَّصَ بِالصِّفَةِ فَقَارَبَ الْمَعْرِفَةَ كَقَوْلِهِ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ [الْبَقَرَةِ: ٢٢١].
وَأَمَّا قَوْلُهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ فَنَقُولُ: الْمِرْيَةُ وَالِامْتِرَاءُ هُوَ الشَّكُّ.
وَاعْلَمْ أَنَّا إِنْ قُلْنَا الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ بَعْدَ ظُهُورِ مِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ الْبَاهِرَةِ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ فِي صِحَّةِ التَّوْحِيدِ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ تَصْحِيحَ الْقَوْلِ بالمعاد فكذلك واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣]
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣)
وَاعْلَمْ أَنَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ.
قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَإِنَّ الْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ يَدُلَّانِ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْعِلْمِ وَحِينَئِذٍ يَكْمُلُ الْعِلْمُ بِالصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي حُصُولِ الْإِلَهِيَّةِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ الْمَعَادِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَكْمِيلُ ذَلِكَ الْبَيَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُنْكِرِي الْمَعَادِ إِنَّمَا أَنْكَرُوهُ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي حُدُوثِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ هُوَ امْتِزَاجُ الطَّبَائِعِ وَيُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِيهِ قَادِرًا مُخْتَارًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِالْجُزْئِيَّاتِ فَلَا يُمْكِنُهُ تَمْيِيزُ الْمُطِيعِ من العاصي، ولا تميز أَجْزَاءِ بَدَنِ زَيْدٍ عَنْ أَجْزَاءِ بَدَنِ عَمْرٍو ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ بِالْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا وَمُخْتَارًا لَا عِلَّةً مُوجِبَةً، وَأَثْبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ جَمِيعُ الشُّبُهَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْقَوْلِ بِإِنْكَارِ الْمَعَادِ، وَصِحَّةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ فَهَذَا هو الكلام في نظم الآية وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِالْمَكَانِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ مُسْتَقِرٌّ فِي السَّمَاءِ قَالُوا: وَيَتَأَكَّدُ هَذَا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ [الْمُلْكِ: ١٦] قَالُوا: وَلَا يَلْزَمُنَا أَنْ يُقَالَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي حُصُولَهُ تَعَالَى فِي الْمَكَانَيْنِ مَعًا وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّا نَقُولُ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الْعَمَلِ بِأَحَدِ الظَّاهِرَيْنَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى ظَاهِرُ قَوْلِهِ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ عَلَى ذَلِكَ الظَّاهِرِ، وَلِأَنَّ مِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ
481
قَوْلِهِ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيَقُولُ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ سَرَائِرَكُمُ الْمَوْجُودَةَ فِي الْأَرْضِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي الْأَرْضِ صِلَةً لِقَوْلِهِ سِرَّكُمْ هَذَا تمام كلامهم.
وَاعْلَمْ أَنَّا نُقِيمُ الدَّلَالَةَ أَوَّلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَامِ: ١٢] فَبَيَّنَ بِهَذِهِ الآية أن كل ما في السموات وَالْأَرْضِ فَهُوَ مِلْكٌ للَّه تَعَالَى وَمَمْلُوكٌ لَهُ، فَلَوْ كَانَ اللَّه أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي السموات لَزِمَ كَوْنُهُ مِلْكًا لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ طه لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما [طه: ٦] فَإِنْ قَالُوا قَوْلِهِ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كل ما في السموات فَهُوَ للَّه إِلَّا أَنَّ كَلِمَةَ مَا مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ لَا يَعْقِلُ فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا ذَاتُ اللَّه تَعَالَى.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشَّمْسِ: ٥- ٧] وَنَظِيرُهُ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: ٣] وَلَا شَكَّ أَنَّ المراد بكلمة ما هاهنا هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ منه أنه موجود في جميع السموات، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي سَمَاءٍ وَاحِدَةٍ. وَالثَّانِي: تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ وَالْأَوَّلُ: عَلَى قِسْمَيْنِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ مِنْهُ تَعَالَى فِي أحد السموات عين ما حصل منه في سائر السموات أَوْ غَيْرَهُ، وَالْأَوَّلُ: يَقْتَضِي حُصُولَ الْمُتَحَيِّزِ الْوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَالثَّانِي: يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى مُرَكَّبًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ وَهُوَ مُحَالٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا في السموات لَكَانَ مَحْدُودًا مُتَنَاهِيًا وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَبُولُهُ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مُمْكِنًا، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُهُ بِالْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ لِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي السموات فَهَلْ يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ عَالَمٍ آخَرَ فَوْقَ هذه السموات أَوْ لَا يَقْدِرُ، وَالثَّانِي: يُوجِبُ تَعْجِيزَهُ وَالْأَوَّلُ: يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَحَصَلَ تَحْتَ هَذَا الْعَالَمِ، وَالْقَوْمُ يُنْكِرُونَ كَوْنَهُ تَحْتَ الْعَالَمِ/ وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الْحَدِيدِ: ٤] وَقَالَ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: ١٦] وَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزُّخْرُفِ: ٨٤] وَقَالَ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ١١٥] وَكُلُّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ للَّه تَعَالَى، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَوَجَبَ التَّأْوِيلُ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْنِي وهو اللَّه في تدبير السموات وَالْأَرْضِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ فِي أَمْرِ كَذَا أَيْ فِي تَدْبِيرِهِ وَإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ اللَّهُ كَلَامٌ تَامٌّ، ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ والمعنى إله سبحانه وتعالى يعلم في السموات سَرَائِرَ الْمَلَائِكَةِ، وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سَرَائِرَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالتَّقْدِيرُ: وهو اللَّه يعلم في السموات وَفِي الْأَرْضِ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ، وَمِمَّا يُقَوِّي هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ قَوْلَنَا: وَهُوَ اللَّه نَظِيرُ قَوْلِنَا هُوَ الْفَاضِلُ الْعَالِمُ، وَكَلِمَةُ هُوَ إِنَّمَا تُذْكَرُ هاهنا لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِذَا جَعَلْنَا لَفْظَ اللَّه اسْمًا مُشْتَقًّا فَأَمَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ اسْمَ عَلَمِ شَخْصٍ قَائِمٍ مَقَامَ التَّعْيِينِ لَمْ يَصِحَّ إِدْخَالُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَعَلْنَا قَوْلَنَا: اللَّه لَفْظًا مُفِيدًا صَارَ مَعْنَاهُ وَهُوَ الْمَعْبُودُ فِي السَّمَاءِ وَفِي الْأَرْضِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ السُّؤَالُ واللَّه أَعْلَمُ.
482
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِالسِّرِّ صِفَاتُ الْقُلُوبِ وَهِيَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفُ، وَالْمُرَادُ بِالْجَهْرِ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ السِّرِّ عَلَى ذِكْرِ الْجَهْرِ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْفِعْلِ هُوَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي، فَالدَّاعِيَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ السِّرِّ هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الْمُسَمَّاةِ بِالْجَهْرِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ بِالْمَعْلُولِ، وَالْعِلَّةُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْمَعْلُولِ، وَالْمُتَقَدِّمُ بِالذَّاتِ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ فِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ الْأَفْعَالَ إِمَّا أَفْعَالُ الْقُلُوبِ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالسِّرِّ، وَإِمَّا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْجَهْرِ. فَالْأَفْعَالُ لَا تَخْرُجُ عَنِ السِّرِّ وَالْجَهْرِ فَكَانَ قَوْلُهُ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ يَقْتَضِي عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ فَاسِدٌ.
وَالْجَوَابُ: يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ مَا تَكْسِبُونَ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِهِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُكْتَسَبِ كَمَا يُقَالُ: هَذَا الْمَالُ كَسْبُ فُلَانٍ أَيْ مُكْتَسَبُهُ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى نَفْسِ الْكَسْبِ، وَإِلَّا لَزِمَ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي السُّؤَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْإِنْسَانِ مُكْتَسِبًا لِلْفِعْلِ وَالْكَسْبُ هُوَ الْفِعْلُ الْمُفْضِي إِلَى اجْتِلَابِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، وَلِهَذَا السَّبَبِ لَا يُوصَفُ فِعْلُ اللَّه بِأَنَّهُ كَسْبٌ لِكَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنْ جَلْبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ، أَوَّلًا: فِي التَّوْحِيدِ، وَثَانِيًا: فِي الْمَعَادِ، وَثَالِثًا: فِيمَا يُقَرِّرُ هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ وَبَدَأَ فِيهِ بِأَنْ بَيَّنَ كَوْنَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مُعْرِضِينَ عَنْ تَأَمُّلِ الدَّلَائِلِ، غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إِلَيْهَا وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ بَاطِلٌ. وَالتَّأَمُّلَ فِي الدَّلَائِلِ وَاجِبٌ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ذَمَّ اللَّه الْمُعْرِضِينَ عَنِ الدَّلَائِلِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ آيَةٍ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ الَّذِي يَقَعُ فِي النَّفْيِ كَقَوْلِكَ مَا أَتَانِي مِنْ أَحَدٍ وَالثَّانِيَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ لِلتَّبْعِيضِ وَالْمَعْنَى وَمَا يَظْهَرُ لَهُمْ دَلِيلٌ قَطُّ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا النَّظَرُ والاعتبار إلا كانوا عنه معرضين
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥]
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ أَحْوَالَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ، فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُمْ مُعْرِضِينَ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الْبَيِّنَاتِ، وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُمْ مُكَذِّبِينَ بِهَا وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ أَزْيَدُ مِمَّا قَبْلَهَا، لِأَنَّ الْمُعْرِضَ عَنِ الشَّيْءِ قَدْ لَا يَكُونُ مُكَذِّبًا بِهِ، بَلْ يَكُونُ غَافِلًا عَنْهُ غَيْرَ مُتَعَرِّضٍ لَهُ، فَإِذَا صَارَ مُكَذِّبًا بِهِ فَقَدْ زَادَ عَلَى الْإِعْرَاضِ، وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُمْ مُسْتَهْزِئِينَ بِهَا لِأَنَّ الْمُكَذِّبَ بِالشَّيْءِ قَدْ لَا يَبْلُغُ تَكْذِيبُهُ بِهِ إِلَى حَدِّ الِاسْتِهْزَاءِ، فَإِذَا بَلَغَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي الْإِنْكَارِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْحَقِّ فَقِيلَ إِنَّهُ الْمُعْجِزَاتُ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: انْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ وَانْفَلَقَ فِلْقَتَيْنِ فَذَهَبَتْ فِلْقَةٌ وَبَقِيَتْ فِلْقَةٌ، وَقِيلَ إِنَّهُ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ إِنَّهُ الشَّرْعُ الَّذِي أَتَى بِهِ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَحْكَامُ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ إِنَّهُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، الَّذِي يُرَغِّبُهُمْ بِهِ تَارَةً وَيُحَذِّرُهُمْ بِسَبَبِهِ أُخْرَى، وَالْأَوْلَى دُخُولُ الْكُلِّ فِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْوَعِيدُ وَالزَّجْرُ عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءِ، فيجب أن يكون المراد بالأنباء الأنباء لَا نَفْسَ الْأَنْبَاءِ بَلِ الْعَذَابُ الَّذِي أَنْبَأَ اللَّه تَعَالَى بِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص: ٨٨] وَالْحَكِيمُ إِذَا تَوَعَّدَ فَرُبَّمَا قَالَ سَتَعْرِفُ نَبَأَ هذا الأمر إذا نَزَلَ بِكَ مَا تَحْذَرُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَرَضَ بِالْخَبَرِ الَّذِي هُوَ الْوَعِيدُ حُصُولُ الْعِلْمِ/ بِالْعِقَابِ الَّذِي يَنْزِلُ فَنَفْسُ الْعِقَابِ إِذَا نَزَلَ يُحَقِّقُ ذَلِكَ الْخَبَرَ، حَتَّى تَزُولَ عَنْهُ الشُّبْهَةُ. ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَذَابَ الدُّنْيَا، وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَذَابَ الْآخِرَةِ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)
اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا مَنَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْرَاضِ وَالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ أَتْبَعَهُ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَوْعِظَةِ وَالنَّصِيحَةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَوَعَظَهُمْ بِسَائِرِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ وَفِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْقَرْنُ؟ قُلْنَا قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْقَرْنُ الْقَوْمُ الْمُقْتَرِنُونَ فِي زَمَانٍ مِنَ الدَّهْرِ فَالْمُدَّةُ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا قَوْمٌ ثُمَّ يَفْتَرِقُونَ بِالْمَوْتِ فَهِيَ قَرْنٌ، لِأَنَّ الَّذِينَ يَأْتُونَ بَعْدَهُمْ أَقْوَامٌ آخَرُونَ اقْتَرَنُوا فَهُمْ قَرْنٌ آخَرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي»
وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْأَقْرَانِ، وَلَمَّا كَانَ أَعْمَارُ النَّاسِ فِي الْأَكْثَرِ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ وَالثَّمَانِينَ لَا جَرَمَ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَرْنُ هُوَ السِّتُّونَ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ السَّبْعُونَ، وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ الثَّمَانُونَ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ لَا يَقَعُ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ فَإِذَا انْقَضَى مِنْهُمُ الْأَكْثَرُ قِيلَ قَدِ انْقَضَى الْقَرْنُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ الْقُرُونَ الْمَاضِيَةَ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ.
الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» مَكَّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ جَعَلَ لَهُ مَكَانًا وَنَحْوَهُ فِي أَرْضٍ لَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ [الْكَهْفِ: ٨٤] أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ [الْقَصَصِ: ٥٧] وَأَمَّا مَكَّنْتُهُ فِي الْأَرْضِ، فَمَعْنَاهُ أَثْبَتُّهُ فِيهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الْأَحْقَافِ: ٢٦] وَلِتَقَارُبِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمَعَ اللَّه بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَالْمَعْنَى لَمْ نُعْطِ أَهْلَ/ مَكَّةَ مِثْلَ مَا أَعْطَيْنَا عَادًا وَثَمُودَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْبَسْطَةِ فِي الْأَجْسَامِ وَالسَّعَةِ فِي الْأَمْوَالِ وَالِاسْتِظْهَارِ بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا.
وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً يُرِيدُ الْغَيْثَ وَالْمَطَرَ، فَالسَّمَاءُ مَعْنَاهُ المطر هاهنا، وَالْمِدْرَارُ الْكَثِيرُ الدَّرِّ وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ دَرَّ اللَّبَنُ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْحَالِبِ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَالْمِدْرَارُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَعْتِ السَّحَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَعْتِ الْمَطَرِ يُقَالُ سَحَابٌ مِدْرَارٌ إِذَا تَتَابَعَ أَمْطَارُهُ. وَمِفْعَالٌ يَجِيءُ فِي نَعْتٍ يُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ مِدْراراً مُتَتَابِعًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَيَسْتَوِي فِي الْمِدْرَارِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ.
وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ وَالْمُرَادُ مِنْهُ كَثْرَةُ الْبَسَاتِينِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَنَّهُمْ وَجَدُوا مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا أَكْثَرَ مِمَّا وَجَدَهُ أَهْلُ مَكَّةَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ مَزِيدِ الْعِزِّ فِي الدُّنْيَا بِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَمَعَ كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَالْبَسْطَةِ فِي الْمَالِ وَالْجِسْمِ جَرَى عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْكُفْرِ مَا سَمِعْتُمْ وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ الِاعْتِبَارَ وَالِانْتِبَاهَ مِنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ وَرَقْدَةِ الْجَهَالَةِ بَقِيَ هاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لَيْسَ فِي هَذَا الْكَلَامِ إِلَّا أَنَّهُمْ هَلَكُوا إِلَّا أَنَّ هَذَا الْهَلَاكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِمْ بَلِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَيْضًا قَدْ هَلَكُوا فَكَيْفَ يَحْسُنُ إِيرَادُ هَذَا الْكَلَامِ فِي مَعْرِضِ الزَّجْرِ عَنِ الْكُفْرِ مَعَ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ.
وَالْجَوَابُ: لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الزَّجْرَ بِمُجَرَّدِ الْمَوْتِ وَالْهَلَاكِ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ بَاعُوا الدِّينَ بِالدُّنْيَا فَفَاتَهُمْ وَبَقُوا فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ بِسَبَبِ الْحِرْمَانِ عَنِ الدِّينِ. وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُشْتَرَكٍ فِيهِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ قَالَ أَلَمْ يَرَوْا مَعَ أَنَّ الْقَوْمَ مَا كَانُوا مُقِرِّينَ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا يُخْبِرُ عَنْهُ وَهُمْ أَيْضًا مَا شَاهَدُوا وَقَائِعَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ.
وَالْجَوَابُ: أَنْ أَقَاصِيصَ الْمُتَقَدِّمِينَ مَشْهُورَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ مَا سَمِعُوا هَذِهِ الْحِكَايَاتِ وَلِمُجَرَّدِ سَمَاعِهَا يَكْفِي فِي الِاعْتِبَارِ.
وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ إِنْشَاءِ قَرْنٍ آخَرِينَ بَعْدَهُمْ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْفَائِدَةَ هِيَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَعَاظَمُهُ أَنْ يُهْلِكَهُمْ وَيُخْلِيَ بِلَادَهُمْ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْشِئَ مَكَانَهُمْ قَوْمًا آخَرِينَ يُعَمِّرُ بِهِمْ بِلَادَهُمْ كَقَوْلِهِ وَلا يَخافُ عُقْباها
[الشَّمْسِ: ١٥] واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ يَتَمَرَّدُونَ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ، فَالطَّائِفَةُ الْأُولَى الَّذِينَ بَالَغُوا فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَطَلَبِ لَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا إِلَى أَنِ اسْتَغْرَقُوا فِيهَا وَاغْتَنَمُوا وِجْدَانَهَا، فَصَارَ ذَلِكَ مَانِعًا لَهُمْ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبَيَّنَ أَنَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا ذَاهِبَةٌ وَعَذَابُ الْكُفْرِ بَاقٍ، وَلَيْسَ مِنَ الْعَقْلِ تَحَمُّلُ الْعِقَابِ الدَّائِمِ لِأَجْلِ اللَّذَّاتِ الْمُنْقَرِضَةِ الْخَسِيسَةِ، وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، عَلَى أَنَّهَا مِنْ بَابِ السِّحْرِ لَا مِنْ بَابِ الْمُعْجِزَةِ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ لَوْ أَنَّهُمْ شَاهَدُوا نُزُولَ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ دُفْعَةً وَاحِدَةً عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، بَلْ حَمَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ سِحْرٌ وَمَخْرَقَةٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي قِرْطاسٍ أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ الْكِتَابُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي صَحِيفَةٍ وَاحِدَةٍ، فَرَأَوْهُ وَلَمَسُوهُ وَشَاهَدُوهُ عِيَانًا لَطَعَنُوا فِيهِ وَقَالُوا إِنَّهُ سِحْرٌ.
فَإِنْ قِيلَ: ظُهُورُ الْكِتَابِ وَنُزُولُهُ مِنَ السَّمَاءِ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْمُعْجِزَاتِ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْمُعْجِزَاتِ لَمْ يَكُنْ إِنْكَارُهُمْ لِدَلَالَتِهِ عَلَى النُّبُوَّةِ مُنْكَرًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعْجِزَاتِ لِأَنَّ الْمَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْزَالِهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَبْلَ الْإِيمَانِ بِصِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ لَمْ تَكُنْ عِصْمَةُ الْمَلَائِكَةِ مَعْلُومَةً، وَقَبْلَ الْإِيمَانِ
بِالرُّسُلِ، لَا شَكَّ أَنَّا نُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ ذَلِكَ الْكِتَابِ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَمْ تَثْبُتْ عِصْمَتُهُمْ، وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّجْوِيزُ قَائِمًا فَقَدْ خَرَجَ نُزُولُ الْكِتَابِ مِنَ السَّمَاءِ عَنْ كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى الصِّدْقِ.
قُلْنَا: لَيْسَ الْمَقْصُودُ مَا ذَكَرْتُمْ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ بَقُوا شَاكِّينَ فِيهِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا، فَإِذَا لَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فَقَدْ يَقْوَى الْإِدْرَاكُ الْبَصْرِيُّ بِالْإِدْرَاكِ اللَّمْسِيِّ، وَبَلَغَ الْغَايَةَ فِي الظُّهُورِ وَالْقُوَّةِ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ يَبْقُونَ شَاكِّينَ فِي أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي رَأَوْهُ وَلَمَسُوهُ هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ أَمْ لَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي الْجَهَالَةِ إِلَى حَدِّ السَّفْسَطَةِ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ لَا مَا ذَكَرْتُمْ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَمْنَعَ الْعَبْدَ لُطْفًا. عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ لَآمَنَ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا لَا يُنَزِّلُ هَذَا الْكِتَابَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ أَنْزَلَهُ لَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ إِلَّا وَالْمَعْلُومُ أَنَّهُمْ لَوْ قَبِلُوهُ وَآمَنُوا بِهِ لِأَنْزَلَهُ لَا مَحَالَةَ فَثَبَتَ بِهَذَا وُجُوبُ اللُّطْفِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ:
إِنَّ قَوْلَهُ لَوْ أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِمْ هَذَا الْكِتَابَ لَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُنْزِلُهُ عَلَيْهِمْ، لَوْ لَمْ يَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَهُوَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَأَيْضًا فَلَيْسَ كُلُّ مَا فَعَلَهُ اللَّه وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ إِنْ دَلَّتْ فَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ لَا عَلَى وُجُوبِ الْوُقُوعِ واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨ الى ٩]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الثَّالِثَ مِنْ شُبَهِ مُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَوْ بَعَثَ اللَّه إِلَى الْخَلْقِ رَسُولًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّسُولُ وَاحِدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مِنْ زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ كَانَتْ عُلُومُهُمْ أَكْثَرَ، وَقُدْرَتُهُمْ أَشَدَّ، وَمَهَابَتُهُمْ أَعْظَمَ، وَامْتِيَازُهُمْ عَنِ الْخَلْقِ أَكْمَلَ، وَالشُّبُهَاتُ وَالشُّكُوكُ فِي نُبُوَّتِهِمْ وَرِسَالَتِهِمْ أَقَلَّ. وَالْحَكِيمُ إِذَا أَرَادَ تَحْصِيلَ مُهِمٍّ فَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ أَشَدَّ إِفْضَاءً إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ كَانَ أَوْلَى. فَلَمَّا كَانَ وُقُوعُ الشُّبُهَاتِ فِي نُبُوَّةِ الْمَلَائِكَةِ أَقَلَّ، وَجَبَ لَوْ بَعَثَ اللَّه رَسُولًا إِلَى الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّسُولُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَوْلُهُ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ وَمَعْنَى الْقَضَاءِ الْإِتْمَامُ وَالْإِلْزَامُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعَانِيَ الْقَضَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ هاهنا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِنْزَالَ الْمَلَكِ عَلَى الْبَشَرِ آيَةٌ بَاهِرَةٌ، فَبِتَقْدِيرِ إِنْزَالِ الْمَلَكِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فَرُبَّمَا لَمْ يُؤْمِنُوا كَمَا قَالَ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ إِلَى قَوْلِهِ مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْأَنْعَامِ: ١١١] وَإِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا وَجَبَ إِهْلَاكُهُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، فَإِنَّ سُنَّةَ اللَّه جَارِيَةٌ بِأَنَّ عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَةِ الْبَاهِرَةِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا جَاءَهُمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، فَهَهُنَا مَا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى الْمَلَكَ إِلَيْهِمْ لِئَلَّا يَسْتَحِقُّوا هَذَا الْعَذَابَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ إِذَا شَاهَدُوا الْمَلَكَ زَهَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ هَوْلِ مَا يَشْهَدُونَ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْآدَمِيَّ/ إِذَا رَأَى الْمَلَكَ فَإِمَّا أَنْ يَرَاهُ عَلَى صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَبْقَ الْآدَمِيُّ حَيًّا، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ غُشِيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَرْئِيُّ شَخْصًا عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ، وَذَلِكَ
لَا يَتَفَاوَتُ الْحَالُ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ مَلَكًا أَوْ بَشَرًا. أَلَا تَرَى أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ عَايَنُوا الْمَلَائِكَةَ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ كَأَضْيَافِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَضْيَافِ لُوطٍ، وَكَالَّذِينِ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، وَكَجِبْرِيلَ حَيْثُ تَمَثَّلَ لِمَرْيَمَ بَشَرًا سَوِيًّا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ إِنْزَالَ الْمَلَكِ آيَةٌ بَاهِرَةٌ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْإِلْجَاءِ، وَإِزَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَذَلِكَ مُخِلٌّ بِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ إِنْزَالَ الْمَلَكِ وَإِنْ كَانَ يَدْفَعُ الشُّبُهَاتِ الْمَذْكُورَةَ إِلَّا أَنَّهُ يُقَوِّي الشُّبُهَاتِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَيَّ مُعْجِزَةٍ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ قَالُوا هَذَا فِعْلُكَ فَعَلْتَهُ بِاخْتِيَارِكَ وَقُدْرَتِكَ، وَلَوْ حَصَلَ لَنَا مِثْلُ مَا حَصَلَ لَكَ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْعِلْمِ لَفَعَلْنَا مِثْلَ مَا فَعَلْتَهُ أَنْتَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ إِنْزَالَ الْمَلَكِ وَإِنْ كَانَ يَدْفَعُ الشُّبْهَةَ مِنَ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ لَكِنَّهُ يُقَوِّي الشُّبْهَةَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ فَالْفَائِدَةُ فِي كَلِمَةِ ثُمَّ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْإِنْظَارِ أَشَدُّ مِنْ قَضَاءِ الْأَمْرِ، لِأَنَّ مُفَاجَأَةَ الشِّدَّةِ أَشَدُّ مِنْ نَفْسِ الشِّدَّةِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَوْلُهُ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أَيْ لَجَعَلْنَاهُ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ. وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْجِنْسَ إِلَى الْجِنْسِ أَمَيْلُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْبَشَرَ لَا يُطِيقُ رُؤْيَةَ الْمَلَكِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ طَاعَاتِ الْمَلَائِكَةِ قَوِيَّةٌ فَيَسْتَحْقِرُونَ طَاعَةَ الْبَشَرِ، وَرُبَّمَا لَا يَعْذُرُونَهُمْ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعَاصِي.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ النُّبُوَّةَ فَضْلٌ مِنَ اللَّه فَيَخْتَصُّ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَلَكًا أَوْ بَشَرًا.
ثُمَّ قَالَ: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ لَبَسْتُ الْأَمْرَ عَلَى الْقَوْمِ أَلْبِسُهُ لَبْسًا إِذَا شَبَّهْتَهُ عَلَيْهِمْ وَجَعَلْتَهُ مُشْكِلًا، وَأَصْلُهُ مِنَ التَّسَتُّرِ بِالثَّوْبِ، وَمِنْهُ لَبِسَ الثَّوْبَ لِأَنَّهُ يُفِيدُ سَتْرَ النَّفْسِ وَالْمَعْنَى أَنَّا إِذَا جَعَلْنَا الْمَلَكَ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ فَهُمْ يَظُنُّونَ كَوْنَ ذَلِكَ الْمَلَكِ بَشَرًا فَيَعُودُ سُؤَالُهُمْ أَنَّا لَا نَرْضَى بِرِسَالَةِ هَذَا الشَّخْصِ.
وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ اللَّه لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَصَارَ فِعْلُ اللَّه نَظِيرًا لِفِعْلِهِمْ فِي التَّلْبِيسِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ تَلْبِيسًا لِأَنَّ النَّاسَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بَشَرٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ فِعْلُهُمْ تَلْبِيسًا لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِقَوْمِهِمْ إِنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَالْبَشَرُ لَا يَكُونُ رَسُولًا مِنْ عند اللَّه تعالى.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)
اعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ رَسُولَ اللَّه يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَانُوا يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَكَانَ يَضِيقُ قَلْبُ الرَّسُولِ عِنْدَ سَمَاعِهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِيَصِيرَ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ عَنِ القلب لأن أحدا مَا يُخَفِّفُ عَنِ الْقَلْبِ الْمُشَارَكَةُ فِي سَبَبِ الْمِحْنَةِ وَالْغَمِّ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ إِنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْكَثِيرَةَ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ الَّتِي يُعَامِلُونَكَ بِهَا قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي سَائِرِ الْقُرُونِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، فَلَسْتَ أَنْتَ فَرِيدًا فِي هَذَا الطَّرِيقِ.
وَقَوْلُهُ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ الْآيَةَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فَاطِرٍ: ٤٣] وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ لِأَهْلِ اللُّغَةِ وَهِيَ بِأَسْرِهَا مُتَقَارِبَةٌ. قَالَ النَّضْرُ: وَجَبَ عَلَيْهِمْ. قَالَ اللَّيْثُ (الْحَيْقُ) مَا حَاقَ بِالْإِنْسَانِ مِنْ مَكْرٍ أَوْ سُوءٍ يَعْمَلُهُ فَنَزَلَ ذَلِكَ بِهِ، يَقُولُ أَحَاقَ اللَّه بِهِمْ مَكْرَهُمْ وَحَاقَ بهم مكرهم، وقال الفرّاء (حاق بهم) عاد عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ (حَاقَ بِهِمْ) حَلَّ بِهِمْ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ «حَاقَ» أَيْ أَحَاطَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: فَسَّرَ الزَّجَّاجُ (حَاقَ) بِمَعْنَى أَحَاطَ وَكَانَ مَأْخَذُهُ مِنَ الْحَوْقِ وَهُوَ مَا اسْتَدَارَ بِالْكَمَرَةِ. وَفِي الْآيَةِ بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ (مَا) في قوله ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالشَّرْعُ وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَتَصِيرُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَالتَّقْدِيرُ فَحَاقَ بِهِمْ عقاب ما كانوا به يستهزؤن.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يستهزؤن بِالْعَذَابِ الَّذِي كَانَ يُخَوِّفُهُمُ الرَّسُولُ بِنُزُولِهِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا صَبَّرَ رَسُولَهُ بِالْآيَةِ الْأُولَى، فَكَذَلِكَ حَذَّرَ الْقَوْمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ لِرَسُولِهِ قُلْ لَهُمْ لَا تَغْتَرُّوا بِمَا وَجَدْتُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا وَوَصَلْتُمْ إِلَيْهِ مِنْ لَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا، بَلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ لِتَعْرِفُوا صِحَّةَ مَا أَخْبَرَكُمُ الرَّسُولُ عَنْهُ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَى الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فِي الْأَزْمِنَةِ السَّالِفَةِ، فَإِنَّكُمْ عِنْدَ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّفَرِ فِي الْبِلَادِ لَا بُدَّ وَأَنْ تُشَاهِدُوا تِلْكَ الْآثَارَ، فَيَكْمُلَ الِاعْتِبَارُ، وَيَقْوَى الِاسْتِبْصَارُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ فَانْظُروا [آل عمران: ١٣٧] وَبَيْنَ قَوْلِهِ ثُمَّ انْظُرُوا.
قُلْنَا: قَوْلُهُ فَانْظُروا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ النَّظَرَ سَبَبًا عَنِ السَّيْرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: سِيرُوا لِأَجْلِ النَّظَرِ وَلَا تَسِيرُوا سَيْرَ الْغَافِلِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا فَمَعْنَاهُ إِبَاحَةُ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَإِيجَابُ النَّظَرِ فِي آثَارِ الْهَالِكِينَ، ثُمَّ نَبَّهَ اللَّه تَعَالَى عَلَى هَذَا الْفَرْقِ بِكَلِمَةِ (ثُمَّ) لِتَبَاعُدِ ما بين الواجب والمباح.
واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢]
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ تَقْرِيرُ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَتَقْرِيرُ الْمَعَادِ وَتَقْرِيرُ النُّبُوَّةِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ أَحْوَالَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَجْسَامِ مَوْصُوفَةٌ بِصِفَاتٍ كَانَ يَجُوزُ عَلَيْهَا اتِّصَافُهَا بِأَضْدَادِهَا وَمُقَابَلَاتِهَا، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ، فَاخْتِصَاصُ كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْجُسْمَانِيَّةِ بِصِفَتِهِ الْمُعَيَّنَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ أَنَّ الصَّانِعَ الْحَكِيمَ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ خَصَّهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ مَعَ كُلِّ مَا فِيهِ مَمْلُوكٌ للَّه تَعَالَى.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، ثَبَتَ كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، لِأَنَّ التَّرْكِيبَ الْأَوَّلَ إِنَّمَا حَصَلَ لِكَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ يَمْتَنِعُ زَوَالُهُمَا، فَوَجَبَ صِحَّةُ الْإِعَادَةِ ثَانِيًا. وَأَيْضًا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَلِكٌ مُطَاعٌ، وَالْمَلِكُ الْمُطَاعُ مَنْ لَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى عَبِيدِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُبَلِّغٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْثَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مِنَ اللَّه تَعَالَى إِلَى الْخَلْقِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ. فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَافِيَةٌ بِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ الثَّلَاثَةِ. وَلَمَّا سَبَقَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ، ذَكَرَ اللَّه بَعْدَهَا هَذِهِ الْآيَةَ لِتَكُونَ مُقَرِّرَةً لِمَجْمُوعِ تِلْكَ الْمَطَالِبِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ سُؤَالٌ. وَقَوْلُهُ قُلْ لِلَّهِ جَوَابٌ فَقَدْ أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِالسُّؤَالِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالْجَوَابِ ثَانِيًا. وَهَذَا، إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ الْجَوَابُ قَدْ بَلَغَ فِي
488
الظُّهُورِ إِلَى حَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِنْكَارِهِ مُنْكِرٌ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ دَافِعٌ. وَلَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ آثَارَ الْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ ظَاهِرَةٌ فِي ذَوَاتِ جَمِيعِ الْأَجْسَامِ وَفِي جَمِيعِ صِفَاتِهَا، لَا جَرَمَ كَانَ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهَا بِأَسْرِهَا مِلْكٌ للَّه تَعَالَى وَمِلْكٌ لَهُ وَمَحِلُّ تَصَرُّفِهِ وَقُدْرَتِهِ لَا جَرَمَ أَمَرَهُ بِالسُّؤَالِ أَوَّلًا/ ثُمَّ بِالْجَوَابِ ثَانِيًا، لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ الْبَتَّةَ. وَأَيْضًا فَالْقَوْمُ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ كُلَّ الْعَالَمِ مُلْكٌ للَّه، وَمِلْكُهُ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَقَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: ٢٥] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِهَذَا الطَّرِيقِ كَمَالَ إِلَهِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَنَفَاذَ تَصَرُّفِهِ فِي عَالَمِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْكُلِّيَّةِ، أَرْدَفَهُ بِكَمَالِ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى الْخَلْقِ فَقَالَ: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَرْضَ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنْ لَا ينعم ولا بأن يَعِدَ بِالْإِنْعَامِ، بَلْ أَبَدًا يُنْعِمُ وَأَبَدًا يُعِدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْإِنْعَامِ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ وَأَوْجَبَهُ إِيجَابَ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تِلْكَ الرَّحْمَةُ هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى يُمْهِلُهُمْ مُدَّةَ عُمُرِهِمْ وَيَرْفَعُ عَنْهُمْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالَ وَلَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لِمَنْ تَرَكَ التَّكْذِيبَ بِالرُّسُلِ وَتَابَ وَأَنَابَ وَصَدَّقَهُمْ وَقَبِلَ شَرِيعَتَهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ الْكَثِيرَةُ فِي سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا فَرَغَ اللَّه مِنَ الْخَلْقِ كَتَبَ كِتَابًا أَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي».
فَإِنْ قِيلَ: الرَّحْمَةُ هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ، وَالْغَضَبُ هُوَ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْخَبَرِ يَقْتَضِي كَوْنَ إِحْدَى الْإِرَادَتَيْنِ سَابِقَةً عَلَى الْأُخْرَى، وَالْمَسْبُوقُ بِالْغَيْرِ مُحْدَثٌ، فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ إِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى مُحْدَثَةً.
قُلْنَا: الْمُرَادُ بِهَذَا السَّبْقِ سَبْقُ الْكَثْرَةِ لَا سَبْقُ الزَّمَانِ. وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ مَلْءُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَعِنْدَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ رَحْمَةً، وَقَسَّمَ رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْخَلَائِقِ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَيَتَرَاحَمُونَ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ الْأَمْرِ قَصَرَهَا عَلَى الْمُتَّقِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: «اللَّامُ» فِي قَوْلِهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ لَامُ قَسَمٍ مُضْمَرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: واللَّه لَيَجْمَعَنَّكُمْ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُبْتَدَأٌ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَمَالَ إِلَهِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَرْحَمُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْإِمْهَالِ وَدَفْعِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجْمَعُهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَوْلُهُ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ يُمْهِلُهُمْ وَقَوْلُهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أَنَّهُ لَا يُمْهِلُهُمْ بَلْ يَحْشُرُهُمْ وَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى كُلِّ مَا فَعَلُوا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَالتَّقْدِيرُ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. وَكَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا تِلْكَ الرَّحْمَةُ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْلَا خَوْفُ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَحَصَلَ الْهَرَجُ وَالْمَرَجُ وَلَارْتَفَعَ الضَّبْطُ وَكَثُرَ الْخَبْطُ، فَصَارَ التَّهْدِيدُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ فِي الدُّنْيَا، فَكَانَ قَوْلُهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.
489
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلِهِ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَلَامٌ وَرَدَ عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ. وَقَوْلُهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كَلَامٌ وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الْمُخَاطَبَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ فِي التَّهْدِيدِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَّا علمتم أن كل ما في السموات وَالْأَرْضِ للَّه وَمِلْكُهُ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْمَلِكَ الْحَكِيمَ لَا يُهْمِلُ أَمْرَ رَعِيَّتِهِ وَلَا يَجُوزُ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي وَبَيْنَ الْمُشْتَغِلِ بِالْخِدْمَةِ وَالْمُعْرِضِ عَنْهَا، فَهَلَّا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ يُقِيمُ الْقِيَامَةَ وَيُحْضِرُ الْخَلَائِقَ وَيُحَاسِبُهُمْ فِي الكل؟
البحث الرابع: أن كلمة «إلى» في قوله إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فِيهَا أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا صِلَةٌ وَالتَّقْدِيرُ:
لَيَجْمَعَنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: إِلى بِمَعْنَى فِي أَيْ لَيَجْمَعَنَّكُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: فِيهِ حَذْفٌ أَيْ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى الْمَحْشَرِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ يَكُونُ إِلَى الْمَكَانِ لَا إِلَى الزَّمَانِ.
وَقِيلَ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ فِي الدُّنْيَا بِخَلْقِكُمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ الَّذِينَ مَوْضِعُهُ نَصْبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ وَالْمَعْنَى لَيَجْمَعَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ، أَنَّ قَوْلَهُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَقَوْلُهُ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَبَرُهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْكُلِّ، عَلَى الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ «وَالْفَاءُ» فِي قَوْلِهِ فَهُمْ يُفِيدُ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، كَقَوْلِهِمْ: الَّذِي يُكْرِمُنِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، لِأَنَّ الدِّرْهَمَ وَجَبَ بِالْإِكْرَامِ فَكَانَ الْإِكْرَامُ شَرْطًا وَالدِّرْهَمُ جَزَاءً.
فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خُسْرَانَهُمْ سَبَبٌ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ، وَالْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ.
قُلْنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبْقَ الْقَضَاءِ بِالْخُسْرَانِ وَالْخِذْلَانِ، هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْإِيمَانِ، وذلك عين مذهب أهل السنّة.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣ الى ١٥]
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى فقال: ذكر في الآية الأولى السموات وَالْأَرْضَ، إِذْ لَا مَكَانَ سِوَاهُمَا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِذْ لَا زَمَانَ سِوَاهُمَا، فَالزَّمَانُ وَالْمَكَانُ ظَرْفَانِ لِلْمُحْدَثَاتِ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَالِكٌ لِلْمَكَانِ وَالْمَكَانِيَّاتِ، وَمَالِكٌ لِلزَّمَانِ وَالزَّمَانِيَّاتِ، وهذا بيان في غاية الجلالة.
وأقول هاهنا دَقِيقَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ الِابْتِدَاءَ وَقَعَ بِذِكْرِ الْمَكَانِ وَالْمَكَانِيَّاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الزَّمَانَ وَالزَّمَانِيَّاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَكَانَ وَالْمَكَانِيَّاتِ أَقْرَبُ إِلَى الْعُقُولِ وَالْأَفْكَارِ مِنَ الزَّمَانِ وَالزَّمَانِيَّاتِ، لِدَقَائِقَ مَذْكُورَةٍ فِي العقليات
490
الصِّرْفَةِ، وَالتَّعْلِيمُ الْكَامِلُ هُوَ الَّذِي يُبْدَأُ فِيهِ بالأظهر فالأظهر مُتَرَقِّيًا إِلَى الْأَخْفَى فَالْأَخْفَى، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِوَجْهِ النَّظْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَالتَّقْدِيرُ: هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الحق لأن كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا الْوَاحِدُ. وَمَا سِوَى ذَلِكَ الْوَاحِدِ مُمْكِنٌ. وَالْمُمْكِنُ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِإِيجَادِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مَا حَصَلَ بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ كَانَ مُلْكًا لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ الْمَوْجُودِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ فَهُوَ مُلْكُهُ وَمَالِكُهُ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ هَذَا السُّكُونِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الشَّيْءُ الَّذِي سَكَنَ بَعْدَ أَنْ تَحَرَّكَ، فَعَلَى هَذَا، الْمُرَادُ كُلُّ مَا اسْتَقَرَّ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَجُمْلَةِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ/ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: قَالُوا فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَهُ مَا سَكَنَ وَتَحَرَّكَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: ٨١] أَرَادَ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْقَرِينَةِ الْمَذْكُورَةِ، كَذَلِكَ هُنَا حَذَفَ ذِكْرَ الْحَرَكَةِ، لِأَنَّ ذِكْرَ السُّكُونِ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا السُّكُونِ مَا هُوَ ضِدُّ الْحَرَكَةِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ السُّكُونُ بِمَعْنَى الْحُلُولِ.
كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَسْكُنُ بَلَدَ كَذَا إِذَا كَانَ مَحِلُّهُ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [إِبْرَاهِيمَ: ٤٥] وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: كَانَ الْمُرَادُ، وَلَهُ كُلُّ مَا حَصَلَ في الليل والنهار. والتقدير: كل ما حصل فِي الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ سَوَاءٌ كَانَ مُتَحَرِّكًا أَوْ سَاكِنًا، وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَوْلَى وَأَكْمَلُ. وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ تَحْتَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ حَصَلَ فِي الزَّمَانِ فَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ انْقَضَى الْمَاضِي وَسَيَجِيءُ الْمُسْتَقْبَلُ، وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بِالتَّغَيُّرِ وَهُوَ الْحُدُوثُ، وَالْحُدُوثُ يُنَافِي الْأَزَلِيَّةَ وَالدَّوَامَ، فَكُلُّ مَا مَرَّ بِهِ الْوَقْتُ وَدَخَلَ تَحْتَ الزَّمَانِ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَكُلُّ حَادِثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ، وَفَاعِلُ ذَلِكَ الْفِعْلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ وَالْمُتَقَدِّمُ عَلَى الزَّمَانِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ فَلَا تَجْرِي عَلَيْهِ الْأَوْقَاتُ وَلَا تَمُرُّ بِهِ السَّاعَاتُ وَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ وَسَيَكُونُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ مَالِكٌ لِلْمَكَانِ وَجُمْلَةِ الْمَكَانِيَّاتِ وَمَالِكٌ لِلزَّمَانِ وَجُمْلَةِ الزَّمَانِيَّاتِ، بَيَّنَ أَنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَسْمَعُ نِدَاءَ الْمُحْتَاجِينَ وَيَعْلَمُ حَاجَاتِ الْمُضْطَرِّينَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ الْإِلَهُ تَعَالَى مُوجَبٌ بِالذَّاتِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِكُلِّ الْمُحْدَثَاتِ لَكِنَّهُ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ يَسْمَعُ وَيَرَى وَيَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَلَمَّا قَرَّرَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ قَالَ: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ: أَتَّخِذُ غَيْرَ اللَّه وَلِيًّا لِأَنَّ الْإِنْكَارَ إِنَّمَا حَصَلَ عَلَى اتِّخَاذِ غَيْرِ اللَّه وَلِيًّا، لَا عَلَى اتِّخَاذِ الْوَلِيِّ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ الَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ أَعْنِي فَكَانَ قَوْلُهُ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا أَوْلَى مِنَ الْعِبَارَةِ الثَّانِيَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزُّمَرِ: ٦٤] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يُونُسَ: ٥٩].
ثم قال: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وقريء فاطِرِ السَّماواتِ بِالْجَرِّ صِفَةً للَّه وَبِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ «هُوَ» وَالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا عَرَفْتُ فاطِرِ السَّماواتِ حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا أَيِ ابْتَدَأْتُهَا وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَصْلُ الْفَطْرِ شَقُّ الشَّيْءِ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ، فَقَوْلُهُ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُرِيدُ خَالِقَهُمَا وَمُنْشِئَهُمَا بِالتَّرْكِيبِ الَّذِي سَبِيلُهُ أَنْ يَحْصُلَ فيه الشق
491
وَالتَّأْلِيفُ عِنْدَ ضَمِّ الْأَشْيَاءِ إِلَى بَعْضٍ، فَلَمَّا كان الأصل الشَّقُّ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي حَالٍ شَقَّ إِصْلَاحٍ وَفِي حَالٍ أُخْرَى شَقَّ إِفْسَادٍ. فَفَاطِرُ السموات/ مِنَ الْإِصْلَاحِ لَا غَيْرَ. وَقَوْلُهُ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: ٣] وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الِانْفِطَارِ: ١] مِنَ الْإِفْسَادِ، وَأَصْلُهُمَا وَاحِدٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ أي وهو الرازق لِغَيْرِهِ وَلَا يَرْزُقُهُ أَحَدٌ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ فَسَّرْتَ الْإِطْعَامَ بِالرِّزْقِ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٧] وَالْعَطْفُ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ.
قُلْنَا: لَا شَكَّ فِي حُصُولِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهُمَا، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَحْسُنُ جَعْلُ أَحَدِهِمَا كِنَايَةً عَنِ الْآخَرِ لِشِدَّةِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُقَارَبَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَنَافِعَ كُلَّهَا مِنْ عِنْدِهِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ. وَقُرِئَ وَلا يُطْعَمُ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَرَوَى ابْنُ الْمَأْمُونِ عَنْ يَعْقُوبَ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ عَلَى بِنَاءٍ الْأَوَّلِ لِلْمَفْعُولِ وَالثَّانِي لِلْفَاعِلِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ أَغَيْرَ اللَّهِ وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعِمُ عَلَى بِنَائِهِمَا لِلْفَاعِلِ. وَفُسِّرَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يَسْتَطْعِمُ. وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ: أَطْعَمْتُ بِمَعْنَى اسْتَطْعَمْتُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَهُوَ يُطْعِمُ تَارَةً وَلَا يُطْعِمُ أُخْرَى عَلَى حَسَبِ الْمَصَالِحِ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَبْسُطُ وَيَقْدِرُ، وَيُغْنِي وَيُفْقِرُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي صَدْرِ الْآيَةِ هُوَ الْمَنْعُ مِنَ اتِّخَاذِ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى وَلِيًّا. وَاحْتَجَّ عليه بأنه فاطر السموات وَالْأَرْضِ وَبِأَنَّهُ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ. وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ اتِّخَاذُ غَيْرِهِ وَلِيًّا. أَمَّا بيان أنه فاطر السموات وَالْأَرْضِ، فَلِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَا سِوَى الْوَاحِدِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يَقَعُ مَوْجُودًا إِلَّا بِإِيجَادِ غَيْرِهِ، فَنَتَجَ أَنَّ مَا سِوَى اللَّه فَهُوَ حَاصِلٌ بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْفَاطِرُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ فَظَاهِرَةٌ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ عِبَارَةٌ عَنْ إِيصَالِ الْمَنَافِعِ، وَعَدَمُ الِاسْتِطْعَامِ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ. وَلَمَّا كان هو المبديء تعالى وتقدس لكل ما سواه، كان لا محالة هو المبديء لحصول جميع المنافع. وَلَمَّا كَانَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ كَانَ لَا مَحَالَةَ غَنِيًّا وَمُتَعَالِيًا عَنِ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ آخَرَ فَثَبَتَ بالبرهان صحة أنه تعالى فاطر السموات وَالْأَرْضِ، وَصِحَّةُ أَنَّهُ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا امْتَنَعَ فِي الْعَقْلِ اتِّخَاذُ غَيْرِهِ وَلِيًّا لِأَنَّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ فِي ذَاتِهِ وَفِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَفِي جَمِيعِ مَا تَحْتَ يَدِهِ. وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لِذَاتِهِ الْجَوَادُ لِذَاتِهِ، وَتَرُكُ الْغَنِيِّ الْجَوَادِ، وَالذَّهَابُ إِلَى الْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ مَمْنُوعٌ عَنْهُ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَدْ سَبَقَ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَيَانُ أَنَّ الْوَلِيَّ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيُّ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْقَرِيبُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهَ الِاشْتِقَاقَاتِ فِيهِ. فَقَوْلُهُ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا يَمْنَعُ مِنَ الْقُرْبِ مِنْ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى. فَهَذَا يَقْتَضِي تَنْزِيهَ الْقَلْبِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ اللَّه تَعَالَى، وَقَطْعَ الْعَلَائِقِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَالسَّبَبُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابِقُ أُمَّتِهِ فِي الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الْأَنْعَامِ: ١٦٣] وَلِقَوْلِ مُوسَى سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَعْرَافِ: ١٤٣].
ثُمَّ قَالَ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمَعْنَاهُ أُمِرْتُ بِالْإِسْلَامِ وَنُهِيتُ عَنِ الشِّرْكِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَوْنَ
492
رَسُولِهِ مَأْمُورًا بِالْإِسْلَامِ ثُمَّ عَقِبَهُ بِكَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنِ الشِّرْكِ قَالَ بَعْدَهُ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وَالْمَقْصُودُ أَنِّي إِنْ خَالَفْتُهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ صِرْتُ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَابِ الْعَظِيمِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِ لَمَا كَانَ خَائِفًا.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، بَلِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَدَرَ عَنْهُ الْكُفْرُ وَالْمَعْصِيَةُ فَإِنَّهُ يَخَافُ. وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْخَوْفِ، وَمِثَالُهُ قَوْلُنَا: إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ، وهذا لا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَمْسَةَ زَوْجٌ وَلَا عَلَى كَوْنِهَا مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ واللَّه أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أَخافُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ إِنِّيَ بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْبَاقُونَ بِالْإِرْسَالِ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦]
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يُصْرَفْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ.
وفاعل الصرف على هذه القراءة والضمير الْعَائِدُ إِلَى رَبِّي مِنْ قَوْلِهِ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي [الأنعام: ١٥] وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ يَصْرِفُ هُوَ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ الْعَذَابَ. وَحُجَّةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ فَقَدْ رَحِمَهُ فَلَمَّا كَانَ هَذَا فِعْلًا مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ اللَّه تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي تِلْكَ اللَّفْظَةِ الْأُخْرَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِيَتَّفِقَ الفعلان، وعلى هذا التقدير: صَرْفُ الْعَذَابِ مُسْنَدًا إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَتَكُونُ الرَّحْمَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْنَدَةً إِلَى اللَّه تَعَالَى، وأما الباقون فإنهم قرءوا مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالتَّقْدِيرُ مَنْ يُصْرَفُ عَنْهُ عَذَابُ يَوْمِئِذٍ وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْعَذَابَ إِلَى الْيَوْمِ فِي قَوْلِهِ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام: ١٥] فَلِذَلِكَ أَضَافَ الصَّرْفَ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ يُصْرَفُ عَنْهُ عَذَابُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي كَوْنَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَصْرُوفًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، بَلِ الْمُرَادُ عَذَابُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَحَسُنَ هَذَا الْحَذْفُ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ لَا تُوجِبُ الثَّوَابَ، وَالْمَعْصِيَةَ لَا تُوجِبُ الْعِقَابَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ أَيْ كُلُّ مَنْ صَرَفَ اللَّه عَنْهُ الْعَذَابَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَدْ رَحِمَهُ. وَهَذَا إِنَّمَا يَحْسُنُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الصَّرْفُ وَاقِعًا عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ أَمَّا لَوْ كَانَ وَاجِبًا مُسْتَحَقًّا لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إِنَّهُ رَحِمَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي يَقْبُحُ مِنْهُ أَنْ يَضْرِبَ الْعَبْدَ، فَإِذَا لَمْ يَضْرِبْهُ لَا يُقَالُ إِنَّهُ رَحِمَهُ. أَمَّا إِذَا حَسُنَ مِنْهُ أَنْ يَضْرِبَهُ وَلَمْ يَضْرِبْهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ رَحِمَهُ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عِقَابٍ انْصَرَفَ وَكُلَّ ثَوَابٍ حَصَلَ، فَهُوَ ابْتِدَاءً فَضْلٌ وَإِحْسَانٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا
يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّه قَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّه بِرَحْمَتِهِ»
وَوَضَعَ يَدَهُ فَوْقَ رَأْسِهِ، وَطَوَّلَ بِهَا صَوْتَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُعَاقَبْ فِي الْآخِرَةِ مِمَّنْ يُصْرَفُ عَنْهُ الْعِقَابُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُثَابَ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ فِيمَنْ يُصْرَفُ عَنْهُ الْعِقَابُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ مَنْ لَا يُثَابُ، لَكِنَّهُ يَتَفَضَّلُ عليه.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ مَنْ لَمْ يُعَاقِبْهُ اللَّه تَعَالَى وَيَتَفَضَّلْ عَلَيْهِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَذَلِكَ يُبْطِلُ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِكُمْ؟
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ مَدْفُوعٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّفَضُّلَ يَكُونُ كَالِابْتِدَاءِ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى، وَلَيْسَ يَكُونُ ذَلِكَ مَطْلُوبًا مِنَ الْفِعْلِ وَالْفَوْزُ هُوَ الظَّفَرُ بِالْمَطْلُوبِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُفِيدَ أَمْرًا مَطْلُوبًا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَوْزَ الْمُبِينَ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى التَّفَضُّلِ بَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَقْتَضِي مُبَالَغَةً فِي عِظَمِ النِّعْمَةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا ثَوَابًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْآيَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام: ١٥] وَالْمُقَابِلُ لِلْعَذَابِ هُوَ الثَّوَابُ، فَيَجِبُ حَمْلُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ عَلَى الثَّوَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ ضَعِيفٌ جِدًّا وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إلى الاستقصاء واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٧]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَّخِذَ غَيْرَ اللَّه وَلِيًّا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الضُّرَّ اسْمٌ لِلْأَلَمِ وَالْحُزْنِ وَالْخَوْفِ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهَا أَوْ إِلَى أَحَدِهَا. وَالنَّفْعُ اسْمٌ لِلَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِمَا أَوْ إِلَى أَحَدِهِمَا. وَالْخَيْرُ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ دَفْعِ الضُّرِّ وَبَيْنَ حُصُولِ النَّفْعِ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ الْحَصْرُ فِي أَنَّ الْإِنْسَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الضُّرِّ أَوْ فِي الْخَيْرِ لِأَنَّ زَوَالَ الضُّرِّ خَيْرٌ سَوَاءٌ حَصَلَ فِيهِ اللَّذَّةُ أَوْ لَمْ تَحْصُلْ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحَصْرُ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الْمَضَارَّ قَلِيلَهَا وَكَثِيرَهَا لَا يَنْدَفِعُ إِلَّا باللَّه، وَالْخَيْرَاتُ لَا يَحْصُلُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا إِلَّا باللَّه. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ أَمَّا الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ فَوَاحِدٌ فَيَكُونُ كُلُّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِإِيجَادِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَكُلُّ مَا سِوَى الْحَقِّ فَهُوَ إِنَّمَا حَصَلَ بِإِيجَادِ الْحَقِّ وَتَكْوِينِهِ فَثَبَتَ أَنَّ انْدِفَاعَ جَمِيعِ الْمَضَارِّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهِ، وَحُصُولَ جَمِيعِ الْخَيِّرَاتِ وَالْمَنَافِعِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ الْبَيِّنِ صِحَّةُ مَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ نَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَدْفَعُ الْمَضَارَّ عَنْ نَفْسِهِ بِمَالِهِ وَبِأَعْوَانِهِ وَأَنْصَارِهِ، وَقَدْ يَحْصُلُ الْخَيْرُ لَهُ بِكَسْبِ نَفْسِهِ وَبِإِعَانَةِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ. وَأَيْضًا فَرَأْسُ الْمَضَارِّ هُوَ الْكُفْرُ فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمْ يَنْدَفِعْ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّه تَعَالَى. وَرَأْسُ الْخَيْرَاتِ هُوَ الْإِيمَانُ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا بِإِيجَادِ اللَّه تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الْإِنْسَانُ بِفِعْلِ الْكُفْرِ عِقَابًا وَلَا بِفِعْلِ الْإِيمَانِ ثَوَابًا. وَأَيْضًا فَإِنَّا نَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَفِعُ بِأَكْلِ الدَّوَاءِ وَيَتَضَرَّرُ بِتَنَاوُلِ السُّمُومِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يَصْدُرُ عَنِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِذَا دَعَاهُ الدَّاعِي إِلَيْهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الدَّاعِي مُحَالٌ، وَحُصُولُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَكُونُ الْكُلُّ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ السُّؤَالَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ إِمْسَاسَ الضُّرِّ وَإِمْسَاسَ الْخَيْرِ، إِلَّا أَنَّهُ مَيَّزَ الْأَوَّلَ عَنِ الثَّانِي بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ:
أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ إِمْسَاسِ الضُّرِّ عَلَى ذِكْرِ إِمْسَاسِ الْخَيْرِ، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَضَارِّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ
عَقِيبَهَا الْخَيْرُ وَالسَّلَامَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ فِي إِمْسَاسِ الضُّرِّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَذَكَرَ فِي إِمْسَاسِ الْخَيْرِ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَذَكَرَ فِي الْخَيْرِ كَوْنَهُ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إرادة اللَّه تعالى لا يصال الخيرات غالبة على إرادته لا يصال/ الْمَضَارِّ. وَهَذِهِ الشُّبُهَاتُ بِأَسْرِهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ اللَّه تَعَالَى جَانِبَ الرَّحْمَةِ غَالِبٌ، كَمَا
قال: (سبقت رحمتي غضبي).
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٨]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَحْصُورَةٌ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ فَإِنْ قَالُوا: كَيْفَ أَهْمَلْتُمْ وُجُوبَ الْوُجُودِ.
قُلْنَا: ذَلِكَ عَيْنُ الذَّاتِ لَا صِفَةً قَائِمَةً بِالذَّاتِ لِأَنَّ الصِّفَةَ الْقَائِمَةَ بِالذَّاتِ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى الذَّاتِ وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الذَّاتِ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْغَيْرِ فَيَكُونُ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ وَاجِبًا بِغَيْرِهِ فَيَلْزَمُ حُصُولُ وُجُوبٍ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَذَلِكَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ عَيْنُ الذَّاتِ، وَثَبَتَ أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ الْكِمَالَاتُ حَقِيقَتُهَا هِيَ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ فَقَوْلُهُ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَقَوْلُهُ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْعِلْمِ. وَقَوْلُهُ وَهُوَ الْقاهِرُ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا مَوْصُوفَ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَكَمَالِ الْعِلْمِ إِلَّا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا كَامِلَ إِلَّا هُوَ، وَكُلُّ مَنْ سِوَاهُ فَهُوَ نَاقِصٌ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا دَلَالَةُ كَوْنِهِ قَاهِرًا عَلَى الْقُدْرَةِ فَلِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَا عَدَا الْحَقِّ سُبْحَانَهُ مُمْكِنٌ بِالْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يَتَرَجَّحُ وُجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ وَلَا عَدَمُهُ عَلَى وُجُودِهِ إِلَّا بِتَرْجِيحِهِ وَتَكْوِينِهِ وَإِيجَادِهِ وَإِبْدَاعِهِ فَيَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الَّذِي قَهَرَ الْمُمْكِنَاتِ تَارَةً فِي طَرَفِ تَرْجِيحِ الْوُجُودِ عَلَى الْعَدَمِ، وَتَارَةً فِي طَرَفِ تَرْجِيحِ الْعَدَمِ عَلَى الْوُجُودِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ كَوْنُهُ قَاهِرًا لَهُمْ بِالْمَوْتِ وَالْفَقْرِ وَالْإِذْلَالِ وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آلِ عِمْرَانَ: ٢٦] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وأما كونه حكيما، فلا يمكن حمله هاهنا عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّ الْخَبِيرَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعِلْمِ فيلزم التكرار أنه لَا يَجُوزُ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى كَوْنِهِ مُحْكَمًا فِي أَفْعَالِهِ بِمَعْنَى أَنَّ أَفْعَالَهُ تَكُونُ مُحْكَمَةً مُتْقَنَةً آمِنَةً مِنْ وُجُوهِ الْخَلَلِ وَالْفَسَادِ وَالْخَبِيرُ هُوَ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ الْمَرْوِيِّ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ الْعَالِمُ بِمَا يَصِحُّ أَنْ يُخْبَرَ بِهِ قَالَ: وَالْخَبَرُ عِلْمُكَ بِالشَّيْءِ تَقُولُ: لِي بِهِ خَبَرٌ أَيْ عِلْمٌ وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْعِلْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُشَبِّهَةُ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ فِي الْجِهَةِ الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْعَالَمِ وَهُوَ مَرْدُودٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فَوْقَ الْعَالَمِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصِّغَرِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ جَانِبٌ مِنْهُ مِنْ جَانِبٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَاهِبًا فِي الْأَقْطَارِ مُتَمَدِّدًا فِي الْجِهَاتِ. وَالْأَوَّلُ: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ كَالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ فَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إله العالم بعض الذرات المخلوطة بالهباءات الْوَاقِعَةِ فِي كُوَّةِ الْبَيْتِ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَإِنْ كَانَ/ الثَّانِي كَانَ مُتَبَعِّضًا مُتَجَزِّئًا، وَذَلِكَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِمَّا أن يكون غير متناه من كل الجوانب فيلزم كون ذاته مخالطا للقاذورات وهو باطل أو يكون متناهيا مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ والنقصان. وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بمقداره المعين
495
لِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ، فَيَكُونُ مُحْدَثًا أَوْ يَكُونُ مُتَنَاهِيًا مِنْ بَعْضِ الْجَوَانِبِ دُونَ الْبَعْضِ، فَيَكُونُ الْجَانِبُ الْمَوْصُوفُ بِكَوْنِهِ مُتَنَاهِيًا غَيْرَ الْجَانِبِ الْمَوْصُوفِ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَنَاهٍ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقِسْمَةَ وَالتَّجْزِئَةَ. وَالثَّالِثُ: إِمَّا أَنْ يُفَسَّرَ الْمَكَانُ بِالسَّطْحِ الْحَاوِي أَوْ بِالْبُعْدِ وَالْخَلَاءِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ أَجْسَامُ العالم متناهية فخارج العالم لا خلا ولا ملا وَلَا مَكَانَ وَلَا حَيْثُ وَلَا جِهَةَ، فَيَمْتَنِعُ حُصُولُ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى فِيهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَنَقُولُ الْخَلَاءُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ فِي حَقِيقَتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَوْ صَحَّ حُصُولُ اللَّه فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْخَلَاءِ لَصَحَّ حُصُولُهُ فِي سَائِرِ الْأَجْزَاءِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ حُصُولُهُ فِيهِ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ وَاقِعًا بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَحُصُولُ ذَاتِهِ فِي الْجُزْءِ مُحْدَثٌ. وَذَاتُهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ الْحُصُولِ وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْمُحْدَثِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَيَلْزَمُ كَوْنُ ذَاتِهِ مُحْدَثَةً وهو محال. والرابع: أَنَّ الْبُعْدَ وَالْخَلَاءَ أَمْرٌ قَابِلٌ لِلْقِسْمَةِ وَالتَّجْزِئَةِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ ومفتقر إلى الموجد ويكون موجده موجودا قَبْلَهُ فَيَكُونُ ذَاتُ اللَّه تَعَالَى قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِ الْخَلَاءِ وَالْجِهَةِ وَالْحَيْثِ وَالْحَيِّزِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا: فَبَعْدَ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ وَالْخَلَاءِ وَجَبَ أَنْ تَبْقَى ذَاتُ اللَّه تَعَالَى كَمَا كَانَتْ وَإِلَّا فَقَدَ وَقَعَ التَّغْيِيرُ فِي ذَاتِ اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ مُحَالٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْأَحْيَازِ وَالْجِهَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْعَالَمَ كُرَةٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالَّذِي يَكُونُ فوق رؤوس أَهْلِ الرَّيِّ يَكُونُ تَحْتَ أَقْدَامِ قَوْمٍ آخَرِينَ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ أَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ. أَوْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ الْكُلِّ. وَالْأَوَّلُ:
بَاطِلٌ، لِأَنَّ كَوْنَهُ فَوْقًا لِبَعْضِهِمْ يُوجِبُ كَوْنَهُ تَحْتًا لِآخَرِينَ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: يُوجِبُ كَوْنَهُ تَعَالَى مُحِيطًا بِكُرَةِ الْفَلَكِ فَيَصِيرُ حَاصِلُ الْأَمْرِ إِلَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ هُوَ فَلَكٌ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَفْلَاكِ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ.
وَالسَّادِسُ: هُوَ أَنَّ لَفْظَ الْفَوْقِيَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسْبُوقٌ بِلَفْظٍ وَمَلْحُوقٌ بِلَفْظٍ آخَرَ. أَمَّا أَنَّهَا مَسْبُوقَةٌ فَلِأَنَّهَا مَسْبُوقَةٌ بِلَفْظِ الْقَاهِرِ، وَالْقَاهِرُ مُشْعِرٌ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَتَمَامِ الْمُكْنَةِ. وَأَمَّا أَنَّهَا مَلْحُوقَةٌ بِلَفْظٍ فَلِأَنَّهَا مَلْحُوقَةٌ بِقَوْلِهِ عِبادِهِ وَهَذَا اللَّفْظُ مُشْعِرٌ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ وَالْمَقْدُورِيَّةِ، فَوَجَبَ حَمْلُ تِلْكَ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى فَوْقِيَّةِ الْقُدْرَةِ لَا عَلَى فَوْقِيَّةِ الْجِهَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى الضِّدِّ مِنْ قَوْلِكُمْ إِنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ دَلَّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ.
فَلَوْ حَمَلْنَا لَفْظَ الْفَوْقِ عَلَى فَوْقِيَّةِ الْقُدْرَةِ لَزِمَ التَّكْرَارُ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى فَوْقِيَّةِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ.
قُلْنَا: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ لِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ الذَّاتُ مَوْصُوفَةً بِكَوْنِهَا قَاهِرَةً لِلْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَقَوْلُهُ فَوْقَ عِبادِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَهْرَ وَالْقُدْرَةَ عَامٌّ فِي حَقِّ الْكُلِّ. وَالسَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَى مَنْ يَتَّخِذُ غَيْرَ اللَّه وَلِيًّا، وَالتَّقْدِيرُ: كَأَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ كُلِّ عِبَادِهِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ اتِّخَاذُ غَيْرِ اللَّه وَلِيًّا. وَهَذِهِ النَّتِيجَةُ إِنَّمَا يَحْسُنُ تَرْتِيبُهَا عَلَى تِلْكَ الْفَوْقِيَّاتِ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْفَوْقِيَّةِ، الْفَوْقِيَّةَ بِالْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ.
أَمَّا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْفَوْقِيَّةَ بِالْجِهَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ هَذَا الْمَقْصُودَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مُجَرَّدِ كَوْنِهِ حَاصِلًا فِي جِهَةٍ فَوْقَ أَنْ يَكُونَ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ مُفِيدًا وَأَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ الْمَطَالِبِ لَازِمًا. أَمَّا إِذَا حملنا
496
ذَلِكَ عَلَى فَوْقِيَّةِ الْقُدْرَةِ حَسُنَ تَرْتِيبُ هَذِهِ النَّتِيجَةِ عَلَيْهِ فَظَهَرَ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ، لَا مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التشبيه واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٩]
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَكْبَرَ الشَّهَادَاتِ وَأَعْظَمَهَا شَهَادَةُ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ شَهَادَةَ اللَّه حَاصِلَةٌ إِلَّا أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ حَصَلَتْ فِي إِثْبَاتِ أَيِّ الْمَطَالِبِ فَنَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حُصُولَ شَهَادَةِ اللَّه فِي ثُبُوتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حُصُولَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي ثُبُوتِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّه تَعَالَى.
أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ:
فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رُؤَسَاءَ أَهْلِ مَكَّةَ قَالُوا يَا مُحَمَّدُ مَا وَجَدَ اللَّه غَيْرَكَ/ رَسُولًا وَمَا نَرَى أَحَدًا يُصَدِّقُكَ وَقَدْ سَأَلْنَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَنْكَ فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا ذِكْرَ لَكَ عِنْدَهُمْ بِالنُّبُوَّةِ فَأَرِنَا مَنْ يَشْهَدُ لَكَ بِالنُّبُوَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ
وَقَالَ قُلْ يَا مُحَمَّدُ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً مِنَ اللَّه حَتَّى يَعْتَرِفُوا بِالنُّبُوَّةِ، فَإِنَّ أَكْبَرَ الْأَشْيَاءِ شَهَادَةً هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِذَا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ فَقُلْ إِنَّ اللَّه شَهِيدٌ لِي بِالنُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ أَوْحَى إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَهَذَا الْقُرْآنُ مُعْجِزٌ، لِأَنَّكُمْ أَنْتُمُ الْفُصَحَاءُ وَالْبُلَغَاءُ وَقَدْ عَجَزْتُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَإِذَا كَانَ مُعْجِزًا، كَانَ إِظْهَارُ اللَّه إِيَّاهُ عَلَى وَفْقِ دَعْوَايَ شَهَادَةً مِنَ اللَّه عَلَى كَوْنِي صَادِقًا فِي دَعْوَايَ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا شَاهِدًا مَقْبُولَ الْقَوْلِ يَشْهَدُ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أَكْبَرَ الْأَشْيَاءِ شَهَادَةً هُوَ اللَّه، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ شَهِدَ لَهُ بالنبوّة وهو المراد من قَوْلُهُ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ فَهَذَا تَقْرِيرٌ وَاضِحٌ.
وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حُصُولَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي وَحْدَانِيَّةِ اللَّه تَعَالَى.
فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِمُقَدِّمَةٍ، وَهِيَ أَنَّا نَقُولُ: الْمَطَالِبُ عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ: مِنْهَا مَا يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ فَإِنَّ كُلَّ مَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ السَّمْعِ عَلَى صِحَّتِهِ امْتَنَعَ إِثْبَاتُهُ بِالسَّمْعِ، وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ.
وَمِنْهَا مَا يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُهُ بِالْعَقْلِ وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ يَصِحُّ وُجُودُهُ وَيَصِحُّ عَدَمُهُ عَقْلًا، فَلَا امْتِنَاعَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَصْلًا، فَالْقَطْعُ عَلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ بِعَيْنِهِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ، وَمِنْهَا مَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ مَعًا، وَهُوَ كُلُّ أَمْرٍ عَقْلِيٍّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ، فَلَا جَرَمَ أَمْكَنَ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ.
إِذَا عرفت هذا فنقول: قوله قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِي إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَرَاءَةِ عَنِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَمْثَالِ والأشباه.
ثم قَالَ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَيْ إِنَّ الْقَوْلَ بِالتَّوْحِيدِ هُوَ الْحَقُّ الْوَاجِبُ، وَإِنَّ الْقَوْلَ بِالشِّرْكِ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نُقِلَ عَنْ جَهْمٍ أَنَّهُ يُنْكِرُ كَوْنَهُ تَعَالَى شَيْئًا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُنَازِعُ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى ذَاتًا مَوْجُودًا وَحَقِيقَةً إِلَّا أَنَّهُ يُنْكِرُ تَسْمِيَتَهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِ شَيْئًا، فَيَكُونُ هَذَا
497
خِلَافًا فِي مُجَرَّدِ الْعِبَارَةِ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى تَسْمِيَةِ اللَّه تَعَالَى بِالشَّيْءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ قَالَ أَيُّ الْأَشْيَاءِ أَكْبَرُ شَهَادَةً ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ قَوْلَهُ قُلِ اللَّهُ وَهَذَا يُوجِبُ كَوْنَهُ تَعَالَى شَيْئًا، كَمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ:
أَيُّ النَّاسِ أَصْدَقُ فَلَوْ قِيلَ: جِبْرِيلُ، كَانَ هَذَا الْجَوَابُ خَطَأً لأن جبريل ليس من الناس فكذا هاهنا.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كلام تام مستقبل بِنَفْسِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ لِأَنَّ/ قَوْلَهُ اللَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ خَبَرُهُ، وَهُوَ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا لَا تعلق لها بما قبلها.
قلنا الجواب فيه وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ قَوْلُهُ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً لَا شَكَّ أَنَّهُ سُؤَالٌ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ جَوَابٍ: إِمَّا مَذْكُورٍ، وإما محذوف.
فإن قلنا: الجواب مذكور: كان الجواب هو قوله قُلِ اللَّهُ وهاهنا يتم الكلام. فأما قوله شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فههنا يضمر مبتدأ، والتقدير: وهو شهيد بيني وبينكم، وعند هذا يصح الاستدلال المذكور.
وأما إن قُلْنَا: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ فَنَقُولُ: هَذَا عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْمَحْذُوفَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا يَدُلُّ الْمَذْكُورُ عَلَيْهِ وَيَكُونَ لَائِقًا بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ.
وَالْجَوَابُ اللَّائِقُ بِقَوْلِهِ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً هُوَ أَنْ يُقَالَ: هُوَ اللَّه، ثُمَّ يُقَالُ بَعْدَهُ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُسَمَّى بَاسْمِ الشَّيْءِ فَهَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: ٨٨] وَالْمُرَادُ بِوَجْهِهِ ذَاتُهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى ذَاتَ نَفْسِهِ مِنْ قَوْلِهِ كُلُّ شَيْءٍ وَالْمُسْتَثْنَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُسَمَّى بَاسْمِ الشَّيْءِ. وَاحْتَجَّ جَهْمٌ عَلَى فَسَادِ هَذَا الِاسْمِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] وَالْمُرَادُ لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ وَذَاتُ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُ مِثْلِ نَفْسِهِ فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يُسَمَّى بَاسِمِ الشَّيْءِ وَلَا يُقَالُ الْكَافُ زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ لِأَنَّ جَعْلَ كَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ عَبَثًا بَاطِلًا لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الدِّينِ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ الشَّدِيدَةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرَّعْدِ: ١٦] وَلَوْ كَانَ تَعَالَى مُسَمَّى بِالشَّيْءِ لَزِمَ كَوْنُهُ خَالِقًا لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، لَا يُقَالُ: هَذَا عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ لِأَنَّا نَقُولُ: إِدْخَالُ التَّخْصِيصِ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي صُورَةٍ نَادِرَةٍ شَاذَّةٍ لَا يُؤْبَهُ بِهَا وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا، فَيَجْرِي وُجُودُهَا مَجْرَى عَدَمِهَا، فَيُطْلَقُ لَفْظُ الْكُلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْبَقِيَّةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْعَدَمِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْبَارِي تَعَالَى لَوْ كَانَ مُسَمًّى بِاسْمِ الشَّيْءِ لَكَانَ هُوَ تَعَالَى أَعْظَمَ الْأَشْيَاءِ وَأَشْرَفَهَا، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْكُلِّ مَعَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقِسْمُ خَارِجًا عَنْهُ يَكُونُ مَحْضَ كَذِبٍ وَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ. الثَّالِثُ:
التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الْأَعْرَافِ: ١٨٠] وَالِاسْمُ إِنَّمَا يَحْسُنُ لِحُسْنِ مُسَمَّاهُ وَهُوَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ نعت مِنْ نُعُوتِ/ الْجَلَالِ وَلَفَظُ الشَّيْءِ أَعَمُّ الْأَشْيَاءِ فَيَكُونُ مُسَمَّاهُ حَاصِلًا فِي أَحْسَنِ الْأَشْيَاءِ وَفِي أَرْذَلِهَا وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْمُسَمَّى بِهَذَا اللَّفْظِ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَا نَعْتًا مِنْ نُعُوتِ الْجَلَالِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ دَعْوَةُ اللَّه تَعَالَى بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى واللَّه تَعَالَى أَمَرَ بِأَنْ يُدْعَى بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ دُعَاءُ اللَّه تَعَالَى بِهَذَا الِاسْمِ وَكُلُّ مَنْ مَنَعَ مِنْ دعاء
498
اللَّه بِهَذَا الِاسْمِ قَالَ: إِنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَيْسَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى الْبَتَّةَ. الرَّابِعُ: أَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ الْمَعْدُومَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى بَيَانُ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً [الْكَهْفِ: ٢٣] سَمَّى الشَّيْءَ الَّذِي سَيَفْعَلُهُ غَدًا بِاسْمِ الشَّيْءِ فِي الْحَالِ وَالَّذِي سَيَفْعَلُهُ غَدًا يَكُونُ مَعْدُومًا فِي الْحَالِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ يَقَعُ عَلَى الْمَعْدُومِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُنَا: إِنَّهُ شَيْءٌ لَا يُفِيدُ امْتِيَازَ ذَاتِهِ عَنْ سَائِرِ الذَّوَاتِ بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ وَلَا بِخَاصَّةِ مُتَمَيِّزَةٍ وَلَا يُفِيدُ كَوْنَهُ مَوْجُودًا فَيَكُونُ هَذَا لَفْظًا لَا يُفِيدُ فَائِدَةً فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى أَلْبَتَّةَ، فكان عبثا مطلقا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا تَعَارَضَتِ الدَّلَائِلُ.
فَنَقُولُ: لَفْظُ الشَّيْءِ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ، وَمَتَى صَدَقَ الْخَاصُّ صَدَقَ الْعَامُّ، فَمَتَى صَدَقَ فِيهِ كَوْنُهُ ذَاتًا وَحَقِيقَةً وَجَبَ أَنْ يَصْدُقَ عَلَيْهِ كَوْنُهُ شَيْئًا وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنَ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ، وَهُوَ خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَقَوْلُهُ وَمَنْ بَلَغَ عَطْفٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَيْ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ، وَأُنْذِرَ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ، مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَقِيلَ مِنَ الثَّقَلَيْنِ، وَقِيلَ: مَنْ بَلَغَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ:
مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ، فَكَأَنَّمَا رَأَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَيَحْصُلُ فِي الْآيَةِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ، وَمَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْعَائِدَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ الَّذِي رَأَيْتُ زَيْدٌ، وَالَّذِي ضَرَبْتُ عَمْرٌو. وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَمَنْ بَلَغَ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَمَنْ بَلَغَ أَيْ وَمَنِ احْتَلَمَ وَبَلَغَ حَدَّ التَّكْلِيفِ، وَعِنْدَ هَذَا لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ الْعَائِدِ إِلَّا أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْقَوْلِ الأول.
أما قوله أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فَنَقُولُ: فِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: (أَيِنَّكُمْ) بِهَمْزَةٍ وَكَسْرَةٍ بَعْدَهَا خَفِيفَةٍ مُشْبِهَةٍ يَاءً سَاكِنَةً بِلَا مدة، وَأَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ عَنْ نَافِعٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَمُدُّ وَالْبَاقُونَ بِهَمْزَتَيْنِ بِلَا مَدٍّ.
وَالْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْجَحْدُ وَالْإِنْكَارُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَمْ يَقُلْ آخَرُ لِأَنَّ الْآلِهَةَ جَمْعٌ وَالْجَمْعُ يَقَعُ عَلَيْهِ التَّأْنِيثُ كَمَا قَالَ: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الْأَعْرَافِ: ١٨٠] وَقَالَ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [طه: ٥١] وَلَمْ يَقُلِ الْأَوَّلِ وَلَا الْأَوَّلِينَ وَكُلُّ ذَلِكَ صَوَابٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ دَالٌّ عَلَى إِيجَابِ التَّوْحِيدِ وَالْبَرَاءَةِ عَنِ الشِّرْكِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ قُلْ لَا أَشْهَدُ أَيْ لَا أَشْهَدُ بِمَا تَذْكُرُونَهُ مِنْ إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَكَلِمَةُ إِنَّما تُفِيدُ الْحَصْرَ، وَلَفْظُ الْوَاحِدِ صَرِيحٌ فِي التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الشركاء. وثالثها: قوله إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ إِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ فَثَبَتَ دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِيجَابِ التَّوْحِيدِ بِأَعْظَمِ طُرُقِ الْبَيَانِ وَأَبْلَغِ وُجُوهِ التَّأْكِيدِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَسْلَمَ ابْتِدَاءً أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَيَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ دِينٍ سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ.
499
وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه عَلَى اسْتِحْبَابِ ضَمِّ التَّبَرِّي إِلَى الشَّهَادَةِ لِقَوْلِهِ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ عقيب التصريح بالتوحيد.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٠]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠)
اعْلَمْ أَنَّا رُوِّينَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الْكُفَّارَ سَأَلُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَنْكَرُوا دَلَالَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى نُبُوَّتِهِ، فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ شَهَادَةَ اللَّه عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ كَافِيَةٌ فِي ثُبُوتِهَا وَتَحَقُّقِهَا، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ أَنَّا لَا نَعْرِفُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ لِمَا
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ اللَّه بْنِ سَلَامٍ: أَنْزَلَ اللَّه عَلَى نَبِيِّهِ هَذِهِ الْآيَةَ فَكَيْفَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ، فَقَالَ يَا عُمَرُ لَقَدْ عَرَفْتُهُ فِيكُمْ حِينَ رَأَيْتُهُ كَمَا أَعْرِفُ ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد مني يا بني لِأَنِّي لَا أَدْرِي مَا صَنَعَ النِّسَاءُ وَأَشْهَدُ أَنَّهُ حَقٌّ مِنَ اللَّه تَعَالَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُمْ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلَ عِلْمِهِمْ بِأَبْنَائِهِمْ وَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْمَكْتُوبُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مُجَرَّدُ أَنَّهُ سَيَخْرُجُ نَبِيٌّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَدْعُو الْخَلْقَ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، أَوِ الْمَكْتُوبُ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ تَعَيُّنِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالنَّسَبِ وَالصِّفَةِ/ وَالْحِلْيَةِ وَالشَّكْلِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَذَلِكَ الْقَدْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ هُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: عِلْمُهُمْ بِنُبُوَّتِهِ مِثْلُ علمهم بنبوّة أَبْنَائِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَالِمِينَ بِالضَّرُورَةِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِكَوْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَبِيًّا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، وَالْكَذِبُ عَلَى الْجَمْعِ الْعَظِيمِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مَا كَانَا مُشْتَمِلَيْنِ عَلَى هَذِهِ التَّفَاصِيلِ التَّامَّةِ الْكَامِلَةِ، لِأَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ بَاقِيًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ حَالَ ظُهُورِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ مَا بَقِيَتْ هَذِهِ التَّفَاصِيلُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي وَقْتِ ظُهُورِهِ لِأَجْلِ أن التحريف قد تطرف إِلَيْهِمَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ إِخْفَاءَ مِثْلِ هَذِهِ التَّفَاصِيلِ التَّامَّةِ فِي كِتَابٍ وَصَلَ إِلَى أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ مُمْتَنِعٌ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَكُنِ يَهُودُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَنَصَارَى ذَلِكَ الزَّمَانِ عَالِمِينَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمَهُمْ بنبوّة أَبْنَائِهِمْ، وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ هَذَا الْكَلَامُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَهُمْ كَانُوا أَهْلًا لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَكَانُوا قَدْ شَاهَدُوا ظُهُورَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَعَرَفُوا بِوَاسِطَةِ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ كَوْنَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَشْبِيهِ إِحْدَى الْمَعْرِفَتَيْنِ بِالْمَعْرِفَةِ الثَّانِيَةِ هَذَا الْقَدْرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ الَّذِينَ صِفَةٌ لِلَّذِينِ الْأُولَى، فَيَكُونُ عَامِلُهُمَا وَاحِدًا وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ وَعِيدَ الْمُعَانِدِينَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ وَيَجْحَدُونَ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمُ ابْتِدَاءٌ. وَقَوْلَهُ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَبَرُهُ، وَفِي قَوْلِهِ الَّذِينَ خَسِرُوا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ الدَّائِمِ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالثَّانِي: جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَافِرٍ وَلَا مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، فَمَنْ كَفَرَ صَارَتْ مَنْزِلَتُهُ إِلَى مَنْ أَسْلَمَ فَيَكُونُ قَدْ خَسِرَ نفسه وأهله بأن ورث منزلته غيره.

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢١ الى ٢٢]

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ عَلَى أُولَئِكَ الْمُنْكِرِينَ بِالْخُسْرَانِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَبَبَ ذَلِكَ الْخُسْرَانِ، وَهُوَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللَّه كَذِبًا، وَهَذَا الِافْتِرَاءُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ كَانُوا يَقُولُونَ هَذِهِ الْأَصْنَامُ شُرَكَاءُ اللَّه، واللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهَا وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهَا، وَكَانُوا أَيْضًا يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه، ثُمَّ نَسَبُوا إِلَى اللَّه تَحْرِيمَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ. وَثَانِيهَا: أَنِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا يَقُولُونَ:
حَصَلَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَنَّ هَاتَيْنِ الشَّرِيعَتَيْنِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمَا النَّسْخُ وَالتَّغْيِيرُ، وَأَنَّهُمَا لَا يَجِيءُ بَعْدَهُمَا نَبِيٌّ، وَثَالِثُهَا: مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الْأَعْرَافِ: ٢٨] وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: ١٨] وَكَانُوا يَقُولُونَ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [الْبَقَرَةِ: ٨٠] وَخَامِسُهَا: أَنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ مِنْهُمْ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّه فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَبَاطِيلِ الَّتِي كَانُوا يَنْسُبُونَهَا إِلَى اللَّه كَثِيرَةٌ، وَكُلُّهَا افْتِرَاءٌ مِنْهُمْ عَلَى اللَّه.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ أَسْبَابِ خُسْرَانِهِمْ تَكْذِيبُهُمْ بِآيَاتِ اللَّه، وَالْمُرَادُ مِنْهُ قَدْحُهُمْ فِي مُعْجِزَاتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَعْنُهُمْ فِيهَا وَإِنْكَارُهُمْ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةً قَاهِرَةً بَيِّنَةً، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أَيْ لَا يَظْفَرُونَ بِمَطَالِبِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ بَلْ يَبْقَوْنَ فِي الْحِرْمَانِ وَالْخِذْلَانِ.
أَمَّا قَوْلُهُ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً فَفِي نَاصِبِ قَوْلِهِ وَيَوْمَ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَتُرِكَ لِيَبْقَى عَلَى الْإِبْهَامِ الَّذِي هُوَ أَدْخَلُ فِي التَّخْوِيفِ، وَالثَّانِي: التَّقْدِيرُ اذْكُرْ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ كَأَنَّهُ قِيلَ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أَبَدًا وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّقْرِيعُ وَالتَّبْكِيتُ لَا السُّؤَالُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَيْنَ نَفْسُ الشُّرَكَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَيْنَ شَفَاعَتُهُمْ لَكُمْ وَانْتِفَاعُكُمْ بِهِمْ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ: لَا يَكُونُ الْكَلَامُ إِلَّا تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا وَتَقْرِيرًا فِي نُفُوسِهِمْ أَنَّ الَّذِي كَانُوا يَظُنُّونَهُ مَأْيُوسٌ عَنْهُ، وَصَارَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا لَهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَالْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ، فَحَذَفَ مَفْعُولَ الزَّعْمِ لِدَلَالَةِ السُّؤَالِ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وكل زعم في كتاب اللَّه كذب.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
[في قَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ] اعلم أن هاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ بِالتَّاءِ الْمُنْقَطَةِ مِنْ فَوْقُ وَفِتْنَتُهُمْ بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ بِالْيَاءِ وَفِتْنَتَهُمْ بِالنَّصْبِ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّاءِ الْمُنْقَطَةِ مِنْ فَوْقُ وَنَصْبِ الْفِتْنَةِ، فَهَهُنَا قَوْلُهُ أَنْ قَالُوا: فِي مَحَلِّ الرفع لسكونه اسْمَ تَكُنْ، وَإِنَّمَا أُنِّثَ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ مَنْ كَانَتْ أُمُّكَ أَوْ
501
لِأَنَّ مَا قَالُوا: فِتْنَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَيَجُوزُ تَأْوِيلُ إِلَّا أَنْ قَالُوا لَا مَقَالَتُهُمْ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ الْمُنْقَطَةِ مِنْ تَحْتُ، وَنَصْبِ فِتْنَتَهُمْ، فَهَهُنَا قَوْلُهُ أَنْ قَالُوا: فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ لِكَوْنِهِ اسْمَ يَكُنْ، وَفِتْنَتَهُمْ هُوَ الْخَبَرُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الِاخْتِيَارُ قِرَاءَةُ مَنْ جَعَلَ أَنْ قَالُوا الِاسْمَ دُونَ الْخَبَرِ لِأَنَّ أَنْ إِذَا وُصِلَتْ بِالْفِعْلِ لَمْ تُوصَفْ فَأَشْبَهَتْ بِامْتِنَاعِ وَصْفِهَا الْمُضْمَرَ، فَكَمَا أَنَّ الْمُظْهَرَ وَالْمُضْمَرَ، إِذَا اجْتَمَعَا كَانَ جَعْلُ الْمُضْمَرِ اسْمًا أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ خَبَرًا، فكذا هاهنا تَقُولُ كُنْتُ الْقَائِمَ، فَجَعَلْتَ الْمُضْمَرَ اسْمًا وَالْمُظْهَرَ خبرا فكذا هاهنا، وَنَقُولُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: واللَّه رَبَّنَا بِنَصْبِ قَوْلِهِ رَبَّنَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِإِضْمَارٍ أَعْنِي وَأَذْكُرُ، وَالثَّانِي: عَلَى النِّدَاءِ، أَيْ واللَّه يَا رَبَّنَا، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْبَاءِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ للَّه تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ حَسَنٌ فِي اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ عَرَفَ مَعَانِيَ الْكَلَامِ وَتَصَرُّفَ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَ الْمُشْرِكِينَ مَفْتُونِينَ بِشِرْكِهِمْ مُتَهَالِكِينَ عَلَى حُبِّهِ، فَأَعْلَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ افْتِتَانُهُمْ بشركهم وإقامتهم عليه، إلا أن تبرؤا مِنْهُ وَتَبَاعَدُوا عَنْهُ، فَحَلَفُوا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُشْرِكِينَ:
وَمِثَالُهُ أَنْ تَرَى إِنْسَانًا يُحِبُّ عَارِيًا مَذْمُومَ الطَّرِيقَةِ فَإِذَا وَقَعَ فِي مِحْنَةٍ بِسَبَبِهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ مَا كَانَتْ مَحَبَّتُكَ لِفُلَانٍ، إِلَّا أَنِ انْتَفَيْتَ مِنْهُ فَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ هاهنا افْتِتَانُهُمْ بِالْأَوْثَانِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْوَجْهُ بِمَا رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّهُ قَالَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ مَعْنَاهُ شِرْكُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ إِلَى حَذْفِ الْمُضَافِ لِأَنَّ الْمَعْنَى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عَاقِبَةُ فِتْنَتِهِمْ إِلَّا الْبَرَاءَةَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُكَ مَا كَانَتْ مَحَبَّتُكَ لِفُلَانٍ، إِلَّا أَنْ فَرَرْتَ مِنْهُ وَتَرَكْتَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي: أَنَّهُمْ حَلَفُوا فِي الْقِيَامَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُشْرِكِينَ، وَهَذَا يَقْتَضِي إِقْدَامَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِلنَّاسِ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ، وَالْقَاضِي: أَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ لَا يَجُوزُ إِقْدَامُهُمْ على الكذب واحتجا عليه بوجوه: الأول: ن أَهْلَ الْقِيَامَةِ يَعْرِفُونَ اللَّه تَعَالَى بِالِاضْطِرَارِ، إِذْ لَوْ عَرَفُوهُ بِالِاسْتِدْلَالِ لَصَارَ مَوْقِفُ الْقِيَامَةِ دَارَ التَّكْلِيفِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَإِذَا كَانُوا عَارِفِينَ باللَّه عَلَى سَبِيلِ الِاضْطِرَارِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا مُلْجَئِينَ إِلَى أَنْ لَا يَفْعَلُوا الْقَبِيحَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يعلمون أَنَّهُمْ لَوْ رَامُوا فِعْلَ الْقَبِيحِ لَمَنَعَهُمُ اللَّه مِنْهُ لَأَنَّ مَعَ زَوَالِ التَّكْلِيفِ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ ذَلِكَ إِطْلَاقَهُمْ فِي فِعْلِ الْقَبِيحِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ يَعْلَمُونَ اللَّه بِالِاضْطِرَارِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ كَانُوا مُلْجَئِينَ إِلَى تَرْكِ الْقَبِيحِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُقْدِمُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِيَامَةِ عَلَى فِعْلِ الْقَبِيحِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْهُمْ فِعْلُ الْقَبِيحِ، إِذَا كَانُوا عُقَلَاءَ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ وَقَعَ مِنْهُمْ هَذَا الْكَذِبُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا أَهْوَالَ الْقِيَامَةِ اضْطَرَبَتْ عُقُولُهُمْ، فَقَالُوا: هَذَا الْقَوْلَ الْكَذِبَ عِنْدَ اخْتِلَالِ عُقُولِهِمْ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُمْ نَسُوا كَوْنَهُمْ مُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْشُرَهُمْ: وَيُورِدَ عَلَيْهِمُ التَّوْبِيخَ بِقَوْلِهِ أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ [الأنعام: ٢٢] ثُمَّ يَحْكِي عَنْهُمْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الِاعْتِذَارِ مَعَ أَنَّهُمْ غَيْرُ عُقَلَاءٍ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى، وَأَيْضًا فَالْمُكَلَّفُونَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا عُقَلَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ بِمَا يُعَامِلُهُمُ اللَّه بِهِ غَيْرُ مَظْلُومِينَ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ النِّسْيَانَ: لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا مَعَ كَمَالِ الْعَقْلِ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى مِثْلَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَإِنْ بَعُدَ الْعَهْدُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى الْيَسِيرَ مِنَ الْأُمُورِ وَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ لَجَوَّزْنَا
502
أَنْ يَكُونَ الْعَاقِلُ قَدْ مَارَسَ الْوِلَايَاتِ الْعَظِيمَةَ دَهْرًا طَوِيلًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَسِيَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَجْوِيزَهُ يُوجِبُ السَّفْسَطَةَ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ الْكَذِبِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ مَا كَانُوا عُقَلَاءَ أَوْ كَانُوا عُقَلَاءَ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمْ مَا كَانُوا عُقَلَاءَ فَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَحْكِيَ كَلَامَ الْمَجَانِينِ فِي مَعْرِضِ تَمْهِيدِ الْعُذْرِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمْ كَانُوا عُقَلَاءَ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَالِمٌ بِأَحْوَالِهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ تَجْوِيزَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّه مُحَالٌ، وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَفِيدُونَ بِذَلِكَ الْكَذِبِ إِلَّا زِيَادَةَ الْمَقْتِ وَالْغَضَبِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ إِقْدَامُهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الْكَذِبِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ لَوْ كَذَبُوا فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ الْكَذِبِ لَكَانُوا قَدْ أَقْدَمُوا عَلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْقُبْحِ وَالذَّنْبِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْعِقَابَ، فَتَصِيرُ الدَّارُ الْآخِرَةُ دَارَ التَّكْلِيفِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَى ذَلِكَ الْكَذِبِ، وَعَلَى ذَلِكَ الْحَلِفِ الْكَاذِبِ عِقَابًا وَذَمًّا، فَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ الْإِذْنِ مِنَ اللَّه تَعَالَى فِي ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ وَالذُّنُوبِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِقْدَامُ أَهْلِ الْقِيَامَةِ عَلَى الْقَبِيحِ وَالْكَذِبِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا: فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا يُحْمَلُ قَوْلُهُ وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ أَيْ مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فِي اعْتِقَادِنَا وَظُنُونِنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ مُتَبَاعِدِينَ مِنَ الشِّرْكِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: يَكُونُونَ صَادِقِينَ فِيمَا أَخْبَرُوا عَنْهُ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ مُشْرِكِينَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، فَلِمَاذَا قَالَ اللَّه تَعَالَى انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ قَوْلِهِ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ حَتَّى يَلْزَمَنَا هَذَا السُّؤَالُ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا فِي أُمُورٍ كَانُوا يُخْبِرُونَ عَنْهَا كَقَوْلِهِمْ: إِنَّهُمْ عَلَى صَوَابٍ وَإِنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ بِشِرْكٍ وَالْكَذِبُ يَصِحُّ عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُنْفَى ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ اخْتِلَافُ الْحَالَيْنِ، وَأَنَّهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَلَا يَحْتَرِزُونَ عَنْهُ وَأَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يَحْتَرِزُونَ عَنِ الْكَذِبِ وَلَكِنْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ الصِّدْقُ فَلِتَعَلُّقِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ أَظْهَرَ اللَّه تَعَالَى لِلرَّسُولِ ذَلِكَ وَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْمَ لِأَجْلِ شِرْكِهِمْ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ الِاعْتِذَارِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي دَارِ الدُّنْيَا يَكْذِبُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى صَوَابٍ. هَذَا جُمْلَةُ كَلَامِ الْقَاضِي فِي تَقْرِيرِ الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَكْذِبُونَ فِي هَذَا الْقَوْلِ قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ يَكْذِبُونَ فِي الْقِيَامَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ [المؤمنون: ١٠٧] مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَامِ: ٢٨] وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [الْمُجَادَلَةِ: ١٨] بَعْدَ قَوْلِهِ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ [الْمُجَادَلَةِ: ١٤] فَشَبَّهَ كَذِبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِكَذِبِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الْكَهْفِ: ١٩] وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِقْدَامِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى الْكَذِبِ. وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْهُمْ
503
وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزخرف: ٧٧] / وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْضِي عَلَيْهِمْ بِالْخَلَاصِ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ وَحَمْلُ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فِي ظُنُونِنَا وَعَقَائِدِنَا مُخَالَفَةٌ لِلظَّاهِرِ. ثُمَّ حَمْلُ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي الدُّنْيَا يُوجِبُ فَكَّ نَظْمِ الْآيَةِ، وَصَرْفَ أَوَّلِ الْآيَةِ إِلَى أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَصَرْفَ آخِرِهَا إِلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ. أَمَّا قَوْلُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ كَذَبُوا حَالَ كَمَالِ الْعَقْلِ أَوْ حَالَ نُقْصَانِ الْعَقْلِ فَنَقُولُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ حَالَ مَا عَايَنُوا أَهْوَالَ الْقِيَامَةِ، وَشَاهَدُوا مُوجِبَاتِ الْخَوْفِ الشَّدِيدِ اخْتَلَّتْ عُقُولُهُمْ فَذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَوْلُهُ: كَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّه تعالى أن يحكى عنهم مَا ذَكَرُوهُ فِي حَالِ اضْطِرَابِ الْعُقُولِ، فَهَذَا يُوجِبُ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ عِنْدَ سَمَاعِ هَذَا الْكَلَامِ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا مَقْصُودَ مِنْ تَنْزِيلِ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا الْمُكَلَّفُونَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا عُقَلَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنَقُولُ: اخْتِلَالُ عُقُولِهِمْ سَاعَةً وَاحِدَةً حَالَ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا الْكَلَامِ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ عُقُولِهِمْ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ. فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ فَالْمُرَادُ إِنْكَارُهُمْ كَوْنَهُمْ مُشْرِكِينَ، وَقَوْلُهُ وَضَلَّ عَنْهُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ كَذَبُوا تَقْدِيرُهُ: وَكَيْفَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ بِعِبَادَتِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٥]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَحْوَالَ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ أَتْبَعَهُ بِمَا يُوجِبُ الْيَأْسَ عَنْ إِيمَانِ بَعْضِهِمْ فَقَالَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَضَرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو سُفْيَانَ وَالْوَلِيدُ بن المغيرة والنضر بن الحرث وعقبة وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةُ وَأُبَيٌّ ابْنَا خلف والحرث بْنُ/ عَامِرٍ وَأَبُو جَهِلٍ وَاسْتَمَعُوا إِلَى حَدِيثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا لِلنَّضْرِ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا يَقُولُ لَكِنِّي أَرَاهُ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ وَيَتَكَلَّمُ بِأَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ كَالَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ بِهِ عَنْ أَخْبَارِ القرون الأولى وقال أبو سفيان إني لا أرى بَعْضَ مَا يَقُولُ حَقًّا فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ كَلَّا فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَالْأَكِنَّةُ جَمْعُ كِنَانٍ وَهُوَ مَا وَقَى شَيْئًا وَسَتَرَهُ، مِثْلُ عِنَانٍ وَأَعِنَّةٍ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ كَنَنْتُ وَأَكْنَنْتُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنْ يَفْقَهُوهُ فَقَالَ الزَّجَّاجُ:
مَوْضِعُ أَنْ نَصْبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَالْمَعْنَى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً لِكَرَاهَةِ أَنْ يَفْقَهُوهُ فَلَمَّا حُذِفَتِ (اللَّامُ) نُصِبَتِ الْكَرَاهَةُ، وَلَمَّا حُذِفَتِ الْكَرَاهَةُ انْتَقَلَ نَصْبُهَا إِلَى (أَنْ) وَقَوْلُهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْوَقْرُ الثِّقَلُ فِي الْأُذُنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَصْرِفُ عَنِ الْإِيمَانِ، وَيَمْنَعُ مِنْهُ وَيَحُولُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ الْقَلْبَ فِي الْكِنَانِ الَّذِي يَمْنَعُهُ عَنِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِيَكُونَ حُجَّةً لِلرَّسُولِ عَلَى الْكُفَّارِ لَا لِيَكُونَ حُجَّةً لِلْكُفَّارِ عَلَى الرَّسُولِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ
504
تَعَالَى مَنَعَ الْكُفَّارَ عَنِ الْإِيمَانِ لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا لِلرَّسُولِ لَمَّا حَكَمَ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ مَنَعَنَا مِنَ الْإِيمَانِ فَلِمَ يَذُمُّنَا عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ، وَلِمَ يَدْعُونَا إِلَى فِعْلِ الْإِيمَانِ؟ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ مَنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا لِلْعَاجِزِ وَهُوَ مَنْفِيٌّ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى صَرِيحَ هَذَا الْكَلَامِ عَنِ الْكُفَّارِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ فَقَالَ تَعَالَى: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: ٥] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٨٨] وَإِذَا كَانَ قَدْ حَكَى اللَّه تَعَالَى هَذَا الْمَذْهَبَ عَنْهُمْ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمُ امْتَنَعَ أَنْ يَذْكُرَهُ هاهنا فِي مَعْرِضِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّنَاقُضُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَفْهَمُونَ وَيَسْمَعُونَ وَيَعْقِلُونَ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ وَلَوْ كَانَ هَذَا الصَّدُّ وَالْمَنْعُ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى لَمَا كَانُوا مَذْمُومِينَ بَلْ كَانُوا مَعْذُورِينَ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْقَهُونَ وَيُمَيِّزُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَعِنْدَ هَذَا قَالُوا لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَوَسَّلُوا بِسَمَاعِ قِرَاءَتِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَكَانِهِ بِاللَّيْلِ فَيَقْصِدُوا قَتْلَهُ وَإِيذَاءَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ كَانَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُلْقِي عَلَى قُلُوبِهِمُ النَّوْمَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَكِنَّةِ، وَيَثْقُلُ أَسْمَاعُهُمْ عَنِ اسْتِمَاعِ تِلْكَ الْقِرَاءَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّوْمِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي عَلِمَ اللَّه مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَسِمُ قَلْبَهُ بِعَلَامَةٍ مَخْصُوصَةٍ يَسْتَدِلُّ الْمَلَائِكَةُ بِرُؤْيَتِهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، فَصَارَتْ تِلْكَ الْعَلَامَةُ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا يَبْعُدُ تَسْمِيَةُ تِلْكَ الْعَلَامَةِ بِالْكِنَانِ وَالْغِطَاءِ الْمَانِعِ، مَعَ أَنَّ تِلْكَ الْعَلَامَةَ فِي نَفْسِهَا لَيْسَتْ مَانِعَةً عَنِ الْإِيمَانِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَعَانَدُوا وَصَمَّمُوا عَلَيْهِ، فَصَارَ عُدُولُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَالْكِنَانِ الْمَانِعِ عَنِ الْإِيمَانِ، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى الْكِنَانَ كِنَايَةً عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
وَالتَّأْوِيلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَعَهُمُ الْأَلْطَافَ الَّتِي إِنَّمَا تَصْلُحُ أَنْ تُفْعَلَ بِمَنْ قَدِ اهْتَدَى فَأَخْلَاهُمْ مِنْهَا، وَفَوَّضَ أَمْرَهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لِسُوءِ صَنِيعِهِمْ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً.
وَالتَّأْوِيلُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ وَرَدَ حِكَايَةً لِمَا كَانُوا يَذْكُرُونَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: ٥].
وَالْجَوَابُ عَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْكِنَانِ وَالْوَقْرِ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى مَنَعَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: بَلِ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ السَّاطِعُ قَائِمٌ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي أَتَى بِالْكُفْرِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْإِيمَانِ، فَقَدْ صَحَّ قَوْلُنَا إِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى الْكُفْرِ وَصَدَّهُ عَنِ الْإِيمَانِ.
وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكُفْرِ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِيمَانِ فَنَقُولُ: يَمْتَنِعُ صَيْرُورَةُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ مَصْدَرًا لِلْكُفْرِ دُونَ الْإِيمَانِ، إِلَّا عِنْدَ انْضِمَامِ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي يُوجِبُ الْفِعْلَ، فَيَكُونُ الْكُفْرُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَتَكُونُ تِلْكَ الدَّاعِيَةُ الْجَارَّةُ إِلَى الْكُفْرِ كِنَانًا لِلْقَلْبِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَوَقْرًا لِلسَّمْعِ عَنِ اسْتِمَاعِ دَلَائِلِ الْإِيمَانِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبُرْهَانَ الْعَقْلِيَّ مُطَابِقٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ.
505
وَإِذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ صِحَّةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالْبُرْهَانِ وَبِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ فَذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ ثُمَّ قَالَ: عَلى قُلُوبِهِمْ فَذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ صِيغَةَ (مَنْ) وَاحِدٌ فِي اللَّفْظِ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ دَلِيلٍ وَحُجَّةٍ/ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا لِأَجْلِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَنِ الْجُبَّائِيِّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً إِلْقَاءَ النَّوْمِ عَلَى قُلُوبِ الْكُفَّارِ لِئَلَّا يُمْكِنُهُمُ التَّوَسُّلُ بِسَمَاعِ صَوْتِهِ عَلَى وِجْدَانِ مَكَانِهِ لَمَا كَانَ قوله وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها لَائِقًا بِهَذَا الْكَلَامِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ لَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَسْمَعُوهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْمَنْعِ مِنْ سَمَاعِ صَوْتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَّا الْمَنْعُ مِنْ نَفْسِ كَلَامِهِ وَمِنْ فَهْمِ مَقْصُودِهِ، فَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ فَظَهَرَ سُقُوطُ قَوْلِهِ. واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ جُمْلَةٌ أُخْرَى مرتبة على ما قبلها وحَتَّى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هِيَ الَّتِي يَقَعُ بَعْدَهَا الجمل، والجملة هي قوله إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَيُجَادِلُونَكَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَقَوْلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ يُجادِلُونَكَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ بَلَغَ بِتَكْذِيبِهِمُ الْآيَاتِ إِلَى أَنَّهُمْ يُجَادِلُونَكَ وَيُنَاكِرُونَكَ، وَفَسَّرَ مُجَادَلَتَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَأَصْلُ الْأَسَاطِيرِ مِنَ السَّطْرِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا مُمْتَدًّا مُؤَلَّفًا وَمِنْهُ سَطْرُ الْكِتَابِ وَسَطْرٌ مِنْ شَجَرٍ مَغْرُوسٍ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ سَطْرٌ وَسَطَرٌ، فَمَنْ قَالَ سَطْرٌ فَجَمْعُهُ فِي الْقَلِيلِ أَسْطُرٌ وَالْكَثِيرِ سُطُورٌ، وَمَنْ قَالَ سَطَرٌ فَجَمْعُهُ أَسْطَارٌ، وَالْأَسَاطِيرُ جَمْعُ الْجَمْعِ، وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: وَاحِدُ الْأَسَاطِيرِ أُسْطُورٌ وَأُسْطُورَةٌ وَأَسْطِيرٌ وَأَسْطِيرَةٌ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَاحِدُ الْأَسَاطِيرِ أُسْطُورَةٌ مِثْلَ أَحَادِيثَ وَأُحْدُوثَةٍ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْأَسَاطِيرُ مِنَ الْجَمْعِ الَّذِي لَا وَاحِدَ لَهُ مِثْلَ عَبَادِيدَ ثُمَّ قَالَ الْجُمْهُورُ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ مَا سَطَرَهُ الْأَوَّلُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ الْأَوَّلِينَ الَّتِي كَانُوا يَسْطُرُونَهَا أَيْ يَكْتُبُونَهَا. فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ فَسَّرَ الْأَسَاطِيرَ بِالتُّرَّهَاتِ، فَهُوَ مَعْنًى وَلَيْسَ مُفَسِّرًا. وَلَمَّا كَانَتْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ مِثْلَ حَدِيثِ رُسْتُمَ وَاسْفَنْدِيَارَ كَلَامًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا جَرَمَ فُسِّرَتْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ بِالتُّرَّهَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ مَقْصُودُ الْقَوْمِ مِنْ ذِكْرِ قَوْلِهِمْ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الْقَدْحَ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ جِنْسِ سَائِرِ الْحِكَايَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، وَالْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ لِلْأَوَّلِينَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ جِنْسِ تِلْكَ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى حِكَايَاتِ الْأَوَّلِينَ وَأَقَاصِيصِ الْأَقْدَمِينَ لم يكن معجزا خارقا للعبادة. وَأَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: هَذَا السُّؤَالُ مَدْفُوعٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ لَوْ كَانَ فِي مَقْدُورِكُمْ مُعَارَضَتُهُ لَوَجَبَ أَنْ تَأْتُوا بِتِلْكَ الْمُعَارَضَةِ وَحَيْثُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا ظَهَرَ أَنَّهَا مُعْجِزَةٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَانَ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقُولُوا نَحْنُ وَإِنْ كُنَّا أَرْبَابَ/ هَذَا اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ إِلَّا أَنَّا لَا نَعْرِفُ كَيْفِيَّةَ تَصْنِيفِ الْكُتُبِ وَتَأْلِيفِهَا وَلَسْنَا أَهْلًا لِذَلِكَ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَجْزِنَا عَنِ التَّصْنِيفِ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَنْ جِنْسِ سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ وَأَقَاصِيصِ الْأَقْدَمِينَ.
506
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ سَيَأْتِي في الآية المذكورة بعد ذلك.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٦]
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا بِأَنْ قَالُوا: إِنَّهُ مِنْ جِنْسِ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ وَأَقَاصِيصِ الْأَقْدَمِينَ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ وَذِكْرُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ عَنْهُ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْقُرْآنِ وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أَيْ عَنِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ وَالِاسْتِمَاعِ لَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ يَنْهَوْنَ عَنِ الرَّسُولِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُحَالٌ بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنْ فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فَلَا جَرَمَ حَصَلَ فِيهِ قَوْلَانِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ عَنِ التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّتِهِ وَالْإِقْرَارِ بِرِسَالَتِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَنْهَى قُرَيْشًا عَنْ إِيذَاءِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ يَتَبَاعَدُ عَنْهُ وَلَا يَتْبَعُهُ عَلَى دِينِهِ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَشْبَهُ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمِيعَ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ تَقْتَضِي ذَمَّ طَرِيقَتِهِمْ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى أَمْرٍ مَذْمُومٍ، فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَنْهَى عَنْ إِيذَائِهِ، لَمَا حَصَلَ هَذَا النَّظْمُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يَعْنِي بِهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ النَّهْيَ عَنْ أَذِيَّتِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ لَا يُوجِبُ الْهَلَاكَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ قوله وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يرجع إلى قَوْلِهِ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ لَا إِلَى قَوْلِهِ يَنْهَوْنَ عَنْهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ يَبْعُدُونَ عَنْهُ بِمُفَارَقَةِ دِينِهِ، وَتَرْكِ الْمُوَافَقَةِ لَهُ وَذَلِكَ ذَمٌّ فَلَا يَصِحُّ مَا رَجَّحْتُمْ بِهِ هَذَا الْقَوْلَ.
قُلْنَا: إِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يَرْجِعُ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فَلَانًا يَبْعُدُ عَنِ الشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ وَيَنْفُرُ عَنْهُ وَلَا يَضُرُّ بِذَلِكَ إِلَّا نَفْسَهُ، فَلَا يَكُونُ هَذَا الضَّرَرُ مُتَعَلِّقًا بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ كَانُوا يُعَامِلُونَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْقَبِيحِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنْ قَبُولِ دِينِهِ وَالْإِقْرَارِ بِنُبُوَّتِهِ. وَالثَّانِي: كَانُوا يَنْأَوْنَ عَنْهُ، وَالنَّأْيُ الْبُعْدُ يُقَالُ: نَأَى يَنْأَى إِذَا بَعُدَ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَيْ وَمَا يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِ تَمَادِيهِمْ فِي الْكُفْرِ وَغُلُوِّهِمْ فِيهِ وَمَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُذْهِبُونَهَا إِلَى النَّارِ بِمَا يَرْتَكِبُونَ مِنَ الْكُفْرِ والمعصية، واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨)
507
[في قوله تعالى وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ مَنْ يَنْهَى عَنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَنْأَى عَنْ طَاعَتِهِ بِأَنَّهُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ شَرَحَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْهَلَاكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَفِيهَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ وَلَوْ تَرى يَقْتَضِي لَهُ جَوَابًا وَقَدْ حُذِفَ تَفْخِيمًا لِلْأَمْرِ وَتَعْظِيمًا لِلشَّأْنِ، وَجَازَ حَذْفُهُ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِهِ وَأَشْبَاهُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ. وَلَوْ قَدَّرْتَ الْجَوَابَ، كَانَ التَّقْدِيرُ: لَرَأَيْتَ سُوءَ مُنْقَلَبِهِمْ أَوْ لَرَأَيْتَ سُوءَ حَالِهِمْ وَحَذْفُ الْجَوَابِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَبْلَغُ فِي الْمَعْنَى مِنْ إِظْهَارِهِ، أَلَا تَرَى: أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ لِغُلَامِكَ، واللَّه لَئِنْ قُمْتُ إِلَيْكَ وَسَكَتَّ عَنِ الْجَوَابِ، ذَهَبَ بِفِكْرِهِ إِلَى أَنْوَاعِ الْمَكْرُوهِ، مِنَ الضَّرْبِ، وَالْقَتْلِ، وَالْكَسْرِ، وَعَظُمَ الْخَوْفُ وَلَمْ يَدْرِ أَيَّ الْأَقْسَامِ تَبْغِي. وَلَوْ قُلْتَ: واللَّه لَئِنْ قُمْتُ إِلَيْكَ لِأَضْرِبَنَّكَ فَأَتَيْتَ بِالْجَوَابِ، لَعَلِمَ أَنَّكَ لَمْ تَبْلُغْ شَيْئًا غَيْرَ الضَّرْبِ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ نَوْعٌ مِنَ الْمَكْرُوهِ سِوَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ حَذْفَ الْجَوَابِ أَقْوَى تَأْثِيرًا فِي حُصُولِ الْخَوْفِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ جَوَابُ لَوْ مَذْكُورٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَالتَّقْدِيرُ وَلَوْ تَرَى إذا وُقِفُوا عَلَى النَّارِ يَنُوحُونَ وَيَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ وُقِفُوا يُقَالُ وَقَفْتُهُ وَقْفًا، وَوَقَفْتُهُ وُقُوفًا كَمَا يُقَالُ رَجَعْتُهُ رُجُوعًا. قَالَ الزَّجَّاجُ:
وَمَعْنَى وُقِفُوا عَلَى النَّارِ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وُقِفُوا عِنْدَهَا وَهُمْ يُعَايِنُونَهَا فَهُمْ مَوْقُوفُونَ عَلَى أَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا وُقِفُوا عَلَيْهَا وَهِيَ تَحْتُهُمْ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ وُقِفُوا فَوْقَ النَّارِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ فَوْقَ جَهَنَّمَ. وَالثَّالِثُ: مَعْنَاهُ عَرَفُوا حَقِيقَتَهَا تَعْرِيفًا مِنْ قَوْلِكَ وَقَفْتُ فَلَانًا عَلَى كَلَامِ فُلَانٍ أَيْ عَلَّمْتُهُ مَعْنَاهُ وَعَرَّفْتُهُ. وَفِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي جَوْفِ النَّارِ، وَتَكُونُ النَّارُ مُحِيطَةً بِهِمْ، وَيَكُونُونَ غَائِصِينَ فِيهَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ أُقِيمَ (عَلَى) مَقَامَ (فِي) وَإِنَّمَا صَحَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، أَنْ يُقَالَ:
وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، لِأَنَّ النَّارَ دَرَكَاتٌ وطبقات، بعضها فَوْقَ بَعْضٍ فَيَصِحُّ هُنَاكَ مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا قَالَ وَلَوْ تَرى؟ وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِالِاسْتِقْبَالِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ إِذْ وُقِفُوا وَكَلِمَةُ إِذْ لِلْمَاضِي ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ، فَقَالُوا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْمَاضِي.
قُلْنَا: إِنَّ كَلِمَةَ (إِذْ) تُقَامُ مَقَامَ (إِذَا) إِذَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّكْرِيرِ وَالتَّوْكِيدِ، وَإِزَالَةَ الشُّبْهَةِ لِأَنَّ الْمَاضِيَ قَدْ وَقَعَ وَاسْتَقَرَّ، فَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لِلْمَاضِي، يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِمَالَةُ فِي النَّارِ حَسَنَةٌ جَيِّدَةٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْأَلِفِ مَكْسُورٌ وَهُوَ حَرْفُ الرَّاءِ، كَأَنَّهُ تَكَرَّرَ فِي اللِّسَانِ فَصَارَتِ الْكَسْرَةُ فِيهِ كَالْكَسْرَتَيْنِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ يا لَيْتَنا نُرَدُّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ تَمَنَّوْا أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا. فَأَمَّا قَوْلُهُ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي التَّمَنِّي وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا وَلَا يَكُونُوا مُكَذِّبِينَ وَأَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.
فَإِنْ قَالُوا هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وَالْمُتَمَنِّي لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ كَاذِبًا.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُتَمَنِّيَ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ كَاذِبًا لِأَنَّ مَنْ أَظْهَرَ التَّمَنِّيَ، فَقَدْ أَخْبَرَ ضِمْنًا كَوْنَهُ مُرِيدًا لذلك
508
الشَّيْءِ فَلَمْ يَبْعُدْ تَكْذِيبُهُ فِيهِ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: لَيْتَ اللَّه يَرْزُقُنِي مَالًا فَأُحْسِنَ إِلَيْكَ، فَهَذَا تَمَنٍّ فِي حُكْمِ الْوَعْدِ، فَلَوْ رُزِقَ مَالًا وَلَمْ يُحْسِنْ إِلَى صَاحِبِهِ لَقِيلَ إِنَّهُ كَذَبَ فِي وَعْدِهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التمني تمّ عند قوله يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَهَذَا الْكَلَامُ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ عَائِدٌ إِلَيْهِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ، ثُمَّ قَالُوا وَلَوْ رُدِدْنَا لَمْ نُكَذِّبْ بِالدِّينِ وَكُنَّا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَذَّبَهُمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَكَذَّبُوا وَلَأَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ نُرَدُّ وَنُكَذِّبُ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا وَنَكُونَ بِالنَّصْبِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ نُرَدُّ بِالرَّفْعِ، ونُكَذِّبَ ونَكُونَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ فِي الثَّلَاثَةِ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ نُرَدُّ وذلك لأنه داخلة فِي التَّمَنِّي لَا مَحَالَةَ، فَأَمَّا الَّذِينَ رَفَعُوا قَوْلَهُ وَلَا نُكَذِّبُ... وَنَكُونُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ نُرَدُّ فَتَكُونُ الثَّلَاثَةُ دَاخِلٌ فِي التَّمَنِّي، فَعَلَى هَذَا قَدْ تَمَنَّوُا الرَّدَّ وَأَنْ لَا يُكَذِّبُوا وَأَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقْطَعَ وَلَا نُكَذِّبُ وَمَا بَعْدَهُ عَنِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَنَحْنُ لَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُمْ ضَمِنُوا أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ بِتَقْدِيرِ حُصُولِ الرَّدِّ. وَالْمَعْنَى يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَنَحْنُ لَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا رُدِدْنَا أَوْ لَمْ نَرُدَّ أَيْ قَدْ عَايَنَّا وَشَاهَدْنَا مَا لَا نُكَذِّبُ مَعَهُ أَبَدًا. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِكَ دَعْنِي وَلَا أَعُودُ، فَهَهُنَا الْمَطْلُوبُ بِالسُّؤَالِ تَرْكُهُ. فَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَعُودُ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الطَّلَبِ، فَكَذَا هُنَا قَوْلُهُ يَا لَيْتَنا نُرَدُّ الدَّاخِلُ فِي هَذَا التَّمَنِّي الرَّدُّ، فَأَمَّا تَرْكُ التَّكْذِيبِ وَفِعْلُ الْإِيمَانِ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي التَّمَنِّي، بَلْ هُوَ حَاصِلٌ سَوَاءٌ حَصَلَ الرَّدُّ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا الزَّجَّاجُ وَالنَّحْوِيُّونَ قَالُوا: الْوَجْهُ الثَّانِي أَقْوَى، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ دَاخِلًا فِي التَّمَنِّي، وَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ إِخْبَارًا مَحْضًا. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ اللَّه كَذَّبَهُمْ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ:
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وَالْمُتَمَنِّي لَا يَجُوزُ تَكْذِيبُهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَمْرٍو. وَقَدِ احْتُجَّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ، إِلَّا أَنَّا قَدْ أَجَبْنَا عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ قَوِيَّةً، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ وَلا نُكَذِّبَ. ونَكُونَ بِالنَّصْبِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: بِإِضْمَارِ (أَنْ) عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي، وَالتَّقْدِيرُ: يَا لَيْتَنَا نَرُدُّ وَأَنْ لَا نُكَذِّبَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ مُبْدَلَةً مِنَ الْفَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَلَا نكذب، فتكون الواو هاهنا بِمَنْزِلَةِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزُّمَرِ: ٥٨] وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْوَجْهُ بِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقْرَأُ فَلَا نُكَذِّبَ بِالْفَاءِ عَلَى النَّصْبِ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْحَالُ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ غَيْرَ مُكَذِّبِينَ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ- لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ- أَيْ لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ شَارِبًا لِلَّبَنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَكُونُ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ دَاخِلَةً فِي التَّمَنِّي. وَأَمَّا أَنَّ الْمُتَمَنِّيَ كَيْفَ يَجُوزُ/ تَكْذِيبُهُ فَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَهِيَ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ وَلَا نُكَذِّبُ وَيَنْصُبُ وَنَكُونَ فَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ يَجْعَلُ قَوْلَهُ وَلا نُكَذِّبَ دَاخِلًا فِي التَّمَنِّي، بِمَعْنَى أَنَّا إِنْ رُدِدْنَا غَيْرَ مُكَذِّبِينَ نَكُنْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثالثة: قوله فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ تَمَنِّي رَدِّهِمْ إِلَى حَالَةِ التَّكْلِيفِ لِأَنَّ لَفْظَ الرَّدِّ إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَالْمَفْهُومُ مِنْهُ الرَّدُّ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ ثُمَّ عَايَنَ الشَّدَائِدَ وَالْأَحْوَالَ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّقْصِيرِ أَنَّهُ يَتَمَنَّى الرَّدَّ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، ليسعى في
509
إِزَالَةِ جَمِيعِ وُجُوهِ التَّقْصِيرَاتِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكُفَّارَ قَصَّرُوا فِي دَارِ الدُّنْيَا فَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الْعَوْدَ إِلَى الدُّنْيَا لِتَدَارُكِ تِلْكَ التَّقْصِيرَاتِ، وَذَلِكَ التَّدَارُكُ لَا يَحْصُلُ بِالْعَوْدِ إِلَى الدُّنْيَا فَقَطْ، وَلَا بِتَرْكِ التَّكْذِيبِ، وَلَا بِعَمَلِ الْإِيمَانِ بَلْ إِنَّمَا يَحْصُلُ التَّدَارُكُ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فَوَجَبَ إِدْخَالُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ تَحْتَ التَّمَنِّي.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَحْسُنُ مِنْهُمْ تَمَنِّي الرَّدِّ مَعَ أَنَّهُمْ يعلمون أن الرد يحصل لا الْبَتَّةَ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لَعَلَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الرَّدَّ لَا يَحْصُلُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ إِرَادَةِ الرَّدِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ [الْمَائِدَةِ: ٣٧] وَكَقَوْلِهِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الْأَعْرَافِ: ٥٠] فَلَمَّا صَحَّ أَنْ يُرِيدُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ، فَبِأَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَقْرَبُ، لِأَنَّ بَابَ التَّمَنِّي أَوْسَعُ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَتَمَنَّى مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُرِيدَ مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الْمَاضِيَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وفيه مسائل:
المسألة الأولى: معنى بَلْ هاهنا رَدُّ كَلَامِهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُمْ مَا تَمَنَّوُا الْعَوْدَ إِلَى الدُّنْيَا، وَتَرْكَ التَّكْذِيبِ، وَتَحْصِيلَ الْإِيمَانِ لِأَجْلِ كَوْنِهِمْ رَاغِبِينَ فِي الْإِيمَانِ، بَلْ لِأَجْلِ خَوْفِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ الَّذِي شَاهَدُوهُ وَعَايَنُوهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّغْبَةَ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ لَا تَنْفَعُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الرَّغْبَةُ رَغْبَةً فِيهِ، لِكَوْنِهِ إِيمَانًا وَطَاعَةً، فَأَمَّا الرَّغْبَةُ فِيهِ لِطَلَبِ الثَّوَابِ، وَالْخَوْفِ مِنَ الْعِقَابِ فَغَيْرُ مُفِيدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا أَخْفَوْهُ فِي الدُّنْيَا. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الَّذِي أَخْفَوْهُ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو رَوْقٍ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ يَجْحَدُونَ الشِّرْكَ فَيَقُولُونَ وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فَيُنْطِقُ اللَّه جَوَارِحَهُمْ فَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ، فَذَلِكَ حِينَ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَهْلُ التَّفْسِيرِ. الثَّانِي: / قَالَ الْمُبَرِّدُ: بَدَا لَهُمْ وَبَالُ عَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَسُوءُ عَاقِبَتِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُفْرَهُمْ مَا كَانَ بَادِيًا ظَاهِرًا لَهُمْ، لِأَنَّ مَضَارَّ كُفْرِهِمْ كَانَتْ خَفِيَّةً، فَلَمَّا ظَهَرَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا جَرَمَ قَالَ اللَّه تَعَالَى: بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: بَدَا لِلْأَتْبَاعِ مَا أَخَفَاهُ الرُّؤَسَاءُ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ. قَالَ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَقِيبَهُ وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام: ٢٩] وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَقَدْ كَانُوا يُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، وَبَدَا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَظَهَرَ بِأَنْ عَرَفَ غَيْرُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ مُنَافِقِينَ. الْخَامِسُ: قِيلَ بَدَا لَهُمْ مَا كَانَ عُلَمَاؤُهُمْ يُخْفُونَ مِنْ جَحْدِ نُبُوَّةِ الرَّسُولِ وَنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ فِي الْكُتُبِ وَالْبِشَارَةِ بِهِ، وَمَا كَانُوا يُحَرِّفُونَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا بِأَسْرِهَا أَنَّهُ ظَهَرَتْ فَضِيحَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وانهتكت أَسْتَارُهُمْ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطَّارِقِ: ٩].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ رَدَّهُمْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ تَرْكُ التَّكْذِيبِ وَفِعْلُ الْإِيمَانِ، بَلْ كَانُوا يَسْتَمِرُّونَ عَلَى طَرِيقَتِهِمُ الْأُولَى فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ قَدْ عَرَفُوا اللَّه بِالضَّرُورَةِ، وَشَاهَدُوا أَنْوَاعَ الْعِقَابِ وَالْعَذَابِ فَلَوْ رَدَّهُمُ اللَّه تَعَالَى
510
إِلَى الدُّنْيَا فَمَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ يَعُودُونَ إِلَى الْكُفْرِ باللَّه وَإِلَى مَعْصِيَةِ اللَّه.
قُلْنَا: قَالَ الْقَاضِي: تَقْرِيرُ الْآيَةِ وَلَوْ رُدُّوا إِلَى حَالَةِ التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الرَّدُّ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْقِيَامَةِ مَعْرِفَةُ اللَّه بِالضَّرُورَةِ، وَلَمْ يَحْصُلْ هُنَاكَ مُشَاهَدَةُ الْأَهْوَالِ وَعَذَابِ جَهَنَّمَ، فَهَذَا الشَّرْطُ يَكُونُ مُضْمَرًا لَا مَحَالَةَ فِي الْآيَةِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ هَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ غُلُوِّهِمْ فِي الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي الْإِيمَانِ، وَلَوْ قَدَّرْنَا عَدَمَ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى فِي الْقِيَامَةِ، وَعَدَمَ مُشَاهَدَةِ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ لَمْ يَكُنْ فِي إِصْرَارِ الْقَوْمِ عَلَى كُفْرِهِمُ الْأَوَّلِ مَزِيدُ تَعَجُّبٍ، لِأَنَّ إِصْرَارَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ يَجْرِي مَجْرَى إِصْرَارِ سَائِرِ الْكُفَّارِ عَلَى الْكُفْرِ فِي الدُّنْيَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ الْبَتَّةَ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ جَرَى عَلَيْهِمْ قَضَاؤُهُ فِي الأزل بالشرك. ثم إنه تعالى بين أنهم لو شاهدوا النار والعذاب، ثم سألوا الرجعة وردوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك، وَذَلِكَ الْقَضَاءُ السَّابِقُ فِيهِمْ، وَإِلَّا فَالْعَاقِلُ لَا يَرْتَابُ فِيمَا شَاهَدَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ خَبَرٍ حَتَّى يَصْرِفَ هَذَا التَّكْذِيبَ إِلَيْهِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الدَّاخِلُ فِي التَّمَنِّي هُوَ مُجَرَّدُ قوله يا لَيْتَنا نُرَدُّ أَمَّا الْبَاقِي فَهُوَ إِخْبَارٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلِ الْكُلُّ دَاخِلٌ فِي التَّمَنِّي، لِأَنَّ إِدْخَالَ التَّكْذِيبِ فِي التَّمَنِّي أَيْضًا جَائِزٌ، لِأَنَّ التَّمَنِّيَ يَدُلُّ عَلَى الْإِخْبَارِ عَلَى سَبِيلِ الضِّمْنِ وَالصَّيْرُورَةِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ لَيْتَ زَيْدًا جَاءَنَا فَكُنَّا تأكل ونشرب ونتحدث فكذا هاهنا. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٩]
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ حَصَلَ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، أَنَّهُ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي يُخْفُونَهُ هُوَ أَمْرُ الْمَعَادِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَهُ وَيُخْفُونَ صِحَّتَهُ وَيَقُولُونَ مَا لَنَا إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَوِيَّةُ، وَلَيْسَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ. وَالثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَلَأَنْكَرُوا الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ، وَقَالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٠]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِنْكَارَهُمْ لِلْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَيْفِيَّةَ حَالِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ، فَقَالَ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُشَبِّهَةِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ يَقِفُونَ عِنْدَ اللَّه وَبِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى بِحَيْثُ يَحْضُرُ فِي مَكَانٍ تَارَةً وَيَغِيبُ عَنْهُ تَارَةً أُخْرَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ، يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ وَاقِفِينَ عَلَى اللَّه تَعَالَى، كَمَا يَقِفُ أَحَدُنَا عَلَى الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُسْتَعْلِيًا عَلَى ذَاتِ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ بَاطِلٌ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ عَذَابِ/ الْكَافِرِينَ وَثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ أمر الآخر.
التَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْوُقُوفِ الْمَعْرِفَةُ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ وَقَفْتُ عَلَى كَلَامِكَ أَيْ عَرَفْتُهُ.
التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ وُقِفُوا لِأَجْلِ السُّؤَالِ فَخَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، مِنْ وُقُوفِ الْعَبْدِ بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمَقْصُودِ بِالْأَلْفَاظِ الْفَصِيحَةِ الْبَلِيغَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْقِيَامَةَ وَالْبَعْثَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يُقِرُّونَ بِهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ حَالَهُمْ فِي هَذَا الْإِنْكَارِ سَيَئُولُ إِلَى الْإِقْرَارِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا الْقِيَامَةَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ؟ وَهُوَ كَالْمُنَاقِضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَةِ: ١٧٤] وَالْجَوَابُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ وَلا يُكَلِّمُهُمُ أَيْ لَا يُكَلِّمُهُمْ بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ النَّافِعِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ التَّنَاقُضُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ لَهُمْ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ؟ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِكَوْنِهِ حَقًّا مَعَ الْقَسَمِ وَالْيَمِينِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَخَصَّ لَفْظَ الذَّوْقِ لِأَنَّهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ يَجِدُونَهُ وِجْدَانَ الذَّائِقِ فِي قُوَّةِ الْإِحْسَاسِ وَقَوْلُهُ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى مَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ احْتِجَاجًا عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا [الْأَنْعَامِ: ٢] عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ وَفَسَّرْنَاهُ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ عَنْ هَذَا المذهب والقول.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣١]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (٣١)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ شَرْحُ حَالَةٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ مُنْكِرِي/ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَهِيَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الْخُسْرَانِ. وَالثَّانِي: حَمْلُ الْأَوْزَارِ الْعَظِيمَةِ.
أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ حُصُولُ الْخُسْرَانِ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى بَعَثَ جَوْهَرَ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ الْقُدْسِيَّةِ الْجُسْمَانِيَّ وَأَعْطَاهُ هَذِهِ الْآلَاتِ الْجُسْمَانِيَّةَ وَالْأَدَوَاتِ الْجَسَدَانِيَّةَ وَأَعْطَاهُ الْعَقْلَ وَالتَّفَكُّرَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي يَعْظُمُ مَنَافِعُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْإِنْسَانُ هَذِهِ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ وَالْقُوَّةَ الْعَقْلِيَّةَ وَالْقُوَّةَ الْفِكْرِيَّةَ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ اللَّذَّاتِ الدَّائِرَةِ وَالسَّعَادَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ ثُمَّ انْتَهَى الْإِنْسَانُ إِلَى آخِرِ عُمُرِهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ قَدْ فَنِيَ وَالرِّبْحَ الَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ هو
512
الْمَطْلُوبُ فَنِيَ أَيْضًا وَانْقَطَعَ فَلَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ لَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَثَرٌ وَلَا مِنَ الرِّبْحِ شَيْءٌ. فَكَانَ هَذَا هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. وَهَذَا الْخُسْرَانُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَكَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ مُنْتَهَى السَّعَادَاتِ وَنِهَايَةَ الْكَمَالَاتِ هُوَ هَذِهِ السَّعَادَاتُ الْعَاجِلَةُ الْفَانِيَةُ. أَمَّا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ لَا يَغْتَرُّ بِهَذِهِ السَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَلَا يَكْتَفِي بِهَذِهِ الْخَيْرَاتِ الْعَاجِلَةِ بَلْ يَسْعَى فِي إِعْدَادِ الزَّادِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْخُسْرَانُ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّه وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ قَدْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا وَأَنَّهُمْ عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ يَتَحَسَّرُونَ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي تَحْصِيلِ الزَّادِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ وُجُوهِ: خُسْرَانِهِمْ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ. وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَالِاشْتِغَالِ بِعُبُودِيَّتِهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي حُبِّهِ وَخِدْمَتِهِ وَأَيْضًا فِي الِانْقِطَاعِ عَنِ الدُّنْيَا وَتَرْكِ مَحَبَّتِهَا وَفِي قَطْعِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَهَا، فَمَنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْعَى فِي إِعْدَادِ الزَّادِ لِمَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَسْعَى فِي قَطْعِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ الدُّنْيَا، فَإِذَا مَاتَ بَقِيَ كَالْغَرِيبِ فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ، وَكَالْمُنْقَطِعِ عَنْ أَحْبَابِهِ وَأَقَارِبِهِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَالَمِ الْجُسْمَانِيَّاتِ فَيَحْصُلُ لَهُ الْحَسَرَاتُ الْعَظِيمَةُ بِسَبَبِ فُقْدَانِ الزَّادِ وَعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْمُخَالَطَةِ بِأَهْلِ ذَلِكَ الْعَالَمِ وَيَحْصُلُ لَهُ الْآلَامُ الْعَظِيمَةُ بِسَبَبِ الِانْقِطَاعِ عَنْ لَذَّاتِ هَذَا الْعَالَمِ وَالِامْتِنَاعِ عَنِ الِاسْتِسْعَادِ بِخَيْرَاتِ هَذَا الْعَالَمِ. فَالْأَوَّلُ: هُوَ المراد من قوله قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَالثَّانِي: هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ فَهَذَا تَقْرِيرُ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْخُسْرَانِ فوت الثواب العظيم وحصول العقاب العظيم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ الْمُرَادُ مِنْهُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ، وَقَدْ بَالَغْنَا فِي شَرْحِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٦] وَإِنَّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الْكِنَايَةُ لِأَنَّ مَوْقِفَ الْقِيَامَةِ مَوْقِفٌ لَا حُكْمَ/ فِيهِ لِأَحَدٍ إِلَّا للَّه تَعَالَى، وَلَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ وَالرَّفْعِ وَالْخَفْضِ إِلَّا للَّه. وَقَوْلُهُ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً اعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ (حَتَّى) غَايَةٌ لِقَوْلِهِ كَذَّبُوا لَا لِقَوْلِهِ قَدْ خَسِرَ لِأَنَّ خُسْرَانَهُمْ لَا غَايَةَ لَهُ ومعنى (حتى) هاهنا أَنَّ مُنْتَهَى تَكْذِيبِهِمُ الْحَسْرَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا إِلَى أَنْ ظَهَرَتِ السَّاعَةُ بَغْتَةً.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يَتَحَسَّرُونَ عِنْدَ مَوْتِهِمْ.
قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْمَوْتُ وُقُوعًا فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَمُقَدِّمَاتِهَا جُعِلَ مِنْ جِنْسِ السَّاعَةِ وَسُمِّيَ بِاسْمِهَا وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ»
وَالْمُرَادُ بِالسَّاعَةِ الْقِيَامَةُ، وَفِي تَسْمِيَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِهَذَا الِاسْمِ وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُسَمَّى السَّاعَةَ لِسُرْعَةِ الْحِسَابِ فِيهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هِيَ إِلَّا سَاعَةُ الْحِسَابِ. الثَّانِي: السَّاعَةُ هِيَ الْوَقْتُ الَّذِي تَقُومُ الْقِيَامَةُ سُمِّيَتْ سَاعَةً لِأَنَّهَا تَفْجَأُ النَّاسَ فِي سَاعَةٍ لَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّه تَعَالَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: بَغْتَةً وَالْبَغْتُ وَالْبَغْتَةُ هُوَ الْفَجْأَةُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ السَّاعَةَ لَا تَجِيءُ إِلَّا دَفْعَةً لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَتَى يَكُونُ مَجِيئُهَا، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَكُونُ حُدُوثُهَا وَقَوْلُهُ بَغْتَةً انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ بِمَعْنَى: بَاغِتَةً أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: بَغَتَتْهُمُ السَّاعَةُ بغتة. ثم قال تعالى: قالُوا يا حَسْرَتَنا قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى دُعَاءِ الْحَسْرَةِ تَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ عَلَى مَا سَيَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ الْحَسْرَةِ وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ عَنْ تَعْظِيمِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِهَذِهِ اللفظة كقوله تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: ٣٠] ويا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزُّمَرِ: ٥٦] يا وَيْلَتى أَأَلِدُ [هود: ٧٢]
513
وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: الْحَسْرَةُ عَلَيْنَا في تفريطنا ومثله يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يُوسُفَ: ٨٤] تَأْوِيلُهُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَنَبَّهُوا عَلَى مَا وَقَعَ بِي مِنَ الْأَسَفِ فَوَقَعَ النِّدَاءُ عَلَى غَيْرِ الْمُنَادَى فِي الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّكَ إِذَا قُلْتَ يَا عَجَبَاهُ فَكَأَنَّكَ قُلْتَ يَا عَجَبُ احْضَرْ وَتَعَالَ فَإِنَّ هَذَا زَمَانُكَ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: حَصَلَ للنداء هاهنا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّدَاءَ لِلْحَسْرَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِينَ وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُنَادَى هُوَ نَفْسُ الْحَسْرَةِ عَلَى مَعْنَى: أَنَّ هَذَا وَقْتُكِ فَاحْضَرِي وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَقَوْلُهُ عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها فِيهِ بَحْثَانِ.
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُقَالُ: فَرَّطْتُ فِي الشَّيْءِ أَيْ ضَيَّعْتُهُ فَقَوْلُهُ فَرَّطْنا أَيْ تَرَكْنَا وَضَيَّعْنَا وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَرَّطْنَا أَيْ قَدَّمْنَا الْعَجْزَ جَعَلَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَرَطَ فُلَانٌ إِذَا سَبَقَ وَتَقَدَّمَ، وَفَرَّطَ الشَّيْءَ إِذَا قَدَّمَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَالتَّفْرِيطُ عِنْدَهُ تَقْدِيمُ التَّقْصِيرِ.
وَالْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فِيها إِلَى مَاذَا يَعُودُ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الدُّنْيَا وَالسُّؤَالُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لِلدُّنْيَا ذِكْرٌ فَكَيْفَ يُمْكِنُ عَوْدُ هَذَا الضَّمِيرِ إِلَيْهَا. وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ التَّقْصِيرِ لَيْسَ إِلَّا الدُّنْيَا، فَحَسُنَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهَا لِهَذَا الْمَعْنَى. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ/ الْمُرَادُ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي السَّاعَةِ، وَالْمَعْنَى: عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي إِعْدَادِ الزَّادِ لِلسَّاعَةِ وَتَحْصِيلِ الْأُهْبَةِ لَهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَعُودَ الكناية إلى معنى ما في قوله ما فَرَّطْنا أَيْ حَسْرَتُنَا عَلَى الْأَعْمَالِ وَالطَّاعَاتِ الَّتِي فَرَّطْنَا فِيهَا. وَالرَّابِعُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الْكِنَايَةُ تَعُودُ إِلَى الصَّفْقَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْخُسْرَانَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُصُولِ الصَّفْقَةِ وَالْمُبَايَعَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِمْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَحْصُلُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا بِهِ يَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ، وَقَوْلُهُ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ حَصَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا بِهِ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ الْعَظِيمَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ نِهَايَةُ الْخُسْرَانِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَوْزَارُ الْآثَامُ وَالْخَطَايَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْوِزْرُ الثِّقَلُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَمْلِ يُقَالُ وَزَرْتُ الشَّيْءَ أَيْ حَمَلْتُهُ أَزِرُهُ وِزْرًا، ثُمَّ قِيلَ لِلذُّنُوبِ أَوْزَارٌ لِأَنَّهَا تُثْقِلُ ظَهْرَ مَنْ عَمِلَهَا، وَقَوْلُهُ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [فاطر:
١٨] أَيْ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حَامِلَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا بَسَطَ ثَوْبَهُ فَجَعَلَ فِيهِ الْمَتَاعَ احْمِلْ وِزْرَكَ وَأَوْزَارُ الْحَرْبِ أَثْقَالُهَا مِنَ السِّلَاحِ وَوَزِيرُ السُّلْطَانِ الَّذِي يَزِرُ عَنْهُ أَثْقَالَ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ مِنْ تَدْبِيرِ الْوِلَايَةِ أَيْ يَحْمِلُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ أَيْ يَحْمِلُونَ ثِقَلَ ذُنُوبِهِمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ حَمْلِهِمُ الْأَوْزَارِ فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ اسْتَقْبَلَهُ شَيْءٌ هُوَ أَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ صُورَةً وَأَطْيَبُهَا رِيحًا وَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ طَالَمَا رَكِبْتُكَ فِي الدُّنْيَا فَارْكَبْنِي أَنْتَ الْيَوْمَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [مَرْيَمَ: ٨٥] قَالُوا رُكْبَانًا وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ اسْتَقْبَلَهُ شَيْءٌ هُوَ أَقْبَحُ الْأَشْيَاءِ صُورَةً وَأَخْبَثُهَا رِيحًا فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْفَاسِدُ طَالَمَا رَكِبْتَنِي فِي الدُّنْيَا فَأَنَا أَرْكَبُكَ الْيَوْمَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الثِّقَلُ كَمَا يُذْكَرُ فِي الْمَنْقُولِ، فَقَدْ يُذْكَرُ أَيْضًا فِي الْحَالِ وَالصِّفَةِ يُقَالُ: ثَقُلَ عَلَيَّ خِطَابُ فُلَانٍ، وَالْمَعْنَى كَرِهْتُهُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُقَاسُونَ عَذَابَ ذُنُوبِهِمْ مُقَاسَاةَ ثِقَلِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ أَيْ لَا تُزَايِلُهُمْ أَوْزَارُهُمْ كَمَا تَقُولُ شَخْصُكَ نُصْبَ عَيْنِي أَيْ ذِكْرُكَ مُلَازِمٌ لِي.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ وَالْمَعْنَى بِئْسَ الشَّيْءُ الَّذِي يَزِرُونَهُ أَيْ يَحْمِلُونَهُ وَالِاسْتِقْصَاءُ في تفسير
514
هَذَا اللَّفْظِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي قوله وَساءَ سَبِيلًا [سورة النساء: ٢٢].
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٢]
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)
[فِي قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ تَعْظُمُ رَغْبَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَتَحْصِيلِ لَذَّاتِهَا، فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ تَنْبِيهًا عَلَى خَسَاسَتِهَا وَرَكَاكَتِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الْحَيَاةِ لَا يُمْكِنُ ذَمُّهَا لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الْعَاجِلَةَ لَا يَصِحُّ اكْتِسَابُ السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ إِلَّا فِيهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَصَلَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ حَيَاةُ الْكَافِرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ حَيَاةَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ، وَالسَّبَبُ فِي وَصْفِ حَيَاةِ هَؤُلَاءِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّ حَيَاةَ الْمُؤْمِنِ يَحْصُلُ فِيهَا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ فَلَا تَكُونُ لَعِبًا وَلَهْوًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي حَيَاةِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ اللَّذَّاتُ الْحَاصِلَةُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَالطَّيِّبَاتُ الْمَطْلُوبَةُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا بِاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ حَالَ اشْتِغَالِهِ بِاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ يَلْتَذُّ بِهِ، ثُمَّ عِنْدَ انْقِرَاضِهِ وَانْقِضَائِهِ لَا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا النَّدَامَةُ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْحَيَاةُ لَا يَبْقَى عِنْدَ انْقِرَاضِهَا إِلَّا الْحَسْرَةُ وَالنَّدَامَةُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَسْمِيَةَ هَذِهِ الْحَيَاةِ بِاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُدَّةَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ قَلِيلَةٌ سَرِيعَةُ الِانْقِضَاءِ وَالزَّوَالِ، وَمُدَّةَ هَذِهِ الْحَيَاةِ كَذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْسَاقَا فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَكَارِهِ وَلَذَّاتُ الدُّنْيَا كَذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ، إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ الِاغْتِرَارِ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ، وَأَمَّا عِنْدَ التَّأَمُّلِ التَّامِّ وَالْكَشْفِ عَنْ حَقَائِقِ الْأُمُورِ، لَا يَبْقَى اللَّعِبُ وَاللَّهْوُ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ، فَإِنَّهُمَا لَا يَصْلُحَانِ إِلَّا لِلصِّبْيَانِ وَالْجُهَّالِ الْمُغَفَّلِينَ، أَمَّا الْعُقَلَاءُ وَالْحُصَفَاءُ، فَقَلَّمَا يَحْصُلُ لَهُمْ خَوْضٌ فِي اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، فَكَذَلِكَ الِالْتِذَاذُ بِطَيِّبَاتِ الدُّنْيَا وَالِانْتِفَاعِ بِخَيْرَاتِهَا لَا يَحْصُلُ، إِلَّا لِلْمُغَفَّلِينَ الْجَاهِلِينَ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ، فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْخَيْرَاتِ غُرُورٌ، وَلَيْسَ لَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ مُعْتَبَرَةٌ. الرَّابِعُ:
أَنَّ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ لَيْسَ لَهُمَا عَاقِبَةٌ مَحْمُودَةٌ، فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ اللَّذَّاتِ وَالْأَحْوَالَ الدُّنْيَوِيَّةَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ/ وَلَيْسَ لَهُمَا حَقِيقَةٌ مُعْتَبَرَةٌ. وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَصَفَ الْآخِرَةَ بِكَوْنِهَا خَيْرًا، ويدل على أن الأمر كذلك حصول التفات بَيْنَ أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ فِي أُمُورٍ أَحَدُهَا: أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا خَسِيسَةٌ وَخَيْرَاتِ الْآخِرَةِ شَرِيفَةٌ بَيَانُ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ إِلَّا قَضَاءَ الشَّهْوَتَيْنِ، وَهُوَ فِي نِهَايَةِ الْخَسَاسَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الْخَسِيسَةَ تُشَارِكُ الْإِنْسَانَ فِيهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ أَمْرُ تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ فِيهَا أَكْمَلَ مِنْ أَمْرِ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ الْجَمَلَ أَكْثَرُ أَكْلًا، وَالدِّيكَ وَالْعُصْفُورَ أَكْثَرُ وِقَاعًا، وَالذِّئْبَ أَقْوَى عَلَى الْفَسَادِ وَالتَّمْزِيقِ، وَالْعَقْرَبَ أَقْوَى عَلَى الْإِيلَامِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى خَسَاسَتِهَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ شَرِيفَةً لَكَانَ الْإِكْثَارُ مِنْهَا يُوجِبُ زِيَادَةَ الشَّرَفِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ الَّذِي وَقَّفَ كُلَّ عُمْرِهِ عَلَى الْأَكْلِ وَالْوِقَاعِ أَشْرَفَ النَّاسِ، وَأَعْلَاهُمْ دَرَجَةً، وَمَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ مِثْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ يَكُونُ مَمْقُوتًا مُسْتَقْذَرًا مُسْتَحْقَرًا يُوصَفُ بِأَنَّهُ بَهِيمَةٌ أَوْ كَلْبٌ أَوْ أَخَسُّ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ لَا يَفْتَخِرُونَ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ بَلْ
515
يُخْفُونَهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ الْعُقَلَاءُ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِالْوِقَاعِ يَخْتَفُونَ وَلَا يُقْدِمُونَ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِمَحْضَرٍ مِنَ النَّاسِ.
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تُوجِبُ الشَّرَفَ بَلِ النَّقْصَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ النَّاسَ إِذَا شَتَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَا يَذْكُرُونَ فِيهِ إِلَّا الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَى الْوِقَاعِ، وَلَوْلَا أَنَّ تِلْكَ اللَّذَّةَ مِنْ جِنْسِ النُّقْصَانَاتِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ اللَّذَّاتِ تَرْجِعُ حَقِيقَتُهَا إِلَى دَفْعِ الْآلَامِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَشَدَّ جُوعًا وَأَقْوَى حَاجَةً كَانَ الْتِذَاذُهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَكْمَلَ لَهُ وَأَقْوَى، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِهَذِهِ اللَّذَّاتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ هَذِهِ اللَّذَّاتِ سَرِيعَةُ الِاسْتِحَالَةِ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ سَرِيعَةُ الِانْقِضَاءِ.
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ خَسَاسَةُ هَذِهِ اللَّذَّاتِ. وَأَمَّا السَّعَادَاتُ الرُّوحَانِيَّةُ فَإِنَّهَا سَعَادَاتٌ شَرِيفَةٌ عَالِيَةٌ بَاقِيَةٌ مُقَدَّسَةٌ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ إِذَا تَخَيَّلُوا فِي الْإِنْسَانِ كَثْرَةَ الْعِلْمِ وَشِدَّةَ الِانْقِبَاضِ عَنِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ بِالطَّبْعِ يُعَظِّمُونَهُ وَيَخْدِمُونَهُ وَيَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَبِيدًا لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ وَأَشْقِيَاءَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شَهَادَةِ الْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِخَسَاسَةِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَكَمَالِ مَرْتَبَةِ اللَّذَّاتِ الرُّوحَانِيَّةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ أَفْضَلُ مِنْ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا، هو أَنْ نَقُولَ: هَبْ أَنَّ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ تَشَارَكَا فِي الْفَضْلِ وَالْمَنْقَبَةِ، إِلَّا أَنَّ الْوُصُولَ إِلَى الْخَيْرَاتِ الْمَوْعُودَةِ فِي غَدِ الْقِيَامَةِ مَعْلُومٌ قَطْعًا. وَأَمَّا الْوُصُولُ إِلَى الْخَيْرَاتِ الْمَوْعُودَةِ فِي غَدِ الدُّنْيَا فَغَيْرُ مَعْلُومٍ بَلْ وَلَا مَظْنُونٍ، فَكَمْ مِنْ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ فِي بُكْرَةِ الْيَوْمَ صَارَ تَحْتَ التُّرَابِ فِي آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَكَمْ مِنْ أَمِيرٍ كَبِيرٍ أَصْبَحَ فِي/ الْمُلْكِ وَالْإِمَارَةِ، ثُمَّ أَمْسَى أَسِيرًا حَقِيرًا، وَهَذَا التَّفَاوُتُ أَيْضًا يُوجِبُ الْمُبَايَنَةَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّهُ وَجَدَ الْإِنْسَانُ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ يَوْمًا آخَرَ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِمَا جَمَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالطَّيِّبَاتِ وَاللَّذَّاتِ أَمْ لَا؟ أَمَّا كُلُّ مَا جَمَعَهُ مِنْ مُوجِبَاتِ السَّعَادَاتِ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: هَبْ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا أَنَّ انْتِفَاعَهُ بِخَيْرَاتِ الدُّنْيَا لَا يَكُونُ خَالِيًا عَنْ شَوَائِبِ الْمَكْرُوهَاتِ، وَمُمَازَجَةِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُخَوَّفَاتِ. وَلِذَلِكَ
قِيلَ: مَنْ طَلَبَ مَا لَمْ يُخْلَقْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ وَلَمْ يُرْزَقْ. فَقِيلَ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: «سُرُورُ يَوْمٍ بِتَمَامِهِ».
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: هَبْ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ وَالطَّيِّبَاتِ فِي الْغَدِ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَنَافِعَ مُنْقَرِضَةٌ ذَاهِبَةٌ بَاطِلَةٌ، وَكُلَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الْمَنَافِعُ أَقْوَى وَأَلَذَّ وَأَكْمَلَ وَأَفْضَلَ كَانَتِ الْأَحْزَانُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ انْقِرَاضِهَا وَانْقِضَائِهَا أَقْوَى وَأَكْمَلَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْمُتَنَبِّي:
أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالَا
فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ سَعَادَاتِ الدُّنْيَا وَخَيْرَاتِهَا مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ الْعَظِيمَةِ، وَالنُّقْصَانَاتِ الْكَامِلَةِ، وَسَعَادَاتِ الْآخِرَةِ مُبَرَّأَةٌ عَنْهَا، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْآخِرَةَ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ وَأَبْقَى وَأَتْقَى وَأَحْرَى وَأَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ بِإِضَافَةِ الدَّارِ إِلَى الْآخِرَةِ، وَالْبَاقُونَ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ عَلَى جَعْلِ الْآخِرَةِ نَعْتًا لِلدَّارِ. أَمَّا وَجْهُ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ فَهُوَ أَنَّ الصِّفَةَ فِي الْحَقِيقَةِ مُغَايِرَةٌ لِلْمَوْصُوفِ فَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ بَارِحَةُ الْأُولَى، وَيَوْمُ الْخَمِيسَ وَحَقُّ الْيَقِينِ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا تَجُوزُ هذه
516
الْإِضَافَةُ، قَالُوا لِأَنَّ الصِّفَةَ نَفْسُ الْمَوْصُوفِ، وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مُمْتَنِعَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصِّفَةَ نَفْسُ الْمَوْصُوفِ وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ يُعْقَلُ تَصَوُّرُ الْمَوْصُوفِ مُنْفَكًّا عَنِ الصِّفَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْصُوفُ عَيْنَ الصِّفَةِ لَكَانَ ذَلِكَ مُحَالًا، وَلِقَوْلِهِمْ وَجْهٌ دَقِيقٌ يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَكَانِ، ثُمَّ إِنَّ الْبَصْرِيِّينَ ذَكَرُوا فِي تَصْحِيحِ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَجْهًا آخَرَ، فَقَالُوا لَمْ يَجْعَلِ الْآخِرَةَ صِفَةً لِلدَّارِ، لَكِنَّهُ جَعَلَهَا صِفَةً لِلسَّاعَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَدَارُ السَّاعَةِ الْآخِرَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ تَكُونُ قَدْ أُقِيمَتِ الْآخِرَةُ الَّتِي هِيَ الصِّفَةُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ الَّذِي هُوَ السَّاعَةُ وَذَلِكَ قَبِيحٌ. قُلْنَا لَا يَقْبُحُ ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الصِّفَةُ قَدِ اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ/ الأسماء ولفظ الآخرة قد استعمل الْأَسْمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: قَوْلُهُ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [الضُّحَى: ٤] وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي جَعْلَ الْآخِرَةِ صِفَةً لِلدَّارِ وَذَلِكَ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَمَتَى أَمْكَنَ إِجْرَاءُ الْكَلَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْعُدُولِ عَنْهُ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى وُجُوهٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْجَنَّةُ، وَإِنَّهَا خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ نَفْسُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: التَّمَسُّكُ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: نَعِيمُ الْآخِرَةِ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا، مِنْ حيث إنها كانت بَاقِيَةٌ دَائِمَةٌ مَصُونَةٌ عَنِ الشَّوَائِبِ آمِنَةٌ مِنَ الِانْقِضَاءِ وَالِانْقِرَاضِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ فَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِمَنْ كَانَ مِنَ الْمُتَّقِينَ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ. فَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ فَلَا! لِأَنَّ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ خَيْرٌ مِنَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ».
ثُمَّ قَالَ: أَفَلا تَعْقِلُونَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ أَفَلا تَعْقِلُونَ بالتاء هاهنا وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَيُوسُفَ وَيس. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ فِي يس بِالْيَاءِ وَالْبَاقِي بِالتَّاءِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى فِي يُوسُفَ بِالتَّاءِ وَالْبَاقِي بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ الْأَعْشَى وَالْبُرْجُمِيِّ جَمِيعَ ذَلِكَ بِالْيَاءِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ مَعْنَاهُ: أَفَلَا يَعْقِلُونَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ؟
فَيَعْمَلُونَ لِمَا يَنَالُونَ بِهِ الدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ وَالنَّعِيمَ الدَّائِمَ فَلَا يَفْتُرُونَ فِي طَلَبِ مَا يُوصِلُ إِلَى ذَلِكَ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ، فَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ أَنَّ ذلك خير؟ واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٣]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ طَوَائِفَ الْكُفَّارِ كَانُوا فِرَقًا كَثِيرِينَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ نُبُوَّتَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ رِسَالَةَ الْبَشَرِ وَيَقُولُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّه مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ شُبْهَةَ هَؤُلَاءِ وَأَجَابَ عَنْهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يُخْبِرُنَا بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَذَلِكَ/ مُحَالٌ. وَكَانُوا يَسْتَدِلُّونَ بِامْتِنَاعِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ عَلَى الطَّعْنِ فِي رِسَالَتِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ وَأَجَابَ عَنْهُ بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُشَافِهُهُ بِالسَّفَاهَةِ وَذِكْرِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْقَوْلِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاخْتَلَفُوا
517
فِي أَنَّ ذَلِكَ الْمُحْزِنَ مَا هُوَ؟ فَقِيلَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّهُ سَاحِرٌ وَشَاعِرٌ وَكَاهِنٌ وَمَجْنُونٌ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَقِيلَ:
إِنَّهُمْ كَانُوا يُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَا يَقْبَلُونَ دِينَهُ وَشَرِيعَتَهُ. وَقِيلَ: كَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْكَذِبِ وَالِافْتِعَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ لَيَحْزُنُكَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ وَهُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ حَزَنَنِي كَذَا وَأَحْزَنَنِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ خَفِيفَةً وَالْبَاقُونَ يُكَذِّبُونَكَ مُشَدَّدَةً وَفِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا ظَاهِرًا ثُمَّ ذَكَرُوا فِي تَقْرِيرِ الْفَرْقِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَانَ الْكِسَائِيُّ يَقْرَأُ بِالتَّخْفِيفِ، وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ كَذَبْتَ الرَّجُلَ إِذَا نَسَبْتَهُ إِلَى الْكَذِبِ وَإِلَى صُنْعِهِ الْأَبَاطِيلَ مِنَ الْقَوْلِ وَأَكْذَبْتَهُ إِذَا أَخْبَرْتَ أَنَّ الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ كَذِبٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِافْتِعَالِهِ وَصُنْعِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى كَذَبْتُهُ قُلْتُ لَهُ كَذَبْتَ وَمَعْنَى أَكْذَبْتُهُ أَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ كَذِبٌ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ ادِّعَاءٍ أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ تَكَلَّفَ ذَلِكَ الْكَذِبَ وَأَتَى بِهِ عَلَى سَبِيلِ الِافْتِعَالِ وَالْقَصْدِ فَكَأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِافْتِعَالِ وَالتَّرْوِيجِ بَلْ تَخَيَّلَ صِحَّةَ تِلْكَ النُّبُوَّةِ وَتِلْكَ الرِّسَالَةِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي تَخَيَّلَهُ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ. وَالْفَرْقُ الثَّانِي قَالَ أَبُو عَلِيٍّ:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى لَا يُكَذِّبُونَكَ أَيْ لَا يُصَادِفُونَكَ كَاذِبًا لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَكَ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ كَمَا يُقَالُ أَحْمَدْتُ الرَّجُلَ إِذَا أَصَبْتَهُ مَحْمُودًا فَأَحْبَبْتَهُ وَأَحْسَنْتُ مَحْمَدَتَهُ إِذَا صَادَفْتَهُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدًا لِأَنَّ مَعْنَى التَّفْعِيلِ النِّسْبَةُ إِلَى الْكَذِبِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ كَذَبْتَ كَمَا تَقُولُ ذَنَّبْتُهُ وَفَسَّقْتُهُ وَخَطَّأْتُهُ أَيْ قُلْتُ لَهُ فَعَلْتَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَسَقَّيْتُهُ وَرَعَّيْتُهُ أَيْ قُلْتُ لَهُ سَقَاكَ اللَّه وَرَعَاكَ وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَفَعَلْتُهُ قَالُوا أَسْقَيْتُهُ أَيْ قُلْتُ لَهُ سَقَاكَ اللَّه.
قَالَ ذُو الرمة:
وأسقيه حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُهُ وَمَلَاعِبُهْ
أَيْ أَنْسُبُهُ إِلَى السُّقْيَا بِأَنْ أَقُولَ سَقَاكَ اللَّه فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدًا، إِلَّا أَنَّ فَعَّلْتُ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَنْسُبُوهُ إِلَى أَمْرٍ أَكْثَرُ مِنْ أَفْعَلْتُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّه وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَوْمَ مَا كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ فِي السِّرِّ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَيَجْحَدُونَ الْقُرْآنَ وَالنُّبُوَّةَ. ثُمَّ ذَكَرُوا لِتَصْحِيحِ هَذَا الْوَجْهِ رِوَايَاتٍ: إحداها: أن الحرث بْنَ عَامِرٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ يَا مُحَمَّدُ واللَّه مَا كَذَبْتَنَا قَطُّ وَلَكِنَّا إِنِ اتَّبَعْنَاكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا فَنَحْنُ لَا نُؤْمِنُ بِكَ لِهَذَا السَّبَبِ. وَثَانِيهَا:
رُوِيَ أَنَّ الْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ قَالَ لِأَبِي جَهْلٍ: يَا أَبَا الْحَكَمِ أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا أَحَدٌ غَيْرَنَا، فَقَالَ لَهُ واللَّه إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ وَمَا كَذَبَ قَطُّ؟ وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَ بَنُو قُصَيٍّ بِاللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالْحِجَابَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الْقَوْمَ لَا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بنوّتك
518
بِأَلْسِنَتِهِمْ وَظَاهِرِ قَوْلِهِمْ وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النَّمْلِ: ١٤].
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ إِنَّكَ أَنْتَ كَذَّابٌ لِأَنَّهُمْ جَرَّبُوكَ الدَّهْرَ الطَّوِيلَ وَالزَّمَانَ الْمَدِيدَ وَمَا وَجَدُوا مِنْكَ كَذِبًا الْبَتَّةَ وَسَمَّوْكَ بِالْأَمِينِ فَلَا يَقُولُونَ فِيكَ إِنَّكَ كَاذِبٌ وَلَكِنْ جَحَدُوا صِحَّةَ نُبُوَّتِكَ وَرِسَالَتِكَ إِمَّا لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ مُحَمَّدًا عَرَضَ لَهُ نَوْعُ خَبَلٍ وَنُقْصَانٍ فَلِأَجْلِهِ تَخَيَّلَ مِنْ نَفْسِهِ كَوْنَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ: لَا يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْكَذِبِ أَوْ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ مَا كَذَبَ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ، بَلْ هُوَ أَمِينٌ فِي كُلِّهَا إِلَّا فِي هَذَا الْوَجْهِ الْوَاحِدِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّأْوِيلِ: أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَاتُ الْقَاهِرَةُ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ أَصَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ فاللَّه تَعَالَى قَالَ لَهُ إِنَّ الْقَوْمَ مَا كَذَّبُوكَ، وَإِنَّمَا كَذَّبُونِي، وَنَظِيرُهُ أَنَّ رَجُلًا إِذَا أَهَانَ عَبْدًا لِرَجُلٍ آخَرَ، فَقَالَ هَذَا الْآخَرُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ إِنَّهُ مَا أَهَانَكَ، وَإِنَّمَا أَهَانَنِي: وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ نَفْيَ الْإِهَانَةِ عَنْهُ بَلِ الْمَقْصُودُ تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَتَفْخِيمُ الشَّأْنِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ إِهَانَةَ ذَلِكَ الْعَبْدِ جَارِيَةٌ مَجْرَى إِهَانَتِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: ١٠].
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ وَهُوَ كَلَامٌ خَطَرَ بِالْبَالِ، هُوَ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ أَيْ لَا يَخُصُّونَكَ بِهَذَا التَّكْذِيبِ بَلْ يُنْكِرُونَ دَلَالَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ مُعْجِزَةٍ إِنَّهَا سِحْرٌ وَيُنْكِرُونَ دَلَالَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ: إِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ عَلَى التَّعْيِينِ بَلِ الْقَوْمُ يُكَذِّبُونَ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ والرسل، واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٤]
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)
فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ الْحُزْنَ عَنْ قَلْبِ رَسُولِهِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ تَكْذِيبَهُ يَجْرِي مَجْرَى تَكْذِيبِ اللَّه تَعَالَى فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَرِيقًا آخَرَ فِي إِزَالَةِ الْحُزْنِ عَنْ قَلْبِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ سَائِرَ الْأُمَمِ عَامَلُوا أَنْبِيَاءَهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ، وَأَنَّ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءَ صَبَرُوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ حَتَّى أَتَاهُمُ النَّصْرُ وَالْفَتْحُ وَالظَّفَرُ فَأَنْتَ أَوْلَى بِالْتِزَامِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لِأَنَّكَ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا تَظْفَرْ كَمَا ظَفِرُوا.
ثُمَّ أَكَّدَ وَقَوَّى تَعَالَى هَذَا الْوَعْدَ بِقَوْلِهِ وَلَا مبدل لكلمات اللَّه يعني أن وعد اللَّه إِيَّاكَ بِالنَّصْرِ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَلَا يُمْكِنُ تَطَرُّقُ الْخُلْفِ وَالتَّبْدِيلِ إِلَيْهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ [الصفات: ١٧١] وَقَوْلِهِ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [الْمُجَادَلَةِ: ٢١] وَبِالْجُمْلَةِ فَالْخُلْفُ فِي كَلَامِ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ وَقَوْلُهُ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أَيْ خَبَرُهُمْ فِي الْقُرْآنِ كَيْفَ أَنْجَيْنَاهُمْ وَدَمَّرْنَا قَوْمَهُمْ. قال الأخفش (من) هاهنا صِلَةٌ، كَمَا تَقُولُ أَصَابَنَا مِنْ مَطَرٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا لَا تُزَادُ فِي الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا تُزَادُ مَعَ النَّفْيِ كَمَا تقول: ما أتاني من أحد، وهي هاهنا لِلتَّبْعِيضِ، فَإِنَّ الْوَاصِلَ إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصَصُ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ لَا قَصَصُ كُلِّهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غَافِرٍ: ٧٨] وَفَاعِلُ (جَاءَ) مضمر أضمر
لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَلَقَدْ جَاءَكَ نَبَأٌ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ لِأَنَّ كُلَّ مَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْ وُقُوعِهِ، فَذَلِكَ الْخَبَرُ مُمْتَنِعُ التَّغَيُّرِ، وَإِذَا امْتَنَعَ تَطْرَّقَ التَّغَيُّرُ إِلَى ذَلِكَ الْخَبَرِ امْتَنَعَ تَطَرُّقُ التَّغَيُّرِ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ. فَإِذَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْ بَعْضِهِمْ بِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ كَانَ تَرْكُ الْكُفْرِ مِنْهُ مُحَالًا. فَكَانَ تَكْلِيفُهُ بِالْإِيمَانِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٥]
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَنَّ الْحَرْثَ بْنَ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ ائْتِنَا مِنْ عِنْدِ اللَّه كَمَا كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تَفْعَلُ فَإِنَّا نُصَدِّقُ بِكَ فَأَبَى اللَّه أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِهَا فَأَعْرَضُوا عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَالْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِكَ، وَصِحَّةِ الْقُرْآنِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَافْعَلْ.
فَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ وَحَسُنَ هَذَا الْحَذْفُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ فِي النُّفُوسِ. وَالنَّفَقُ سَرَبٌ فِي الْأَرْضِ لَهُ مَخْلَصٌ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، وَمِنْهُ نَافِقَاءُ الْيَرْبُوعِ لِأَنَّ الْيَرْبُوعَ يَثْقُبُ الْأَرْضَ إلى القعر، ثم يصعد من ذلك القعر إِلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَكَأَنَّهُ يَنْفُقُ الْأَرْضَ نَفْقًا، أَيْ يَجْعَلُ لَهُ مَنْفَذًا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ. وَمِنْهُ أَيْضًا سُمِّيَ الْمُنَافِقُ مُنَافِقًا لِأَنَّهُ يُضْمِرُ غَيْرَ مَا يُظْهِرُ كَالنَّافِقَاءِ الَّذِي يَتَّخِذُهُ الْيَرْبُوعُ وَأَمَّا السُّلَّمُ فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلَامَةِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُسَلِّمُكَ إِلَى مَصْعَدِكَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يَقْطَعَ الرَّسُولُ طَمَعَهُ عَنْ إِيمَانِهِمْ، وَأَنْ لَا يَتَأَذَّى بِسَبَبِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّه هُدَاهُمْ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى وَحَيْثُمَا جَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَا شَاءَ هُدَاهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ بَلْ يُرِيدُ إِبْقَاءَهُ عَلَى الْكُفْرِ، وَالَّذِي يُقَرِّبُ هَذَا الظَّاهِرَ أَنَّ قُدْرَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِلْإِيمَانِ، أَوْ غَيْرَ صَالِحَةٍ لَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لَهُ فَالْقُدْرَةُ عَلَى الْكُفْرِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْكُفْرِ، وَغَيْرُ صَالِحَةٍ لِلْإِيمَانِ، فَخَالِقُ هَذِهِ الْقُدْرَةِ يَكُونُ قَدْ أَرَادَ/ هَذَا الْكُفْرَ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ، كَمَا أَنَّهَا صَلَحَتْ لِلْكُفْرِ فَهِيَ أَيْضًا صَالِحَةٌ لِلْإِيمَانِ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ نِسْبَةُ الْقُدْرَةِ إِلَى الطَّرَفَيْنِ امْتَنَعَ رُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، إِلَّا لِدَاعِيَةٍ مُرَجِّحَةٍ، وَحُصُولُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ لَيْسَ مِنَ الْعَبْدِ، وَإِلَّا وَقَعَ التَّسَلْسُلُ، فَثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَثَبَتَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِيَةِ الْحَاصِلَةِ مُوجِبٌ لِلْفِعْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ خَالِقَ مَجْمُوعِ تِلْكَ الْقُدْرَةِ مَعَ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِذَلِكَ الْكُفْرِ مُرِيدٌ لِذَلِكَ الْكُفْرِ، وَغَيْرُ مُرِيدٍ لِذَلِكَ الْإِيمَانِ. فَهَذَا الْبُرْهَانُ الْيَقِينِيُّ قَوِيٌّ ظَاهِرٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا بَيَانَ أَقْوَى مِنْ أَنْ يَتَطَابَقَ الْبُرْهَانُ مَعَ ظَاهِرِ القرآن. قالت المعتزلة: المراد ولو شَاءَ اللَّه أَنْ يُلْجِئَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ لِجَمَعَهُمْ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْإِلْجَاءُ هُوَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ حَاوَلُوا غَيْرَ الْإِيمَانِ لَمَنَعَهُمْ مِنْهُ، وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُونَ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ غَيْرِ الْإِيمَانِ. وَمِثَالُهُ: أَنَّ أَحَدَنَا لَوْ حَصَلَ بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ وحضر
هُنَاكَ مِنْ حَشَمِهِ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ، وَهَذَا الرَّجُلُ علم أنه لو هم بقتل ذلك السُّلْطَانِ لَقَتَلُوهُ فِي الْحَالِ، فَإِنَّ هَذَا الْعِلْمَ يَصِيرُ مَانِعًا لَهُ مِنْ قَصْدِ قَتْلِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَوْنِهِ مَلْجَأً إِلَى ترك ذلك الفعل فكذا هاهنا.
إِذَا عَرَفْتَ الْإِلْجَاءَ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا تَرَكَ فِعْلَ هَذَا الْإِلْجَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُزِيلُ تَكْلِيفَهُمْ فَيَكُونُ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ كَأَنْ لَمْ يَقَعْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يَنْتَفِعُوا بِمَا يَخْتَارُونَهُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْوَصْلَةِ إِلَى الثَّوَابِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا اخْتِيَارًا.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُمُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْإِيمَانِ حَالَ كَوْنِ الدَّاعِي إِلَى الْإِيمَانِ وَإِلَى الْكُفْرِ عَلَى السَّوِيَّةِ أَوْ حَالَ حُصُولِ هَذَا الرُّجْحَانِ. وَالْأَوَّلُ: تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِتَحْصِيلِ الرُّجْحَانِ حَالَ حُصُولِ الِاسْتِوَاءِ، تَكْلِيفٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَالطَّرَفُ الرَّاجِحُ يَكُونُ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، وَالطَّرَفُ الْمَرْجُوحُ يَكُونُ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ تُنَافِي مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُكْنَةِ وَالِاخْتِيَارِ، فَسَقَطَ قَوْلُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ نَهْيٌ لَهُ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهَذَا النَّهْيُ لَا يَقْتَضِي إِقْدَامَهُ عَلَى مَثَلِ هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: ٤٨] لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطَاعَهُمْ وَقَبِلَ دِينَهُمْ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَدَّ تَحَسُّرُكَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ تَجْزَعَ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ فَإِنَّكَ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ قَرُبَ حَالُكَ مِنْ حَالِ الْجَاهِلِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَغْلِيظِ الْخِطَابِ التَّبْعِيدُ وَالزَّجْرُ لَهُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٦]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ السَّبَبَ فِي كَوْنِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُونَ الْإِيمَانَ وَلَا يَتْرُكُونَ الْكُفْرَ فَقَالَ: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يَعْنِي أَنَّ الَّذِينَ تَحْرِصُ عَلَى أَنْ يُصَدِّقُوكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتَى الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ، وَإِنَّمَا يَسْتَجِيبُ مَنْ يَسْمَعُ، كَقَوْلِهِ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النَّمْلِ: ٨٠] قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: الْفَرْقُ بَيْنَ يَسْتَجِيبُ وَيُجِيبُ، أَنَّ يَسْتَجِيبُ فِي قَبُولِهِ لِمَا دُعِيَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ يُجِيبُ لِأَنَّهُ قَدْ يُجِيبُ بِالْمُخَالَفَةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَتُوَافِقُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ أَمْ تُخَالِفُ؟ فَيَقُولُ الْمُجِيبُ: أُخَالِفُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَثَلٌ لِقُدْرَتِهِ عَلَى إِلْجَائِهِمْ إِلَى الِاسْتِجَابَةِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثم إليه يرجعون للجزاء، فكذلك هاهنا أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِحَيَاةِ الْإِيمَانِ وَأَنْتَ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: وَهَؤُلَاءِ الْمَوْتَى يَعْنِي الْكَفَرَةَ يَبْعَثُهُمُ اللَّه ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ، فَحِينَئِذٍ يَسْمَعُونَ وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ إلى استماعهم، وقريء يَرْجِعُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَأَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْجَسَدَ الْخَالِيَ عَنِ الرُّوحِ يَظْهَرُ مِنْهُ النَّتَنُ وَالصَّدِيدُ وَالْقَيْحُ وَأَنْوَاعُ الْعُفُونَاتِ، وَأَصْلَحُ أَحْوَالِهِ أَنْ يُدْفَنَ تَحْتَ التُّرَابِ، وَأَيْضًا الرُّوحُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْعَقْلِ يَكُونُ صَاحِبُهَا مَجْنُونًا يَسْتَوْجِبُ الْقَيْدَ وَالْحَبْسَ وَالْعَقْلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرُّوحِ كَالرُّوحِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَسَدِ، وَأَيْضًا الْعَقْلُ بِدُونِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَطَاعَتِهِ كَالضَّائِعِ الْبَاطِلِ، فَنِسْبَةُ التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ إِلَى الْعَقْلِ كَنِسْبَةِ الْعَقْلِ إِلَى الرُّوحِ، وَنِسْبَةِ الرَّوْحِ إِلَى الْجَسَدِ فَمَعْرِفَةُ اللَّه وَمَحَبَّتُهُ رُوحُ رُوحِ الرُّوحِ فَالنَّفْسُ الْخَالِيَةُ عَنْ
هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تَكُونُ بِصِفَةِ الْأَمْوَاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وصف اللَّه تعالى أُولَئِكَ الْكُفَّارَ الْمُصِرِّينَ بِأَنَّهُمُ الْمَوْتَى. واللَّه أَعْلَمُ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٧]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٧)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ شُبُهَاتِ مُنْكِرِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ كَانَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّه فَهَلَّا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةً قَاهِرَةً وَمُعْجِزَةً بَاهِرَةً! ويروى أن بعض الملحدة طعن فَقَالَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَتَى بِآيَةٍ مُعْجِزَةٍ لَمَا صَحَّ أَنْ يَقُولَ أُولَئِكَ الْكُفَّارُ لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ولما قال: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ قَاهِرَةٌ وَبَيِّنَةٌ بَاهِرَةٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَدَّاهُمْ بِهِ فَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُعْجِزًا.
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ قَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ.
فَنَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: لَعَلَّ الْقَوْمَ طَعَنُوا فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا عَلَى سَبِيلِ اللَّجَاجِ وَالْعِنَادِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكُتُبِ، وَالْكِتَابُ لَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمُعْجِزَاتِ، كَمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَالْإِنْجِيلِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ طَلَبُوا الْمُعْجِزَةَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ طَلَبُوا مُعْجِزَاتٍ قَاهِرَةً مِنْ جِنْسِ مُعْجِزَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ فَلْقِ الْبَحْرِ وَإِظْلَالِ الْجَبَلِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا مَزِيدَ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَاللَّجَاجِ مِثْلَ إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ وَإِسْقَاطِ السَّمَاءِ كِسَفًا وَسَائِرِ مَا حَكَاهُ عَنِ الْكَافِرِينَ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ بَعْضِهِمْ فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَالِ: ٣٢] فَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ مِمَّا يَحْتَمِلُهَا لَفْظُ الْآيَةِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ سؤالهم فقوله قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِ مَا طَلَبْتُمُوهُ وَتَحْصِيلِ مَا اقْتَرَحْتُمُوهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ آيَةً بَاهِرَةً وَمُعْجِزَةً قَاهِرَةً وَهِيَ الْقُرْآنُ كَانَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ جَارِيًا مَجْرَى التَّحَكُّمِ وَالتَّعَنُّتِ الْبَاطِلِ، واللَّه سُبْحَانَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَالْأَمْرُ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ، فَإِنَّ فَاعِلِيَّتَهُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِحَسَبِ مَحْضِ الْمَشِيئَةِ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ، أَوْ عَلَى وَفْقِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ عَلَى وَفْقِ اقْتِرَاحَاتِ النَّاسِ وَمُطَالَبَاتِهِمْ، فَإِنْ شَاءَ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا، وإن شاء لم يجبهم إليها.
الوجه الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ الْقَاهِرَةُ وَالدَّلَالَةُ الْبَاهِرَةُ الْكَافِيَةُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ عُذْرٌ/ ولا علة،
فَبَعْدَ ذَلِكَ لَوْ أَجَابَهُمُ اللَّه تَعَالَى فِي ذَلِكَ الِاقْتِرَاحِ فَلَعَلَّهُمْ يَقْتَرِحُونَ اقْتِرَاحًا ثَانِيًا، وَثَالِثًا، وَرَابِعًا، وَهَكَذَا إِلَى مَا لَا غَايَةَ لَهُ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ الدَّلِيلُ وَلَا تَتِمَّ الْحُجَّةُ، فَوَجَبَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ سَدُّ هَذَا الْبَابِ وَالِاكْتِفَاءُ بِمَا سَبَقَ مِنَ الْمُعْجِزَةِ الْقَاهِرَةِ وَالدَّلَالَةِ الْبَاهِرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَعْطَاهُمْ مَا طَلَبُوهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ، فَلَوْ لَمْ يُؤْمِنُوا عِنْدَ ظُهُورِهَا لَاسْتَحَقُّوا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ، فَاقْتَضَتْ رَحْمَةُ اللَّه صَوْنَهُمْ عَنْ هَذَا الْبَلَاءِ فَمَا أَعْطَاهُمْ هَذَا الْمَطْلُوبَ رَحْمَةً مِنْهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْلَمُونَ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الرَّحْمَةِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَطْلُبُونَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ لَا لِطَلَبِ الْفَائِدَةِ بَلْ لِأَجْلِ الْعِنَادِ وَالتَّعَصُّبِ وَعَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَعْطَاهُمْ مَطْلُوبَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا أَعْطَاهُمْ مَطْلُوبَهُمْ لِعِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ هُوَ أَنَّ الْقَوْمَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ وَالتَّعَصُّبِ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يُعْطِيهِمْ مَطْلُوبَهُمْ وَلَوْ كَانُوا عَالِمِينَ عَاقِلِينَ لَطَلَبُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ طَلَبِ الْفَائِدَةِ، وَحِينَئِذٍ كَانَ اللَّه تَعَالَى يُعْطِيهِمْ ذَلِكَ المطلوب على أكمل الوجوه. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٨]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَقْرِيرِ وَجْهِ النَّظْمِ، فَنَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِنْزَالُ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ مَصْلَحَةً لَهُمْ لَفَعَلَهَا وَلَأَظْهَرَهَا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ إِظْهَارُهَا مَصْلَحَةً لِلْمُكَلَّفِينَ، لَا جَرَمَ مَا أَظْهَرَهَا. وَهَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يُرَاعِي مَصَالِحَ الْمُكَلَّفِينَ وَيَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، وَقَرَّرَهُ بِأَنْ قَالَ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ فِي وُصُولِ فَضْلِ اللَّه وَعِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ كَالْأَمْرِ الْمُشَاهَدِ الْمَحْسُوسِ فَإِذَا كَانَتْ آثَارُ عِنَايَتِهِ وَاصِلَةً إِلَى/ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ فَلَوْ كَانَ فِي إِظْهَارِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُكَلَّفِينَ لَفَعَلَهَا وَلَأَظْهَرَهَا وَلَامْتَنَعَ أَنْ يَبْخَلَ بِهَا مَعَ مَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْخَلْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ بِمَصَالِحِهَا وَمَنَافِعِهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا لَمْ يُظْهِرْ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ، لِأَنَّ إِظْهَارَهَا يُخِلُّ بِمَصَالِحِ الْمُكَلَّفِينَ. فَهَذَا هُوَ وَجْهُ النَّظْمِ وَالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا واللَّه أَعْلَمُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ الْكُفَّارِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّه وَيُحْشَرُونَ بَيَّنَ أَيْضًا بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ فِي أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ، وَالْمَقْصُودُ: بَيَانُ أَنَّ الْحَشْرَ وَالْبَعْثَ كَمَا هُوَ حَاصِلٌ فِي حَقِّ النَّاسِ فَهُوَ أَيْضًا حَاصِلٌ فِي حَقِّ الْبَهَائِمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَيَوَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَدِبُّ أَوْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَطِيرُ فَجَمِيعُ مَا خَلَقَ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَدِبَّ، وَإِمَّا أَنْ يَطِيرَ. وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مِنَ الْحَيَوَانِ مَا لَا يَدْخُلُ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مِثْلَ حِيتَانِ الْبَحْرِ، وَسَائِرِ مَا يَسْبَحُ فِي الْمَاءِ وَيَعِيشُ فِيهِ.
523
وَالْجَوَابُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهَا دَابَّةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَدِبُّ فِي الْمَاءِ أَوْ هِيَ كَالطَّيْرِ، لِأَنَّهَا تَسْبَحُ فِي الْمَاءِ، كَمَا أَنَّ الطَّيْرَ يَسْبَحُ فِي الْهَوَاءِ، إِلَّا أَنَّ وَصْفَهَا بِالدَّبِيبِ أَقْرَبُ إِلَى اللُّغَةِ مِنْ وَصْفِهَا بِالطَّيَرَانِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَقْيِيدِ الدَّابَّةِ بِكَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ؟
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خَصَّ مَا فِي الْأَرْضِ بِالذِّكْرِ دُونَ مَا فِي السَّمَاءِ احْتِجَاجًا بِالْأَظْهَرِ لِأَنَّ مَا فِي السَّمَاءِ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا مِثْلَنَا فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ عِنَايَةَ اللَّه تَعَالَى لَمَّا كَانَتْ حَاصِلَةً فِي هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ فَلَوْ كَانَ إِظْهَارُ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ مَصْلَحَةً لَمَا مَنَعَ اللَّه مِنْ إِظْهَارِهَا. وَهَذَا الْمَقْصُودُ إِنَّمَا يَتِمُّ بِذِكْرِ مَنْ كَانَ أَدْوَنَ مَرْتَبَةً مِنَ الْإِنْسَانِ لَا بِذِكْرِ مَنْ كَانَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَيَّدَ الدَّابَّةَ بِكَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ؟ مَعَ أَنَّ كُلَّ طَائِرٍ إِنَّمَا يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ.
وَالْجَوَابُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ إِنَّمَا ذُكِرَ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ نَعْجَةٌ أُنْثَى وَكَمَا يُقَالُ: كَلَّمْتُهُ بِفِيَّ وَمَشَيْتُ إِلَيْهِ بِرِجْلَيَّ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ طِرْ فِي حَاجَتِي وَالْمُرَادُ الْإِسْرَاعُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَقَدْ يَحْصُلُ الطَّيَرَانُ لَا بِالْجَنَاحِ. قَالَ الْحَمَاسِيُّ:
طاروا إليه زرافات ووحدانا
فذكر الجناح ليتمحض هَذَا الْكَلَامُ فِي الطَّيْرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [فَاطِرٍ: ١] فَذَكَرَ هاهنا قَوْلَهُ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ لِيَخْرُجَ عَنْهُ الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِنَّمَا يَتِمُّ بِذِكْرِ مَنْ كَانَ أَدْوَنَ حَالًا مِنَ الْإِنْسَانِ لَا بِذِكْرِ مَنْ كَانَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: كَيْفَ قَالَ: إِلَّا أُمَمٌ مَعَ إِفْرَادِ الدَّابَّةِ وَالطَّائِرِ؟
وَالْجَوَابُ: لما كان قوله ما مِنْ دَابَّةٍ وَلَا طائِرٍ دَالًّا عَلَى مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ وَمُغْنِيًا عَنْ أَنْ يَقُولَ: وَمَا مِنْ دَوَابَّ وَلَا طُيُورٍ لَا جَرَمَ حُمِلَ قَوْلُهُ إِلَّا أُمَمٌ عَلَى الْمَعْنَى.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ إِنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنَ الْبَهَائِمِ أُمَّةٌ
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا»
فَجَعَلَ الْكِلَابَ أُمَّةً.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الدَّوَابَّ وَالطُّيُورَ أَمْثَالُنَا، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُمَاثَلَةَ فِي أَيِّ الْمَعَانِي حَصَلَتْ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ حُصُولُ الْمُمَاثَلَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَإِلَّا لَكَانَ يَجِبُ كَوْنُهَا أَمْثَالًا لنا في الصورة والصفة وَالْخِلْقَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْمُمَاثَلَةَ حَصَلَتْ فِي أَيِّ الْأَحْوَالِ وَالْأُمُورِ فَبَيَّنُوا ذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَعْيِينِ الْأَمْرِ الَّذِي حَكَمَ اللَّه تَعَالَى فِيهِ بِالْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْبَشَرِ وَبَيْنَ الدَّوَابِّ وَالطُّيُورِ وَذَكَرُوا فِيهِ أَقْوَالًا:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: يُرِيدُ، يَعْرِفُونَنِي وَيُوَحِّدُونَنِي
524
وَيُسَبِّحُونَنِي وَيَحْمَدُونَنِي. وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ طَائِفَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ تَعْرِفُ اللَّه وَتَحْمَدُهُ وَتُوَحِّدُهُ وَتُسَبِّحُهُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: ٤٤] وَبِقَوْلِهِ فِي صِفَةِ الْحَيَوَانَاتِ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النُّورِ: ٤١] وَبِمَا أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ النَّمْلَ وَخَاطَبَ الْهُدْهُدَ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ وَتَحْقِيقِهِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: أُبْهِمَتْ عُقُولُ الْبَهَائِمِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ، وَطَلَبِ الرِّزْقِ، وَمَعْرِفَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَتَهَيُّؤِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعِجُّ إِلَى اللَّه يَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّ هَذَا قَتَلَنِي عَبَثًا لَمْ يَنْتَفِعْ بِي وَلَمْ يَدَعْنِي آكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ».
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ فِي كونها أمما وجماعات وفي كونها مَخْلُوقَةً بِحَيْثُ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَأْنَسُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَيَتَوَالَدُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ كَالْإِنْسِ إِلَّا أَنَّ لِلسَّائِلِ أَنْ يَقُولَ حَمْلُ/ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً مُعْتَبَرَةً لِأَنَّ كَوْنَ الْحَيَوَانَاتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهَا.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ أَنَّهَا أَمْثَالُنَا فِي أَنْ دَبَّرَهَا اللَّه تَعَالَى وَخَلَقَهَا وَتَكَفَّلَ بِرِزْقِهَا وَهَذَا يَقْرُبُ مِنَ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِخْبَارِ عَمَّا عُلِمَ حُصُولُهُ بِالضَّرُورَةِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا أَحْصَى فِي الْكِتَابِ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْبَشَرِ، مِنَ الْعُمْرِ وَالرِّزْقِ وَالْأَجَلِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فَكَذَلِكَ أَحْصَى فِي الْكِتَابِ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي كُلِّ الْحَيَوَانَاتِ. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ وَلَيْسَ لِذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ عَقِيبَ قَوْلِهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ فَائِدَةٌ إلا ما ذكرناه.
الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَرَادَ تَعَالَى أَنَّهَا أَمْثَالُنَا فِي أنها تحشر يوم القيامة يوصل إِلَيْهَا حُقُوقُهَا، كَمَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يُقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ».
الْقَوْلُ السَّادِسُ: مَا اخْتَرْنَاهُ فِي نَظْمِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِتْيَانَ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الظَّاهِرَةِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ عِنَايَتَهُ وَصَلَتْ إِلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ كَمَا وَصَلَتْ إِلَى الْإِنْسَانِ. وَمَنْ بَلَغَتْ رَحْمَتُهُ وَفَضْلُهُ إِلَى حَيْثُ لَا يَبْخَلُ بِهِ عَلَى الْبَهَائِمِ كَانَ بِأَنْ لَا يَبْخَلَ بِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ أَوْلَى، فَدَلَّ مَنْعُ اللَّه مِنْ إِظْهَارِ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ لِأُولَئِكَ السَّائِلِينَ فِي إِظْهَارِهَا، وَأَنَّ إِظْهَارَهَا عَلَى وَفْقِ سُؤَالِهِمْ وَاقْتِرَاحِهِمْ يُوجِبُ عَوْدَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ إِلَيْهِمْ.
الْقَوْلُ السَّابِعُ: مَا رَوَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: مَا فِي الْأَرْضِ آدَمِيٌّ إِلَّا وَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ بَعْضِ الْبَهَائِمِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُقْدِمُ إِقْدَامَ الْأَسَدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوَ الذِّئْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْبَحُ نُبَاحَ الْكَلْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَطَوَّسُ كَفِعْلِ الطَّاوُسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْبِهُ الْخِنْزِيرَ فَإِنَّهُ لَوْ أُلْقِيَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ الطَّيِّبُ تَرَكَهُ وَإِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ رَجِيعِهِ وَلَغَ فِيهِ. فَكَذَلِكَ نَجِدُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ مَنْ لَوْ سَمِعَ خَمْسِينَ حِكْمَةً لَمْ يَحْفَظْ وَاحِدَةً مِنْهَا، فَإِنْ أَخْطَأْتَ مَرَّةً وَاحِدَةً حَفِظَهَا، وَلَمْ يَجْلِسْ مَجْلِسًا إِلَّا رواه عنه.
525
ثُمَّ قَالَ: فَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّكَ إِنَّمَا تُعَاشِرُ الْبَهَائِمَ وَالسِّبَاعَ، فَبَالِغْ فِي الْحِذَارِ وَالِاحْتِرَازِ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَهَبَ الْقَائِلُونَ بِالتَّنَاسُخِ إِلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ إِنْ كَانَتْ سَعِيدَةً مُطِيعَةً للَّه تَعَالَى مَوْصُوفَةً بِالْمَعَارِفِ الْحَقَّةِ وَبِالْأَخْلَاقِ الطَّاهِرَةِ، فَإِنَّهَا بَعْدَ مَوْتِهَا تُنْقَلُ إِلَى أَبْدَانِ الْمُلُوكِ، وَرُبَّمَا قَالُوا: إِنَّهَا تُنْقَلُ إِلَى مُخَالَطَةِ عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ شَقِيَّةً جَاهِلَةً عَاصِيَةً فَإِنَّهَا تُنْقَلُ إِلَى أَبْدَانِ/ الْحَيَوَانَاتِ، وَكُلَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَرْوَاحُ أَكْثَرَ شَقَاوَةً وَاسْتِحْقَاقًا لِلْعَذَابِ نُقِلَتْ إِلَى بَدَنِ حَيَوَانٍ أَخَسَّ وَأَكْثَرَ شَقَاءً وَتَعَبًا، وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: صَرِيحُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا دَابَّةَ وَلَا طَائِرَ إِلَّا وَهِيَ أَمْثَالُنَا، وَلَفْظُ الْمُمَاثَلَةِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمُسَاوَاةِ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ أَمَّا الصِّفَاتُ الْعَرَضِيَّةُ الْمُفَارِقَةُ، فَالْمُسَاوَاةُ فِيهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي حُصُولِ الْمُمَاثَلَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ زَادُوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: قَدْ ثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ أَرْوَاحَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ عَارِفَةٌ بِرَبِّهَا وَعَارِفَةٌ بِمَا يَحْصُلُ لَهَا مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَرْسَلَ إِلَى كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا رَسُولًا مِنْ جِنْسِهَا، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الدَّوَابَّ وَالطُّيُورَ أُمَمٌ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فَاطِرٍ: ٢٤] وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ رَسُولًا أَرْسَلَهُ اللَّه إِلَيْهَا. ثُمَّ أَكَّدُوا ذَلِكَ بِقِصَّةِ الْهُدْهُدِ، وَقِصَّةِ النَّمْلِ، وَسَائِرِ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّنَاسُخِ قَدْ أَبْطَلْنَاهُ بِالدَّلَائِلِ الْجَيِّدَةِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَكْفِي فِي صِدْقِ حُصُولِ الْمُمَاثَلَةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّنَاسُخِ. واللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ وَفِي الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْكِتَابُ الْمَحْفُوظُ في العرش وعالم السموات الْمُشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّامِّ، كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقُرْآنُ، وَهَذَا أَظْهَرُ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ إِذَا دَخَلَا عَلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ انْصَرَفَ إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَالْمَعْهُودُ السَّابِقُ مِنَ الْكِتَابِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الْقُرْآنُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقُرْآنَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ قَالَ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَفَاصِيلُ عِلْمِ الطِّبِّ وَتَفَاصِيلُ عِلْمِ الْحِسَابِ، وَلَا تَفَاصِيلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمَبَاحِثِ وَالْعُلُومِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا تَفَاصِيلُ مَذَاهِبِ النَّاسِ وَدَلَائِلِهِمْ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِبَيَانِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَجِبُ مَعْرِفَتُهَا، وَالْإِحَاطَةُ بِهَا وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ التَّفْرِيطِ لَا يُسْتَعْمَلُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا إِلَّا فِيمَا يَجِبُ أَنْ يُبَيَّنَ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُنْسَبُ إِلَى التَّفْرِيطِ وَالتَّقْصِيرِ فِي أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ هَذَا اللَّفْظُ فِيمَا إِذَا قَصَّرَ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَوِ الْكَثِيرَ مِنْهَا دَالَّةٌ بِالْمُطَابَقَةِ أَوِ التَّضَمُّنِ أَوِ الِالْتِزَامِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ بَيَانُ الدِّينِ/ وَمَعْرِفَةُ اللَّه وَمَعْرِفَةُ أَحْكَامِ اللَّه، وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّقْيِيدُ مَعْلُومًا مِنْ كُلِّ
526
القرآن كان المطلق هاهنا مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ. أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ هَذَا الْكِتَابَ غَيْرُ مُشْتَمِلٍ عَلَى جَمِيعِ عُلُومِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ.
فَنَقُولُ: أَمَّا عِلْمُ الْأُصُولِ فَإِنَّهُ بِتَمَامِهِ حَاصِلٌ فِيهِ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْأَصْلِيَّةَ مَذْكُورَةٌ فِيهِ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ: فَأَمَّا رِوَايَاتُ الْمَذَاهِبِ وَتَفَاصِيلُ الْأَقَاوِيلِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهَا، وَأَمَّا تَفَاصِيلُ علم الفروع فنقول: للعلماء هاهنا قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَحَدُ هذه الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ، كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ مَوْجُودًا فِي الْقُرْآنِ، وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه لِهَذَا الْمَعْنَى أَمْثِلَةً ثَلَاثَةً:
الْمِثَالُ الْأَوَّلُ:
رُوِيَ أَنَّ ابن مسعود كان يقول: مالي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّه فِي كِتَابِهِ يَعْنِي الْوَاشِمَةَ، وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَالْوَاصِلَةَ، وَالْمُسْتَوْصِلَةَ،
وَرُوِيَ أَنَّ أَمِرْأَةً قَرَأَتْ جَمِيعَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ أَتَتْهُ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ، تَلَوْتُ الْبَارِحَةَ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ لَعْنَ الْوَاشِمَةِ وَالْمُسْتَوْشِمَةِ فَقَالَ: لَوْ تَلَوْتِيهِ لَوَجَدْتِيهِ.
قَالَ اللَّه تَعَالَى:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الْحَشْرِ: ٧] وَإِنَّ مِمَّا أَتَانَا بِهِ رَسُولُ اللَّه
أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّه الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ»
وَأَقُولُ: يُمْكِنُ وِجْدَانُ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ اللَّه بِطَرِيقٍ أَوْضَحَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ [النِّسَاءِ: ١١٧، ١١٨] فَحَكَمَ عَلَيْهِ بِاللَّعْنِ، ثُمَّ عَدَّدَ بَعْدَهُ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا قَوْلَهُ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النِّسَاءِ: ١١٩] وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ تَغْيِيرَ الْخَلْقِ يُوجِبُ اللَّعْنَ.
الْمِثَالُ الثَّانِي: ذُكِرَ أَنَّ
الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّه كَانَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ: «لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَجَبْتُكُمْ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى» فَقَالَ رَجُلٌ: مَا تَقُولُ فِي الْمُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ الزُّنْبُورَ؟ فَقَالَ: «لَا شَيْءَ عَلَيْهِ» فَقَالَ:
أَيْنَ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّه؟ فَقَالَ: قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ثُمَّ ذَكَرَ إِسْنَادًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» ثُمَّ ذَكَرَ إِسْنَادًا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ الزُّنْبُورِ.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَأَجَابَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّه مُسْتَنْبِطًا بِثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، وأقول: هاهنا طَرِيقٌ آخَرُ أَقْرَبُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ الْعِصْمَةُ. قَالَ تَعَالَى: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] وَقَالَ:
وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ [مُحَمَّدٍ: ٣٦] وَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٩] فَنَهَى عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ إِلَّا بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ فَعِنْدَ عَدَمِ التِّجَارَةِ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ، وَهَذِهِ الْعُمُومَاتُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْمُحْرِمِ الَّذِي قَتَلَ الزُّنْبُورَ شَيْءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْعُمُومَاتِ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِمَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَأَمَّا الطَّرِيقُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ: فَهُوَ تُمْسُّكٌ بِالْعُمُومِ عَلَى أَرْبَعِ دَرَجَاتٍ: أَوَّلُهَا: التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الْحَشْرِ: ٧] وَأَحَدُ الْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ هَذَا أَمْرُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمُتَابَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَثَانِيهَا: التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي»،
وَثَالِثُهَا: بَيَانُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. وَرَابِعُهَا: الرِّوَايَةُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَيْئًا، فَثَبَتَ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَقْرَبُ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ:
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ الزَّانِي أَنَّ أَبَاهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ
527
اللَّه فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّه» ثُمَّ قَضَى بِالْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ عَلَى الْعَسِيفِ، وَبِالرَّجْمِ عَلَى الْمَرْأَةِ إِنِ اعْتَرَفَتْ.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَلَيْسَ لِلْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ ذِكْرٌ فِي نَصِّ الْكِتَابِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ عَيْنُ كِتَابِ اللَّه.
وَأَقُولُ: هَذَا الْمِثَالُ حَقٌّ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْلِ: ٤٤] وَكُلُّ مَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَمْثِلَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ، وَأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ، فَكُلُّ حُكْمٍ ثَبَتَ بِطَرِيقٍ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ، كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ ثَابِتًا بِالْقُرْآنِ، فَعِنْدَ هَذَا يَصِحُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ هَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَى نُصْرَتِهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. وَلِقَائِلٍ أن يقول: حاصل هذه الْوَجْهِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا دَلَّ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ حُجَّةٌ، فَكُلُّ حُكْمٍ ثَبَتَ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ قَدْ ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: حَمْلُ قَوْلِهِ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ تَعْظِيمِ هَذَا الْكِتَابِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي مَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَلَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ مَا يُوجِبُ التَّعْظِيمَ، وَذَلِكَ لِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى قال: اعلموا بِالْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ، كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ حَاصِلًا مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى الَّذِي يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْقَلِيلِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ وَاجِبًا لِمَدْحِ الْقُرْآنِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِسَبَبِ اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُوجِبُ الْمَدْحَ الْعَظِيمَ وَالثَّنَاءَ التَّامَّ لَوْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ أَشَدَّ اخْتِصَارًا مِنْهُ، فَأَمَّا لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ الْمَقْصُودَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ وَتَحْصِيلُهُ بِاللَّفْظِ الْمُخْتَصَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ فِي مَعْرِضِ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يُفِيدُ تَعْظِيمَ الْقُرْآنِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَهَذَا أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ وَافٍ بِبَيَانِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فِي حَقِّ جَمِيعِ التَّكْلِيفِ، وَشَغْلُ الذِّمَّةِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَالتَّنْصِيصُ عَلَى أَقْسَامِ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ التَّكْلِيفُ مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّ الْأَقْسَامَ الَّتِي لَمْ يَرِدِ التَّكْلِيفُ فِيهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مُحَالٌ بَلِ التَّنْصِيصُ إِنَّمَا يُمْكِنُ عَلَى الْمُتَنَاهِي مَثَلًا للَّه تَعَالَى أَلْفُ تَكْلِيفٍ عَلَى الْعِبَادِ وَذَكَرَهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَمَرَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَبْلِيغِ ذَلِكَ الْأَلْفِ إِلَى الْعِبَادِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ فَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ للَّه عَلَى الْخَلْقِ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَلْفِ تَكْلِيفٌ آخَرُ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَةِ: ٣] وَبِقَوْلِهِ:
وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الْأَنْعَامِ: ٥٩] فَهَذَا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ، وَالِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ. واللَّه أَعْلَمُ.
وَلْنَرْجِعِ الْآنَ إِلَى التَّفْسِيرِ، فَنَقُولُ: قَوْلُهُ مِنْ شَيْءٍ قَالَ الْوَاحِدِيُّ (مِنْ) زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ: مَا جَاءَ لِي مِنْ أَحَدٍ. وَتَقْرِيرُهُ مَا تَرَكْنَا فِي الْكِتَابِ شَيْئًا لَمْ نُبَيِّنْهُ. وَأَقُولُ: كَلِمَةُ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ فَكَانَ الْمَعْنَى مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ بَعْضَ شَيْءٍ يَحْتَاجُ الْمُكَلَّفُ إِلَيْهِ. وَهَذَا هُوَ نِهَايَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا تَرَكَ شَيْئًا مِمَّا يَحْتَاجُ الْمُكَلَّفُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ.
أَمَّا قَوْلُهُ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَحْشُرُ الدَّوَابَّ وَالطُّيُورَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ
528
تَعَالَى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التَّكْوِيرِ: ٥] وَبِمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ»
وَلِلْعُقَلَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى يَحْشُرُ الْبَهَائِمَ وَالطُّيُورَ لِإِيصَالِ الْأَعْوَاضِ إِلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ إِيصَالَ الْآلَامِ إِلَيْهَا مِنْ سَبْقِ جِنَايَةٍ لَا يَحْسُنُ إِلَّا لِلْعِوَضِ، وَلَمَّا كَانَ إِيصَالُ الْعِوَضِ إِلَيْهَا وَاجِبًا، فاللَّه تَعَالَى يَحْشُرُهَا لِيُوصِلَ تِلْكَ الْأَعْوَاضَ إِلَيْهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُ أَصْحَابِنَا أن الإيجاب على اللَّه تعالى مُحَالٌ، بَلِ اللَّه تَعَالَى يَحْشُرُهَا بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَمُقْتَضَى الْإِلَهِيَّةِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْعِوَضِ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ بَاطِلٌ بِأُمُورٍ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْوُجُوبَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَلْزِمًا لِلذَّمِّ عِنْدَ التَّرْكِ وَكَوْنُهُ تَعَالَى مُسْتَلْزِمًا لِلذَّمِّ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى كَامِلٌ لِذَاتِهِ وَالْكَامِلُ لِذَاتِهِ لَا يُعْقَلُ كَوْنُهُ مُسْتَلْزِمًا لِلذَّمِّ بِسَبَبِ أَمْرٍ مُنْفَصِلٍ، لِأَنَّ مَا بِالذَّاتِ لَا يَبْطُلُ عِنْدَ عُرُوضِ أَمْرٍ مِنَ الْخَارِجِ.
وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكٌ لِكُلِّ الْمُحْدَثَاتِ، وَالْمَالِكُ يَحْسُنُ تَصَرُّفُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْعِوَضِ.
وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ حَسُنَ إِيصَالُ الضَّرَرِ إِلَى الْغَيْرِ لِأَجْلِ الْعِوَضِ، لَوَجَبَ أَنْ يَحْسُنَ مِنَّا/ إِيصَالُ الْمَضَارِّ إِلَى الْغَيْرِ لِأَجْلِ الْتِزَامِ الْعِوَضِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْعِوَضِ بَاطِلٌ. واللَّه أَعْلَمُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا: فَلْنَذْكُرْ بَعْضَ التَّفَارِيعِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقَاضِي فِي هَذَا الْبَابِ.
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي: كُلُّ حَيَوَانٍ اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ عَلَى اللَّه تَعَالَى بِمَا لَحِقَهُ مِنَ الْآلَامِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْعِوَضُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه حَشْرُهُ عَقْلًا فِي الْآخِرَةِ لِيُوَفِّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعِوَضَ وَالَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ حَشْرُهُ عَقْلًا، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ يَحْشُرُ الْكُلَّ، فَمِنْ حَيْثُ السَّمْعِ يُقْطَعُ بِذَلِكَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ فِي الْحَيَوَانَاتِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ الْبَتَّةَ، لِأَنَّهَا رُبَّمَا بَقِيَتْ مُدَّةَ حَيَاتِهَا مَصُونَةً عَنِ الْآلَامِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُمِيتُهَا مِنْ غَيْرِ إِيلَامٍ أَصْلًا. فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْإِيلَامِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ الْبَتَّةَ.
الْفَرْعُ الثَّانِي: كُلُّ حَيَوَانٍ أَذِنَ اللَّه تَعَالَى فِي ذَبْحِهِ فَالْعِوَضُ عَلَى اللَّه. وَهِيَ أَقْسَامٌ: مِنْهَا مَا أَذِنَ فِي ذَبْحِهَا لِأَجْلِ الْأَكْلِ وَمِنْهَا مَا أَذِنَ فِي ذَبْحِهَا لِأَجْلِ كَوْنِهَا مُؤْذِيَةً، مِثْلَ السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ وَالْحَشَرَاتِ الْمُؤْذِيَةِ، وَمِنْهَا آلَمَهَا بِالْأَمْرَاضِ، وَمِنْهَا مَا أَذِنَ اللَّه فِي حَمْلِ الْأَحْمَالِ الثَّقِيلَةِ عَلَيْهَا وَاسْتِعْمَالِهَا فِي الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ وَأَمَّا إِذَا ظَلَمَهَا النَّاسُ فَذَلِكَ الْعِوَضُ عَلَى ذَلِكَ الظَّالِمِ وَإِذَا ظَلَمَ بَعْضُهَا بَعْضًا فَذَلِكَ الْعِوَضُ عَلَى ذَلِكَ الظَّالِمِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا ذُبِحَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيَةِ فَعَلَى مَنِ الْعِوَضُ؟
أَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ وَالْعِوَضُ عَلَى الذَّابِحِ، وَلِذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ.
الْفَرْعُ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ مِنَ الْعِوَضِ مَنَافِعُ عَظِيمَةٌ بَلَغَتْ فِي الْجَلَالَةِ وَالرِّفْعَةِ إِلَى حَيْثُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْبَهِيمَةُ
529
عَاقِلَةً وَعَلِمَتْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهَا إِلَى تَحْصِيلِ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ تَحَمُّلِ ذَلِكَ الذَّبْحِ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَرْضَى بِهِ، فَهَذَا هُوَ الْعِوَضُ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَحْسُنُ الْإِيلَامُ وَالْإِضْرَارُ.
الْفَرْعُ الرَّابِعُ: مَذْهَبُ الْقَاضِي وَأَكْثَرِ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ أَنَّ الْعِوَضَ مُنْقَطِعٌ. قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ تَوْفِيرِ الْعِوَضِ عَلَيْهَا يَجْعَلُهَا تُرَابًا، وَعِنْدَ هَذَا يَقُولُ الْكَافِرُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ دَائِمًا وَاحْتَجَّ الْقَاضِي عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ الْوَاحِدِ مِنَّا أَنْ يَلْتَزِمَ عَمَلًا شَاقًّا وَالْأُجْرَةُ مُنْقَطِعَةٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ إِيصَالَ الْأَلَمِ إِلَى الْغَيْرِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ بِدَوَامِ الْأُجْرَةِ. وَاحْتَجَّ الْبَلْخِيُّ عَلَى قَوْلِهِ، بِأَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَطْعُ ذَلِكَ الْعِوَضِ إِلَّا بِإِمَاتَةِ تِلْكَ الْبَهِيمَةِ، وَإِمَاتَتُهَا تُوجِبُ الْأَلَمَ وَذَلِكَ الْأَلَمُ يُوجِبُ عِوَضًا آخَرَ، وَهَكَذَا إِلَى مَا لَا آخِرَ لَهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْإِمَاتَةَ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا إِلَّا مَعَ الْإِيلَامِ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْفَرْعُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْبَهِيمَةَ إِذَا اسْتَحَقَّتْ عَلَى بَهِيمَةٍ أُخْرَى عِوَضًا، فَإِنْ كَانَتِ الْبَهِيمَةُ الظَّالِمَةُ قَدِ اسْتَحَقَّتْ عِوَضًا عَلَى اللَّه تَعَالَى فإنه تعالى يَنْقُلُ ذَلِكَ الْعِوَضَ إِلَى الْمَظْلُومِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فاللَّه تَعَالَى يُكْمِلُ ذَلِكَ الْعِوَضَ، فَهَذَا مُخْتَصَرٌ مِنْ أَحْكَامِ الْأَعْوَاضِ عَلَى قول المعتزلة. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٩]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)
[في قَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ] فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي وَجْهِ النَّظْمِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مِنْ حَالِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي الْكُفْرِ إِلَى حَيْثُ كَأَنَّ قُلُوبَهُمْ قَدْ صَارَتْ مَيِّتَةً عَنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ [الأنعام: ٣٦] فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْرِيرًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى الثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام: ٣٨] فِي كَوْنِهَا دَالَّةً عَلَى كَوْنِهَا تَحْتَ تَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ قَدِيمٍ وَتَحْتَ تَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ حَكِيمٍ، وَفِي أَنَّ عِنَايَةَ اللَّه مُحِيطَةٌ بِهِمْ، وَرَحْمَتَهُ وَاصِلَةٌ إِلَيْهِمْ، قَالَ بَعْدَهُ وَالْمُكَذِّبُونَ لِهَذِهِ الدَّلَائِلِ وَالْمُنْكِرُونَ لِهَذِهِ الْعَجَائِبِ صُمٌّ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامًا الْبَتَّةَ، بُكْمٌ لَا يَنْطِقُونَ بِالْحَقِّ، خَائِضُونَ فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ، غَافِلُونَ عَنْ تَأَمُّلِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ صُمًّا وَبُكْمًا وَبِكَوْنِهِمْ فِي الظُّلُمَاتِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِمْ عُمْيًا فَهُوَ بِعَيْنِهِ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [الْبَقَرَةِ: ١٨].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ لَيْسَا إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُهُمْ صُمًّا وَبُكْمًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ الْحَشْرِ. وَيَكُونُونَ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ بِأَنْ يَجْعَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ صُمًّا وَبُكْمًا فِي الظُّلُمَاتِ، وَيُضِلَّهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الْجَنَّةِ/ وَعَنْ طَرِيقِهَا وَيُصَيِّرَهُمْ
إِلَى النَّارِ، وَأَكَّدَ الْقَاضِي هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ أَنَّهُ يَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ الْجُبَّائِيُّ أَيْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ تَوَسُّعًا مِنْ حَيْثُ جُعِلُوا بِتَكْذِيبَهُمْ بِآيَاتِ اللَّه تَعَالَى فِي الظُّلُمَاتِ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَنَافِعِ الدِّينِ، كَالصُّمِّ وَالْبُكْمِ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا.
فَشَبَّهَهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهِمْ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ مِثْلَ صِفَاتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ قَوْلُهُ صُمٌّ وَبُكْمٌ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّتْمِ وَالْإِهَانَةِ، لَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ فَقَالَ الْكَعْبِيُّ: لَيْسَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ أَجْمَلَ القول فيه هاهنا، فَقَدْ فَصَّلَهُ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٧] وَقَوْلُهُ وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢٦] وَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [مُحَمَّدٍ: ١٧] وَقَوْلُهُ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ [الْمَائِدَةِ: ١٦] وَقَوْلُهُ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٧] وَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٩] فَثَبْتَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ مَشِيئَةَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَإِنْ كَانَتْ مُجْمَلَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّهَا مُخَصَّصَةٌ مُفَصَّلَةٌ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ، فَيَجِبُ حَمْلُ هَذَا الْمُجْمَلِ عَلَى تِلْكَ الْمُفَصَّلَاتِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ ذَكَرُوا تَأْوِيلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْعِ الْأَلْطَافِ فَصَارُوا عِنْدَهَا كَالصُّمِّ وَالْبُكْمِ. وَالثَّانِي: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَعَنْ وِجْدَانِ الثَّوَابِ، وَمَنْ يَشَأْ أَنْ يَهْدِيَهُ إِلَى الْجَنَّةِ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الَّذِي يَسْلُكُهُ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَشَاءُ هَذَا الْإِضْلَالَ إِلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ عُقُوبَةً كَمَا لَا يَشَاءُ الْهُدَى إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الَّتِي تَكَلَّفَهَا هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ إِنَّمَا يَحْسُنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا لَوْ ثَبَتَ فِي الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ظاهره. أما لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَاطِعِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ إِلَّا عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ الْعُدُولُ إِلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمُتَكَلِّفَةِ بَعِيدًا جِدًّا، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الدَّاعِي، وَبَيَّنَّا أَنَّ خَالِقَ ذَلِكَ الدَّاعِي هُوَ اللَّه، وَبَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ حُصُولِهِ يَجِبُ الْفِعْلُ، فَهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ الثَّلَاثَةُ تُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ مِنَ اللَّه، وبتخليفه وَتَقْدِيرِهِ وَتَكْوِينِهِ، وَمَتَى ثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ صِحَّةُ هَذَا الظَّاهِرِ، كَانَ الذَّهَابُ إِلَى هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ فَاسِدًا قَطْعًا، وَأَيْضًا فَقَدْ تَتَبَّعْنَا هَذِهِ الْوُجُوهَ بِالْإِبْطَالِ وَالنَّقْضِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٧] وَفِي سَائِرِ الْآيَاتِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِعَادَةِ، وَأَقْرَبُهَا أَنَّ هَذَا الْإِضْلَالَ وَالْهِدَايَةَ مُعَلَّقَانِ بِالْمَشِيئَةِ، وَعَلَى مَا قَالُوهُ: فَهُوَ أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى اللَّه تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ شَاءَ أَمْ أَبَى واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ وَمُحَمَّدٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (٤١)
531
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ غَايَةَ جَهْلِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ بَيَّنَ مِنْ حَالِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ إذا نزلت بهم بلية أو محنة فإنهم يفزعون إلى اللَّه تعالى ويلجئون إِلَيْهِ وَلَا يَتَمَرَّدُونَ عَنْ طَاعَتِهِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ لِلْعَرَبِ فِي (أَرَأَيْتَ) لُغَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: رُؤْيَةُ الْعَيْنِ، فَإِذَا قُلْتَ للرجل رأيتك كَانَ الْمُرَادُ: أَهَلْ رَأَيْتَ نَفْسَكَ؟ ثُمَّ يُثَنَّى وَيُجْمَعُ. فَنَقُولُ: أَرَأَيْتَكُمَا أَرَأَيْتَكُمْ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ تَقُولَ أَرَأَيْتَكَ، وَتُرِيدَ: أَخْبِرْنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ هَذَا الْمَعْنَى تَرَكْتَ التَّاءَ مَفْتُوحَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ تَقُولُ: أَرَأَيْتَكَ أَرَأَيْتَكُمَا أَرَأَيْتَكُمْ أَرَأَيْتَكُنَّ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّ الضَّمِيرَ الثَّانِيَ وَهُوَ الْكَافُ فِي قَوْلِكَ: أَرَأَيْتَكَ لَا مَحَلَّ له من الاعراب، والدليل قوله تعالى: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الْإِسْرَاءِ: ٦٢] وَيُقَالُ أَيْضًا: أَرَأَيْتَكَ زَيْدًا مَا شَأْنُهُ، وَلَوْ جَعَلْتَ الْكَافَ مَحَلًّا لَكُنْتَ كَأَنَّكَ تَقُولُ: أَرَأَيْتَ نَفْسَكَ زَيْدًا مَا شَأْنُهُ، وَذَلِكَ كَلَامٌ فَاسِدٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْكَافَ لَا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، بَلْ هُوَ حَرْفٌ لِأَجْلِ الْخِطَابِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ كَانَتِ الْكَافُ تَوْكِيدًا لَوَقَعَتِ التَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ عَلَى التَّاءِ، كَمَا يَقَعَانِ عَلَيْهَا عِنْدَ عَدَمِ الْكَافِ، فَلَمَّا فُتِحَتِ التَّاءُ فِي خِطَابِ الْجَمْعِ، وَوَقَعَتْ عَلَامَةُ الْجَمْعِ عَلَى الْكَافِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكَافَ غَيْرُ مَذْكُورٍ لِلتَّوْكِيدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافَ لَوْ سَقَطَتْ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُقَالَ لِجَمَاعَةٍ: أَرَأَيْتَ، فَثَبَتَ بِهَذَا انْصِرَافُ الْفِعْلِ إِلَى الْكَافِ، وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ لَازِمَةٌ مُفْتَقَرٌ إِلَيْهَا.
أَجَابَ الْوَاحِدِيُّ عَنْهُ: بِأَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ تَبْطُلُ بِكَافِ ذَلِكَ وَأُولَئِكَ، فَإِنَّ عَلَامَةَ الْجَمْعِ تَقَعُ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهَا حَرْفٌ لِلْخِطَابِ، مُجَرَّدٌ عَنِ الِاسْمِيَّةِ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نافع أرأيتكم. وأ رأيت. وأ فرأيت. وأ رأيتك وأ فرأيت وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ/ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَالْكِسَائِيُّ تَرَكَ الْهَمْزَةَ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزَةِ. أَمَّا تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ، فَالْمُرَادُ جَعْلُهَا بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْأَلْفِ عَلَى التَّخْفِيفِ الْقِيَاسِيِّ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ فَحَسَنٌ، وَبِهِ قَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشِّعْرِ، وَقَدْ تَكَلَّمَتِ الْعَرَبُ فِي مِثْلِهِ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ لِلتَّخْفِيفِ كَمَا قَالُوا: وَسَلْهُ، وَكَمَا أَنْشَدَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى:
وَإِنْ لَمْ أُقَاتِلْ فَالْبِسُونِي بُرْقُعًا
بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ. أَرَادَ فَأَلْبِسُونِي بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ فَالسَّبَبُ أَنَّ الْهَمْزَةَ عَيْنُ الْفِعْلِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّه فِي الدُّنْيَا وَأَتَاكُمُ الْعَذَابُ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، أَتَرْجِعُونَ إِلَى غَيْرِ اللَّه فِي دَفْعِ ذَلِكَ الْبَلَاءِ وَالضُّرِّ أَوْ تَرْجِعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى؟ وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي دَفْعِ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ لَا إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، لَا جرم قال بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ يَعْنِي أَنَّكُمْ لَا تَرْجِعُونَ فِي طَلَبِ دَفْعِ الْبَلِيَّةِ وَالْمِحْنَةِ إِلَّا إِلَى اللَّه تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ أَيْ فَيَكْشِفُ الضُّرَّ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ دَعَوْتُمْ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ تَتْرُكُونَ الْأَصْنَامَ ولا تدعونهم لعلكم أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ. الثَّانِي: قَالَ
532
الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّكُمْ فِي تَرْكِكُمْ دُعَاءَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدْ نَسِيَهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ لِأَنَّهُ قَالَ:
يُعْرِضُونَ إِعْرَاضَ النَّاسِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ [يُونُسَ: ٢٢] وَلَا يَذْكُرُونَ الْأَوْثَانَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يُجِيبُ الدُّعَاءَ إِنْ شَاءَ وَقَدْ لَا يُجِيبُهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: ٦٠] يُفِيدُ الْجَزْمَ بِحُصُولِ الْإِجَابَةِ، فَكَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ.
وَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ: تَارَةً يَجْزِمُ تَعَالَى بِالْإِجَابَةِ وَتَارَةً لَا يَجْزِمُ، إِمَّا بِحَسَبِ مَحْضِ الْمَشِيئَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، أَوْ بِحَسَبِ رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَمَّا كَانَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ حَاصِلًا لَا جَرَمَ وَرَدَتِ الْآيَتَانِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ: إِذَا كُنْتُمْ تَرْجِعُونَ عِنْدَ نُزُولِ الشَّدَائِدِ إِلَى اللَّه تَعَالَى لَا إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، فَلِمَ تُقْدِمُونَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي/ لَا تَنْتَفِعُونَ بِعِبَادَتِهَا أَلْبَتَّةَ؟ وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يُفِيدُ لَوْ كَانَ ذِكْرُ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ مَقْبُولًا. أَمَّا لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَرْدُودًا وَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ مَحْضُ التَّقْلِيدِ، كَانَ هَذَا الْكَلَامُ سَاقِطًا، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ هُوَ الحجة والدليل. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَ نُزُولِ الشَّدَائِدِ يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّه عِنْدَ كُلِّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الشَّدَائِدِ، بَلْ قَدْ يَبْقُونَ مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ مُنْجَمِدِينَ عَلَيْهِ غَيْرَ رَاجِعِينَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا مِنْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا لَمْ يَهْدِهِ لَمْ يَهْتَدِ، سَوَاءٌ شَاهَدَ الْآيَاتِ الْهَائِلَةَ، أَوْ لَمْ يُشَاهِدْهَا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا فَخَالَفُوهُمْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَحَسُنَ الْحَذْفُ لِكَوْنِهِ مَفْهُومًا مِنَ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ الْحَسَنُ (الْبَأْسَاءُ) شِدَّةُ الْفَقْرِ مِنَ الْبُؤْسِ (وَالضَّرَّاءُ) الْأَمْرَاضُ وَالْأَوْجَاعُ.
ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا أَرْسَلْنَا الرُّسُلَ إِلَيْهِمْ وَإِنَّمَا سَلَّطْنَا الْبَأْسَاءَ وَالضَّرَّاءَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ أَنْ يَتَضَرَّعُوا. وَمَعْنَى التَّضَرُّعِ التَّخَشُّعُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْقِيَادِ وَتَرَكِ التَّمَرُّدِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الضَّرَاعَةِ وَهِيَ الذِّلَّةُ، يُقَالُ ضَرَعَ الرَّجُلُ يَضْرَعُ ضَرَاعَةً فَهُوَ ضَارِعٌ أَيْ ذَلِيلٌ ضَعِيفٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَ نَبِيَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَرْسَلَ قَبْلَهُ إِلَى أَقْوَامٍ بَلَغُوا فِي الْقَسْوَةِ إِلَى أَنْ أُخِذُوا بِالشِّدَّةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَمْ يَخْضَعُوا وَلَمْ يَتَضَرَّعُوا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّسْلِيَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَوْلُهُ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ يدل على أنهم تضرعوا؟ وهاهنا يَقُولُ: قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يَتَضَرَّعُوا.
قُلْنَا: أُولَئِكَ أَقْوَامٌ، وَهَؤُلَاءِ أَقْوَامٌ آخَرُونَ. أَوْ نَقُولُ أُولَئِكَ تَضَرَّعُوا لِطَلَبِ إِزَالَةِ الْبَلِيَّةِ وَلَمْ يَتَضَرَّعُوا عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ للَّه تَعَالَى فَلِهَذَا الْفَرْقِ حَسُنَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا مَعْنَاهُ نَفْيُ التَّضَرُّعِ. وَالتَّقْدِيرُ فَلَمْ يَتَضَرَّعُوا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا. وَذِكْرُ كَلِمَةِ (لَوْلَا) يُفِيدُ أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي تَرْكِ التَّضَرُّعِ إِلَّا عِنَادُهُمْ وَقَسْوَتُهُمْ وَإِعْجَابُهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لَهُمْ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِقَوْلِهِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَقَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَرْسَلَ الرُّسُلَ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا سَلَّطَ الْبَأْسَاءَ وَالضَّرَّاءَ عليهم، لا رادة أَنْ يَتَضَرَّعُوا وَيُؤْمِنُوا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ مِنَ الْكُلِّ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ كَلِمَةَ (لَعَلَّ) تُفِيدُ التَّرَجِّي وَالتَّمَنِّيَ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ وَأَنْتُمْ حَمَلْتُمُوهُ عَلَى إِرَادَةِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، وَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَامَلَهُمْ مُعَامَلَةً لَوْ صَدَرَتْ عَنْ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى لَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ هَذَا الْمَعْنَى، فَأَمَّا تَعْلِيلُ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ فَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ. ثُمَّ نَقُولُ إِنْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى قَوْلِكُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ضِدِّ قَوْلِكُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدُلُّ على أنهم إنما لَمْ يَتَضَرَّعُوا لِقَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ وَلِأَجْلِ أَنَّ الشَّيْطَانَ زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ.
فَنَقُولُ: تِلْكَ الْقَسْوَةُ إِنْ حَصَلَتْ بِفِعْلِهِمُ احْتَاجُوا فِي إِيجَادِهَا إِلَى سَبَبٍ آخَرَ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ حَصَلَتْ بِفِعْلِ اللَّه فَالْقَوْلُ قَوْلُنَا، وَأَيْضًا هَبْ أَنَّ الْكُفَّارَ إِنَّمَا أَقْدَمُوا عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ بِسَبَبِ تَزْيِينِ الشيطان، إلا أنا نَقُولَ: وَلِمَ بَقِيَ الشَّيْطَانُ مُصِرًّا عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ شَيْطَانٍ آخَرَ تَسَلْسَلَ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ، وَإِنْ بَطَلَتْ هَذِهِ الْمَقَادِيرُ انْتَهَتْ بِالْآخِرَةِ إِلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِنَّمَا يُقْدِمُ تَارَةً عَلَى الْخَيْرِ وَأُخْرَى عَلَى الشَّرِّ، لِأَجْلِ الدَّوَاعِي الَّتِي تَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الدَّوَاعِيَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِإِيجَادِ اللَّه تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ قولنا ويفسد بالكلية قولهم، واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)
اعلم أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ تَمَامِ الْقِصَّةِ الْأُولَى فَبَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ أَخَذَهُمْ أَوَّلًا بِالْبَأْسَاءِ والضراء لكي يَتَضَرَّعُوا ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا نَسُوا مَا ذِكِّرُوا بِهِ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ/ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ، وَنَقَلْنَاهُمْ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ إِلَى الرَّاحَةِ وَالرَّخَاءِ وَأَنْوَاعِ الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى عَامَلَهُمْ بِتَسْلِيطِ الْمَكَارِهِ وَالشَّدَائِدِ عَلَيْهِمْ تَارَةً فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ، فَنَقَلَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ إِلَى ضِدِّهَا وَهُوَ فَتْحُ أَبْوَابِ الْخَيْرَاتِ عَلَيْهِمْ وَتَسْهِيلُ مُوجِبَاتِ الْمَسَرَّاتِ وَالسَّعَادَاتِ لَدَيْهِمْ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ أَيْضًا. وَهَذَا كَمَا يَفْعَلُهُ الْأَبُ الْمُشْفِقُ بِوَلَدِهِ يُخَاشِنُهُ تَارَةً
وَيُلَاطِفُهُ أُخْرَى طَلَبًا لِصَلَاحِهِ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعَمِ، لَمْ يَزِيدُوا عَلَى الْفَرَحِ وَالْبَطَرِ مِنْ غَيْرِ انْتِدَابٍ لِشُكْرٍ وَلَا إِقْدَامٍ عَلَى اعْتِذَارٍ وَتَوْبَةٍ، فَلَا جَرَمَ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ مَعْنَاهُ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ مُغْلَقًا عَنْهُمْ مِنَ الْخَيْرِ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا أَيْ حَتَّى إِذَا ظَنُّوا أن الذي نزل بهم من البأساء والضراء مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِانْتِقَامِ مِنَ اللَّه. وَلَمَّا فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ قَسَتْ وَمَاتَتْ وَأَنَّهُ لَا يُرْجَى لَهَا انْتِبَاهٌ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ، لَا جَرَمَ فَاجَأَهُمُ اللَّه بِالْعَذَابِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. قَالَ الْحَسَنُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَكْرٌ بِالْقَوْمِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ،
وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّه يُعْطِي عَلَى الْمَعَاصِي فَإِنَّ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.
قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: وَإِنَّمَا أُخِذُوا فِي حَالِ الرَّخَاءِ وَالرَّاحَةِ لِيَكُونَ أَشَدَّ لِتَحَسُّرِهِمْ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ حَالِ السَّلَامَةِ وَالْعَافِيَةِ وَقَوْلُهُ فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ أَيْ آيِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُبْلِسُ الَّذِي انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلَّذِي سَكَتَ عِنْدَ انْقِطَاعِ حُجَّتِهِ قَدْ أَبْلَسَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُبْلِسُ الشَّدِيدُ الْحَسْرَةِ الْحَزِينُ، وَالْإِبْلَاسُ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْيَأْسِ مِنَ النَّجَاةِ عِنْدَ وُرُودِ الْهَلَكَةِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى انْقِطَاعِ الْحُجَّةِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْحَيْرَةِ بِمَا يَرِدُ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْبَلِيَّةِ وَهَذِهِ الْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الدَّابِرُ التَّابِعُ لِلشَّيْءِ مِنْ خَلْفِهِ كَالْوَلَدِ لِلْوَالِدِ يُقَالُ: دَبَرَ فُلَانٌ الْقَوْمَ يَدْبُرُهُمْ دُبُورًا وَدَبَرًا إِذَا كَانَ آخِرَهُمْ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
فَاسْتُؤْصِلُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلَا انْتَصَرُوا
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: دَابِرُ الْقَوْمِ آخِرُهُمُ الَّذِي يَدْبُرُهُمْ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ الدَّابِرُ الْأَصْلُ يُقَالُ قَطَعَ اللَّه دَابِرَهُ أَيْ أَذْهَبَ اللَّه أَصْلَهُ. وَقَوْلُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ قَطَعَ دَابِرَهُمْ وَاسْتَأْصَلَ شَأْفَتَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَارِيًا مَجْرَى النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ عَلَى أُولَئِكَ الرُّسُلِ فِي إِزَالَةِ شَرِّهِمْ عَنْ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ قَسْوَةَ قُلُوبِهِمْ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَتْ مُدَّةُ حَيَاتِهِمُ ازْدَادَتْ أَنْوَاعُ كفرهم ومعاصيهم، فكانوا يستوجبون به مريد الْعِقَابِ وَالْعَذَابِ فَكَانَ إِفْنَاؤُهُمْ وَإِمَاتَتُهُمْ فِي تِلْكَ الحالة موجبا أن لا يَصِيرُوا مُسْتَوْجِبِينَ/ لِتِلْكَ الزِّيَادَاتِ مِنَ الْعِقَابِ فَكَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى الْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ. وَالثَّالِثُ:
أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ إِنَّمَا حَصَلَ عَلَى وُجُودِ إِنْعَامِ اللَّه عَلَيْهِمْ فِي أَنْ كَلَّفَهُمْ وَأَزَالَ الْعُذْرَ وَالْعِلَّةَ عَنْهُمْ وَدَبَّرَهُمْ بِكُلِّ الْوُجُوهِ الْمُمْكِنَةِ فِي التَّدْبِيرِ الْحَسَنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ أَخْذَهُمْ أَوَّلًا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، ثُمَّ نَقَلَهُمْ إِلَى الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ، وَأَمْهَلَهُمْ وَبَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا انْهِمَاكًا فِي الْغَيِّ وَالْكُفْرِ، أَفْنَاهُمُ اللَّه وَطَهَّرَ وَجْهَ الْأَرْضِ مِنْ شَرِّهِمْ، فَكَانَ قَوْلُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ عَلَى تلك النعم الكثيرة المتقدمة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤٦]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ الْمُخْتَارِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ أَشْرَفَ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ هُوَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْقَلْبُ فَالْأُذُنُ مَحَلُّ الْقُوَّةِ السَّامِعَةِ وَالْعَيْنُ محل القوة
الْبَاصِرَةِ، وَالْقَلْبُ مَحَلُّ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَالْعِلْمِ. فَلَوْ زَالَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ عَنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ اخْتَلَّ أَمْرُ الْإِنْسَانِ وَبَطَلَتْ مَصَالِحُهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى تَحْصِيلِ هَذِهِ الْقُوَى فِيهَا وَصَوْنِهَا عَنِ الْآفَاتِ وَالْمُخَافَاتِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، كَانَ الْمُنْعِمُ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْعَالِيَةِ وَالْخَيْرَاتِ الرَّفِيعَةِ هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ الْمُسْتَحِقُّ لِلتَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ وَالْعُبُودِيَّةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ طَرِيقَةٌ بَاطِلَةٌ فَاسِدَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ وَطَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَمْ يَعْقِلُوا الْهُدَى. الثَّانِي: مَعْنَاهُ وَأَزَالَ عُقُولَكُمْ حَتَّى تَصِيرُوا كَالْمَجَانِينِ. وَالثَّالِثُ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْخَتْمِ الْإِمَاتَةُ أَيْ يُمِيتُ قُلُوبَكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ... مَنْ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وخبره إِلهٌ وغَيْرُ صِفَةٌ لَهُ وَقَوْلُهُ يَأْتِيكُمْ بِهِ هَذِهِ الْهَاءُ تَعُودُ عَلَى مَعْنَى الْفِعْلِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّه يَأْتِيكُمْ بِمَا أُخِذَ مِنْكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ بِهِ انْظُرْ بِضَمِّ الْهَاءِ وَهُوَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقْرَأْ فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [الْقَصَصِ: ٨١] فَحَذَفَ الْوَاوَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فَصَارَ بِهِ انْظُرْ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَصْدِفُونَ بِإِشْمَامِ الزَّايِ وَالْبَاقُونَ بالصاد أي يعرضون عنه. يقال: صرف عَنْهُ أَيْ أَعْرَضَ وَالْمُرَادُ مِنْ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ إِيرَادُهَا عَلَى الْوُجُوهِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُتَكَاثِرَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُقَوِّي مَا قَبْلَهُ فِي الْإِيصَالِ إِلَى الْمَطْلُوبِ فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَعَ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّفْهِيمِ وَالتَّقْرِيرِ وَالْإِيضَاحِ وَالْكَشْفِ، انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّهُمْ كَيْفَ يَصْدِفُونَ وَيُعْرِضُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَكَّنَهُمْ مِنَ الْفَهْمِ، وَلَمْ يَخْلُقْ فِيهِمُ الْإِعْرَاضَ وَالصَّدَّ وَلَوْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْكُفْرِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْكَلَامِ مَعْنًى. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِعَيْنِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ بَالَغَ فِي إِظْهَارِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ وَفِي تَقْرِيرِهَا وَتَنْقِيحِهَا وَإِزَالَةِ جِهَاتِ الشُّبُهَاتِ عَنْهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَعَ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ الْقَاطِعَةِ لِلْعُذْرِ مَا زَادُوا إِلَّا تَمَادِيًا فِي الْكُفْرِ وَالْغَيِّ وَالْعِنَادِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِهِدَايَةِ اللَّه وَإِلَّا بِإِضْلَالِهِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَالَتُهَا عَلَى قَوْلِنَا أَقْوَى مِنْ دلالتها على قولهم واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤٧]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)
اعْلَمْ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُتَقَدِّمَ كَانَ مُخْتَصًّا بِأَخْذِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقَلْبِ وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا دَافِعَ لِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ، وَلَا مُحَصِّلَ لِخَيْرٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَعْبُودُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ لَا غَيْرُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً قُلْنَا الْعَذَابُ الَّذِي يَجِيئُهُمْ إِمَّا أَنْ يَجِيئَهُمْ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ عَلَامَةٍ تَدُلُّهُمْ عَلَى مَجِيءِ ذَلِكَ الْعَذَابِ أَوْ مَعَ سَبْقِ هَذِهِ الْعَلَامَةِ. فَالْأَوَّلُ: هُوَ الْبَغْتَةُ. وَالثَّانِي: هُوَ الْجَهْرَةُ. وَالْأَوَّلُ سَمَّاهُ اللَّه تَعَالَى بِالْبَغْتَةِ، لِأَنَّهُ فَاجَأَهُمْ بِهَا وَسَمَّى الثَّانِيَ جَهْرَةً، لِأَنَّ نَفْسَ الْعَذَابِ وَقَعَ بِهِمْ وَقَدْ عَرَفُوهُ حَتَّى لَوْ أَمْكَنَهُمُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ لَتَحَرَّزُوا مِنْهُ.
وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً مَعْنَاهُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ حَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ لَوْ جَاءَهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ لَيْلًا وَقَدْ عَايَنُوا مُقَدِّمَتَهُ، لَمْ يَكُنْ بَغْتَةً وَلَوْ/ جَاءَهُمْ نَهَارًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِمُقَدِّمَتِهِ لَمْ يَكُنْ جَهْرَةً. فَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، اسْتَقَامَ الْكَلَامُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ مَعَ عِلْمِكُمْ بِأَنَّ الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ التَّمْيِيزُ.
قُلْنَا: إِنَّ الْهَلَاكَ وَإِنْ عَمَّ الْأَبْرَارَ وَالْأَشْرَارَ فِي الظَّاهِرِ، إِلَّا أَنَّ الْهَلَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ مُخْتَصٌّ بِالظَّالِمِينَ الشِّرِّيرِينَ، لِأَنَّ الْأَخْيَارَ يَسْتَوْجِبُونَ بِسَبَبِ نُزُولِ تِلْكَ الْمَضَارِّ بِهِمْ أَنْوَاعًا عَظِيمَةً مِنَ الثَّوَابِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، فَذَاكَ وَإِنْ كَانَ بَلَاءً فِي الظَّاهِرِ، إِلَّا أَنَّهُ يُوجِبُ سَعَادَاتٍ عَظِيمَةً؟
أَمَّا الظَّالِمُونَ فَإِذَا نَزَلَ الْبَلَاءُ بِهِمْ فَقَدْ خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ مَعًا، فَلِذَلِكَ وَصَفَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِكَوْنِهِمْ هَالِكِينَ وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ التَّقِيَّ النَّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْبَلَاءِ أَوْ فِي الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ وَأَنَّ الْفَاسِقَ الْكَافِرَ هُوَ الشَّقِيُّ، كَيْفَ دَارَتْ قَضِيَّتُهُ وَاخْتَلَفَتْ أحواله، واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الكفار فيما تقدم أنهم قَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الأنعام: ٣٧] وَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي جَوَابِهِمْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ ثُمَّ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ بُعِثُوا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى إِظْهَارِ الْآيَاتِ وَإِنْزَالِ الْمُعْجِزَاتِ، بَلْ ذَاكَ مُفَوَّضٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى وَكَلِمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَقَالَ: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ مُبَشِّرِينَ بِالثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَمُنْذِرِينَ بِالْعِقَابِ عَلَى الْمَعَاصِي، فَمَنْ قَبِلَ قَوْلَهُمْ وَأَتَى بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَالْإِصْلَاحِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ الْجَسَدِ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ وَمَعْنَى الْمَسِّ فِي اللُّغَةِ الْتِقَاءُ الشَّيْئَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ عَذَابَ الْكُفَّارِ بِكَوْنِهِمْ فَاسِقِينَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ فَاسِقٍ كَذَلِكَ، فَيُقَالُ لَهُ هَذَا/ مُعَارَضٌ بِمَا أَنَّهُ خَصَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه بِهَذَا الْوَعِيدِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُكَذِّبًا بِآيَاتِ اللَّه أَنْ لَا يَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ أَصْلًا. وَأَيْضًا فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ هَذَا الْوَعِيدِ مُعَلَّلًا بِفِسْقِهِمْ فَلِمَ قُلْتُمْ أَنَّ فِسْقَ مَنْ عَرَفَ اللَّه وَأَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، مُسَاوٍ لِفِسْقِ مَنْ أنكر هذه الأشياء؟ واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٠]
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الْأَنْعَامِ: ٣٧] فَقَالَ اللَّه تَعَالَى قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ، إِنَّمَا بُعِثْتُ مُبَشِّرًا وَمُنْذِرًا، وَلَيْسَ لِي أَنْ أَتَحَكَّمَ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَأَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ أُمُورًا ثَلَاثَةً، أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ إِنْ
537
كُنْتَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّه، فَاطْلُبْ مِنَ اللَّه حَتَّى يُوَسِّعَ عَلَيْنَا مَنَافِعَ الدُّنْيَا وَخَيْرَاتِهَا، وَيَفْتَحْ عَلَيْنَا أَبْوَابَ سَعَادَتِهَا.
فَقَالَ تَعَالَى قُلْ لَهُمْ إِنِّي لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّه، فَهُوَ تَعَالَى يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ لَا بِيَدِي وَالْخَزَائِنُ جَمْعُ خِزَانَةٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُخَزَّنُ فِيهِ الشَّيْءُ وَخَزْنُ الشَّيْءِ إِحْرَازُهُ، بِحَيْثُ لَا تَنَالُهُ الْأَيْدِي. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ إِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّه فَلَا بُدَّ وَأَنْ تُخْبِرَنَا عَمَّا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَضَارِّ، حَتَّى نَسْتَعِدَّ لِتَحْصِيلِ تِلْكَ الْمَصَالِحِ، وَلِدَفْعِ تِلْكَ الْمَضَارِّ. فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي لَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ فَكَيْفَ تَطْلُبُونَ مِنِّي هَذِهِ الْمَطَالِبَ؟
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ وَالْخَيْرَاتِ الْوَاسِعَةَ، وَفِي الْمَقَامِ الثَّانِي كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْإِخْبَارَ عَنِ الْغُيُوبِ، لِيَتَوَسَّلُوا بِمَعْرِفَةِ تِلْكَ الْغُيُوبِ إِلَى الْفَوْزِ بِالْمَنَافِعِ وَالِاجْتِنَابِ عَنِ الْمَضَارِّ وَالْمَفَاسِدِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَقُولُونَ مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفَرْقَانِ: ٧] وَيَتَزَوَّجُ وَيُخَالِطُ النَّاسَ. فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ لَهُمْ إِنِّي لَسْتُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ نَفْيِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ؟
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنْ يُظْهِرَ الرَّسُولُ مِنْ نَفْسِهِ الْتَّوَاضُعَ للَّه وَالْخُضُوعَ لَهُ وَالِاعْتِرَافَ بِعُبُودِيَّتِهِ، حَتَّى لَا يُعْتَقَدَ فِيهِ مِثْلُ اعْتِقَادِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَقْتَرِحُونَ مِنْهُ إِظْهَارَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الْقَوِيَّةِ، كَقَوْلِهِمْ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: ٩٠] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: ٩٣] يَعْنِي لَا أَدَّعِي إِلَّا الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي طَلَبْتُمُوهَا، فَلَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا إِلَّا بِقُدْرَةِ اللَّه، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِظْهَارَ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي طَلَبُوهَا مِنْهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قوله لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ مَعْنَاهُ أَنِّي لَا أَدَّعِي كَوْنِي مَوْصُوفًا بِالْقُدْرَةِ اللَّائِقَةِ بِالْإِلَهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ أَيْ وَلَا أَدَّعِي كَوْنِي مَوْصُوفًا بِعِلْمِ اللَّه تَعَالَى. وَبِمَجْمُوعِ هَذَيْنِ الْكَلَامَيْنِ حَصَلَ أَنَّهُ لَا يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ.
ثُمَّ قَالَ: وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْإِلَهِيَّةِ دَرَجَةٌ أَعْلَى حَالًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَصَارَ حَاصِلُ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَا أَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ وَلَا أَدَّعِي الْمَلَكِيَّةَ وَلَكِنِّي أَدَّعِي الرِّسَالَةَ، وَهَذَا مَنْصِبٌ لَا يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ لِلْبَشَرِ، فَكَيْفَ أَطْبَقْتُمْ عَلَى اسْتِنْكَارِ قَوْلِي وَدَفْعِ دَعْوَايَ؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ لَا أَدَّعِي مَنْزِلَةً فَوْقَ مَنْزِلَتِي وَلَوْلَا أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ الْغَرَضُ بِمَا نَفَى طَرِيقَةَ التَّوَاضُعِ فَالْأَقْرَبُ أَنْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ قُدْرَتِهِ عَنْ أَفْعَالٍ لَا يَقْوَى عَلَيْهَا إِلَّا الْمَلَائِكَةُ، لَمْ يَدُلْ عَلَى كَوْنِهِمْ أَفْضَلَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ إِلَّا بِالْوَحْيِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى حُكْمَيْنِ.
538
الْحُكْمُ الْأَوَّلُ:
أَنَّ هَذَا النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ وَأَنَّهُ مَا كَانَ يَجْتَهِدُ بَلْ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ صَادِرَةٌ عَنِ الْوَحْيِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النَّجْمِ: ٣، ٤].
الْحُكْمُ الثَّانِي:
أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ قَالُوا: ثَبَتَ بِهَذَا النَّصِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يَعْمَلُ إِلَّا بِالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِالْوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ، لقوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ [سبأ: ٢٠] وَذَلِكَ يَنْفِي جَوَازَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِغَيْرِ الْوَحْيِ يَجْرِي مَجْرَى عَمَلِ الْأَعْمَى وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَى نُزُولِ الْوَحْيِ يَجْرِي مَجْرَى عَمَلِ الْبَصِيرِ.
ثُمَّ قَالَ: أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ وَأَنْ لَا يَكُونَ غَافِلًا عَنْ مَعْرِفَتِهِ، واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥١]
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الرُّسُلَ بِكَوْنِهِمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، أَمَرَ الرَّسُولَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْإِنْذَارِ فَقَالَ:
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (الْإِنْذَارُ) الْإِعْلَامُ بِمَوْضِعِ الْمَخَافَةِ وَقَوْلُهُ بِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزَّجَّاجُ بِالْقُرْآنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [الْأَنْعَامِ: ٥٠] وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَأَنْذِرْ بِهِ أَيْ باللَّه، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْإِنْذَارَ وَالتَّخْوِيفَ إِنَّمَا يَقَعُ بِالْقَوْلِ وَبِالْكَلَامِ لَا بِذَاتِ اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمُ الْكَافِرُونَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَوِّفُهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَثَّرُ مِنْ ذَلِكَ التَّخْوِيفِ، وَيَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الَّذِي يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ حَقًّا، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَائِقٌ بِهَؤُلَاءِ، لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ، وَالْعِلْمُ خِلَافُ الْخَوْفِ وَالظَّنِّ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّهُمْ وَإِنْ تَيَقَّنُوا الْحَشْرَ فَلَمْ يَتَيَقَّنُوا الْعَذَابَ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ، لِتَجْوِيزِهِمْ أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَتَجْوِيزِ أَنْ لَا يَمُوتُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانُوا خَائِفِينَ مِنَ الْحَشْرِ، بِسَبَبِ أَنَّهُمْ/ كَانُوا مُجَوِّزِينَ لِحُصُولِ الْعَذَابِ وَخَائِفِينَ مِنْهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِصِحَّةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ فَهُمُ الَّذِينَ يَخَافُونَ مِنْ عَذَابِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ لِأَنَّهُ لَا عَاقِلَ إِلَّا وَهُوَ يَخَافُ الْحَشْرَ، سَوَاءٌ قَطَعَ بِحُصُولِهِ أَوْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ لِأَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ غَيْرُ مَعْلُومِ الْبُطْلَانِ بِالضَّرُورَةِ فَكَانَ هَذَا الْخَوْفُ قَائِمًا فِي حَقِّ الْكُلِّ وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَبْعُوثًا
إِلَى الْكُلِّ، وَكَانَ مَأْمُورًا بِالتَّبْلِيغِ إِلَى الْكُلِّ، وَخُصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ يَخَافُونَ الْحَشْرَ، لِأَنَّ انْتِفَاعَهُمْ بِذَلِكَ الْإِنْذَارِ أَكَمَلُ، بِسَبَبِ أَنَّ خَوْفَهُمْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى إِعْدَادِ الزَّادِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُجَسِّمَةُ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ اللَّه تَعَالَى مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ وَجِهَةٍ لِأَنَّ كَلِمَةَ (إِلَى) لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ.
وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَعَلَهُ رَبُّهُمْ لِاجْتِمَاعِهِمْ وَلِلْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ لَيْسَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مُتَخَلِّينَ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شفيع، والعامل فيه يخافون. ثم هاهنا بَحْثٌ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ الْكُفَّارَ، فَالْكَلَامُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّه شُفَعَاءُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: ١٨] واللَّه كَذَّبَهُمْ فِيهِ وَذَكَرَ أَيْضًا فِي آيَةٍ أُخْرَى فَقَالَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غَافِرٍ: ١٨] وَقَالَ أَيْضًا فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [الْمُدَّثِّرِ: ٤٨] وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمُسْلِمِينَ، فَنَقُولُ: قَوْلُهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَا يُنَافِي مَذْهَبَنَا فِي إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ شَفَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ لِلْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا تَكُونُ بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى لِقَوْلِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥] فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الشَّفَاعَةُ بِإِذْنِ اللَّه، كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ اللَّه تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ وَأَنْذِرْهُمْ لِكَيْ يَخَافُوا فِي الدُّنْيَا وَيَنْتَهُوا عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْكُفَّارِ التَّقْوَى وَالطَّاعَةَ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ قَدْ سَبَقَ مِرَارًا.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٢]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ] فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ صُهَيْبٌ وَخَبَّابٌ وَبِلَالٌ وَعَمَّارٌ وَغَيْرُهُمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَرَضِيتَ بِهَؤُلَاءِ عَنْ قَوْمِكَ؟
أَفَنَحْنُ نَكُونُ تَبَعًا لِهَؤُلَاءِ؟ اطْرُدْهُمْ عَنْ نَفْسِكَ، فَلَعَلَّكَ إِنْ طَرَدْتَهُمُ اتَّبَعْنَاكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ» فَقَالُوا فَأَقِمْهُمْ عَنَّا إِذَا جِئْنَا، فَإِذَا أَقَمْنَا فَأَقْعِدْهُمْ مَعَكَ إِنْ شِئْتَ، فَقَالَ «نَعَمْ» طَمَعًا فِي إِيمَانِهِمْ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ: لَوْ فَعَلْتَ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَاذَا يَصِيرُونَ، ثُمَّ أَلَحُّوا وَقَالُوا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اكْتُبْ لَنَا بِذَلِكَ كِتَابًا فَدَعَا بِالصَّحِيفَةِ وَبِعَلِيٍّ لِيَكْتُبَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَرَمَى الصَّحِيفَةَ، وَاعْتَذَرَ عُمَرُ عَنْ مَقَالَتِهِ، فَقَالَ سَلْمَانُ وَخَبَّابٌ: فِينَا نَزَلَتْ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْعُدُ مَعَنَا وَنَدْنُو مِنْهُ حَتَّى تَمَسَّ رُكْبَتُنَا رُكْبَتَهُ، وَكَانَ يَقُومُ عَنَّا إِذَا أَرَادَ الْقِيَامَ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
[الْكَهْفِ: ٢٨] فَتَرَكَ الْقِيَامَ عَنَّا إِلَى أَنْ نَقُومَ عَنْهُ وَقَالَ: «الْحَمْدُ للَّه الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَمَرَنِي أَنِ أَصْبِرَ نَفْسِيَ مَعَ قَوْمٍ مِنْ أُمَّتِي مَعَكُمُ الْمَحْيَا وَمَعَكُمُ الْمَمَاتُ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ
540
السَّلَامُ طَرَدَهُمْ واللَّه تَعَالَى نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ الطَّرْدِ، فَكَانَ ذَلِكَ الطَّرْدُ ذَنْبًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ طَرَدَهُمْ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الظَّالِمِينَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا [هُودٍ: ٢٩] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمُتَابَعَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ، حَيْثُ قَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: ٩٠] فَبِهَذَا الطَّرِيقِ وَجَبَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ لَا يَطْرُدَهُمْ، فَلَمَّا طَرَدَهُمْ كَانَ ذَلِكَ ذَنْبًا. وَالرَّابِعُ:
أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، فَزَادَ فِيهَا فَقَالَ: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْفِ: ٢٨] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَهَاهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي آيَةٍ أُخْرَى فَقَالَ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [طه: ١٣١] فَلَمَّا نُهِيَ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى زِينَةِ الدُّنْيَا، ثُمَّ/ ذُكِرَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ أَنَّهُ يُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ ذَنْبًا. الْخَامِسُ:
نُقِلَ أَنَّ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءَ كُلَّمَا دَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ «مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي رَبِّي فِيهِمْ»
أَوْ لَفْظٌ هَذَا مَعْنَاهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الذَّنْبِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا طَرَدَهُمْ لِأَجْلِ الِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ وَالِاسْتِنْكَافِ مِنْ فَقْرِهِمْ وَإِنَّمَا عَيَّنَ لِجُلُوسِهِمْ وَقْتًا مُعَيَّنًا سِوَى الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَحْضُرُ فِيهِ أَكَابِرُ قُرَيْشٍ فَكَانَ غَرَضُهُ مِنْهُ التَّلَطُّفَ فِي إِدْخَالِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ وَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَفُوتُهُمْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ أَمْرٌ مُهِمٌّ فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ فَإِنَّهُ يَفُوتُهُمُ الدِّينُ وَالْإِسْلَامُ فَكَانَ تَرْجِيحُ هَذَا الْجَانِبِ أَوْلَى فَأَقْصَى مَا يُقَالُ إِنَّ هَذَا الِاجْتِهَادَ وَقَعَ خَطَأً إِلَّا أَنَّ الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ مَغْفُورٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ ثَانِيًا: إِنَّ طَرْدَهُمْ يُوجِبُ كَوْنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الظَّالِمِينَ.
فَجَوَابُهُ: أَنَّ الظُّلْمَ عِبَارَةٌ عَنْ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالْمَعْنَى أو أُولَئِكَ الضُّعَفَاءَ الْفُقَرَاءَ كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ التَّعْظِيمَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِذَا طَرَدَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ كَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا، إِلَّا أَنَّهُ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلِ لَا مِنْ بَابِ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ فَإِنَّا نَحْمِلُ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ وَالْأَكْمَلِ وَالْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالْغُدْوَةِ وَالْعَشِيِّ بِالْوَاوِ وَضَمِّ الْغَيْنِ وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ مِثْلَهُ وَالْبَاقُونَ بِالْأَلِفِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ الْوَجْهُ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالْغَدَاةِ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ نَكِرَةً فَأَمْكَنَ تَعْرِيفُهَا بِإِدْخَالِ لَامِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهَا. فَأَمَّا (غُدْوَةٌ) فَمَعْرِفَةٌ وَهُوَ عَلَمٌ صِيغَ لَهُ، وَإِذَا كان كذلك، فوجب أن يمتنع إدخال لا م التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ، كَمَا يَمْتَنِعُ إِدْخَالُهُ عَلَى سَائِرِ الْمَعَارِفِ. وَكِتْبَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ بِالْوَاوِ فِي الْمُصْحَفِ لَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ كتبوا «الصلاة» بالواو وهي ألف فكذا هاهنا. قَالَ سِيبَوَيْهِ «غُدْوَةٌ وَبُكْرَةٌ» جُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمًا لِلْجِنْسِ كَمَا جَعَلُوا أَمَّ حُبَيْنٍ اسْمًا لِدَابَّةٍ مَعْرُوفَةٍ. قَالَ وَزَعَمَ يُونُسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ لَقِيتُهُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ غُدْوَةً أَوْ بُكْرَةً وَأَنْتَ تُرِيدُ الْمَعْرِفَةَ لَمْ تُنَوِّنْ. فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُقَوِّي قِرَاءَةَ الْعَامَّةِ، وَأَمَّا وَجْهُ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ فَهُوَ أَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ زَعَمَ الْخَلِيلُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَتَيْتُكَ الْيَوْمَ غُدْوَةً وَبُكْرَةً فَجَعَلَهُمَا بِمَنْزِلَةِ ضَحْوَةً، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الدُّعَاءِ الصَّلَاةُ، يَعْنِي يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ بِالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَهِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ.
541
وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ طَرَفَا النَّهَارِ، وَذَكَرَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهِمْ مُوَاظِبِينَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ الدعاء الذكر قال إبراهيم: الدعاء هاهنا هُوَ الذِّكْرُ وَالْمَعْنَى يَذْكُرُونَ رَبَّهُمْ طَرَفَيِ النَّهَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُجَسِّمَةُ تَمَسَّكُوا فِي إِثْبَاتِ الْأَعْضَاءِ للَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَسَائِرُ الْآيَاتِ الْمُنَاسِبَةِ لَهُ مِثْلُ قَوْلِهِ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرَّحْمَنِ: ٢٧].
وَجَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَهُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: ١] يَقْتَضِي الْوِحْدَانِيَّةَ التَّامَّةَ، وَذَلِكَ يُنَافِي التَّرْكِيبَ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ الْمَعْنَى يُرِيدُونَهُ إِلَّا أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ لَفْظَ الْوَجْهِ لِلتَّعْظِيمِ، كَمَا يُقَالُ هَذَا وَجْهُ الرَّأْيِ وَهَذَا وَجْهُ الدَّلِيلِ، وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ أَحَبَّ ذَاتًا أَحَبَّ أَنْ يَرَى وَجْهَهُ، فَرُؤْيَةُ الْوَجْهِ مِنْ لَوَازِمِ الْمَحَبَّةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جُعِلَ الْوَجْهُ كِنَايَةً عَنِ الْمَحَبَّةِ وَطَلَبِ الرِّضَا وَتَمَامُ هَذَا الْكَلَامِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلَهُ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ١١٥].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ حِسابِهِمْ وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِمْ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالْمَعْنَى مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ شَيْءٍ وَلَا حِسَابُكَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا اللَّه هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ عَبِيدَهُ كَمَا يَشَاءُ وَأَرَادَ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَمَّلُ هَذَا الِاقْتِرَاحَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، فَلَعَلَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ وَيَتَخَلَّصُونَ مِنْ عِقَابِ الْكُفْرِ، فَقَالَ تَعَالَى: لَا تَكُنْ فِي قَيْدِ أَنَّهُمْ يَتَّقُونَ الْكُفْرَ أَمْ لَا فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى هُوَ الْهَادِي وَالْمُدَبِّرُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، وَهُمُ الْفُقَرَاءُ، وَذَلِكَ أَشْبَهُ بِالظَّاهِرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ عَائِدَةٌ لَا مَحَالَةَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَائِرُ الْكِنَايَاتِ عَائِدَةً إِلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكُفَّارَ طَعَنُوا فِي إِيمَانِ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ وَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُمْ إِنَّمَا اجْتَمَعُوا عِنْدَكَ وَقَبِلُوا دِينَكَ لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ بِهَذَا السَّبَبِ مَأْكُولًا وَمَلْبُوسًا عِنْدَكَ، وَإِلَّا فَهِمَ فَارِغُونَ عَنْ دِينِكَ، فَقَالَ اللَّه تَعَالَى إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ، فَمَا يَلْزَمُكَ إِلَّا اعْتِبَارُ الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ بَاطِنٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَ اللَّه، فحسابهم عليه لا زم لَهُمْ، لَا يَتَعَدَّى إِلَيْكَ، كَمَا أَنَّ حِسَابَكَ عَلَيْكَ لَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِمْ، كَقَوْلِهِ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الْأَنْعَامِ: ١٦٤].
فَإِنْ قِيلَ: أَمَا كَفَى قَوْلُهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى ضَمَّ إِلَيْهِ قَوْلَهُ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ.
قُلْنَا: جُعِلَتِ الْجُمْلَتَانِ بِمَنْزِلَةِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ قُصِدَ بِهِمَا مَعْنًى وَاحِدٌ وَهُوَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَلَا يَسْتَقِلُّ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا الْجُمْلَتَانِ جَمِيعًا، كَأَنَّهُ قِيلَ لَا تُؤَاخَذُ أَنْتَ وَلَا هُمْ بِحِسَابِ صَاحِبِهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِ رِزْقِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَمَلَّهُمْ وَتَطْرُدَهُمْ، وَلَا حِسَابُ رِزْقِكَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا
542
الرَّازِقُ لَهُمْ وَلَكَ هُوَ اللَّه تَعَالَى، فَدَعْهُمْ يَكُونُوا عِنْدَكَ وَلَا تَطْرُدْهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: ١١١] فأجابهم نوح عليه السلام وقالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ [الشعراء: ١١٢، ١١٣] وَعَنَوْا بِقَوْلِهِمْ الْأَرْذَلُونَ الْحَاكَّةَ وَالْمُحْتَرِفِينَ بِالْحِرَفِ الْخَسِيسَةِ، فكذلك هاهنا. وَقَوْلُهُ فَتَطْرُدَهُمْ جَوَابُ النَّفْيِ وَمَعْنَاهُ، مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ حِسَابُهُمْ حَتَّى أَنَّكَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْحِسَابِ تَطْرُدُهُمْ، وَقَوْلُهُ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ فَتَطْرُدَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّسَبُّبِ لِأَنَّ كَوْنَهُ ظَالِمًا مَعْلُولُ طَرْدِهُمْ وَمُسَبَّبٌ لَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ لِنَفْسِكَ بِهَذَا الطَّرْدِ، الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَوْجَبُوا مَزِيدَ التَّقْرِيبِ وَالتَّرْحِيبِ كَانَ طَرْدُهُمْ ظُلْمًا لَهُمْ، واللَّه أَعْلَمُ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٣]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُبْتَلًى بِصَاحِبِهِ، فَأُولَئِكَ الْكُفَّارُ الرُّؤَسَاءُ الْأَغْنِيَاءُ كَانُوا يَحْسُدُونَ فُقَرَاءَ الصَّحَابَةِ عَلَى كَوْنِهِمْ سَابِقِينَ فِي الْإِسْلَامِ مُسَارِعِينَ إِلَى قَبُولِهِ فَقَالُوا: لَوْ دَخَلْنَا فِي الْإِسْلَامِ لَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَنْقَادَ لِهَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ الْمَسَاكِينِ وَأَنْ نَعْتَرِفَ لَهُمْ بِالتَّبَعِيَّةِ، فَكَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [الْقَمَرِ: ٢٥] لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ [الْأَحْقَافِ: ١١] وَأَمَّا فُقَرَاءُ الصَّحَابَةِ فَكَانُوا يَرَوْنَ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ فِي الرَّاحَاتِ وَالْمَسَرَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ وَالْخِصْبِ وَالسَّعَةِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ كَيْفَ حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ لِهَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّا بَقِينَا فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ وَالضِّيقِ وَالْقِلَّةِ.
فَقَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فَأَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ يَرَى الْآخَرَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فِي الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ يَرَى الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فِي الْمَنَاصِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ أَهَذَا هُوَ الَّذِي فَضَّلَهُ اللَّه عَلَيْنَا، وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ فَهُمُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَحِكْمَةٌ وَصَوَابٌ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، إِمَّا بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا أَوْ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى مَا هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، فَكَانُوا صَابِرِينَ فِي وَقْتِ الْبَلَاءِ، شَاكِرِينَ فِي وَقْتِ الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ إِلْقَاءَ تِلْكَ الْفِتْنَةِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَالْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْفِتْنَةِ لَيْسَ إِلَّا اعْتِرَاضَهُمْ عَلَى اللَّه فِي أَنْ جَعَلَ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءَ رُؤَسَاءَ فِي الدِّينِ وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى اللَّه كُفْرٌ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِلْكُفْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُوَ أَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ باللَّه وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُوجِدُ لِلْإِيمَانِ هُوَ الْعَبْدَ، فاللَّه مَا مَنَّ عَلَيْهِ بِهَذَا الْإِيمَانِ، بَلِ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي مَنَّ عَلَى نَفْسِهِ
543
بِهَذَا الْإِيمَانِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ، بِأَنَّ الْفِتْنَةَ فِي التَّكْلِيفِ مَا يُوجِبُ التَّشْدِيدَ، وَإِنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ؟ أَيْ لِيَقُولَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ اسْتِفْهَامًا لَا إِنْكَارًا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا بِالْإِيمَانِ؟ وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَصْبِرُوا أَوْ لِيَشْكُرُوا، فَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ أَنْ قَالُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا عَلَى مِيثَاقِ قَوْلِهِ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: ٨] وَالْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَا سِيَّمَا وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ قَائِمٌ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ مُشَاهَدَةُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ تُوجِبُ الْأَنَفَةَ، وَالْأَنَفَةُ تُوجِبُ الْعِصْيَانَ وَالْإِصْرَارَ عَلَى الْكُفْرِ، وَمُوجَبُ الْمُوجَبِ مُوجَبٌ، كَانَ الْإِلْزَامُ وَارِدًا، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ افْتِتَانِ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْغِنَى وَالْفَقْرَ كَانَا سَبَبَيْنِ لِحُصُولِ هَذَا الِافْتِتَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَمَا قَالَ فِي قِصَّةِ قَوْمِ صَالِحٍ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الْأَعْرَافِ: ٧٦] وَالثَّانِي: ابْتِلَاءُ الشَّرِيفِ بِالْوَضِيعِ. وَالثَّالِثُ: ابْتِلَاءُ الذَّكِيِّ بِالْأَبْلَهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَصِفَاتُ الْكَمَالِ مُخْتَلِفَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ، وَلَا تَجْتَمِعُ فِي/ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ الْبَتَّةَ، بَلْ هِيَ مُوَزَّعَةٌ عَلَى الْخَلْقِ وَصِفَاتُ الْكَمَالِ مَحْبُوبَةٌ لِذَاتِهَا، فَكُلُّ أَحَدٍ يَحْسُدُ صَاحِبَهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّه مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ.
فَأَمَّا مَنْ عَرَفَ سِرَّ اللَّه تَعَالَى فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ رَضِيَ بِنَصِيبِ نَفْسِهِ وَسَكَتَ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْخَلْقِ، وَعَاشَ عَيْشًا طَيِّبًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ إِلَّا عِنْدَ حُدُوثِهَا، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الِافْتِتَانَ هُوَ الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَجَوَابُهُ قَدْ مَرَّ غير مرة.
ثم الجزء الثاني عَشَرَ، وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى الْجُزْءُ الثالث عشر، وأوله قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا من سورة الأنعام أعان اللَّه على إكماله.
544
الجزء الثالث عشر
[تتمة سورة الأنعام]

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٤]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤)
[فِي قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا] فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي كُلِّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ الَّذِينَ سَأَلَ الْمُشْرِكُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَرْدَهُمْ وَإِبْعَادَهُمْ، فَأَكْرَمَهُمُ اللَّه بِهَذَا الْإِكْرَامِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَهَى الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلًا عَنْ طَرْدِهِمْ ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يُكْرِمَهُمْ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِكْرَامِ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَآهُمْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ وَيَقُولُ: «الْحَمْدُ للَّه الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أَمَرَنِي أَنْ أَبْدَأَهُ بِالسَّلَامِ»
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَنَّ عُمَرَ لَمَّا اعْتَذَرَ مِنْ مَقَالَتِهِ وَاسْتَغْفَرَ اللَّه مِنْهَا. وَقَالَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَقْدَمُوا عَلَى ذُنُوبٍ، ثُمَّ جَاءُوهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُظْهِرِينَ لِلنَّدَامَةِ وَالْأَسَفِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ وَالْأَقْرَبُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى عُمُومِهَا، فَكُلُّ مَنْ آمَنَ باللَّه دخل تحت هذا التشريف.
ولي هاهنا إِشْكَالٌ، وَهُوَ: أَنَّ النَّاسَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَإِذَا/ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي كل واحدة من آيات السُّورَةِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا هُوَ الْأَمْرُ الْفُلَانِيُّ بِعَيْنِهِ؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا مُشْتَمِلٌ عَلَى أَسْرَارٍ عَالِيَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى فَهُوَ آيَاتُ وُجُودِ اللَّه تَعَالَى، وَآيَاتُ صِفَاتِ جَلَالِهِ وَإِكْرَامِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَآيَاتُ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَمَا سِوَى اللَّه فَلَا نِهَايَةَ لَهُ، وَمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فَلَا سَبِيلَ لِلْعَقْلِ فِي الْوُقُوفِ عَلَيْهِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّامِّ، إِلَّا أَنَّ الْمُمْكِنَ هُوَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى بَعْضِ الْآيَاتِ وَيَتَوَسَّلَ بِمَعْرِفَتِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى ثُمَّ يُؤْمِنَ بِالْبَقِيَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ إِنَّهُ يَكُونُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ كَالسَّائِحِ فِي تِلْكَ الْقِفَارِ، وَكَالسَّابِحِ فِي تِلْكَ الْبِحَارِ. وَلَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَكَذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لِتَرَقِّي الْعَبْدِ فِي مَعَارِجِ تِلْكَ الْآيَاتِ، وَهَذَا مُشَرَّعٌ جُمَلِيٌّ لَا نِهَايَةَ لِتَفَاصِيلِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَارَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَعِنْدَ هَذَا أَمَرَ اللَّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فَيَكُونُ هَذَا التَّسْلِيمُ بِشَارَةً لِحُصُولِ السَّلَامَةِ. وَقَوْلُهُ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ بِشَارَةً لِحُصُولِ الرحمة عقيب تلك السلامة. أما السلامة فالنجاة مِنْ بَحْرِ عَالَمِ الظُّلُمَاتِ وَمَرْكَزِ الْجُسْمَانِيَّاتِ وَمَعْدِنِ الْآفَاتِ وَالْمُخَالَفَاتِ وَمَوْضِعِ التَّغْيِيرَاتِ وَالتَّبْدِيلَاتِ، وَأَمَّا الْكَرَامَاتُ فَبِالْوُصُولِ إِلَى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَالْمُجَرَّدَاتِ الْمُقَدَّسَاتِ، وَالْوُصُولِ إِلَى فُسْحَةِ عَالَمِ الْأَنْوَارِ وَالتَّرَقِّي إِلَى مَعَارِجِ سُرَادِقَاتِ الْجَلَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الزَّجَّاجُ عَنِ الْمُبَرِّدِ. أَنَّ السَّلَامَةَ فِي اللُّغَةِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءٍ، فَمِنْهَا سَلَّمْتُ سَلَامًا وَهُوَ مَعْنَى
5
الدُّعَاءِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى، وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ، وَمِنْهَا اسْمٌ لِلشَّجَرِ الْعَظِيمِ، أَحْسَبُهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِسَلَامَتِهِ مِنَ الْآفَاتِ، وَهُوَ أَيْضًا اسْمٌ لِلْحِجَارَةِ الصُّلْبَةِ، وَذَلِكَ أَيْضًا لِسَلَامَتِهَا مِنَ الرَّخَاوَةِ. ثُمَّ قَالَ الزَّجَّاجُ:
قَوْلُهُ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ السلام هاهنا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ سَلَّمْتُ تَسْلِيمًا وَسَلَامًا مِثْلَ السَّرَاحِ مِنَ التَّسْرِيحِ، وَمَعْنَى سَلَّمْتُ عَلَيْهِ سَلَامًا، دَعَوْتُ لَهُ بِأَنْ يَسْلَمَ مِنَ الْآفَاتِ فِي دِينِهِ وَنَفْسِهِ. فَالسَّلَامُ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّلَامُ جَمْعَ السَّلَامَةِ، فَمَعْنَى قَوْلِكَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامَةُ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: قَالَ قَوْمٌ السَّلَامُ هُوَ اللَّه تَعَالَى فَمَعْنَى السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَعْنِي اللَّه عَلَيْكُمْ أَيْ عَلَى حِفْظِكُمْ وَهَذَا بِعِيدٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِتَنْكِيرِ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَلَوْ كَانَ مُعَرَّفًا لَصَحَّ هَذَا الْوَجْهُ. وَأَقُولُ كَتَبْتُ فُصُولًا مُشْبِعَةً كَامِلَةً فِي قَوْلِنَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَكَتَبْتُهَا فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِذَا نَقَلْتُهُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ كَمُلَ الْبَحْثُ واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ كُتِبَ كذا على فلان يفيد الإيجاب. ولكمة «عَلَى» أَيْضًا تُفِيدُ الْإِيجَابَ وَمَجْمُوعُهُمَا مُبَالَغَةٌ فِي الْإِيجَابِ. فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ سُبْحَانَهُ رَاحِمًا لِعِبَادِهِ رَحِيمًا بِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ وَاخْتَلَفَ الْعُقَلَاءُ فِي سَبَبِ ذَلِكَ الْوُجُوبِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي عَبِيدِهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، إِلَّا أَنَّهُ أَوْجَبَ الرَّحْمَةَ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى سَبِيلِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ كَوْنَهُ عَالِمًا بِقُبْحِ الْقَبَائِحِ وَعَالَمًا بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهَا، يَمْنَعُهُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَبَائِحِ وَلَوْ فَعَلَهُ كَانَ ظُلْمًا، وَالظُّلْمُ قَبِيحٌ، وَالْقَبِيحُ مِنْهُ مُحَالٌ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْجَلِيَّةِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ تَسْمِيَةُ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى بِالنَّفْسِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة: ١١٦] يدل عليه، والنفس هاهنا بِمَعْنَى الذَّاتِ وَالْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا بِمَعْنَى الْجِسْمِ وَالدَّمِ فاللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُقَدَّسٌ عَنْهُ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ مُرَكَّبًا وَالْمُرَكَّبُ مُمْكِنٌ وَأَيْضًا أَنَّهُ أَحَدٌ، وَالْأَحَدُ لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا، وَمَا لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا لَا يَكُونُ جِسْمًا وَأَيْضًا أنه غني كما قال وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَالْغَنِيُّ لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا وَمَا لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا لَا يَكُونُ جِسْمًا وَأَيْضًا الْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، فَلَوْ كَانَ جِسْمًا لَحَصَلَ لَهُ مِثْلٌ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] فَأَمَّا الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ فَكَثِيرَةٌ ظَاهِرَةٌ بَاهِرَةٌ قَوِيَّةٌ جَلِيَّةٌ وَالْحَمْدُ للَّه عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ يُنَافِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْكُفْرَ فِي الْكَافِرِ، ثُمَّ يُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ أَبَدَ الْآبَادِ، وَيُنَافِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَمْنَعُهُ عَنِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ حَالَ ذَلِكَ الْمَنْعِ بِالْإِيمَانِ، ثُمَّ يُعَذِّبُهُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ. وجواب أصحابنا: أنه ضار نافع محيي مُمِيتٌ، فَهُوَ تَعَالَى فَعَلَ تِلْكَ الرَّحْمَةَ الْبَالِغَةَ وَفَعَلَ هَذَا الْقَهْرَ الْبَالِغَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ كَانَ هَذَا مِنْ قَوْلِ اللَّه تَعَالَى وَمِنْ كَلَامِهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَتَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ أَقْوَامًا بِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨] ثُمَّ إِنَّ أَقْوَامًا أَفْنَوْا أَعْمَارَهُمْ فِي الْعُبُودِيَّةِ حَتَّى صَارُوا فِي
6
حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ كَأَنَّهُمُ انْتَقَلُوا إِلَى عَالَمِ الْقِيَامَةِ، لَا جَرَمَ صَارَ التَّسْلِيمُ الْمَوْعُودُ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا، بَلْ هَذَا كَلَامُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَوْلُهُ: وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يَتَنَاوَلُ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ، لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ خِطَابٌ مَعَ الَّذِينَ/ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ تَوْبَةُ الْمُسْلِمِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ بِجَهالَةٍ لَيْسَ هُوَ الْخَطَأَ وَالْغَلَطَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى التَّوْبَةِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ، أَنْ تُقْدِمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانَ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الذَّنْبِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ منه توبة حقيقة فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ بِفَتْحِ الْأَلِفِ فَأَنَّهُ غَفُورٌ بِكَسْرِ الْأَلِفِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا. أَمَّا فَتْحُ الْأُولَى فَعَلَى التَّفْسِيرِ لِلرَّحْمَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ. وَأَمَّا فَتْحُ الثَّانِيَةِ فَعَلَى أَنْ يَجْعَلَهُ بَدَلًا مِنَ الْأُولَى كَقَوْلِهِ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٥] وَقَوْلِهِ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ [الْحَجِّ: ٤] وَقَوْلِهِ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [التَّوْبَةِ: ٦٣] قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: مَنْ فَتَحَ الْأُولَى فَقَدْ جَعَلَهَا بَدَلًا مِنَ الرَّحْمَةِ، وَأَمَّا الَّتِي بَعْدَ الْفَاءِ فَعَلَى أَنَّهُ أَضْمَرَ لَهُ خَبَرًا تَقْدِيرُهُ، فَلَهُ أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، أَيْ فَلَهُ غُفْرَانُهُ، أَوْ أَضْمَرَ مُبْتَدَأً يَكُونُ «أَنَّ» خَبَرَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَمْرُهُ أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَأَمَّا مَنْ كَسَرَهُمَا جَمِيعًا فَلِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَقَدْ تَمَّ هَذَا الْكَلَامُ، ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَدَخَلَتِ الْفَاءُ جَوَابًا لِلْجَزَاءِ، وَكُسِرَتْ إِنَّ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ كَأَنَّكَ قُلْتَ فَهُوَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ بِأَنَّ أَوْكَدُ هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ الْأُولَى بِالْفَتْحِ وَالثَّانِيَةَ بِالْكَسْرِ، لِأَنَّهُ أَبْدَلَ الْأُولَى مِنَ الرَّحْمَةِ، وَاسْتَأْنَفَ مَا بَعْدَ الْفَاءِ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ قَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ مَنْ عَمِلَ مَعْصِيَةً فَهُوَ جَاهِلٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: إِنَّهُ جَاهِلٌ بِمِقْدَارِ مَا فَاتَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَمَا اسْتَحَقَّهُ مِنَ الْعِقَابِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ مَذْمُومَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ آثَرَ اللَّذَّةَ الْعَاجِلَةَ عَلَى الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الْآجِلِ، وَمَنْ آثَرَ الْقَلِيلَ عَلَى الْكَثِيرِ قِيلَ فِي الْعُرْفِ إِنَّهُ جَاهِلٌ.
وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَاهِلًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ مَا يَلِيقُ بِالْجُهَّالِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْجَاهِلِ، وَقِيلَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُمَرَ حِينَ أَشَارَ بِإِجَابَةِ الْكَفَرَةِ إِلَى مَا اقْتَرَحُوهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهَا مَفْسَدَةٌ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ:
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النِّسَاءِ: ١٧].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَقَوْلُهُ تابَ إِشَارَةٌ إِلَى النَّدَمِ عَلَى الْمَاضِي وَقَوْلُهُ وَأَصْلَحَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ آتِيًا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ. ثُمَّ قَالَ: فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَهُوَ غَفُورٌ بِسَبَبِ إِزَالَةِ الْعِقَابِ، رَحِيمٌ بِسَبَبِ إِيصَالِ الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ النهاية في الرحمة. واللَّه أعلم.
7

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]

وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ.
الْمُرَادُ كَمَا فَصَّلْنَا لَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ دَلَائِلَنَا عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ، فَكَذَلِكَ نُمَيِّزُ وَنُفَصِّلُ لَكَ دَلَائِلَنَا وَحُجَجَنَا فِي تَقْرِيرِ كُلِّ حَقٍّ يُنْكِرُهُ أَهْلُ الْبَاطِلِ وقوله: وليستبين سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ لِيَظْهَرَ الْحَقُّ وَلِيَسْتَبِينَ، وَحَسُنَ هَذَا الْحَذْفُ لِكَوْنِهِ معلوما واختلف القراء في قوله ليستبين فَقَرَأَ نَافِعٌ لِتَسْتَبِينَ بِالتَّاءِ وَسَبِيلَ بِالنَّصْبِ وَالْمَعْنَى لِتَسْتَبِينَ يَا مُحَمَّدُ سَبِيلَ هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمِينَ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ لِيَسْتَبِينَ بالياء سَبِيلُ بالرفع والباقون بالتاء وسَبِيلُ بِالرَّفْعِ عَلَى تَأْنِيثِ سَبِيلٍ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُؤَنِّثُونَ السَّبِيلَ، وَبَنُو تَمِيمٍ يُذَكِّرُونَهُ. وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِهِمَا فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الْأَعْرَافِ: ١٤٦] وَقَالَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً [إِبْرَاهِيمَ: ٣].
فَإِنْ قِيلَ: لم قال ليستبين سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ.
قُلْنَا: ذِكْرُ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي. كَقَوْلِهِ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: ٨١] وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَرْدَ.
وَأَيْضًا فَالضِّدَّانِ إِذَا كَانَا بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ، فَمَتَى بَانَتْ خَاصِّيَّةُ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ بَانَتْ خَاصِّيَّةُ الْقِسْمِ الْآخَرِ وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، فَمَتَى اسْتَبَانَتْ طَرِيقَةُ الْمُجْرِمِينَ فَقَدِ اسْتَبَانَتْ طَرِيقَةُ الْمُحِقِّينَ أَيْضًا لَا مَحَالَةَ.
[قَوْلُهُ تعالى: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ إلى قوله وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ] قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِيَظْهَرَ الْحَقُّ وَلِيَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِهِمْ. فَقَالَ: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهَا إِنَّمَا يَعْبُدُونَهَا بِنَاءً عَلَى مَحْضِ الْهَوَى وَالتَّقْلِيدِ، لَا عَلَى سبيل الحجة والدليل، لأنها جمادات وأحجار وَهِيَ أَخَسُّ مَرْتَبَةً مِنَ الْإِنْسَانِ بِكَثِيرٍ، وَكَوْنُ الْأَشْرَفِ مُشْتَغِلًا بِعِبَادَةِ الْأَخَسِّ أَمْرٌ يَدْفَعُهُ صَرِيحُ الْعَقْلِ. وَأَيْضًا إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَنْحِتُونَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ وَيُرَكِّبُونَهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدِيهَةِ أَنَّهُ يَقْبُحُ من هذا العامل الصانع أن يَعْبُدُ مَعْمُولَهُ وَمَصْنُوعَهُ. فَثَبَتَ أَنَّ عِبَادَتَهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْهَوَى. وَمُضَادَّةٌ لِلْهُدَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ ثُمَّ قَالَ: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أَيْ إِنِ اتَّبَعْتُ أَهْوَاءَكُمْ فَأَنَا ضَالٌّ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي شَيْءٍ. وَالْمَقْصُودُ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ أَنْتُمْ كَذَلِكَ. وَلَمَّا نَفَى أَنْ يَكُونَ الْهَوَى مُتَّبَعًا، نَبَّهَ عَلَى
مَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أَيْ فِي أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ سِوَاهُ. وَكَذَّبْتُمْ أَنْتُمْ حَيْثُ أَشْرَكْتُمْ بِهِ غَيْرَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ هَذَا الشِّرْكِ. وَالْقَوْمُ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَ ذَلِكَ الْعَذَابِ. فَقَالَ تَعَالَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يَعْنِي قَوْلَهُمْ اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَالِ: ٣٢] وَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ يُنْزِلُهُ اللَّه فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَرَادَ إِنْزَالَهُ فِيهِ. وَلَا قُدْرَةَ لِي عَلَى تَقْدِيمِهِ أَوْ تَأْخِيرِهِ. ثُمَّ قَالَ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وهذا مطلق يتناول الكل. والمراد هاهنا إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للَّه فَقَطْ فِي تَأْخِيرِ عَذَابِهِمْ يَقْضِي الْحَقَّ أَيِ الْقَضَاءَ الْحَقَّ فِي كُلِّ مَا يَقْضِي مِنَ التَّأْخِيرِ وَالتَّعْجِيلِ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أَيِ الْقَاضِينَ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا إِذَا قَضَى اللَّه بِهِ، فَيَمْتَنِعُ مِنْهُ فِعْلُ الْكُفْرِ إِلَّا إِذَا قَضَى اللَّه بِهِ وَحَكَمَ بِهِ. وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه. وَاحْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ:
يَقْضِي الْحَقَّ وَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا قَضَى بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُرِيدَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ. وَلَا الْمَعْصِيَةَ مِنَ الْعَاصِي لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ الْحَقَّ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ يَقُصُّ الْحَقَّ بِالصَّادِ مِنَ الْقَصَصِ، يعني أن كل ما أنبأ اللَّه بِهِ وَأَمَرَ بِهِ فَهُوَ مِنْ أَقَاصِيصِ الْحَقِّ، كَقَوْلِهِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يُوسُفَ: ٣] وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَقْضِ الْحَقَّ وَالْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ «يَقْضِ» بِغَيْرِ يَاءٍ لِأَنَّهَا سَقَطَتْ فِي اللَّفْظِ لالتقاء الساكنين كما كتبوا سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: ١٨] فَما تُغْنِ النُّذُرُ [القمر: ٥] وقوله: يقضى الْحَقَّ قَالَ الزَّجَّاجُ: فِيهِ وَجْهَانِ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَقَّ صِفَةَ الْمَصْدَرِ وَالتَّقْدِيرُ: يَقْضِ الْقَضَاءَ الْحَقَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَقْضِ الْحَقَّ يَصْنَعُ الْحَقَّ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ صَنَعَهُ اللَّه فَهُوَ حَقٌّ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْحَقَّ يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ وَقَضَى/ بِمَعْنَى صَنَعَ. قَالَ الْهُذَلِيُّ:
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تُبَّعُ
أَيْ صَنَعَهُمَا دَاوُدُ وَاحْتَجَّ أَبُو عَمْرٍو عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ قَالَ وَالْفَصْلُ يَكُونُ فِي الْقَضَاءِ، لَا فِي الْقَصَصِ.
أجاب أبو علي الفارسي فقال القصص هاهنا بِمَعْنَى الْقَوْلِ. وَقَدْ جَاءَ الْفَصْلُ فِي الْقَوْلِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطَّارِقِ: ١٣] وَقَالَ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هُودٍ: ١] وَقَالَ: نُفَصِّلُ الْآياتِ [الأعراف:
٣٢].
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩)
9
[في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ] اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْنَى لَوْ أَنَّ عِنْدِي أَيْ فِي قُدْرَتِي وَإِمْكَانِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ لَأَهْلَكْتُكُمْ عَاجِلًا غَضَبًا لِرَبِّي، وَاقْتِصَاصًا مِنْ تَكْذِيبِكُمْ بِهِ. وَلَتَخَلَّصْتُ سَرِيعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ وَبِمَا يَجِبُ فِي الْحِكْمَةِ مِنْ وَقْتِ عِقَابِهِمْ وَمِقْدَارِهِ، وَالْمَعْنَى: إِنِّي لَا أَعْلَمُ وَقْتَ عُقُوبَةِ الظَّالِمِينَ.
واللَّه تَعَالَى يَعْلَمُ ذَلِكَ فَهُوَ يُؤَخِّرُهُ إِلَى وقته، واللَّه أعلم.
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ إلى قوله إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ يَعْنِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ يُعَجِّلُ مَا تَعْجِيلُهُ أَصْلَحُ وَيُؤَخِّرُ مَا تَأْخِيرُهُ أَصْلَحُ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَفَاتِحُ جَمْعُ مِفْتَحٍ. وَمَفْتَحٍ، وَالْمِفْتَحُ بِالْكَسْرِ الْمِفْتَاحُ الَّذِي يُفْتَحُ بِهِ وَالْمَفْتَحُ بِفَتْحِ الْمِيمِ الْخِزَانَةُ وَكُلُّ خِزَانَةٍ كَانَتْ لِصِنْفٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ مَفْتَحٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ [الْقَصَصِ: ٧٦] يَعْنِي خَزَائِنَهُ فَلَفْظُ الْمَفَاتِحِ يُمْكِنُ أن يكون المراد منه المفاتيح يتوصل بها إلى ما الْخَزَائِنَ أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ. فَقَدْ جَعَلَ لِلْغَيْبِ مَفَاتِيحَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الْمَفَاتِيحَ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَا فِي الْخَزَائِنِ الْمُسْتَوْثَقِ مِنْهَا بِالْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ فَالْعَالِمُ بِتِلْكَ الْمَفَاتِيحِ وَكَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي فَتْحِ تِلْكَ الْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِتِلْكَ الْمَفَاتِيحِ إِلَى مَا فِي تلك الخزائن فكذلك هاهنا الْحَقُّ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِالْعِبَارَةِ الْمَذْكُورَةِ وَقُرِئَ مَفَاتِيحُ وَأَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي فَالْمَعْنَى وَعِنْدَهُ خَزَائِنُ الْغَيْبِ. فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُرَادُ الْعِلْمَ بِالْغَيْبِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُدْرَةُ عَلَى كُلِّ الْمُمَكِنَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الْحِجْرِ: ٢١] وَلِلْحُكَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامٌ عَجِيبٌ مُفَرَّعٌ عَلَى أُصُولِهِمْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ بِالْمَعْلُولِ وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُولِ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْعِلْمِ بِالْعِلَّةِ. قَالُوا: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَوْجُودَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِتَأْثِيرِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مَوْجُودٌ بِإِيجَادِهِ كَائِنٌ بِتَكْوِينِهِ وَاقِعٌ بِإِيقَاعِهِ. إِمَّا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِمَّا بِوَسَائِطَ كَثِيرَةٍ عَلَى التَّرْتِيبِ النَّازِلِ مِنْ عِنْدِهِ طُولًا وَعَرْضًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فنقول: علمه بذاته يوجب عمله بِالْأَثَرِ الْأَوَّلِ الصَّادِرِ مِنْهُ، ثُمَّ عِلْمُهُ بِذَلِكَ الأثر الأول يوجب عمله بِالْأَثَرِ الثَّانِي لِأَنَّ الْأَثَرَ الْأَوَّلَ عِلَّةٌ قَرِيبَةٌ لِلْأَثَرِ الثَّانِي. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمَعْلُولِ فَبِهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ لَيْسَ إِلَّا عِلْمَ الْحَقِّ بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ ثُمَّ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ عَلْمِهِ بِذَاتِهِ عِلْمُهُ بِالْآثَارِ الصَّادِرَةِ عَنْهُ عَلَى تَرْتِيبِهَا الْمُعْتَبَرِ، وَلَمَّا كَانَ عِلْمُهُ بِذَاتِهِ لَمْ يَحْصُلْ إِلَّا لِذَاتِهِ لَا جَرَمَ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ الْفِرْقَةِ الَّذِينَ فَسَّرُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِنَاءً عَلَى هذه الطريقة.
ثم اعلم أن هاهنا دَقِيقَةً أُخْرَى، وَهِيَ: أَنَّ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةَ الْمَحْضَةَ يَصْعُبُ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ إِلَّا لِلْعُقَلَاءِ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ تَعَوَّدُوا الْإِعْرَاضَ عَنْ قَضَايَا الْحِسِّ وَالْخَيَالِ وَأَلِفُوا اسْتِحْضَارَ
10
الْمَعْقُولَاتِ الْمُجَرَّدَةِ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِنْسَانِ يَكُونُ كَالنَّادِرِ وَقَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ قَضِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ مُجَرَّدَةٌ فَالْإِنْسَانُ الَّذِي يَقْوَى عَقْلُهُ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِمَعْنَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَادِرٌ جِدًّا. وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا أُنْزِلَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ. فَهَهُنَا طَرِيقٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ الْقَضِيَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الْمَحْضَةَ الْمُجَرَّدَةَ، فَإِذَا أَرَادَ إِيصَالَهَا إِلَى عَقْلِ كُلِّ أَحَدٍ ذَكَرَ لَهَا مِثَالًا مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ الْمَعْقُولُ بِمُعَاوَنَةِ هَذَا الْمِثَالِ الْمَحْسُوسِ مَفْهُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَرَدَ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ، لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا:
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها/ إِلَّا هُوَ ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْمَعْقُولَ الْكُلِّيَّ الْمُجَرَّدَ بِجُزْئِيٍّ مَحْسُوسٍ فَقَالَ: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ أَقْسَامِ مَعْلُومَاتِ اللَّه هُوَ جَمِيعُ دَوَابِّ الْبَرِّ، وَالْبَحْرِ، وَالْحِسُّ، وَالْخَيَالُ قَدْ وَقَفَ عَلَى عَظَمَةِ أَحْوَالِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَذِكْرُ هَذَا الْمَحْسُوسِ يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ عَظَمَةِ ذَلِكَ الْمَعْقُولِ.
وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ الْبَرِّ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ شَاهَدَ أَحْوَالَ الْبَرِّ، وَكَثْرَةَ مَا فِيهِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالتِّلَالِ، وَكَثْرَةَ مَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ. وَأَمَّا الْبَحْرُ فَإِحَاطَةُ الْعَقْلِ بِأَحْوَالِهِ أَقَلُّ إِلَّا أَنَّ الْحِسَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَجَائِبَ الْبِحَارِ فِي الْجُمْلَةِ أَكْثَرُ وَطُولَهَا وَعَرْضَهَا أَعْظَمُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَأَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْجَبُ. فَإِذَا اسْتَحْضَرَ الْخَيَالُ صُورَةَ الْبَحْرِ وَالْبَرِّ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ. ثُمَّ عَرَفَ أَنَّ مَجْمُوعَهَا قِسْمٌ حَقِيرٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فَيَصِيرُ هَذَا الْمِثَالُ الْمَحْسُوسُ مُقَوِّيًا وَمُكَمِّلًا لِلْعَظَمَةِ الْحَاصِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَمَا كَشَفَ عَنْ عَظَمَةِ قَوْلِهِ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ بِذِكْرِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كَشَفَ عَنْ عَظَمَةِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِقَوْلِهِ: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَسْتَحْضِرُ جَمِيعَ مَا فِي وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْمَفَاوِزِ وَالْجِبَالِ وَالتِّلَالِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ كَمْ فِيهَا مِنَ النَّجْمِ وَالشَّجَرِ ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ حَالُ وَرَقَةٍ إِلَّا وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُهَا ثُمَّ يَتَجَاوَزُ مِنْ هَذَا الْمِثَالِ إِلَى مِثَالٍ آخَرٍ أَشَدَّ هَيْئَةً مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَبَّةَ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ وَظُلُمَاتُ الْأَرْضِ مَوْضِعٌ يَبْقَى أَكْبَرُ الْأَجْسَامِ وَأَعْظَمُهَا مَخْفِيًّا فِيهَا فَإِذَا سَمِعَ أَنَّ تِلْكَ الْحَبَّةَ الصَّغِيرَةَ الْمُلْقَاةَ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ عَلَى اتِّسَاعِهَا وَعَظَمَتِهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ عِلْمِ اللَّه تَعَالَى الْبَتَّةَ، صَارَتْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ مُنَبِّهَةً عَلَى عَظَمَةٍ عَظِيمَةٍ وَجَلَالَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْمَعْنَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ بِحَيْثُ تَتَحَيَّرُ الْعُقُولُ فِيهَا وَتَتَقَاصَرُ الْأَفْكَارُ وَالْأَلْبَابُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَبَادِيهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَوَّى أَمْرَ ذَلِكَ الْمَعْقُولِ الْمَحْضِ الْمُجَرَّدِ بِذِكْرِ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ فَبَعْدَ ذِكْرِهَا عَادَ إِلَى ذِكْرِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ الْمُجَرَّدَةِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وَهُوَ عَيْنُ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ:
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فَهَذَا مَا عَقَلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ الْعَالِيَةِ. وَمِنَ اللَّه التَّوْفِيقُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُتَكَلِّمُونَ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى فَاعِلُ الْعَالَمِ بِجَوَاهِرِهِ وَأَعْرَاضِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ عَالِمًا بِهَا فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَا وَالْحُكَمَاءُ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مَبْدَأٌ لِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَالْعِلْمُ بِالْمَبْدَأِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْأَثَرِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّهَا:
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَدَلَّ الدَّلَائِلِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ الزَّمَانِيَّةِ وَذَلِكَ/ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَبْدَأٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ وَجَبَ كَوْنُهُ مَبْدَأً لِهَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ بِالْأَثَرِ. فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِهَذِهِ التَّغَيُّرَاتِ وَالزَّمَانِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا مُتَغَيِّرَةٌ وَزَمَانِيَّةٌ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ.
11
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ عِنْدَهُ لَا عِنْدَ غَيْرِهِ. وَلَوْ حَصَلَ مَوْجُودٌ آخَرُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لَكَانَ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ حَاصِلَةً أَيْضًا عِنْدَ ذَلِكَ الْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْحَصْرُ. وَأَيْضًا فَكَمَا أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّوْحِيدِ، فَكَذَلِكَ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ يُسَاعِدُ عَلَيْهِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمَبْدَأَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْآثَارِ وَالنَّتَائِجِ وَالصَّنَائِعِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُؤَثِّرِ وَالْمُؤَثِّرُ الْأَوَّلُ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ. فَالْمَفْتَحُ الْأَوَّلُ لِلْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ هُوَ الْعِلْمُ بِهِ سُبْحَانَهُ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِهِ لَيْسَ إِلَّا لَهُ لِأَنَّ مَا سِوَاهُ أَثَرٌ وَالْعِلْمُ بِالْأَثَرِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمُؤَثِّرِ. فَظَهَرَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّ مَفَاتِحَ الْغَيْبِ لَيْسَتْ إِلَّا عِنْدَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ وَلَا حَبَّةٌ وَلَا رَطْبٌ وَلَا يَابِسٌ بِالرَّفْعِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَحَلٍّ مِنْ وَرَقَةٍ وَأَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كَقَوْلِكَ: لَا رَجُلَ مِنْهُمْ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا فِي الدَّارِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ الْمُبِينَ هُوَ عِلْمُ اللَّه تَعَالَى لَا غَيْرَ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَثْبَتَ كَيْفِيَّةَ الْمَعْلُومَاتِ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الْحَدِيدِ: ٢٢] وَفَائِدَةُ هَذَا الْكِتَابِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا كَتَبَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِتَقِفَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى نَفَاذِ عِلْمِ اللَّه تَعَالَى فِي الْمَعْلُومَاتِ وأنه لا يغيب عنه مما في السموات وَالْأَرْضِ شَيْءٌ. فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ تَامَّةٌ كَامِلَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِأَنَّهُمْ يُقَابِلُونَ بِهِ مَا يَحْدُثُ فِي صَحِيفَةِ هَذَا الْعَالَمِ فَيَجِدُونَهُ مُوَافِقًا لَهُ. وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْوَرَقَةِ وَالْحَبَّةِ تَنْبِيهًا لِلْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَمْرِ الْحِسَابِ وَإِعْلَامًا بِأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ مِنْ كُلِّ مَا يَصْنَعُونَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ: لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُهْمِلُ الْأَحْوَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ وَلَا تَكْلِيفٌ فَبِأَنْ لَا يُهْمِلَ الْأَحْوَالَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَوْلَى.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ فَيَمْتَنِعُ تَغْيِيرُهَا عَنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَإِلَّا لَزِمَ الْجَهْلُ. فَإِذَا كَتَبَ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّامِّ امْتَنَعَ أَيْضًا تَغْيِيرُهَا وَإِلَّا لَزِمَ الْكَذِبُ فَتَصِيرُ كِتْبَةُ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ مُوجِبًا تَامًّا وَسَبَبًا كَامِلًا فِي أَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَقَدُّمُ مَا تَأَخَّرَ وَتَأَخُّرُ/ مَا تَقَدَّمَ كَمَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القيامة» واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٠]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَمَالَ عِلْمِهِ بِالْآيَةِ الْأُولَى بَيَّنَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى نَقْلِ الذَّوَاتِ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ وَمِنَ النَّوْمِ إِلَى اليقظة واستقلاله بحفظها فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَتَدْبِيرُهَا عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ حالة النوم واليقظة.
فأما قوله: الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يُنِيمُكُمْ فَيَتَوَفَّى أَنْفُسَكُمُ الَّتِي بِهَا تَقْدِرُونَ عَلَى الْإِدْرَاكِ وَالتَّمْيِيزِ كَمَا قَالَ جَلَّ جَلَالُهُ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى
عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
[الزُّمَرِ: ٤٢]، فاللَّه جَلَّ جَلَالُهُ يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ عَنِ التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت، وهاهنا بَحْثٌ: وَهُوَ أَنَّ النَّائِمَ لَا شَكَّ أَنَّهُ حَيٌّ وَمَتَى كَانَ حَيًّا لَمْ تَكُنْ رُوحُهُ مَقْبُوضَةً الْبَتَّةَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّه تَوَفَّاهُ فَلَا بُدَّ هاهنا مِنْ تَأْوِيلٍ وَهُوَ أَنَّ حَالَ النَّوْمِ تَغُورُ الْأَرْوَاحُ الْحَسَّاسَةُ مِنَ الظَّاهِرِ فِي الْبَاطِنِ فَصَارَتِ الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ مُعَطَّلَةً عَنْ أَعْمَالِهَا، فَعِنْدَ النَّوْمِ صَارَ ظَاهِرُ الْجَسَدِ مُعَطَّلًا عَنْ بَعْضِ الْأَعْمَالِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ صَارَتْ جُمْلَةُ الْبَدَنِ مُعَطَّلَةً عَنْ كُلِّ الْأَعْمَالِ، فَحَصَلَ بَيْنَ النَّوْمِ وَبَيْنَ الْمَوْتِ مُشَابَهَةٌ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ، فَصَحَّ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْوَفَاةِ وَالْمَوْتِ عَلَى النَّوْمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. ثُمَّ قَالَ: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ يُرِيدُ مَا كَسَبْتُمْ مِنَ الْعَمَلِ بِالنَّهَارِ قَالَ تَعَالَى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْكَوَاسِبُ مِنَ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ وَاحِدَتُهَا جَارِحَةٌ. قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
أَيِ اكْتَسَبُوا. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أَيْ يرد إليكم أرواحكم في النهار، والبعث هاهنا الْيَقَظَةُ. ثُمَّ قَالَ:
لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أَيْ أَعْمَارُكُمُ الْمَكْتُوبَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وَالْمَعْنَى يَبْعَثُكُمْ مِنْ نَوْمِكُمْ إِلَى أَنْ تَبْلُغُوا آجَالَكُمْ، وَمَعْنَى الْقَضَاءِ فَصْلُ الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ، وَمَعْنَى قَضَاءِ الْأَجَلِ فَصْلُ مُدَّةِ الْعُمْرِ مِنْ غَيْرِهَا بِالْمَوْتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُنِيمُهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ يُوقِظُهُمْ ثَانِيًا كَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ، لَا جَرَمَ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ. فَقَالَ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي لَيْلِكُمْ وَنَهَارِكُمْ وَفِي جميع أحوالكم وأعمالكم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦١ الى ٦٢]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)
[قوله تعالى وهو القاهر فوق عباده] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَكَمَالِ حِكْمَتِهِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ هَذِهِ الْآيَةِ الْفَوْقِيَّةَ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْفَوْقِيَّةَ بِالْقَهْرِ وَالْقُدْرَةِ، كَمَا يُقَالُ أَمْرُ فُلَانٍ فَوْقَ أَمْرِ فُلَانٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَعْلَى وَأَنْفَذُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الْفَتْحِ: ١٠] وَمِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذَا الْقَهْرَ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةِ، وَالْفَوْقِيَّةُ الْمُفِيدَةُ لِصِفَةِ الْقَهْرِ هِيَ الْفَوْقِيَّةُ بِالْقُدْرَةِ لَا الْفَوْقِيَّةُ بِالْجِهَةِ، إِذِ الْمَعْلُومُ أَنَّ الْمُرْتَفِعَ فِي الْمَكَانِ قَدْ يَكُونُ مَقْهُورًا. وَتَقْرِيرُ هَذَا الْقَهْرِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَهَّارٌ لِلْعَدَمِ بِالتَّكْوِينِ وَالْإِيجَادِ، وَالثَّانِي:
أَنَّهُ قَهَّارٌ لِلْوُجُودِ بِالْإِفْنَاءِ وَالْإِفْسَادِ فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَنْقُلُ الْمُمْكِنَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ تَارَةً وَمِنَ الْوُجُودِ إِلَى الْعَدَمِ أُخْرَى. فَلَا وُجُودَ إِلَّا بِإِيجَادِهِ وَلَا عَدَمَ إِلَّا بِإِعْدَامِهِ فِي الْمُمْكِنَاتِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَهَّارٌ لِكُلِّ ضِدٍّ بِضِدِّهِ فَيَقْهَرُ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ وَالظُّلْمَةَ بِالنُّورِ، وَالنَّهَارَ بِاللَّيْلِ وَاللَّيْلَ بِالنَّهَارِ. وَتَمَامُ تَقْرِيرِهِ فِي قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ [آلِ عِمْرَانَ: ٢٦].
وَإِذَا عَرَفْتَ مَنْهَجَ الْكَلَامِ. فَاعْلَمْ أَنَّهُ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ لِأَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ فَلَهُ ضِدٌّ، فَالْفَوْقُ ضِدُّهُ التَّحْتُ،
13
وَالْمَاضِي ضِدُّهُ الْمُسْتَقْبَلُ، وَالنُّورُ ضِدُّهُ الظُّلْمَةُ، وَالْحَيَاةُ ضِدُّهَا الْمَوْتُ، وَالْقُدْرَةُ ضِدُّهَا الْعَجْزُ. وَتَأَمَّلْ فِي سائل الْأَحْوَالِ وَالصِّفَاتِ لِتَعْرِفَ أَنَّ حُصُولَ التَّضَادِّ بَيْنَهَا يَقْضِي عَلَيْهَا بِالْمَقْهُورِيَّةِ وَالْعَجْزِ وَالنُّقْصَانِ، وَحُصُولُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي الْمُمْكِنَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا مُدَبِّرًا قَادِرًا قَاهِرًا مُنَزَّهًا عَنِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ، مُقَدَّسًا عَنِ الشَّبِيهِ وَالشَّكْلِ.
كَمَا قَالَ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَالرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا/ الْبَدَنَ مُؤَلَّفٌ مِنَ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ. وَهِيَ مُتَنَافِرَةٌ مُتَبَاغِضَةٌ مُتَبَاعِدَةٌ بِالطَّبْعِ وَالْخَاصَّةِ فَاجْتِمَاعُهَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِقَسْرِ قَاسِرٍ وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ إِنَّ ذَلِكَ الْقَاسِرَ هُوَ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ سِينَا فِي الْإِشَارَاتِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ النَّفْسِ بِالْبَدَنِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ حُصُولِ الْمِزَاجِ وَاعْتِدَالِ الْأَمْشَاجِ، وَالْقَاهِرُ لِهَذِهِ الطَّبَائِعِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ سَابِقٌ عَلَى هَذَا الِاجْتِمَاعِ، وَالسَّابِقُ عَلَى حُصُولِ الِاجْتِمَاعِ مُغَايِرٌ لِلْمُتَأَخِّرِ عَنْ حُصُولِ الِاجْتِمَاعِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْقَاهِرَ لِهَذِهِ الطَّبَائِعِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه تَعَالَى، كَمَا قَالَ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَأَيْضًا فَالْجَسَدُ كَثِيفٌ سُفْلِيٌّ ظُلْمَانِيٌّ فَاسِدٌ عَفِنٌ، وَالرُّوحُ لَطِيفٌ عُلْوِيٌّ نُورَانِيٌّ مُشْرِقٌ بَاقٍ طَاهِرٌ نَظِيفٌ، فَبَيْنَهُمَا أَشَدُّ الْمُنَافَرَةِ وَالْمُبَاعَدَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْقُدْرَةِ، وَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَكْمَلًا بِصَاحِبِهِ مُنْتَفِعًا بِالْآخَرِ. فَالرُّوحُ تَصُونُ الْبَدَنَ عَنِ الْعُفُونَةِ وَالْفَسَادِ وَالتَّفَرُّقِ، وَالْبَدَنُ يَصِيرُ آلَةً لِلرُّوحِ فِي تَحْصِيلِ السِّعَادَاتِ الْأَبَدِيَّةِ، وَالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، فَهَذَا الِاجْتِمَاعُ وَهَذَا الِانْتِفَاعُ لَيْسَ إِلَّا بِقَهْرِ اللَّه تَعَالَى لِهَذِهِ الطَّبَائِعِ، كَمَا قَالَ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَأَيْضًا فَعِنْدَ دُخُولِ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ أَعْطَى الرُّوحَ قُدْرَةً عَلَى فِعْلِ الضِّدَّيْنِ، وَمُكْنَةً مِنَ الطَّرَفَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ يَمْتَنِعُ رُجْحَانُ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ تَارَةً وَالتَّرْكِ عَلَى الْفِعْلِ أُخْرَى إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الدَّاعِيَةِ الْجَازِمَةِ الْخَالِيَةِ عَنِ الْمُعَارِضِ. فَلَمَّا لَمْ تَحْصُلْ تِلْكَ الدَّاعِيَةُ امْتَنَعَ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ فَكَانَ إِقْدَامُ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ تَارَةً وَعَلَى التَّرْكِ أُخْرَى بِسَبَبِ حُصُولِ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ فِي قَلْبِهِ مِنَ اللَّه يَجْرِي مَجْرَى الْقَهْرِ فَكَانَ قَاهِرًا لِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْأَبْوَابَ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُبْدِعَاتِ وَالْعُلْوِيَّاتِ وَالسُّفْلِيَّاتِ وَالذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ كُلَّهَا مَقْهُورَةٌ تَحْتَ قَهْرِ اللَّه مُسَخَّرَةٌ تَحْتَ تَسْخِيرِ اللَّه تعالى، كما قال: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [البحث الأول] فَالْمُرَادُ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ قَهْرِهِ لِعِبَادِهِ إِرْسَالَ الْحَفَظَةِ عَلَيْهِمْ وَهَؤُلَاءِ الْحَفَظَةُ هُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرَّعْدِ: ١١] وَقَوْلُهُ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: ١٨] وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الِانْفِطَارِ: ١٠، ١١] وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حُضُورِ هَؤُلَاءِ الْحَفَظَةِ ضَبْطُ الْأَعْمَالِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ يَكْتُبُونَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ وَالْمُبَاحَاتِ بِأَسْرِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الْكَهْفِ: ٤٩]
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ مَلَكَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ الْإِنْسَانُ بِحَسَنَةٍ كَتَبَهَا مَنْ عَلَى الْيَمِينِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِسَيِّئَةٍ قَالَ مَنْ عَلَى الْيَمِينِ لِمَنْ عَلَى الْيَسَارِ انْتَظِرْهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ كَتَبَ عَلَيْهِ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَقْوَى لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً يُفِيدُ حَفَظَةَ الْكُلِّ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ.
وَالْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اطِّلَاعَ هَؤُلَاءِ الْحَفَظَةِ عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، أَمَّا عَلَى صِفَاتِ الْقُلُوبِ وَهِيَ الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهَا. أَمَّا فِي الْأَقْوَالِ، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَأَمَّا فِي الْأَعْمَالِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً
14
كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ
[الِانْفِطَارِ: ١٠- ١٢] فَأَمَّا الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْإِشْرَاكُ فَلَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى اطِّلَاعِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهَا.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: ذَكَرُوا فِي فَائِدَةِ جَعْلِ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلِينَ عَلَى بَنِي آدَمَ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُوَكَّلُونَ بِهِ يُحْصُونَ عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ وَيَكْتُبُونَهَا في صحائف تعرض على رؤوس الْأَشْهَادِ فِي مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ كَانَ ذَلِكَ أَزْجَرَ لَهُ عَنِ الْقَبَائِحِ. الثَّانِي: يُحْتَمَلُ فِي الْكِتَابَةِ أَنْ يَكُونَ الْفَائِدَةُ فِيهَا أَنْ تُوزَنَ تِلْكَ الصَّحَائِفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ وَزْنَ الْأَعْمَالِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، أَمَّا وَزْنُ الصَّحَائِفِ فَمُمْكِنٌ. الثَّالِثُ: يَفْعَلُ اللَّه مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. وَيَجِبُ عَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ سَوَاءٌ عَقَلْنَا الْوَجْهَ فِيهِ أَوْ لَمْ نَعْقِلْ، فَهَذَا حَاصِلُ مَا قَالَهُ أَهَلُّ الشَّرِيعَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الْحِكْمَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الْقَهْرِ أَنَّهُ خَلَطَ الطَّبَائِعَ الْمُتَضَادَّةَ وَمَزَجَ بَيْنَ الْعَنَاصِرِ الْمُتَنَافِرَةِ، فَلَمَّا حَصَلَ بَيْنَهَا امْتِزَاجٌ اسْتَعَدَّ ذَلِكَ الْمُمْتَزِجُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِامْتِزَاجِ لِقَبُولِ النَّفْسِ الْمُدَبِّرَةِ وَالْقُوَى الْحِسِّيَّةِ وَالْحَرَكِيَّةِ وَالنُّطْقِيَّةِ فَقَالُوا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً تِلْكَ النُّفُوسُ وَالْقُوَى، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي تَحْفَظُ تِلْكَ الطَّبَائِعَ الْمَقْهُورَةَ عَلَى امْتِزَاجَاتِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْقُدَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ وَالْأَرْوَاحَ الْإِنْسَانِيَّةَ مُخْتَلِفَةٌ بِجَوَاهِرِهَا مُتَبَايِنَةٌ، بِمَاهِيَّاتِهَا، فَبَعْضُهَا خَيِّرَةٌ وَبَعْضُهَا شِرِّيرَةٌ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الذَّكَاءِ وَالْبَلَادَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالنَّذَالَةِ وَالشَّرَفِ وَالدَّنَاءَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ السُّفْلِيَّةِ رُوحٌ سَمَاوِيٌّ هُوَ لَهَا كَالْأَبِ الشَّفِيقِ وَالسَّيِّدِ الرَّحِيمِ يُعِينُهَا عَلَى مُهِمَّاتِهَا فِي يَقَظَاتِهَا وَمَنَامَاتِهَا تَارَةً عَلَى سَبِيلِ الرُّؤْيَا، وَأُخْرَى عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامَاتِ فَالْأَرْوَاحُ الشِّرِّيرَةُ لَهَا مَبَادِئُ مِنْ عَالَمِ الْأَفْلَاكِ، وَكَذَا الْأَرْوَاحُ الْخَيِّرَةُ وَتِلْكَ الْمَبَادِئُ تُسَمَّى في مصطلحهم بالطباع التام يعني تِلْكَ الْأَرْوَاحَ الْفَلَكِيَّةَ فِي تِلْكَ الطَّبَائِعِ وَالْأَخْلَاقِ تَامَّةٌ كَامِلَةٌ، وَهَذِهِ الْأَرْوَاحَ السُّفْلِيَّةَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْهَا أَضْعَفُ مِنْهَا لِأَنَّ الْمَعْلُولَ فِي كُلِّ بَابٍ أَضْعَفُ مِنْ عِلَّتِهِ وَلِأَصْحَابِ الطَّلْسَمَاتِ وَالْعَزَائِمِ الرُّوحَانِيَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ كَلَامٌ كَثِيرٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: النَّفْسُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَذَا الْجَسَدِ. لَا شَكَّ فِي أَنَّ النُّفُوسَ الْمُفَارِقَةَ عَنِ الْأَجْسَادِ/ لَمَّا كَانَتْ مُسَاوِيَةً لِهَذِهِ فِي الطَّبِيعَةِ وَالْمَاهِيَّةِ فَتِلْكَ النُّفُوسُ الْمُفَارِقَةُ تَمِيلُ إِلَى هَذِهِ النَّفْسِ بِسَبَبِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُوَافَقَةِ وَهِيَ أَيْضًا تَتَعَلَّقُ بِوَجْهٍ مَا بِهَذَا الْبَدَنِ وَتَصِيرُ مُعَاوَنَةً لِهَذِهِ النَّفْسِ عَلَى مُقْتَضَيَاتِ طَبِيعَتِهَا فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الَّذِي جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ الْحَقَّةُ بِهِ لَيْسَ لِلْفَلَاسِفَةِ أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنْهَا لِأَنَّ كُلَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا بِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ إِصْرَارُ الْجُهَّالِ مِنْهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ بَاطِلًا واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا فههنا أبحاث:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزُّمَرِ: ٤٢] وَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْمُلْكِ: ٢] فَهَذَانَ النَّصَّانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ تَوَفِّيَ الْأَرْوَاحِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السَّجْدَةِ: ١١] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْوَفَاةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ. ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا فَهَذِهِ النُّصُوصُ الثَّلَاثَةُ كَالْمُتَنَاقِضَةِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ فِي الْحَقِيقَةِ يَحْصُلُ بقدرة اللَّه تعالى، وهو في عالم الظَّاهِرِ مُفَوَّضٌ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ،
15
وَهُوَ الرَّئِيسُ الْمُطْلَقُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَهُ أَعْوَانٌ وَخَدَمٌ وَأَنْصَارٌ، فَحَسُنَتْ إِضَافَةُ التَّوَفِّي إِلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِحَسَبِ الِاعْتِبَارَاتِ الثَّلَاثَةِ واللَّه أَعْلَمُ:
الْبَحْثُ الثَّانِي: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ الَّذِينَ بِهِمْ تَحْصُلُ الْوَفَاةُ، وَهُمْ أَعْيَانُ أُولَئِكَ الْحَفَظَةِ فَهُمْ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ يَحْفَظُونَهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّه، وَعِنْدَ مَجِيءِ الْمَوْتِ يَتَوَفَّوْنَهُمْ، وَالْأَكْثَرُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْحِفْظَ غَيْرُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ أَمْرَ الْوَفَاةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي، وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ مَعَادِنُ الرَّحْمَةِ وَالْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ مُغَايِرُونَ لِلَّذِينِ هُمْ أُصُولُ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ فَطَائِفَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هُمُ الْمُسَمَّوْنَ بِالرُّوحَانِيِّينَ لِإِفَادَتِهِمُ الرُّوحَ وَالرَّاحَةَ وَالرَّيْحَانَ، وَبَعْضُهُمْ يُسَمَّوْنَ بِالْكَرُوبِيِينَ لِكَوْنِهِمْ مَبَادِئَ الْكَرْبِ وَالْغَمِّ وَالْأَحْزَانِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ أَنَّهُ مَلَكٌ وَاحِدٌ هُوَ رَئِيسُ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَفَظَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَتْبَاعُهُ، وَأَشْيَاعُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ: جَعَلَ الْأَرْضَ مِثْلَ الطَّسْتِ لِمَلِكِ الْمَوْتِ يَتَنَاوَلُ مَنْ يَتَنَاوَلُهُ، وَمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ إِلَّا وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، وَجَاءَ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ صِفَاتِ مَلَكِ الْمَوْتِ وَمِنْ كَيْفِيَّةِ مَوْتِهِ عِنْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَانْقِضَائِهَا أَحْوَالٌ عَجِيبَةٌ.
وَالْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَرَأَ حَمْزَةُ: تَوَفَّاهُ بِالْأَلِفِ مُمَالَةً وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ، فَالْأَوَّلُ لِتَقْدِيمِ الْفِعْلِ، / وَلِأَنَّ الْجَمْعَ قَدْ يُذَكَّرُ، وَالثَّانِي عَلَى تَأْنِيثِ الْجَمْعِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِيمَا أَمَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ لَا يُقَصِّرُونَ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ. وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ مَلَائِكَةِ النَّارِ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَلَائِكَةَ الْعَذَابِ لَا يُقَصِّرُونَ فِي تِلْكَ التَّكَالِيفِ، وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ عِصْمَةَ الْمَلَائِكَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَثْبَتَ عِصْمَتَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ثُبُوتِ عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: قِيلَ الْمَرْدُودُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ يَعْنِي كَمَا يَمُوتُ بَنُو آدَمَ يَمُوتُ أَيْضًا أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: بَلِ الْمَرْدُودُونَ الْبَشَرُ، يَعْنِي أَنَّهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ يُرَدُّونَ إِلَى اللَّه. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ هَذِهِ الْبِنْيَةِ، لِأَنَّ صَرِيحَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْمَوْتِ لِلْعَبْدِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ يُرَدُّ إِلَى اللَّه، وَالْمَيِّتُ مَعَ كَوْنِهِ مَيِّتًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَدَّ إِلَى اللَّه لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّدَّ لَيْسَ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، لِكَوْنِهِ تَعَالَى مُتَعَالِيًا عَنِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّدُّ مُفَسَّرًا بِكَوْنِهِ مُنْقَادًا لِحُكْمِ اللَّه مُطِيعًا لِقَضَاءِ اللَّه، وَمَا لَمْ يَكُنْ حَيًّا لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حصل هاهنا مَوْتٌ وَحَيَاةٌ أَمَّا الْمَوْتُ، فَنَصِيبُ الْبَدَنِ: فَبَقِيَ أَنْ تَكُونَ الْحَيَاةُ نَصِيبًا لِلنَّفْسِ وَالرُّوحِ وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ وَثَبَتَ أن المرد وهو النَّفْسُ وَالرُّوحُ، ثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ إِلَّا النَّفْسَ وَالرُّوحَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ الرُّوحِ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْبَدَنِ، لِأَنَّ الرَّدَّ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى حَضْرَةِ الْجَلَالِ: إِنَّمَا يَكُونُ لَوْ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ التَّعَلُّقِ بِالْبَدَنِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الْفَجْرِ: ٢٨] وَقَوْلُهُ: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً [يُونُسَ: ٤]
وَنُقِلَ عَنِ النَّبِيِّ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «خَلَقَ اللَّه الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ بِأَلْفَيْ عَامٍ»
وَحُجَّةُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى إِثْبَاتِ أَنَّ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ قَبْلَ وُجُودِ الْبَدَنِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ بَيَّنَّا ضَعْفَهَا فِي «الْكُتُبِ العقلية».
16
الْبَحْثُ الثَّانِي: كَلِمَةُ «إِلَى» تُفِيدُ انْتِهَاءَ الْغَايَةِ فَقَوْلُهُ إِلَى اللَّه يُشْعِرُ بِإِثْبَاتِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ للَّه تَعَالَى وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُمْ رُدُّوا إِلَى حَيْثُ لَا مَالِكَ وَلَا حَاكِمَ سِوَاهُ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْمَوْلَى، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ لَفْظَ الْمَوْلَى، وَلَفْظَ الْوَلِيِّ مُشْتَقَّانِ مِنَ الْوَلْيِ: أَيِ الْقُرْبُ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ الْقَرِيبُ الْبَعِيدُ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: ١٦] وَقَوْلِهِ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [الْمُجَادَلَةِ: ٧] وَأَيْضًا الْمُعْتِقُ يُسَمَّى بِالْمَوْلَى، وَذَلِكَ كَالْمُشْعِرِ بِأَنَّهُ أَعْتَقَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: «سَبَقَتْ/ رَحْمَتِي غَضَبِي» وَأَيْضًا أَضَافَ نَفْسَهُ إِلَى الْعَبْدِ فَقَالَ: مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَمَا أَضَافَهُمْ إِلَى نَفْسِهِ وَذَلِكَ نِهَايَةُ الرَّحْمَةِ، وَأَيْضًا قَالَ: مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا تَحْتَ تَصَرُّفَاتِ الْمَوَالِي الْبَاطِلَةِ وَهِيَ النَّفْسُ وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ كَمَا قَالَ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الْجَاثِيَةِ: ٢٣] فَلَمَّا مَاتَ الْإِنْسَانُ تَخَلَّصَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْمَوَالِي الْبَاطِلَةِ، وَانْتَقَلَ إِلَى تَصَرُّفَاتِ الْمَوْلَى الْحَقِّ.
وَالِاسْمُ الثَّانِي الْحَقُّ: وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى، فَقِيلَ: الْحَقُّ مَصْدَرٌ. وَهُوَ نَقِيضُ الْبَاطِلِ، وَأَسْمَاءُ الْمَصَادِرِ لَا تَجْرِي عَلَى الْفَاعِلِينِ إِلَّا مَجَازًا كَقَوْلِنَا فُلَانٌ عَدْلٌ وَرَجَاءٌ وَغِيَاثٌ وَكَرَمٌ وَفَضْلٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْحَقُّ هُوَ الْمَوْجُودُ وَأَحَقُّ الْأَشْيَاءِ بِالْمَوْجُودِيَّةِ هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا لِذَاتِهِ، فَكَانَ أَحَقَّ الْأَشْيَاءِ بِكَوْنِهِ حَقًّا هُوَ هُوَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قُرِئَ الْحَقَّ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ كَقَوْلِكَ الْحَمْدُ للَّه الْحَقَّ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَلا لَهُ الْحُكْمُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه. وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِأَحَدٍ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا اللَّه، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ كُلَّهُ بِحُكْمِ اللَّه وَقَضَائِهِ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّه حَكَمَ لِلسَّعِيدِ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقِيِّ بِالشَّقَاوَةِ، وَإِلَّا لَمَا حَصَلَ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ لَا تُوجِبُ الثَّوَابَ وَالْمَعْصِيَةَ لَا تُوجِبُ الْعِقَابَ، إِذْ لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ لَثَبَتَ لِلْمُطِيعِ عَلَى اللَّه حُكْمٌ، وَهُوَ أَخْذُ الثَّوَابِ، وَذَلِكَ يُنَافِي مَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُدُوثِ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى. قَالَ لَوْ كَانَ كَلَامُهُ قَدِيمًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِالْمُحَاسَبَةِ. الْآنَ: وَقَبْلَ خَلْقِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ الْمُحَاسَبَةَ تَقْتَضِي حِكَايَةَ عَمَلٍ تَقَدَّمَ وَأَصْحَابُنَا عَارَضُوهُ بِالْعِلْمِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ الْخَلْقِ عَالِمًا بِأَنَّهُ سَيُوجَدُ، وَبَعْدَ وُجُودِهِ صَارَ عَالِمًا بِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ وُجِدَ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَغَيُّرُ الْعِلْمِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الْحِسَابِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُ الْخَلْقَ بِنَفْسِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، لَا يَشْغَلُهُ كَلَامٌ عَنْ كَلَامٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلْ يَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ حَتَّى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُحَاسِبُ وَاحِدًا مِنَ الْعِبَادِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ حَاسَبَ الْكُفَّارَ بِنَفْسِهِ لَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ، وَلا يُكَلِّمُهُمُ [آل عمران: ٧٧]، وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَلَهُمْ كَلَامٌ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الحساب، وهو أنه إنما يتخلص بتقديم مقدمتين.
17
فَالْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: أَنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ وَتَكَرُّرَهَا تُوجِبُ حُدُوثَ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ الْقَوِيَّةِ الثَّابِتَةِ وَالِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ يَكْشِفُ عَنْ صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ مُوَاظَبَتُهُ عَلَى عَمَلٍ مِنَ/ الْأَعْمَالِ أَكْثَرَ كَانَ رُسُوخُ الْمَلَكَةِ التَّامَّةِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْهُ فِيهِ أَقْوَى.
الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَكَرُّرُ الْعَمَلِ يُوجِبُ حُصُولَ الْمَلَكَةِ الرَّاسِخَةِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ أَثَرٌ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْمَلَكَةِ، بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعَمَلِ الْوَاحِدِ أَثَرٌ بِوَجْهٍ مَا فِي حُصُولِ تِلْكَ الْمَلَكَةِ، وَالْعُقَلَاءُ ضَرَبُوا لِهَذَا الْبَابِ أَمْثِلَةً.
الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا سَفِينَةً عَظِيمَةً بِحَيْثُ لَوْ أُلْقِيَ فِيهَا مِائَةُ أَلْفِ مَنٍّ فَإِنَّهَا تَغُوصُ فِي الْمَاءِ بِقَدْرِ شِبْرٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ لَمْ يُلْقَ فِيهَا إِلَّا حَبَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ الْحِنْطَةِ، فَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ إِلْقَاءِ الْجِسْمِ الثَّقِيلِ فِي تِلْكَ السَّفِينَةِ يُوجِبُ غَوْصَهَا فِي الْمَاءِ بِمِقْدَارٍ قَلِيلٍ، وَإِنْ قَلَّتْ وَبَلَغَتْ فِي الْقِلَّةِ إِلَى حَيْثُ لَا يُدْرِكُهَا الْحِسُّ وَلَا يَضْبُطُهَا الْخَيَالُ.
الْمَثَّالُ الثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ أَنَّ الْبَسَائِطَ أَشْكَالَهَا الطَّبِيعِيَّةَ كُرَاتٌ فَسَطْحُ الْمَاءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُرَةً وَالْقِسِيُّ الْمُشَابِهَةُ مِنَ الدَّوَائِرِ الْمُحِيطَةِ بِالْمَرْكَزِ الْوَاحِدِ مُتَفَاوِتَةٌ، فَإِنَّ تَحَدُّبَ الْقَوْسِ الْحَاصِلَ مِنَ الدَّائِرَةِ الْعُظْمَى يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ تَحَدُّبِ الْقَوْسِ الْمُشَابِهَةِ لِلْأُولَى مِنَ الدَّائِرَةِ الصُّغْرَى وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْكُوزُ إِذَا مُلِئَ مِنَ الْمَاءِ، وَوُضِعَ تَحْتَ الْجَبَلِ كَانَتْ حَدَبَةُ سَطْحِ ذلك الماء أعظم من حدبته عند ما يوضع الكوز فوق الجبل، ومنى كَانَتِ الْحَدَبَةُ أَعْظَمَ وَأَكْثَرَ كَانَ احْتِمَالُ الْمَاءِ بِالْكُوزِ أَكْثَرَ، فَهَذَا يُوجِبُ أَنَّ احْتِمَالَ الْكُوزِ لِلْمَاءِ حَالَ كَوْنِهِ تَحْتَ الْجَبَلِ أَكْثَرُ مِنَ احْتِمَالِهِ لِلْمَاءِ حَالَ كَوْنِهِ فَوْقَ الْجَبَلِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ التَّفَاوُتِ بِحَيْثُ لَا يَفِي بِإِدْرَاكِهِ الْحِسُّ وَالْخَيَالُ لِكَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ.
وَالْمَثَّالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْسَانَيْنِ اللَّذَيْنِ يَقِفُ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْبِ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنَّ رِجْلَيْهِمَا يَكُونَانِ أَقْرَبَ إِلَى مَرْكَزِ الْعَالَمِ مِنْ رَأْسَيْهِمَا، لِأَنَّ الْأَجْرَامَ الثَّقِيلَةَ تَنْزِلُ مِنْ فَضَاءِ الْمُحِيطِ إِلَى ضِيقِ الْمَرْكَزِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ التَّفَاوُتِ لَا يَفِي بِإِدْرَاكِهِ الْحِسُّ وَالْخَيَالُ.
فَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ: وَعَرَفْتَ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ تُوجِبُ حُصُولَ الْمَلَكَاتِ فَنَقُولُ: لَا فِعْلَ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِقَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ إِلَّا وَيُفِيدُ حُصُولَ أَثَرٍ فِي النَّفْسِ. إِمَّا فِي السَّعَادَةِ، وَإِمَّا فِي الشَّقَاوَةِ، وَعِنْدَ هَذَا يَنْكَشِفُ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ صِحَّةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: ٧، ٨] وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْأَفْعَالَ تُوجِبُ حُصُولَ الْمَلَكَاتِ وَالْأَفْعَالُ الصَّادِرَةُ مِنَ الْيَدِ، فَهِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي حُصُولِ الْمَلَكَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الصَّادِرَةُ مِنَ الرِّجْلِ، فَلَا جَرَمَ تَكُونُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ شَاهِدَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ، بِمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْآثَارَ النَّفْسَانِيَّةَ، إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي جَوَاهِرِ النُّفُوسِ بِوَاسِطَةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ عَنْ هَذِهِ الْجَوَارِحِ، فَكَانَ صُدُورُ تِلْكَ/ الْأَفْعَالِ مِنْ تِلْكَ الْجَارِحَةِ الْمَخْصُوصَةِ جَارِيًا مَجْرَى الشَّهَادَةِ لِحُصُولِ تِلْكَ الْآثَارِ الْمَخْصُوصَةِ فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ، وَأَمَّا الْحِسَابُ: فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ مَعْرِفَةُ مَا بَقِيَ مِنَ الدَّخْلِ وَالْخَرْجِ، وَلَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ لِكُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَثَرًا فِي حُصُولِ هَيْئَةٍ مِنْ هَذِهِ الْهَيْئَاتِ فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ، إِمَّا مِنَ الْهَيْئَاتِ الزَّاكِيَةِ الطَّاهِرَةِ أَوْ مِنَ الْهَيْئَاتِ الْمَذْمُومَةِ الْخَسِيسَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً. فَلَا جَرَمَ كَانَ بَعْضُهَا يَتَعَارَضُ بِالْبَعْضِ، وَبَعْدَ حُصُولِ تِلْكَ الْمُعَارَضَاتِ بَقِيَ فِي النَّفْسِ قَدْرٌ مَخْصُوصٌ من الخلق
18
الْحَمِيدِ، وَقَدْرٌ آخَرُ مِنَ الْخُلُقِ الذَّمِيمِ، فَإِذَا مَاتَ الْجَسَدُ ظَهَرَ مِقْدَارُ ذَلِكَ الْخُلُقِ الْحَمِيدِ، وَمِقْدَارُ ذَلِكَ الْخُلُقِ الذَّمِيمِ، وَذَلِكَ الظُّهُورُ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْآنِ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ، وَهُوَ الْآنُ الَّذِي فِيهِ يَنْقَطِعُ تَعَلُّقُ النَّفْسِ مِنَ الْبَدَنِ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ بِسُرْعَةِ الْحِسَابِ، فَهَذِهِ أَقْوَالٌ ذُكِرَتْ فِي تَطْبِيقِ الْحِكْمَةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى الْحِكْمَةِ الْفَلْسَفِيَّةِ، واللَّه الْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَكَمَالِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ.
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ بِالتَّشْدِيدِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالتَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ لُغَتَانِ مَنْقُولَتَانِ مِنْ نَجَا، فَإِنْ شِئْتَ نَقَلْتَ بِالْهَمْزَةِ، وَإِنْ شِئْتَ نَقَلْتَ بِتَضْعِيفِ الْعَيْنِ: مِثْلُ: أَفْرَحْتُهُ وَفَرَّحْتُهُ، وَأَغْرَمْتُهُ وَغَرَّمْتُهُ، وَفِي الْقُرْآنِ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الْأَعْرَافِ:
٧٢] وَفِي آيَةٍ أُخْرَى وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا [فُصِّلَتْ: ١٨] وَلَمَّا جَاءَ التَّنْزِيلُ بِاللُّغَتَيْنِ مَعًا ظَهَرَ اسْتِوَاءُ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْحُسْنِ، غَيْرَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ التَّشْدِيدُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّه كَانَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَأَيْضًا قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ خِفْيَةً بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالضَّمِّ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَعَنِ الْأَخْفَشِ فِي خُفْيَةٍ وَخِفْيَةٍ أنهما لغتان، وأيضا الخفية من الإخفاء، / والخفية مِنَ الرَّهَبِ، وَأَيْضًا (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هَذِهِ. قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ لَئِنْ أَنْجانا عَلَى الْمُغَايَبَةِ، وَالْبَاقُونَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا عَلَى الْخِطَابِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُونَ:
وَهُمُ الَّذِينَ قَرَءُوا عَلَى الْمُغَايَبَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا. قَرَأَ عَاصِمٌ بِالتَّفْخِيمِ، وَالْبَاقُونَ بِالْإِمَالَةِ، وَحُجَّةُ مَنْ قَرَأَ عَلَى الْمُغَايَبَةِ أَنَّ مَا قَبْلَ هَذَا اللَّفْظِ، وَمَا بَعْدَهُ مَذْكُورٌ بِلَفْظِ الْمُغَايَبَةِ، فَأَمَّا مَا قَبْلَهُ فَقَوْلُهُ: تَدْعُونَهُ وَأَمَّا مَا بَعْدَهُ فَقَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَأَيْضًا فَالْقِرَاءَةُ بِلَفْظِ الْخِطَابِ تُوجِبُ الْإِضْمَارَ، وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا، وَالْإِضْمَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَرَأَ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مَجَازٌ عَنْ مَخَاوِفِهِمَا وَأَهْوَالِهِمَا. يُقَالُ: لِلْيَوْمِ الشَّدِيدِ يَوْمٌ مُظْلِمٌ.
وَيَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ أَيِ اشْتَدَّتْ ظُلْمَتُهُ حَتَّى عَادَتْ كَاللَّيْلِ، وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ يَشْتَدُّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَيَشْتَبِهُ عَلَيْهِ كَيْفِيَّةُ الْخُرُوجِ، وَيُظْلِمُ عَلَيْهِ طَرِيقُ الْخَلَاصِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَقَالَ: أَمَّا ظُلُمَاتُ الْبَحْرِ فَهِيَ أَنْ تَجْتَمِعَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ وَظُلْمَةُ السَّحَابِ، وَيُضَافُ الرِّيَاحُ الصَّعْبَةُ وَالْأَمْوَاجُ الْهَائِلَةُ إِلَيْهَا، فَلَمْ يَعْرِفُوا كَيْفِيَّةَ الْخَلَاصِ وَعِظَمَ الْخَوْفِ، وَأَمَّا ظُلُمَاتُ الْبَرِّ فَهِيَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَظُلْمَةُ السَّحَابِ وَالْخَوْفُ الشديد من هجوم الأعداء، وَالْخَوْفُ الشَّدِيدُ مِنْ عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عِنْدَ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْخَوْفِ الشَّدِيدِ لَا يَرْجِعُ الْإِنْسَانُ إِلَّا إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا الرُّجُوعُ يَحْصُلُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَعْظُمُ إِخْلَاصُهُ فِي حَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى، وَيَنْقَطِعُ رَجَاؤُهُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى، وَهُوَ المراد من
قَوْلِهِ: تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا شَهِدَتِ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ وَالْخِلْقَةُ الْأَصْلِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِأَنَّهُ لَا مَلْجَأَ إِلَّا إِلَى اللَّه، وَلَا تَعْوِيلَ إِلَّا عَلَى فَضْلِ اللَّه، وَجَبَ أَنْ يَبْقَى هَذَا الْإِخْلَاصُ عِنْدَ كُلِّ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ الْفَوْزِ بِالسَّلَامَةِ وَالنَّجَاةِ. يُحِيلُ تِلْكَ السَّلَامَةَ إِلَى الْأَسْبَابِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَيُقْدِمُ عَلَى الشِّرْكِ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الطَّعْنُ فِي إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَنَا أَقُولُ: التَّعَلُّقُ بِشَيْءٍ مِمَّا سِوَى اللَّه فِي طَرِيقِ الْعُبُودِيَّةِ يَقْرُبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَعَلُّقًا بِالْوَثَنِ، فَإِنَّ أَهْلَ التَّحْقِيقِ يُسَمُّونَهُ بِالشِّرْكِ الْخَفِيِّ، وَلَفْظُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الشَّدَائِدِ يَأْتِي الْإِنْسَانُ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: الدُّعَاءُ. وَثَانِيهَا:
التَّضَرُّعُ. وَثَالِثُهَا: الْإِخْلَاصُ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَخُفْيَةً وَرَابِعُهَا: الْتِزَامُ الِاشْتِغَالِ بِالشُّكْرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يُنَجِّيهِمْ مِنْ تِلْكَ الْمَخَاوِفِ، وَمِنْ سَائِرِ مُوجِبَاتِ الْخَوْفِ وَالْكَرْبِ. ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ يُقْدِمُ عَلَى الشِّرْكِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: / ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ وَقَوْلُهُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ وَبِالْجُمْلَةِ فَعَادَةُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ ذَلِكَ. إِذَا شَاهَدُوا الأمر الهائل أخصلوا، وَإِذَا انْتَقَلُوا إِلَى الْأَمْنِ وَالرَّفَاهِيَةِ أَشْرَكُوا بِهِ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٥]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَهُوَ مَمْزُوجٌ بِنَوْعٍ مِنَ التَّخْوِيفِ فَبَيَّنَ كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَأَمَّا إِرْسَالُ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ تَارَةً مِنْ فَوْقِهِمْ، وَتَارَةً مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَنَقُولُ: الْعَذَابُ النَّازِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقُ مِثْلُ الْمَطَرِ النَّازِلِ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقُ، كَمَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَالصَّاعِقَةُ النَّازِلَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقُ. وَكَذَا الصَّيْحَةُ النَّازِلَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقُ. كَمَا حُصِبَ قَوْمُ لُوطٍ، وَكَمَا رُمِيَ أَصْحَابُ الْفِيلِ، وَأَمَّا الْعَذَابُ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ. فَمِثْلُ الرَّجْفَةِ، وَمِثْلُ خَسْفِ قَارُونَ. وَقِيلَ: هُوَ حَبْسُ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ الَّتِي يُمْكِنُ نُزُولُهَا مِنْ فَوْقُ، وَظُهُورُهَا مِنْ أَسْفَلُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى مَجَازِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي رِوَايَةٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَيْ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ مِنَ الْعَبِيدِ وَالسَّفَلَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً فَاعْلَمْ أَنَّ الشِّيَعَ جَمْعُ الشِّيعَةِ، وَكُلُّ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا عَلَى أَمْرٍ فَهُمْ شِيعَةٌ وَالْجُمَعُ شِيَعٌ وَأَشْيَاعٌ. قَالَ تَعَالَى: كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سبأ: ٥٤] وأصله من الشيع وهو اتبع، وَمَعْنَى الشِّيعَةِ الَّذِينَ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَالَ الزَّجَّاجُ قَوْلُهُ: يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً يَخْلِطَ أَمْرَكُمْ خَلْطَ اضْطِرَابٍ لَا خَلْطَ اتِّفَاقٍ، فَيَجْعَلَكُمْ فِرَقًا وَلَا تَكُونُونَ فِرْقَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا كُنْتُمْ مُخْتَلِفِينَ قَاتَلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُهُ: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَمَّا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ/ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: «مَا بَقَاءُ أُمَّتِي إِنْ عُومِلُوا بِذَلِكَ» فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مِثْلُكَ فَادْعُ رَبَّكَ لِأُمَّتِكَ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ. فَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ اللَّه قَدْ أَمَّنَهُمْ مِنْ خَصْلَتَيْنِ أَنْ لَا يَبْعَثَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا بَعَثَهُ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَلُوطٍ، وَلَا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ كَمَا خَسَفَ بِقَارُونَ وَلَمْ يُجِرْهُمْ مِنْ أَنْ يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا بِالْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بأس بعض
بِالسَّيْفِ.
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً النَّاجِيَةُ فِرْقَةٌ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا الزَّنَادِقَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْمَذَاهِبِ الْمُتَنَافِيَةِ. وَظَاهِرٌ أَنَّ الْحَقَّ مِنْهَا لَيْسَ إِلَّا الْوَاحِدُ، وَمَا سِوَاهُ فَهُوَ بَاطِلٌ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَحْمِلُ الْمُكَلَّفَ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ وَقَوْلُهُ: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ لَا شَكَّ أَنَّ أَكْثَرَهَا ظُلْمٌ وَمَعْصِيَةٌ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، أَجَابَ الْخَصْمُ عَنْهُ بِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَادِرٌ عَلَيْهِ وَعِنْدَنَا اللَّه قَادِرٌ عَلَى الْقَبِيحِ. إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ وَجْهَ التَّمَسُّكِ بِالْآيَةِ شَيْءٌ آخَرُ فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ الْقادِرُ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ اللَّه غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ حَاصِلٌ وَثَبَتَ بِمُقْتَضَى الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ صَادِرًا عَنْ غَيْرِ اللَّه فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنِ اللَّه وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُقَلِّدَةُ وَالْحَشْوِيَّةُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فَتْحَ تِلْكَ الْأَبْوَابِ يُفِيدُ وُقُوعَ الِاخْتِلَافِ وَالْمُنَازَعَةِ فِي الْأَدْيَانِ وَتُفَرُّقَ الْخَلْقِ إِلَى الْمَذَاهِبِ وَالْأَدْيَانِ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْمَذْمُومِ مَذْمُومٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَتْحُ بَابِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي الدِّينِ مَذْمُومًا وَجَوَابُهُ سَهْلٌ واللَّه أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ قَالَ الْقَاضِي: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِتَصْرِيفِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَتَقْرِيرِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ، أَنْ يَفْهَمَ الْكُلُّ تِلْكَ الدَّلَائِلَ وَيَفْقَهَ الْكُلُّ تِلْكَ الْبَيِّنَاتِ.
وَجَوَابُنَا: بَلْ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا صَرَّفَ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا لِمَنْ فَقُهَ وَفَهِمَ، فَأَمَّا مَنْ أَعْرَضَ وَتَمَرَّدَ فَهُوَ تَعَالَى مَا صَرَّفَ هَذِهِ الْآيَاتِ لهم واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٦ الى ٦٧]
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)
الضمير في قوله: وَكَذَّبَ بِهِ إِلَى مَاذَا يَرْجِعُ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَهُوَ الْحَقُّ أَيْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ. الثَّانِي: الضَّمِيرُ فِي «بِهِ» لِلْقُرْآنِ وَهُوَ الْحَقُّ أَيْ فِي كَوْنِهِ كِتَابًا مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّه. الثَّالِثُ: يَعُودُ إِلَى تَصْرِيفِ الْآيَاتِ وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا كَوْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَلَالَاتٍ، ثُمَّ قَالَ:
قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أَيْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِحَافِظٍ حَتَّى أُجَازِيَكُمْ عَلَى تَكْذِيبِكُمْ وَإِعْرَاضِكُمْ عَنْ قَبُولِ الدَّلَائِلِ.
إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ واللَّه هُوَ الْمُجَازِي لَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْمُفَسِّرُونَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ وَهُوَ بَعِيدٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَالْمُسْتَقَرُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ الِاسْتِقْرَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْسَ الِاسْتِقْرَارِ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلَاثِيِّ كَانَ الْمَصْدَرُ مِنْهُ عَلَى زِنَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ نَحْوَ الْمَدْخَلِ وَالْمَخْرَجِ، بِمَعْنَى الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ لِكُلِّ خَبَرٍ يُخْبِرُهُ اللَّه تَعَالَى وَقْتًا أَوْ مَكَانًا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ خُلْفٍ وَلَا تَأْخِيرٍ وَإِنْ جَعَلْتَ الْمُسْتَقِرَّ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، كَانَ الْمَعْنَى لِكُلِّ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ مِنَ اللَّه تَعَالَى اسْتِقْرَارٌ وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ عِنْدَ ظُهُورِهِ وَنُزُولِهِ. وَهَذَا الَّذِي خَوَّفَ الْكُفَّارَ بِهِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِيلَاءَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ بالحرب والقتل والقهر في الدنيا.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٨]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِهَذَا الدِّينِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُلَازِمَهُمْ وَأَنْ يَكُونَ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أولئك المكذبين إن ضموا إلى كفرهم وتكذيبهم الِاسْتِهْزَاءَ بِالدِّينِ وَالطَّعْنَ فِي الرَّسُولِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْ مُقَارَنَتِهِمْ وَتَرْكُ مُجَالَسَتَهُمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَإِذا رَأَيْتَ قِيلَ إِنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِغَيْرِهِ أَيْ إِذَا رَأَيْتَ أَيُّهَا السَّامِعُ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا. وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِذَا جَالَسُوا الْمُؤْمِنِينَ وَقَعُوا فِي رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ، فَشَتَمُوا وَاسْتَهْزَءُوا فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. وَلَفْظُ الْخَوْضِ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُفَاوَضَةِ عَلَى وَجْهِ الْعَبَثِ وَاللَّعِبِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ: وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَإِذَا سُئِلَ الرَّجُلُ عَنْ قَوْمٍ فَقَالَ: تَرَكْتُهُمْ يَخُوضُونَ أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ شَرَعُوا فِي كَلِمَاتٍ لَا يَنْبَغِي ذِكْرُهَا وَمِنَ الْحَشْوِيَّةِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي النَّهْيِ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ وَالْمُنَاظَرَةِ فِي ذَاتِ اللَّه تَعَالَى وَصِفَاتِهِ. قَالَ:
لِأَنَّ ذَلِكَ خَوْضٌ فِي آيَاتِ اللَّه، وَالْخَوْضُ فِي آيَاتِ اللَّه حَرَامٌ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّا نَقَلْنَا عَنِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ «الْخَوْضِ» الشُّرُوعُ فِي آيَاتِ اللَّه تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الطَّعْنِ وَالِاسْتِهْزَاءِ. وَبَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّ لَفْظَ «الْخَوْضِ» وُضِعَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى فَسَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ يُنْسِيَنَّكَ بِالتَّشْدِيدِ وَفَعَلَ وأفعل يجريان مجرى واحد كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ. وَفِي التَّنْزِيلِ فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق: ١٧] وَالِاخْتِيَارُ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ [الْكَهْفِ: ٦٣] وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنْ نَسِيتَ وَقَعَدْتَ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى، وَقُمْ إِذَا ذَكَرْتَ. وَالذِّكْرَى اسْمٌ لِلتَّذْكِرَةِ قَالَهُ اللَّيْثُ. وَقَالَ القراء: الذِّكْرَى يَكُونُ بِمَعْنَى الذِّكْرِ، وَقَوْلُهُ: مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يَعْنِي مَعَ الْمُشْرِكِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَهَذَا الْإِعْرَاضُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْصُلَ بِالْقِيَامِ عَنْهُمْ وَيُحْتَمَلُ بِغَيْرِهِ. فَلَمَّا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى صَارَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُعْرِضَ عنهم بالقيام من عندهم وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَلْ يَجُوزُ هَذَا الْإِعْرَاضُ بِطَرِيقٍ آخَرَ سِوَى الْقِيَامِ عَنْهُمْ؟ وَالْجَوَابُ: الَّذِينَ يتمسكوا بِظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ وَيَزْعُمُونَ وُجُوبَ إِجْرَائِهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا لَا يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ الْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ جَوَّزُوا ذَلِكَ قَالُوا: لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ إِظْهَارُ الْإِنْكَارِ، فَكُلُّ طَرِيقٍ أَفَادَ هَذَا الْمَقْصُودَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لَوْ خَافَ الرَّسُولُ مِنَ الْقِيَامِ عَنْهُمْ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ مَعَ ذَلِكَ؟
الْجَوَابُ: كُلُّ مَا أَوْجَبَ عَلَى الرَّسُولِ فِعْلَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ سَوَاءٌ ظَهَرَ أَثَرُ الْخَوْفِ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ فَإِنَّا إِنْ جَوَّزْنَا مِنْهُ ترك الواجب بسبب الخوف، سقط الاعتماد عن التَّكَالِيفِ الَّتِي بَلَّغَهَا إِلَيْنَا أَمَّا غَيْرُ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ عِنْدَ شِدَّةِ الْخَوْفِ قَدْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ، لِأَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى التَّرْكِ لَا يُفْضِي إِلَى الْمَحْذُورِ الْمَذْكُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى يُفِيدُ أَنَّ التَّكْلِيفَ سَاقِطٌ عَنِ النَّاسِي قَالَ الْجُبَّائِيُّ: إِذَا كَانَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ يُوجِبُ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ، فَعَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الشَّيْءِ أَوْلَى بِأَنْ يُوجِبَ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ لَا يَقَعُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ حَاصِلَةٌ قَبْلَ الْفِعْلِ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَحْصُلْ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ لَمَا كَانَتْ حَاصِلَةً قَبْلَ الْفِعْلِ. فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْكَافِرُ قَادِرًا عَلَى الْإِيمَانِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ كَثُرَ ذِكْرُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مَعَ الْجَوَابِ فَلَا نُطَوِّلُ الْكَلَامَ بِذِكْرِ الْجَوَابِ. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ الْمُسْلِمُونَ لَئِنْ كُنَّا كُلَّمَا اسْتَهْزَأَ الْمُشْرِكُونَ بِالْقُرْآنِ وَخَاضُوا فِيهِ قُمْنَا عَنْهُمْ لَمَا قَدَرْنَا عَلَى أَنَّ نَجْلِسَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَنْ نَطُوفَ بِالْبَيْتِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَحَصَلَتِ الرُّخْصَةُ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقْعُدُوا مَعَهُمْ وَيُذَكِّرُونَهُمْ وَيُفَهِّمُونَهُمْ. قَالَ وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَالْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ آثَامِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى قَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ ذِكْرى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. أَمَّا كَوْنُهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ ذِكْرَى أَيْ أَنْ تُذَكِّرُوهُمْ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَلَكِنَّ الَّذِي تَأْمُرُونَهُمْ به ذكرى، فعلى الوجه الأولى الذِّكْرَى بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: الذِّكْرَى تَكُونُ بِمَعْنَى الذِّكْرِ وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ، فَالتَّقْدِيرُ ذَكِّرُوهُمْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
وَالْمَعْنَى لَعَلَّ ذَلِكَ الذِّكْرَى يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْخَوْضِ فِي ذلك الفضول.
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً إلى قوله بِما كانُوا يَكْفُرُونَ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ/ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.
اعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا وَمَعْنَى ذِرْهُمْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَتْرُكَ إِنْذَارَهُمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: وَذَكِّرْ بِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَالْمُرَادُ تَرْكُ مُعَاشَرَتِهُمْ وَمُلَاطَفَتِهُمْ وَلَا يَتْرُكُ إِنْذَارَهُمْ وَتَخْوِيفَهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ يَتْرُكَ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَتَيْنِ:
23
الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَتِهِمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمُ الَّذِي كُلِّفُوهُ وَدُعُوا إِلَيْهِ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ لَعِبًا وَلَهْوًا حَيْثُ سَخِرُوا بِهِ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ. الثَّانِي: اتَّخَذُوا مَا هُوَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا دِينًا لَهُمْ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَحْكُمُونَ فِي دِينِ اللَّه بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالتَّمَنِّي، مِثْلَ تَحْرِيمِ السَّوَائِبِ وَالْبَحَائِرِ وَمَا كَانُوا يَحْتَاطُونَ فِي أَمْرِ الدِّينِ الْبَتَّةَ، وَيَكْتَفُونَ فِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ فَعَبَّرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا. وَالرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ جَعَلَ اللَّه لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا يُعَظِّمُونَهُ وَيُصَلُّونَ فِيهِ وَيُعَمِّرُونَهُ بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ اتَّخَذُوا عِيدَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمُ اتَّخَذُوا عِيدَهُمْ كَمَا شَرَعَهُ اللَّه تَعَالَى. وَالْخَامِسُ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ، أَنَّ الْمُحَقِّقَ فِي الدِّينِ هُوَ الَّذِي يَنْصُرُ الدِّينَ لِأَجْلِ أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَصَوَابٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُ لِيَتَوَسَّلُوا بِهِ إِلَى أَخْذِ الْمَنَاصِبِ وَالرِّيَاسَةِ وَغَلَبَةِ الْخَصْمِ وَجَمْعِ الْأَمْوَالِ فَهُمْ نَصَرُوا الدِّينَ لِلدُّنْيَا، وَقَدْ حَكَمَ اللَّه عَلَى الدُّنْيَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ بِأَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ. فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ يَتَوَسَّلُ بِدِينِهِ إِلَى دُنْيَاهُ. وَإِذَا تَأَمَّلْتَ فِي حَالِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ وَجَدْتَهُمْ مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَدَاخِلِينَ تَحْتَ هَذِهِ الْحَالَةِ. واللَّه أَعْلَمُ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَهَذَا يُؤَكِّدُ الْوَجْهَ الْخَامِسَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إِنَّمَا اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا لِأَجْلِ أَنَّهُمْ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا. فَلِأَجْلِ اسْتِيلَاءِ حُبِّ الدُّنْيَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَعْرَضُوا عَنْ حَقِيقَةِ الدِّينِ وَاقْتَصَرُوا عَلَى تَزْيِينِ الظَّوَاهِرِ لِيَتَوَسَّلُوا بِهَا إِلَى حُطَامِ الدُّنْيَا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَقَوْلُهُ: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً مَعْنَاهُ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَلَا تُبَالِ بِتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ وَلَا تُقِمْ لَهُمْ فِي نَظَرِكَ وَزْنًا وَذَكِّرْ بِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: بِهِ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟
قِيلَ: وَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ وَقِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً/ وَالْمُرَادُ الدِّينُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَدَيَّنُوا بِهِ وَيَعْتَقِدُوا صِحَّتَهُ. فَقَوْلُهُ: وَذَكِّرْ بِهِ أَيْ بِذَلِكَ الدِّينِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورِ. وَالدِّينُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِ، فَوَجَبَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ. أَمَّا قَوْلُهُ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَصْلُ الْإِبْسَالِ الْمَنْعُ وَمِنْهُ، هَذَا عَلَيْكَ بَسْلٌ أَيْ حَرَامٌ مَحْظُورٌ، وَالْبَاسِلُ الشُّجَاعُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ خَصْمِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْبُسُورِ، يُقَالُ بَسَرَ الرَّجُلُ إِذَا اشْتَدَّ عُبُوسُهُ، وَإِذَا زَادَ قَالُوا بَسَلَ، وَالْعَابِسُ مُنْقَبِضُ الْوَجْهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ أَيْ تُرْتَهَنُ فِي جَهَنَّمَ بِمَا كَسَبَتْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: تُسَلَّمُ لِلْمَهْلَكَةِ أَيْ تُمْنَعُ عَنْ مُرَادِهَا وَتُخْذَلُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تُحْبَسُ فِي جَهَنَّمَ، وَعَنِ ابْنِ عباس تُبْسَلَ تفضح وأُبْسِلُوا فُضِحُوا، وَمَعْنَى الْآيَةِ وَذَكِّرْهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَمُقْتَضَى الدِّينِ مَخَافَةَ احْتِبَاسِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ بِسَبَبِ جِنَايَاتِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَخَافُونَ فَيَتَّقُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَيْسَ لَها أَيْ لَيْسَ لِلنَّفْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها أي وإن تفذ كُلَّ فِدَاءٍ، وَالْعَدْلُ الْفِدْيَةُ لَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ الْعَدْلُ وَتِلْكَ الْفِدْيَةُ مِنْهَا. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَاعِلُ يُؤْخَذُ لَيْسَ هُوَ قَوْلَهُ: عَدْلٍ لِأَنَّ العدل هاهنا مَصْدَرٌ، فَلَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْأَخْذُ. وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ فَبِمَعْنَى الْمُفْدَى بِهِ، فَصَحَّ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ. فَنَقُولُ:
الْأَخْذُ بِمَعْنَى القبول وارد. قال تعالى: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أَيْ يَقْبَلُهَا. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَيُحْمَلُ الْأَخْذُ هاهنا عَلَى الْقَبُولِ، وَيَزُولُ السُّؤَالُ. واللَّه أَعْلَمُ.
24
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: بَيَانُ أَنَّ وُجُوهَ الْخَلَاصِ عَلَى تِلْكَ النَّفْسِ مُنْسَدَّةٌ، فَلَا وَلِيَّ يَتَوَلَّى دَفْعَ ذَلِكَ الْمَحْذُورِ، وَلَا شَفِيعَ يَشْفَعُ فِيهَا، وَلَا فِدْيَةَ تُقْبَلُ لِيَحْصُلَ الْخَلَاصُ بِسَبَبِ قَبُولِهَا حَتَّى لَوْ جُعِلَتِ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا فَدِيَةً مِنْ عَذَابِ اللَّه لَمْ تَنْفَعْ. فَإِذَا كَانَتْ وُجُوهُ الْخَلَاصِ هِيَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِي الدُّنْيَا، وَثَبَتَ أَنَّهَا لَا تُفِيدُ فِي الْآخِرَةِ الْبَتَّةَ، وَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا الْإِبْسَالُ الَّذِي هُوَ الِارْتِهَانُ وَالِانْغِلَاقُ وَالِاسْتِسْلَامُ، فَلَيْسَ لَهَا الْبَتَّةَ دَافِعٌ مِنْ عَذَابِ اللَّه تَعَالَى، وَإِذَا تَصَوَّرَ الْمَرْءُ كَيْفِيَّةَ الْعِقَابِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكَادُ يُرْعِدُ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى مَعَاصِي اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مَا بِهِ صَارُوا مُرْتَهَنِينَ وَعَلَيْهِ مَحْبُوسِينَ، فَقَالَ لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ وَذَلِكَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي صِفَةِ الْإِيلَامِ. واللَّه أَعْلَمُ.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢)
[في قوله تعالى قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى قوله إِذْ هَدانَا اللَّهُ] اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَ ذَلِكَ: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فقال: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ أَنَعْبُدُ مَنْ دُونِ اللَّه النَّافِعِ الضَّارِّ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعِنَا وَلَا عَلَى ضُرِّنَا، وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا رَاجِعِينَ إِلَى الشِّرْكِ بَعْدَ أَنْ أَنَقْذَنَا اللَّه مِنْهُ وَهَدَانَا لِلْإِسْلَامِ؟
وَيُقَالُ لِكُلِّ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ إِنَّهُ رَجَعَ إِلَى خَلْفٍ، وَرَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ هُوَ الْجَهْلُ، ثُمَّ إِذَا تَرَقَّى وَتَكَامَلَ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ. قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ [النَّحْلِ: ٧٨] فَإِذَا رَجَعَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَى الْجَهْلِ مَرَّةً أُخْرَى فَكَأَنَّهُ رَجَعَ إِلَى أَوَّلِ مَرَّةٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ يُقَالُ: فُلَانٌ رُدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ [إلى قوله إِلَى الْهُدَى ائْتِنا] فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذَا الْإِنْسَانَ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ اسْتَهْوَاهُ بِأَلِفٍ مُمَالَةٍ عَلَى التَّذْكِيرِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ يَصْلُحُ أَنْ يُذَكَّرَ عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ، وَيَصْلُحُ أَنْ يُؤَنَّثَ عَلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِ اسْتَهْوَتْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْهُوِيِّ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ النُّزُولُ مِنَ الْمَوْضِعِ الْعَالِي إِلَى الْوَهْدَةِ السَّافِلَةِ الْعَمِيقَةِ فِي قَعْرِ الْأَرْضِ، فَشَبَّهَ اللَّه تَعَالَى حَالَ هَذَا الضَّالِّ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ [الْحَجِّ: ٣١] وَلَا شَكَّ أَنَّ حَالَ هَذَا الْإِنْسَانِ عِنْدَ هُوِيِّهِ مِنَ الْمَكَانِ الْعَالِي إِلَى الْوَهْدَةِ الْعَمِيقَةِ الْمُظْلِمَةِ يَكُونُ فِي غَايَةِ الِاضْطِرَابِ وَالضَّعْفِ وَالدَّهْشَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْمَيْلِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ رُبَّمَا بَلَغَ/ النِّهَايَةَ فِي الْحَيْرَةِ،
25
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَكْمَلُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الدَّهْشَةِ وَالضَّعْفِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: حَيْرانَ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ حَارَ يَحَارُ حَيْرَةً وَحَيَرًا، وَزَادَ الْفَرَّاءُ حَيَرَانًا وَحَيْرُورَةً، وَمَعْنَى الْحَيْرَةِ هِيَ التَّرَدُّدُ فِي الْأَمْرِ بِحَيْثُ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَخْرَجِهِ. وَمِنْهُ يُقَالُ: الْمَاءُ يَتَحَيَّرُ فِي الْغَيْمِ أَيْ يَتَرَدَّدُ، وَتَحَيَّرَتِ الرَّوْضَةُ بِالْمَاءِ إِذَا امْتَلَأَتْ فَتَرَدَّدَ فِيهَا الْمَاءُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَثَلَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يَهْوِي مِنَ الْمَكَانِ الْعَالِي إِلَى الْوَهْدَةِ الْعَمِيقَةِ يَهْوِي إِلَيْهَا مَعَ الِاسْتِدَارَةِ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْحَجَرَ حَالَ نُزُولِهِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ يَنْزِلُ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَمَالَ التَّرَدُّدِ، وَالتَّحَيُّرِ، وَأَيْضًا فَعِنْدَ نُزُولِهِ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى مَوْضِعٍ يَزْدَادُ بَلَاؤُهُ بِسَبَبِ سُقُوطِهِ عَلَيْهِ أَوْ يَقِلُّ، فَإِذَا اعْتَبَرْتَ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلِمْتَ أَنَّكَ لَا تَجِدُ مِثَالًا لِلْمُتَحَيِّرِ الْمُتَرَدِّدِ الْخَائِفِ أَحْسَنَ وَلَا أَكْمَلَ مِنْ هَذَا الْمِثَالِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قَالُوا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَدْعُو أَبَاهُ إِلَى الْكُفْرِ وَأَبُوهُ كَانَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يَرْجِعَ مِنْ طَرِيقِ الْجَهَالَةِ إِلَى الْهِدَايَةِ وَمِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ لِذَلِكَ الْكَافِرِ الضَّالِّ أَصْحَابًا يَدْعُونَهُ إِلَى ذَلِكَ الضَّلَالِ وَيُسَمُّونَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الْهُدَى وَهَذَا بِعِيدٌ. وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى يَعْنِي هُوَ الْهُدَى الْكَامِلُ النَّافِعُ الشَّرِيفُ كَمَا إِذَا قُلْتَ عِلْمُ زَيْدٍ هُوَ الْعِلْمُ وَمُلْكُ عَمْرٍو هُوَ الْمُلْكُ كَانَ مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْرِيرِ أَمْرِ الْكَمَالِ وَالشَّرَفِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [إلى قوله إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى دَخَلَ فِيهِ جَمِيعُ أَقْسَامِ الْمَأْمُورَاتِ وَالِاحْتِرَازُ عَنْ كُلِّ الْمَنْهِيَّاتِ، وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ كُلَّ مَا تَعَلَّقَ أَمْرُ اللَّه بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَرَئِيسُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الْإِيمَانُ باللَّه وَالْإِسْلَامُ لَهُ، وَرَئِيسُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الصَّلَاةُ، وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ فَهُوَ التَّقْوَى وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاتِّقَاءِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي، واللَّه سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّ الْهُدَى النَّافِعَ هُوَ هُدَى اللَّه، أَرْدَفَ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْكُلِّيَّ بِذِكْرِ أَشْرَفِ أَقْسَامِهِ عَلَى التَّرْتِيبِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ رَئِيسُ الطَّاعَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَالصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ رَئِيسَةُ الطَّاعَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ رَئِيسَةٌ لِبَابِ التُّرُوكِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي، ثُمَّ بَيَّنَ مَنَافِعَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يَعْنِي أَنَّ مَنَافِعَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي يَوْمِ الْحَشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ حَسُنَ عَطْفُ قَوْلِهِ: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ عَلَى قَوْلِهِ: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ؟
قُلْنَا: ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِيهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ، وَأُمِرْنَا فَقِيلَ لَنَا أَسْلِمُوا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ.
فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْتُمْ، لَكِنْ مَا الْحِكْمَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ هَذَا اللَّفْظِ الظَّاهِرِ وَالتَّرْكِيبِ الْمُوَافِقِ لِلْعَقْلِ إِلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي لَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ إِلَى مَعْنَاهُ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ؟
قُلْنَا: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ مَا دَامَ يُبْقِي عَلَى كُفْرِهِ، كَانَ كَالْغَائِبِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا جَرَمَ يُخَاطَبُ بِخِطَابِ الْغَائِبِينَ،
26
فَيُقَالُ لَهُ: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَإِذَا أَسْلَمَ وَآمَنَ وَدَخَلَ فِي الْإِيمَانِ صَارَ كَالْقَرِيبِ الْحَاضِرِ، فَلَا جَرَمَ يُخَاطَبُ بِخِطَابِ الْحَاضِرِينَ، وَيُقَالُ لَهُ: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْخِطَابِ التَّنْبِيهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَتَيِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكَافِرَ بَعِيدٌ غَائِبٌ والمؤمن قريب حاضر. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٣]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)
[المسألة الأولى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّه وحده] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَاتِ المتقدمة فساد طريقة عبدة الأصنام، ذكر هاهنا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّه وَحْدَهُ وَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَكَرَ فِيهَا أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الدَّلَائِلِ. أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَمَّا كَوْنُهُ خالقا للسموات والأرض، فقد شرحنا فِي قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَمَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمَا بِالْحَقِّ فَهُوَ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آلِ عِمْرَانَ: ١٩١] وَقَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٦] مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدُّخَانِ: ٣٩] وَفِيهِ قَوْلَانِ.
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكٌ لِجَمِيعِ الْمُحْدَثَاتِ مَالِكٌ لِكُلِّ الكائنات وتصرف للمالك فِي مُلْكِهِ حَسَنٌ وَصَوَابٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَكَانَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ حَسَنًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَحَقًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ حَقًّا أَنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى وَفْقِ مَصَالِحِ الْمُكَلَّفِينَ مُطَابِقٌ لِمَنَافِعِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ خَلَقَ الْمُكَلَّفَ أَوَّلًا حتى يمكنه الانتفاع بخلق السموات وَالْأَرْضِ، وَلِحُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ يُقَالُ: أَوْدَعَ فِي هَذِهِ الْأَجْرَامِ الْعَظِيمَةِ قُوًى وَخَوَاصَّ يَصْدُرُ بِسَبَبِهَا عَنْهَا آثَارٌ وَحَرَكَاتٌ مُطَابَقَةٌ لِمَصَالِحِ هَذَا الْعَالَمِ وَمَنَافِعِهِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ وَهُوَ الذي خلق السموات وَالْأَرْضِ وَخَلَقَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِلدُّنْيَا وَلِكُلِّ مَا فِيهَا مِنَ الْأَفْلَاكِ وَالطَّبَائِعِ وَالْعَنَاصِرِ وَالْخَالِقِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ وَلِرَدِّ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ عَلَى سَبِيلِ كُنْ فَيَكُونُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ نقول قوله: الْحَقُّ مبتدأ ويَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ظَرْفٌ دَالٌّ عَلَى الخبر، والتقدير قوله: الْحَقُّ واقع يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ كَقَوْلِكَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ الْقِتَالُ، وَمَعْنَاهُ الْقِتَالُ وَاقِعٌ يَوْمَ الْجُمْعَةِ. وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ قَوْلِهِ حَقًّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ وَالصِّدْقِ، لِأَنَّ أَقْضِيَتَهُ مُنَزَّهَةٌ عَنِ الْجَوْرِ وَالْعَبَثِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَقَوْلُهُ: وَلَهُ الْمُلْكُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا مَلِكَ فِي يَوْمِ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ إِلَّا الحق سبحانه وتعالى، فالمراد بالكلام الثاني تقريرا لحكم الْحَقِّ الْمُبَرَّأِ عَنِ الْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْكَلَامِ تَقْرِيرُ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي لَا دَافِعَ لَهَا وَلَا مُعَارِضَ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَوْلُ اللَّه حَقٌّ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَقُدْرَتُهُ كَامِلَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْيَوْمِ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ؟
27
قُلْنَا: لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي لَا يَظْهَرُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ نَفْعٌ وَلَا ضُرٌّ، فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:
وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ هَذَا التَّخْصِيصُ، وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ تَقْدِيرُهُ، وَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْكَامِلِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْبَعْثِ فِي الْقِيَامَةِ إِلَّا وَقَرَّرَ فِيهِ أَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، وَالثَّانِي: كَوْنُهُ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَرَدِّ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْمُطِيعُ بِالْعَاصِي. وَالْمُؤْمِنُ بِالْكَافِرِ، وَالصِّدِّيقُ بِالزِّنْدِيقِ، فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ. أَمَّا إِذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ حُصُولُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ كَمُلَ الْغَرَضُ وَالْمَقْصُودُ، فَقَوْلُهُ: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ/ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَقَوْلُهُ: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْعِلْمِ فَلَا جَرَمَ لَزِمَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ حَقًّا، وَأَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ صِدْقًا، وَأَنْ تَكُونَ قَضَايَاهُ مُبَرَّأَةً عَنِ الْجَوْرِ وَالْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ.
ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ حَكِيمًا أَنْ يَكُونَ مُصِيبًا فِي أَفْعَالِهِ، وَمَنْ كَوْنِهِ خَبِيرًا، كَوْنُهُ عَالِمًا بِحَقَائِقِهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِبَاهٍ وَمِنْ غَيْرِ الْتِبَاسٍ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ خِطَابًا وَأَمْرًا لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ إِنْ كَانَ لِلْمَعْدُومِ فَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَوْجُودِ فَهُوَ أَمْرٌ بِأَنْ يَصِيرَ الْمَوْجُودُ مَوْجُودًا وَهُوَ مُحَالٌ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى نَفَاذِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فِي تَكْوِينِ الْكَائِنَاتِ وَإِيجَادِ الْمَوْجُودَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ يَوْمَ الْحَشْرِ، وَلَا شُبْهَةَ عِنْدَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ خَلَقَ قَرْنًا يَنْفُخُ فِيهِ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَذَلِكَ الْقَرْنُ يُسَمَّى بِالصُّورِ عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالصُّورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ ذَلِكَ الْقَرْنُ الَّذِي يُنْفَخُ فِيهِ وَصِفَتُهُ مَذْكُورَةٌ فِي سَائِرِ السُّوَرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الصُّورَ جَمْعُ صُورَةٍ وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ عِبَارَةٌ عَنِ النَّفْخِ فِي صُوَرِ الْمَوْتَى، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الصُّورُ جَمْعُ صُورَةٍ مِثْلُ صُوفٍ وَصُوفَةٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: أَخْبَرَنِي أَبُو الْفَضْلِ الْعَرُوضِيُّ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ: أَنَّهُ قَالَ ادَّعَى قَوْمٌ أَنَّ الصُّورَ جَمْعُ الصُّورَةِ كَمَا أَنَّ الصُّوفَ جَمْعُ الصُّوفَةِ وَالثُّومَ جَمْعُ الثُّومَةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ، وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غَافِرٍ: ٦٤] وَقَالَ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [يس: ٥١، الزمر: ٦٨] فَمَنْ قَرَأَ وَنُفِخَ فِي الصُّوَرِ، وَقَرَأَ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ فَقَدِ افْتَرَى الْكَذِبَ، وَبَدَّلَ كِتَابَ اللَّه، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ صَاحِبَ أَخْبَارٍ وَغَرَائِبَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالنَّحْوِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: كُلُّ جمع على لفظ الواحد المذكور سَبَقَ جَمْعُهُ وَاحِدَهُ، فَوَاحِدُهُ بِزِيَادَةِ هَاءٍ فِيهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ الصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَالشَّعْرِ وَالْقُطْنِ وَالْعُشْبِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ اسْمٌ لِجَمِيعِ جِنْسِهِ، وَإِذَا أُفْرِدَتْ وَاحِدَتُهُ زِيدَتْ فِيهَا هَاءٌ لِأَنَّ جَمْعَ هَذَا الْبَابِ سَبَقَ وَاحِدَهُ، وَلَوْ أَنَّ الصُّوفَةَ كَانَتْ سَابِقَةً لِلصُّوفِ لَقَالُوا صُوفَةٌ وَصُوَفٌ وَبُسْرَةٌ وَبُسَرٌ كَمَا قَالُوا غُرْفَةٌ وَغُرَفٌ، وَزُلْفَةٌ وَزُلَفٌ، وَأَمَّا الصُّورُ الْقَرْنُ فَهُوَ وَاحِدٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ
28
وَاحِدَتُهُ صُورَةٌ وَإِنَّمَا تُجْمَعُ صُورَةُ الْإِنْسَانِ صُوَرًا لِأَنَّ وَاحِدَتَهُ سَبَقَتْ جَمْعَهُ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قَدْ أَحْسَنَ أَبُو الْهَيْثَمِ فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدِي غَيْرُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَأَقُولُ: وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ/ الْمُرَادُ نَفْخَ الرُّوحِ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ لَأَضَافَ تَعَالَى ذَلِكَ النَّفْخَ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ نَفْخَ الْأَرْوَاحِ فِي الصُّوَرِ يُضِيفُهُ اللَّه إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحِجْرِ: ٢٩] وَقَالَ: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وقال: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ وأما نفخ الصُّورِ بِمَعْنَى النَّفْخِ فِي الْقَرْنِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يُضِيفُهُ لَا إِلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [الْمُدَّثِّرِ: ٨] وَقَالَ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ... ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزُّمَرِ: ٦٨] فَهَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَحْثِ، واللَّه أعلم بالصواب.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٤]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ سبحانه كثيرا يَحْتَجُّ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِأَحْوَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْتَرِفُ بِفَضْلِهِ جَمِيعُ الطَّوَائِفِ وَالْمِلَلِ فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِهِ مُقِرِّينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مُعَظِّمُونَ لَهُ مُعْتَرِفُونَ بِجَلَالَةِ قَدْرِهِ. فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّه حِكَايَةَ حَالِهِ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَنْصِبَ الْعَظِيمَ وَهُوَ اعْتِرَافُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِفَضْلِهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ لَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ كَمَا اتَّفَقَ لِلْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ حَصَلَ بَيْنَ الرَّبِّ وبين العبد معاهدة. كما قال: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: ٤٠] فَإِبْرَاهِيمُ وَفَّى بِعَهْدِ الْعُبُودِيَّةِ، واللَّه تَعَالَى شَهِدَ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ تَارَةً وَعَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ أُخْرَى. أَمَّا الْإِجْمَالُ فَفِي آيَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا قَوْلُهُ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] وَهَذَا شَهَادَةٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ تَمَّمَ عَهْدَ الْعُبُودِيَّةِ. وَالثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْبَقَرَةِ: ١٣١] وَأَمَّا التَّفْصِيلُ: فَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَاظِرٌ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الْقَوْلِ بِالشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ فِي مَقَامَاتٍ كَثِيرَةٍ.
فَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فِي هَذَا الْبَابِ مُنَاظَرَاتُهُ مَعَ أَبِيهِ حَيْثُ قال له: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
[مَرْيَمَ: ٤٢].
وَالْمَقَامُ الثَّانِي: مُنَاظَرَتُهُ مَعَ قَوْمِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الْأَنْعَامِ: ٧٦].
وَالْمَقَامُ الثَّالِثُ: مُنَاظَرَتُهُ مَعَ مَلِكِ زَمَانِهِ، فَقَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: ٢٥٨].
والمقام الرابع: مناظرته مع الكفارة بِالْفِعْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ [الْأَنْبِيَاءِ:
٥٨] ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ قَالُوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: ٦٨] ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بَذَلَ وَلَدَهُ فَقَالَ: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصَّافَّاتِ: ١٠٢] فَعِنْدَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنَ الْفِتْيَانِ، لِأَنَّهُ سَلَّمَ قَلْبَهُ لِلْعِرْفَانِ وَلِسَانَهُ لِلْبُرْهَانِ وَبَدَنَهُ لِلنِّيرَانِ وَوَلَدَهُ لِلْقُرْبَانِ وَمَالَهُ لِلضِّيفَانِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ فَقَالَ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٨٤] فَوَجَبَ فِي كَرَمِ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ يُجِيبُ دُعَاءَهُ وَيُحَقِّقُ مَطْلُوبَهُ فِي هَذَا السُّؤَالِ، فَلَا جَرَمَ أَجَابَ دُعَاءَهُ، وَقَبِلَ نِدَاءَهُ وَجَعْلَهُ مَقْبُولًا لِجَمِيعِ الْفِرَقِ وَالطَّوَائِفِ
29
إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَرَبُ مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِهِ لَا جَرَمَ جَعَلَ اللَّه تَعَالَى مُنَاظَرَتَهُ مَعَ قَوْمِهِ حُجَّةً عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ أَحَدٌ يُثْبِتُ للَّه تَعَالَى شَرِيكًا يُسَاوِيهِ فِي الْوُجُوبِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، لَكِنِ الثَّنَوِيَّةُ يُثْبِتُونَ إِلَهَيْنِ، أَحَدُهُمَا حَكِيمٌ يَفْعَلُ الْخَيْرَ، وَالثَّانِي سَفِيهٌ يَفْعَلُ الشَّرَّ، وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه. فَفِي الذَّاهِبِينَ إِلَيْهِ كَثْرَةٌ. فَمِنْهُمْ عَبَدَةُ الْكَوَاكِبِ، وَهُمْ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ، وَفَوَّضَ تَدْبِيرَ هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ إِلَيْهَا، فَهَذِهِ الْكَوَاكِبُ، هِيَ الْمُدَبِّرَاتُ لِهَذَا الْعَالَمِ، قَالُوا: فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْبُدَ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ تَعْبُدُ اللَّه وتطبعه، وَمِنْهُمْ قَوْمٌ غُلَاةٌ يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ، وَيَقُولُونَ هَذِهِ الْأَفْلَاكُ وَالْكَوَاكِبُ أَجْسَامٌ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهَا الْعَدَمُ وَالْفَنَاءُ، وَهِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِأَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الدَّهْرِيَّةُ الْخَالِصَةُ، وَمِمَّنْ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّه النَّصَارَى الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ وَمِنْهُمْ أَيْضًا عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هُنَا بَحْثًا لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا دِينَ أَقْدَمَ مِنْ دِينِ عَبْدَةِ الْأَصْنَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَقْدَمَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ وَصَلَ إِلَيْنَا تَوَارِيخُهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ هُوَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ إِنَّمَا جَاءَ بِالرَّدِّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِهِ أنهم قالوا: لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نُوحٍ: ٢٣] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِينَ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ بَقِيَ ذَلِكَ الدِّينُ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ فَإِنَّ أَكْثَرَ سُكَّانِ أَطْرَافِ الْأَرْضِ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى هَذَا الدِّينِ وَالْمَذْهَبُ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْبُطْلَانِ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ هَذَا الْحَجَرَ الْمَنْحُوتَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي خَلَقَنِي وَخَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ يَمْتَنِعُ إِطْبَاقُ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ عَلَى إِنْكَارِهِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ دِينُ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ كَوْنَ الصَّنَمِ/ خَالِقًا لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِيهِ تَأْوِيلٌ، وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا كَثِيرَةً وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْبَحْثَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نعيده هاهنا تَكْثِيرًا لِلْفَوَائِدِ.
فَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنَّ النَّاسَ رَأَوْا تَغَيُّرَاتِ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ مَرْبُوطَةً بِتَغَيُّرَاتِ أَحْوَالِ الْكَوَاكِبِ، فَإِنَّ بِحَسَبِ قُرْبِ الشَّمْسِ وَبُعْدِهَا مِنْ سَمْتِ الرَّأْسِ تَحْدُثُ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ، وَبِسَبَبِ حُدُوثِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ تَحَدُثُ الْأَحْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ تَرَصَّدُوا أَحْوَالَ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ فَاعْتَقَدُوا ارْتِبَاطَ السَّعَادَاتِ وَالنُّحُوسَاتِ بِكَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا فِي طَوَالِعِ النَّاسِ عَلَى أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلَمَّا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ غَلَبَ عَلَى ظُنُونِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ أَنَّ مَبْدَأَ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ هُوَ الِاتِّصَالَاتُ الْفَلَكِيَّةُ وَالْمُنَاسَبَاتُ الْكَوْكَبِيَّةُ فَلَمَّا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ بَالَغُوا فِي تَعْظِيمِهَا ثُمَّ مِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا وَاجِبَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ حُدُوثَهَا وَكَوْنَهَا مَخْلُوقَةً لِلْإِلَهِ الْأَكْبَرِ، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً لِلْإِلَهِ الْأَكْبَرِ، إِلَّا أَنَّهَا هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِأَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْوَسَائِطَ بَيْنَ الْإِلَهِ الْأَكْبَرِ، وَبَيْنَ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالْقَوْمُ اشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهَا وَتَعْظِيمِهَا ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ قَدْ تَغِيبُ عَنِ الْأَبْصَارِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ اتَّخَذُوا لِكُلِّ كَوْكَبٍ صَنَمًا مِنَ الْجَوْهَرِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ وَاتَّخَذُوا صَنَمَ الشَّمْسِ مِنَ الذَّهَبِ وَزَيَّنُوهُ بِالْأَحْجَارِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الشَّمْسِ وَهِيَ الْيَاقُوتُ وَالْأَلْمَاسُ وَاتَّخَذُوا صَنَمَ الْقَمَرِ مِنَ الْفِضَّةِ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ ثُمَّ أَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ وَغَرَضُهُمْ مِنْ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ هُوَ عِبَادَةُ تِلْكَ الْكَوَاكِبِ وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهَا وَعِنْدَ هَذَا الْبَحْثِ يَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ
30
عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ هُوَ عِبَادَةُ الْكَوَاكِبِ. وَأَمَّا الأنبياء صلوات اللَّه عليهم فلهم هاهنا مَقَامَانِ: أَحَدُهُمَا: إِقَامَةُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا الْبَتَّةَ فِي أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: ٥٤] بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ فِي الْكَوَاكِبِ أَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِتَقْدِيرِ أَنَّهَا تَفْعَلُ شَيْئًا وَيَصْدُرُ عَنْهَا تَأْثِيرَاتٌ فِي هَذَا الْعَالَمِ إِلَّا أَنَّ دَلَائِلَ الْحُدُوثِ حَاصِلَةٌ فِيهَا فَوَجَبَ كَوْنُهَا مَخْلُوقَةً وَالِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ الْفَرْعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حَاصِلَ دِينِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً؟ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فَأَفْتَى بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ جَهْلٌ، ثُمَّ لَمَّا اشْتَغَلَ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الْكَوَاكِبَ وَالْقَمَرَ وَالشَّمْسَ لَا يَصْلُحُ شَيْءٌ مِنْهَا لِلْإِلَهِيَّةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِينَ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ حَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ بِإِلَهِيَّةِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ وَإِلَّا لَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَنَافِيَةً مُتَنَافِرَةً. وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى إِبْطَالِ الْقَوْلِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ إِلَّا بِإِبْطَالِ كَوْنِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ/ وَسَائِرِ الْكَوَاكِبِ آلِهَةً لِهَذَا الْعَالَمِ مُدَبِّرَةً لَهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي شَرْحِ حَقِيقَةِ مَذْهَبِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مَعْشَرٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُنَجِّمُ الْبَلْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فَقَالَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الصِّينِ وَالْهِنْدِ كَانُوا يُثْبِتُونَ الْإِلَهَ وَالْمَلَائِكَةَ إِلَّا أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ تَعَالَى جِسْمٌ وَذُو صُورَةٍ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الصُّوَرِ وَلِلْمَلَائِكَةِ أَيْضًا صُوَرٌ حَسَنَةٌ إِلَّا أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُحْتَجِبُونَ عنا بالسموات، فَلَا جَرَمَ اتَّخَذُوا صُوَرًا وَتَمَاثِيلَ أَنِيقَةَ الْمَنْظَرِ حَسَنَةَ الرُّؤْيَا وَالْهَيْكَلِ فَيَتَّخِذُونَ صُورَةً فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَيَقُولُونَ إِنَّهَا هَيْكَلُ الْإِلَهِ، وَصُورَةً أُخْرَى دُونَ الصُّورَةِ الْأَوْلَى وَيَجْعَلُونَهَا عَلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ يُوَاظِبُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا قَاصِدِينَ بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ طَلَبَ الزُّلْفَى مِنَ اللَّه تَعَالَى وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مَعْشَرٍ فَالسَّبَبُ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى جِسْمٌ وَفِي مَكَانٍ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْقَوْمَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى فَوَّضَ تَدْبِيرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَقَالِيمِ إِلَى مَلَكٍ بِعَيْنِهِ. وَفَوَّضَ تَدْبِيرَ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ مُلْكِ الْعَالَمِ إِلَى رُوحٍ سَمَاوِيٍّ بِعَيْنِهِ فَيَقُولُونَ مُدَبِّرُ الْبِحَارِ مَلَكٌ، وَمُدَبِّرُ الْجِبَالِ مَلَكٌ آخَرُ، وَمُدَبِّرُ الْغُيُومِ وَالْأَمْطَارِ مَلَكٌ، وَمُدَبِّرُ الْأَرْزَاقِ مَلَكٌ، وَمُدَبِّرُ الْحُرُوبِ وَالْمُقَاتِلَاتِ مَلَكٌ آخَرُ فَلَمَّا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ اتَّخَذُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ صَنَمًا مَخْصُوصًا وَهَيْكَلًا مَخْصُوصًا وَيَطْلُبُونَ مِنْ كُلِّ صَنَمٍ مَا يَلِيقُ بِذَلِكَ الرُّوحِ الْفَلَكِيِّ مِنَ الْآثَارِ وَالتَّدْبِيرَاتِ، وَلِلْقَوْمِ تَأْوِيلَاتٌ أُخْرَى سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ذَكَرْنَاهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ولنكتف هاهنا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْبَيَانِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ وَالِدِ إِبْرَاهِيمَ هُوَ آزَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ اسْمُهُ تَارَحُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّسَّابِينَ أَنَّ اسْمَهُ تَارَحُ، وَمِنَ الْمُلْحِدَةِ مَنْ جَعَلَ هَذَا طَعْنًا فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ هذا النسب خطأ وليس بصواب، وللعلماء هاهنا مَقَامَانِ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنَّ اسْمَ وَالِدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ آزَرُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَجْمَعَ النَّسَّابُونَ عَلَى أَنَّ اسْمَهُ كَانَ تَارَحَ. فَنَقُولُ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا حَصَلَ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَلِّدُ بَعْضًا، وَبِالْآخِرَةِ يَرْجِعُ ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ إِلَى قَوْلِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ مِثْلُ قَوْلِ وَهْبٍ وَكَعْبٍ وَغَيْرِهِمَا، وَرُبَّمَا تَعَلَّقُوا بِمَا يَجِدُونَهُ مِنْ أَخْبَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا عِبْرَةَ بِذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ صَرِيحِ الْقُرْآنِ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا أن اسمه كان تارح ثم لنا هاهنا وجوه:
31
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: لَعَلَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مُسَمًّى بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اسْمَهُ الْأَصْلِيَّ كَانَ آزَرَ وَجُعِلَ تَارَحُ لَقَبًا لَهُ، فَاشْتَهَرَ هَذَا اللَّقَبُ وَخَفِيَ الِاسْمُ. فاللَّه تَعَالَى ذَكَرَهُ بِالِاسْمِ، / وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَكْسِ، وَهُوَ أَنَّ تَارَحَ كَانَ اسْمًا أَصْلِيًّا وَآزَرَ كَانَ لَقَبًا غَالِبًا. فَذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِهَذَا اللَّقَبِ الْغَالِبِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَفْظَةُ آزَرَ صفة مخصوصة في لغتم، فَقِيلَ إِنَّ آزَرَ اسْمُ ذَمٍّ فِي لُغَتِهِمْ وَهُوَ الْمُخْطِئُ كَأَنَّهُ قِيلَ، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ الْمُخْطِئِ كَأَنَّهُ عَابَهُ بِزَيْغِهِ وَكُفْرِهِ وَانْحِرَافِهِ عَنِ الْحَقِّ، وَقِيلَ آزَرُ هُوَ الشَّيْخُ الْهَرِمُ بِالْخُوَارَزْمِيَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا فَارِسِيَّةٌ أَصْلِيَّةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِنَّمَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى أَلْفَاظٍ قَلِيلَةٍ مِنْ غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ آزَرَ كَانَ اسْمَ صَنَمٍ يَعْبُدُهُ وَالِدُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّه بِهَذَا الِاسْمِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
أَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ مُخْتَصًّا بِعِبَادَتِهِ وَمَنْ بَالَغَ فِي مَحَبَّةِ أَحَدٍ فَقَدْ يَجْعَلُ اسْمَ الْمَحْبُوبِ اسْمًا لِلْمُحِبِّ. قَالَ اللَّه تَعَالَى:
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الْإِسْرَاءِ: ٧١] وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَابِدَ آزَرَ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ تَارَحَ وَآزَرُ كَانَ عَمًّا لَهُ، وَالْعَمُّ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَبِ، كَمَا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ أَنَّهُمْ قَالُوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [الْبَقَرَةِ:
١٣٣] وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَ عَمًّا لِيَعْقُوبَ. وَقَدْ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَفْظَ الأب فكذا هاهنا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ إِنَّمَا يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا لَوْ دَلَّ دَلِيلٌ بَاهِرٌ عَلَى أَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ مَا كَانَ اسْمُهُ آزَرَ وَهَذَا الدَّلِيلُ لَمْ يُوجَدِ الْبَتَّةَ، فَأَيُّ حَاجَةٍ تَحْمِلُنَا عَلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ، وَالدَّلِيلُ الْقَوِيُّ عَلَى صِحَّةِ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ كَانُوا فِي غَايَةِ الْحِرْصِ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِظْهَارِ بُغْضِهِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا النَّسَبُ كَذِبًا لَامْتَنَعَ فِي الْعَادَةِ سُكُوتُهُمْ عَنْ تَكْذِيبِهِ وَحَيْثُ لَمْ يُكَذِّبُوهُ عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا النَّسَبَ صَحِيحٌ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الشِّيعَةُ: إِنَّ أَحَدًا مِنْ آبَاءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَجْدَادِهِ مَا كَانَ كَافِرًا وَأَنْكَرُوا أَنْ يُقَالَ إِنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ كَافِرًا وَذَكَرُوا أَنَّ آزَرَ كَانَ عَمَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمَا كَانَ وَالِدًا لَهُ وَاحْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ آبَاءَ الْأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا كُفَّارًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ
[الشُّعَرَاءِ: ٢١٨، ٢١٩].
قِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّهُ كَانَ يَنْقُلُ رُوحَهُ مِنْ سَاجِدٍ إِلَى سَاجِدٍ وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ: فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ آبَاءِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا مُسْلِمِينَ. وَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُسْلِمًا.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أُخَرَ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ لَمَّا نُسِخَ فَرْضُ/ قِيَامِ اللَّيْلِ طَافَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى بُيُوتِ الصَّحَابَةِ لِيَنْظُرَ مَاذَا يَصْنَعُونَ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ مِنَ الطَّاعَاتِ فَوَجَدَهَا كَبُيُوتِ الزَّنَابِيرِ لِكَثْرَةِ مَا سَمِعَ مِنْ أَصْوَاتِ قِرَاءَتِهِمْ وَتَسْبِيحِهِمْ وَتَهْلِيلِهِمْ. فالمراد من قوله:
32
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ طَوَافُهُ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى السَّاجِدِينَ. وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ فَتَقَلُّبُهُ فِي السَّاجِدِينَ مَعْنَاهُ: كَوْنُهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَمُخْتَلِطًا بِهِمْ حَالَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَا يَخْفَى حَالُكَ عَلَى اللَّه كُلَّمَا قُمْتَ وَتَقَلَّبْتَ مَعَ السَّاجِدِينَ فِي الِاشْتِغَالِ بِأُمُورِ الدِّينِ.
وَرَابِعُهَا: الْمُرَادُ تَقَلُّبُ بَصَرِهِ فِيمَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي»
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِمَّا يَحْتَمِلُهَا ظَاهِرُ الْآيَةِ، فَسَقَطَ مَا ذَكَرْتُمْ.
وَالْجَوَابُ: لَفْظُ الْآيَةِ مُحْتَمِلٌ لِلْكُلِّ، فَلَيْسَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْبَاقِي. فَوَجَبَ أَنْ نَحْمِلَهَا عَلَى الْكُلِّ وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ آبَاءِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَمْ أَزَلْ أُنْقَلُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ»
وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: ٢٨] وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَحَدًا مِنْ أَجْدَادِهِ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مُشْرِكًا، وَثَبَتَ أَنَّ آزَرَ كَانَ مُشْرِكًا.
فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ إِنْسَانًا آخَرَ غَيْرَ آزَرَ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: عَلَى أَنَّ آزَرَ مَا كَانَ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَافَهَ آزَرَ بِالْغِلْظَةِ وَالْجَفَاءِ. وَمُشَافَهَةُ الْأَبِ بِالْجَفَاءِ لَا تَجُوزُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آزَرَ مَا كَانَ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ شَافَهَ آزَرَ بِالْغِلْظَةِ وَالْجَفَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قُرِئَ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ بِضَمِّ آزَرَ وَهَذَا يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى النِّدَاءِ وَنِدَاءُ الْأَبِ بِالِاسْمِ الْأَصْلِيِّ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْجَفَاءِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ لَآزَرَ: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْجَفَاءِ وَالْإِيذَاءِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَافَهَ آزَرَ بِالْجَفَاءِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ مُشَافَهَةَ الْأَبِ بِالْجَفَاءِ لَا تَجُوزُ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الْإِسْرَاءِ: ٢٣] وَهَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ الْأَبِ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، قَالَ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما [الإسراء: ٢٣] وهذا أيضا عام. والثاني: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى فِرْعَوْنَ أَمَرَهُ بِالرِّفْقِ مَعَهُ فَقَالَ فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: ٤٤] وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ رِعَايَةً لِحَقِّ تَرْبِيَةِ فِرْعَوْنَ. فَهَهُنَا الْوَالِدُ أَوْلَى بِالرِّفْقِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الدَّعْوَةَ مَعَ الرِّفْقِ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا فِي الْقَلْبِ، أَمَّا التَّغْلِيظُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ/ التَّنْفِيرَ وَالْبُعْدَ عَنِ الْقَبُولِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْلِ: ١٢٥] فَكَيْفَ يَلِيقُ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلُ هَذِهِ الْخُشُونَةِ مَعَ أَبِيهِ فِي الدَّعْوَةِ؟ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحِلْمَ، فَقَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ [هُودٍ: ٧٥] وَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّجُلِ الْحَلِيمِ مِثْلُ هَذَا الْجَفَاءِ مَعَ الْأَبِ؟ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ آزَرَ مَا كَانَ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلْ كَانَ عَمًّا لَهُ، فَأَمَّا وَالِدُهُ فَهُوَ تَارَحُ وَالْعَمُّ قَدْ يُسَمَّى بِالْأَبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَوْلَادَ يَعْقُوبَ سَمَّوْا إِسْمَاعِيلَ بِكَوْنِهِ أَبًا لِيَعْقُوبَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَمًّا لَهُ.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رُدُّوا عَلَيَّ أَبِي»
يَعْنِي الْعَمَّ الْعَبَّاسَ وَأَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنَّ آزَرَ كَانَ وَالِدَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَذَا قَدْ يُقَالُ لَهُ الْأَبُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ إِلَى قَوْلِهِ:
وَعِيسى [الْأَنْعَامِ: ٨٤، ٨٥] فَجَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ جَدًّا لِعِيسَى مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ وَالِدَ رَسُولِ اللَّه كَانَ كَافِرًا وَذَكَرُوا أَنَّ نَصَّ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ آزَرَ كَانَ كَافِرًا وَكَانَ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التَّوْبَةِ: ١١٤] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قولنا، وأما قوله وَتَقَلُّبَكَ فِي
33
السَّاجِدِينَ
قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَحْتَمِلُ سَائِرَ الْوُجُوهِ قَوْلُهُ تُحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْكُلِّ، قُلْنَا هَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ لَا يَجُوزُ، وَأَيْضًا حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَمْ أَزَلْ أُنْقَلُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ»
فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَا وَقَعَ فِي نَسَبِهِ مَا كَانَ سِفَاحًا، أَمَّا قَوْلُهُ التَّغْلِيظُ مَعَ الْأَبِ لَا يَلِيقُ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قُلْنَا: لَعَلَّهُ أَصَرَّ عَلَى كُفْرِهِ فَلِأَجَلِ الْإِصْرَارِ استحق ذلك التغليظ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قُرِئَ آزَرَ بِالنَّصْبِ وَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ لِقَوْلِهِ: لِأَبِيهِ وَبِالضَّمِّ عَلَى النِّدَاءِ، وَسَأَلَنِي وَاحِدٌ فَقَالَ: قُرِئَ آزَرَ بِهَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ قُرِئَ هارُونَ بِالنَّصْبِ وَمَا قُرِئَ الْبَتَّةَ بِالضَّمِّ فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْتُ الْقِرَاءَةُ بِالضَّمِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى النِّدَاءِ وَالنِّدَاءُ بِالِاسْمِ اسْتِخْفَافٌ بِالْمُنَادَى. وَذَلِكَ لَائِقٌ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ كَانَ مُصِرًّا عَلَى كُفْرِهِ فَحَسُنَ أَنْ يُخَاطَبَ بِالْغِلْظَةِ زَجْرًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ الْقَبِيحِ، وَأَمَّا قِصَّةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْتَخْلِفُ هَارُونَ عَلَى قَوْمِهِ فَمَا كَانَ الِاسْتِخْفَافُ لَائِقًا بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَلَا جَرَمَ مَا كَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِالضَّمِّ جَائِزَةً.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ «الْإِلَهِ» وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّهُمْ مَا أَثْبَتُوا لِلْأَصْنَامِ إِلَّا كَوْنَهَا مَعْبُودَةً، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ لَفْظِ «الْإِلَهِ» هُوَ الْمَعْبُودُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اشْتَمَلَ كَلَامُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذِكْرِ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِكَثْرَةِ الْآلِهَةِ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ بِكَثْرَةِ الْآلِهَةِ بَاطِلٌ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَوْ حَصَلَتْ لَهَا قُدْرَةٌ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لَكَانَ الصَّنَمُ الْوَاحِدُ كَافِيًا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْوَاحِدُ كَافِيًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا وَإِنْ كَثُرَتْ فَلَا نَفْعَ فِيهَا الْبَتَّةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَوُجُوبَ الِاشْتِغَالِ بِشُكْرِهِ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ لَا بِالسَّمْعِ. قَالَ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ، وَلَوْلَا الْوُجُوبُ الْعَقْلِيُّ لَمَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالِ. لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ كَانَ ضَلَالًا بِحُكْمِ شَرْعِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مُتَقَدِّمِينَ على إبراهيم عليه السلام.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٥]
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «الْكَافُ» فِي كَذَلِكَ لِلتَّشْبِيهِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ جرى ذكره والمذكور هاهنا فِيمَا قَبْلُ هُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَقْبَحَ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَالْمَعْنَى: وَمِثْلُ مَا أَرَيْنَاهُ من قبح عبادة الأصنام نريه ملكوت السموات والأرض. وهاهنا دَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ نُورَ جَلَالِ اللَّه تَعَالَى لَائِحٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ وَلَا زَائِلٍ الْبَتَّةَ، وَالْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ لَا تَصِيرُ مَحْرُومَةً عَنْ تِلْكَ الْأَنْوَارِ إِلَّا لِأَجْلِ حِجَابٍ، وَذَلِكَ الْحِجَابُ لَيْسَ إِلَّا الِاشْتِغَالُ بِغَيْرِ اللَّه تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَبِقَدْرِ مَا يَزُولُ ذَلِكَ الْحِجَابُ يحصل هذا
34
التَّجَلِّي فَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِشَارَةٌ إِلَى تَقْبِيحِ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى، لِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّه فَهُوَ حِجَابٌ عَنِ اللَّه تَعَالَى، فَلَمَّا زَالَ ذَلِكَ الْحِجَابُ لَا جَرَمَ تَجَلَّى لَهُ مَلَكُوتُ السموات بِالتَّمَامِ، فَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ مَعْنَاهُ: وَبَعْدَ زَوَالِ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِ اللَّه حَصَلَ لَهُ نُورُ تَجَلِّي جَلَالِ اللَّه تَعَالَى، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ مَنْشَأً لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ الشَّرِيفَةِ الرُّوحَانِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْإِرَاءَةُ قَدْ حَصَلَتْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الزَّمَانِ، فَكَانَ الْأَوْلَى/ أَنْ يُقَالَ:
وَكَذَلِكَ أَرَيْنَا إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السموات وَالْأَرْضِ، فَلِمَ عَدَلَ عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ إِلَى قَوْلِهِ وَكَذلِكَ نُرِي.
قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ كنا نرى إبراهيم ملكوت السموات وَالْأَرْضِ، فَيَكُونُ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ عَنِ الْمَاضِي. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ شَافَهَ أَبَاهُ الْكَلَامَ الْخَشِنَ تَعَصُّبًا لِلدِّينِ الْحَقِّ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَكَيْفَ بَلَغَ إِبْرَاهِيمُ هَذَا الْمَبْلَغَ الْعَظِيمَ فِي قُوَّةِ الدِّينِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّا كنا نريه ملكوت السموات وَالْأَرْضِ مِنْ وَقْتِ طُفُولِيَّتِهِ لِأَجْلِ أَنْ يَصِيرَ مِنَ الْمُوقِنِينَ زَمَانَ بُلُوغِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: وَهُوَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِرَاءَةِ اللَّه إبراهيم ملكوت السموات وَالْأَرْضِ هُوَ مُجَرَّدُ أَنْ يَرَى إِبْرَاهِيمُ هَذَا الْمَلَكُوتَ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنْ يَرَاهَا فَيَتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ جَلَالِ اللَّه تَعَالَى وَقُدْسِهِ وَعُلُوِّهِ وَعَظَمَتِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَخْلُوقَاتِ اللَّه وَإِنْ كَانَتْ مُتَنَاهِيَةً فِي الذَّوَاتِ وَفِي الصِّفَاتِ، إِلَّا أَنَّ جِهَاتِ دَلَالَاتِهَا عَلَى الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. وَسَمِعْتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ الْوَالِدَ عُمَرَ ضِيَاءَ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى قَالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ يَقُولُ: مَعْلُومَاتُ اللَّه تَعَالَى غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَمَعْلُومَاتُهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ أَيْضًا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ فِي أَحْيَازٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا عَلَى الْبَدَلِ، ويمكن اتصافه بِصِفَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا عَلَى الْبَدَلِ، وَكُلُّ تِلْكَ الْأَحْوَالِ التَّقْدِيرِيَّةِ دَالَّةٌ عَلَى حِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ أَيْضًا، وَإِذَا كَانَ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ وَالْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِي كُلِّ مَلَكُوتِ اللَّه تَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّ دَلَالَةَ مُلْكِ اللَّه تَعَالَى، وَمَلَكُوتِهِ عَلَى نُعُوتِ جَلَالِهِ وَسِمَاتِ عَظَمَتِهِ وَعِزَّتِهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، وَحُصُولُ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً في عقول الخلق محال، فإذن لَا طَرِيقَ إِلَى تَحْصِيلِ تِلْكَ الْمَعَارِفِ إِلَّا بِأَنْ يَحْصُلَ بَعْضُهَا عَقِيبَ الْبَعْضِ لَا إِلَى نِهَايَةٍ وَلَا إِلَى آخِرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ واللَّه أَعْلَمُ لَمْ يَقُلْ، وَكَذَلِكَ أَرَيْنَاهُ ملكوت السموات وَالْأَرْضِ، بَلْ قَالَ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ السَّفَرُ إِلَى اللَّه لَهُ نِهَايَةٌ، وَأَمَّا السَّفَرُ فِي اللَّه فَإِنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: «الْمَلَكُوتُ» هُوَ الْمُلْكُ، وَ «التَّاءُ» لِلْمُبَالَغَةِ كَالرَّغَبُوتِ مِنَ الرَّغْبَةِ وَالرَّهَبُوتِ من الرهبة.
واعلم أن في تفسير هَذِهِ الْإِرَاءَةَ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّه أَرَاهُ الْمَلَكُوتَ بِالْعَيْنِ، قَالُوا إِنَّ اللَّه تَعَالَى شَقَّ له السموات حَتَّى رَأَى الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ وَإِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ فَوْقِيَّةُ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ، / وَشَقَّ لَهُ الْأَرْضَ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي إِلَى السَّطْحِ الْآخَرِ مِنَ العالم الجسماني، ورأي ما في السموات مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْبَدَائِعِ، وَرَأَى مَا فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْبَدَائِعِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِإِبْرَاهِيمَ إِلَى السَّمَاءِ ورأي ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ فَأَبْصَرَ عَبْدًا عَلَى فَاحِشَةٍ فَدَعَا عَلَيْهِ وَعَلَى آخَرَ بِالْهَلَاكِ، فَقَالَ اللَّه تَعَالَى لَهُ: كُفَّ عَنْ عِبَادِي فَهُمْ بَيْنَ حَالَيْنِ إِمَّا أَنْ أَجْعَلَ مِنْهُمْ ذَرِّيَّةً طَيِّبَةً أَوْ يَتُوبُونَ فَأَغْفِرَ لَهُمْ أَوِ النَّارُ مِنْ وَرَائِهِمْ،
وَطَعَنَ الْقَاضِي فِي
35
هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَهُمْ لَا يَعْصُونَ اللَّه، فَلَا يَلِيقُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ أَبْصَرَ عَبْدًا عَلَى فَاحِشَةٍ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَدْعُونَ بِهَلَاكِ الْمُذْنِبِ إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّه تَعَالَى، وَإِذَا أَذِنَ اللَّه تَعَالَى فِيهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ إِجَابَةِ دُعَائِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ الدُّعَاءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَوَابًا أَوْ خَطَأً فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَلِمَ رَدَّهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَلِمَ قَبِلَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى. ثُمَّ قَالَ: وَأَخْبَارُ الْآحَادِ إِذَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِ دَلَائِلِ الْعُقُولِ وَجَبَ التَّوَقُّفُ فِيهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْإِرَاءَةَ كَانَتْ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ وَالْعَقْلِ، لَا بِالْبَصَرِ الظَّاهِرِ وَالْحِسِّ الظَّاهِرِ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِوُجُوهٍ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أن ملكوت السموات عِبَارَةٌ عَنْ مُلْكِ السَّمَاءِ، وَالْمُلْكُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ، وَقُدْرَةُ اللَّه لَا تُرَى، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالْعَقْلِ، وَهَذَا كَلَامٌ قَاطِعٌ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ المراد بملكوت السموات والأرض نفس السموات وَالْأَرْضِ، إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَضِيعُ لَفْظُ الْمَلَكُوتِ وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ فَائِدَةٌ.
وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْإِرَاءَةَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ ثُمَّ فَسَّرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً [الْأَنْعَامِ: ٧٦] فَجَرَى ذِكْرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ كَالشَّرْحِ وَالتَّفْسِيرِ لِتِلْكَ الْإِرَاءَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ تِلْكَ الْإِرَاءَةَ كَانَتْ عِبَارَةً عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ.
وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ وَالرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ لَا تَصِيرُ حُجَّةً عَلَى قَوْمِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَائِبِينَ عَنْهَا وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ إِبْرَاهِيمَ فِيهَا وَمَا كَانَ يَجُوزُ لَهُمْ تَصْدِيقُ إِبْرَاهِيمَ فِي تِلْكَ الدَّعْوَى إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَمُعْجِزَةٍ بَاهِرَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْحُجَّةُ الَّتِي أَوْرَدَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَى قَوْمِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالنُّجُومِ مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ. فَإِنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ كَانَتْ ظَاهِرَةً لَهُمْ كَمَا أَنَّهَا كَانَتْ ظَاهِرَةً لِإِبْرَاهِيمَ.
وَالْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ إِرَاءَةَ جَمِيعِ الْعَالِمِ تُفِيدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ إِلَهًا قَادِرًا عَلَى كُلِّ/ الْمُمْكِنَاتِ.
وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ بِسَبَبِهَا اسْتِحْقَاقُ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُفَّارَ فِي الْآخِرَةِ يَعْرِفُونَ اللَّه تَعَالَى بِالضَّرُورَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ مَدْحٌ وَلَا ثَوَابٌ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَذَاكَ هُوَ الَّذِي يُفِيدُ الْمَدْحَ وَالتَّعْظِيمَ.
وَالْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَكَذَلِكَ قَالَ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: ٥٣] فَكَمَا كَانَتْ هَذِهِ الْإِرَاءَةُ بِالْبَصِيرَةِ الْبَاطِنَةِ لَا بِالْبَصَرِ الظَّاهِرِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَمَّمَ الِاسْتِدْلَالَ بِالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ قَالَ بَعْدَهُ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: ٧٩] فحكم على السموات وَالْأَرْضِ بِكَوْنِهَا مَخْلُوقَةً لِأَجْلِ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي النَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ. وَذَلِكَ الدَّلِيلُ لَوْ لم يكن عاما في كل السموات وَالْأَرْضِ لَكَانَ الْحُكْمُ الْعَامُّ بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ وَإِنَّهُ خَطَأٌ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ كَانَ عَامًّا فَكَانَ ذِكْرُ النَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ كَالْمِثَالِ لِإِرَاءَةِ الْمَلَكُوتِ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ إِرَاءَةِ الْمَلَكُوتِ تَعْرِيفُ كَيْفِيَّةِ دَلَالَتِهَا بِحَسَبِ تَغَيُّرِهَا وَإِمْكَانِهَا وَحُدُوثِهَا عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْعَالِمِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْإِرَاءَةُ بِالْقَلْبِ لَا بالعين.
36
الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: أَنَّ الْيَقِينَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ بِالتَّأَمُّلِ إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِالشَّكِّ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ كَالْغَرَضِ مِنْ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِأَجْلِ أَنْ يَصِيرَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا كَانَ الْيَقِينُ هُوَ الْعِلْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الدَّلِيلِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْإِرَاءَةُ عِبَارَةً عَنِ الِاسْتِدْلَالِ.
الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِ اللَّه تَعَالَى دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ مُمْكِنَةٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ مُمْكِنٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الصَّانِعِ. وَإِذَا عَرَفَ الْإِنْسَانُ هَذَا الْوَجْهَ الْوَاحِدَ فَقَدْ كَفَاهُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الصَّانِعِ وَكَأَنَّهُ بِمَعْرِفَةِ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ قَدْ طَالَعَ جَمِيعَ الْمَلَكُوتِ بِعَيْنِ عَقْلِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنِ عَقْلِهِ شَهَادَتَهَا بِالِاحْتِيَاجِ وَالِافْتِقَارِ وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ رُؤْيَةٌ بَاقِيَةٌ غَيْرُ زَائِلَةٍ الْبَتَّةَ. ثم إنها غير شاغلة عَنِ اللَّه تَعَالَى بَلْ هِيَ شَاغِلَةٌ لِلْقَلْبِ وَالرُّوحِ باللَّه. أَمَّا رُؤْيَةُ الْعَيْنِ فَالْإِنْسَانُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرَى بِالْعَيْنِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً دُفْعَةً وَاحِدَةً عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى صَحِيفَةٍ مَكْتُوبَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَرَى مِنْ تِلْكَ الصَّحِيفَةِ رُؤْيَةً كَامِلَةً تَامَّةً إِلَّا حَرْفًا وَاحِدًا فَإِنْ حَدَّقَ نَظَرَهُ إِلَى حَرْفٍ آخَرَ وَشَغَلَ بَصَرَهُ بِهِ صَارَ مَحْرُومًا عَنْ إِدْرَاكِ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ، أَوْ عَنْ إِبْصَارِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ رُؤْيَةَ الْأَشْيَاءِ/ الْكَثِيرَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً غَيْرُ مُمْكِنَةٍ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مُمْكِنَةً هِيَ غَيْرُ بَاقِيَةٍ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً هِيَ شَاغِلَةٌ عَنِ اللَّه تَعَالَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي تَرْكِ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ فَقَالَ: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النَّجْمِ: ١٧] فَثَبَتَ بِجُمْلَةِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ تِلْكَ الْإِرَاءَةَ كَانَتْ إِرَاءَةً بِحَسَبِ بَصِيرَةِ الْعَقْلِ، لَا بِحَسَبِ الْبَصَرِ الظَّاهِرِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَرُؤْيَةُ الْقَلْبِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ حَاصِلَةٌ لِجَمِيعِ الْمُوَحِّدِينَ فَأَيُّ فَضِيلَةٍ تَحْصُلُ لِإِبْرَاهِيمَ بِسَبَبِهَا.
قُلْنَا: جَمِيعُ الْمُوَحِّدِينَ وَإِنْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَصْلَ هَذَا الدَّلِيلِ إِلَّا أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى آثَارِ حِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِ هَذَا الْعَالَمِ بِحَسَبِ أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَأَصْنَافِهَا وَأَشْخَاصِهَا وَأَحْوَالِهَا مِمَّا لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْأَكَابِرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى
كَانَ رَسُولُنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أَرِنَا الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ»
فَزَالَ هَذَا الْإِشْكَالُ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي «الْوَاوِ» فِي قَوْلِهِ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: نُرِي إِبْرَاهِيمَ ملكوت السموات وَالْأَرْضِ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا لِبَيَانِ عِلَّةِ الْإِرَاءَةِ وَالتَّقْدِيرُ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ نُرِيهِ مَلَكُوتَ السموات وَالْأَرْضِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِرَاءَةَ قَدْ تَحْصُلُ وَتَصِيرُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الضَّلَالِ كَمَا فِي حَقِّ فِرْعَوْنَ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى [طه: ٥٦] وَقَدْ تَصِيرُ سَبَبًا لِمَزِيدِ الْهِدَايَةِ وَالْيَقِينِ. فَلَمَّا احْتَمَلَتِ الْإِرَاءَةُ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّا أَرَيْنَاهُ هَذِهِ الْآيَاتِ لِيَرَاهَا وَلِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ من الموقنين لا من الجاهدين واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْيَقِينُ عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمٍ يَحْصُلُ بَعْدَ زَوَالِ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ التَّأَمُّلِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوصَفُ عِلْمُ اللَّه تَعَالَى بِكَوْنِهِ يَقِينًا لِأَنَّ عِلْمَهُ غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِالشُّبْهَةِ وَغَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنَ الْفِكْرِ وَالتَّأَمُّلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ مَا يَسْتَدِلُّ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ قَلْبُهُ عَنْ شَكٍّ وَشُبْهَةٍ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِذَا كَثُرَتِ الدَّلَائِلُ وَتَوَافَقَتْ وَتَطَابَقَتْ صَارَتْ سَبَبًا لِحُصُولِ الْيَقِينِ وَذَلِكَ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الدَّلَائِلِ نَوْعُ تَأَثُّرٍ وَقُوَّةٍ فَلَا تَزَالُ الْقُوَّةُ
37
تَتَزَايَدُ حَتَّى نَنْتَهِيَ إِلَى الْجَزْمِ. الثَّانِي: أَنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَلَكَةِ فَكَثْرَةُ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلَائِلِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى الْمَدْلُولِ الْوَاحِدِ جَارٍ مَجْرَى تَكْرَارِ الدَّرْسِ الْوَاحِدِ، فَكَمَا أَنَّ كَثْرَةَ التَّكْرَارِ تُفِيدُ الْحِفْظَ الْمُتَأَكَّدَ الَّذِي لَا يَزُولُ عَنِ القلب، فكذا هاهنا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَلْبَ عِنْدَ الِاسْتِدْلَالِ كَانَ مُظْلِمًا جِدًّا فَإِذَا حَصَلَ فِيهِ الِاعْتِقَادُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ امْتَزَجَ نُورُ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالِ بِظُلْمَةِ سَائِرِ الصِّفَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ، فَحَصَلَ فِيهِ حَالَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْحَالَةِ الْمُمْتَزِجَةِ مِنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، فَإِذَا حَصَلَ الِاسْتِدْلَالُ/ الثَّانِي امْتَزَجَ نُورُهُ بِالْحَالَةِ الْأُولَى، فَيَصِيرُ الْإِشْرَاقُ وَاللَّمَعَانُ أَتَمَّ. وَكَمَا أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا قَرُبَتْ مِنَ الْمَشْرِقِ ظَهَرَ نُورُهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَهُوَ الصُّبْحُ. فَكَذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ الْأَوَّلُ يَكُونُ كَالصُّبْحِ، ثُمَّ كَمَا أَنَّ الصُّبْحَ لَا يَزَالُ يَتَزَايَدُ بِسَبَبِ تَزَايُدِ قُرْبِ الشَّمْسِ مِنْ سَمْتِ الرَّأْسِ، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى سَمْتِ الرَّأْسِ حَصَلَ النُّورُ التَّامُّ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ كُلَّمَا كَانَ تَدَبُّرُهُ فِي مَرَاتِبِ مَخْلُوقَاتِ اللَّه تَعَالَى أَكْثَرَ كَانَ شُرُوقُ نُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ أَجْلَى. إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ شَمْسِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ شَمْسِ الْعَالَمِ أَنَّ شَمْسَ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ لَهَا فِي الِارْتِقَاءِ وَالتَّصَاعُدِ حَدٌّ مُعَيَّنٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ فِي الصُّعُودِ، وَأَمَّا شَمْسُ الْمَعْرِفَةِ وَالْعَقْلِ وَالتَّوْحِيدِ، فَلَا نِهَايَةَ لِتَصَاعُدِهَا وَلَا غَايَةَ لِازْدِيَادِهَا فَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى مَرَاتِبَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَقَوْلُهُ: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ إِشَارَةٌ إِلَى دَرَجَاتِ أَنْوَارِ التَّجَلِّي وَشُرُوقِ شَمْسِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٦ الى ٧٩]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)
فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي جُمْلَةٌ وَقَعَتِ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يُقَالُ جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ وَأَجَنَّهُ اللَّيْلُ، ويقال: لكل/ ما سترته جَنَّ وَأَجَنَّ، وَيُقَالُ أَيْضًا جَنَّهُ اللَّيْلُ، وَلَكِنَّ الِاخْتِيَارَ جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وَأَجَنَّهُ اللَّيْلُ. هَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَمَعْنَى جَنَّ سَتَرَ وَمِنْهُ الْجَنَّةُ وَالْجِنُّ وَالْجُنُونُ وَالْجَانُّ وَالْجَنِينُ وَالْمِجَنُّ وَالْجَنَنُ وَالْمُجَنُّ، وَهُوَ الْمَقْبُورُ. وَالْمَجَنَّةُ كُلُّ هَذَا يَعُودُ أَصْلُهُ إِلَى السَّتْرِ وَالِاسْتِتَارِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ. وَلِهَذَا دَخَلَتْ «عَلَى» عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ فِي أَظْلَمَ. فَأَمَّا جَنَّهُ فَسَتَرَهُ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينِ مَعْنَى (أَظْلَمَ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا أَنَّ مَلِكَ ذَلِكَ الزَّمَانِ رَأَى رُؤْيَا وَعَبَّرَهَا الْمُعَبِّرُونَ بِأَنَّهُ يُولَدُ غُلَامٌ يُنَازِعُهُ فِي مِلْكِهِ، فَأَمَرَ ذَلِكَ الْمَلِكُ بِذَبْحِ كُلِّ غُلَامٍ يُولَدُ، فَحَبِلَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ بِهِ وَمَا أَظْهَرَتْ حَبَلَهَا لِلنَّاسِ، فَلَمَّا جَاءَهَا الطَّلْقُ ذَهَبَتْ إِلَى كَهْفٍ فِي جَبَلٍ وَوَضَعَتْ إِبْرَاهِيمَ وَسَدَّتِ الْبَابَ بِحَجَرٍ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَضَعَ أُصْبُعَهُ فِي فَمِهِ فَمَصَّهُ فَخَرَجَ مِنْهُ رِزْقُهُ وَكَانَ يَتَعَهَّدُهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَتِ الْأُمُّ تَأْتِيهِ أَحْيَانًا وَتُرْضِعُهُ
38
وَبَقِيَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى كَبِرَ وَعَقَلَ وَعَرَفَ أَنَّ لَهُ رَبًّا، فَسَأَلَ الْأُمَّ فَقَالَ لَهَا: مَنْ رَبِّي؟ فَقَالَتْ أَنَا، فَقَالَ: وَمَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتْ أَبُوكَ، فَقَالَ لِلْأَبِ: وَمَنْ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: مَلِكُ الْبَلَدِ. فَعَرَفَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَهْلَهُمَا بِرَبِّهِمَا فَنَظَرَ مِنْ بَابِ ذَلِكَ الْغَارِ لِيَرَى شَيْئًا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فَرَأَى النَّجْمَ الَّذِي هُوَ أَضْوَأُ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ.
فَقَالَ: هَذَا رَبِّي إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَجَرَيَانِ قَلَمِ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَاتَّفَقَ أَكْثَرُ المحققين على فساد القول الأول [أي إن النجم رب في قول إبراهيم ع هذا رَبِّي] وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْقَوْلَ بِرُبُوبِيَّةِ النَّجْمِ كُفْرٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالْكُفْرُ غَيْرُ جَائِزٍ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ عَرَفَ رَبَّهُ قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بِالدَّلِيلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لِأَبِيهِ آزَرَ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الْأَنْعَامِ: ٧٤].
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ دَعَا أَبَاهُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بالرفق حيث قال: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
[مَرْيَمَ: ٤٢] وَحَكَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ دَعَا أَبَاهُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بِالْكَلَامِ الْخَشِنِ وَاللَّفْظِ الْمُوحِشِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ دَعَا غَيْرَهُ إِلَى اللَّه تَعَالَى فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الرِّفْقَ عَلَى الْعُنْفِ وَاللِّينَ عَلَى الْغِلَظِ وَلَا يَخُوضُ فِي التَّعْنِيفِ وَالتَّغْلِيظِ إِلَّا بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمَدِيدَةِ وَالْيَأْسِ التَّامِّ.
فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَعْدَ أَنْ دَعَا أَبَاهُ إِلَى التَّوْحِيدِ/ مِرَارًا وَأَطْوَارًا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إِنَّمَا اشْتَغَلَ بِدَعْوَةِ أَبِيهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ مُهِمِّ نَفْسِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَعْدَ أَنْ عَرَفَ اللَّه بِمُدَّةٍ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَعْدَ أن أراه اللَّه ملكوت السموات وَالْأَرْضِ حَتَّى رَأَى مَنْ فَوْقَ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَمَا تَحْتَهُمَا إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى، وَمَنْ كَانَ مَنْصِبُهُ فِي الدِّينِ كَذَلِكَ، وَعِلْمُهُ باللَّه كَذَلِكَ، كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَعْتَقِدَ إِلَهِيَّةَ الْكَوَاكِبِ؟
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ دَلَائِلَ الْحُدُوثِ فِي الْأَفْلَاكِ ظَاهِرَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَجْهًا وَأَكْثَرَ وَمَعَ هَذِهِ الْوُجُوهِ الظَّاهِرَةِ كَيْفَ يَلِيقُ بِأَقَلِّ الْعُقَلَاءِ نَصِيبًا مِنَ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ أَنْ يَقُولَ بِرُبُوبِيَّةِ الْكَوَاكِبِ فَضْلًا عَنْ أَعْقَلِ الْعُقَلَاءِ وَأَعْلَمِ الْعُلَمَاءِ؟
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصَّافَّاتِ: ٨٤] وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ الْقَلْبِ السَّلِيمِ أَنْ يَكُونَ سَلِيمًا عَنِ الْكُفْرِ، وَأَيْضًا مَدَحَهُ فَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٥١] أَيْ آتَيْنَاهُ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ أَوَّلِ زَمَانِ الْفِكْرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أَيْ بِطَهَارَتِهِ وَكَمَالِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الْأَنْعَامِ: ١٢٤].
الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أَيْ وَلِيَكُونَ بِسَبَبِ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ مِنَ الْمُوقِنِينَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ
وَالْفَاءُ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَعْدَ أَنْ صَارَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْمُوقِنِينَ العارفين بربه.
39
الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ مُنَاظَرَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ قَوْمِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَالَ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ وَلَمْ يَقُلْ عَلَى نَفْسِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْمُبَاحَثَةَ إِنَّمَا جَرَتْ مَعَ قَوْمِهِ لِأَجْلِ أَنْ يُرْشِدَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ. لَا لِأَجْلِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَطْلُبُ الدِّينَ وَالْمَعْرِفَةَ لِنَفْسِهِ.
الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّ الْقَوْمَ يَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا اشْتَغَلَ بِالنَّظَرِ فِي الْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ حَالَ مَا كَانَ فِي الْغَارِ، وَهَذَا بَاطِلٌ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يقول يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ فِي الْغَارِ لَا قَوْمَ وَلَا صَنَمَ.
الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ تَعَالَى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَكَيْفَ يُحَاجُّونَهُ وَهُمْ بَعْدُ مَا رَأَوْهُ وَهُوَ مَا رَآهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا اشْتَغَلَ بِالنَّظَرِ فِي الْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ بَعْدَ أَنْ خَالَطَ قَوْمَهُ وَرَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَدَعَوْهُ إِلَى عِبَادَتِهَا فَذَكَرَ قَوْلَهُ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى فساد قولهم.
الحجة الحادية عشر: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلْقَوْمِ: وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا خَوَّفُوهُ بِالْأَصْنَامِ، كَمَا حَكَى عَنْ قَوْمِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ:
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هُودٍ: ٥٤] وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَلِيقُ بِالْغَارِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ كَانَتْ مَسْبُوقَةً بِالنَّهَارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ طَالِعَةً فِي الْيَوْمِ الْمُتَقَدِّمِ، ثُمَّ غَرَبَتْ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَدَلَّ بِغُرُوبِهَا السَّابِقِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ، وَإِذَا بَطَلَ بِهَذَا الدَّلِيلِ صَلَاحِيَةُ الشَّمْسِ لِلْإِلَهِيَّةِ بَطَلَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْقَمَرِ وَالْكَوْكَبِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى هَذَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا تَحْصِيلَ الْمَعْرِفَةِ لِنَفْسِهِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا إِلْزَامُ الْقَوْمِ وَإِلْجَاؤُهُمْ، فَهَذَا السُّؤَالُ غَيْرُ وَارِدٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ إِنَّمَا اتَّفَقَتْ مُكَالَمَتُهُ مَعَ الْقَوْمِ حَالَ طُلُوعِ ذَلِكَ النَّجْمِ، ثُمَّ امْتَدَّتِ الْمُنَاظَرَةُ إِلَى أَنْ طَلَعَ الْقَمَرُ وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ بَعْدَهُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَالسُّؤَالُ غَيْرُ وَارِدٍ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ: هَذَا رَبِّي. وَإِذَا بَطَلَ هذا بقي هاهنا احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ هَذَا كَلَامُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَلَكِنْ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْهُ إِثْبَاتَ رُبُوبِيَّةِ الْكَوْكَبِ بَلِ الْغَرَضُ مِنْهُ أَحَدُ أُمُورٍ سَبْعَةٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقُلْ هَذَا رَبِّي عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ، بَلِ الْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُنَاظِرُ عَبَدَةَ الْكَوْكَبِ وَكَانَ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْكَوْكَبَ رَبُّهُمْ وَإِلَهُهُمْ، فَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ بِلَفْظِهِمْ وَعِبَارَتِهِمْ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ فَيُبْطِلُهُ، وَمِثَالُهُ: أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إِذَا نَاظَرَ مَنْ يَقُولُ بِقِدَمِ الْجِسْمِ، فَيَقُولُ:
الْجِسْمُ قَدِيمٌ؟ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلِمَ نَرَاهُ وَنُشَاهِدُهُ مُرَكَّبًا مُتَغَيِّرًا؟ فَهُوَ إِنَّمَا قَالَ الْجِسْمُ قَدِيمٌ إِعَادَةٌ لِكَلَامِ الْخَصْمِ حَتَّى يُلْزِمَ الْمُحَالَ عليه، فكذا هاهنا قَالَ: هَذَا رَبِّي وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ حِكَايَةُ قَوْلِ الْخَصْمِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْجَوَابِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى دَلَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي التَّأْوِيلِ: أَنْ نَقُولَ قَوْلُهُ: هَذَا رَبِّي مَعْنَاهُ هَذَا رَبِّي فِي زَعْمِكُمْ واعتقادكم ونظيره أن
40
يقول الموحد لِلْمُجَسِّمِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ: إِنَّ إِلَهَهُ جِسْمٌ مَحْدُودٌ أَيْ فِي زَعْمِهِ وَاعْتِقَادِهِ قَالَ تَعَالَى: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً [طه: ٩٧] وَقَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ [القصص: ٦٢] وكان صلوات اللَّه عَلَيْهِ يَقُولُ: «يَا إِلَهَ الْآلِهَةِ». وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى إِلَهُ الْآلِهَةِ فِي زَعْمِهِمْ وَقَالَ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: ٤٩] أَيْ عِنْدَ نَفْسِكَ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ إِلَّا أَنَّهُ أَسْقَطَ/ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ مُضْمَرًا فِيهِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ يَقُولُونَ هَذَا رَبِي. وَإِضْمَارُ الْقَوْلِ كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا [الْبَقَرَةِ: ١٢٧] أَيْ يَقُولُونَ رَبَّنَا وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزُّمَرِ: ٣] أَيْ يَقُولُونَ مَا نَعْبُدُهُمْ، فَكَذَا هاهنا التَّقْدِيرُ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِقَوْمِهِ: يَقُولُونَ هَذَا رَبِي. أَيْ هَذَا هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُنِي وَيُرَبِّينِي.
وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا يُقَالُ لِذَلِيلٍ سَادَ قَوْمًا هَذَا سَيِّدُكُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يُبْطِلَ قَوْلَهُمْ بِرُبُوبِيَّةِ الْكَوَاكِبِ إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ عَرَفَ مِنْ تَقْلِيدِهِمْ لِأَسْلَافِهِمْ وَبُعْدِ طِبَاعِهِمْ عَنْ قَبُولِ الدَّلَائِلِ أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّه تَعَالَى لَمْ يَقْبَلُوهُ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، فَمَالَ إِلَى طَرِيقٍ بِهِ يَسْتَدْرِجُهُمْ إِلَى اسْتِمَاعِ الْحُجَّةِ. وَذَلِكَ بِأَنْ ذَكَرَ كَلَامًا يُوهِمُ كَوْنَهُ مُسَاعِدًا لَهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِرُبُوبِيَّةِ الْكَوَاكِبِ مَعَ أَنَّ قَلْبَهُ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ كَانَ مُطَمْئِنًا بِالْإِيمَانِ، وَمَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى إِبْطَالِهِ وَإِفْسَادِهِ وَأَنْ يَقْبَلُوا قَوْلَهُ وتمام التقرير أنه لما يَجِدْ إِلَى الدَّعْوَةِ طَرِيقًا سِوَى هَذَا الطَّرِيقِ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَأْمُورًا بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّه كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكْرَهِ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ يَجُوزُ إِجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْلِ: ١٠٦] فَإِذَا جَازَ ذِكْرُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لِمَصْلَحَةِ بَقَاءِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَبِأَنْ يَجُوزَ إِظْهَارُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لِتَخْلِيصِ عَالَمٍ مِنَ العقلاء عن الكفر والعقاب المؤيد كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَيْضًا الْمُكْرَهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ لَوْ صَلَّى حَتَّى قُتِلَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ وَقْتُ الْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوِ اشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ انْهَزَمَ عَسْكَرُ الْإِسْلَامِ فَهَهُنَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَالِاشْتِغَالُ بِالْقِتَالِ. حَتَّى لَوْ صَلَّى وَتَرَكَ الْقِتَالَ أَثِمَ وَلَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَقَاتَلَ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ، بَلْ نَقُولُ: أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَرَأَى طِفْلًا أَوْ أَعْمَى أَشْرَفَ عَلَى غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ وَجَبَ عَلَيْهِ قَطْعُ الصَّلَاةِ لِإِنْقَاذِ ذَلِكَ الطِّفْلِ أَوْ ذَلِكَ الْأَعْمَى عَنْ ذَلِكَ البلاء. فكذا هاهنا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ لِيَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ مُوَافِقَةَ الْقَوْمِ حَتَّى إِذَا أَوْرَدَ عَلَيْهِمُ الدَّلِيلَ الْمُبْطِلَ لِقَوْلِهِمْ كَانَ قَبُولُهُمْ لِذَلِكَ الدَّلِيلِ أَتَمَّ وَانْتِفَاعُهُمْ بِاسْتِمَاعِهِ أَكْمَلَ، وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ مِثْلَ هَذَا الطَّرِيقِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ [الصَّافَّاتِ:
٨٨- ٩٠] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَدِلُّونَ بِعِلْمِ النَّجْمِ عَلَى حُصُولِ الْحَوَادِثِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَوَافَقَهُمْ إِبْرَاهِيمُ/ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فِي الظَّاهِرِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ بَرِيئًا عَنْهُ فِي الْبَاطِنِ، وَمَقْصُودُهُ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِهَذَا الطَّرِيقِ إِلَى كَسْرِ الْأَصْنَامِ فَإِذَا جَازَتِ الْمُوَافَقَةُ فِي الظَّاهِرِ هاهنا. مَعَ أَنَّهُ كَانَ بَرِيئًا عَنْهُ فِي الْبَاطِنِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَسْأَلَتِنَا كَذَلِكَ؟
وَأَيْضًا الْمُتَكَلِّمُونَ قَالُوا: إِنَّهُ يَصِحُّ مِنَ اللَّه تَعَالَى إِظْهَارُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى يَدِ مَنْ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ لِأَنَّ صُورَةَ هَذَا
41
الْمُدَّعِي وَشَكْلَهُ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ فَلَا يَحْصُلُ فِيهِ التَّلْبِيسُ بِسَبَبِ ظُهُورِ تِلْكَ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدِهِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهَا عَلَى يَدِ مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ لِأَنَّهُ يُوجِبُ التَّلْبِيسَ فَكَذَا هاهنا. وَقَوْلُهُ: هَذَا رَبِّي لَا يُوجِبُ الضَّلَالَ، لِأَنَّ دَلَائِلَ بُطْلَانِهِ جَلِيَّةٌ وَفِي إِظْهَارِهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ اسْتِدْرَاجُهُمْ لِقَبُولِ الدَّلِيلِ فَكَانَ جَائِزًا واللَّه أَعْلَمُ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا دَعَوْهُ إِلَى عِبَادَةِ النُّجُومِ فَكَانُوا فِي تِلْكَ الْمُنَاظَرَةِ إِلَى أَنْ طَلَعَ النَّجْمُ الدُّرِّيُّ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا رَبِّي أَيْ هَذَا هُوَ الرَّبُّ الَّذِي تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ثُمَّ سَكَتَ زَمَانًا حَتَّى أَفَلَ ثُمَّ قَالَ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَهَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ بَعْدَ الْبُلُوغِ.
أَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَعِنْدَ الْقُرْبِ مِنْهُ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَدْ خَصَّ إِبْرَاهِيمَ بِالْعَقْلِ الْكَامِلِ وَالْقَرِيحَةِ الصَّافِيَةِ، فَخَطَرَ بِبَالِهِ قَبْلَ بُلُوغِهِ إِثْبَاتُ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ فَتَفَكَّرَ فَرَأَى النَّجْمَ، فَقَالَ: هَذَا رَبِّي فَلَمَّا شَاهَدَ حَرَكَتَهُ قَالَ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكْمَلَ بُلُوغَهُ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْبَحْثِ فَقَالَ فِي الْحَالِ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ إِنَّمَا جَرَتْ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقْتَ اشْتِغَالِهِ بِدَعْوَةِ الْقَوْمِ إِلَى التَّوْحِيدِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ رُئِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ حَيْثُ كَانَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكَسَائِيُّ بِكَسْرِهِمَا فَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْأَلْفِ كَافٌ أَوْ هَاءٌ نَحْوَ: رَآكَ وَرَآهَا فَحِينَئِذٍ يَكْسِرُهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَفْتَحُهَا ابْنُ عَامِرٍ. وَرَوَى يَحْيَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مِثْلَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَإِذَا تَلَتْهُ أَلِفُ وَصْلٍ نَحْوَ: رَأَى الشَّمْسَ، وَرَأَى الْقَمَرَ. فَإِنَّ حَمْزَةَ وَيَحْيَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَنَصْرٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ يَكْسِرُونَ الرَّاءَ وَيَفْتَحُونَ الْهَمْزَةَ وَالْبَاقُونَ يَقْرَؤُنَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْهَمْزَةِ، وَاتَّفَقُوا فِي رَأَوْكَ، وَرَأَوْهُ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَمَّا مَنْ فَتَحَ الرَّاءَ وَالْهَمْزَةَ فَعِلَّتُهُ وَاضِحَةٌ هي تَرْكُ الْأَلِفِ عَلَى الْأَصْلِ نَحْوَ: رَعَى وَرَمَى. وَأَمَّا مَنْ فَتَحَ الرَّاءَ وَكَسَرَ الْهَمْزَةَ فَإِنَّهُ أَمَالَ الْهَمْزَةَ نَحْوَ الْكَسْرِ لِيُمِيلَ الْأَلِفَ الَّتِي فِي رَأَى نَحْوَ الْيَاءِ وَتَرَكَ الرَّاءَ مَفْتُوحَةً على الأصل. وأما من كسر هما جَمِيعًا فَلِأَجْلِ أَنْ تَصِيرَ حَرَكَةُ الرَّاءِ مُشَابَهَةً لِحَرَكَةِ الْهَمْزَةِ، وَالْوَاحِدِيُّ طَوَّلَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي «كِتَابِ الْبَسِيطِ» فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْقِصَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وُلِدَ فِي الْغَارِ وَتَرَكَتْهُ أُمَّهُ وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُرَبِّيهِ كُلُّ ذلك محتمل فِي الْجُمْلَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: كُلُّ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُعْجِزَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمُعْجِزِ عَلَى وَقْتِ الدَّعْوَى غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِرْهَاصِ إِلَّا إِذَا حَضَرَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ رَسُولٌ مِنَ اللَّه فَتُجْعَلُ تِلْكَ الْخَوَارِقُ مُعْجِزَةً لِذَلِكَ النَّبِيِّ. وَأَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَالْإِرْهَاصُ جَائِزٌ فَزَالَتِ الشُّبْهَةُ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَدَلَّ بِأُفُولِ الْكَوْكَبِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَبًّا لَهُ وَخَالِقًا لَهُ. وَيَجِبُ عَلَيْنَا هاهنا أَنْ نَبْحَثَ عَنْ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأُفُولَ مَا هُوَ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ الْأُفُولَ كَيْفَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ رُبُوبِيَّةِ الْكَوْكَبِ؟ فَنَقُولُ: الْأُفُولُ عِبَارَةٌ عَنْ غَيْبُوبَةِ الشَّيْءِ بَعْدَ ظُهُورِهِ.
42
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ، فَيَقُولُ: الْأُفُولُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَرَكَةٌ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَيَكُونُ الطُّلُوعُ أَيْضًا دَلِيلًا عَلَى الْحُدُوثِ، فَلِمَ تَرَكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى حُدُوثِهَا بِالطُّلُوعِ وَعَوَّلَ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ عَلَى الْأُفُولِ؟
وَالْجَوَابُ: لَا شَكَّ أَنَّ الطُّلُوعَ وَالْغُرُوبَ يَشْتَرِكَانِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُدُوثِ إِلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي يَحْتَجُّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي مَعْرِضِ دَعْوَةِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ إِلَى اللَّه لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا جَلِيًّا بِحَيْثُ يَشْتَرِكُ فِي فَهْمِهِ الذَّكِيُّ وَالْغَبِيُّ وَالْعَاقِلُ. وَدَلَالَةُ الْحَرَكَةِ عَلَى الْحُدُوثِ وَإِنْ كَانَتْ يَقِينِيَّةً إِلَّا أَنَّهَا دَقِيقَةٌ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْأَفَاضِلُ مِنَ الْخَلْقِ. أَمَّا دَلَالَةُ الْأُفُولِ فَإِنَّهَا دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ يَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ، فَإِنَّ الْكَوْكَبَ يَزُولُ سُلْطَانُهُ وَقْتَ الْأُفُولِ فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْأُفُولِ عَلَى هَذَا الْمَقْصُودِ أَتَمَّ. وَأَيْضًا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْهَوَى فِي خَطِرَةِ الْإِمْكَانِ أُفُولٌ، وَأَحْسَنُ الْكَلَامِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ حِصَّةُ الْخَوَاصِّ وَحِصَّةُ الْأَوْسَاطِ وَحِصَّةُ الْعَوَامِّ، فَالْخَوَاصُّ يَفْهَمُونَ مِنَ الْأُفُولِ الْإِمْكَانَ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْتَاجٌ وَالْمُحْتَاجُ: لَا يَكُونُ مَقْطُوعَ الْحَاجَةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى مَنْ يَكُونُ مُنَزَّهًا عَنِ الْإِمْكَانِ حَتَّى تَنْقَطِعَ الْحَاجَاتُ بِسَبَبِ وُجُودِهِ كَمَا قَالَ: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: ٤٢] وَأَمَّا الْأَوْسَاطُ فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مِنَ الْأُفُولِ مُطْلَقَ الْحَرَكَةِ، فَكُلُّ مُتَحَرِّكٍ مُحْدَثٌ، وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْقَدِيمِ الْقَادِرِ. فَلَا يَكُونُ الْآفِلُ إِلَهًا بَلِ الْإِلَهُ هُوَ الَّذِي احْتَاجَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْآفِلُ. وَأَمَّا الْعَوَامُّ فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مِنَ الْأُفُولِ الْغُرُوبَ وَهُمْ يُشَاهِدُونَ أَنَّ كُلَّ كَوْكَبٍ يَقْرُبُ مِنَ الْأُفُولِ والغروب فإنه يزول نوره وينتقض ضَوْءُهُ وَيَذْهَبُ سُلْطَانُهُ وَيَصِيرُ كَالْمَعْزُولِ وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ، فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ أَعْنِي قَوْلَهُ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ كَلِمَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نَصِيبِ الْمُقَرَّبِينَ وَأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَصْحَابِ الشِّمَالِ، فَكَانَتْ أَكْمَلَ الدَّلَائِلِ وَأَفْضَلَ الْبَرَاهِينِ.
وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا كَانَ يُنَاظِرُهُمْ وَهُمْ كَانُوا مُنَجِّمِينَ. وَمَذْهَبُ أَهْلِ النُّجُومِ أَنَّ الْكَوْكَبَ إِذَا كَانَ فِي الرُّبْعِ الشَّرْقِيِّ وَيَكُونُ صَاعِدًا إِلَى وَسَطِ السَّمَاءِ كَانَ قَوِيًّا عظيم التأثير. أما إذا كان غريبا وَقَرِيبًا مِنَ الْأُفُولِ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَعِيفَ التَّأْثِيرِ قَلِيلَ الْقُوَّةِ. فَنَبَّهَ بِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي لَا تَتَغَيَّرُ قُدْرَتُهُ إِلَى الْعَجْزِ وَكَمَالُهُ إِلَى النُّقْصَانِ، وَمَذْهَبُكُمْ أَنَّ الْكَوْكَبَ حَالَ كَوْنِهِ فِي الرُّبْعِ الْغَرْبِيِّ، يَكُونُ ضَعِيفَ الْقُوَّةِ، نَاقِصَ التَّأْثِيرِ، عَاجِزًا عَنِ التَّدْبِيرِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْقَدْحِ فِي إِلَهِيَّتِهِ، فَظَهَرَ عَلَى قَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ أَنَّ لِلْأُفُولِ مَزِيدَ خَاصِّيَّةٍ فِي كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْقَدْحِ فِي إِلَهِيَّتِهِ واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ كَوْنَ الْكَوْكَبِ آفِلًا يَمْنَعُ مِنْ رُبُوبِيَّتِهِ. فَلِقَائِلٍ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ: أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ أُفُولُهُ دَالًّا عَلَى حُدُوثِهِ إِلَّا أَنَّ حُدُوثَهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ رَبًّا لِإِبْرَاهِيمَ وَمَعْبُودًا لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنَجِّمِينَ وَأَصْحَابَ الوسائط يَقُولُونَ إِنَّ الْإِلَهَ الْأَكْبَرَ خَلَقَ الْكَوَاكِبَ وَأَبْدَعَهَا وَأَحْدَثَهَا، ثُمَّ أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ تَخْلُقُ النَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ، فَثَبَتَ أَنَّ أُفُولَ الْكَوَاكِبِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى حُدُوثِهَا إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهَا أَرْبَابًا لِلْإِنْسَانِ وآلهة لهذا العالم. والجواب: لنا هاهنا مَقَامَانِ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّبِّ وَالْإِلَهِ الْمَوْجُودَ الَّذِي عِنْدَهُ تَنْقَطِعُ الْحَاجَاتُ، وَمَتَى ثَبَتَ بِأُفُولِ الْكَوَاكِبِ حُدُوثُهَا، وَثَبَتَ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُحْدَثًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي وُجُودِهِ مُحْتَاجًا إِلَى الْغَيْرِ.
وَجَبَ الْقَطْعُ بِاحْتِيَاجِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ فِي وُجُودِهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَمَتَى ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى امْتَنَعَ كَوْنُهَا أَرْبَابًا وَآلِهَةً.
بِمَعْنَى أَنَّهُ تَنْقَطِعُ الْحَاجَاتُ عِنْدَ وُجُودِهَا، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهَا آفِلَةً يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي كَوْنِهَا أَرْبَابًا وَآلِهَةً بِهَذَا التَّفْسِيرِ.
43
الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الرَّبِّ وَالْإِلَهِ. مَنْ يَكُونُ خَالِقًا لَنَا وَمُوجِدًا لِذَوَاتِنَا وَصِفَاتِنَا. فَنَقُولُ:
أُفُولُ الْكَوَاكِبِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا عَاجِزَةً عَنِ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِبَادَتُهَا وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ أُفُولَهَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهَا. وَحُدُوثُهَا يَدُلُّ عَلَى افْتِقَارِهَا إِلَى فَاعِلٍ قَدِيمٍ قَادِرٍ وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ قَادِرِيَّةُ ذَلِكَ الْقَادِرِ أَزَلِيَّةً. وَإِلَّا لَافْتَقَرَتْ قَادِرِيَّتُهُ إِلَى قَادِرٍ آخَرَ، وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ قَادِرِيَّتَهُ أَزَلِيَّةٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ إِنَّمَا صَحَّ كَوْنُهُ مَقْدُورًا لَهُ بِاعْتِبَارِ إِمْكَانِهِ وَالْإِمْكَانُ وَاحِدٌ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ. فَثَبَتَ أَنَّ مَا لِأَجْلِهِ صَارَ بَعْضُ الْمُمْكِنَاتِ مَقْدُورًا للَّه تَعَالَى فَهُوَ حَاصِلٌ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، فَوَجَبَ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ أَنْ تَكُونَ مَقْدُورَةً للَّه تَعَالَى.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا امْتَنَعَ وُقُوعُ شَيْءٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ بِغَيْرِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا صِحَّةَ هذه المقامات بالدلائل اليقينة فِي عِلْمِ الْأُصُولِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كَوْنَ الْكَوَاكِبِ آفِلَةً يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا مُحْدَثَةً، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَأَيْضًا فَكَوْنُهَا فِي نَفْسِهَا مُحْدَثَةً يُوجِبُ الْقَوْلَ بِامْتِنَاعِ كَوْنِهَا قَادِرَةً عَلَى الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَدَلَائِلُ الْقُرْآنِ إِنَّمَا يُذْكَرُ فِيهَا أُصُولُ الْمُقَدِّمَاتِ، فَأَمَّا التَّفْرِيعُ وَالتَّفْصِيلُ، فَذَاكَ إِنَّمَا يَلِيقُ بِعِلْمِ الْجَدَلِ. فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ عَلَى سبيل الرمز لا جرم اكتفي بذكر هما فِي بَيَانِ أَنَّ الْكَوَاكِبَ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اسْتَدَلَّ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأُفُولِهَا عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِهَا أَرْبَابًا وَآلِهَةً لِحَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أُفُولَ الْكَوَاكِبِ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهَا وَحُدُوثِهَا يَدُلُّ عَلَى افْتِقَارِهَا فِي وُجُودِهَا إِلَى الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْفَاعِلُ هُوَ الْخَالِقُ لِلْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ، وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَفْلَاكِ مِنْ دُونِ وَاسِطَةِ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ فَبِأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ أَوْلَى لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِ الشَّيْءِ الْأَعْظَمِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الشَّيْءِ الْأَضْعَفِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِرٍ: ٥٧] وَبِقَوْلِهِ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس: ٨١] فَثَبَتَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّ الْإِلَهَ الْأَكْبَرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْبَشَرِ، وَعَلَى تَدْبِيرِ الْعَالِمِ الْأَسْفَلِ بِدُونِ وَاسِطَةِ الْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ الْإِلَهِ الْأَكْبَرِ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِغَالِ بِعِبَادَةِ الشَّمْسِ وَالنُّجُومِ وَالْقَمَرِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ كَوْنُ بَعْضِ الْكَوَاكِبِ مُوجِدَةً وَخَالِقَةً، لَبَقِيَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي الْكُلِّ وَحِينَئِذٍ لَا يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ أَنَّ خَالِقَهُ هَذَا الْكَوْكَبُ. أَوْ ذَلِكَ الْآخَرُ أَوْ مَجْمُوعُ الْكَوَاكِبِ فَيَبْقَى شَاكًّا فِي مَعْرِفَةِ خَالِقِهِ. أَمَّا لَوْ عَرَفْنَا الْكُلَّ وَأَسْنَدْنَا الْخَلْقَ وَالْإِيجَادَ وَالتَّدْبِيرَ إِلَى خَالِقِ الْكُلِّ فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُنَا مَعْرِفَةُ الْخَالِقِ وَالْمُوجِدِ وَيُمْكِنُنَا الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ أُفُولَ الْكَوَاكِبِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِهَا قَدِيمَةً فَكَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِهَا آلِهَةً لِهَذَا الْعَالَمِ وَأَرْبَابًا لِلْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ. واللَّه أَعْلَمُ. فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ كَانَتْ مَسْبُوقَةً بِنَهَارٍ وَلَيْلٍ، وَكَانَ أُفُولُ الْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ حَاصِلًا فِي اللَّيْلِ السَّابِقِ وَالنَّهَارِ السَّابِقِ وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ لَا يَبْقَى لِلْأُفُولِ الْحَاصِلِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مزيد فائدة.
44
وَالْجَوَابُ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ إِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا الدَّلِيلَ عَلَى الْأَقْوَامِ الَّذِينَ كَانَ يَدْعُوهُمْ مِنْ عِبَادَةِ النُّجُومِ إِلَى التَّوْحِيدِ. فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ جَالِسًا مَعَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي وَزَجَرَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ الْكَلَامِ إِذْ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى كَوْكَبٍ مُضِيءٍ. فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوْ كَانَ هَذَا الْكَوْكَبُ إِلَهًا لَمَا انْتَقَلَ مِنَ الصُّعُودِ إِلَى الْأُفُولِ وَمِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الضَّعْفِ. ثُمَّ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الْكَلَامِ طَلَعَ الْقَمَرُ وَأَفَلَ. فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْكَلَامَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الشَّمْسِ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْضُرُنَا فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّه عليه وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: تَفَلْسَفَ الْغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَحَمَلَ الْكَوْكَبَ عَلَى النَّفْسِ النَّاطِقَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ الَّتِي لِكُلِّ كَوْكَبٍ، وَالْقَمَرَ عَلَى النَّفْسِ النَّاطِقَةِ الَّتِي لِكُلِّ فَلَكٍ، وَالشَّمْسَ عَلَى الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لِكُلِّ ذَلِكَ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سَيْنَاءَ يُفَسِّرُ الْأُفُولَ بِالْإِمْكَانِ، فَزَعَمَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِأُفُولِهَا إِمْكَانُهَا فِي نَفْسِهَا، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِأَسْرِهَا مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ، ولا بدله مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا بَأْسَ بِهِ. إِلَّا أَنَّهُ يَبْعُدُ حَمْلُ لَفْظِ الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الْكَوْكَبَ عَلَى الْحِسِّ وَالْقَمَرَ عَلَى الْخَيَالِ وَالْوَهْمِ، وَالشَّمْسَ عَلَى الْعَقْلِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْقُوَى الْمُدْرِكَةَ الثَّلَاثَةَ قَاصِرَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ، وَمُدَبِّرُ الْعَالَمِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا قَاهِرٌ لَهَا واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: دَلَّ قَوْلُهُ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ عَلَى أَحْكَامٍ:
الْحُكْمُ الْأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ إِذْ لَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ غَائِبًا عَنَّا أَبَدًا فَكَانَ آفِلًا أَبَدًا، وَأَيْضًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى يَنْزِلُ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى السَّمَاءِ تَارَةً وَيَصْعَدُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْعَرْشِ أُخْرَى، وَإِلَّا لَحَصَلَ مَعْنَى الْأُفُولِ.
الْحُكْمُ الثَّانِي هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ مَحَلًّا لِلصِّفَاتِ الْمُحْدَثَةِ كَمَا تَقُولُهُ الْكَرَامِيَّةُ، وَإِلَّا لَكَانَ مُتَغَيِّرًا، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ مَعْنَى الْأُفُولِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ.
الْحُكْمُ الثَّالِثُ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الدِّينَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الدَّلِيلِ لَا عَلَى التَّقْلِيدِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ فَائِدَةٌ ألبتة.
45
الْحُكْمُ الرَّابِعُ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَعَارِفَ الْأَنْبِيَاءِ بِرَبِّهِمِ اسْتِدْلَالِيَّةٌ لَا ضَرُورِيَّةٌ، وَإِلَّا لَمَا احْتَاجَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ.
الْحُكْمُ الْخَامِسُ تَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى تَحْصِيلِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى إِلَّا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي أَحْوَالِ مَخْلُوقَاتِهِ، إِذْ لَوْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُهَا بِطَرِيقٍ آخَرَ لَمَا عَدَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ.
فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: بَزَغَ الْقَمَرُ إِذَا ابْتَدَأَ فِي الطُّلُوعِ، وَبَزَغَتِ الشَّمْسُ إِذَا بَدَأَ مِنْهَا طُلُوعٌ. وَنُجُومٌ بِوَازِغُ.
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي الْبَزْغِ وَهُوَ الشَّقُّ كَأَنَّهُ بِنُورِهِ يَشُقُّ الظُّلْمَةَ شَقًّا، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِي الْقَمَرِ مِثْلَ مَا اعْتَبَرَ فِي الْكَوْكَبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّ قَوْلُهُ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ لَيْسَتْ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ لَفْظِ الْهِدَايَةِ عَلَى التَّمَكُّنِ وَإِزَاحَةِ الْأَعْذَارِ وَنَصْبِ الدَّلَائِلِ. لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ كَانَ حَاصِلًا، فَالْهِدَايَةُ الَّتِي كَانَ يَطْلُبُهَا بَعْدَ حُصُولِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَذْهَبِنَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَى الْعَاقِلِ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَضَافَ الْهِدَايَةَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ فِي الشَّمْسِ هَذَا مَعَ أَنَّهَا مُؤَنَّثَةٌ، وَلَمْ يَقُلْ هَذِهِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّمْسَ بِمَعْنَى الضِّيَاءِ وَالنُّورِ، فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى التَّأْوِيلِ فَذُكِرَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ، فَلَمَّا أَشْبَهَ لَفْظُهَا لفظ المذكر وكان تأويلها تأويل النور صَلَحَ التَّذْكِيرُ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ، وَثَالِثُهَا: أَرَادَ هَذَا الطَّالِعَ أَوْ هَذَا الَّذِي أَرَاهُ، وَرَابِعُهَا: الْمَقْصُودُ مِنْهُ رِعَايَةُ الْأَدَبِ، وَهُوَ تَرْكُ التَّأْنِيثِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: هَذَا أَكْبَرُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَكْبَرُ الْكَوَاكِبِ جِرْمًا وَأَقْوَاهَا قُوَّةً، فَكَانَ أَوْلَى بِالْإِلَهِيَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْأُفُولُ حَاصِلًا فِي الشَّمْسِ وَالْأُفُولُ يَمْنَعُ مِنْ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ امْتِنَاعُ صِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ لِلشَّمْسِ كَانَ امْتِنَاعُ حُصُولِهَا لِلْقَمَرِ وَلِسَائِرِ الْكَوَاكِبِ أَوْلَى. وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَظْهَرُ أَنَّ ذِكْرَ هَذَا الْكَلَامِ فِي الشَّمْسِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهِ فِي الْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ. فَلِمَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى ذِكْرِ الشَّمْسِ رِعَايَةً لِلْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ؟
قُلْنَا: إِنَّ الْأَخْذَ مِنَ الْأَدْوَنِ فَالْأَدْوَنِ، مُتَرَقِّيًا إِلَى الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى، لَهُ نَوْعُ تَأْثِيرٍ فِي التَّقْرِيرِ وَالْبَيَانِ وَالتَّأْكِيدِ لَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ ذِكْرُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى.
46
أما قوله: قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ لَا تَصْلُحُ لِلرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، لَا جَرَمَ تَبَرَّأَ مِنَ الشِّرْكِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْكَوَاكِبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا تَصْلُحُ لِلرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ نَفْيُ الشَّرِيكِ مُطْلَقًا وَإِثْبَاتُ التَّوْحِيدِ، فَلِمَ فَرَّعَ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلرُّبُوبِيَّةِ الْجَزْمُ بِإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ مُطْلَقًا.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُسَاعِدِينَ عَلَى نَفْيِ سَائِرِ الشُّرَكَاءِ وَإِنَّمَا نَازَعُوا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ فَلَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ أَرْبَابًا وَلَا آلِهَةً، وَثَبَتَ بِالِاتِّفَاقِ نَفْيُ غَيْرِهَا لَا جَرَمَ حَصَلَ الْجَزْمُ بِنَفْيِ الشُّرَكَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فَتَحَ الْيَاءَ مِنْ وَجْهِيَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَالْبَاقُونَ تَرَكُوا هَذَا الْفَتْحَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الْكَلَامُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ. بَلِ الْمُرَادُ وَجَّهْتُ عِبَادَتِي وَطَاعَتِي، وَسَبَبُ جَوَازِ هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ مَنْ كَانَ مُطِيعًا لِغَيْرِهِ مُنْقَادًا لِأَمْرِهِ، فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ بِوَجْهِهِ إِلَيْهِ، فَجُعِلَ تَوْجِيهُ الْوَجْهِ إِلَيْهِ كِنَايَةً عَنِ الطَّاعَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَفِيهِ دَقِيقَةٌ: وَهِيَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ وَجَّهَتْ وجهي إلى الذي فطر السموات وَالْأَرْضَ. بَلْ تَرَكَ هَذَا اللَّفْظَ وَذَكَرَ قَوْلَهُ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي وَالْمَعْنَى: أَنَّ تَوْجِيهَ وَجْهِ الْقَلْبِ لَيْسَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنِ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، بَلْ تَوْجِيهُ وَجْهِ الْقَلْبِ إِلَى خِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ لِأَجْلِ عُبُودِيَّتِهِ، فَتَرْكُ كَلِمَةِ «إِلَى» هُنَا وَالِاكْتِفَاءُ بِحَرْفِ اللَّامِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى كَوْنِ الْمَعْبُودِ/ مُتَعَالِيًا عَنِ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، وَمَعْنَى فَطَرَ أَخْرَجَهُمَا إِلَى الْوُجُودِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الشَّقِّ، يُقَالُ: تفطر الشجر بالورق والورد إذا أظهر هما، وَأَمَّا الْحَنِيفُ فَهُوَ الْمَائِلُ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْحَنِيفُ الَّذِي يَسْتَقْبِلُ الْبَيْتَ فِي صِلَاتِهِ، وَقِيلَ إِنَّهُ الْعَادِلُ عَنْ كُلِّ مَعْبُودٍ دُونَ اللَّه تعالى.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٨٠]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠)
[المسألة الأولى] اعْلَمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَوْرَدَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ الْمَذْكُورَةَ، فَالْقَوْمُ أَوْرَدُوا عَلَيْهِ حُجَجًا عَلَى صِحَّةِ أَقْوَالِهِمْ، مِنْهَا أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِالتَّقْلِيدِ كَقَوْلِهِمْ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزُّخْرُفِ: ٢٣] وَكَقَوْلِهِمْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: ٥] وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ خَوَّفُوهُ بِأَنَّكَ لَمَّا طَعَنْتَ فِي إِلَهِيَّةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ وَقَعْتَ مِنْ جِهَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ فِي الْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ، وَنَظِيرُهُ مَا حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَوْمِ هُودٍ: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هُودٍ: ٥٤] فَذَكَرُوا هَذَا الْجِنْسَ مِنَ الْكَلَامِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَأَجَابَ اللَّه عَنْ حُجَّتِهِمْ بِقَوْلِهِ: قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ، يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلْهِدَايَةِ وَالْيَقِينِ صِحَّةُ قَوْلِي، فَكَيْفَ يُلْتَفَتُ إِلَى حُجَّتِكُمُ الْعَلِيلَةِ، وكلماتكم الباطلة.
47
وَأَجَابَ عَنْ حُجَّتِهِمُ الثَّانِيَةِ وَهِيَ: أَنَّهُمْ خَوَّفُوهُ بِالْأَصْنَامِ بِقَوْلِهِ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ لِأَنَّ الْخَوْفَ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَالْأَصْنَامُ جَمَادَاتٌ لَا تَقْدِرُ وَلَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ الْخَوْفُ مِنْهَا؟
فَإِنْ قِيلَ: لَا شَكَّ أَنَّ لِلطَّلْسَمَاتِ آثَارًا مَخْصُوصَةً، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ الْخَوْفُ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ؟
قُلْنَا: الطَّلْسَمُ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى تَأْثِيرَاتِ الْكَوَاكِبِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ قُوَى الْكَوَاكِبِ عَلَى التَّأْثِيرَاتِ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى فَيَكُونُ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: إِلَّا أَنْ أُذْنِبَ فَيَشَاءُ إِنْزَالَ الْعُقُوبَةِ بِي. / وَثَانِيهَا: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَبْتَلِيَنِي بِمِحَنِ الدُّنْيَا فَيَقْطَعَ عَنِّي بَعْضَ عَادَاتِ نِعَمِهِ. وَثَالِثُهَا: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي فَأَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ بِأَنْ يُحْيِيَهَا وَيُمَكِّنَهَا مِنْ ضُرِّي وَنَفْعِي وَيُقَدِّرَهَا عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَيَّ، وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْدُثَ لِلْإِنْسَانِ فِي مُسْتَقْبَلِ عُمْرِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَكَارِهِ، وَالْحَمْقَى مِنَ النَّاسِ يَحْمِلُونَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ ذَلِكَ الْمَكْرُوهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ طَعَنَ فِي إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ، فَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ أَنَّهُ حَدَثَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَكَارِهِ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا السَّبَبِ.
ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً يَعْنِي أَنَّهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فَلَا يَفْعَلُ إِلَّا الصَّلَاحَ وَالْخَيْرَ وَالْحِكْمَةَ، فَبِتَقْدِيرِ: أَنْ يَحْدُثَ مِنْ مَكَارِهِ الدُّنْيَا فَذَاكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عُرِفَ وَجْهُ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ فِيهِ لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ عُقُوبَةٌ عَلَى الطَّعْنِ فِي إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ.
ثُمَّ قَالَ: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَالْمَعْنَى: أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ أَنَّ نَفْيَ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ عَنِ اللَّه تَعَالَى لَا يُوجِبُ حُلُولَ الْعِقَابِ وَنُزُولَ الْعَذَابِ، وَالسَّعْيُ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ لَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ أَتُحاجُّونِّي خَفِيفَةَ النُّونِ عَلَى حَذْفِ أَحَدِ النُّونَيْنِ وَالْبَاقُونَ عَلَى التَّشْدِيدِ على الإدغام. وأما قوله: وَقَدْ هَدانِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ هَدَانِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا لِلتَّخْفِيفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَاجَّهُمْ فِي اللَّه وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ وَالْقَوْمُ أَيْضًا حَاجُّوهُ فِي اللَّه، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى خَبَرًا عَنْهُمْ: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ فَحَصَلَ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُحَاجَّةَ فِي اللَّه تَارَةً تَكُونُ مُوجِبَةً لِلْمَدْحِ الْعَظِيمِ وَالثَّنَاءِ الْبَالِغِ، وَهِيَ الْمُحَاجَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ الْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ وَتَارَةً تَكُونُ مُوجِبَةً لِلذَّمِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَيْنِ البابين لا أَنَّ الْمُحَاجَّةَ فِي تَقْرِيرِ الدِّينِ الْحَقِّ تُوجِبُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَالْمُحَاجَّةُ فِي تَقْرِيرِ الدِّينِ الْبَاطِلِ تُوجِبُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الذَّمِّ وَالزَّجْرِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ صَارَ هَذَا قَانُونًا مُعْتَبَرًا، فَكُلُّ مَوْضِعٍ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ يَدُلُّ عَلَى تَهْجِينِ أَمْرِ الْمُحَاجَّةِ وَالْمُنَاظَرَةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَقْرِيرِ الدِّينِ الْبَاطِلِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ جَاءَ يَدُلُّ عَلَى مَدْحِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَقْرِيرِ الدِّينِ الْحَقِّ وَالْمَذْهَبِ الصِّدْقِ. واللَّه أَعْلَمُ.
48

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨١ الى ٨٢]

وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ الْجَوَابِ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَيْفَ أَخَافُ الْأَصْنَامَ الَّتِي لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَأَنْتُمْ لَا تَخَافُونَ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ. وَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً كِنَايَةٌ عَنِ امْتِنَاعِ وُجُودِ الْحُجَّةِ وَالسُّلْطَانِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٧] وَالْمُرَادُ مِنْهُ امْتِنَاعُ حُصُولِ الْبُرْهَانِ فِيهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا أَنْ يُؤْمَرَ بِاتِّخَاذِ تِلْكَ التَّمَاثِيلِ وَالصُّوَرِ قِبْلَةً لِلدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ فَقَوْلُهُ: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مَعْنَاهُ: عَدَمُ وُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ. وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ: مَا لَكُمْ تُنْكِرُونَ عَلَيَّ الْأَمْنَ فِي مَوْضِعِ الْأَمْنِ، وَلَا تُنْكِرُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمُ الْأَمْنَ فِي مَوْضِعِ الْخَوْفِ؟ وَلَمْ يَقُلْ: فَأَيُّنَا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أَنَا أَمْ أَنْتُمْ؟
احْتِرَازًا مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ يَعْنِي فَرِيقَيِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُوَحِّدِينَ. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْجَوَابَ عَنِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْمُحَاجَّةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمُ الْأَمْنُ الْمُطْلَقُ هُمُ الَّذِينَ يَكُونُونَ مُسْتَجْمِعِينَ لِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: الْإِيمَانُ وَهُوَ كَمَالُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ. وَثَانِيهِمَا: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ وَهُوَ كَمَالُ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ.
ثُمَّ قَالَ: أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ اعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهٍ وَالْمُعْتَزِلَةَ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. أَمَّا وَجْهُ تَمَسُّكِ أَصْحَابِنَا فَهُوَ أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ فِي الْإِيمَانِ الْمُوجِبِ لِلْأَمْنِ عَدَمَ الظُّلْمِ، وَلَوْ كَانَ تَرْكُ الظُّلْمِ أَحَدَ أَجْزَاءِ مُسَمَّى الْإِيمَانِ لَكَانَ هَذَا التَّقْيِيدُ عَبَثًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْفَاسِقَ مُؤْمِنٌ وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا وَجْهُ تَمَسُّكِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَا فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ فِي حُصُولِ الْأَمْنِ حُصُولَ الْأَمْرَيْنِ، الْإِيمَانِ وَعَدَمِ الظُّلْمِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْأَمْنُ لِلْفَاسِقِ وَذَلِكَ يُوجِبُ حُصُولَ الْوَعِيدِ لَهُ.
وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ الْمُرَادُ مِنَ الظُّلْمِ الشِّرْكُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عن لقمان إذ قال لابنه: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣] فالمراد هاهنا الَّذِينَ آمَنُوا باللَّه وَلَمْ يُثْبِتُوا للَّه شَرِيكًا فِي الْمَعْبُودِيَّةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي نَفْيِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، فَوَجَبَ حمل الظلم هاهنا عَلَى ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ: أَنَّ وَعِيدَ الْفَاسِقِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُعَذِّبَهُ اللَّه، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ: فَالْأَمْنُ زَائِلٌ وَالْخَوْفُ حَاصِلٌ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ الْأَمْنِ الْقِطَعُ بِحُصُولِ الْعَذَابِ؟ واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٨٣]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)
49
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى كَلَامٍ تَقَدَّمَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا لَهُ: أَمَا تَخَافُ أَنْ تَخْبِلَكَ آلِهَتُنَا لِأَجْلِ أَنَّكَ شَتَمْتَهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ:
أَفَلَا تَخَافُونَ أَنْتُمْ حيث أقدمتهم عَلَى الشِّرْكِ باللَّه وَسَوَّيْتُمْ فِي الْعِبَادَةِ بَيْنَ خَالِقِ الْعَالَمِ وَمُدَبِّرِهِ وَبَيْنَ الْخَشَبِ الْمَنْحُوتِ وَالصَّنَمِ الْمَعْمُولِ؟ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْكُلُّ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَتِلْكَ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: حُجَّتُنا خَبَرُهُ وَقَوْلُهُ: آتَيْناها إِبْراهِيمَ صِفَةٌ لِذَلِكَ الْخَبَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْحُجَّةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي عَقْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِيتَاءِ اللَّه وَبِإِظْهَارِهِ تِلْكَ الْحُجَّةَ فِي عَقْلِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى. وَيَتَأَكَّدُ هَذَا أَيْضًا بِقَوْلِهِ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ دَرَجَاتِ إِبْرَاهِيمَ بِسَبَبِ أَنَّهُ تَعَالَى آتَاهُ تِلْكَ الْحُجَّةَ، وَلَوْ كَانَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْحُجَّةِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ قِبَلِ إِبْرَاهِيمَ لَا مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى لَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي رَفَعَ دَرَجَاتِ نَفْسِهِ/ وَحِينَئِذٍ كَانَ قَوْلُهُ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بَاطِلًا. فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا صَرِيحُ قَوْلِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْحَشْوِيَّةِ فِي الطَّعْنِ فِي النَّظَرِ وَتَقْرِيرِ الْحُجَّةِ وَذِكْرِ الدَّلِيلِ. لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حُصُولَ الرِّفْعَةِ وَالْفَوْزَ بِالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، لِأَجْلِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْحُجَّةَ فِي التَّوْحِيدِ وَقَرَّرَهَا وَذَبَّ عَنْهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَرْتَبَةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ أَعْلَى وَأَشْرَفُ مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ دَرَجاتٍ بِالتَّنْوِينِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ وَالْبَاقُونَ بِالْإِضَافَةِ، فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى مَعْنَاهَا: نَرْفَعُ مَنْ نَشَاءُ دَرَجَاتٍ كَثِيرَةً، فَيَكُونُ «مَنْ» فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ. قَالَ ابْنُ مُقْسِمٍ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالرِّفْعَةِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: الْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى الدَّرَجَةِ الْوَاحِدَةِ وَعَلَى الدَّرَجَاتِ الْكَثِيرَةِ وَالتَّنْوِينُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الدَّرَجَاتِ الْكَثِيرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الدَّرَجَاتِ. قِيلَ: دَرَجَاتُ أَعْمَالِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: تِلْكَ الْحُجَجُ دَرَجَاتٌ رَفِيعَةٌ، لِأَنَّهَا تُوجِبُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ. وَقِيلَ: نَرْفَعُ مَنْ نَشَاءُ فِي الدُّنْيَا بِالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ. وَقِيلَ: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ بِالْعِلْمِ. وَاعْلَمْ أن هذه الآية من أدل الدلائل على أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ فِي الصِّفَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَفِي الْبُعْدِ عَنِ الصِّفَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِحُصُولِ هَذِهِ الرَّفْعَةِ هُوَ إِيتَاءُ تِلْكَ الْحُجَّةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ وُقُوفَ النَّفْسِ عَلَى حَقِيقَةِ تِلْكَ الْحُجَّةِ وَإِطْلَاعَهَا عَلَى إِشْرَاقِهَا اقْتَضَتِ ارْتِفَاعَ الرُّوحِ مِنْ حَضِيضِ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ، إِلَى أَعَالِي الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا رِفْعَةَ وَلَا سَعَادَةَ إِلَّا فِي الرُّوحَانِيَّاتِ. واللَّه أَعْلَمُ.
50
وَأَمَّا مَعْنَى حَكِيمٌ عَلِيمٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ يَشَاءُ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ، لَا بِمُوجِبِ الشَّهْوَةِ وَالْمُجَازَفَةِ. فَإِنَّ أَفْعَالَ اللَّه منزهة عن العبث والفساد والباطل.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٤ الى ٨٨]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَظْهَرَ حُجَّةَ اللَّه تَعَالَى فِي التَّوْحِيدِ وَنَصَرَهَا وَذَبَّ عَنْهَا عَدَّدَ وُجُوهَ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَيْهِ. فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ وَالْمُرَادُ إِنَّا نَحْنُ آتَيْنَاهُ تِلْكَ الْحُجَّةَ وَهَدَيْنَاهُ إِلَيْهَا وَأَوْقَفْنَا عَقْلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهَا. وَذَكَرَ نَفْسَهُ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْعَظَمَةِ وَهُوَ كِنَايَةُ الْجَمْعِ عَلَى وَفْقِ مَا يَقُولُهُ عُظَمَاءُ الْمُلُوكِ. فَعَلْنَا، وَقُلْنَا، وَذَكَرْنَا. ولما ذكر نفسه تعالى هاهنا بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْعَظَمَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعَظَمَةُ عَظَمَةً كَامِلَةً رَفِيعَةً شَرِيفَةً، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيتَاءَ اللَّه تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تِلْكَ الْحُجَّةَ مِنْ أَشْرَفِ النِّعَمِ، وَمِنْ أَجَلِّ مَرَاتِبِ الْعَطَايَا وَالْمَوَاهِبِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ بِالرِّفْعَةِ وَالِاتِّصَالِ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ الرَّفِيعَةِ. وَهِيَ قَوْلُهُ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ جَعَلَهُ عَزِيزًا فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أَشْرَفَ النَّاسِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ مِنْ نَسْلِهِ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَأَبْقَى هَذِهِ الْكَرَامَةَ فِي نَسْلِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ السُّرُورِ عِلْمَ الْمَرْءِ بِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ عَقِبِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُلُوكُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْدِيدُ أَنْوَاعِ نِعَمِ اللَّه عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَزَاءً عَلَى قِيَامِهِ بِالذَّبِّ عَنْ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ، فَقَالَ:
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ لِصُلْبِهِ وَيَعْقُوبَ بَعْدَهُ مِنْ إِسْحَاقَ.
فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَمْ يَذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ إِسْحَاقَ، بَلْ أَخَّرَ ذِكْرَهُ عَنْهُ بِدَرَجَاتٍ؟ قُلْنَا: لأن المقصود بالذكر هاهنا أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ بِأَسْرِهِمْ أَوْلَادُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَإِنَّهُ/ مَا خَرَجَ مِنْ صُلْبِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ، وَلَا يَجُوزُ ذِكْرُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى الْعَرَبِ فِي نَفْيِ الشِّرْكِ باللَّه بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا تَرَكَ الشِّرْكَ وَأَصَرَّ عَلَى التَّوْحِيدِ رَزَقَهُ اللَّه النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَمِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ فِي الدُّنْيَا أَنْ آتَاهُ اللَّه أَوْلَادًا كَانُوا أَنْبِيَاءً وَمُلُوكًا، فَإِذَا كَانَ الْمُحْتَجُّ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ هُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ امْتَنَعَ أَنْ يَذْكُرَ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْمَعْرِضِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لَمْ يَذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ مَعَ إِسْحَاقَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ إِبْرَاهِيمَ فِي أَشْرَفِ الْأَنْسَابِ، وذلك لأنه رزقه أولادا مثل إسحاق، وَيَعْقُوبَ. وَجَعَلَ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ نَسْلِهِمَا، وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَصْلَابِ آبَاءٍ طَاهِرِينَ مِثْلَ
51
نُوحٍ. وَإِدْرِيسَ، وَشِيثَ. فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ كَرَامَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحَسَبِ الْأَوْلَادِ وَبِحَسَبِ الْآبَاءِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ فَقِيلَ الْمُرَادُ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ نُوحًا أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ وَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَقْرَبِ وَاجِبٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي جُمْلَتِهِمْ لُوطًا وَهُوَ كَانَ ابْنَ أَخِ إِبْرَاهِيمَ وَمَا كَانَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، بَلْ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ رَسُولًا فِي زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ. الثَّالِثُ: أَنَّ وَلَدَ الْإِنْسَانِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ ذُرِّيَّتُهُ، فَعَلَى هَذَا إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، بَلْ هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الرَّابِعُ: قِيلَ إِنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ: بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى نُوحًا لِأَنَّ كَوْنَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَوْلَادِهِ أَحَدُ مُوجِبَاتِ رِفْعَةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا أَرْبَعَةً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُمْ: نوح، وإبراهيم، وإسحاق، وَيَعْقُوبَ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: دَاوُدَ، وَسُلَيْمَانَ، وَأَيُّوبَ، وَيُوسُفَ، وَمُوسَى، وَهَارُونَ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وَعِيسَى، وَإِلْيَاسَ، وَإِسْمَاعِيلَ، وَالْيَسَعَ، وَيُونُسَ، وَلُوطًا، وَالْمَجْمُوعُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ.
فَإِنْ قِيلَ: رِعَايَةُ التَّرْتِيبِ وَاجِبَةٌ، وَالتَّرْتِيبُ إِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ بِحَسَبِ الْفَضْلِ وَالدَّرَجَةِ وَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ بِحَسَبِ الزَّمَانِ وَالْمُدَّةِ، وَالتَّرْتِيبُ بِحَسَبِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَمَا السَّبَبُ فِيهِ؟
قُلْنَا: الْحَقُّ أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ، وَأَحَدُ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَطْلُوبِ هذه الآية فإن حرف الواو حاصل هاهنا مَعَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ الْبَتَّةَ، لَا بِحَسَبِ الشَّرَفِ وَلَا بِحَسَبِ الزَّمَانِ/ وَأَقُولُ عِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ التَّرْتِيبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْأَنْبِيَاءِ بِنَوْعٍ مِنَ الْإِكْرَامِ وَالْفَضْلِ.
فَمِنَ الْمَرَاتِبِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْخَلْقِ: الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ وَالْقُدْرَةُ، واللَّه تَعَالَى قَدْ أَعْطَى دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ نَصِيبًا عَظِيمًا.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَلَاءُ الشَّدِيدُ وَالْمِحْنَةُ الْعَظِيمَةُ، وَقَدْ خَصَّ اللَّه أَيُّوبَ بِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: مَنْ كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِهَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَهُوَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ نَالَ الْبَلَاءَ الشَّدِيدَ الْكَثِيرَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ وَصَلَ إِلَى الْمُلْكِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ فَضَائِلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَخَوَاصِّهِمْ قُوَّةُ الْمُعْجِزَاتِ وَكَثْرَةُ الْبَرَاهِينِ وَالْمَهَابَةُ الْعَظِيمَةُ وَالصَّوْلَةُ الشَّدِيدَةُ وَتَخْصِيصُ اللَّه تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِالتَّقْرِيبِ الْعَظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ التَّامِّ، وَذَلِكَ كَانَ فِي حَقِّ مُوسَى وَهَارُونَ.
وَالْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: الزُّهْدُ الشَّدِيدُ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الدُّنْيَا، وَتَرْكُ مُخَالَطَةِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي حَقِّ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ، وَلِهَذَا السَّبَبِ وَصَفَهُمُ اللَّه بِأَنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ.
وَالْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ أَتْبَاعٌ وَأَشْيَاعٌ، وَهُمْ إِسْمَاعِيلُ، وَالْيَسَعُ،
52
وَيُونُسُ، وَلُوطٌ. فَإِذَا اعْتَبَرْنَا هَذَا الْوَجْهَ الَّذِي رَاعَيْنَاهُ ظَهَرَ أَنَّ التَّرْتِيبَ حَاصِلٌ فِي ذِكْرِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِحَسَبِ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ تَعَالَى إِلَى مَاذَا هَدَاهُمْ؟ وَكَذَا الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَكَذَا قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ.
قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ، وَهِيَ الْهِدَايَةُ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْهِدَايَةَ قَالَ بَعْدَهَا: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْهِدَايَةَ كَانَتْ جَزَاءَ الْمُحْسِنِينَ عَلَى إِحْسَانِهِمْ وَجَزَاءُ الْمُحْسِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا الثَّوَابَ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ هُوَ الْهِدَايَةُ إِلَى الْجَنَّةِ. فَأَمَّا الْإِرْشَادُ إِلَى الدِّينِ وَتَحْصِيلُ الْمَعْرِفَةِ فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ جَزَاءً لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ هُوَ الْهِدَايَةُ إِلَى الدِّينِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَانَ جَزَاءً عَلَى الْإِحْسَانِ الصَّادِرِ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمُ اجْتَهَدُوا فِي طَلَبِ الْحَقِّ، فاللَّه تَعَالَى جَازَاهُمْ عَلَى حُسْنِ طَلَبِهِمْ بِإِيصَالِهِمْ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٩].
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ: الْإِرْشَادُ إِلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، لِأَنَّ الْهِدَايَةَ الْمَخْصُوصَةَ بِالْأَنْبِيَاءِ لَيْسَتْ إِلَّا ذَلِكَ.
فَإِنْ قَالُوا: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الرِّسَالَةُ جَزَاءً عَلَى عَمَلٍ، وَذَلِكَ عِنْدَكُمْ بَاطِلٌ.
قُلْنَا: يُحْمَلُ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ عَلَى الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ الثَّوَابُ وَالْكَرَامَةُ، فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَالَمَ اسْمٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّه تَعَالَى، فَيَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْعَالَمِ الْمَلَائِكَةُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ الْعَالَمِينَ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنَ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ الْأَوْلِيَاءِ، لِأَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ يُوجِبُ ذَلِكَ. قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ مَعْنَاهُ فَضَّلْنَاهُ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ: وَكُلًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُفَضَّلُونَ عَلَى كُلِّ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْعَالَمِينَ. ثُمَّ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّ أَيَّ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِ، كَلَامٌ وَاقِعٌ فِي نَوْعٍ آخَرَ لَا تَعْلُّقَ به بِالْأَوَّلِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَاللَّيْسَعَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ وَالْيَسَعَ بِلَامٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ فِيهِ اللَّيْسَعُ وَالْيَسَعُ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْتَسِبُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ إِلَّا بِالْأُمِّ، فَكَذَلِكَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وسلّم، وإن
53
انْتَسَبَا إِلَى رَسُولِ اللَّه بِالْأُمِّ وَجَبَ كَوْنُهُمَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْبَاقِرَ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ يُفِيدُ أَحْكَامًا كَثِيرَةً: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْآبَاءَ وَالذُّرِّيَّاتِ وَالْإِخْوَانَ، فَالْآبَاءُ هُمُ الْأُصُولُ، وَالذُّرِّيَّاتُ هُمُ الْفُرُوعُ، وَالْإِخْوَانُ فُرُوعُ الْأُصُولِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ كُلَّ مَنْ تَعَلَّقَ بِهَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ بِنَوْعٍ مِنَ الشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمِنْ آبائِهِمْ وَكَلِمَةُ «مِنْ» لِلتَّبْعِيضِ.
فَإِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْهِدَايَةِ الْهِدَايَةُ إِلَى الثَّوَابِ وَالْجَنَّةِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي آبَاءِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ كَانَ غَيْرَ مُؤْمِنٍ وَلَا وَاصِلٍ إِلَى الْجَنَّةِ. أَمَّا لَوْ قُلْنَا: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ النُّبُوَّةُ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا هذه الهداية بالنبوة كان/ قوله: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ كَوْنِ الْإِنْسَانِ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّه أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: وَاجْتَبَيْناهُمْ يُفِيدُ النُّبُوَّةَ، لِأَنَّ الِاجْتِبَاءَ إِذَا ذُكِرَ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا الْحَمْلُ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْهُدَى هُوَ مَعْرِفَةُ التَّوْحِيدِ وَتَنْزِيهُ اللَّه تَعَالَى عَنِ الشِّرْكِ، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: ٨٨] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْهُدَى مَا يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الْأَمْرِ الْمُضَادِّ لِلشِّرْكِ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْهُدَى مَعْرِفَةُ اللَّه بِوَحْدَانِيَّتِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْهُدَى مِنَ اللَّه تَعَالَى، ثَبَتَ أن الإيمان لا يحصل إلا يخلق اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِنَفْيِ الشِّرْكِ فَقَالَ: وَلَوْ أَشْرَكُوا وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ طَاعَاتُهُمْ وَعِبَادَاتُهُمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَقْرِيرُ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالُ طَرِيقَةِ الشِّرْكِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ الْإِحْبَاطِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِعَادَةِ. واللَّه أَعْلَمُ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٨٩]
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ مَضَى ذِكْرُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ آتَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الْمُغَايِرَةَ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَدُلَّ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ مُتَغَايِرَةٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكَّامَ عَلَى الْخَلْقِ ثَلَاثُ طَوَائِفَ: أَحَدُهَا: الَّذِينَ يَحْكُمُونَ عَلَى بَوَاطِنِ النَّاسِ وَعَلَى أَرْوَاحِهِمْ، وَهُمُ الْعُلَمَاءُ. وَثَانِيهَا: الَّذِينَ يَحْكُمُونَ عَلَى ظَوَاهِرِ الْخَلْقِ، وَهُمُ السَّلَاطِينُ يَحْكُمُونَ عَلَى النَّاسِ بِالْقَهْرِ وَالسَّلْطَنَةِ، وَثَالِثُهَا: الْأَنْبِيَاءُ، وَهُمُ الَّذِينَ أَعْطَاهُمُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ مَا لِأَجْلِهِ بِهَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي بَوَاطِنِ الْخَلْقِ وَأَرْوَاحِهِمْ، وَأَيْضًا أَعْطَاهُمْ مِنَ القدرة والممكنة مَا لِأَجْلِهِ/ يَقْدِرُونَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي
54
ظَوَاهِرِ الْخَلْقِ، وَلَمَّا اسْتَجْمَعُوا هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لَا جَرَمَ كَانُوا هُمُ الْحُكَّامَ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَقَوْلُهُ: آتَيْناهُمُ الْكِتابَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُمُ الْعَلَمَ الْكَثِيرَ وَقَوْلُهُ:
وَالْحُكْمَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ حُكَّامًا عَلَى النَّاسِ نَافِذِي الْحُكْمِ فِيهِمْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ. وَقَوْلُهُ:
وَالنُّبُوَّةَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الْعَالِيَةُ الرَّفِيعَةُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي يَتَفَرَّعُ عَلَى حُصُولِهَا حُصُولُ الْمُرَتَّبَتَيْنِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَلِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ تَفْسِيرَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْإِيتَاءِ الِابْتِدَاءَ بِالْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ عَلَيْهِ كَمَا فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَتَوْرَاةِ مُوسَى، وَإِنْجِيلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وقرآن محمد صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّه تَعَالَى فَهْمًا تَامًّا لِمَا فِي الْكِتَابِ وَعِلْمًا مُحِيطًا بِحَقَائِقِهِ وَأَسْرَارِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى. لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الْمَذْكُورِينَ مَا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كتابا إليها على التعيين والتخصيص.
[فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ وَالْمُرَادُ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَذَا التَّوْحِيدِ وَالطَّعْنِ فِي الشِّرْكِ كَفَّارُ قُرَيْشٍ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْمَ مَنْ هُمْ؟ عَلَى وُجُوهٍ، فَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَهُمُ الْأَنْصَارُ، وَقِيلَ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ:
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وَقَالَ أَبُو رَجَاءٍ:
يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّ اسْمَ الْقَوْمِ قَلَّمَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِ بَنِي آدَمَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُمُ الْفُرْسُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كُلُّ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ فَهُوَ مِنْهُمْ سَوَاءٌ كَانَ مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا أَوْ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ مِنَ التَّابِعِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ يَدُلُّ عَلَى أنه إنما خلقهم للإيمان.
وأما غير هم فَهُوَ تَعَالَى مَا خَلَقَهُمْ لِلْإِيمَانِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ الْكُلَّ لِلْإِيمَانِ كَانَ الْبَيَانُ وَالتَّمْكِينُ وَفِعْلُ الْأَلْطَافِ مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَغَيْرِ الْمُؤْمِنِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ: فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ مَعْنًى!.
وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى زَادَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ إِيمَانِهِمْ وَبَعْدَهُ مِنْ أَلْطَافِهِ وَفَوَائِدِهِ وَشَرِيفِ أَحْكَامِهِ مَا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّه، وَذَكَرَ فِي الْجَوَابِ وَجْهًا ثَانِيًا، فَقَالَ: / وَبِتَقْدِيرِ: أَنْ يُسَوِّيَ لَكَانَ بَعْضُهُمْ إِذَا قَصَّرَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ صَحَّ أَنْ يُقَالَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ أن لَمْ يَحْصُلْ لَهُ نِعَمُ اللَّه كَالْوَالِدِ الَّذِي يُسَوِّي بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ فِي الْعَطِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَعْطَى أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْآخَرُ ضَيَّعَهُ وَأَفْسَدَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْأَلْطَافَ الدَّاعِيَةَ إِلَى الْإِيمَانِ مُشْتَرَكَةٌ فِيمَا بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ وَالتَّخْصِيصُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَالثَّانِي: أَيْضًا فَاسِدٌ. لِأَنَّ الْوَالِدَ لَمَّا سَوَّى بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ فِي الْعَطِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ أَحَدَهُمَا ضَيَّعَ نَصِيبَهُ، فَأَيُّ عَاقِلٍ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْأَبَ مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَمَا أَعْطَاهُ شَيْئًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى سَيَنْصُرُ نَبِيَّهُ وَيُقَوِّي دِينَهُ، وَيَجْعَلُهُ مُسْتَعْلِيًا عَلَى كُلِّ مَنْ عَادَاهُ، قَاهِرًا لِكُلِّ مَنْ نَازَعَهُ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الَّذِي أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَكَانَ هَذَا جَارِيًا مَجْرَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ، فَيَكُونُ مُعْجِزًا. واللَّه أعلم.
55

[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٠]

أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ هم الذين تقدم ذكر هم مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ أَمْرٌ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَعْيِينِ الشَّيْءِ الَّذِي أَمَرَ اللَّه مُحَمَّدًا أَنْ يَقْتَدِيَ فِيهِ بِهِمْ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَقْتَدِي بِهِمْ فِي الْأَمْرِ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَسَائِرِ الْعَقْلِيَّاتِ، وَقَالَ آخَرُونَ:
الْمُرَادُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالصِّفَاتِ الرَّفِيعَةِ الْكَامِلَةِ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى السُّفَهَاءِ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي شَرَائِعِهِمْ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا يَلْزَمُنَا، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ الْأَنْبِيَاءَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَرِزِينَ عَنِ الشِّرْكِ مُجَاهِدِينَ بِإِبْطَالِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: ٨٨] ثم أكد/ إصرار هم عَلَى التَّوْحِيدِ وَإِنْكَارَهُمْ لِلشِّرْكِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ.
ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أَيْ هَدَاهُمْ إِلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ أَيِ اقْتَدِ بِهِمْ فِي نَفْيِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَتَحَمُّلِ سَفَاهَاتِ الْجُهَّالِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ آخَرُونَ:
اللَّفْظُ مُطْلَقٌ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكُلِّ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ الْمُنْفَصِلُ. قَالَ الْقَاضِي: يَبْعُدُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ بِمُتَابَعَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي شَرَائِعِهِمْ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ شَرَائِعَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ فَلَا يَصِحُّ مَعَ تَنَاقُضِهَا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْمُتَنَاقِضَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْهُدَى عِبَارَةٌ عَنِ الدَّلِيلِ دُونَ نَفْسِ الْعَمَلِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: دَلِيلُ ثَبَاتِ شَرْعِهِمْ كَانَ مَخْصُوصًا بِتِلْكَ الْأَوْقَاتِ لَا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ. فَكَانَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْهُدَى هُوَ أَنْ يَعْلَمَ وُجُوبَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ فَقَطْ، وَكَيْفَ يَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ فِي شَرَائِعِهِمْ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كَوْنَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُتَّبِعًا لَهُمْ فِي شَرَائِعِهِمْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْصِبُهُ أَقَلَّ مِنْ مَنْصِبِهِمْ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي شَرَائِعِهِمْ.
والجواب عن الأول: أنه قَوْلَهُ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ يَتَنَاوَلُ الْكُلُّ. فَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ كَوْنِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ مُتَنَاقِضَةً بِحَسَبِ شَرَائِعِهِمْ. فَنَقُولُ: ذَلِكَ الْعَامُّ يَجِبُ تَخْصِيصُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهَا حُجَّةً.
وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يَسْتَدِلَّ بِالدَّلِيلِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُتَابَعَةً، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا اسْتَدَلُّوا بِحُدُوثِ الْعَالَمِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ لَا يُقَالُ: إِنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْيَهُودِ
56
وَالنَّصَارَى فِي هَذَا الْبَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ بِالدَّلِيلِ يَكُونُ أَصِيلًا فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَنْ قَبْلَهُ الْبَتَّةَ، وَالِاقْتِدَاءُ وَالِاتِّبَاعُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ فِعْلُ الْأَوَّلِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْفِعْلِ عَلَى الثَّانِي، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَسْقُطُ السُّؤَالُ.
وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الرَّسُولَ بِالِاقْتِدَاءِ بِجَمِيعِهِمْ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ وَالْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ أَقَلَّ مَرْتَبَةً مِنْهُمْ، بَلْ يُوجِبُ كَوْنَهُ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنَ الْكُلِّ عَلَى مَا سَيَجِيءُ تَقْرِيرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا يَلْزَمُنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ رَسُولَنَا صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتَقْرِيرُهُ: هُوَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ خِصَالَ الْكَمَالِ، وَصِفَاتَ الشَّرَفِ كَانَتْ مُفَرَّقَةً فِيهِمْ/ بِأَجْمَعِهِمْ، فَدَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ كَانَا مِنْ أَصْحَابِ الشُّكْرِ عَلَى النِّعْمَةِ، وَأَيُّوبُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ وَيُوسُفُ كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِهَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ.
وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ الْقَوِيَّةِ الْقَاهِرَةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وَعِيسَى، وَإِلْيَاسُ، كَانُوا أَصْحَابَ الزُّهْدِ، وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ صَاحِبَ الصِّدْقِ، وَيُونُسُ صَاحِبُ التَّضَرُّعِ، فَثَبَتَ إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ كَانَ خَصْلَةً مُعَيَّنَةً مِنْ خِصَالِ الْمَدْحِ وَالشَّرَفِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْكُلَّ أَمَرَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ بِأَسْرِهِمْ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ مُحَمَّدًا صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَنْ يَجْمَعَ مِنْ خِصَالِ الْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَةِ كُلَّ الصِّفَاتِ الَّتِي كَانَتْ مُفَرَّقَةً فِيهِمْ بِأَجْمَعِهِمْ وَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ، امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَصَّرَ فِي تَحْصِيلِهَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَصَّلَهَا، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، ثَبَتَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ مَا كَانَ مُتَفَرِّقًا فِيهِمْ بِأَسْرِهِمْ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُمْ بِكُلِّيَّتِهِمْ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَوْلُهُ: هَدَى اللَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَخْصُوصُونَ بِالْهُدَى، لِأَنَّهُ لَوْ هَدَى جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَائِدَةُ تَخْصِيصٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الِاقْتِدَاءُ فِي اللُّغَةِ إِتْيَانُ الثَّانِي بِمِثْلِ فِعْلِ الْأَوَّلِ لِأَجْلِ أَنَّهُ فَعَلَهُ. رَوَى اللِّحْيَانِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُقَالُ لِي بِكَ قُدْوَةٌ وَقِدْوَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قال الواحدي: قرأ ابن عامر اقتداه بِكَسْرِ الدَّالِ وَبِشَمِّ الْهَاءِ لِلْكَسْرِ مِنْ غَيْرِ بُلُوغِ يَاءٍ، وَالْبَاقُونَ اقْتَدِهْ سَاكِنَةَ الْهَاءِ، غَيْرُ أَنَّ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ يَحْذِفَانِهَا فِي الْوَصْلِ وَيُثْبِتَانِهَا فِي الْوَقْفِ، وَالْبَاقُونَ يُثَبِّتُونَهَا فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْوَجْهُ الْإِثْبَاتُ فِي الْوَقْفِ وَالْحَذْفُ فِي الْوَصْلِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْهَاءَ هَاءٌ وَقَعَتْ فِي السَّكْتِ بِمَنْزِلَةِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَاءَ لِلْوَقْفِ، كَمَا أَنَّ هَمْزَةَ الْوَصْلِ لِلِابْتِدَاءِ بِالسَّاكِنِ، فَكَمَا لَا تَثْبُتُ الْهَمْزَةُ حَالَ الْوَصْلِ، كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَثْبُتَ الْهَاءُ إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَثْبَتُوا رَامُوا مُوَافِقَةَ الْمُصْحَفِ، فَإِنَّ الْهَاءَ ثَابِتَةٌ فِي الْخَطِّ فَكَرِهُوا مُخَالَفَةَ الْخَطِّ فِي حَالَتَيِ الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ فَأَثْبَتُوا. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمُجَاهِدٌ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْهَاءَ هَاءُ وَقَفٍ، فَلَا تُعْرَبُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا تُذْكَرُ لِيَظْهَرَ بِهَا حَرَكَةُ مَا قَبْلَهَا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَيْسَ بِغَلَطٍ، وَوَجْهُهَا أَنْ
57
تَجْعَلَ الْهَاءَ كِنَايَةً عَنِ الْمَصْدَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِ الِاقْتِدَاءَ، فَيُضْمَرُ الِاقْتِدَاءُ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، وَقِيَاسُهُ إِذَا وَقَفَ أَنْ تُسَكَّنَ الْهَاءُ، لِأَنَّ هَاءَ الضَّمِيرِ تُسَكَّنُ فِي الْوَقْفِ، كَمَا تَقُولُ: اشْتَرِهْ. واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهُدَى الْأَنْبِيَاءِ/ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ هُدَاهُمْ تَرْكُ طَلَبِ الْأَجْرِ فِي إِيصَالِ الدِّينِ وَإِبْلَاغِ الشَّرِيعَةِ. لَا جَرَمَ اقتدى بهم في ذلك، فقال: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً وَلَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ مَالًا وَلَا جعلا إِنْ هُوَ يعني القر إن إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ يُرِيدُ كَوْنَهُ مُشْتَمِلًا عَلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ وَقَوْلُهُ: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ يَدُلُّ على أنه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مَبْعُوثٌ إِلَى كُلِّ أَهْلِ الدُّنْيَا لَا إلى قوم دون قوم. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩١]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى] اعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مَدَارَ أَمْرِ الْقُرْآنِ عَلَى إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ. وَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ ذَكَرَ دَلِيلَ التَّوْحِيدِ، وَإِبْطَالَ الشِّرْكِ، وَقَرَّرَ تَعَالَى ذَلِكَ الدَّلِيلَ بِالْوُجُوهِ الْوَاضِحَةِ شَرَعَ بَعْدَهُ فِي تَقْرِيرِ أَمْرِ النُّبُوَّةِ، فَقَالَ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حَيْثُ أَنْكَرُوا النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ، فَهَذَا بَيَانُ وَجْهِ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَنَّهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وُجُوهٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا عَظَّمُوا اللَّه حَقَّ تَعْظِيمِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ مَعْنَاهُ: مَا آمَنُوا أَنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ. مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَحَقَّقَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه ذَلِكَ، فَقَالَ يُقَالُ:
قَدَّرَ الشَّيْءَ إِذَا سَبَرَهُ وَحَرَّرَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ مِقْدَارَهُ يُقَدِّرُهُ بِالضَّمِّ قَدْرًا وَمِنْهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَإِنَّ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»
أَيْ فَاطْلُبُوا أَنْ تَعْرِفُوهُ هَذَا أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ قَالَ يُقَالُ لِمَنْ عَرَفَ شَيْئًا هُوَ يُقَدِّرُ قَدْرَهُ، وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ بِصِفَاتِهِ أَنَّهُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ، فَقَوْلُهُ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ صَحِيحٌ فِي كُلِّ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ بَيَّنَ السَّبَبَ فِيهِ، وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَنْكَرَ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا عَرَفَ اللَّه حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ مُنْكِرَ الْبِعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ إِمَّا أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى مَا كَلَّفَ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ تَكْلِيفًا أَصْلًا، أَوْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَهُمُ التَّكَالِيفَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُمْ جَمِيعَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْقَبَائِحِ نَحْوَ شَتْمِ اللَّه، وَوَصْفِهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَأَهْلِ الدِّينِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ شُكْرِ النِّعَمِ، وَمُقَابَلَةِ الْإِنْعَامِ بِالْإِسَاءَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. وَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَ الْخَلْقَ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، فَهَهُنَا لَا بُدَّ
58
مِنْ مُبَلِّغٍ وَشَارِعٍ وَمُبَيِّنٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا الرَّسُولُ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْعَقْلُ كَافٍ فِي إِيجَابِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُقَبَّحَاتِ؟
قُلْنَا: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قُلْتُمْ. إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ تَأْكِيدُ التَّعْرِيفِ الْعَقْلِيِّ بِالتَّعْرِيفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَنَعَ الْبَعْثَةَ وَالرِّسَالَةَ فَقَدْ طَعَنَ فِي حِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى. وَكَانَ ذَلِكَ جَهْلًا بِصِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ يَصْدُقُ فِي حَقِّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ يَمْتَنِعُ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ إِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى وَفْقِ دَعَوَاهُ تَصْدِيقًا لَهُ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ لَهُمْ مَقَامَانِ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَقُولُوا إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ خَرْقُ الْعَادَاتِ وَلَا إِيجَادُ شَيْءٍ عَلَى خِلَافِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ.
وَالْمَقَامُ الثَّانِي: الَّذِينَ يُسَلِّمُونَ إِمْكَانَ ذَلِكَ. إِلَّا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ بِتَقْدِيرِ حُصُولِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى صِدْقِ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى.
أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ. وَثَبَتَ أَنَّ مَا يَحْتَمِلُهُ الشَّيْءُ وَجَبَ أَنْ يَحْتَمِلَهُ مَثَلُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جِرْمُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ قَابِلًا لِلتَّمَزُّقِ وَالتَّفَرُّقِ.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِلَهَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ وَصْفًا لَهُ بِالْعَجْزِ وَنُقْصَانِ الْقُدْرَةِ، وَحِينَئِذٍ يَصْدُقُ فِي حَقِّ هَذَا الْقَائِلِ: أَنَّهُ مَا قَدَرَ اللَّه حَقَّ قَدْرِهِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ، وَلَا حُصُولُ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ.
وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ عِنْدَ دَعْوَى مُدَّعِي النُّبُوَّةِ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِمْ، فَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرٌ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَنْكَرَ إِمْكَانَ الْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ، فَقَدْ وَصَفَ اللَّه بِالْعَجْزِ وَنُقْصَانِ الْقُدْرَةِ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ مَا قَدَرَ اللَّه حَقَّ قَدْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ حُدُوثُ الْعَالَمِ، فَنَقُولُ: حُدُوثُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ قَادِرٌ عَالِمٌ حَكِيمٌ، وَأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَبِيدُهُ وَهُوَ مَالِكٌ لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَلِكٌ لَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْمَلِكُ الْمُطَاعُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَتَكْلِيفٌ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ وَعْدٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَوَعِيدٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ وَلَا يَكْمُلُ إِلَّا بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، فَكُلُّ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَدْ طَعَنَ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى مَلِكًا مُطَاعًا، وَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَهُوَ مَا قَدَرَ اللَّه حَقَّ قَدْرِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ مَا قَدَرَ اللَّه حَقَّ قَدْرِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَحْثٌ صَعْبٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَكَى اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ أَوْ يُقَالُ إِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِبْطَالُ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى وَذَلِكَ لِأَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَالْبَرَاهِمَةَ كَمَا يُنْكِرُونَ رسالة محمد صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فَكَذَلِكَ يُنْكِرُونَ رِسَالَةَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَكَيْفَ يُحْسِنُ إِيرَادُ هَذَا
59
الْإِلْزَامِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَهَذَا أَيْضًا صَعْبٌ مُشْكِلٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَكَيْفَ يَقُولُونَهُ مَعَ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابٌ أَنْزَلَهُ اللَّه عَلَى مُوسَى، وَالْإِنْجِيلَ:
كِتَابٌ أَنْزَلَهُ اللَّه عَلَى عِيسَى، وَأَيْضًا فَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَالْمُنَاظَرَاتُ الَّتِي وَقَعَتْ بين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ، وَبَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كُلُّهَا مَدَنِيَّةٌ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهَا، فَهَذَا تَقْرِيرُ الْإِشْكَالِ الْقَائِمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَقِّ الْيَهُودِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ مَالِكَ بْنَ الصَّيْفِ كَانَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَكَانَ رَجُلًا سَمِينًا فَدَخَلَ على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «أَنْشُدُكَ اللَّه الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَجِدُ فِيهَا إِنَّ اللَّه يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ وَأَنْتَ الْحَبْرُ السَّمِينُ وَقَدْ سَمِنْتَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُطْعِمُكَ الْيَهُودُ» فَضَحِكَ الْقَوْمُ، فَغَضِبَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ: وَيْلُكَ مَا هَذَا الَّذِي بَلَغَنَا عَنْكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ أَغْضَبَنِي، / ثُمَّ إِنَّ الْيَهُودَ لِأَجْلِ هَذَا الْكَلَامِ عَزَلُوهُ عن رئاستهم، وَجَعَلُوا مَكَانَهُ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ،
فَهَذَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيهَا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَتَقَيَّدُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الدَّارِ فَغَضِبَ الزَّوْجُ، وَقَالَ: إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ.
قَالُوا: اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا إِلَّا أَنَّهُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ ليتقيد لتلك المرة فكذا هاهنا قوله: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ، إِلَّا أَنَّهُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ يَتَقَيَّدُ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَكَانَ قَوْلُهُ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ مُرَادَهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فِي أَنَّهُ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ، وَإِذَا صَارَ هَذَا الْمُطْلَقُ مَحْمُولًا عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى مُبْطِلًا لِكَلَامِهِ، فَهَذَا أَحَدُ السُّؤَالَاتِ:
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ مَالِكَ بْنَ الصَّيْفِ كَانَ مُفْتَخِرًا بِكَوْنِهِ يهوديا متظاهرا بذلك ومع هذا المذهب الْبَتَّةَ أَنْ يَقُولَ مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْغَضَبِ الْمُدْهِشِ لِلْعَقْلِ أَوْ عَلَى سَبِيلٍ لَا يُمْكِنُهُ طُغْيَانُ اللِّسَانِ، وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَلِيقُ باللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنْزَالُ الْقُرْآنِ الْبَاقِي عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ فِي إِبْطَالِهِ.
وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَكْثَرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَأَنَّهَا أُنْزِلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَمُنَاظَرَاتُ الْيَهُودِ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَتْ مَدَنِيَّةً، فَكَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تِلْكَ الْمُنَاظَرَةِ؟ وَأَيْضًا لَمَّا نَزَلَتِ السُّورَةُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ الْمُعَيَّنَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْوَاقِعَةِ الْفُلَانِيَّةِ؟ فَهَذِهِ هِيَ السُّؤَالَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ مَالِكَ بْنَ الصَّيْفِ لَمَّا تَأَذَّى مِنْ هَذَا الْكَلَامِ طَعَنَ فِي نُبُوَّةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْكَ شَيْئًا الْبَتَّةَ، وَلَسْتَ رَسُولًا مِنْ قِبَلِ اللَّه الْبَتَّةَ، فَعِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنَّكَ لَمَّا سَلَّمْتَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَعِنْدَ هَذَا لَا يُمْكِنُكَ الْإِصْرَارُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَنْزَلَ عَلَيَّ شَيْئًا لِأَنِّي بَشَرٌ وَمُوسَى بَشَرٌ أَيْضًا، فَلَمَّا سَلَّمْتَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ عَلَى بَشَرٍ امْتَنَعَ عَلَيْكَ أَنْ تَقْطَعَ وَتَجْزِمَ بِأَنَّهُ مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيَّ شَيْئًا، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانَ أَنَّ الَّذِي ادَّعَاهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمُمْتَنِعَاتِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْخَصْمِ الْيَهُودِيِّ أَنْ
60
يُصِرَّ عَلَى إِنْكَارِهِ، بَلْ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْمُعْجِزِ فَإِنْ أَتَى بِهِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِلَّا فَلَا فَإِمَّا أَنْ يُصِرَّ الْيَهُودِيُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ شَيْئًا الْبَتَّةَ مَعَ أَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى، فَذَاكَ/ مَحْضُ الْجَهَالَةِ وَالتَّقْلِيدِ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالَيْنِ الْأَوَّلِينَ.
فَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ وَنَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَمْنَعُ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مُنَاظَرَةُ الْيَهُودِيِّ.
قُلْنَا: الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالُوا: السُّورَةُ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ وَنَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، فَهَذَا مُنْتَهَى الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ أَعْنِي مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قَوْمٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ.
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: كُفَّارُ قُرَيْشٍ يُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِلْزَامُ نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِمْ؟ وَأَيْضًا فَمَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَلِيقُ بِكَفَّارِ قُرَيْشٍ، وَإِنَّمَا يَلِيقُ بِالْيَهُودِ وَهُوَ قَوْلُهُ: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ [الأنعام: ٩١] فَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْيَهُودِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ خِطَابٌ مَعَ الْكُفَّارِ، وَآخِرَهَا خِطَابٌ مَعَ الْيَهُودِ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَفْكِيكَ نَظْمِ الْآيَةِ وَفَسَادَ تَرْكِيبِهَا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِأَحْسَنِ الْكَلَامِ فَضْلًا عَنْ كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَهَذَا تَقْرِيرُ الْإِشْكَالِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.
أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: فَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ كَفَّارَ قُرَيْشٍ كَانُوا مُخْتَلِطِينَ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكَانُوا قَدْ سَمِعُوا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ ظُهُورَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلَ انْقِلَابِ الْعَصَا ثُعْبَانًا، وَفَلْقِ الْبَحْرِ وَإِظْلَالِ الْجَبَلِ وَغَيْرِهَا وَالْكَفَّارُ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ وَكَانُوا يَقُولُونَ لَوْ جئتنا بأمثال هذه المعجزات لا منا بِكَ، فَكَانَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ جَارِيًا مَجْرَى مَا يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرَافَ بِنُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ إِيرَادُ نُبُوَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلْزَامًا عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَجَوَابُهُ: أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، لَمَّا كَانُوا مُتَشَارِكِينَ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ وَارِدًا عَلَى سَبِيلِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ خِطَابًا مَعَ كُفَّارِ مَكَّةَ وَبَقِيَّتُهُ يَكُونُ خِطَابًا مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَهَذَا مَا يَحْضُرُنَا فِي هَذَا الْبَحْثِ الصَّعْبِ، وباللَّه التَّوْفِيقُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ عُقُولَ الْخَلْقِ لَا تَصِلُ إِلَى كُنْهِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى الْبَتَّةَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَثِيرَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ يَحْتَجُّونَ عَلَى صِحَّتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أَيْ وَمَا عَرَفُوا اللَّه حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِعِيدٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي الْقُرْآنِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، وَكُلُّهَا وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ فَهَهُنَا وَرَدَ فِي حَقِّ الْيَهُودِ أَوْ كُفَّارِ مَكَّةَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ فَائِدَةٌ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحْكَامٌ.
61
الْحُكْمُ الْأَوَّلُ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّ قوله: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَلَوْ لَمْ تُفِدِ الْعُمُومَ لَمَا كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى إِبْطَالًا لَهُ، وَنَقْضًا عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَفَسَدَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا، ثَبَتَ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْحُكْمُ الثَّانِي النَّقْضُ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَقَضَ قولهم: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ بِقَوْلِهِ:
قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى فَلَوْ لَمْ يَدُلَ النَّقْضُ عَلَى فَسَادِ الْكَلَامِ لَمَا كَانَتْ حُجَّةُ اللَّه مُفِيدَةً لِهَذَا الْمَطْلُوبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إِبْدَاءُ الْفَارِقِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ كون النقض مُبْطِلًا ضَعِيفٌ، إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَسَقَطَتْ حُجَّةُ اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَأَنَّ الْيَهُودِيَّ كَانَ يَقُولُ مُعْجِزَاتُ مُوسَى أَظْهَرُ، وَأَبْهَرُ مِنْ مُعْجِزَاتِكَ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ هُنَاكَ إِثْبَاتُهَا هُنَا، وَلَوْ كَانَ الْفَرْقُ مَقْبُولًا لَسَقَطَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ، وَحَيْثُ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِسُقُوطِهَا عَلِمْنَا أَنَّ النَّقْضَ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُبْطِلٌ واللَّه أَعْلَمُ.
الْحُكْمُ الثَّالِثُ تَفَلْسَفَ الْغَزَالِيُّ فَزَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشَّكْلِ الثَّانِي مِنَ الْأَشْكَالِ الْمَنْطِقِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ مُوسَى أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ شَيْئًا وَأَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِ شَيْئًا يَنْتِجُ مِنَ الشَّكْلِ الثَّانِي: أَنَّ مُوسَى مَا كَانَ مِنَ الْبَشَرِ، وَهَذَا خُلْفٌ مُحَالٌ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الِاسْتِحَالَةُ بِحَسَبِ شَكْلِ الْقِيَاسِ، وَلَا بِحَسَبِ صِحَّةِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ لَزِمَ مِنْ فَرْضِ صِحَّةِ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهَا كَاذِبَةً، فَثَبَتَ أَنَّ دَلَالَةَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، إِنَّمَا تَصِحُّ عِنْدَ الِاعْتِرَافِ بِصِحَّةِ الشَّكْلِ الثَّانِي مِنَ الْأَشْكَالِ الْمَنْطِقِيَّةِ، وَعِنْدَ الِاعْتِرَافِ بِصِحَّةِ قِيَاسِ الخلف. واللَّه أعلم.
[قوله تعالى نُوراً وَهُدىً إلى قوله مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى وَصَفَ بَعْدَهُ كِتَابَ مُوسَى بِالصِّفَاتِ.
فَالصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُ نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ نُورًا تَشْبِيهًا لَهُ بِالنُّورِ الَّذِي بِهِ يُبَيِّنُ الطَّرِيقَ.
فَإِنْ قَالُوا: فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَبْقَى بَيْنَ كَوْنِهِ نُورًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ هُدًى لِلنَّاسِ فَرْقٌ، وَعَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ يُوجِبُ التَّغَايُرَ.
قُلْنَا: النُّورُ لَهُ صِفَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: كَوْنُهُ فِي نَفْسِهِ ظَاهِرًا جَلِيًّا، وَالثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَكُونُ سببا لظهور
62
غَيْرِهِ، فَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ نُورًا وَهُدًى هَذَانِ الْأَمْرَانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ أَيْضًا بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فِي آيَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وفيه مسائل:
المسألة الأول: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ يَجْعَلُونَهُ عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ، وَكَذَلِكَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ غَائِبُونَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فَلَمَّا وَرَدَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عَلَى لَفْظِ الْمُغَايَبَةِ، فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْبَوَاقِي، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، فَالتَّقْدِيرُ: قُلْ لَهُمْ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَاءَ عَلَى الْخِطَابِ، فَكَذَلِكَ مَا قَبْلَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَوْلُهُ: يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ أَيْ يَجْعَلُونَهُ ذَاتَ قَرَاطِيسَ. أَيْ يُودِعُونَهُ إِيَّاهَا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ كُلَّ كِتَابٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُودَعَ فِي الْقَرَاطِيسِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي كُلِّ الْكُتُبِ، فَمَا السَّبَبُ، فِي أَنْ حَكَى اللَّه تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ.
قُلْنَا: الذَّمُّ لَمْ يَقَعْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَطْ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوهُ قَرَاطِيسَ، وَفَرَّقُوهُ وَبَعَّضُوهُ، لَا جَرَمَ قَدَرُوا عَلَى إِبْدَاءِ الْبَعْضِ، وَإِخْفَاءِ الْبَعْضِ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ أَنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابٌ وَصَلَ إِلَى أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَعَرَفَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَفِظُوهُ، وَمِثْلُ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُمْكِنُ إِدْخَالُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَوْ أَرَادَ إِدْخَالَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي التَّوْرَاةِ.
قُلْنَا: قَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّحْرِيفِ تَفْسِيرُ آيَاتِ التَّوْرَاةِ بِالْوُجُوهِ الْبَاطِلَةِ الْفَاسِدَةِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُبْطِلُونَ فِي زَمَانِنَا هَذَا بِآيَاتِ الْقُرْآنِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ حَصَلَ فِي التَّوْرَاةِ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. إِلَّا أَنَّهَا قَلِيلَةٌ، وَالْقَوْمُ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ التَّوْرَاةِ إِلَّا تِلْكَ الْآيَاتِ، فَلِمَ قَالَ: وَيُخْفُونَ كَثِيرًا.
قُلْنَا: الْقَوْمُ كَمَا يُخْفُونَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَذَلِكَ يُخْفُونَ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْأَحْكَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ حَاوَلُوا عَلَى إِخْفَاءِ الْآيَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قوله: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّ التَّوْرَاةَ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْبِشَارَةِ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ وَالْيَهُودُ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم كانوا يقرؤن تِلْكَ الْآيَاتِ وَمَا كَانُوا يَفْهَمُونَ مَعَانِيَهَا، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ هُوَ مَبْعَثُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ التَّوْرَاةَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ، قَالَ: قُلِ اللَّهُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ
63
الْآيَةِ: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ بَعْدَهُ: قُلِ اللَّهُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ السَّلِيمَ وَالطَّبْعَ الْمُسْتَقِيمَ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْكِتَابَ الْمَوْصُوفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ الْمُؤَيِّدَ قَوْلَ صَاحِبِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ مِثْلِ مُعْجِزَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَلَمَّا صَارَ هَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرًا بِسَبَبِ ظُهُورِ الْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ قُلِ الْمُنْزِلُ لِهَذَا الْكِتَابِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ وَأَيْضًا إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي حَاوَلَ إِقَامَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ يَقُولُ مَنِ الَّذِي أَحْدَثَ الْحَيَاةَ بَعْدَ عَدَمِهَا، وَمَنِ الَّذِي أَحْدَثَ الْعَقْلَ بَعْدَ الْجَهَالَةِ، وَمَنِ الَّذِي أَوْدَعَ فِي الْحَدَقَةِ الْقُوَّةَ الْبَاصِرَةَ، وَفِي الصِّمَاخِ الْقُوَّةَ السَّامِعَةَ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ نَفْسَهُ يَقُولُ اللَّهَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ بَلَغَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ وَالْبَيِّنَةُ إِلَى حَيْثُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهَا فَسَوَاءٌ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِهِ أَوْ لَمْ يُقِرَّ فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ فَكَذَا هَاهُنَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا أَقَمْتَ الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والإنذار وهذا الْمَبْلَغَ الْعَظِيمَ فَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ عَلَيْكَ مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ مَذْكُورٌ لِأَجْلِ التَّهْدِيدِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي حُصُولَ الْمُقَاتَلَةِ، فَلَمْ يَكُنْ وُرُودُ الْآيَةِ/ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْمُقَاتَلَةِ، رَافِعًا لِشَيْءٍ مِنْ مَدْلُولَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَمْ يَحْصُلِ النَّسْخُ فِيهِ. واللَّه أَعْلَمُ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٢]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَبْطَلَ بِالدَّلِيلِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ اللَّه، أَنْزَلَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهذا إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ كِتَابٌ وَتَفْسِيرُ الكتاب قدم تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ وَصَفَهُ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ.
الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَنْزَلْناهُ وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى لَا مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَخُصَّ اللَّه مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِعُلُومٍ كَثِيرَةٍ يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِهَا مِنْ تَرْكِيبِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْفَصَاحَةِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي تَوَلَّى إِنْزَالَهُ بِالْوَحْيِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مُبارَكٌ قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي كِتَابٌ مُبَارَكٌ أَيْ كَثِيرٌ خَيْرُهُ دَائِمٌ بَرَكَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ، يُبَشِّرُ بِالثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ وَيَزْجُرُ عَنِ الْقَبِيحِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَأَقُولُ: الْعُلُومُ إِمَّا نَظَرِيَّةٌ، وَإِمَّا عَمَلِيَّةٌ أَمَّا الْعُلُومُ النَّظَرِيَّةُ، فَأَشْرَفُهَا وَأَكْمَلُهَا مَعْرِفَةُ ذَاتِ اللَّه وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَلَا تَرَى هَذِهِ الْعُلُومَ أَكْمَلَ وَلَا أَشْرَفَ مِمَّا تَجِدُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَمَّا الْعُلُومُ الْعَمَلِيَّةُ، فَالْمَطْلُوبُ، إِمَّا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ وَإِمَّا أَعْمَالُ الْقُلُوبِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِطَهَارَةِ الْأَخْلَاقِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَلَا تَجِدُ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ مِثْلَ مَا تَجِدُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، ثُمَّ قَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّ الْبَاحِثَ عَنْهُ وَالْمُتَمَسِّكَ بِهِ يَحْصُلُ لَهُ عِزُّ الدُّنْيَا وَسَعَادَةُ الْآخِرَةِ.
64
يَقُولُ مُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ: وَأَنَا قَدْ نَقَلْتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْعُلُومِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، فَلَمْ يَحْصُلْ لِي بِسَبَبِ شَيْءٍ مِنَ الْعُلُومِ مِنْ أَنْوَاعِ السَّعَادَاتِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِثْلَ مَا حَصَلَ بِسَبَبِ خِدْمَةِ هَذَا الْعِلْمِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ فَالْمُرَادُ كَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ وَالْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ إِمَّا عِلْمُ الْأُصُولِ، وَإِمَّا عِلْمُ الْفُرُوعِ.
أَمَّا عُلُومُ الْأُصُولِ: فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ التَّفَاوُتِ فِيهِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ مُوَافِقٌ ومطابق لما في التوراة والزبورة وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ.
وَأَمَّا عِلْمُ الْفُرُوعِ: فَقَدْ كَانَتِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى الْقُرْآنِ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْبِشَارَةِ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ أَنَّ التَّكَالِيفَ الْمَوْجُودَةَ فِيهَا، إِنَّمَا تَبْقَى إِلَى وَقْتِ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَمَّا بَعْدَ ظُهُورِ شَرْعِهِ فَإِنَّهَا تَصِيرُ مَنْسُوخَةً، فَثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْكُتُبَ دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَالْقُرْآنُ مُطَابِقٌ لِهَذَا الْمَعْنَى وَمُوَافِقٌ، فَثَبَتَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُصَدِّقًا لِكُلِّ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ فِي جُمْلَةِ عِلْمِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَهَاهُنَا أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ هَاهُنَا مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَلِتُنْذِرَ أَهْلَ أُمِّ الْقُرَى. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أُمَّ الْقُرَى هِيَ مَكَّةُ، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ سُمِّيَتْ مَكَّةُ بِهَذَا الِاسْمِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَرَضِينَ دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِهَا وَمِنْ حَوْلِهَا، وَقَالَ أَبُو بكر الأصم: سميت بذلك لأنها قبل أَهْلِ الدُّنْيَا، فَصَارَتْ هِيَ كَالْأَصْلِ وَسَائِرُ الْبِلَادِ وَالْقُرَى تَابِعَةٌ لَهَا، وَأَيْضًا مِنْ أُصُولِ عِبَادَاتِ أَهْلِ الدُّنْيَا الْحَجُّ، وَهُوَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ يَجْتَمِعُ الْخَلْقُ إِلَيْهَا كَمَا يَجْتَمِعُ الْأَوْلَادُ إِلَى الْأُمِّ، وَأَيْضًا فَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الدُّنْيَا يَجْتَمِعُونَ هُنَاكَ بِسَبَبِ الْحَجِّ، لَا جَرَمَ يَحْصُلُ هُنَاكَ أَنْوَاعٌ مِنَ التِّجَارَاتِ وَالْمَنَافِعِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَسْبَ وَالتِّجَارَةَ مِنْ أُصُولِ الْمَعِيشَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ سُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى. وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى لِأَنَّ الْكَعْبَةَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّ مَكَّةَ أَوَّلُ بَلْدَةٍ سُكِنَتْ فِي الْأَرْضِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَمَنْ حَوْلَها دَخَلَ فِيهِ سَائِرُ الْبُلْدَانِ وَالْقُرَى.
وَالْبَحْثُ الثَّانِي: زَعَمَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ رَسُولًا إِلَى الْعَرَبِ فَقَطْ.
وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْقُرْآنَ لِيُبَلِّغَهُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَإِلَى الْقُرَى الْمُحِيطَةِ بِهَا، وَالْمُرَادُ مِنْهَا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، وَلَوْ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ لَكَانَ التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها بَاطِلًا.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ تَخْصِيصَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِيمَا سِوَاهَا إِلَّا بِدَلَالَةِ/ الْمَفْهُومِ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ الظَّاهِرِ، الْمَقْطُوعِ بِهِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَدَّعِي كَوْنَهُ رَسُولًا إِلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ: وَمَنْ حَوْلَها يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْبِلَادِ وَالْقُرَى المحيطة بها، وبهذا التقدير: فيدخل فيه جمع بِلَادِ الْعَالَمِ، واللَّه أَعْلَمُ.
65
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ لِيُنْذِرَ بِالْيَاءِ جَعَلَ الْكِتَابَ هُوَ الْمُنْذِرَ، لِأَنَّ فِيهِ إِنْذَارًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: لِيُنْذَرُوا بِهِ أَيْ بِالْكِتَابِ، وَقَالَ: وَأَنْذِرْ بِهِ وَقَالَ: إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ فَلَا يَمْتَنِعُ إِسْنَادُ الْإِنْذَارِ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ: فَإِنَّهُمْ قَرَءُوا وَلِتُنْذِرَ بِالتَّاءِ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ وَالْمَوْصُوفَ بِالْإِنْذَارِ هُوَ. قَالَ تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وقال: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْآخِرَةِ جَارٍ مَجْرَى السَّبَبِ لِلْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ. وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ السَّبَبِيَّةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ هُوَ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعَظِّمُ رَغْبَتَهُ فِي تَحْصِيلِ الثَّوَابِ، وَرَهْبَتَهُ عَنْ حُلُولِ الْعِقَابِ، وَيُبَالِغُ فِي النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، فَيَصِلُ إِلَى الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مُبَالَغَةٌ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِثْلَ مَا فِي شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ الْإِيمَانُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبِصِحَّةِ الْآخِرَةِ أَمْرَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ، وَالثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّنْبِيهَ عَلَى إِخْرَاجِ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ قَبُولِ هَذَا الدِّينِ، لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَتَرْكِ رئاسة الدُّنْيَا، وَتَرْكِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ لَيْسَ إِلَّا الرَّغْبَةَ فِي الثَّوَابِ، وَالرَّهْبَةَ عَنِ الْعِقَابِ. وَكُفَّارُ مَكَّةَ لَمَّا لَمْ يَعْتَقِدُوا فِي الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، امْتَنَعَ مِنْهُمْ تَرْكُ الْحَسَدِ وَتَرْكُ الرِّيَاسَةِ، فَلَا جَرَمَ يَبْعُدُ قَبُولُهُمْ لِهَذَا الدِّينِ وَاعْتِرَافُهُمْ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
ثُمَّ قَالَ: وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ وَالْمُرَادُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْآخِرَةِ كَمَا يَحْمِلُ الرَّجُلَ عَلَى الْإِيمَانِ بِالنُّبُوَّةِ، فَكَذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِيمَانُ بِالْآخِرَةِ يَحْمِلُ عَلَى كُلِّ الطَّاعَاتِ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ باللَّه وَأَعْظَمُهَا خَطَرًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعِ اسْمُ الْإِيمَانِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ إِلَّا عَلَى الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] أَيْ صَلَاتَكُمْ، وَلَمْ يَقَعِ اسْمُ الْكُفْرِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي إِلَّا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ.
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ/ وَالسَّلَامُ: «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ»
فَلَمَّا اخْتَصَّتِ الصَّلَاةُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّشْرِيفِ لَا جَرَمَ خَصَّهَا اللَّه بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٣]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣)
[قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ كَوْنَ الْقُرْآنِ كِتَابًا نَازِلًا مِنْ عِنْدِ اللَّه وَبَيَّنَ مَا فِيهِ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالَةِ وَالشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ، ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى وَعِيدِ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ عَلَى سَبِيلِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ فَقَالَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَظَّمَ وَعِيدَ مَنْ ذَكَرَ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: فَأَوَّلُهَا: أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللَّه كَذِبًا.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَ هَذَا فِي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ، وَفِي الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ صَاحِبِ صَنْعَاءَ، فإنهما كانا
66
يَدَّعِيَانِ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ مِنْ عِنْدِ اللَّه عَلَى سَبِيلِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ، وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ يَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ قُرَيْشٍ، وَأَنَا رَسُولُ بَنِي حَنِيفَةَ. قَالَ الْقَاضِي: الَّذِي يَفْتَرِي عَلَى اللَّه الْكَذِبَ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ كَذِبًا، وَلَكِنْ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. فَكُلُّ مَنْ نَسَبَ إِلَى اللَّه تَعَالَى مَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ، إِمَّا فِي الذَّاتِ، وَإِمَّا فِي الصِّفَاتِ وَإِمَّا فِي الْأَفْعَالِ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ. قَالَ: وَالِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّه فِي صِفَاتِهِ، كَالْمُجَسِّمَةِ، وَفِي عَدْلِهِ كَالْمُجْبِرَةِ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ ظَلَمُوا أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ بِأَنِ افْتَرَوْا عَلَى اللَّه الْكَذِبَ، وَأَقُولُ:
أَمَّا قَوْلُهُ: الْمُجَسِّمَةُ قَدِ افْتَرَوْا عَلَى اللَّه الْكَذِبَ، فَهُوَ حَقٌّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّه فِي صِفَاتِهِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. / لِأَنَّ كَوْنَ الذَّاتِ جِسْمًا وَمُتَحَيَّزًا لَيْسَ بِصِفَةٍ، بَلْ هُوَ نَفْسُ الذَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ لَيْسَ بِجِسْمٍ، كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقُولُ: جَمِيعُ الْأَجْسَامِ وَالْمُتَحَيَّزَاتِ مُحْدَثَةٌ، وَلَهَا بِأَسْرِهَا خَالِقٌ هُوَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمُتَحَيَّزٍ، وَالْمُجَسِّمُ يَنْفِي هَذِهِ الذَّاتَ، فَكَانَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْمُوَحِّدِ وَالْمُجَسِّمِ لَيْسَ فِي الصِّفَةِ بَلْ فِي نَفْسِ الذَّاتِ، لِأَنَّ الْمُوَحِّدَ يُثْبِتُ هَذِهِ الذَّاتَ وَالْمُجَسِّمَ يَنْفِيهَا، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ لَمْ يَقَعْ فِي الصِّفَةِ، بَلْ فِي الذَّاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْمُجْبِرَةُ قَدِ افْتَرَوْا عَلَى اللَّه تَعَالَى فِي صِفَاتِهِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ الْمُجْبِرَةُ مَا زَادُوا عَلَى قَوْلِهِمْ الْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ، فَإِنَّ كَذَبُوا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا وُجُودَ الْإِلَهِ؟ وَإِنْ صَدَقُوا فِي ذَلِكَ لَزِمَهُمُ الْإِقْرَارُ بِتَوْقِيفِ صُدُورِ الْفِعْلِ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِي بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ عَيْنُ مَا نُسَمِّيهِ بِالْجَبْرِ، فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ افْتِرَاءً عَلَى اللَّه بَاطِلٌ، بَلِ الْمُفْتَرِي عَلَى اللَّه مَنْ يَقُولُ الْمُمْكِنُ لَا يَتَوَقَّفُ رُجْحَانُ أَحَدِ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ عَلَى حُصُولِ الْمُرَجَّحِ. فَإِنَّ مَنْ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ لَزِمَهُ نَفْيُ الصَّانِعِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ يَلْزَمُهُ نَفْيُ الْآثَارِ وَالْمُؤَثِّرَاتِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَصَفَهَا اللَّه تَعَالَى بِكَوْنِهَا افْتِرَاءً قَوْلُهُ: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ، أَنَّ فِي الْأَوَّلِ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَمَا كَانَ يَكْذِبُ بِنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَأَمَّا فِي هَذَا الْقَوْلِ، فَقَدْ أَثْبَتَ الْوَحْيَ لِنَفْسِهِ وَنَفَاهُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَانَ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ نَوْعَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنَ الْكَذِبِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَنَفْيُ مَا هُوَ مَوْجُودٌ.
وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: المراد ما قاله النضر بن الحرث وَهُوَ قَوْلُهُ: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا وَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّهُ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، وَكُلُّ أَحَدٍ يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَدَّعِي مُعَارَضَةَ الْقُرْآنِ.
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: ١٢] إملاء الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ عَجِبَ عَبْدُ اللَّه مِنْهُ فَقَالَ: فَتَبَارَكَ اللَّه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ! فَقَالَ الرَّسُولُ هَكَذَا أُنْزِلَتِ الْآيَةُ، فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّه وَقَالَ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا، فَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَقَدْ عَارَضْتُهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ فَاعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يُفِيدُ التَّخْوِيفَ الْعَظِيمَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَوْ تَرى / إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ كَالتَّفْصِيلِ لِذَلِكَ الْمُجْمَلِ، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ، وَغَمَرَاتُ الْمَوْتِ جَمْعُ غَمْرَةٍ وَهِيَ شَدَّةُ الْمَوْتِ، وَغَمْرَةُ كُلِّ شَيْءٍ كَثْرَتُهُ وَمُعْظَمُهُ، وَمِنْهُ غَمْرَةُ الْمَاءِ، وَغَمْرَةُ الْحَرْبِ، وَيُقَالُ غَمَرَهُ الشَّيْءُ إِذَا
67
عَلَاهُ وَغَطَّاهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ كَانَ فِي شَيْءٍ كَثِيرٍ قَدْ غَمَرَهُ ذَلِكَ. وَغَمَرَهُ الدَّيْنُ إِذَا كَثُرَ عَلَيْهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، ثُمَّ يُقَالُ لِلشَّدَائِدِ وَالْمَكَارِهِ: الْغَمَرَاتُ، وَجَوَابُ «لَوْ» مَحْذُوفٌ، أَيْ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَالْمَلَائِكَةُ باسطوا أَيْدِيهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ يَضْرِبُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ، كَمَا يُقَالُ بَسَطَ إِلَيْهِ يَدَهُ بِالْمَكْرُوهِ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ. هَاهُنَا مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى إِخْرَاجِ أَرْوَاحِهِمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْكَلَامِ؟
فَنَقُولُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وُجُوهٌ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَلَوْ تَرَى الظَّالِمِينَ إِذَا صَارُوا إِلَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ فِي الْآخِرَةِ فَأُدْخِلُوا جَهَنَّمَ فَغَمَرَاتُ الْمَوْتِ عِبَارَةٌ عَمَّا يُصِيبُهُمْ هُنَاكَ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ وَالتَّعْذِيبَاتِ، وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ يُبَكِّتُونَهُمْ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ الشَّدِيدِ إِنْ قَدَرْتُمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَوْتِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهُمْ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ يَقُولُونَ لَهُمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ هَذِهِ الشَّدَائِدِ وَخَلِّصُوهَا مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ وَالْآلَامِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ أي أخرجوا إِلَيْنَا مِنْ أَجْسَادِكُمْ وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْعُنْفِ وَالتَّشْدِيدِ فِي إِزْهَاقِ الرُّوحِ مِنْ غَيْرِ تَنْفِيسٍ وَإِمْهَالٍ وَأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ بِهِمْ فِعْلَ الْغَرِيمِ الْمُلَازِمِ الْمُلِحِّ يَبْسُطُ يَدَهُ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَيُعَنِّفُ عَلَيْهِ فِي الْمُطَالَبَةِ وَلَا يُمْهِلُهُ، وَيَقُولُ لَهُ: أَخْرِجْ إِلَيَّ مَا لِي عَلَيْكَ السَّاعَةَ وَلَا أَبْرَحُ مِنْ مَكَانِي حَتَّى أَنْزَعَهُ مِنْ أَحْدَاقِكَ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ حَالِهِمْ وَأَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ إِلَى حَيْثُ تَوَلَّى بِنَفْسِهِ إِزْهَاقَ رُوحِهِ.
وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ لَيْسَ بِأَمْرٍ، بَلْ هُوَ وَعِيدٌ وَتَقْرِيعٌ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: امْضِ الْآنَ لِتَرَى مَا يَحِلُّ بِكَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ تَنْشَطُ فِي الْخُرُوجِ لِلِقَاءِ رَبِّهِ وَنَفْسَ الْكَافِرِ تَكْرَهُ ذَلِكَ فَيَشُقُّ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ، كَمَا
قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «مَنْ أَرَادَ لِقَاءَ اللَّه أَرَادَ اللَّه لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّه كَرِهَ اللَّه لِقَاءَهُ»
وَذَلِكَ/ عِنْدَ نَزْعِ الرُّوحِ، فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ تُكْرِهُهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى نَزْعِ الرُّوحِ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا الْهَيْكَلِ وَغَيْرُ هَذَا الْجَسَدِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ مَعْنَاهُ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ عَنْ أَجْسَادِكُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ مُغَايِرَةٌ لِلْأَجْسَادِ إِلَّا أَنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ، لَمْ يَتِمَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ قَالَ الزَّجَّاجُ: عَذَابُ الْهُونِ أَيِ الْعَذَابُ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْهَوَانُ الشَّدِيدُ. قَالَ تَعَالَى: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ [النَّحْلِ: ٥٩] وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ هُنَاكَ بَيْنَ الْإِيلَامِ وَبَيْنَ الْإِهَانَةِ، فَإِنَّ الثَّوَابَ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ، فَكَذَلِكَ الْعِقَابُ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ
68
مَضَرَّةً مَقْرُونَةً بِالْإِهَانَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: الْهُونُ هُوَ الْهَوَانُ، وَالْهَوْنُ هُوَ الرِّفْقُ وَالدَّعَةُ. قَالَ تَعَالَى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الْفُرْقَانِ: ٦٣] وَقَوْلُهُ: بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: ٩٣] وَذَلِكَ يَدُلُّ أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّه، وَالتَّكَبُّرِ عَلَى آيَاتِ اللَّه. وَأَقُولُ: هَذَانِ النَّوْعَانِ مِنَ الْآفَاتِ وَالْبَلَاءِ تَرَى أَكْثَرَ الْمُتَوَسِّمِينَ بِالْعِلْمِ مُتَوَغِّلِينَ فِيهِ مُوَاظِبِينَ عَلَيْهِ نَعُوذُ باللَّه مِنْهُ وَمِنْ آثَارِهِ وَنَتَائِجِهِ. وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ أَيْ لَا تُصَلُّونَ لَهُ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَجَدَ للَّه سجدة بنية صادقة فقد بريء من الكبر».
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٤]
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)
[في قوله تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى مسألتان] [المسألة الأولى في قوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونا] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّوْبِيخِ، كَذَلِكَ يَقُولُونَ حِكَايَةً عَنِ اللَّه تَعَالَى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى فَيَكُونُ الْكَلَامُ أَجْمَعُ حِكَايَةً عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ يُورِدُونَ ذَلِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، / فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِعِقَابِهِمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ اللَّه تَعَالَى وَمَنْشَأُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى هَلْ يتكلم مع الكفار أولا؟ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ يوجب أن لا يتكلم معهم وقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: ٩٢] وقوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: ٦] يقتضي أن أَنْ يَكُونَ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ هَذَا الِاخْتِلَافُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالْعَطْفُ يُوجِبُ التَّشْرِيكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فُرادى لَفْظُ جَمْعٍ وَفِي وَاحِدِهِ قَوْلَانِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: فُرَادَى جَمْعُ فَرْدَانَ، مِثْلُ سُكَارَى وَسَكْرَانَ، وَكُسَالَى وَكَسْلَانَ. وَقَالَ غَيْرُهُ فُرَادَى: جَمْعُ فَرِيدٍ، مِثْلُ رُدَافَى وَرَدِيفٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فُرَادَى جَمْعٌ وَاحِدُهُ فَرْدٌ وَفَرْدَةٌ وَفَرِيدٌ وَفَرْدَانُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى الْمُرَادُ مِنْهُ التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ صَرَفُوا جَدَّهُمْ وَجُهْدَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى تَحْصِيلِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَحْصِيلُ الْمَالِ وَالْجَاهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا تَكُونُ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّه، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا وَرَدُوا مَحْفِلَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَمْوَالِ وَلَمْ يَجِدُوا مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ شَفَاعَةً لَهُمْ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى فَبَقُوا فُرَادَى عَنْ كُلِّ مَا حَصَّلُوهُ فِي الدُّنْيَا وَعَوَّلُوا عَلَيْهِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ صَرَفُوا عُمْرَهُمْ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ الْحَقَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَتِلْكَ الْمَعَارِفُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ بَقِيَتْ مَعَهُمْ فِي قُبُورِهِمْ وَحَضَرَتْ مَعَهُمْ فِي مَشْهَدِ الْقِيَامَةِ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مَا حَضَرُوا فُرَادَى، بَلْ حَضَرُوا مَعَ الزَّادِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ:
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ بَيْنَكُمْ بِالنَّصْبِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ قَالَ الزَّجَّاجُ:
69
الرَّفْعُ أَجْوَدُ، وَمَعْنَاهُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ، وَالنَّصْبُ جَائِزٌ وَالْمَعْنَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الشَّرِكَةِ بَيْنَكُمْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا الِاسْمُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُنْصَرِفًا كَالِافْتِرَاقِ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا وَالْمَرْفُوعُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بَيْنَكُمْ هُوَ الَّذِي كَانَ ظَرْفًا ثُمَّ اسْتُعْمِلَ اسْمًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ كَوْنِهِ اسْمًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: ٥] وهذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الْكَهْفِ: ٧٨] فَلَمَّا اسْتُعْمِلَ اسْمًا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ جَازَ أَنْ يُسْنَدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ تَقَطَّعَ فِي قَوْلِ مَنْ رَفَعَ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَرْفُوعَ هُوَ الَّذِي اسْتُعْمِلَ ظَرْفًا أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الَّذِي هُوَ ظَرْفٌ اتَّسَعَ فِيهِ أَوْ يَكُونَ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَقَدْ/ تَقَطَّعَ افْتِرَاقُكُمْ وَهَذَا ضِدُّ الْمُرَادِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ سَالِفُونَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْوَصْلِ مَعَ أَنَّ أَصْلَهُ الِافْتِرَاقُ وَالتَّبَايُنُ؟
قُلْنَا: هَذَا اللَّفْظُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيْنَهُمَا مُشَارَكَةٌ وَمُوَاصَلَةٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، كَقَوْلِهِمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَرِكَةٌ، وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ رَحِمٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي مَعْنَى الْوَصْلَةِ فَقَوْلُهُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ مَعْنَاهُ لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ. أَمَّا مَنْ قَرَأَ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ بِالنَّصْبِ فَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَضْمَرَ الْفَاعِلَ وَالتَّقْدِيرُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ بَيْنَكُمْ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُمْ قَالُوا إِذَا كَانَ غَدًا فَأْتِنِي وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا كَانَ الرَّجَاءُ أَوِ الْبَلَاءُ غَدًا فَأْتِنِي، فَأَضْمَرَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ. فَكَذَا هَاهُنَا. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: التَّقْدِيرُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ مَا بَيْنَكُمْ. فَحُذِفَتْ لِوُضُوحِ مَعْنَاهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى قَانُونٍ شَرِيفٍ فِي مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ فَأَوَّلُهَا: أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ إِنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِهَذَا الْجَسَدِ آلَةً لَهُ فِي اكْتِسَابِ الْمَعَارِفِ الْحَقَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ فَإِذَا فَارَقَتِ النَّفْسُ الْجَسَدَ وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ الْبَتَّةَ عَظُمَتْ حَسَرَاتُهُ وَقَوِيَتْ آفَاتُهُ حَيْثُ وَجَدَ مِثْلَ هَذِهِ الْآلَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي يُمْكِنُ اكْتِسَابُ السَّعَادَةِ الأبدية بها، ثم إنه ضعيفها وَأَبْطَلَهَا وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا الْبَتَّةَ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ النَّفْسَ مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَكْتَسِبْ بِهَذِهِ الْآلَةِ الْجَسَدَانِيَّةِ سَعَادَةً رُوحَانِيَّةً، وَكَمَالًا رُوحَانِيًّا، فَقَدْ عَمِلَتْ عَمَلًا آخَرَ أَرْدَأَ مِنَ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا طُولَ الْعُمْرِ كَانَتْ فِي الرَّغْبَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَفِي تَقْوِيَةِ الْعِشْقِ عَلَيْهَا، وَتَأْكِيدِ الْمَحَبَّةِ، وَفِي تَحْصِيلِهَا. وَالْإِنْسَانُ فِي الْحَقِيقَةِ مُتَوَجِّهٌ مِنَ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ إِلَى الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ، فَهَذَا الْمِسْكِينُ قَلَبَ الْقَضِيَّةَ وَعَكَسَ الْقَضِيَّةَ وَأَخَذَ يَتَوَجَّهُ مِنَ الْمَقْصِدِ الرُّوحَانِيِّ إِلَى الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ وَنَسِيَ مَقْصِدَهُ وَاغْتَرَّ بِاللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَلَمَّا مَاتَ انْقَلَبَتِ الْقَضِيَّةُ شَاءَ أَمْ أَبَى تَوَجَّهَ مِنَ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ إِلَى الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ، فَبَقِيَتِ الْأَمْوَالُ الَّتِي اكْتَسَبَهَا وَأَفْنَى عُمْرَهُ فِي تَحْصِيلِهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَالشَّيْءُ الَّذِي يَبْقَى وَرَاءَ ظَهْرِ الْإِنْسَانِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَرُبَّمَا بَقِيَ مُنْقَطِعَ الْمَنْفَعَةِ مُعْوَجَّ الرَّقَبَةِ مُعْوَجَّ الرَّأْسِ بِسَبَبِ الْتِفَاتِهِ إِلَيْهَا مع الهجز عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ نِهَايَةَ الْخَيْبَةِ وَالْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ يَكْتَسِبُهُ الْإِنْسَانُ وَلَمْ يَصْرِفْهُ فِي مَصَارِفِ الْخَيْرَاتِ فَصِفَتُهُ هَذِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا إِذَا صَرَفَهَا إِلَى الْجِهَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّه وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّه فَمَا تَرَكَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَلَكِنَّهُ قَدَّمَهَا تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ١١٠] وَثَالِثُهَا: أَنَّ أُولَئِكَ الْمَسَاكِينَ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي نُصْرَةِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ/ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهَا عِنْدَ الْوُرُودِ فِي مَحْفِلِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا وَرَدُوهُ وَشَاهَدُوا مَا فِي
70
تلك المذاهب من العذاب الشديد والعذاب الدَّائِمِ حَصَلَتْ فِيهِ جِهَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْعَذَابِ. مِنْهَا عَذَابُ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي تَحَمُّلِ الْعَنَاءِ الشَّدِيدِ وَالْبَلَاءِ الْعَظِيمِ فِي تَحْصِيلِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ إِلَّا الْعَذَابُ وَالْعَنَاءُ، وَمِنْهَا عَذَابُ الْخَجَلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا كَانَ مَحْضَ الْجَهَالَةِ وَصَرِيحَ الضَّلَالَةِ، وَمِنْهَا حُصُولُ الْيَأْسِ الشَّدِيدِ مَعَ الطَّمَعِ الْعَظِيمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يُوجِبُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ وَالْآلَامَ الْعَظِيمَةَ الرُّوحَانِيَّةَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَمَّا بَدَا لَهُ أَنَّهُ فَاتَهُ الْأَمْرُ الَّذِي بِهِ يَقْدِرُ عَلَى اكْتِسَابِ الْخَيْرَاتِ، وَحَصَلَ عِنْدَهُ الْأَمْرُ الَّذِي يُوجِبُ حُصُولَ الْمَضَرَّاتِ، فَإِذَنْ بَقِيَ لَهُ رَجَاءٌ فِي التَّدَارُكِ مِنْ بعض الوجوه فههنا يَحُفُّ ذَلِكَ الْأَلَمُ وَيَضْعُفُ ذَلِكَ الْحُزْنُ. أَمَّا إِذَا حَصَلَ الْجَزْمُ وَالْيَقِينُ بِأَنَّ التَّدَارُكَ مُمْتَنِعٌ، وجبر ذلك النقصان متعذر فههنا يَعْظُمُ الْحُزْنُ وَيَقْوَى الْبَلَاءُ جِدًّا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْوَصْلَةَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَ النَّفْسِ وَالْجَسَدِ قَدْ تَقَطَّعَتْ وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَحْصِيلِهَا مَرَّةً أُخْرَى. وَعِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى حَقَائِقِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا بَيَانَ فَوْقَ هَذَا الْبَيَانِ فِي شَرْحِ أحوال هؤلاء الضالين.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٥]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَكَلَّمَ فِي التَّوْحِيدِ ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِتَقْرِيرِ أَمْرِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فِي بَعْضِ تَفَارِيعِ هَذَا الْأَصْلِ، عَادَ هَاهُنَا إِلَى ذِكْرِ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَكَمَالِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ جَمِيعِ الْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ، وَكُلِّ الْمَطَالِبِ الْحِكْمِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةُ اللَّه بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلُ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى أَيْ خَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: ذَهَبُوا بِفَالِقٍ مَذْهَبَ فَاطِرٍ، وَأَقُولُ: الْفِطْرُ هُوَ الشَّقُّ، / وَكَذَلِكَ الْفَلْقُ، فَالشَّيْءُ قَبْلَ أَنْ دَخَلَ فِي الْوُجُودِ كَانَ مَعْدُومًا مَحْضًا وَنَفْيًا صِرْفًا، وَالْعَقْلُ يَتَصَوَّرُ مِنَ الْعَدَمِ ظُلْمَةً مُتَّصِلَةً لَا انْفِرَاجَ فِيهَا وَلَا انْفِلَاقَ وَلَا انْشِقَاقَ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ الْمُبْدِعُ الْمُوجِدُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، فَكَأَنَّهُ بِحَسْبِ التَّخَيُّلِ وَالتَّوَهُّمِ شَقَّ ذَلِكَ الْعَدَمَ وَفَلَقَهُ. وَأَخْرَجَ ذَلِكَ الْمُحْدَثَ مِنْ ذَلِكَ الشَّقِّ. فَبِهَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَبْعُدُ حَمْلُ الْفَالِقِ عَلَى الْمُوجِدِ وَالْمُحْدِثِ وَالْمُبْدِعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الْفَلْقَ هُوَ الشَّقُّ، وَالْحَبَّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مَقْصُودًا بِذَاتِهِ مِثْلَ حَبَّةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَسَائِرِ الْأَنْوَاعِ، وَالنَّوَى هُوَ الشَّيْءُ الْمَوْجُودُ فِي دَاخِلِ الثَّمَرَةِ مِثْلَ نَوَى الْخَوْخِ وَالتَّمْرِ وَغَيْرِهِمَا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا وَقَعَتِ الْحَبَّةُ أَوِ النَّوَاةُ فِي الْأَرْضِ الرَّطْبَةِ، ثُمَّ مَرَّ بِهِ قَدْرٌ مِنَ الْمُدَّةِ أَظْهَرَ اللَّه تَعَالَى فِي تِلْكَ الْحَبَّةِ وَالنَّوَاةِ مِنْ أَعْلَاهَا شَقًّا وَمِنْ أَسْفَلِهَا شَقًّا آخَرَ. أَمَّا الشَّقُّ الَّذِي يَظْهَرُ فِي أَعْلَى الْحَبَّةِ وَالنَّوَاةِ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنْهُ الشَّجَرَةَ الصَّاعِدَةَ إِلَى الْهَوَاءِ، وَأَمَّا الشَّقُّ الَّذِي يَظْهَرُ فِي أَسْفَلِ تِلْكَ الْحَبَّةِ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنْهُ الشَّجَرَةَ الْهَابِطَةَ فِي الْأَرْضِ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِعُرُوقِ الشَّجَرَةِ، وَتَصِيرُ تِلْكَ الْحَبَّةُ وَالنَّوَاةُ سَبَبًا لِاتِّصَالِ الشَّجَرَةِ الصَّاعِدَةِ فِي الْهَوَاءِ بِالشَّجَرَةِ الْهَابِطَةِ فِي الْأَرْضِ.
71
ثُمَّ إِنَّ هَاهُنَا عَجَائِبَ: فَإِحْدَاهَا: أَنَّ طَبِيعَةَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ إِنْ كَانَتْ تَقْتَضِي الْهَوَى فِي عُمْقِ الْأَرْضِ فَكَيْفَ تَوَلَّدَتْ مِنْهَا الشَّجَرَةُ الصَّاعِدَةُ فِي الْهَوَاءِ؟ وَإِنْ كَانَتْ تَقْتَضِي الصُّعُودَ فِي الْهَوَاءِ، فَكَيْفَ تَوَلَّدَتْ مِنْهَا الشَّجَرَةُ الْهَابِطَةُ فِي الْأَرْضِ؟ فَلَمَّا تُوُلِّدَ مِنْهَا هَاتَانِ الشَّجَرَتَانِ مَعَ أَنَّ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ يَشْهَدُ بِكَوْنِ طَبِيعَةِ إِحْدَى الشَّجَرَتَيْنِ مُضَادَّةً لِطَبِيعَةِ الشَّجَرَةِ الْأُخْرَى، عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ وَالْخَاصِّيَّةِ، بَلْ بِمُقْتَضَى الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ وَالتَّكْوِينِ وَالِاخْتِرَاعِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ بَاطِنَ الْأَرْضِ جِرْمٌ كَثِيفٌ صُلْبٌ لَا تَنْفُذُ الْمِسَلَّةُ الْقَوِيَّةُ فِيهِ وَلَا يَغُوصُ السِّكِّينُ الْحَادُّ الْقَوِيُّ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّا نُشَاهِدُ أَطْرَافَ تِلْكَ الْعُرُوقِ فِي غَايَةِ الدِّقَّةِ وَاللَّطَافَةِ بِحَيْثُ لَوْ دَلَّكَهَا الْإِنْسَانُ بِأُصْبُعِهِ بِأَدْنَى قُوَّةٍ لَصَارَتْ كَالْمَاءِ، ثُمَّ إِنَّهَا مَعَ غَايَةِ اللَّطَافَةِ تَقْوَى عَلَى النُّفُوذِ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ الصُّلْبَةِ وَالْغَوْصِ فِي بَوَاطِنِ تِلْكَ الْأَجْرَامِ الْكَثِيفَةِ، فَحُصُولُ هَذِهِ الْقُوَى الشَّدِيدَةِ لِهَذِهِ الْأَجْرَامِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي هِيَ فِي غَايَةِ اللَّطَافَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ تِلْكَ النَّوَاةِ شَجَرَةٌ وَيَحْصُلُ فِي تِلْكَ الشَّجَرَةِ طَبَائِعُ مُخْتَلِفَةٌ، فَإِنَّ قِشْرَ الْخَشَبَةِ لَهُ طَبِيعَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَفِي دَاخِلِ ذَلِكَ الْقِشْرِ جِرْمُ الْخَشَبَةِ وَفِي وَسَطِ تِلْكَ الْخَشَبَةِ جِسْمٌ رَخْوٌ ضَعِيفٌ يُشْبِهُ الْعِهْنَ الْمَنْفُوشَ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ سَاقِ الشَّجَرَةِ أَغْصَانُهَا وَيَتَوَلَّدُ عَلَى الْأَغْصَانِ الْأَوْرَاقُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْأَزْهَارُ وَالْأَنْوَارُ ثَانِيًا، ثُمَّ الْفَاكِهَةُ ثَالِثًا، ثُمَّ قَدْ يَحْصُلُ لِلْفَاكِهَةِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْقِشْرِ: مثل الجوز، فإن قشره الْأَعْلَى هُوَ ذَلِكَ الْأَخْضَرُ، وَتَحْتَ ذَلِكَ الْقِشْرِ الَّذِي/ يُشْبِهُ الْخَشَبَ، وَتَحْتَهُ ذَلِكَ الْقِشْرُ الَّذِي هُوَ كَالْغِشَاءِ الرَّقِيقِ الْمُحِيطِ بِاللُّبِّ، وَتَحْتَهُ ذَلِكَ اللُّبُّ، وَذَلِكَ اللُّبُّ مُشْتَمِلٌ عَلَى جِرْمٍ كَثِيفٍ هُوَ أَيْضًا كَالْقِشْرِ، وَعَلَى جِرْمٍ لَطِيفٍ وَهُوَ الدُّهْنُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ، فَتَوَلُّدُ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي طَبَائِعِهَا وَصِفَاتِهَا وَأَلْوَانِهَا وَأَشْكَالِهَا وَطَعُومِهَا مَعَ تَسَاوِي تَأْثِيرَاتِ الطَّبَائِعِ وَالنُّجُومِ وَالْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَالطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِنَّمَا حَدَثَتْ بِتَدْبِيرِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ الْمُخْتَارِ الْقَادِرِ لَا بِتَدْبِيرِ الطَّبَائِعِ وَالْعَنَاصِرِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّكَ قَدْ تَجِدُ الطَّبَائِعَ الْأَرْبَعَ حَاصِلَةٌ فِي الْفَاكِهَةِ الْوَاحِدَةِ، فَالْأُتْرُنْجُ قِشْرُهُ حَارٌّ يَابِسٌ، وَلَحْمُهُ بَارِدٌ رَطْبٌ، وَحِمَاضُهُ بَارِدٌ يَابِسٌ، وَبِذْرُهُ حَارٌّ يَابِسٌ، وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ قِشْرُهُ وَعَجَمُهُ بَارِدٌ يَابِسٌ، وَمَاؤُهُ وَلَحْمُهُ حَارٌّ رَطْبٌ، فَتَوَلَّدُ هَذِهِ الطَّبَائِعُ الْمُضَادَّةُ وَالْخَوَاصُّ الْمُتَنَافِرَةُ عَنِ الْحَبَّةِ الْوَاحِدَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِإِيجَادِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّكَ تَجِدُ أَحْوَالَ الْفَوَاكِهِ مُخْتَلِفَةً فَبَعْضُهَا يَكُونُ اللُّبُّ فِي الدَّاخِلِ وَالْقِشْرُ فِي الْخَارِجِ كَمَا فِي الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَبَعْضُهَا يَكُونُ الْفَاكِهَةُ الْمَطْلُوبَةُ فِي الْخَارِجِ، وَتَكُونُ الْخَشَبَةُ فِي الدَّاخِلِ كَالْخَوْخِ وَالْمِشْمِشِ، وَبَعْضُهَا يَكُونُ النَّوَاةُ لَهَا لُبٌّ كَمَا فِي نَوَى الْمِشْمِشِ وَالْخَوْخِ، وَبَعْضُهَا لَا لُبَّ لَهُ، كَمَا فِي نَوَى التَّمْرِ وَبَعْضُ الْفَوَاكِهِ لَا يَكُونُ لَهُ مِنَ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ قِشْرٌ، بَلْ يَكُونُ كُلُّهُ مَطْلُوبًا كَالتِّينِ، فَهَذِهِ أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذِهِ الْفَوَاكِهِ وَأَيْضًا هَذِهِ الْحُبُوبُ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْأَشْكَالِ وَالصُّوَرِ فَشَكْلُ الْحِنْطَةِ كَأَنَّهُ نِصْفُ دَائِرَةٍ، وَشَكْلُ الشَّعِيرِ كَأَنَّهُ مَخْرُوطَانِ اتَّصَلَا بِقَاعِدَتَيْهِمَا، وَشَكْلُ الْعَدَسِ كَأَنَّهُ دَائِرَةٌ، وَشَكْلُ الْحِمَّصِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَهَذِهِ الْأَشْكَالُ الْمُخْتَلِفَةُ، لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ لِأَسْرَارٍ وَحِكَمٍ عَلِمَ الْخَالِقُ أَنَّ تَرْكِيبَهَا لَا يَكْمُلُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الشَّكْلِ، وَأَيْضًا فَقَدْ أَوْدَعَ الْخَالِقُ تَعَالَى فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُبُوبِ خَاصِّيَّةً أُخْرَى وَمَنْفَعَةً أُخْرَى وَأَيْضًا فَقَدْ تَكُونُ الثَّمَرَةُ الْوَاحِدَةُ غِذَاءً لِحَيَوَانٍ وَسُمًّا لِحَيَوَانٍ آخَرَ، فَاخْتِلَافُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَحْوَالِ مَعَ اتِّحَادِ الطَّبَائِعِ وَتَأْثِيرَاتِ الْكَوَاكِبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّهَا إِنَّمَا حَصَلَتْ بِتَخْلِيقِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ.
وَسَادِسُهَا: أَنَّكَ إِذَا أَخَذْتَ وَرَقَةً وَاحِدَةً مِنْ أَوْرَاقِ الشَّجَرَةِ وَجَدْتَ خَطًّا وَاحِدًا مُسْتَقِيمًا فِي وَسَطِهَا، كَأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْوَرَقَةِ كَالنُّخَاعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَكَمَا أَنَّهُ يَنْفَصِلُ مِنَ النُّخَاعِ أَعْصَابٌ كَثِيرَةٌ يَمْنَةً وَيَسْرَةً فِي بدن
72
الْإِنْسَانِ. ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْفَصِلُ عَنْ كُلِّ شُعْبَةٍ شُعَبٌ أُخَرُ، وَلَا تَزَالُ تَسْتَدِقُّ حَتَّى تَخْرُجَ عَنِ الْحِسِّ وَالْأَبْصَارِ بِسَبَبِ الصِّغَرِ، فَكَذَلِكَ فِي تِلْكَ الْوَرَقَةِ قَدْ يَنْفَصِلُ عَنْ ذَلِكَ الْخَطِّ الْكَبِيرِ الْوَسَطَانِيِّ خُطُوطٌ مُنْفَصِلَةٌ، وَعَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا خُطُوطٌ مُخْتَلِفَةٌ أُخْرَى أَدَقُّ مِنَ الْأُولَى، وَلَا يَزَالُ يَبْقَى عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ حَتَّى تَخْرُجَ تِلْكَ الْخُطُوطُ عَنِ الْحِسِّ وَالْبَصَرِ وَالْخَالِقُ تَعَالَى إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ الْقُوَى الْجَاذِبَةَ الْمَرْكُوزَةَ فِي جِرْمِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ تَقْوَى عَلَى جَذْبِ الْأَجْزَاءِ اللَّطِيفَةِ الْأَرْضِيَّةِ فِي تِلْكَ الْمَجَارِي الضَّيِّقَةِ، فَلَمَّا وَقَفْتُ عَلَى عِنَايَةِ الْخَالِقِ فِي إِيجَادِ تِلْكَ/ الْوَرَقَةِ الْوَاحِدَةِ عَلِمْتَ أَنَّ عِنَايَتَهُ فِي تَخْلِيقِ جُمْلَةِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ أَكْمَلُ، وَعَرَفْتَ أَنَّ عِنَايَتَهُ فِي تَكْوِينِ جُمْلَةِ النَّبَاتِ أَكْمَلُ.
ثُمَّ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ جُمْلَةَ النَّبَاتِ لِمَصْلَحَةِ الْحَيَوَانِ عَلِمْتَ أَنَّ عِنَايَتَهُ بِتَخْلِيقِ الْحَيَوَانِ أَكْمَلُ، وَلَمَّا عَلِمْتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَخْلِيقِ جُمْلَةِ الْحَيَوَانَاتِ هُوَ الْإِنْسَانُ عَلِمْتَ أَنَّ عِنَايَتَهُ فِي تَخْلِيقِ الْإِنْسَانِ أَكْمَلُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ النَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ فِي هَذَا الْعَالَمِ لِيَكُونَ غِذَاءً وَدَوَاءً لِلْإِنْسَانِ بِحَسَبِ جَسَدِهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَخْلِيقِ الْإِنْسَانِ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْخِدْمَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.
[الذَّارِيَاتِ: ٥٦] فَانْظُرْ أَيُّهَا الْمِسْكِينُ بِعَيْنِ رَأْسِكَ فِي تِلْكَ الْوَرَقَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، وَاعْرِفْ كَيْفِيَّةَ خِلْقَةِ تِلْكَ الْعُرُوقَ وَالْأَوْتَارَ فِيهَا، ثُمَّ انْتَقِلْ مِنْ مَرْتَبَةٍ إِلَى مَا فَوْقَهَا حَتَّى تَعْرِفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَخِيرَ مِنْهَا حُصُولُ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ فِي الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَنْفَتِحُ عَلَيْكَ بَابٌ مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ لَا آخِرَ لَهَا، وَيَظْهَرُ لَكَ أَنَّ أَنْوَاعَ نِعَمِ اللَّه فِي حَقِّكَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: ٣٤] وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا ظَهَرَ مِنْ كَيْفِيَّةِ خِلْقَةِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ مِنَ الْحَبَّةِ وَالنَّوَاةِ، فَهَذَا كَلَامٌ مُخْتَصَرٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى وَمَتَّى وَقَفَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ أَمْكَنَهُ تَفْرِيقُهَا وَتَشْعِيبُهَا إِلَى مَا لَا آخِرَ لَهُ، وَنَسْأَلُ اللَّه التَّوْفِيقَ وَالْهِدَايَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ فَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَيَّ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ موصوفا بالحياة، والْمَيِّتِ اسْمٌ لِمَا كَانَ خَالِيًا عَنْ صِفَةِ الْحَيَاةِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: النَّبَاتُ لَا يَكُونُ حَيًّا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلِلنَّاسِ فِي تَفْسِيرِ هذا الْحَيَّ والْمَيِّتِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: حَمْلُ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُخْرِجُ مِنَ النُّطْفَةِ بَشَرًا حَيًّا، ثُمَّ يُخْرِجُ مِنَ الْبَشَرِ الْحَيِّ نُطْفَةً مَيِّتَةً، وَكَذَلِكَ يُخْرِجُ مِنَ الْبَيْضَةِ فَرَوْجَةً حَيَّةً، ثُمَّ يُخْرِجُ مِنَ الدَّجَاجَةِ بَيْضَةً مَيِّتَةً، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ الْحَيَّ وَالْمَيِّتَ مُتَضَادَّانِ مُتَنَافِيَانِ، فَحُصُولُ الْمَثَلِ عَنِ الْمَثَلِ يُوهِمُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ الطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ. أَمَّا حُصُولُ الضِّدِّ مِنَ الضِّدِّ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ الطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَقْدِيرِ الْمُقَدِّرِ الْحَكِيمِ، وَالْمُدَبِّرِ الْعَلِيمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ الْحَيَّ والْمَيِّتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَلَى الْوُجُوهِ الْمَجَازِيَّةِ أَيْضًا، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: يُخْرِجُ النَّبَاتَ الْغَضَّ الطَّرِيَّ الْخَضِرَ مِنَ الْحَبِّ الْيَابِسِ وَيُخْرِجُ الْيَابِسَ مِنَ النَّبَاتِ الْحَيِّ النَّامِي. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، كَمَا فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ، وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ/ كَمَا فِي حَقِّ وَلَدِ نُوحٍ، وَالْعَاصِيَ مِنَ الْمُطِيعِ، وَبِالْعَكْسِ. الثَّالِثُ: قَدْ يَصِيرُ بَعْضُ مَا يُقْطَعُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمَضَرَّةَ سَبَبًا لِلنَّفْعِ الْعَظِيمِ، وَبِالْعَكْسِ. ذَكَرُوا فِي الطِّبِّ أَنَّ إِنْسَانًا سَقَوْهُ الْأَفْيُونَ الْكَثِيرَ فِي الشَّرَابِ لِأَجْلِ أَنْ
73
يَمُوتَ، فَلَمَّا تَنَاوَلَهُ وَظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّهُ سَيَمُوتُ فِي الْحَالِ رَفَعُوهُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَوَضَعُوهُ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ فَلَدَغَتْهُ فَصَارَتْ تِلْكَ اللَّدْغَةُ سَبَبًا لِانْدِفَاعِ ضَرَرِ ذَلِكَ الْأَفْيُونِ مِنْهُ، فَإِنَّ الْأَفْيُونَ يُقْتَلُ بِقُوَّةِ بَرْدِهِ، وَسُمَّ الْأَفْعَى يَقْتُلُ بِقُوَّةِ حَرِّهِ فَصَارَتْ تِلْكَ اللَّدْغَةُ سببا لاندفاع ضرر الأفيون، فههنا تولد عما يعتقد فيه كونه أعظم تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ مُدَبِّرًا حَكِيمًا مَا أَهْمَلَ مَصَالِحَ الْخَلْقِ وَمَا تَرَكَهُمْ سُدًى، وَتَحْتَ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ مَبَاحِثُ عَالِيَةٌ شَرِيفَةٌ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: مِنْ مَبَاحِثِ هَذِهِ الْآيَةِ قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ الْمَيِّتِ مُشَدَّدَةً فِي الْكَلِمَتَيْنِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ هَذَا الْجِنْسِ فِي الْقُرْآنِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ثُمَّ قَالَ: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ وَعَطْفُ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ قَبِيحٌ، فَمَا السَّبَبُ فِي اخْتِيَارِ ذَلِكَ؟
قُلْنَا: قَوْلُهُ: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى وَقَوْلُهُ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كَالْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى لِأَنَّ فَلْقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى بِالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ النَّامِي مِنْ جِنْسِ إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ، لِأَنَّ النَّامِيَ فِي حُكْمِ الْحَيَوَانِ. أَلَا تَرَى إلى قوله وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَاعِلَ يَعْتَنِي بِذَلِكَ الْفِعْلِ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ.
وَأَمَّا لَفْظُ الِاسْمِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ التَّجَدُّدَ وَالِاعْتِنَاءَ بِهِ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَضَرَبَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ لِهَذَا مَثَلًا فِي كِتَابِ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» فَقَالَ: قَوْلُهُ: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ إِنَّمَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْفِعْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَرْزُقُكُمْ لِأَنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ تُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُهُمْ حَالًا فَحَالًا وَسَاعَةً فَسَاعَةً. وَأَمَّا الِاسْمُ فَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الْكَهْفِ: ١٨] فَقَوْلُهُ: باسِطٌ يُفِيدُ الْبَقَاءَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْوَاحِدَةِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْحَيُّ أَشْرَفُ مِنَ الْمَيِّتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِنَاءُ بِإِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ أَكْثَرَ مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِإِخْرَاجِ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ، وَعَنِ الثَّانِي بِصِيغَةِ الِاسْمِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِإِيجَادِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ أَكْثَرُ وَأَكْمَلُ مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِإِيجَادِ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ. واللَّه أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ: ذَلِكُمُ اللَّه الْمُدَبِّرُ الْخَالِقُ النَّافِعُ الضَّارُّ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فِي إِثْبَاتِ الْقَوْلِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّكُمْ لَمَّا شَاهَدْتُمْ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، ثُمَّ شَاهَدْتُمْ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْبَدَنَ الْحَيَّ مِنَ النُّطْفَةِ الْمَيِّتَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَكَيْفَ تَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يُخْرِجَ الْبَدَنُ الْحَيَّ مِنْ مَيِّتِ التُّرَابِ الرَّمِيمِ مَرَّةً أُخْرَى؟ وَالْمَقْصُودُ الْإِنْكَارُ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَأَيْضًا الضِّدَّانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي النِّسْبَةِ فَكَمَا لَا يَمْتَنِعُ الِانْقِلَابُ مِنْ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ إِلَى الْآخَرِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ الِانْقِلَابُ مِنَ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ، فَكَمَا لَا يَمْتَنِعُ حُصُولُ الْمَوْتِ بَعْدَ الْحَيَاةِ. وَجَبَ أَيْضًا أَنْ لَا يَمْتَنِعَ حُصُولُ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ جَوَازُ الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ.
74
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ بِقَوْلِهِ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَيْسَ مَخْلُوقًا للَّه تَعَالَى. قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ الْإِفْكَ فِيهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْقُدْرَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الضِّدَّيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَإِنْ تَرَجَّحَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ هَذَا الرُّجْحَانُ مِنَ الْعَبْدِ، بَلْ يَكُونُ مَحْضَ الِاتِّفَاقِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وَإِنْ تَوَقَّفَ ذَلِكَ الْمُرَجَّحُ عَلَى حُصُولِ مُرَجَّحٍ، وَهِيَ الدَّاعِيَةُ الْجَاذِبَةُ إِلَى الْفِعْلِ، فَحُصُولُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ يَكُونُ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَعِنْدَ حُصُولِهَا يَجِبُ الْفِعْلُ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُكُمْ كُلُّ مَا أَلْزَمْتُمُوهُ عَلَيْنَا. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٦]
فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)
[في قوله تعالى فالق الإصباح وأنه مِنْ دَلَائِلِ وُجُودِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ دَلَائِلِ وُجُودِ الصَّانِعِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَالنَّوْعُ الْمُتَقَدِّمُ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ دَلَالَةِ أَحْوَالِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، وَالنَّوْعُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَحْوَالِ الْفَلَكِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فَلْقَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ بِنُورِ الصُّبْحِ أَعْظَمُ فِي كَمَالِ الْقُدْرَةِ مِنْ فَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى بِالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ، وَلِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْأَحْوَالَ الْفَلَكِيَّةَ أَعْظَمُ فِي الْقُلُوبِ وَأَكْثَرُ وَقْعًا مِنَ الْأَحْوَالِ الْأَرْضِيَّةِ، وَتَقْرِيرُ الْحُجَّةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ: الصُّبْحُ صُبْحَانِ.
فَالصُّبْحُ الْأَوَّلُ: هُوَ الصُّبْحُ الْمُسْتَطِيلُ كَذَنَبِ السِّرْحَانِ، ثُمَّ تُعْقِبُهُ ظُلْمَةٌ خَالِصَةٌ، ثُمَّ يَطْلُعُ بَعْدَهُ الصُّبْحُ الْمُسْتَطِيرُ فِي جَمِيعِ الْأُفُقِ فَنَقُولُ: أَمَّا الصُّبْحُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمُسْتَطِيلُ الَّذِي يَحْصُلُ عَقِيبَهُ ظُلْمَةٌ خَالِصَةٌ فَهُوَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّه وَحِكْمَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ النُّورَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَصَلَ مِنْ تَأْثِيرِ قُرْصِ الشَّمْسِ أَوْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَرْكَزَ الشَّمْسِ إِذَا وَصَلَ إِلَى دَائِرَةِ نِصْفِ اللَّيْلِ فَأَهْلُ الْمَوْضِعِ الَّذِي تَكُونُ تِلْكَ الدَّائِرَةُ أُفُقًا لَهُمْ قَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَشْرِقِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَيْضًا نِصْفُ كُرَةِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ حَصَلَ الضَّوْءُ فِي الرُّبْعِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَلْدَتِنَا، وَذَلِكَ الضَّوْءُ يَكُونُ مُنْتَشِرًا مُسْتَطِيرًا فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْجَوِّ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الضَّوْءُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ إِلَى الْقُوَّةِ وَالزِّيَادَةِ وَالْكَمَالِ، وَالصُّبْحُ الْأَوَّلُ لَوْ كَانَ أَثَرُ قُرْصِ الشَّمْسِ لَامْتَنَعَ كَوْنُهُ خَطًّا مُسْتَطِيلًا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيرًا فِي جَمِيعِ الْأُفُقِ مُنْتَشِرًا فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَزَايِدًا مُتَكَامِلًا بِحَسَبِ كُلِّ حِينٍ وَلَحْظَةٍ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ عَلِمْنَا أَنَّ الصُّبْحَ الْأَوَّلَ يَبْدُو كَالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ الصَّاعِدِ حَتَّى تُشَبِّهَهُ الْعَرَبُ بذنب السرحان، ثم إنه يحصل عيبه ظُلْمَةٌ خَالِصَةٌ، ثُمَّ يَحْصُلُ الصُّبْحُ الْمُسْتَطِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الصُّبْحَ الْمُسْتَطِيلَ لَيْسَ مِنْ تَأْثِيرِ قُرْصِ الشَّمْسِ، وَلَا مِنْ جِنْسِ نُورِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَاصِلًا بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى ابْتِدَاءً تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَنْوَارَ لَيْسَ لَهَا وُجُودٌ إِلَّا بِتَخْلِيقِهِ، وَأَنَّ الظُّلُمَاتِ لَا ثَبَاتَ لَهَا إِلَّا بِتَقْدِيرِهِ كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّا لَمَّا بَحَثْنَا وَتَأَمَّلْنَا عَلِمْنَا أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وسائر الكواكب لا تقع أضواؤها إلى عَلَى الْجِرْمِ الْمُقَابِلِ لَهَا. فَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مُقَابِلًا لَهَا فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ أَضْوَائِهَا عَلَيْهِ، وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْفَلَاسِفَةِ وَبَيْنَ الرِّيَاضِيِّينَ الْبَاحِثِينَ عَنْ أَحْوَالِ الضَّوْءِ الْمُضِيءِ، وَلَهُمْ فِي تَقْرِيرِهَا وُجُوهٌ نَفِيسَةٌ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا نقول: الشمس عند الطلوع الصُّبْحِ غَيْرُ مُرْتَفِعَةٍ مِنَ الْأُفُقِ فَلَا يَكُونُ جِرْمُ الشَّمْسِ مُقَابِلًا لِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ ضَوْءِ الشَّمْسِ عَلَى وَجْهِ الأرض، وإذ كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ ضَوْءُ
75
الصُّبْحِ مِنْ تَأْثِيرِ قُرْصِ الشَّمْسِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِتَخْلِيقِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ.
فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الشَّمْسُ حِينَ كَوْنِهَا تَحْتَ الْأَرْضِ تُوجِبُ إِضَاءَةَ ذَلِكَ الْهَوَاءِ الْمُقَابِلِ لَهُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْهَوَاءُ مُقَابِلٌ لِلْهَوَاءِ الْوَاقِفِ فَوْقَ الْأَرْضِ، فَيُصَيِّرُهُ ضَوْءُ الْهَوَاءِ الْوَاقِفِ تَحْتَ الْأَرْضِ سَبَبًا لِضَوْءِ الْهَوَاءِ الْوَاقِفِ فَوْقَ الْأَرْضِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَسْرِي ذَلِكَ الضَّوْءُ مِنْ هَوَاءٍ إِلَى هَوَاءٍ/ آخَرَ مُلَاصِقٍ لَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْهَوَاءِ الْمُحِيطِ بِنَا هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْهَيْثَمِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ «بِالْمَنَاظِرِ الْكَثَّةِ».
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْعُذْرَ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْهَوَاءَ جِرْمٌ شَفَّافٌ عَدِيمُ اللَّوْنِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ النُّورَ، وَاللَّوْنُ فِي ذَاتِهِ وَجَوْهَرِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفَلَاسِفَةِ. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوِ اسْتَقَرَّ النُّورُ عَلَى سَطْحِهِ لَوَقَفَ الْبَصَرُ عَلَى سَطْحِهِ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا نَفَذَ الْبَصَرُ فِيمَا وَرَاءَهُ، وَلَصَارَ إِبْصَارُهُ مَانِعًا عَنْ إِبْصَارِ مَا وَرَاءَهُ، فَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلِ اللَّوْنَ وَالنُّورَ فِي ذَاتِهِ وَجَوْهَرِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَنْعَكِسَ النُّورُ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَامْتَنَعَ أَنْ يَصِيرَ ضَوْءُهُ، سَبَبًا لِضَوْءِ هَوَاءٍ آخَرَ مُقَابِلٍ لَهُ.
فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَصَلَ فِي الْأُفُقِ أَجْزَاءٌ كَثِيفَةٌ مِنَ الْأَبْخِرَةِ وَالْأَدْخِنَةِ؟ وَهِيَ لِكَثَافَتِهَا تَقْبَلُ النُّورَ عَنْ قُرْصِ الشَّمْسِ. ثُمَّ إِنَّ بِحُصُولِ الضَّوْءِ فِيهَا يَصِيرُ سَبَبًا لِحُصُولِ الضَّوْءِ فِي الْهَوَاءِ الْمُقَابِلِ لَهَا، فَنَقُولُ:
لَوْ كَانَ السَّبَبُ مَا ذَكَرْتُمْ لَكَانَ كُلَّمَا كَانَتِ الْأَبْخِرَةُ وَالْأَدْخِنَةُ فِي الْأُفُقِ أَكْثَرَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَوْءُ الصَّبَاحِ أَقْوَى لَكِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ عَلَى الْعَكْسِ مِنْهُ فَبَطَلَ هَذَا الْعُذْرُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي إِبْطَالِ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْهَيْثَمِ أَنَّ الدَّائِرَةَ الَّتِي هِيَ دَائِرَةُ الْأُفُقِ لَنَا، فَهِيَ بِعَيْنِهَا دَائِرَةُ نِصْفِ النَّهَارِ لِقَوْمٍ آخَرِينَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالدَّائِرَةُ الَّتِي هِيَ نِصْفُ النَّهَارِ فِي بَلَدِنَا، وَجَبَ كَوْنُهَا دَائِرَةَ الْأُفُقِ لِأُولَئِكَ الْأَقْوَامِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا وَصَلَ مَرْكَزُ الشَّمْسِ إِلَى دَائِرَةِ نِصْفِ اللَّيْلِ وَتَجَاوَزَ عَنْهَا، فَالشَّمْسُ قَدْ طَلَعَتْ عَلَى أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ، وَاسْتَنَارَ نِصْفُ الْعَامِ هُنَاكَ، وَالرُّبْعُ مِنَ الْفَلَكِ الَّذِي هُوَ رُبْعٌ شَرْقِيٌّ لِأَهْلِ بَلَدِنَا فَهُوَ بِعَيْنِهِ رُبْعٌ غَرْبِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالشَّمْسُ إِذَا تَجَاوَزَ مَرْكَزُهَا عَنْ دَائِرَةِ نِصْفِ اللَّيْلِ قَدْ صَارَ جِرْمُهَا مُحَاذِيًا لِهَوَاءِ الرُّبْعِ الشَّرْقِيِّ لِأَهْلِ بَلَدِنَا. فَلَوْ كَانَ الْهَوَاءُ يَقْبَلُ كَيْفِيَّةَ النُّورِ مِنَ الشَّمْسِ لَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ الضَّوْءُ وَالنُّورُ فِي هَوَاءِ الرُّبْعِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَلَدِنَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ. وَأَنْ يَصِيرَ هَوَاءُ الرُّبْعِ الشَّرْقِيِّ فِي غَايَةِ الْإِضَاءَةِ وَالْإِنَارَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْهَوَاءَ لَا يَقْبَلُ كَيْفِيَّةَ النُّورِ فِي ذَاتِهِ. وَإِذَا بَطَلَ هَذَا بَطَلَ الْعُذْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْهَيْثَمِ فَقَدْ ذَكَرْنَا بُرْهَانَيْنِ دَقِيقَيْنِ عَقْلِيَّيْنِ مَحْضَيْنِ عَلَى أَنَّ خَالِقَ الضَّوْءِ وَالظُّلْمَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى لَا قُرْصُ الشَّمْسِ واللَّه أَعْلَمُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّ النُّورَ الْحَاصِلَ فِي الْعَالَمِ إِنَّمَا كَانَ بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ. إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: / الْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ حُصُولُ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ لِقُرْصِ الشَّمْسِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِتَخْلِيقِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. أَمَّا بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فِي كَوْنِهَا أَجْسَامًا وَمُتَحَيَّزَةً. فَلَوْ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهَا لَكَانَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ وَاقِعًا فِي مَفْهُومٍ مُغَايِرٍ لِمَفْهُومِ الْجِسْمِيَّةِ ضَرُورَةَ أَنَّ مَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ مُغَايِرٌ لما
76
بِهِ الْمُخَالَفَةُ فَنَقُولُ: ذَلِكَ الْأَمْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْجِسْمِيَّةِ أَوْ حَالًّا فِيهَا أَوْ لَا مَحَلًّا لَهَا وَلَا حَالًّا فِيهَا. وَالْأَوَّلُ:
بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْجِسْمِ صِفَةً قَائِمَةً بِذَاتٍ أُخْرَى وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَحَلَّ إِنْ كَانَ مُتَحَيِّزًا وَمُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ كَانَ مَحَلُّ الْجِسْمِ غَيْرَ الْجِسْمِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ الْحَاصِلُ فِي الْحَيِّزِ حَالًّا فِي مَحَلٍّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَحَيَازِ وَالْجِهَاتِ، وَذَلِكَ مَدْفُوعٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ:
الذَّوَاتُ هِيَ الْأَجْسَامُ وَمَا بِهِ قَدْ حَصَلَتِ الْمُخَالَفَةُ هُوَ الصِّفَاتُ وَكُلُّ مَا يَصِحُّ عَلَى الشَّيْءِ صَحَّ عَلَى مِثْلِهِ فَلَمَّا كَانَتِ الذَّوَاتُ مُتَمَاثِلَةً فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا يَصِحُّ عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَا بِهِ حَصَلَتِ الْمُخَالَفَةُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْجِسْمِ وَلَا حَالًّا فِيهِ، وَفَسَادُ هَذَا الْقِسْمِ ظَاهِرٌ. فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كُلُّ مَا يَصِحُّ عَلَى أَحَدِ الْمَثَلَيْنِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَيْضًا عَلَى الْمَثَلِ الثَّانِي. وَإِذَا اسْتَوَتِ الْأَجْسَامُ بِأَسْرِهَا فِي قَبُولِ جَمِيعِ الصِّفَاتِ عَلَى الْبَدَلِ كَانَ اخْتِصَاصُ جِسْمِ الشَّمْسِ لِهَذِهِ الْإِضَاءَةِ وَهَذِهِ الْإِنَارَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَطْلُوبِ أَنَّ الظُّلْمَةَ شَبِيهَةٌ بِالْعَدَمِ. بَلِ الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَفْهُومٌ عَدَمِيٌّ وَالنُّورُ مَحْضُ الْوُجُودِ. فَإِذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ حَصَلَ الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ فِي قَلْبِ الْكُلِّ فَاسْتَوْلَى النَّوْمُ عَلَيْهِمْ وَصَارُوا كَالْأَمْوَاتِ وَسَكَنَتِ الْمُتَحَرِّكَاتُ وَتَعَطَّلَتِ التَّأْثِيرَاتُ وَرُفِعَتِ التَّفْعِيلَاتُ فَإِذَا وَصَلَ نُورُ الصَّبَاحِ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ فَكَأَنَّهُ نَفَخَ فِي الصُّورِ مَادَّةَ الْحَيَاةِ وَقُوَّةَ الْإِدْرَاكِ فَضَعُفَ النَّوْمُ وَابْتَدَأَتِ الْيَقَظَةُ بِالظُّهُورِ. وَكُلَّمَا كَانَ نُورُ الصَّبَاحِ أَقْوَى وَأَكْمَلَ كَانَ ظُهُورُ قُوَّةِ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ فِي الْحَيَوَانَاتِ أَكْمَلَ. وَمَعْلُومٌ أَنْ أَعْظَمَ نِعَمِ اللَّه عَلَى الْخَلْقِ هُوَ قُوَّةُ الْحَيَاةِ وَالْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ وَلَمَّا كَانَ النُّورُ هُوَ السَّبَبَ الْأَصْلِيَّ لِحُصُولِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَانَ تَأْثِيرُ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى فِي تَخْلِيقِ النُّورِ مِنْ أَعْظَمِ أَقْسَامِ النِّعَمِ وَأَجَلِّ أَنْوَاعِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ فَالِقًا لِلْإِصْبَاحِ فِي كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى أَجَلَّ أَقْسَامِ الدَّلَائِلِ، وَفِي كَوْنِهِ فَضْلًا وَرَحْمَةً وَإِحْسَانًا مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْخَلْقِ أَجَلَّ الْأَقْسَامِ وَأَشْرَفَ الْأَنْوَاعِ/ فَهَذَا مَا حَضَرَنَا فِي تَقْرِيرِ دَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فالِقُ الْإِصْباحِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ الْحَكَمِ. واللَّه أَعْلَمُ.
وَلْنَخْتِمْ هَذِهِ الدَّلَائِلَ بِخَاتِمَةٍ شَرِيفَةٍ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى فَالِقُ ظُلْمَةِ الْعَدَمِ بِصَبَاحِ التَّكْوِينِ وَالْإِيجَادِ وَفَالِقُ ظُلْمَةِ الْجَمَادِيَّةِ بِصَبَاحِ الْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ وَالرَّشَادِ، وَفَالِقُ ظُلْمَةِ الْجَهَالَةِ بِصَبَاحِ الْعَقْلِ وَالْإِدْرَاكِ، وَفَالِقُ ظُلُمَاتِ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ بِتَخْلِيصِ النَّفْسِ الْقُدْسِيَّةِ إِلَى صُبْحَةِ عَالَمِ الْأَفْلَاكِ، وَفَالِقُ ظُلُمَاتِ الِاشْتِغَالِ بِعَالَمِ الْمُمْكِنَاتِ بِصَبَاحِ نُورِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ مُدَبِّرِ الْمُحْدَثَاتِ وَالْمُبْدَعَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْإِصْباحِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ اللَّيْثُ: الصُّبْحُ وَالصَّبَاحُ هُمَا أَوَّلُ النَّهَارِ وَهُوَ الْإِصْبَاحُ أَيْضًا. قَالَ تَعَالَى: فالِقُ الْإِصْباحِ يَعْنِي الصُّبْحَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَفْنَى رِيَاحًا وَبَنِي رِيَاحٍ تَنَاسُخُ الْإِمْسَاءِ وَالْإِصْبَاحِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِصْباحِ مَصْدَرٌ سُمِّي به الصبح.
77
فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فَلَقَ الصُّبْحَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ تَعَالَى فَلَقَ الظُّلْمَةَ بِالصُّبْحِ فَكَيْفَ الْوَجْهُ فِيهِ؟ فَنَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَالِقَ ظُلْمَةِ الْإِصْبَاحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُفُقَ مِنَ الْجَانِبِ الشَّمَالِيِّ وَالْغَرْبِيِّ وَالْجَنُوبِيِّ مَمْلُوءٌ مِنَ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ. وَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ فَكَأَنَّ الْأُفُقَ كَانَ بَحْرًا مَمْلُوءًا مِنَ الظُّلْمَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَقَّ ذَلِكَ الْبَحْرَ الْمُظْلِمَ بِأَنْ أَجْرَى جَدْوَلًا مِنَ النُّورِ فِيهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ فَالِقُ ظُلْمَةِ الْإِصْبَاحِ بِنُورِ الْإِصْبَاحِ وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مَعْلُومًا حَسُنَ الْحَذْفُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا يَشُقُّ بَحْرَ الظُّلْمَةِ عَنْ نُورِ الصُّبْحِ فَكَذَلِكَ يَشُقُّ نُورَ الصُّبْحِ عَنْ بَيَاضِ النَّهَارِ فَقَوْلُهُ: فالِقُ الْإِصْباحِ أَيْ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ بِبَيَاضِ النَّهَارِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ ظُهُورَ النُّورِ فِي الصَّبَاحِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى فَلَقَ تِلْكَ الظُّلْمَةَ فَقَوْلُهُ: فالِقُ الْإِصْباحِ أَيْ مُظْهِرُ الْإِصْبَاحِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ الْإِظْهَارِ هُوَ ذَلِكَ الْفَلْقَ لَا جَرَمَ ذَكَرَ اسْمَ السَّبَبِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمُسَبَّبُ. الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْفَالِقُ هُوَ الْخَالِقُ فَكَانَ الْمَعْنَى خَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ واللَّه أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وجاعل اللَّيْلَ سَكَنًا فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ. فَأَوَّلُهَا: ظُهُورُ الصَّبَاحِ وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ بمقدار الفهم. وثانيها: قوله وجاعل اللَّيْلَ سَكَنًا وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : السَّكَنُ مَا يَسْكُنُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ وَيَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ اسْتِئْنَاسًا بِهِ وَاسْتِرْوَاحًا إِلَيْهِ مِنْ زَوْجٍ أَوْ حَبِيبٍ، وَمِنْهُ قِيلَ: لِلنَّارِ سَكَنٌ لِأَنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهَا أَلَا تَرَاهُمْ سَمَّوْهَا/ الْمُؤْنِسَةَ. ثُمَّ إِنَّ اللَّيْلَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ لِأَنَّهُ أَتْعَبَ نَفْسَهُ بِالنَّهَارِ وَاحْتَاجَ إِلَى زَمَانٍ يَسْتَرِيحُ فِيهِ وَذَلِكَ هُوَ اللَّيْلُ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الْخَلْقَ يَبْقَوْنَ فِي الْجَنَّةِ فِي أَهْنَأِ عَيْشٍ، وَأَلَذِّ زَمَانٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ لَيْلٌ؟ فَعَلِمْنَا أَنَّ وُجُودَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَيْسَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ اللَّذَّةِ وَالْخَيْرِ فِي الْحَيَاةِ قُلْنَا: كَلَامُنَا فِي أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ مَصَالِحِ هَذَا الْعَالَمِ، أَمَّا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَهَذِهِ الْعَادَاتُ غَيْرُ بَاقِيَةٍ فِيهِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَجَعَلَ اللَّيْلَ عَلَى صِيغَةِ الْفِعْلِ، وَالْبَاقُونَ جَاعِلُ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ حُجَّةُ مَنْ قَرَأَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ أَنَّ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ اسْمُ الْفَاعِلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فالِقُ الْحَبِّ وفالِقُ الْإِصْباحِ [الأنعام: ٩٥- ٩٦] وَجَاعِلٌ أَيْضًا اسْمُ الْفَاعِلِ. وَيَجِبُ كَوْنُ الْمَعْطُوفِ مُشَارِكًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَحُجَّةُ مَنْ قَرَأَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مَنْصُوبَانِ وَلَا بد لهذا النصب من عامل، وما ذلك إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ قَوْلُهُ:
وَجَعَلَ بِمَعْنَى وَجَاعِلٌ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً فَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدَّرَ حَرَكَةَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِحِسَابٍ مُعَيَّنٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي قَوْلُهُ:
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يُونُسَ: ٥] وَقَالَ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرحمن: ٥] وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ حَرَكَةَ الشَّمْسِ مَخْصُوصَةً بِمِقْدَارٍ مِنَ السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ بِحَيْثُ تَتِمُّ الدَّوْرَةُ فِي سَنَةٍ، وَقَدَّرَ حَرَكَةَ الْقَمَرِ بِحَيْثُ يُتِمُّ الدَّوْرَةَ فِي شَهْرٍ، وَبِهَذِهِ الْمَقَادِيرِ تَنْتَظِمُ مَصَالِحُ الْعَالَمِ فِي الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَبِسَبَبِهَا يَحْصُلُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ نُضْجِ الثِّمَارِ،
78
وَحُصُولِ الْغَلَّاتِ، وَلَوْ قَدَّرْنَا كَوْنَهَا أَسْرَعَ أَوْ أَبْطَأَ مِمَّا وَقَعَ، لَاخْتَلَّتْ هَذِهِ الْمَصَالِحُ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً.
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: فِي الْحُسْبَانِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْهَيْثَمِ أَنَّهُ جَمْعُ حِسَابٍ مِثْلُ رِكَابٌ وَرُكْبَانَ وَشِهَابٌ وَشُهْبَانَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُسْبَانَ مَصْدَرٌ كَالرُّجْحَانِ وَالنُّقْصَانِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْحُسْبَانُ بِالضَّمِّ مَصْدَرُ حَسَبَ، كَمَا أَنَّ الْحِسْبَانَ بِالْكَسْرِ مَصْدَرُ حَسِبَ، وَنَظِيرُهُ الْكُفْرَانُ وَالْغُفْرَانُ وَالشُّكْرَانُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَعْنَى جَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا جَعَلَهُمَا عَلَى حِسَابٍ. لِأَنَّ حِسَابَ الْأَوْقَاتِ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِدَوْرِهِمَا وَسَيْرِهِمَا.
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ قُرِئَا بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، فَالنَّصْبُ/ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ قوله: جاعل اللَّيْلَ أَيْ وَجَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا، وَالْجَرُّ عَطْفٌ عَلَى لَفْظِ اللَّيْلِ، وَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مَجْعُولَانِ حُسْبَانًا: أَيْ مَحْسُوبَانِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْعَزِيزُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَالْعَلِيمُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ عِلْمِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ تَقْدِيرَ أَجْرَامِ الْأَفْلَاكِ بِصِفَاتِهَا الْمَخْصُوصَةِ وَهَيْئَاتِهَا الْمَحْدُودَةِ، وَحَرَكَاتِهَا الْمُقَدَّرَةِ بِالْمَقَادِيرِ الْمَخْصُوصَةِ فِي الْبُطْءِ وَالسُّرْعَةِ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا بِقُدْرَةٍ كَامِلَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَعِلْمٍ نَافِذٍ فِي جَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَالصِّفَاتِ لَيْسَ بِالطَّبْعِ وَالْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِتَخْصِيصِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٧]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧)
هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا لِتَهْتَدِيَ الْخَلْقُ بِهَا إِلَى الطُّرُقِ وَالْمَسَالِكِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَهْتَدُونَ بِهَا إِلَى الْمَسَالِكِ وَالطُّرُقِ الَّتِي يُرِيدُونَ الْمُرُورَ فِيهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ يَسْتَدِلُّونَ بِأَحْوَالِ حَرَكَةِ الشَّمْسِ عَلَى مَعْرِفَةِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَدِلُّونَ بِحَرَكَةِ الشَّمْسِ فِي النَّهَارِ عَلَى الْقِبْلَةِ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِأَحْوَالِ الْكَوَاكِبِ فِي اللَّيَالِي عَلَى مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ كَوْنَ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ زِينَةً لِلسَّمَاءِ، فَقَالَ: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الْفُرْقَانِ: ٦١] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ [الصَّافَّاتِ: ٦] وَقَالَ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [الْبُرُوجِ: ١].
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي مَنَافِعِهَا كَوْنَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أَيْ فِي ظُلُمَاتِ التَّعْطِيلِ وَالتَّشْبِيهِ، فَإِنَّ الْمُعَطِّلَ يَنْفِي كَوْنَهُ فَاعِلًا مُخْتَارًا، وَالْمُشَبِّهَ يُثْبِتُ كَوْنَهُ تَعَالَى جِسْمًا مُخْتَصًّا بِالْمَكَانِ فَهُوَ تَعَالَى خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِيُهْتَدَى بِهَا فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الظُّلُمَاتِ، أَمَّا الِاهْتِدَاءُ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ بَرِّ التَّعْطِيلِ، فَذَلِكَ لأنا نشاهد
هَذِهِ الْكَوَاكِبَ مُخْتَلِفَةً فِي صِفَاتٍ كَثِيرَةٍ فَبَعْضُهَا سَيَّارَةٌ وَبَعْضُهَا ثَابِتَةٌ، وَالثَّوَابِتُ بَعْضُهَا فِي الْمِنْطَقَةِ وَبَعْضُهَا فِي الْقُطْبَيْنِ، وَأَيْضًا الثَّوَابِتُ لَامِعَةٌ وَالسَّيَّارَةُ غَيْرُ لَامِعَةٍ، وَأَيْضًا بَعْضُهَا كَبِيرَةٌ دُرِّيَّةٌ عَظِيمَةُ الضَّوْءِ، وَبَعْضُهَا صَغِيرَةٌ خَفِيَّةٌ قَلِيلَةُ الضَّوْءِ، وَأَيْضًا قَدَّرُوا مَقَادِيرَهَا عَلَى سَبْعِ مَرَاتِبَ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ اخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا بِتَقْدِيرِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ فَهَذَا وَجْهُ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ بَرِّ التَّعْطِيلِ. وَأَمَّا وَجْهُ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ بَحْرِ التَّشْبِيهِ فَلِأَنَّا نَقُولُ إِنَّهُ لَا عَيْبَ يَقْدَحُ فِي إِلَهِيَّةِ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ إِلَّا أَنَّهَا أَجْسَامٌ فَتَكُونُ مُؤَلَّفَةً مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، وَأَيْضًا إِنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ وَمَحْدُودَةٌ وَأَيْضًا إِنَّهَا مُتَغَيِّرَةٌ وَمُتَحَرِّكَةٌ وَمُنْتَقِلَةٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ إِنْ لَمْ تَكُنْ عُيُوبًا فِي الْإِلَهِيَّةِ امْتَنَعَ الطَّعْنُ فِي إِلَهِيَّتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ عُيُوبًا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَجَبَ تَنْزِيهُ الْإِلَهِ عَنْهَا بِأَسْرِهَا فَوَجَبَ الْجَزْمُ بِأَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَبْعَاضِ وَالْحَدِّ وَالنِّهَايَةِ وَالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، فَهَذَا بَيَانُ الِاهْتِدَاءِ بِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ فِي بَرِّ التَّعْطِيلِ وَبَحْرِ التَّشْبِيهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عُدُولًا عَنْ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ إِلَى مَجَازِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَرِيبٌ مُنَاسِبٌ لِعَظَمَةِ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: فِي مَنَافِعِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا [آلِ عِمْرَانَ: ١٩١] فَنَبَّهَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ عَلَى أَنَّ فِي وُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا حِكْمَةً عَالِيَةً وَمَنْفَعَةً شَرِيفَةً، وَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا يُحِيطُ عَقْلُنَا بِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَجَبَ نَفْيُهُ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُقَدِّرَ حِكْمَةَ اللَّه تَعَالَى فِي مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ بِمِكْيَالِ خَيَالِهِ وَمِقْيَاسِ قِيَاسِهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ بِأَحْوَالِ هَذِهِ النُّجُومِ. قَالَ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ النُّجُومَ كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى الطُّرُقَاتِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَكَذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعِلْمِ هَاهُنَا الْعَقْلَ فَقَوْلُهُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْبَقَرَةِ: ١٦٤] إِلَى قَوْلِهِ:
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَفِي آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٠] وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: / لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَيَتَأَمَّلُونَ وَيَسْتَدِلُّونَ بِالْمَحْسُوسِ عَلَى الْمَعْقُولِ وَيَنْتَقِلُونَ مِنَ الشَّاهِدِ إلى الغائب.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٨]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ] هَذَا نَوْعٌ رَابِعٌ مِنْ دَلَائِلِ وُجُودِ الْإِلَهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِأَحْوَالِ الْإِنْسَانِ فَنَقُولُ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ هِيَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ. وَحَوَّاءُ مَخْلُوقَةٌ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ. فَصَارَ كُلُّ النَّاسِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ آدَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْقَوْلُ فِي عِيسَى؟
قُلْنَا: هُوَ أَيْضًا مَخْلُوقٌ مِنْ مَرْيَمَ الَّتِي هِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ أَبَوَيْهَا.
فَإِنْ قَالُوا: أَلَيْسَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ الْكَلِمَةِ أَوْ مِنَ الرُّوحِ الْمَنْفُوخِ فِيهَا فَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ؟
قُلْنَا: كَلِمَةُ «مِنْ» تُفِيدُ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ وَلَا نِزَاعَ أَنَّ ابْتِدَاءَ تَكَوُّنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنْ مَرْيَمَ وَهَذَا الْقَدْرُ
80
كَافٍ فِي صِحَّةِ هَذَا اللَّفْظِ. قَالَ الْقَاضِي: فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْشَأَكُمْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: خَلَقَكُمْ لِأَنَّ أَنْشَأَكُمْ يُفِيدُ أَنَّهُ خَلَقَكُمْ لَا ابْتِدَاءً. وَلَكِنْ عَلَى وَجْهِ النُّمُوِّ وَالنُّشُوءِ لَا مِنْ مَظْهَرٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، كَمَا يُقَالُ: فِي النَّبَاتِ إِنَّهُ تَعَالَى أَنْشَأَهُ بِمَعْنَى النُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ إِلَى وَقْتِ الِانْتِهَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ فَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فَمُسْتَقَرٌّ بِكَسْرِ الْقَافِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ، يُقَالُ: قَرَّ فِي مَكَانِهِ وَاسْتَقَرَّ فَمَنْ كَسَرَ الْقَافَ كَانَ الْمُسْتَقِرُّ بِمَعْنَى الْقَارِّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ الْمُضْمَرَ «مِنْكُمْ» أَيْ مِنْكُمْ مُسْتَقِرٌّ. وَمَنْ فَتَحَ الْقَافَ فَلَيْسَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِأَنَّ اسْتَقَرَّ لَا يَتَعَدَّى فَلَا يَكُونُ لَهُ مَفْعُولٌ بِهِ فَيَكُونُ اسْمَ مَكَانٍ فَالْمُسْتَقِرُّ بِمَنْزِلَةِ الْمَقَرِّ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ الْمُضْمَرَ «مِنْكُمْ» بَلْ يَكُونُ خَبَرُهُ «لَكُمْ» فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ لَكُمْ مَقَرٌّ وَأَمَّا الْمُسْتَوْدَعُ فَإِنَّ اسْتَوْدَعَ فِعْلٌ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ تَقُولُ اسْتَوْدَعْتُ زَيْدًا أَلْفًا وَأَوْدَعْتُ مِثْلَهُ، فَالْمُسْتَوْدَعُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْإِنْسَانِ الَّذِي اسْتَوْدَعَ ذَلِكَ الْمَكَانَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانَ نَفْسَهُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَنْ قَرَأَ مُسْتَقَرًّا بِفَتْحِ الْقَافِ جَعَلَ الْمُسْتَوْدَعَ مَكَانًا لِيَكُونَ مِثْلَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالتَّقْدِيرُ فَلَكُمْ مَكَانُ اسْتِقْرَارٍ وَمَكَانُ اسْتِيدَاعٍ وَمَنْ قَرَأَ فَمُسْتَقَرٌّ بِالْكَسْرِ، فَالْمَعْنَى: مِنْكُمْ مُسْتَقِرٌّ وَمِنْكُمْ مُسْتَوْدَعٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْكُمْ مَنِ اسْتَقَرَّ وَمِنْكُمْ مَنِ اسْتَوْدَعَ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ أَقْرَبُ إِلَى النَّبَاتِ مِنَ الْمُسْتَوْدَعِ فَالشَّيْءُ الَّذِي حَصَلَ فِي مَوْضِعٍ وَلَا يَكُونُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ يُسَمَّى مُسْتَقَرًّا فِيهِ، وَأَمَّا إِذَا حَصَلَ فِيهِ وَكَانَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ يُسَمَّى مُسْتَوْدَعًا لِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ فِي مَعْرِضٍ أَنْ يُسْتَرَدَّ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: كَثُرَ اخْتِلَافُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَالْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ هُوَ الْأَرْحَامُ وَالْمُسْتَوْدَعَ الْأَصْلَابُ قَالَ كُرَيْبٌ: كَتَبَ جَرِيرٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَأَجَابَ الْمُسْتَوْدَعُ الصُّلْبُ وَالْمُسْتَقَرُّ الرَّحِمُ ثُمَّ قَرَأَ: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ [الحج: ٥] وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى قُوَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ النُّطْفَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَبْقَى فِي صُلْبِ الْأَبِ زَمَانًا طَوِيلًا وَالْجَنِينَ يَبْقَى فِي رَحِمِ الْأُمِّ زَمَانًا طَوِيلًا، وَلَمَّا كَانَ الْمُكْثُ فِي الرَّحِمِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي صُلْبِ الْأَبِ كَانَ حَمْلُ الِاسْتِقْرَارِ عَلَى الْمُكْثِ فِي الرَّحِمِ أَوْلَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ صُلْبُ الْأَبِ وَالْمُسْتَوْدَعَ رَحِمُ الْأُمِّ، لِأَنَّ النُّطْفَةَ حَصَلَتْ فِي صُلْبِ الْأَبِ لَا مِنْ قِبَلِ الْغَيْرِ وَهِيَ حَصَلَتْ فِي رَحِمِ الْأُمِّ بِفِعْلِ الْغَيْرِ، فَحُصُولُ تِلْكَ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ مِنْ قِبَلِ الرَّجُلِ مُشَبَّهٌ بِالْوَدِيعَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمُسْتَقَرِّ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ وَحُصُولُ النُّطْفَةِ فِي صُلْبِ الْأَبِ مُقَدَّمٌ عَلَى حُصُولِهَا فِي رَحِمِ الْأُمِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَقَرُّ مَا فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ مَا فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْمُسْتَقَرُّ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ سَعِيدًا فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ تِلْكَ السَّعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا فَقَدِ اسْتَقَرَّتْ تِلْكَ الشَّقَاوَةُ وَلَا تَبْدِيلَ فِي أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَمَّا قَبْلَ الْمَوْتِ فَالْأَحْوَالُ مُتَبَدِّلَةٌ. فَالْكَافِرُ قَدْ يَنْقَلِبُ مُؤْمِنًا وَالزِّنْدِيقُ قَدْ يَنْقَلِبُ صِدِّيقًا، فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ لِكَوْنِهَا عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ لَا يَبْعُدُ تَشْبِيهُهَا بِالْوَدِيعَةِ الَّتِي تَكُونُ مُشْرِفَةً عَلَى الزَّوَالِ وَالذَّهَابِ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ. إِنَّ الْمُسْتَقَرَّ مَنْ خُلِقَ مِنَ النَّفْسِ الْأُولَى وَدَخَلَ الدُّنْيَا وَاسْتَقَرَّ فِيهَا،
81
وَالْمُسْتَوْدَعَ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ وَسَيُخْلَقُ.
وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: لِلْأَصَمِّ أَيْضًا الْمُسْتَقَرُّ مَنِ اسْتَقَرَّ فِي قَرَارِ الدُّنْيَا وَالْمُسْتَوْدَعُ مَنْ فِي الْقُبُورِ حَتَّى يُبْعَثَ.
وَعَنْ قَتَادَةَ عَلَى الْعَكْسِ مِنْهُ فَقَالَ مُسْتَقَرٌّ فِي الْقَبْرِ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي الدُّنْيَا.
الْقَوْلُ السَّادِسُ: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ إِنَّ التَّقْدِيرَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمِنْكُمْ مُسْتَقَرٌّ ذَكَرٌ وَمِنْكُمْ مُسْتَوْدَعٌ أُنْثَى إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنِ الذَّكَرِ بِالْمُسْتَقَرِّ لِأَنَّ النُّطْفَةَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ فِي صُلْبِهِ وَإِنَّمَا تَسْتَقِرُّ هُنَاكَ وَعَبَّرَ عَنِ الْأُنْثَى بِالْمُسْتَوْدَعِ لِأَنَّ رَحِمَهَا شَبِيهَةٌ بِالْمُسْتَوْدَعِ لِتِلْكَ النُّطْفَةِ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: مَقْصُودُ الْكَلَامِ أَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا تَوَلَّدُوا مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ بِحَسَبِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فَنَقُولُ: الْأَشْخَاصُ الْإِنْسَانِيَّةُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ وَمُخْتَلِفَةٌ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا حَصَلَ التَّفَاوُتُ فِي الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ وَالِاخْتِلَافُ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ وَمُؤَثِّرٍ وَلَيْسَ السَّبَبُ هُوَ الْجِسْمِيَّةَ وَلَوَازِمَهَا وَإِلَّا لَامْتَنَعَ حُصُولُ التَّفَاوُتِ فِي الصِّفَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ هُوَ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ الْحَكِيمَ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الدلالة قوله تعالى: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّهُ بَيَّنَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ عَلَى وَجْهِ الْفَصْلِ لِلْبَعْضِ عَنِ الْبَعْضِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى تَمَسَّكَ أَوَّلًا بِتَكْوِينِ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ مِنَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ التَّمَسُّكَ بِالدَّلَائِلِ الْفَلَكِيَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ التَّمَسُّكَ بِأَحْوَالِ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ فَقَدْ مَيَّزَ تَعَالَى بَعْضَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ عَنْ بَعْضٍ، وَفَصَلَ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ظَاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِغَرَضٍ وَحِكْمَةٍ.
وَجَوَابُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ اللَّامَ لَامُ الْعَاقِبَةِ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى التَّشْبِيهِ بِحَالِ مَنْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِغَرَضٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ الْفِقْهَ، وَالْفَهْمَ وَالْإِيمَانَ، وَمَا أَرَادَ بِأَحَدٍ مِنْهُمُ الْكُفْرَ. وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَجَوَابُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّمَا فَصَّلْتُ هَذَا الْبَيَانَ لِمَنْ عَرَفَ وَفَقِهَ وَفَهِمَ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ لَا غَيْرَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ السَّابِقَةَ، وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ فِيهَا بِأَحْوَالِ النُّجُومِ بقوله:
يَعْلَمُونَ وختم آخره هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: يَفْقَهُونَ وَالْفَرْقُ أَنَّ إِنْشَاءَ الإنس من وَاحِدَةٍ، وَتَصْرِيفَهُمْ بَيْنَ أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ أَلْطَفُ وَأَدَقُّ صَنْعَةً وَتَدْبِيرًا، فَكَانَ ذِكْرُ الْفِقْهِ هَاهُنَا لِأَجْلِ أَنَّ الْفِقْهَ يُفِيدُ مَزِيدَ فِطْنَةٍ وَقُوَّةٍ وَذَكَاءٍ وفهم. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٩]
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الْخَامِسَ مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَوُجُوهِ إِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ كَمَا أَنَّهَا دَلَائِلُ فَهِيَ أَيْضًا نِعَمٌ بَالِغَةٌ، وَإِحْسَانَاتٌ كَامِلَةٌ، وَالْكَلَامُ إِذَا كَانَ دَلِيلًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَكَانَ إِنْعَامًا وَإِحْسَانًا مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ. كَانَ تَأْثِيرُهُ فِي الْقَلْبِ عَظِيمًا، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمُشْتَغِلَ
82
بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْدِلَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَفِي الْآيَةِ مسائل:
المسألة الأول: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً يَقْتَضِي نُزُولَ الْمَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ، وَعِنْدَ هَذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» : إِنَّهُ تَعَالَى يُنْزِلُ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى السَّحَابِ، وَمِنَ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ. قَالَ لِأَنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ يَقْتَضِي نُزُولَ الْمَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْعُدُولُ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَى التَّأْوِيلِ، إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ إِجْرَاءَ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ نُزُولِ الْمَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ، فَوَجَبَ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْبُخَارَاتِ الْكَثِيرَةَ تَجْتَمِعُ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ. ثُمَّ تَصْعَدُ وَتَرْتَفِعُ إِلَى الْهَوَاءِ، فَيَنْعَقِدُ الْغَيْمُ مِنْهَا وَيَتَقَاطَرُ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطَرُ، فَقَدِ احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ عَلَى فَسَادِهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبَرْدَ قَدْ يُوجَدُ فِي وَقْتِ الْحَرِّ، بَلْ فِي صَمِيمِ الصَّيْفِ، وَنَجِدُ الْمَطَرَ فِي أَبْرَدِ وَقْتٍ يَنْزِلُ غَيْرَ جَامِدٍ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْقَوْمَ يُجِيبُونَ عَنْهُ فَيَقُولُونَ: لَا شَكَّ أَنَّ الْبُخَارَ أَجْزَاءٌ مائة وَطَبِيعَتُهَا الْبَرْدُ، فَفِي وَقْتِ الصَّيْفِ يَسْتَوْلِي الْحَرُّ عَلَى ظَاهِرِ السَّحَابِ، فَيَهْرُبُ الْبَرْدُ إِلَى بَاطِنِهِ، فَيَقْوَى الْبَرْدُ هُنَاكَ بِسَبَبِ الِاجْتِمَاعِ، فَيَحْدُثُ الْبَرْدُ، وَأَمَّا فِي وَقْتِ بَرْدِ الْهَوَاءِ يَسْتَوْلِي الْبَرْدُ عَلَى ظَاهِرِ السَّحَابِ، فَلَا يَقْوَى الْبَرْدُ فِي بَاطِنِهِ، فَلَا جَرَمَ لَا يَنْعَقِدُ جَمَدًا بَلْ يَنْزِلُ مَاءً، هَذَا مَا قَالُوهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الطَّبَقَةَ الْعَالِيَةَ مِنَ الْهَوَاءِ بَارِدَةٌ جِدًّا عِنْدَكُمْ، فَإِذَا كَانَ الْيَوْمُ يَوْمًا بَارِدًا شَدِيدَ الْبَرْدِ فِي صَمِيمِ الشِّتَاءِ، فَتِلْكَ الطَّبَقَةُ بَارِدَةٌ جِدًّا، وَالْهَوَاءُ الْمُحِيطُ بِالْأَرْضِ أَيْضًا بَارِدٌ جِدًّا، فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَدَّ الْبَرْدُ، وَأَنْ لَا يَحْدُثَ الْمَطَرُ فِي الشِّتَاءِ الْبَتَّةَ، وَحَيْثُ شَاهَدْنَا أَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ فَسَدَ قَوْلُكُمْ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مِمَّا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْبُخَارَاتِ إِذَا ارْتَفَعَتْ وَتَصَاعَدَتْ تَفَرَّقَتْ وَإِذَا تَفَرَّقَتْ لَمْ يَتَوَلَّدْ مِنْهَا قَطَرَاتُ الْمَاءِ، بَلِ الْبُخَارُ إِنَّمَا يَجْتَمِعُ إِذَا اتَّصَلَ بِسَقْفٍ مُتَّصِلٍ أَمْلَسَ كَسُقُوفِ الْحَمَّامَاتِ الْمُزَجَّجَةِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَسِلْ مِنْهُ مَاءٌ كَثِيرٌ، فَإِذَا تَصَاعَدَتِ الْبُخَارَاتُ فِي الْهَوَاءِ، وَلَيْسَ فَوْقَهَا سَطْحٌ أَمْلَسُ مُتَّصِلٌ بِهِ تِلْكَ الْبُخَارَاتُ، وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَوْمُ يُجِيبُونَ عَنْهُ: بِأَنَّ هَذِهِ الْبُخَارَاتِ إِذَا تَصَاعَدَتْ وَتَفَرَّقَتْ، فَإِذَا وَصَلَتْ عِنْدَ صُعُودِهَا وَتَفَرُّقِهَا إِلَى الطَّبَقَةِ الْبَارِدَةِ مِنَ الْهَوَاءِ بَرَدَتْ، وَالْبَرَدُ يُوجِبُ الثِّقَلَ وَالنُّزُولَ، فَبِسَبَبِ قُوَّةِ ذَلِكَ الْبَرْدِ عَادَتْ مِنَ الصُّعُودِ إلى النزول، والعالم كري الشَّكْلِ، فَلَمَّا رَجَعَتْ مِنَ الصُّعُودِ إِلَى النُّزُولِ، فَقَدْ رَجَعَتْ مِنْ فَضَاءِ الْمُحِيطَ إِلَى ضِيقِ الْمَرْكَزِ، فَتِلْكَ الذَّرَّاتُ بِهَذَا السَّبَبِ تَلَاصَقَتْ وَتَوَاصَلَتْ، فَحَصَلَ مِنَ اتِّصَالِ بَعْضِ تِلْكَ الذَّرَّاتِ بَعْضُ قَطَرَاتِ الْأَمْطَارِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: مَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ قَالَ: لَوْ كَانَ تَوَلُّدُ الْمَطَرِ مِنْ صُعُودِ الْبُخَارَاتِ، فَالْبُخَارَاتُ دَائِمَةُ الِارْتِفَاعِ مِنَ الْبِحَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يَدُومَ هُنَاكَ نُزُولُ الْمَطَرِ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، عَلِمْنَا فَسَادَ قَوْلِهِمْ. قَالَ: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ، أَنَّهُ لَيْسَ تَوَلُّدُ الْمَطَرِ مِنْ بُخَارِ الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْقَوْمُ إِنَّمَا احْتَاجُوا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْأَجْسَامَ قَدِيمَةٌ، وَإِذَا كَانَتْ قَدِيمَةً امْتَنَعَ دُخُولُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهَا، وَحِينَئِذٍ لَا مَعْنَى لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ إِلَّا اتِّصَافَ تِلْكَ الذَّرَّاتِ بِصِفَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِصِفَاتٍ أُخْرَى، فَلِهَذَا السَّبَبِ احتالوا في تكوين كل شي عَنْ مَادَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ. فَلَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ الْأَجْسَامَ مُحْدَثَةٌ، وَأَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْأَجْسَامِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، فَعِنْدَ هَذَا لَا حَاجَةَ إِلَى اسْتِخْرَاجِ هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ
83
فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِنَّمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى امْتِنَاعِ هَذَا الظَّاهِرِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِحَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ مَا قُلْنَاهُ: أَنَّ جَمِيعَ الْآيَاتِ نَاطِقَةٌ بِنُزُولِ الْمَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ. قَالَ تَعَالَى: / وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً [الْفُرْقَانِ: ٤٨] وَقَالَ: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الْأَنْفَالِ: ١١] وَقَالَ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النُّورِ: ٤٣] فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ، أَنَّهُ تَعَالَى يُنَزِّلُ الْمَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَخْلُقُ هَذِهِ الْأَجْسَامَ فِي السَّمَاءِ. ثُمَّ يُنْزِلُهَا إِلَى السَّحَابِ. ثُمَّ مِنَ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ إِنْزَالُ الْمَطَرِ مِنْ جَانِبِ السَّمَاءِ مَاءً.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً وَسَمَّى اللَّه تَعَالَى السَّحَابَ سَمَاءً، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُلَّ مَا فَوْقَكَ سَمَاءً كَسَمَاءِ الْبَيْتِ، فَهَذَا مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِالْمَاءِ هَاهُنَا الْمَطَرَ وَلَا يُنْزِلُ نُقْطَةً مِنَ الْمَطَرِ إِلَّا وَمَعَهَا مَلَكٌ، وَالْفَلَاسِفَةُ يَحْمِلُونَ ذَلِكَ الْمَلَكَ عَلَى الطَّبِيعَةِ الْحَالَّةِ فِي تِلْكَ الْجِسْمِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ النُّزُولِ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ السموات، فَالْقَوْلُ بِهِ مُشْكِلٌ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَخْرَجَ النَّبَاتَ بِوَاسِطَةِ الْمَاءِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِالطَّبْعِ وَالْمُتَكَلِّمُونَ يُنْكِرُونَهُ، وَقَدْ بَالَغْنَا فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٢] فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ شَيْءٍ نَبَاتٌ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَكَانَ الْمُرَادُ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ نَبَاتٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي لَا نَبَاتَ لَهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا بِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَنْزَلَ يُسَمَّى الْتِفَاتًا. وَيُعَدُّ ذَلِكَ من الفضاحة.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الْعَرَبِيَّةِ ادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ مِنَ الْفَصَاحَةِ. وَمَا بَيَّنُوا أَنَّهُ مِنْ أَيِّ الْوُجُوهِ يُعَدُّ مِنْ هَذَا الْبَابِ؟ وَأَمَّا نَحْنُ فَقَدْ أَطْنَبْنَا فِيهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يُونُسَ: ٢٢] فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ.
وَالْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا صِيغَةُ الْجَمْعِ. واللَّه وَاحِدٌ فَرْدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِلَّا أَنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ إِذَا كَنَّى عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّمَا يُكَنِّي بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَنَظِيرُهُ قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ [الدخان: ٣] إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً [نوح: ١] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر: ٩].
أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً فَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى خَضِرٍ، كَمَعْنَى أَخْضَرَ، يُقَالُ اخْضَرَّ/ فَهُوَ أَخْضَرُ وَخَضِرٌ، مَثَّلَ اعْوَرَّ فَهُوَ أَعْوَرُ وَعَوِرٌ. وَقَالَ اللَّيْثُ: الْخَضِرُ فِي كِتَابِ اللَّه هُوَ الزَّرْعُ وَفِي الْكَلَامِ كُلُّ نَبَاتٍ مِنَ الْخَضِرِ، وَأَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى حَصَرَ النَّبْتَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قِسْمَيْنِ: حَيْثُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى فَالَّذِي يَنْبُتُ مِنَ الْحَبِّ هُوَ الزَّرْعُ، وَالَّذِي يَنْبُتُ مِنَ النَّوَى هُوَ الشَّجَرُ فَاعْتَبَرَ هَذِهِ الْقِسْمَةَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَابْتَدَأَ بِذِكْرِ الزَّرْعِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً وَهُوَ الزَّرْعُ، كَمَا رُوِّينَاهُ عَنِ اللَّيْثِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
84
يُرِيدُ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ وَالسَّلْتَ وَالذُّرَةَ وَالْأُرْزَ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْخَضِرِ الْعُودُ الْأَخْضَرُ الَّذِي يَخْرُجُ أَوَّلًا وَيَكُونُ السُّنْبُلُ فِي أَعْلَاهُ وَقَوْلُهُ: نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً يَعْنِي يُخْرِجُ مِنْ ذَلِكَ الْخَضِرِ حَبًّا مُتَرَاكِبًا بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فِي سُنْبُلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ ذَلِكَ الْعُودُ الْأَخْضَرُ وَتَكُونُ السُّنْبُلَةُ مُرَكَّبَةً عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِهِ وَتَكُونُ الْحَبَّاتُ مُتَرَاكِبَةً بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَيَحْصُلُ فَوْقَ السُّنْبُلَةِ أَجْسَامٌ دَقِيقَةٌ حَادَّةٌ كَأَنَّهَا الْإِبَرُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَخْلِيقِهَا أَنْ تَمْنَعَ الطُّيُورَ مِنَ الْتِقَاطِ تِلْكَ الْحَبَّاتِ الْمُتَرَاكِبَةِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ مَا يَنْبُتُ مِنَ الْحَبِّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا يَنْبُتُ مِنَ النَّوَى، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي فَقَالَ: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَهَاهُنَا مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَ الزَّرْعِ عَلَى ذِكْرِ النَّخْلِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّرْعَ أَفْضَلُ مِنَ النَّخْلِ.
وَهَذَا الْبَحْثُ قَدْ أَفْرَدَ الْجَاحِظُ فِيهِ تَصْنِيفًا مُطَوَّلًا.
الْبَحْثُ الثَّانِي: رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَطْلَعَتِ النَّخْلُ إِذَا أَخْرَجَتْ طَلْعَهَا وَطَلْعُهَا كِيزَانُهَا قَبْلَ أَنْ يَنْشَقَّ عَنِ الْإِغْرِيضِ، وَالْإِغْرِيضُ يُسَمَّى طَلْعًا أَيْضًا. قَالَ وَالطَّلْعُ أَوَّلُ مَا يُرَى مِنْ عِذْقِ النَّخْلَةِ، الْوَاحِدَةُ طَلْعَةٌ. وَأَمَّا قِنْوانٌ فَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْقِنْوَانُ جَمْعُ قِنْوٍ. مِثْلَ صِنْوَانٍ وَصِنْوٍ. وَإِذَا ثَنَّيْتَ الْقِنْوَ قُلْتَ قِنْوَانِ بِكَسْرِ النُّونِ، فَجَاءَ هَذَا الْجَمْعُ عَلَى لَفْظِ الِاثْنَيْنِ وَالْإِعْرَابُ فِي النُّونِ لِلْجَمْعِ.
إِذَا عَرَفْتَ تَفْسِيرَ اللَّفْظِ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: قِنْوانٌ دانِيَةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْعَرَاجِينَ الَّتِي قَدْ تَدَلَّتْ مِنَ الطَّلْعِ دَانِيَةً مِمَّنْ يَجْتَنِيهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: قِصَارُ النَّخْلِ اللَّاصِقَةُ عُذُوقَهَا بِالْأَرْضِ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَمْ يَقُلْ وَمِنْهَا قِنْوَانٌ بَعِيدَةٌ لِأَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي كَمَا قَالَ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: ٨١] وَلَمْ يَقُلْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْبَرْدَ، لِأَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي، فَكَذَا هَاهُنَا وَقِيلَ أَيْضًا: ذَكَرَ الدَّانِيَةَ فِي الْقَرِيبَةِ، وَتَرَكَ الْبَعِيدَةَ لِأَنَّ النِّعْمَةَ فِي الْقَرِيبَةِ أَكْمَلُ وَأَكْثَرُ.
وَالْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قِنْوانٌ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَمِنَ النَّخْلِ خَبَرُهُ مِنْ طَلْعِها بَدَلٌ مِنْهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَحَاصِلَةٌ مِنْ طَلْعِ النَّخْلِ قِنْوَانٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ/ أَخْرَجْنَا عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ، وَمُخْرَجَةٌ مِنْ طَلْعِ النَّخْلِ قِنْوَانٌ. وَمَنْ قَرَأَ يُخْرَجُ مِنْهُ حَبٌّ مُتَرَاكِبٌ كان قِنْوانٌ عنده معطوفا على قوله: حَبًّا وَقُرِئَ قِنْوانٌ بِضَمِّ الْقَافِ وَبِفَتْحِهَا عَلَى أَنَّهُ اسم جمع كركب لِأَنَّ فِعْلَانَ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّكْسِيرِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ عَاصِمٌ: جَنَّاتٌ بِضَمِّ التَّاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: وَالْبَاقُونَ جَنَّاتٍ بِكَسْرِ التَّاءِ. أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَلَهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُرَادَ، وَثُمَّ وجنات مِنْ أَعْنَابٍ أَيْ مَعَ النَّخْلِ وَالثَّانِي: أَنْ يُعْطَفَ عَلَى قِنْوانٌ عَلَى مَعْنَى وَحَاصِلَةٌ أَوْ وَمُخْرَجَةٌ مِنَ النَّخْلِ قِنْوَانٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ فَوَجْهُهَا الْعَطْفُ عَلَى قَوْلِهِ: نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَخْرَجْنَا بِهِ جَنَّاتٍ من أعناب، وكذلك قوله:
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ [الأنعام: ١٤١] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَنْتَصِبَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النِّسَاءِ: ١٦٢] لِفَضْلِ هذين الصنفين.
85
البحث الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلُهُ: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ يُرِيدُ شجر الزيتون، وشجر الرمان كما قال:
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: ٨٢] يُرِيدُ أَهْلَهَا.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَاهُنَا أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْأَشْجَارِ. النَّخْلَ وَالْعِنَبَ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الزَّرْعَ عَلَى الشَّجَرِ لِأَنَّ الزَّرْعَ غِذَاءٌ، وَثِمَارُ الْأَشْجَارِ فَوَاكِهٌ، وَالْغِذَاءُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفَاكِهَةِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ النَّخْلَ عَلَى سَائِرِ الْفَوَاكِهِ لِأَنَّ التَّمْرَ يَجْرِي مَجْرَى الْغِذَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرَبِ وَلِأَنَّ الْحُكَمَاءَ بَيَّنُوا أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَيَوَانِ مُشَابَهَةً فِي خَوَاصَّ كَثِيرَةٍ بِحَيْثُ لَا تُوجَدُ تِلْكَ الْمُشَابَهَةُ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَكْرِمُوا عَمَّتَكُمُ النَّخْلَةَ، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ بَقِيَّةِ طِينَةِ آدَمَ»
وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعِنَبَ عَقِيبَ النَّخْلِ لِأَنَّ الْعِنَبَ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَظْهَرُ يَصِيرُ مُنْتَفَعًا بِهِ إِلَى آخِرِ الْحَالِ فَأَوَّلُ مَا يَظْهَرُ عَلَى الشَّجَرِ يَظْهَرُ خُيُوطٌ خُضْرٌ دَقِيقَةٌ حَامِضَةُ الطَّعْمِ لَذِيذَةُ الْمَطْعَمِ، وَقَدْ يُمْكِنُ اتِّخَاذُ الطَّبَائِخِ مِنْهُ، ثُمَّ بَعْدَهُ يَظْهَرُ الْحِصْرِمُ، وَهُوَ طَعَامٌ شَرِيفٌ لِلْأَصِحَّاءِ وَالْمَرْضَى، وَقَدْ يُتَّخَذُ الْحِصْرِمُ أَشْرِبَةً لَطِيفَةَ الْمَذَاقِ نَافِعَةً لِأَصْحَابِ الصَّفْرَاءِ، وَقَدْ يُتَّخَذُ الطَّبِيخُ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ أَلَذُّ الطَّبَائِخِ الْحَامِضَةِ. ثُمَّ إِذَا تَمَّ الْعِنَبُ فَهُوَ أَلَذُّ الْفَوَاكِهِ وَأَشْهَاهَا، وَيُمْكِنُ ادِّخَارُ الْعِنَبِ الْمُعَلَّقِ سَنَةً أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَلَذُّ الْفَوَاكِهِ الْمُدَّخَرَةِ ثُمَّ يَبْقَى مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمُتَنَاوَلَاتِ، وَهِيَ الزَّبِيبُ وَالدِّبْسُ وَالْخَمْرُ وَالْخَلُّ، وَمَنَافِعُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ لَا يُمْكِنُ ذكرها إلى فِي الْمُجَلَّدَاتِ، وَالْخَمْرُ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْعُ قَدْ حَرَّمَهَا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَتِهَا: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ثم قال: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما فَأَحْسَنُ مَا فِي الْعِنَبِ عَجَمُهُ. وَالْأَطِبَّاءُ يَتَّخِذُونَ مِنْهُ جُوَارِشَنَاتٍ عَظِيمَةَ النَّفْعِ لِلْمَعِدَةِ الضَّعِيفَةِ الرَّطْبَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعِنَبَ كَأَنَّهُ سُلْطَانُ الْفَوَاكِهِ، وَأَمَّا الزَّيْتُونُ/ فَهُوَ أَيْضًا كَثِيرُ النَّفْعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَنَاوُلُهُ كَمَا هُوَ، وَيَنْفَصِلُ أَيْضًا عَنْهُ دُهْنٌ كَثِيرٌ عَظِيمُ النَّفْعِ فِي الْأَكْلِ وَفِي سَائِرِ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ. وَأَمَّا الرُّمَّانُ فَحَالُهُ عَجِيبٌ جِدًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: قِشْرُهُ وَشَحْمُهُ وَعَجَمُهُ وَمَاؤُهُ.
أَمَّا الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ وَهِيَ: الْقِشْرُ وَالشَّحْمُ وَالْعَجَمُ، فَكُلُّهَا بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ أَرْضِيَّةٌ كَثِيفَةٌ قَابِضَةٌ عَفْصَةٌ قَوِيَّةٌ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَأَمَّا مَاءُ الرُّمَّانِ، فَبِالضِّدِّ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ. فَإِنَّهُ أَلَذُّ الْأَشْرِبَةِ وَأَلْطَفُهَا وَأَقْرَبُهَا إِلَى الِاعْتِدَالِ وَأَشَدُّهَا مُنَاسَبَةً لِلطِّبَاعِ الْمُعْتَدِلَةِ، وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْمِزَاجِ الضَّعِيفِ، وَهُوَ غِذَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَدَوَاءٌ مِنْ وَجْهٍ، فَإِذَا تَأَمَّلْتَ فِي الرُّمَّانِ وَجَدْتَ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ مَوْصُوفَةً بِالْكَثَافَةِ التَّامَّةِ الْأَرْضِيَّةِ، وَوَجَدْتَ الْقِسْمَ الرَّابِعَ وَهُوَ مَاءُ الرُّمَّانِ مَوْصُوفًا بِاللَّطَافَةِ وَالِاعْتِدَالِ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ الْمُتَغَايِرَيْنِ، فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ فِيهِ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَفِيَ بِشَرْحِهَا مُجَلَّدَاتٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِهَا تَنْبِيهًا عَلَى الْبَوَاقِي، وَلَمَّا ذَكَرَهَا قَالَ تَعَالَى: مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ وَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: فِي تَفْسِيرِ مُشْتَبِهاً وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْفَوَاكِهَ قَدْ تَكُونُ مُتَشَابِهَةً فِي اللَّوْنِ وَالشَّكْلِ، مَعَ أَنَّهَا تَكُونُ مُخْتَلِفَةً فِي الطَّعْمِ وَاللَّذَّةِ، وَقَدْ تَكُونُ مُخْتَلِفَةً فِي اللَّوْنِ وَالشَّكْلِ، مَعَ أَنَّهَا تَكُونُ مُتَشَابِهَةً فِي الطَّعْمِ وَاللَّذَّةِ، فَإِنَّ الْأَعْنَابَ وَالرُّمَّانَ قَدْ تَكُونُ مُتَشَابِهَةً فِي الصُّورَةِ وَاللَّوْنِ وَالشَّكْلِ. ثُمَّ إِنَّهَا تَكُونُ مُخْتَلِفَةً فِي الْحَلَاوَةِ وَالْحُمُوضَةِ وَبِالْعَكْسِ. الثَّانِي: أَنَّ أَكْثَرَ الْفَوَاكِهِ يَكُونُ مَا فِيهَا مِنَ الْقِشْرِ وَالْعَجَمِ مُتَشَابِهًا فِي الطَّعْمِ وَالْخَاصِّيَّةِ. وَأَمَّا مَا فِيهَا مِنَ اللَّحْمِ وَالرُّطُوبَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُخْتَلِفًا فِي الطَّعْمِ، وَالثَّالِثُ: قَالَ قَتَادَةُ: أَوْرَاقُ الْأَشْجَارِ
86
تَكُونُ قَرِيبَةً مِنَ التَّشَابُهِ. أَمَّا ثِمَارُهَا فَتَكُونُ مُخْتَلِفَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْأَشْجَارُ مُتَشَابِهَةٌ وَالثِّمَارُ مُخْتَلِفَةٌ، وَالرَّابِعُ: أَقُولُ إِنَّكَ قَدْ تَأْخُذُ الْعُنْقُودَ مِنَ الْعِنَبِ فَتَرَى جَمِيعَ حَبَّاتِهِ مُدْرَكَةً نَضِيجَةً حُلْوَةً طَيِّبَةً إِلَّا حَبَّاتٍ مَخْصُوصَةً مِنْهَا بَقِيَتْ عَلَى أَوَّلِ حَالِهَا مِنَ الْخُضْرَةِ وَالْحُمُوضَةِ وَالْعُفُوصَةِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَبَعْضُ حَبَّاتِ ذَلِكَ الْعُنْقُودِ مُتَشَابِهَةٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مُتَشَابِهٍ.
وَالْبَحْثُ الثَّانِي: يُقَالُ: اشْتَبَهَ الشَّيْئَانِ وَتَشَابَهَا كَقَوْلِكَ اسْتَوَيَا وَتَسَاوَيَا، وَالِافْتِعَالُ وَالتَّفَاعُلُ يَشْتَرِكَانِ كَثِيرًا، وَقُرِئَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ.
وَالْبَحْثُ الثَّالِثُ: إِنَّمَا قَالَ مُشْتَبِهًا وَلَمْ يَقُلْ مُشْتَبِهِينَ إِمَّا اكْتِفَاءً بِوَصْفِ أَحَدِهِمَا، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ: وَالزَّيْتُونَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ وَالرُّمَّانَ كَذَلِكَ كَقَوْلِهِ:
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِيًّا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوَى رَمَانِي
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ ثُمُرِهِ بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْمِيمِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو ثُمْرِهِ بِضَمِّ الثَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ. أَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: فَلَهَا وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَبْيَنُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ ثُمُرِهِ عَلَى ثُمُرٍ كَمَا قَالُوا: خَشَبَةٌ وَخُشُبٌ. قَالَ تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [الْمُنَافِقُونَ: ٤] وَكَذَلِكَ أَكَمَةٌ وَأُكُمٌ. ثُمَّ يُخَفِّفُونَ فَيَقُولُونَ أُكْمٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَى الْأَكَمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمَعَ ثُمُرَهُ عَلَى ثِمَارٍ. ثُمَّ جَمَعَ ثِمَارًا عَلَى ثُمُرٍ فَيَكُونُ ثُمُرٌ جَمْعَ الْجَمْعِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو فَوَجْهُهَا أَنَّ تَخْفِيفَ ثُمُرٍ ثُمْرٌ كَقَوْلِهِمْ: رُسُلٌ وَرُسْلٌ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ فَوَجْهُهَا: أَنَّ الثَّمَرَ جَمْعُ ثَمَرَةٍ، مِثْلُ بَقَرَةٍ وَبَقَرٍ، وَشَجَرَةٍ وَشَجَرٍ، وَخَرَزَةٍ وَخَرَزٍ.
وَالْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْيَنْعُ النُّضْجُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ يَنَعَ يَيْنِعُ، بِالْفَتْحِ فِي الْمَاضِي وَالْكَسْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يَنِعَتِ الثَّمَرَةُ بِالْكَسْرِ، وَأَيْنَعَتْ فَهِيَ تَيْنَعُ وَتُونِعُ إِينَاعًا وَيَنْعًا بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَيُنْعًا بِضَمِّ الْيَاءِ، وَالنَّعْتُ يَانِعٌ وَمُونِعٌ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ وَيَنْعِهِ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَيَانِعِهِ.
وَالْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ أَمْرٌ بِالنَّظَرِ فِي حَالِ الثَّمَرِ فِي أَوَّلِ حُدُوثِهَا. وَقَوْلِهِ:
وَيَنْعِهِ أَمْرٌ بِالنَّظَرِ فِي حَالِهَا عِنْدَ تَمَامِهَا وَكَمَالِهَا، وَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ الِاسْتِدْلَالِ وَالْحُجَّةِ الَّتِي هِيَ تَمَامُ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الثِّمَارَ وَالْأَزْهَارَ تَتَوَلَّدُ فِي أَوَّلِ حُدُوثِهَا عَلَى صِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَعِنْدَ تَمَامِهَا وَكَمَالِهَا لَا تَبْقَى عَلَى حَالَاتِهَا الْأُولَى، بَلْ تَنْتَقِلُ إِلَى أَحْوَالٍ مُضَادَّةٍ لِلْأَحْوَالِ السَّابِقَةِ، مِثْلِ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِلَوْنِ الْخُضْرَةِ فَتَصِيرُ مُلَوَّنَةً بِلَوْنِ السَّوَادِ أَوْ بِلَوْنِ الْحُمْرَةِ، وَكَانَتْ مَوْصُوفَةً بِالْحُمُوضَةِ فَتَصِيرُ مَوْصُوفَةً بِالْحَلَاوَةِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بَارِدَةً بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ، فَتَصِيرُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ حَارَّةً بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ، فَحُصُولُ هَذِهِ التَّبَدُّلَاتِ وَالتَّغَيُّرَاتِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَذَلِكَ السَّبَبُ لَيْسَ هُوَ تَأْثِيرَ الطَّبَائِعِ وَالْفُصُولِ وَالْأَنْجُمِ وَالْأَفْلَاكِ، لِأَنَّ نِسْبَةَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ بِأَسْرِهَا إِلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الْمُتَبَايِنَةِ مُتَسَاوِيَةٌ مُتَشَابِهَةٌ، وَالنِّسَبُ الْمُتَشَابِهَةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَمَّا بَطُلَ إِسْنَادُ حُدُوثِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ إِلَى الطَّبَائِعِ وَالْأَنْجُمِ والأفلاك
87
وَجَبَ إِسْنَادُهَا إِلَى الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ الْمُدَبِّرِ لِهَذَا الْعَالَمِ عَلَى وِفْقِ الرَّحْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ.
وَلَمَّا نَبَّهَ اللَّه سُبْحَانَهُ عَلَى مَا فِي هَذَا الْوَجْهِ اللَّطِيفِ مِنَ الدَّلَالَةِ قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ لِمَنْ يَطْلُبُ الْإِيمَانَ باللَّه تَعَالَى، لِأَنَّهُ آيَةٌ لِمَنْ آمَنَ وَلِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ/ وَجْهُ تَخْصِيصِ الْمُؤْمِنِينَ بِالذِّكْرِ أَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَمَا تقدم تقريره في قوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ دَلَالَةَ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ ظَاهِرَةٌ قَوِيَّةٌ جَلِيَّةٌ، فَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: لِمَ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ وُجُودِ مِثْلِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ الْجَلِيَّةِ الظَّاهِرَةِ الْقَوِيَّةِ؟
فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ قُوَّةَ الدَّلِيلِ لَا تُفِيدُ وَلَا تَنْفَعُ إِلَّا إِذَا قَدَّرَ اللَّه لِلْعَبْدِ حُصُولَ الْإِيمَانِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: هَذِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى قُوَّتِهَا وَظُهُورِهَا دَلَالَةٌ لِمَنْ سَبَقَ قَضَاءُ اللَّه فِي حَقِّهِ بِالْإِيمَانِ، فَأَمَّا مَنْ سَبَقَ قَضَاءُ اللَّه لَهُ بِالْكُفْرِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ الْبَتَّةَ أَصْلًا، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّخْصِيصِ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٠]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠)
في الآية مسائل:
[في قوله تعالى وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ] المسألة الأولى: [أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَثْبَتَ للَّه شُرَكَاءً] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْبَرَاهِينَ الْخَمْسَةَ مِنْ دَلَائِلِ الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ وَالْعَالَمِ الْأَعْلَى عَلَى ثُبُوتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ. ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَثْبَتَ للَّه شُرَكَاءً، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا إِلَّا أَنَّ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الشَّرِيكَ للَّه فِرَقٌ وَطَوَائِفُ.
فَالطَّائِفَةُ الْأُولَى: عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ فَهُمْ يَقُولُونَ الْأَصْنَامُ شُرَكَاءُ للَّه فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَلَكِنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ.
وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ، مُدَبِّرُ هَذَا الْعَالَمِ هُوَ الْكَوَاكِبُ، وَهَؤُلَاءِ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا وَاجِبَةُ الْوُجُودِ لِذَاتِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا مُحْدَثَةٌ، وَخَالِقُهَا هُوَ اللَّه تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوَّضَ تَدْبِيرَ هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ إِلَيْهَا وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ حَكَى اللَّه عَنْهُمْ أَنَّ الْخَلِيلَ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ نَاظَرَهُمْ بِقَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ وَشَرْحُ هَذَا الدَّلِيلِ قَدْ مَضَى.
وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا لِجُمْلَةِ هَذَا الْعَالَمِ بِمَا فيه من السموات وَالْأَرَضِينَ إِلَهَانِ:
أَحَدُهُمَا فَاعِلُ الْخَيْرِ. وَالثَّانِي فَاعِلُ الشَّرِّ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حِكَايَةُ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ فَهَذَا تَقْرِيرُ نَظْمِ الْآيَةِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ. فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ نَزَلَتْ فِي الزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّه وَإِبْلِيسَ أَخَوَانِ فاللَّه تَعَالَى خَالِقُ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ وَالْخَيْرَاتِ، وَإِبْلِيسُ خَالِقُ السِّبَاعِ وَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالشُّرُورِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ بِهَذَا الْوَجْهِ يَحْصُلُ لِهَذِهِ الْآيَةِ مَزِيدُ فَائِدَةٍ مُغَايِرَةٍ لِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالَّذِي يُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصَّافَّاتِ: ١٥٨] وَإِنَّمَا وُصِفَ بِكَوْنِهِ مِنَ الْجِنِّ لِأَنَّ لَفْظَ الْجِنِّ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْتِتَارِ، وَالْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحَانِيُّونَ لَا يُرَوْنَ بِالْعُيُونِ فَصَارَتْ كَأَنَّهَا مُسْتَتِرَةٌ مِنَ الْعُيُونِ، فَبِهَذَا التَّأْوِيلِ
88
أُطْلِقَ لَفْظُ الْجِنِّ عَلَيْهَا، وَأَقُولُ: هَذَا مَذْهَبُ الْمَجُوسِ، وَإِنَّمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ، لِأَنَّ الْمَجُوسَ يُلَقَّبُونَ بِالزَّنَادِقَةِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ الَّذِي زَعَمَ زَرَادِشْتُ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه مُسَمًّى بِالزَّنْدِ وَالْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ يُسَمَّى زَنْدِيٌّ. ثُمَّ عُرِّبَ فَقِيلَ زِنْدِيقٌ. ثُمَّ جُمِعَ فَقِيلَ زَنَادِقَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَجُوسَ قَالُوا: كُلُّ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْخَيْرَاتِ فَهُوَ مِنْ يَزْدَانَ وَجَمِيعُ مَا فِيهِ مِنَ الشُّرُورِ فَهُوَ مِنْ أَهْرِمَنْ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِإِبْلِيسَ فِي شَرْعِنَا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ أَهْرِمَنْ مُحْدَثٌ، وَلَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ حُدُوثِهِ أَقْوَالٌ عَجِيبَةٌ، وَالْأَقَلُّونَ مِنْهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ شَرِيكٌ للَّه فِي تَدْبِيرِ هَذَا الْعَالَمِ فَخَيْرَاتُ هَذَا الْعَالَمِ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَشُرُورُهُ مِنْ إِبْلِيسَ فَهَذَا شَرْحُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: الْقَوْمُ أَثْبَتُوا للَّه شَرِيكًا وَاحِدًا وَهُوَ إِبْلِيسُ، فَكَيْفَ حَكَى اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا للَّه شُرَكَاءَ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ عَسْكَرُ اللَّه هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَعَسْكَرُ إِبْلِيسَ هُمُ الشَّيَاطِينُ وَالْمَلَائِكَةُ فِيهِمْ كَثْرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُمْ أَرْوَاحٌ طَاهِرَةٌ مُقَدَّسَةٌ وَهُمْ يُلْهِمُونَ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ بِالْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ. وَالشَّيَاطِينُ أَيْضًا فِيهِمْ كَثْرَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ تُلْقِي الْوَسَاوِسَ الْخَبِيثَةَ إِلَى الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ، واللَّه مَعَ عَسْكَرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُحَارِبُونَ إِبْلِيسَ مَعَ عَسْكَرِهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا للَّه شُرَكَاءَ مِنَ الْجِنِّ فَهَذَا تَفْصِيلُ هَذَا الْقَوْلِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَخَلَقَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ الدَّالِّ عَلَى فَسَادِ كَوْنِ إِبْلِيسَ شَرِيكًا للَّه تَعَالَى فِي مُلْكِهِ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا نَقَلْنَا عَنِ الْمَجُوسِ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ/ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ إِبْلِيسَ لَيْسَ بِقَدِيمٍ بَلْ هُوَ مُحْدَثٌ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ فَلَهُ خَالِقٌ وَمُوجِدٌ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهَؤُلَاءِ الْمَجُوسُ يَلْزَمُهُمُ الْقَطْعُ بِأَنَّ خَالِقَ إِبْلِيسَ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ إِبْلِيسُ أَصْلًا لِجَمِيعِ الشُّرُورِ وَالْآفَاتِ وَالْمَفَاسِدِ وَالْقَبَائِحِ، وَالْمَجُوسُ سَلَّمُوا أَنَّ خَالِقَهُ هُوَ اللَّه تَعَالَى، فَحِينَئِذٍ قَدْ سَلَّمُوا أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ هُوَ الْخَالِقُ لِمَا هُوَ أَصْلُ الشُّرُورِ وَالْقَبَائِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا لَا بُدَّ مِنْ إِلَهَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا فَاعِلًا لِلْخَيْرَاتِ، وَالثَّانِي يَكُونُ فَاعِلًا لِلشُّرُورِ لِأَنَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ ثَبَتَ أَنَّ إِلَهَ الْخَيْرِ هُوَ بِعَيْنِهِ الْخَالِقُ لِهَذَا الَّذِي هُوَ الشَّرُّ الْأَعْظَمُ فَقَوْلُهُ تعالى: وَخَلَقَهُمْ إشارة إلى أن تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِهَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينِ عَلَى مَذْهَبِ الْمَجُوسِ، وَإِذَا كَانَ خَالِقًا لَهُمْ فَقَدِ اعْتَرَفُوا بِكَوْنِ إِلَهِ الْخَيْرِ فَاعِلًا لِأَعْظَمِ الشُّرُورِ، وَإِذَا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ وَسَقَطَ قَوْلُهُمْ: لَا بُدَّ لِلْخَيْرَاتِ مِنْ إِلَهٍ، وَلِلشُّرُورِ مِنْ إِلَهٍ آخَرَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي اسْتِنْبَاطِ الْحُجَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَخَلَقَهُمْ مَا بَيَّنَّا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَفِي كِتَابِ «الْأَرْبَعِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ» أَنَّ مَا سِوَى الْوَاحِدِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مُمْكِنٍ لِذَاتِهِ فَهُوَ مُحْدَثٌ، يُنْتِجُ أَنَّ مَا سِوَى الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الْحَقِّ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَيَلْزَمُ الْقَطْعُ بِأَنَّ إِبْلِيسَ وَجَمِيعَ جُنُودِهِ يَكُونُونَ مَوْصُوفِينَ بِالْحُدُوثِ. وَحُصُولِ الْوُجُودِ بعدم الْعَدَمِ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْإِلْزَامُ الْمَذْكُورُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، فَهَذَا تَقْرِيرُ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وباللَّه التَّوْفِيقُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ مَعْنَاهُ: وَجَعَلُوا الْجِنَّ شركاء للَّه.
89
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّقْدِيمِ؟
قُلْنَا: قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ الَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ أَعَنَى، فَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّقْدِيمِ اسْتِعْظَامُ أَنْ يُتَّخَذَ للَّه شَرِيكٌ سَوَاءٌ كَانَ مَلَكًا أَوْ جِنِّيًّا أَوْ إِنْسِيًّا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَقْدِيمِ اسْمِ اللَّه عَلَى الشُّرَكَاءِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قُرِئَ الْجِنَّ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ وَالْجَرِّ، أَمَّا وَجْهُ النَّصْبِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: شُرَكاءَ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْبَدَلَ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ، فَلَوْ قِيلَ: وَجَعَلُوا للَّه الْجِنَّ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مَفْهُومًا بَلِ الْأَوْلَى جَعْلُهُ عَطْفُ بَيَانٍ. أَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِالرَّفْعِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ فَهَذَا الْكَلَامُ لَوْ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ لَصَحَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنُّ وَالْأِنْسُ وَالْحَجَرُ وَالْوَثَنُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَمَنْ أُولَئِكَ الشُّرَكَاءُ؟ فَقِيلَ: الْجِنُّ. وَأَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِالْجَرِّ فَعَلَى الْإِضَافَةِ الَّتِي هِيَ لِلتَّبْيِينِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الشِّرْكَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَالْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ حِكَايَةُ قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُ لِلْعَالَمِ إِلَهَيْنِ أَحَدُهُمَا فَاعِلُ الْخَيْرِ وَالثَّانِي فَاعِلُ الشَّرِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْجِنِّ الْمَلَائِكَةُ، وَإِنَّمَا حَسُنَ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ لَفْظَ الْجِنِّ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْتِتَارِ، وَالْمَلَائِكَةُ مُسْتَتِرُونَ عَنِ الْأَعْيُنِ، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ كَيْفَ يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِمُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه؟ قَوْلُهُمْ بِجَعْلِ الْمَلَائِكَةِ شُرَكَاءَ للَّه حَتَّى يَتِمَّ انْطِبَاقُ لَفْظِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَعَلَّهُ يُقَالُ إِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ مَعَ أَنَّهَا بَنَاتُ اللَّه فَهِيَ مُدَبِّرَةٌ لِأَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الشِّرْكُ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ الْمُرَادَ: أَنَّ الْجِنَّ دَعُوا الْكُفَّارَ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَإِلَى الْقَوْلِ بِالشِّرْكِ، فَقَبِلُوا مِنَ الْجِنِّ هَذَا الْقَوْلَ وَأَطَاعُوهُمْ، فَصَارُوا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَائِلِينَ: يَكُونُ الْجِنُّ شُرَكَاءَ للَّه تَعَالَى. وَأَقُولُ: الْحَقُّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَالْقَوْلَانِ الْأَخِيرَانِ ضَعِيفَانِ جَدًّا. أما تفسير هذا الشرك يقول الْعَرَبِ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه، فَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ قَدْ حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ:
١٠٠] فَالْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ الْبَنَاتِ للَّه لَيْسَ إِلَّا قَوْلَ مَنْ يَقُولُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه، فَلَوْ فَسَّرْنَا قَوْلَهُ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ بِهَذَا الْمَعْنَى يَلْزَمُ مِنْهُ التَّكْرَارُ فِي الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي إِبْطَالِ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْعَرَبَ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه، وَإِثْبَاتُ الْوَلَدِ للَّه غَيْرٌ، وَإِثْبَاتُ الشَّرِيكِ لَهُ غَيْرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الْإِخْلَاصِ: ٣، ٤] وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَيْنَ الْآخَرِ لَكَانَ هَذَا التَّفْصِيلُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَبَثًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَائِلِينَ بِيَزْدَانَ وَأَهْرِمَنْ يُصَرِّحُونَ بِإِثْبَاتِ شَرِيكٍ لِإِلَهِ الْعَالَمِ فِي تَدْبِيرِ هَذَا الْعَالَمِ، فَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنْهُ وَحَمْلُهُ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَنَاتِ صَرْفٌ لِلَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الشِّرْكَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ قَبِلُوا قَوْلَ الْجِنِّ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْقَوْلِ بِالشِّرْكِ لَا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ بِكَوْنِهِ شَرِيكًا للَّه لَا بِحَسَبِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَلَا بِحَسَبِ مَجَازِهِ، وَأَيْضًا فَلَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَزِمَ وُقُوعُ التَّكْرِيرِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، لأن الرد
90
عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَعَلَى عَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ قَدْ سَبَقَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ، فَثَبَتَ سُقُوطُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَظَهَرَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرْنَاهُ وَقَوَّيْنَاهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَهُمْ فَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَهُمْ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْجِنَّ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَالُوا الْجِنُّ شُرَكَاءُ اللَّه، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ أَهْرِمَنْ مُحْدَثٌ، ثُمَّ إِنَّ فِي الْمَجُوسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى تَفَكَّرَ فِي مَمْلَكَةِ نَفْسِهِ وَاسْتَعْظَمَهَا فَحَصَلَ نَوْعٌ مِنَ الْعَجَبِ، فَتَوَلَّدَ الشَّيْطَانُ عَنْ ذَلِكَ الْعَجَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ شَكَّ فِي قُدْرَةِ نَفْسِهِ فَتَوَلَّدَ مِنْ شَكِّهِ الشَّيْطَانُ، فَهَؤُلَاءِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ أَهْرِمَنْ مُحْدَثٌ، وَأَنَّ مُحْدِثَهُ هُوَ اللَّه تَعَالَى فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَمَتَى ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الشَّيْطَانَ مَخْلُوقٌ للَّه تَعَالَى امْتَنَعَ جَعْلُهُ شَرِيكًا للَّه فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ، لِأَنَّ الْخَالِقَ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنَ الْمَخْلُوقِ، وَجَعْلُ الضَّعِيفِ النَّاقِصِ شَرِيكًا لِلْقَوِيِّ الْكَامِلِ مُحَالٌ فِي الْعُقُولِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْجَاعِلِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الشَّرِكَةَ بَيْنَ اللَّه تَعَالَى وَبَيْنَ الْجِنِّ، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ صَارَ ذَلِكَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ دَلِيلًا قَاطِعًا تَامًّا كَامِلًا فِي إِبْطَالِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ فَائِدَةٌ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ وَاجِبٌ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْجِنُّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَيْهِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الكشاف» : قرئ وَخَلَقَهُمْ أي اختلافهم لِلْإِفْكِ. يَعْنِي: وَجَعَلُوا اللَّه خَلْقَهُمْ حَيْثُ نَسَبُوا ذَبَائِحَهُمْ إِلَى اللَّه فِي قَوْلِهِمْ: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها.
ثُمَّ قَالَ: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا إِبْلِيسَ شَرِيكًا للَّه تَعَالَى. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَكَى عَنْ أَقْوَامٍ آخَرِينَ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا للَّه بَنِينَ وَبَنَاتٍ. أَمَّا الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْبَنِينَ فَهُمُ النَّصَارَى وَقَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ وَأَمَّا الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْبَنَاتِ فَهُمُ الْعَرَبُ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا هُوَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ فِي فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ وَفِيهِ وُجُوهٌ.
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْإِلَهَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، فَوَلَدُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ قَائِمًا بِذَاتِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ فِي وُجُودِهِ بِالْآخَرِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَالِدٌ لَهُ الْبَتَّةَ لِأَنَّ الْوَلَدَ مُشْعِرٌ بِالْفَرْعِيَّةِ وَالْحَاجَةِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْوَلَدُ مُمْكِنَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ وَجُودُهُ بِإِيجَادِ وَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ عَبْدًا لَهُ وَلَا وَلَدًا لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ عَرَفَ أَنَّ الْإِلَهَ مَا هُوَ، امْتَنَعَ مِنْهُ أَنْ يُثْبِتَ لَهُ الْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْوَلَدَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ بَعْدَ فَنَائِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يُعْقَلُ فِي حَقِّ مَنْ يَفْنَى، أَمَّا مَنْ تَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يُعْقَلِ الْوَلَدُ فِي حَقِّهِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْوَلَدَ مُشْعِرٌ بِكَوْنِهِ مُتَوَلِّدًا عَنْ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَالِدِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يُعْقَلُ فِي حَقِّ مَنْ يَكُونُ مُرَكَّبًا وَيُمْكِنُ انْفِصَالُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ الْفَرْدِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ مُحَالٌ، فَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ
91
مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْإِلَهَ مَا حَقِيقَتُهُ اسْتَحَالَ أَنْ يَقُولَ لَهُ وَلَدٌ فَكَانَ قَوْلُهُ: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِشَارَةً إِلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَرَأَ نَافِعٌ وَخَرَقُوا مُشَدَّدَةَ الرَّاءِ. وَالْبَاقُونَ خَرَقُوا خَفِيفَةَ الرَّاءِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ:
الِاخْتِيَارُ التَّخْفِيفُ، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ وَالتَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى خَرَقُوا افتعلوا وافتروا. قال وخرقوا واخترقوا وخلقوا واختلفوا، وَافْتَرَوْا وَاحِدٌ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ: تَخَرَّقَ الْكَذِبَ وَتَخَلَّقَهُ، وَحَكَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ سُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَقَالَ: كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ كَانَتْ تَقُولُهَا. كَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَذَبَ كِذْبَةً فِي نَادِي الْقَوْمِ يَقُولُ لَهُ بَعْضُهُمْ قَدْ خَرَقَهَا، واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَرَقَ الثَّوْبَ إِذَا شَقَّهُ. أَيْ شَقُّوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ فَقَالَ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ تَنْزِيهٌ للَّه عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتَعالى فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعُلُوَّ فِي الْمَكَانِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَاهُنَا تَنْزِيهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ، وَالْعُلُوُّ فِي الْمَكَانِ لَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى. فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا التَّعَالِي عَنْ كُلِّ اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ. وَقَوْلٍ فَاسِدٍ.
فَإِنْ قَالُوا: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى بَيْنَ قَوْلِهِ: «سُبْحَانَهُ» وَبَيْنَ قَوْلِهِ: «وَتَعَالَى» فَرْقٌ.
قُلْنَا: بَلْ يَبْقَى بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ يُسَبِّحُهُ وَيُنَزِّهُهُ عَمًّا لَا يَلِيقُ بِهِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَتَعالى كَوْنُهُ فِي ذَاتِهِ مُتَعَالِيًا مُتَقَدِّسًا عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ سَوَاءٌ سَبَّحَهُ مُسَبِّحٌ أَوْ لَمْ يُسَبِّحْهُ، فَالتَّسْبِيحُ يَرْجِعُ إِلَى أَقْوَالِ الْمُسَبِّحِينَ، وَالتَّعَالِي يَرْجِعُ إِلَى صِفَتِهِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ لِذَاتِهِ لا لغيره.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠١]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فَسَادَ قَوْلِ طَوَائِفِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شَرَعَ فِي إِقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُ لَهُ الْوَلَدَ فَقَالَ: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ إِلَّا أَنَّا نُشِيرُ هَاهُنَا إِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. فَنَقُولُ: الْإِبْدَاعُ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْوِينِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ مِثَالٍ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ أَتَى فِي فَنٍّ مِنَ الْفُنُونِ بِطَرِيقَةٍ لَمْ يَسْبِقْهُ غَيْرُهُ فِيهَا، يُقَالُ: إِنَّهُ أَبْدَعَ فِيهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى سَلَّمَ لِلنَّصَارَى أَنَّ عِيسَى حَدَثَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا نُطْفَةٍ بَلْ إِنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ وَدَخَلَ فِي الْوُجُودِ. لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْرَجَهُ إِلَى الْوُجُودِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ الْأَبِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ إِنَّكُمْ إما أن تريدوا بكونه والدا للَّه تَعَالَى أَنَّهُ أَحْدَثَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْدَاعِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ نُطْفَةٍ وَوَالِدٍ. وَإِمَّا أَنْ تريدوا بكونه ولد اللَّه تَعَالَى كَمَا هُوَ الْمَأْلُوفُ الْمَعْهُودُ مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ وَلَدًا لِأَبِيهِ، وَإِمَّا أَنْ تُرِيدُوا بِكَوْنِهِ وَلَدًا للَّه مَفْهُومًا ثَالِثًا مُغَايِرًا لِهَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ.
أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: فَبَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ يُحْدِثُ الْحَوَادِثَ فِي مِثْلِ هَذَا العالم الأسفل بناء على أسباب معلومة ووسائط مَخْصُوصَةٍ إِلَّا أَنَّ النَّصَارَى يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْعَالَمَ الْأَسْفَلَ مُحْدَثٌ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ
92
كذلك. لزمهم الاعتراف بأنه تعالى خلق السموات وَالْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ مَادَّةٍ وَلَا مُدَّةٍ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إحداثه للسموات وَالْأَرْضِ إِبْدَاعًا فَلَوْ لَزِمَ مِنْ مُجَرَّدِ كَوْنِهِ مُبْدِعًا لِإِحْدَاثِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَوْنُهُ وَالِدًا له لزم من كونه مبدعا للسموات وَالْأَرْضِ كَوْنُهُ وَالِدًا لَهُمَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ مُبْدِعًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ وَالِدًا لَهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وإنما ذكر السموات وَالْأَرْضَ فَقَطْ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا فِيهِمَا لِأَنَّ حدوث ما في السموات وَالْأَرْضِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْدَاعِ، أَمَّا حُدُوثُ ذات السموات وَالْأَرْضِ فَقَدْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْدَاعِ، فَكَانَ المقصود من الإلزام حاصلا بذكر السموات والأرض. لا بذكر ما في السموات وَالْأَرْضِ، فَهَذَا إِبْطَالُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْقَوْمِ مِنَ الْوِلَادَةِ هُوَ الْأَمْرَ الْمُعْتَادَ الْمَعْرُوفَ مِنَ الْوِلَادَةِ فِي الْحَيَوَانَاتِ، فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ تِلْكَ الْوِلَادَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا مِمَّنْ كَانَتْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَشَهْوَةٌ، وَيَنْفَصِلُ عَنْهُ/ جُزْءٌ وَيُحْتَبَسُ ذَلِكَ الْجُزْءُ فِي بَاطِنِ تِلْكَ الصَّاحِبَةِ، وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ إِنَّمَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ الْجِسْمِ الَّذِي يَصِحُّ عَلَيْهِ الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَالْحَدُّ وَالنِّهَايَةُ وَالشَّهْوَةُ وَاللَّذَّةُ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى خَالِقِ الْعَالَمِ مُحَالٌ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَحْصِيلَ الْوَلَدِ بِهَذَا الطَّرِيقِ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَلَمَّا أَرَادَ الْوَلَدُ وَعَجَزَ عَنْ تَكْوِينِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً عَدَلَ إِلَى تَحْصِيلِهِ بِالطَّرِيقِ الْمُعْتَادِ. أَمَّا مَنْ كَانَ خَالِقًا لِكُلِّ الْمُمْكِنَاتِ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُحْدَثَاتِ، فَإِذَا أَرَادَ إِحْدَاثَ شَيْءٍ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَمَنْ كَانَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا صِفَتَهُ وَنَعْتَهُ، امْتَنَعَ مِنْهُ إِحْدَاثُ شَخْصٍ بِطْرِيقِ الْوِلَادَةِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لِأَنَّ الْقَدِيمَ يَجِبُ كَوْنُهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ. وَمَا كَانَ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ كَانَ غَنِيًّا عَنْ غَيْرِهِ فَامْتَنَعَ كَوْنُهُ وَلَدًا لِغَيْرِهِ. فَبَقِيَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَلَدًا لَوَجَبَ كَوْنُهُ حَادِثًا، فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ لَهُ فِي تَحْصِيلِ الْوَلَدِ كَمَالًا وَنَفْعًا أَوْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا وَقْتَ يَفْرِضُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ هَذَا الْوَلَدَ فِيهِ إِلَّا وَالدَّاعِي إِلَى إِيجَادِ هَذَا الْوَلَدِ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَتَى كَانَ الدَّاعِي إِلَى إِيجَادِهِ حَاصِلًا قَبْلَهُ وَجَبَ حُصُولُ الْوَلَدِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا يُوجِبُ كَوْنَ ذَلِكَ الْوَلَدِ أَزَلِيًّا وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي تَحْصِيلِ الْوَلَدِ كَمَالُ حَالٍ وَلَا ازْدِيَادُ مَرْتَبَةٍ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يُحْدِثَهُ الْبَتَّةَ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْوَلَدُ الْمُعْتَادُ إِنَّمَا يَحْدُثُ بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَقَضَاءُ الشَّهْوَةِ يُوجِبُ اللَّذَّةَ، وَاللَّذَّةُ مَطْلُوبَةٌ لِذَاتِهَا، فَلَوْ صَحَّتِ اللَّذَّةُ عَلَى اللَّه تَعَالَى مَعَ أَنَّهَا مَطْلُوبَةٌ لِذَاتِهَا، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَا وَقْتٌ إِلَّا وَعِلْمُ اللَّه بِتَحْصِيلِ تِلْكَ اللَّذَّةِ يَدْعُوهُ إِلَى تَحْصِيلِهَا قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى مَعْلُومًا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يُحَصِّلَ تِلْكَ اللَّذَّةِ فِي الْأَزَلِ، فَلَزِمَ كَوْنُ الْوَلَدِ أَزَلِيًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ مَعَ كَوْنِهِ تَعَالَى أَزَلِيًّا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْوَلَدِ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
93
فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ الْوَلَدِ للَّه تَعَالَى بِنَاءً عَلَى هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَعْلُومَيْنِ، فَأَمَّا إِثْبَاتُ الْوَلَدِ للَّه تَعَالَى بِنَاءً عَلَى احْتِمَالٍ ثَالِثٍ فَذَلِكَ بَاطِلٌ. لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ وَلَا مَفْهُومٍ عِنْدِ الْعَقْلِ، فَكَانَ الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ الْوِلَادَةِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ خَوْضًا فِي مَحْضِ الْجَهَالَةِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ/ وَلَوْ أَنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَذْكُرُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامًا يُسَاوِيهِ فِي الْقُوَّةِ وَالْكَمَالِ لَعَجَزُوا عَنْهُ، فَالْحَمْدُ للَّه الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أن هدانا اللَّه.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٢]
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ وَبَيَّنَ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْإِشْرَاكِ باللَّه، وَفَصَّلَ مَذَاهِبَهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَبَيَّنَ فَسَادَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالدَّلَائِلِ اللَّائِقَةِ بِهِ. ثُمَّ حَكَى مَذْهَبَ مَنْ أَثْبَتَ للَّه الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَبَيَّنَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ فَسَادَ الْقَوْلِ بِهَا فَعِنْدَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ فَرْدٌ وَاحِدٌ صَمَدٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّرِيكِ وَالنَّظِيرِ وَالضِّدِّ وَالنِّدِّ، وَمُنَزَّهٌ عَنِ الْأَوْلَادِ وَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، فَعِنْدَ هَذَا صَرَّحَ بِالنَّتِيجَةِ فَقَالَ: ذَلِكُمُ اللَّه رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَاعْبُدُوهُ وَلَا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ أَحَدًا فَإِنَّهُ هُوَ الْمُصْلِحُ لِمُهِمَّاتِ جَمِيعِ الْعِبَادِ، وَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ دُعَاءَهُمْ وَيَرَى ذُلَّهُمْ وَخُضُوعَهُمْ، وَيَعْلَمُ حَاجَتَهُمْ، وَهُوَ الْوَكِيلُ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى حُصُولِ مُهِمَّاتِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذَا النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ فِي تَقْرِيرِ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، وَإِظْهَارِ فَسَادِ الشِّرْكِ، عَلِمَ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ أَوْضَحُ منه وَلَا أَصْلَحُ مِنْهُ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :«ذَلِكُمْ» إِشَارَةٌ إِلَى الْمَوْصُوفِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الصِّفَاتِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ أَخْبَارٌ مُتَرَادِفَةٌ، وَهِيَ: اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ ذَلِكَ الْجَامِعُ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَاعْبُدُوهُ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ كَانَ هُوَ الْحَقِيقَ بِالْعِبَادَةِ فَاعْبُدُوهُ، وَلَا تَعْبُدُوا أحدا سواء.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ افْتِقَارَ الْخَلْقِ إِلَى خَالِقٍ وَمُوجِدٍ، وَمُحْدِثٍ، وَمُبْدِعٍ، وَمُدَبِّرٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا مُنْفَصِلًا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشُّرَكَاءِ، وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَتْبَعَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِأَنْ نَقَلَ قَوْلَ مَنْ أَثْبَتَ للَّه شَرِيكًا، فَهَذَا الْقَدْرُ يَكُونُ أَوْجَبَ الْجَزْمَ بِالتَّشْرِيكِ مِنَ الْجِنِّ، ثُمَّ أَبْطَلَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ أَتَى بِالتَّوْحِيدِ الْمَحْضِ حَيْثُ قَالَ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَعِنْدَ هَذَا يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ وَهُوَ أَنَّ حَاصِلَ مَا تَقَدَّمَ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ، وَتَزْيِيفُ دَلِيلِ مَنْ أَثْبَتَ للَّه شَرِيكًا، فَهَذَا/ الْقَدْرُ كَيْفَ أَوْجَبَ الْجَزْمَ بِالتَّوْحِيدِ الْمَحْضِ؟ فَنَقُولُ: لِلْعُلَمَاءِ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا هَذِهِ الطَّرِيقَةُ. وَتَقْرِيرُهَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْمُتَقَدِّمُونَ الصَّانِعُ الْوَاحِدُ كَافٍ وَمَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ فَالْقَوْلُ فِيهِ مُتَكَافِئٌ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالتَّوْحِيدِ أَمَّا قَوْلُنَا: الصَّانِعُ الْوَاحِدُ كَافٍ فَلِأَنَّ الْإِلَهَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ الْعَالِمِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ كَافٍ فِي كَوْنِهِ إِلَهًا لِلْعَالَمِ، وَمُدَبِّرًا لَهُ. وَأَمَّا أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْوَاحِدِ، فَالْقَوْلُ فِيهِ مُتَكَافِئٌ، فَلِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْوَاحِدِ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ إِثْبَاتُ عَدَدٍ أَوْلَى مِنْ إِثْبَاتِ عَدَدٍ آخَرَ، فَيَلْزَمُ إِمَّا إِثْبَاتُ آلِهَةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ إِثْبَاتُ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ الْعَدَدُ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ الْأَعْدَادِ، وَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ الْقِسْمَانِ بَاطِلَيْنِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَوْلُ بِالتَّوْحِيدِ.
94
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّ الْإِلَهَ الْقَادِرَ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ الْعَالِمَ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ كَافٍ فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ، فَلَوْ قَدَّرْنَا إِلَهًا ثَانِيًا لَكَانَ ذَلِكَ الثَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا وَمَوْجُودًا لِشَيْءٍ مِنْ حَوَادِثِ هَذَا الْعَالَمِ أَوْ لَا يَكُونَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ فَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ أَحَدُهُمَا صَارَ كَوْنُهُ فَاعِلًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ مَانِعًا لِلْآخَرِ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْدُورِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبًا لِعَجْزِ الْآخَرِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَا يَفْعَلُ فِعْلًا وَلَا يُوجِدُ شَيْئًا كَانَ نَاقِصًا مُعَطِّلًا، وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذَا الْإِلَهَ الْوَاحِدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، فَلَوْ فَرَضْنَا إِلَهًا ثَانِيًا لَكَانَ ذَلِكَ الثَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا لِلْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ مُشَارِكًا لِلْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَمَيِّزًا عَنِ الْأَوَّلِ بِأَمْرٍ مَا، إِذْ لَوْ لَمْ يَحْصُلِ الِامْتِيَازُ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ لَمْ يَحْصُلِ التَّعَدُّدُ وَالِاثْنَيْنِيَّةُ، وَإِذَا حَصَلَ الِامْتِيَازُ بِأَمْرٍ مَا فَذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُمَيَّزُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَوْ لَا يَكُونَ. فَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَعَ أَنَّهُ حَصَلَ الِامْتِيَازُ بِهِ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمُمَيَّزُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، فَالْمَوْصُوفُ بِهِ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَذَلِكَ نُقْصَانٌ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْإِلَهَ الْوَاحِدَ كَافٍ فِي تَدْبِيرِ الْعَالَمِ وَالْإِيجَادِ، وَأَنَّ الزَّائِدَ يَجِبُ نَفْيُهُ فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى هَاهُنَا فِي تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ. وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِدَلِيلِ التَّمَانُعِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ قَالُوا:
أَعْمَالُ الْعِبَادِ أَشْيَاءُ، واللَّه تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا لَهَا/ وَاعْلَمْ أَنَّا أَطْنَبْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الدَّلِيلِ فِي كِتَابِ «الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ»، وَنَكْتَفِي هَاهُنَا مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ بِنُكَتٍ قَلِيلَةٍ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ:
هَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا إِلَّا أَنَّهُ حَصَلَ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ خَارِجَةٌ عَنْ هَذَا الْعُمُومِ.
فَأَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ فَلَوْ دَخَلَتْ أَعْمَالُ الْعِبَادِ تَحْتَ قَوْلِهِ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَنَا خَلَقْتُ أَعْمَالَكُمْ فَافْعَلُوهَا بِأَعْيَانِهَا أَنْتُمْ مَرَّةً أُخْرَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَوْ دَخَلَ تَحْتَهُ أَعْمَالُ الْعِبَادِ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَدْحًا وَثَنَاءً لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَمَدَّحَ بِخَلْقِ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ وَالْكُفْرِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها، [الْأَنْعَامِ: ١٠٤] وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِكَوْنِ الْعَبْدِ مُسْتَقِلًّا بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَأَنَّهُ لَا مَانِعَ لَهُ الْبَتَّةَ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ للَّه تَعَالَى إِذْ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا للَّه تَعَالَى لَمَا كَانَ الْعَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَوْجَدَهُ اللَّه تَعَالَى امْتَنَعَ مِنْهُ الدَّفْعُ، وَإِذَا لَمْ يُوجِدْهُ اللَّه تَعَالَى امْتَنَعَ مِنْهُ التَّحْصِيلُ. فَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ مُسْتَقِلًّا بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ كَذَلِكَ يَمْنَعُ أَنْ يُقَالَ فِعْلُ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ للَّه تَعَالَى، ثَبَتَ أَنَّ ذِكْرَ قَوْلِهِ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها يُوجِبُ تَخْصِيصَ ذَلِكَ الْعُمُومِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ عَقِيبَ قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ رِوَايَةُ مَذْهَبِ الْمَجُوسِ فِي إِثْبَاتِ إِلَهَيْنِ لِلْعَالَمِ. أَحَدُهُمَا يَفْعَلُ اللَّذَّاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَالْآخَرُ يَفْعَلُ الْآلَامَ وَالْآفَاتِ فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى إِبْطَالِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ السِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ
95
وَالْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ، فَإِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ على هذا الوجه لم يدخل تحت أَعْمَالُ الْعِبَادِ. قَالُوا:
فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ الْأَرْبَعَةَ تُوجِبُ خُرُوجَ أَعْمَالِ الْعِبَادِ عَنْ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّا نَقُولُ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ الْقَاطِعُ قَدْ سَاعَدَ عَلَى صِحَّةِ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْفِعْلَ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّاعِي وَخَالِقُ الدَّاعِي هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَمَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي يُوجِبُ الْفِعْلَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَإِذَا تَأَكَّدَ هَذَا الظَّاهِرُ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ الْقَاطِعِ زَالَتِ الشُّكُوكُ وَالشُّبُهَاتُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ يَدُلُّ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لِكُلِّ الْأَشْيَاءِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ وَتَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِحَرْفِ الْفَاءِ مُشْعِرٌ بِالسَّبَبِيَّةِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا لِلْأَشْيَاءِ هُوَ الْمُوجِبَ لِكَوْنِهِ مَعْبُودًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْإِلَهُ/ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْمَعْبُودِيَّةِ، فَهَذَا يُشْعِرُ بِصِحَّةِ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ أَنَّ الْإِلَهَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَادِرِ عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِبْدَاعِ وَالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاعِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ، وَعَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا. أَمَّا نَفْيُ الصِّفَاتِ فَلِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ كَانَ تَعَالَى عَالِمًا بِالْعِلْمِ قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ، لَكَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قَدِيمَانِ. أَوْ مُحْدَثَانِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ. لِأَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يَقْتَضِي كَوْنَهُ خَالِقًا لِكُلِّ الْأَشْيَاءِ أَدْخَلْنَا التَّخْصِيصَ فِي هَذَا الْعُمُومِ بِحَسَبِ ذَاتِهِ تَعَالَى ضَرُورَةَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِنَفْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا سِوَاهُ، وَالْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ يَقْتَضِي مَزِيدَ التَّخْصِيصِ فِي هَذَا الْعُمُومِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ عِلْمِ اللَّه وَقُدْرَتِهِ. فَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ افْتِقَارُ إِيجَادِ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ إِلَى سَبْقِ عِلْمٍ آخَرَ وَقُدْرَةٍ أُخْرَى، وَأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ. وَأَمَّا تَمَسُّكُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا. فَقَالُوا: الْقُرْآنُ شَيْءٌ وَكُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ للَّه تَعَالَى بِحُكْمِ هَذَا الْعُمُومِ. فَلَزِمَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا للَّه تَعَالَى أَقْصَى مَا فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ فِي ذَاتِ اللَّه تَعَالَى، إِلَّا أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ دُخُولَ هَذَا التَّخْصِيصِ فِي هَذَا الْعُمُومِ لَمْ يَمْنَعْ أَهْلَ السُّنَّةِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِهِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ للَّه تَعَالَى.
وَجَوَابُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ: أَنَّا نُخَصِّصُ هَذَا الْعُمُومَ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِالْعِلْمِ قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ، وَبِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّه تَعَالَى قَدِيمٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَحْصُلَ لِلْعَبْدِ كَمَالُ التَّوْحِيدِ وَتَقْرِيرُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّهُ لَا مُدَبِّرَ إِلَّا اللَّه تَعَالَى، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ عَالَمُ الْأَسْبَابِ.
وَسَمِعْتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ الزَّاهِدَ الْوَالِدَ رَحِمَهُ اللَّه يَقُولُ: لَوْلَا الْأَسْبَابُ لَمَا ارْتَابَ مُرْتَابٌ. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ يُعَلِّقُ الرَّجُلُ الْقَلْبَ بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، فَتَارَةً يَعْتَمِدُ عَلَى الْأَمِيرِ، وَتَارَةً يَرْجِعُ فِي تَحْصِيلِ مُهِمَّاتِهِ إِلَى الْوَزِيرِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَنَالُ إِلَّا الْحِرْمَانَ وَلَا يَجِدُ إِلَّا تَكْثِيرَ الْأَحْزَانِ، وَالْحَقُّ تَعَالَى قَالَ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَعْلَمَ الرَّجُلُ أَنَّهُ لَا حَافِظَ إِلَّا اللَّه، وَلَا مُصْلِحَ لِلْمُهِمَّاتِ إِلَّا اللَّه، فَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ طَمَعُهُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَلَا يَرْجِعُ فِي مُهِمٍّ مِنَ الْمُهِمَّاتِ إِلَّا إليه.
96
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بقليل وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الأنعام: ١٠١] وَقَالَ هَاهُنَا خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهَذَا كَالتَّكْرَارِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَاضِي.
أَمَّا قَوْلُهُ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْأَوْقَاتَ كُلَّهَا، وَالثَّانِي: وَهُوَ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هُنَاكَ قَوْلَهُ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ليجعله مقدمة في بيان نفي الأولاد، وهاهنا ذَكَرَ قَوْلَهُ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لِيَجْعَلَهُ مُقَدِّمَةً فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إِلَّا هُوَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ مُقَدِّمَةٌ تُوجِبُ أَحْكَامًا كَثِيرَةً وَنَتَائِجَ مُخْتَلِفَةً، فَهُوَ تَعَالَى يَذْكُرُهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، لِيُفَرِّعَ عَلَيْهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ النَّتِيجَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِلَهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا، فَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مَعْنَاهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا هُوَ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَاعْبُدُوهُ فَإِنَّ هَذَا يُوهِمُ التَّكْرِيرَ.
وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَيْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا هُوَ، وَقَوْلُهُ: فَاعْبُدُوهُ أَيْ لَا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الْقَوْمُ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِوُجُودِ اللَّه تَعَالَى كَمَا قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: ٢٥] وَمَا أَطْلَقُوا لَفْظَ اللَّه عَلَى أَحَدٍ سِوَى اللَّه سُبْحَانَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مَرْيَمَ: ٦٥] فَقَالَ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أَيِ الشَّيْءُ الْمَوْصُوفُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا هُوَ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: رَبُّكُمْ يَعْنِي الذي يربيكم وَيُحْسِنُ إِلَيْكُمْ بِأَصْنَافِ التَّرْبِيَةِ وَوُجُوهِ الْإِحْسَانِ، وَهِيَ أَقْسَامٌ بَلَغَتْ فِي الْكَثْرَةِ إِلَى حَيْثُ يَعْجِزُ الْعَقْلُ عَنْ ضَبْطِهَا، كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: ٣٤].
ثُمَّ قَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ يَعْنِي أَنَّكُمْ لَمَّا عَرَفْتُمْ وُجُودَ الْإِلَهِ الْمُحْسِنِ الْمُتَفَضِّلِ الْمُتَكَرِّمِ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ سِوَاهُ وَلَا مَعْبُودَ سِوَاهُ.
ثُمَّ قَالَ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يَعْنِي إِنَّمَا صَحَّ قَوْلُنَا: لَا إِلَهَ سِوَاهُ، لِأَنَّهُ لَا خَالِقَ لِلْخَلْقِ سِوَاهُ، وَلَا مُدَبِّرَ لِلْعَالَمِ إِلَّا هو. فهذا الترتيب ترتيب مناسب مفيد.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٣]
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)
فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ وَالْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ من وجوه: الْأَوَّلُ: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَطْلُوبِ أَنْ نَقُولَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِقَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَذَلِكَ مِمَّا يُسَاعِدُ الْخَصْمَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ بَنَوُا اسْتِدْلَالَهُمْ فِي إِثْبَاتِ مَذْهَبِهِمْ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ تَعَالَى جَائِزَ الرُّؤْيَةِ لَمَا حَصَلَ التَّمَدُّحُ بِقَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْدُومَ لَا تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ. وَالْعُلُومُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالرَّوَائِحُ وَالطُّعُومُ لَا يَصِحُّ رُؤْيَةُ شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا مَدْحٌ لِشَيْءٍ مِنْهَا فِي كَوْنِهَا بِحَيْثُ لَا تَصِحُّ رُؤْيَتُهَا، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يُفِيدُ الْمَدْحَ، وَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ
97
إِنَّمَا يُفِيدُ الْمَدْحَ لَوْ كَانَ صَحِيحَ الرُّؤْيَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يُفِيدُ كَوْنَهُ تَعَالَى جَائِزَ الرُّؤْيَةِ، وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ رُؤْيَتُهُ، فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ رُؤْيَتِهِ مَدْحٌ وَتَعْظِيمٌ لِلشَّيْءِ. أَمَّا إِذَا كَانَ فِي نَفْسِهِ جَائِزَ الرُّؤْيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدَرَ عَلَى حَجْبِ الْأَبْصَارِ عَنْ رُؤْيَتِهِ وَعَنْ إِدْرَاكِهِ كَانَتْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ دَالَّةً عَلَى الْمَدْحِ وَالْعَظَمَةِ. فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَائِزُ الرُّؤْيَةِ بِحَسَبِ ذَاتِهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ: قَائِلٌ قَالَ بِجَوَازِ الرُّؤْيَةِ مَعَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ، وَقَائِلٌ قَالَ لَا يَرَوْنَهُ وَلَا تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ. فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَعَالَى تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ فَكَانَ بَاطِلًا. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَائِزُ الرُّؤْيَةِ فِي ذَاتِهِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُصُولِ الرُّؤْيَةِ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ لَطِيفٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ الْمُرَادُ بِالْأَبْصَارِ فِي قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الْإِبْصَارِ فَإِنَّ الْبَصَرَ لَا يُدْرِكُ شَيْئًا الْبَتَّةَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ. بَلِ الْمُدْرِكُ هُوَ الْمُبْصِرُ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ هُوَ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ الْمُبْصِرُونَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْمُبْصِرِينَ، وَمُعْتَزِلَةُ الْبَصْرَةِ يُوَافِقُونَنَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُبْصِرُ الْأَشْيَاءَ فَكَانَ هُوَ تَعَالَى مِنْ جُمْلَةِ الْمُبْصِرِينَ فَقَوْلُهُ:
وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى مُبْصِرًا لِنَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ تَعَالَى جَائِزَ الرُّؤْيَةِ فِي ذَاتِهِ، وَكَانَ تَعَالَى يَرَى نَفْسَهُ. وَكُلُّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى جَائِزُ الرُّؤْيَةِ فِي نَفْسِهِ، قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ جَائِزُ الرُّؤْيَةِ وَعَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَزِيدَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ اخْتِصَارًا قُلْنَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِمَّا نَفْسُ الْبَصَرِ أَوِ الْمُبْصِرِ، وَعَلَى/ التَّقْدِيرَيْنِ: فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ تَعَالَى مُبْصِرًا لِأَبْصَارِ نَفْسِهِ، وَكَوْنُهُ مُبْصِرًا لِذَاتِ نَفْسِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ أَنَّ لَفْظَ الْأَبْصارُ صِيغَةُ جَمْعٍ دَخَلَ عَلَيْهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ فَهِيَ تُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ فَقَوْلُهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَرَاهُ جَمِيعُ الْأَبْصَارِ، فَهَذَا يُفِيدُ سَلْبَ الْعُمُومِ وَلَا يُفِيدُ عُمُومَ السَّلْبِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: تَخْصِيصُ هَذَا السَّلْبِ بِالْمَجْمُوعِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ الْمَجْمُوعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ إِنَّ زَيْدًا مَا ضَرَبَهُ كُلُّ النَّاسِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ ضَرَبَهُ بَعْضُهُمْ.
فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مَا آمَنَ بِهِ كُلُّ النَّاسِ أَفَادَ أَنَّهُ آمَنَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا تُدْرِكُهُ جَمِيعُ الْأَبْصَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يُفِيدَ أَنَّهُ تُدْرِكُهُ بَعْضُ الْأَبْصَارِ. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ. فَنَقُولُ: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَحْصُلُ الْإِدْرَاكُ لِأَحَدٍ الْبَتَّةَ كَانَ تَخْصِيصُ هَذَا السَّلْبِ بِالْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ عَبَثًا، وَصَوْنُ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى عَنِ الْعَبَثِ وَاجِبٌ.
98
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا نُقِلَ أَنَّ ضِرَارَ بْنَ عَمْرٍو الْكُوفِيَّ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَرَى بِالْعَيْنِ، وَإِنَّمَا يَرَى بِحَاسَّةٍ سَادِسَةٍ يَخْلُقُهَا اللَّه تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَخْصِيصِ نَفِي إِدْرَاكِ اللَّه تَعَالَى بِالْبَصَرِ، وَتَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَالَ فِي غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِدْرَاكُ اللَّه بِغَيْرِ الْبَصَرِ جَائِزًا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ سَائِرَ الْحَوَاسِّ الْمَوْجُودَةِ الْآنَ لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ ثَبَتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَاسَّةً سَادِسَةً بِهَا تَحْصُلُ رُؤْيَةُ اللَّه تَعَالَى وَإِدْرَاكُهُ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ أَرْبَعَةٌ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ يمكن العويل عَلَيْهَا فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّه فِي الْقِيَامَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي حِكَايَةِ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ.
اعْلَمْ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: الْإِدْرَاكُ بِالْبَصَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ أَدْرَكْتُهُ بِبَصَرِي وَمَا رَأَيْتُهُ، أَوْ قَالَ رَأَيْتُهُ وَمَا أَدْرَكْتُهُ بِبَصَرِي فَإِنَّهُ يَكُونُ كَلَامُهُ مُتَنَاقِضًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ بِالْبَصَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَرَاهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَبْصَارِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْعُمُومِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ وَجَمِيعِ الْأَحْوَالِ عَنْهُ فَيُقَالُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ إِلَّا بَصَرَ فُلَانٍ، وَإِلَّا فِي الْحَالَةِ الفلانية والاستثناء/ يخرج من الكلام ما لو لاه لَوَجَبَ دُخُولُهُ. فَثَبَتَ أَنَّ عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ يُفِيدُ عُمُومَ النَّفْيِ عَنْ كُلِّ الْأَشْخَاصِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَرَى اللَّه تَعَالَى فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُفِيدُ الْعُمُومَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا لَمَّا أَنْكَرَتْ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أن محمدا صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ تَمَسَّكَتْ فِي نُصْرَةِ مَذْهَبِ نَفْسِهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْآيَةُ مُفِيدَةً لِلْعُمُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ الْأَشْخَاصِ وَكُلِّ الْأَحْوَالِ لَمَا تَمَّ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عِلْمًا بِلُغَةِ الْعَرَبِ. فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى النَّفْيِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ الْأَشْخَاصِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ أَيْضًا مَدْحٌ وَثَنَاءٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ مَدْحًا وَثَنَاءً، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا لَيْسَ بِمَدْحٍ وَثَنَاءٍ وَقَعَ فِي خِلَالِ مَا هُوَ مَدْحٌ وَثَنَاءٌ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الرَّكَاكَةَ وَهِيَ غَيْرُ لَائِقَةٍ بِكَلَامِ اللَّه.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كُلُّ مَا كَانَ عَدَمُهُ مَدْحًا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْفِعْلِ كَانَ ثُبُوتُهُ نَقْصًا فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، وَالنَّقْصُ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ، لِقَوْلِهِ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥] وَقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] وَقَوْلُهُ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الْإِخْلَاصِ: ٣] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ كَوْنُهُ تَعَالَى مَرْئِيًّا مُحَالٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا لَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِنَفْيِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٨] وَقَوْلِهِ: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فُصِّلَتْ: ٤٦] مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الظُّلْمِ عِنْدَهُمْ، فَذَكَرُوا هَذَا الْقَيْدَ دَفْعًا لِهَذَا النَّقْضِ عَنْ كَلَامِهِمْ. فَهَذَا غَايَةُ تَقْرِيرِ كَلَامِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ.
99
وَالْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِدْرَاكَ الْبَصَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ لَفْظَ الْإِدْرَاكِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ اللُّحُوقِ وَالْوُصُولِ قَالَ تَعَالَى: قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشُّعَرَاءِ: ٦١] أَيْ لَمُلْحَقُونَ وَقَالَ: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ [يُونُسَ: ٩٠] أَيْ لَحِقَهُ، وَيُقَالُ: أَدْرَكَ فُلَانٌ فُلَانًا، وَأَدْرَكَ الْغُلَامُ أَيْ بَلَغَ الْحُلُمَ، وَأَدْرَكَتِ الثَّمَرَةُ أَيْ نَضِجَتْ. فَثَبَتَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ هُوَ الْوُصُولُ إِلَى الشَّيْءِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَرْئِيُّ إِذَا كَانَ لَهُ حَدٌّ وَنِهَايَةٌ وَأَدْرَكَهُ الْبَصَرُ بِجَمِيعِ حُدُودِهِ وَجَوَانِبِهِ وَنِهَايَاتِهِ. صَارَ كَأَنَّ ذَلِكَ الْإِبْصَارَ أَحَاطَ بِهِ فَتُسَمَّى هَذِهِ الرُّؤْيَةُ إِدْرَاكًا، أَمَّا إِذَا لَمْ يُحِطِ الْبَصَرُ بِجَوَانِبِ الْمَرْئِيِّ لَمْ تُسَمَّ تِلْكَ الرُّؤْيَةُ إِدْرَاكًا. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ جِنْسٌ تَحْتَهَا نَوْعَانِ: رُؤْيَةٌ مَعَ الْإِحَاطَةِ وَرُؤْيَةٌ لَا مَعَ الْإِحَاطَةِ. وَالرُّؤْيَةُ مَعَ الْإِحَاطَةِ هِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْإِدْرَاكِ فَنَفْيُ الْإِدْرَاكِ يُفِيدُ نَفْيَ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ/ نَوْعَيِ الرُّؤْيَةِ، وَنَفْيُ النَّوْعِ لَا يُوجِبُ نَفْيَ الْجِنْسِ.
فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ نَفْيِ الْإِدْرَاكِ عَنِ اللَّه تَعَالَى نَفْيُ الرُّؤْيَةِ عَنِ اللَّه تَعَالَى، فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ مَقْبُولٌ في الاعتراض على كلام الخصم.
فإن قالوا لما بينتم أن الإدراك أمر مغاير للرؤية فقد أفسدتم على أنفسكم الوجوه الأربعة التي تمسكتم بها في هذه الآية في إثبات الرؤية على اللَّه تعالى.
قُلْنَا: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ أَخَصُّ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَإِثْبَاتُ الْأَخَصِّ يُوجِبُ إِثْبَاتَ الْأَعَمِّ. وَأَمَّا نَفْيُ الْأَخَصِّ لَا يُوجِبُ نَفْيَ الْأَعَمِّ. فَثَبَتَ أَنَّ الْبَيَانَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يُبْطِلُ كَلَامَكُمْ وَلَا يُبْطِلُ كَلَامَنَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الِاعْتِرَاضِ أَنْ نَقُولَ: هَبْ أَنَّ الْإِدْرَاكَ بِالْبَصَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أَنَّ قَوْلَهُ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يُفِيدُ عُمُومَ النَّفْيِ عَنْ كُلِّ الْأَشْخَاصِ وَعَنْ كُلِّ الْأَحْوَالِ وَفِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ؟ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ فَمُعَارَضٌ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَنْ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَعَ أَنَّهَا لَا تُفِيدُ عُمُومَ النَّفْيِ بَلْ نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُفِيدُ الْعُمُومَ إِلَّا أَنَّ نَفْيَ الْعُمُومِ غَيْرٌ، وَعُمُومَ النَّفْيِ غَيْرٌ، وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُفِيدُ إِلَّا نَفْيَ الْعُمُومِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ نَفْيَ الْعُمُومِ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْخُصُوصِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا تَمَسَّكَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ فَنَقُولُ: مَعْرِفَةُ مُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ إِنَّمَا تُكْتَسَبُ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ، فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلِيلِ فَلَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى التَّقْلِيدِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يُفِيدُ نَفْيَ الْعُمُومِ. وَثَبَتَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ نفي العموم مغاير لعموم والنفي وَمَقْصُودُهُمْ إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ، فَسَقَطَ كَلَامُهُمْ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ نَقُولَ صِيغَةُ الْجَمْعِ كَمَا تُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فَقَدْ تُحْمَلُ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ أَيْضًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يُفِيدُ أَنَّ الْأَبْصَارَ الْمَعْهُودَةَ فِي الدُّنْيَا لَا تُدْرِكُهُ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَبْصَارَ وَهَذِهِ الْأَحْدَاقَ مَا دَامَتْ تَبْقَى عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ مَوْصُوفَةٌ بِهَا فِي الدُّنْيَا لَا تُدْرِكُ اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا تُدْرِكُ اللَّه تَعَالَى إِذَا تَبَدَّلَتْ صِفَاتُهَا وَتَغَيَّرَتْ أَحْوَالُهَا فَلِمَ قُلْتُمْ أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ التَّغَيُّرَاتِ لَا تُدْرِكُ اللَّه؟
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَبْصَارَ الْبَتَّةَ لَا تُدْرِكُ اللَّه تَعَالَى فَلِمَ لَا يَجُوزُ حُصُولُ إِدْرَاكِ اللَّه تَعَالَى بِحَاسَّةٍ سَادِسَةٍ مُغَايِرَةٍ لِهَذِهِ الْحَوَاسِّ كَمَا كَانَ ضِرَارُ بْنُ عَمْرٍو يَقُولُ بِهِ؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يَبْقَى فِي التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ.
100
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: هَبْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ إِلَّا أَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَحِينَئِذٍ يَنْتَقِلُ الْكَلَامُ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ إِلَى بَيَانِ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ هَلْ تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى أَمْ لَا؟
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنْ نَقُولَ بِمُوجَبِ الْآيَةِ فَنَقُولُ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَبْصَارَ لَا تُدْرِكُ اللَّه تَعَالَى، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْمُبْصِرِينَ لَا يُدْرِكُونَ اللَّه تَعَالَى؟ فَهَذَا مَجْمُوعُ الْأَسْئِلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَمْتَنِعُ حُصُولُ التَّمَدُّحِ بِنَفْيِ الرُّؤْيَةِ لَوْ كَانَ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ بِحَيْثُ تَمْتَنِعُ رُؤْيَتُهُ، بَلْ إِنَّمَا يَحْصُلُ التَّمَدُّحُ لَوْ كَانَ بِحَيْثُ تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَحْجُبُ الْأَبْصَارَ عَنْ رُؤْيَتِهِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَسْقُطُ كَلَامُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ النَّفْيَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِحُصُولِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ وَالْعَدَمَ الصِّرْفَ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَالْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيٌّ، بَلْ إِذَا كَانَ النَّفْيُ دَلِيلًا عَلَى حُصُولِ صِفَةٍ ثَابِتَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ. قِيلَ: بِأَنَّ ذَلِكَ النَّفْيَ يُوجِبُ الْمَدْحَ. وَمِثَالُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَا يُفِيدُ الْمَدْحَ نَظَرًا إِلَى هَذَا النَّفْيِ. فَإِنَّ الْجَمَادَ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ إِلَّا أَنَّ هَذَا النَّفْيَ فِي حَقِّ الْبَارِي تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ أَبَدًا مِنْ غَيْرِ تَبَدُّلٍ وَلَا زَوَالٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الْأَنْعَامِ: ١٤] يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ قَائِمًا بِنَفْسِهِ غَنِيًّا فِي ذَاتِهِ لِأَنَّ الْجَمَادَ أَيْضًا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَطْعَمُ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يَمْتَنِعُ أَنْ يُفِيدَ الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ إِلَّا إِذَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى مَوْجُودٍ يُفِيدُ الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى حَجْبِ الْأَبْصَارِ وَمَنْعِهَا عَنْ إِدْرَاكِهِ وَرُؤْيَتِهِ. وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ فَإِنَّ الْكَلَامَ يَنْقَلِبُ عَلَيْهِمْ حُجَّةً فَسَقَطَ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ ذَكَرَ فِي «تَفْسِيرِهِ» وُجُوهًا أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ خَارِجَةٌ عَنِ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمُنْفَصِلَةٌ عَنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ وَخَوْضٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَلَمَّا فَعَلَ الْقَاضِي ذَلِكَ فَنَحْنُ نَنْقُلُهَا وَنُجِيبُ عَنْهَا ثُمَّ نَذْكُرُ لِأَصْحَابِنَا وُجُوهًا دَالَّةً عَلَى صِحَّةِ الرُّؤْيَةِ. أَمَّا الْقَاضِي فَقَدْ تَمَسَّكَ بِوُجُوهٍ عَقْلِيَّةٍ أَوَّلُهَا: أَنَّ الْحَاسَّةَ إِذَا كَانَتْ سَلِيمَةً وَكَانَ الْمَرْئِيُّ حَاضِرًا وَكَانَتِ الشَّرَائِطُ الْمُعْتَبَرَةُ حَاصِلَةً وَهِيَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْقُرْبُ الْقَرِيبُ وَلَا الْبُعْدُ الْبَعِيدُ وَلَا يَحْصُلَ الْحِجَابُ وَيَكُونَ الْمَرْئِيُّ مُقَابِلًا أَوْ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ فَإِنَّهُ يَجِبُ حُصُولُ الرُّؤْيَةِ، إِذْ لَوْ جَازَ مَعَ حُصُولِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنْ لَا تَحْصُلَ الرُّؤْيَةُ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنَا بُوقَاتٌ وَطَبْلَاتٌ وَلَا نَسْمَعُهَا وَلَا نَرَاهَا وَذَلِكَ يُوجِبُ السَّفْسَطَةَ.
قَالُوا إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ انْتِفَاءَ الْقُرْبِ الْقَرِيبِ وَالْبُعْدِ الْبَعِيدِ وَالْحِجَابِ وَحُصُولِ الْمُقَابَلَةِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى مُمْتَنِعٌ، فَلَوْ صَحَّتْ رُؤْيَتُهُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي لِحُصُولِ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ هُوَ سَلَامَةَ الْحَاسَّةِ وَكَوْنَ الْمَرْئِيِّ تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ. وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ حَاصِلَانِ فِي هَذَا الْوَقْتِ. فَلَوْ كَانَ بِحَيْثُ تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ لَوَجَبَ أَنْ تَحْصُلَ رُؤْيَتُهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ. وَحَيْثُ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُمْتَنِعُ الرُّؤْيَةِ.
وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَرْئِيًّا كَانَ مُقَابِلًا أَوْ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ واللَّه تَعَالَى لَيْسَ كَذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ تَمْتَنِعَ رُؤْيَتُهُ.
وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: وَيُقَالُ لَهُمْ كَيْفَ يَرَاهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ دُونَ أَهْلِ النَّارِ؟ إِمَّا أَنْ يَقْرُبَ منهم أو
101
يُقَابِلَهُمْ فَيَكُونَ حَالُهُمْ مَعَهُ بِخِلَافِ أَهْلِ النَّارِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّهُ جِسْمٌ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْقُرْبُ وَالْبُعْدُ وَالْحِجَابُ.
وَالْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: إِنْ قُلْتُمْ إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرَوْنَهُ فِي كُلِّ حَالٍ حَتَّى عِنْدَ الْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، أَوْ يَرَوْنَهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّهُ تَعَالَى مَرَّةً يَقْرُبُ وَأُخْرَى يَبْعُدُ. وَأَيْضًا فَرُؤْيَتُهُ أَعْظَمُ اللَّذَّاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا مُشْتَهِينَ لِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ أَبَدًا. فَإِذَا لَمْ يَرَوْهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَقَعُوا فِي الْغَمِّ وَالْحُزْنِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِصِفَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا ذَكَرَهُ فِي «كِتَابِ التَّفْسِيرِ».
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ.
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَيُقَالُ لَهُ هَبْ أَنَّ رُؤْيَةَ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ عِنْدَ حُصُولِ سَلَامَةِ الْحَاسَّةِ وَحُضُورِ الْمَرْئِيِّ وَحُصُولِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ وَاجِبَةٌ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ رُؤْيَةُ اللَّه تَعَالَى عِنْدَ سَلَامَةِ الْحَاسَّةِ وَعِنْدَ كَوْنِ الْمَرْئِيِّ بِحَيْثُ يَصِحُّ رُؤْيَتُهُ وَاجِبَةً؟ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ ذَاتَهُ تَعَالَى مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ الذَّوَاتِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمٍ فِي شَيْءٍ ثُبُوتُ مِثْلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِيمَا يُخَالِفُهُ، وَالْعَجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ عَوَّلُوا عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ وَهُمْ يَدَّعُونَ الْفِطْنَةَ التَّامَّةَ وَالْكِيَاسَةَ الشَّدِيدَةَ وَلَمْ يَتَنَبَّهْ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِهَذَا السُّؤَالِ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ رَكَاكَةُ هَذَا الْكَلَامِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَيُقَالُ لَهُ إِنَّ النِّزَاعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَقَعَ فِي أَنَّ الْمَوْجُودَ الَّذِي لَا يَكُونُ مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ وَجِهَةٍ هَلْ يَجُوزُ رُؤْيَتُهُ أَمْ لَا؟ فَإِمَّا أَنْ تَدَّعُوا أَنَّ الْعِلْمَ بِامْتِنَاعِ رُؤْيَةِ هَذَا الْمَوْجُودِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عِلْمٌ بَدِيهِيٌّ أَوْ تَقُولُوا إِنَّهُ عِلْمٌ اسْتِدْلَالِيٌّ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِهِ بَدِيهِيًّا لَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ. وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعِلْمُ بَدِيهِيًّا كَانَ الِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ عَبَثًا فَاتْرُكُوا الِاسْتِدْلَالَ وَاكْتَفُوا بِادِّعَاءِ الْبَدِيهَةِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَنَقُولُ: قَوْلُكُمْ الْمَرْئِيُّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا أَوْ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ إِعَادَةٌ لَعَيْنِ الدَّعْوَى، لِأَنَّ حَاصِلَ الْكَلَامِ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَكُونُ مُقَابِلًا وَلَا فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ لَا تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ، أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مرثيا فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا أَوْ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْكَلَامِ إِلَّا إِعَادَةُ الدَّعْوَى.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَيُقَالُ لَهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرَوْنَهُ وَأَهْلَ النَّارِ لَا يَرَوْنَهُ؟ لَا لِأَجْلِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ كَمَا ذَكَرْتَ، بَلْ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الرُّؤْيَةَ فِي عُيُونِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَا يَخْلُقُهَا/ فِي عُيُونِ أَهْلِ النَّارِ فَلَوْ رَجَعْتَ فِي إِبْطَالِ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ تَجْوِيزَهُ يُفْضِي إِلَى تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنَا بُوقَاتٌ وَطَبْلَاتٌ وَلَا نَرَاهَا وَلَا نَسْمَعُهَا، كَانَ هَذَا رُجُوعًا إِلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى، وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهَا.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فَيُقَالُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّه تَعَالَى فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. أَمَّا قَوْلُهُ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى مَرَّةً يَقْرُبُ وَمَرَّةً يَبْعُدُ، فَيُقَالُ هَذَا عَوْدٌ إِلَى أَنَّ الْإِبْصَارَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ عَوْدٌ إِلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ، وَقَوْلُهُ ثَانِيًا: الرُّؤْيَةُ أَعْظَمُ اللَّذَّاتِ، فَيُقَالُ لَهُ إِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ يَشْتَهُونَهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ سَائِرَ لَذَّاتِ الْجَنَّةِ وَمَنَافِعِهَا طَيِّبَةٌ وَلَذِيذَةٌ ثُمَّ إِنَّهَا تَحْصُلُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَكَذَا هَاهُنَا. فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذَا الْبَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي تَقْرِيرِ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّه تَعَالَى وَنَحْنُ نَعُدُّهَا هُنَا عَدًّا، وَنُحِيلُ تَقْرِيرَهَا إِلَى الْمَوَاضِعِ اللَّائِقَةِ بِهَا. فَالْأَوَّلُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ الرُّؤْيَةَ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ على
102
جَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى: وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الرُّؤْيَةَ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْجَبَلِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي [الْأَعْرَافِ: ١٤٣] وَاسْتِقْرَارُ الجبل جائز والمعلق على الجائز جايز، وَهَذَانِ الدَّلِيلَانِ سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ مِنَ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يونس: ٢٦] وزيادة وَتَقْرِيرُهُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ [الْكَهْفِ: ١١٠] وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى اللِّقَاءِ وَتَقْرِيرُهُ قَدْ مَرَّ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مِرَارًا وَأَطْوَارًا.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الإنسان: ٢٠] فإن إحدى القراآت فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مُلْكاً بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ لَيْسَ إِلَّا اللَّه تَعَالَى. وَعِنْدِي التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَى مِنَ التَّمَسُّكِ بِغَيْرِهَا.
الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: ١٥] وَتَخْصِيصُ الْكُفَّارِ بِالْحَجْبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَكُونُونَ مَحْجُوبِينَ عَنْ رُؤْيَةِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى [النَّجْمِ: ١٣، ١٤] وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْحُجَّةِ سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ.
الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّ الْقُلُوبَ الصَّافِيَةَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَأَكْمَلُ طُرُقِ الْمَعْرِفَةِ هُوَ الرُّؤْيَةُ. فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ اللَّه تَعَالَى مَطْلُوبَةً لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِحُصُولِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
[فُصِّلَتْ: ٣١].
الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الْكَهْفِ: ١٠٧] دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ جَمِيعَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى النُّزُلِ لَا يَجُوزُ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ عَقِيبَ النُّزُلِ تَشْرِيفٌ أَعْظَمُ حَالًا مِنْ ذَلِكَ النُّزُلِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا الرُّؤْيَةُ.
الْحُجَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: ٢٢، ٢٣] وَتَقْرِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ سَيَأْتِي فِي الْمَوْضِعِ اللَّائِقِ بِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَكَثِيرَةٌ مِنْهَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ»
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ فِي تَشْبِيهِ الرُّؤْيَةِ بِالرُّؤْيَةِ فِي الْجَلَاءِ وَالْوُضُوحِ لَا فِي تَشْبِيهِ الْمَرْئِيِّ بِالْمَرْئِيِّ، وَمِنْهَا مَا اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَيْهِ مِنْ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُسَ: ٢٦] فَقَالَ الْحُسْنَى هِيَ الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّه،
وَمِنْهَا أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ هَلْ رَأَى اللَّه لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَلَمْ يُكَفِّرْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَذَا السَّبَبِ؟ وَمَا نَسَبَهُ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ عَقْلًا فِي رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي سَمْعِيَّاتِ مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَرَى الْأَشْيَاءَ وَيُبْصِرُهَا وَيُدْرِكُهَا.
103
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَبْصَارِ عَيْنَ الْأَبْصَارِ. أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُبْصِرِينَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى رَائِيًا لِرُؤْيَةِ الرَّائِينَ وَلِأَبْصَارِ الْمُبْصِرِينَ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى يَرَى جَمِيعَ الْمَرْئِيَّاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ وَجَبَ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى رَائِيًا لِلْمُبْصِرِينَ، فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُبْصِرًا لِلْمُبْصَرَاتِ رَائِيًا لِلْمَرْئِيَّاتِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ يُفِيدُ الْحَصْرَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَلَا يُدْرِكُهَا غَيْرُ اللَّه تَعَالَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي بِهِ يَصِيرُ الْحَيُّ رَائِيًا لِلْمَرْئِيَّاتِ وَمُبْصِرًا لِلْمُبْصَرَاتِ وَمُدْرِكًا لِلْمُدْرَكَاتِ، أَمْرٌ عَجِيبٌ وَمَاهِيَّةٌ شَرِيفَةٌ، لَا يُحِيطُ الْعَقْلُ بِكُنْهِهَا. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى مُدْرِكٌ لِحَقِيقَتِهَا مُطَّلِعٌ عَلَى مَاهِيَّتِهَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ هُوَ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْقُوَى الْمُدْرَكَةِ لَا تُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ عَقْلًا مِنَ الْعُقُولِ لَا يَقِفُ عَلَى كُنْهِ صَمَدِيَّتِهِ، فَكَلَّتِ الْأَبْصَارُ عَنْ إِدْرَاكِهِ، وَارْتَدَعَتِ الْعُقُولُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَيَادِينِ عِزَّتِهِ، / وَكَمَا أَنَّ شَيْئًا لَا يُحِيطُ بِهِ، فَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِالْكُلِّ، وَإِدْرَاكُهُ مُتَنَاوَلٌ لِلْكُلِّ، فَهَذَا كَيْفِيَّةُ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ اللَّطَافَةُ ضِدُّ الْكَثَافَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الرِّقَّةُ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّه مُمْتَنِعٌ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ فِيهِ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ لُطْفُ صُنْعِهِ فِي تَرْكِيبِ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الْأَجْزَاءِ الدَّقِيقَةِ، وَالْأَغْشِيَةِ الرَّقِيقَةِ وَالْمَنَافِذِ الضَّيِّقَةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّه تَعَالَى.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَطِيفٌ فِي الْإِنْعَامِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، حَيْثُ يُثْنِي عَلَيْهِمْ عِنْدَ الطَّاعَةِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالتَّوْبَةِ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا يَقْطَعُ عَنْهُمْ سَوَادَ رحمته سواء كانوا مطيعين أو عُصَاةً.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَطِيفٌ بِهِمْ حَيْثُ لَا يَأْمُرُهُمْ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ، وَيُنْعِمُ عَلَيْهِمْ بِمَا هُوَ فَوْقَ اسْتِحْقَاقِهِمْ. وَأَمَّا الْخَبِيرُ: فَهُوَ مِنَ الْخَبَرِ وَهُوَ الْعِلْمُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ مَعَ كَوْنِهِ عَالِمًا بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْقَبَائِحِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» اللَّطِيفُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَلْطُفُ عَنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ الْخَبِيرُ بِكُلِّ لَطِيفٍ، فَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَلَا يَلْطُفُ شَيْءٌ عَنْ إِدْرَاكِهِ، وَهَذَا وجه حسن.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٤]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ الظَّاهِرَةَ، وَالدَّلَائِلَ الْقَاهِرَةَ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ الْإِلَهِيَّةِ. عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ أَمْرِ الدَّعْوَى وَالتَّبْلِيغِ وَالرِّسَالَةِ فَقَالَ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَالْبَصَائِرُ جَمْعُ الْبَصِيرَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْبَصَرَ اسْمٌ لِلْإِدْرَاكِ التَّامِّ الْكَامِلِ الْحَاصِلِ بِالْعَيْنِ الَّتِي فِي الرَّأْسِ، فَالْبَصِيرَةُ اسْمٌ لِلْإِدْرَاكِ التَّامِّ الْحَاصِلِ فِي الْقَلْبِ. قَالَ تَعَالَى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
[الْقِيَامَةِ: ١٤] أَيْ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا لَيْسَتْ بَصَائِرَ إِلَّا أَنَّهَا لِقُوَّتِهَا وَجَلَالَتِهَا تُوجِبُ الْبَصَائِرَ لِمَنْ عَرَفَهَا، وَوَقَفَ عَلَى حَقَائِقِهَا، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَسْبَابًا لِحُصُولِ الْبَصَائِرِ.
سُمِّيَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنْفُسُهَا بِالْبَصَائِرِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ وَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ، فَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَتَبْلِيغِ الدَّلَالَةِ وَالْبَيِّنَاتِ فِيهَا، وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا قَصَّرَ فِي تَبْلِيغِهَا وَإِيضَاحِهَا وَإِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ عَنْهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ، فَإِقْدَامُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَتَرْكِ الْكُفْرِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَنَفْعُهُ وَضَرُّهُ عَائِدٌ إِلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى مَنْ أَبْصَرَ الْحَقَّ وَآمَنَ فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ، وَإِيَّاهَا نَفَعَ، وَمَنْ عَمِيَ عَنْهُ فَعَلَى نَفْسِهِ عَمِيَ وَإِيَّاهَا ضَرَّ بِالْعَمَى وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أَحْفَظُ أَعْمَالَكُمْ وَأُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا. إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ واللَّه هُوَ الْحَفِيظُ عَلَيْكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ ذَكَرَهَا الْقَاضِي: فَالْأَوَّلُ: الْغَرَضُ بِهَذِهِ الْبَصَائِرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا اخْتِيَارًا اسْتَحَقَّ بِهَا الثَّوَابَ لَا أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ يَلْجَأَ إِلَيْهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ هَذَا الْغَرَضَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا دَلَّنَا وَبَيَّنَ لَنَا مَنَافِعَ، وَأَغْرَاضُ الْمَنَافِعِ تَعُودُ إِلَيْنَا لَا لِمَنَافِعَ تَعُودُ إِلَى اللَّه تَعَالَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَرْءَ بِعُدُولِهِ عَنِ النَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ يَضُرُّ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُؤْتَ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ لَا مِنْ قِبَلِ رَبِّهِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها قَالَ: وَفِيهِ إِبْطَالُ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ فِي الْمَخْلُوقِ، وَفِي أَنَّهُ تَعَالَى يُكَلِّفُ بِلَا قُدْرَةٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى شَرَعَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَلَا طَرِيقَ فِيهِ إِلَّا مُعَارَضَتُهُ بِسُؤَالِ الدَّاعِي فَإِنَّهُ يَهْدِمُ كُلَّ مَا يَذْكُرُونَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْإِبْصَارِ هَاهُنَا الْعِلْمُ، وَمِنَ الْعَمَى الْجَهْلُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الْحَجِّ: ٤٦].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ قَوْلُهُ: فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها مَعْنَاهُ لَا آخُذُكُمْ بِالْإِيمَانِ أَخْذَ الْحَفِيظِ عَلَيْكُمْ وَالْوَكِيلِ. قَالُوا: وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، فَلَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ صَارَ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ آيَةُ الْقِتَالِ نَاسِخَةٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ فَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ مَشْغُوفُونَ بِتَكْثِيرِ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَالْحَقُّ مَا تُقَرِّرُهُ أَصْحَابُ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ، فوجب السعي في تقليله بقدر الإمكان.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٥]
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)
[في قوله تعالى وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَمَّمَ الْكَلَامَ فِي الْإِلَهِيَّاتِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ شَرَعَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي إِثْبَاتِ/ النُّبُوَّاتِ فَبَدَأَ تَعَالَى بِحِكَايَةِ شُبُهَاتِ الْمُنْكِرِينَ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ.
فَالشُّبْهَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ كَلَامٌ تَسْتَفِيدُهُ مِنْ مُدَارَسَةِ الْعُلَمَاءِ وَمُبَاحَثَةِ الْفُضَلَاءِ، وَتُنَظِّمُهُ مِنْ عند نفسك، ثم تقرأه عَلَيْنَا، وَتَزْعُمُ أَنَّهُ وَحْيٌ نَزَلَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْهُ بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ النَّظْمِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
105
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يَأْتِي بِهَا مُتَوَاتِرَةً حَالًا بَعْدَ حَالٍ، ثُمَّ قَالَ: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: حَكَى الْوَاحِدِيُّ: فِي قَوْلِهِ دَرَسَ الْكِتَابَ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ أَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ:
دَرَسَ الطَّعَامَ إِذَا دَاسَهُ، يَدْرُسُهُ دِرَاسًا وَالدِّرَاسُ الدِّيَاسُ بِلُغَةِ أَهْلِ الشَّامِ قَالَ: وَدَرَسَ الْكَلَامَ مِنْ هَذَا أَيْ يَدْرُسُهُ فَيَخِفُّ عَلَى لِسَانِهِ. وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ دَرَسْتُ الْكِتَابَ أَيْ ذَلَّلْتُهُ بِكَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى خَفَّ حِفْظُهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ دَرَسْتُ الثَّوْبَ أَدْرُسُهُ دَرْسًا فَهُوَ مَدْرُوسٌ وَدَرِيسٌ، أَيْ أَخَلَقْتُهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلثَّوْبِ الْخَلِقِ دَرِيسٌ لِأَنَّهُ قَدْ لَانَ، وَالدِّرَاسَةُ الرِّيَاضَةُ، وَمِنْهُ دَرَسْتُ السُّورَةَ حَتَّى حَفِظْتُهَا، ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ بَلْ هُوَ نَفْسُهُ لأن المعنى يعود فيه إلى الدليل وَالتَّلْيِينِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عمر ودارست بِالْأَلِفِ وَنَصْبِ التَّاءِ، وَهُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَتَفْسِيرُهَا قَرَأْتَ عَلَى الْيَهُودِ وَقَرَءُوا عَلَيْكَ، وَجَرَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مُدَارَسَةٌ وَمُذَاكَرَةٌ، وَيُقَوِّي هَذِهِ القراءة قوله تعالى: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الْفُرْقَانِ: ٤] وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ دَرَسْتَ أَيْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ الَّتِي تَلَوْتَهَا عَلَيْنَا قَدِيمَةٌ قَدْ دَرَسَتْ وَانْمَحَتْ، وَمَضَتْ مِنَ الدَّرْسِ الَّذِي هُوَ تُعَفِّي الْأَثَرِ وَإِمْحَاءُ الرَّسْمِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ مَنْ قَرَأَ دَرَسْتَ فَمَعْنَاهُ تَقَادَمَتْ أَيْ هَذَا الَّذِي تَتْلُوهُ عَلَيْنَا قَدْ تَقَادَمَ وَتَطَاوَلَ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ دَرَسَ الْأَثَرُ يَدْرِسُ دُرُوسًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» رَوَى هَاهُنَا قِرَاءَاتٍ أُخْرَى: فَإِحْدَاهَا: دَرُسَتْ بِضَمِّ الرَّاءِ مُبَالَغَةٌ فِي دَرَسَتْ أَيِ اشْتَدَّ دُرُوسُهَا. وَثَانِيهَا: دُرِسَتْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ بِمَعْنَى قَدُمَتْ وَعَفَتْ. وَثَالِثُهَا:
دَارَسَتْ وَفَسَّرُوهَا بِدَارَسَتِ الْيَهُودُ مُحَمَّدًا. وَرَابِعُهَا: دَرَسَ أَيْ دَرَسَ مُحَمَّدٌ. وَخَامِسُهَا: دَارِسَاتٌ عَلَى مَعْنَى هِيَ دَارِسَاتٌ أَيْ قَدِيمَاتٌ أَوْ ذَاتُ دَرْسٍ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ.
الْبحُثُ الثَّالِثُ: «الْوَاوُ» فِي قَوْلِهِ: وَلِيَقُولُوا عَطْفٌ على مضمر والتقدير وكذلك نصرف الآيات لنلزمهم الْحُجَّةَ وَلِيَقُولُوا فَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ لِوُضُوحِ مَعْنَاهُ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ ذَكَرَ الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ صَرَفَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَهُوَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ تعالى: وليقولوا دارست وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَمَّا هَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي هَذَا التَّصْرِيفِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ الْبَيَانُ وَالْفَهْمُ وَالْعِلْمُ. وَإِنَّمَا الْكَلَامُ في الوجه الأول وهو قوله: وليقولوا دارست لأن قولهم للرسول دارست كُفْرٌ مِنْهُمْ بِالْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ، وَعِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ عَادَ بَحْثُ مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ. فَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَإِنَّهُمْ أَجْرَوُا الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالُوا مَعْنَاهُ أَنَّا ذَكَرْنَا هَذِهِ الدَّلَائِلَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ ليقول بعضهم دارست فَيَزْدَادَ كُفْرًا عَلَى كُفْرٍ، وَتَثْبِيتًا لِبَعْضِهِمْ فَيَزْدَادَ إِيمَانًا عَلَى إِيمَانٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: ٢٦] وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَةِ: ١٢٥] وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ تَحَيَّرُوا. قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي: وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَحَدُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْإِثْبَاتُ عَلَى النَّفْيِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِئَلَّا يَقُولُوا دَرَسْتَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَمَعْنَاهُ: لِئَلَّا تَضِلُّوا. وَالثَّانِي: أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ اللَّامُ عَلَى
106
لَامِ الْعَاقِبَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ عِنْدَ تَصْرِيفِنَا هَذِهِ الْآيَاتِ أَنْ يَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ مُسْتَنِدِينَ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ، عَادِلِينَ عَمَّا يَلْزَمُ مِنَ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ. هَذَا غَايَةُ كَلَامِ الْقَوْمِ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا الْجَوَابُ الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ حَمْلَ الْإِثْبَاتِ عَلَى النَّفْيِ تَحْرِيفٌ لِكَلَامِ اللَّه وَتَغْيِيرٌ لَهُ، وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ أَنْ لَا يَبْقَى وُثُوقٌ لَا بِنَفْيِهِ وَلَا بِإِثْبَاتِهِ، وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً وَأَنَّهُ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَجُوزَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْجُمْلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ لَائِقٍ الْبَتَّةَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ كَانَ يُظْهِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ نَجْمًا نَجْمًا، وَالْكُفَّارُ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَضُمُّ هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ وَيَتَفَكَّرُ فِيهَا وَيُصْلِحُهَا آيَةً فَآيَةً ثُمَّ يُظْهِرُهَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا بِوَحْيٍ نَازِلٍ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، فَلِمَ لَا يَأْتِي بِهَذَا الْقُرْآنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً؟ كَمَا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِالتَّوْرَاةِ دَفْعَةً وَاحِدَةً.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ تَصْرِيفَ هَذِهِ الْآيَاتِ حَالًا فَحَالًا هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتِ الشُّبْهَةَ لِلْقَوْمِ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، إِنَّمَا يَأْتِي بِهَذَا الْقُرْآنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَارَسَةِ مَعَ التَّفَكُّرِ وَالْمُذَاكَرَةِ مَعَ أَقْوَامٍ آخَرِينَ وَعَلَى مَا يَقُولُ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَصْرِيفُ هَذِهِ الْآيَاتِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ يُوجِبُ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا أَتَى بِهَذَا الْقُرْآنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَارَسَةِ وَالْمُذَاكَرَةِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرَهُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ جَعَلْنَا تَصْرِيفَ الْآيَاتِ عِلَّةً لِأَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ، مَعَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ تَصْرِيفَ الْآيَاتِ، هُوَ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ الْقَوْلِ فَسَقَطَ هَذَا الْكَلَامُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ حَمْلُ اللَّامِ عَلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ، فَهُوَ أَيْضًا بَعِيدٌ لِأَنَّ حَمْلَ هَذِهِ اللَّامِ عَلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ مَجَازٌ، وَحَمْلُهُ عَلَى لَامِ الْغَرَضِ حَقِيقَةٌ، وَالْحَقِيقَةُ أَقْوَى مِنَ الْمَجَازِ فَلَوْ قُلْنَا: «اللَّامُ» فِي قَوْلِهِ: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ لَامُ الْعَاقِبَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لِلْحَقِيقَةِ فَقَدْ حَصَلَ تَقْدِيمُ الْمَجَازِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الذِّكْرِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا ضَعْفُ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ وَأَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ عَيْنُ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يَعْنِي أَنَّا مَا بَيَّنَّاهُ إِلَّا لِهَؤُلَاءِ، فَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فَمَا بَيَّنَّا هَذِهِ الْآيَاتِ لَهُمْ، وَلَمَّا دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا جَعَلَهُ بَيَانًا إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ ثَبَتَ أَنَّهُ جَعَلَهُ ضَلَالًا لِلْكَافِرِينَ وَذَلِكَ مَا قُلْنَا. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٧]
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يَنْسُبُونَهُ فِي إِظْهَارِ هَذَا الْقُرْآنِ إِلَى الِافْتِرَاءِ أَوْ إِلَى أَنَّهُ يُدَارِسُ أَقْوَامًا وَيَسْتَفِيدُ هَذِهِ الْعُلُومَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْظِمُهَا قُرْآنًا وَيَدَّعِي أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لِئَلَّا يَصِيرَ ذَلِكَ الْقَوْلُ سَبَبًا لِفُتُورِهِ فِي تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَالرِّسَالَةِ، وَالْمَقْصُودُ تَقْوِيَةُ قَلْبِهِ وَإِزَالَةُ الْحُزْنِ الَّذِي حَصَلَ بِسَبَبِ سَمَاعِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ وَاحِدًا فِي الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ طَاعَتُهُ، وَلَا يَجُوزُ الْإِعْرَاضُ عَنْ تَكَالِيفِهِ بِسَبَبِ جَهْلِ الْجَاهِلِينَ وَزَيْغِ الزَّائِغِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فَقِيلَ: الْمُرَادُ تَرْكُ الْمُقَابَلَةِ، فَلِذَلِكَ قَالُوا إِنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَهَذَا ضَعِيفٌ
107
لِأَنَّ الْأَمْرَ بِتَرْكِ الْمُقَابَلَةِ فِي الْحَالِ لَا يُفِيدُ الْأَمْرَ بِتَرْكِهَا دَائِمًا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبِ الْتِزَامُ النَّسْخِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ تَرْكُ مُقَابَلَتِهِمْ فِيمَا يَأْتُونَهُ مِنْ سَفَهٍ، وَأَنْ يَعْدِلَ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ إِلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ وَأَبْعَدَ عَنِ التَّنْفِيرِ وَالتَّغْلِيظِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ.
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أَيْضًا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِمْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا جَمَعْتَ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ مُدَارَسَةِ النَّاسِ.
وَمُذَاكَرَتِهِمْ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُ لَا تَلْتَفِتْ إِلَى سَفَاهَاتِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، وَلَا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ كُفْرُهُمْ، فَإِنِّي لَوْ أَرَدْتُ إِزَالَةَ الْكُفْرِ عَنْهُمْ لَقَدَرْتُ، وَلَكِنِّي تَرَكْتُهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَشْغَلَ قَلْبَكَ بِكَلِمَاتِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَالْمَعْنَى: وَلَوْ شَاءَ اللَّه أَنْ لَا يُشْرِكُوا مَا أَشْرَكُوا، وَحَيْثُ لَمْ يَحْصُلِ الْجَزَاءُ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلِ الشَّرْطُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّه تَعَالَى بِعَدَمِ إِشْرَاكِهِمْ غَيْرُ حَاصِلَةٍ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الْكُلِّ الْإِيمَانَ، وَمَا شَاءَ مِنْ أَحَدٍ الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ مِنَ الْكُلِّ الْإِيمَانَ، فَوَجَبَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ فَيُحْمَلُ مَشِيئَةُ اللَّه تَعَالَى لِإِيمَانِهِمْ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِيمَانِ الِاخْتِيَارِيِّ الْمُوجِبِ لِلثَّوَابِ وَالثَّنَاءِ وَيُحْمَلُ عَدَمُ مَشِيئَتِهِ لِإِيمَانِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ الْحَاصِلِ بِالْقَهْرِ وَالْجَبْرِ وللإلجاء. يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ مِنْهُمْ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْإِلْجَاءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ التَّكْلِيفَ وَيُخْرِجُ الْإِنْسَانَ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ. هَذَا مَا عَوَّلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَقْدَرَ الْكَافِرَ عَلَى الْكُفْرِ فَقُدْرَةُ الْكُفْرِ إِنْ لَمْ تَصْلُحْ لِلْإِيمَانِ فَخَالِقُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ لَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ مُرِيدًا لِلْكُفْرِ، وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلْإِيمَانِ لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ الْكُفْرِ عَلَى جَانِبِ الْإِيمَانِ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ دَاعٍ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِلَّا لَزِمَ رُجْحَانُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ، وَمَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي إِلَى الْكُفْرِ يُوجِبُ الْكُفْرَ، وَإِذَا كَانَ خَالِقُ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِي هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَثَبَتَ أَنَّ مَجْمُوعَهُمَا يُوجِبُ الْكُفْرَ. ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرَادَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ. الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِعَدَمِ الْإِيمَانِ مِنَ الْكَافِرِ، وَوُجُودُ الْإِيمَانِ مَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ مُتَضَادَّانِ وَمَعَ وُجُودِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ كَانَ حُصُولُ الضِّدِّ الثَّانِي مُحَالًا، وَالْمَحَالُّ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مُحَالًا غَيْرُ مُرَادٍ، فَامْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ. الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّ الْإِيمَانَ الِاخْتِيَارِيَّ أَفْضَلُ وَأَنْفَعُ مِنَ الْإِيمَانِ الْحَاصِلِ بِالْجَبْرِ وَالْقَهْرِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَنْفَعَ لَا يَحْصُلُ الْبَتَّةَ، فَقَدْ كَانَ يَجِبُ في حكمته ورحمته أن يحلق فِيهِ الْإِيمَانَ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ، لِأَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ، فَأَقَلُّ مَا فِيهِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْعِقَابِ الْعَظِيمِ، فَتَرْكُ إِيجَادِ هَذَا الْإِيمَانِ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ يُوجِبُ وُقُوعَهُ فِي أَشَدِّ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَمِثَالُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ عَزِيزٌ وَكَانَ هَذَا الْأَبُ فِي غَايَةِ الشَّفَقَةِ وَكَانَ هَذَا الْوَلَدُ وَاقِفًا عَلَى طَرَفِ الْبَحْرِ فَيَقُولُ الْوَالِدُ لَهُ: غص في/ قعر هذا البحر لتستخرج اللآلي الْعَظِيمَةَ الرَّفِيعَةَ الْعَالِيَةَ مِنْهُ، وَعَلِمَ الْوَالِدُ قَطْعًا أَنَّهُ إِذَا غَاصَ فِي الْبَحْرِ هَلَكَ وَغَرِقَ، فَهَذَا الْأَبُ إِنْ كَانَ نَاظِرًا فِي حَقِّهِ مُشْفِقًا عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْغَوْصِ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ وَيَقُولُ لَهُ: اتْرُكْ طلب تلك اللآلي فإنك لا تحدها وَتَهْلِكُ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى لَكَ أَنْ تَكْتَفِيَ بِالرِّزْقِ الْقَلِيلِ مَعَ السَّلَامَةِ، فَأَمَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْغَوْصِ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ مَعَ الْيَقِينِ التَّامِّ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ مِنْهُ إِلَّا الْهَلَاكَ فَهَذَا يَدُلُّ على عدم الرحمة وعلى السعي في الإهلاك فَكَذَا هَاهُنَا واللَّه أَعْلَمُ.
108
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِزَالَةِ الْكُفْرِ عَنْهُمْ خَتَمَ الْكَلَامَ بِمَا يَكْمُلُ مَعَهُ تَبْصِيرُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَهُ قَدْرَ مَا جُعِلَ إِلَيْهِ فَذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى مَا جَعَلَهُ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَلَا وَكِيلًا عَلَى سَبِيلِ الْمَنْعِ لَهُمْ، وَإِنَّمَا فَوَّضَ إِلَيْهِ الْبَلَاغَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الْعَمَلِ وَالْعِلْمِ وَفِي الْبَيَانِ بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا فَإِنِ انْقَادُوا لِلْقَبُولِ فَنَفْعُهُ عائد إليهم، وَإِلَّا فَضَرَرُهُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يخرج صلى الله عليه وآله وسلم من الرسالة والنبوة والتبليغ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٨]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أَيْضًا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِمْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّمَا جَمَعْتَ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ مُدَارَسَةِ النَّاسِ وَمُذَاكَرَتِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ مِنَ الْكُفَّارِ غَضِبُوا وَشَتَمُوا آلِهَتَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْعَمَلِ، لِأَنَّكَ مَتَى شَتَمْتَ آلِهَتَهُمْ غَضِبُوا فَرُبَّمَا ذَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى بِمَا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْقَوْلِ، فَلِأَجْلِ الِاحْتِرَازِ عَنْ هَذَا الْمَحْذُورِ وَجَبَ الِاحْتِرَازُ عَنْ ذَلِكَ الْمَقَالِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ خَصْمَكَ إِذَا شَافَهَكَ بِجَهْلٍ وَسَفَاهَةٍ لَمْ يَجُزْ لَكَ أَنْ تَقْدُمَ عَلَى مُشَافَهَتِهِ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى كَلَامِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ فَتْحَ بَابِ الْمُشَاتَمَةِ وَالسَّفَاهَةِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْعُقَلَاءِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٨] قَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا وَشَتْمِهَا لَنَهْجُوَنَّ إِلَهَكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَقُولُ: لِي هَاهُنَا إِشْكَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّاسَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَذَا وَكَذَا. الثَّانِي: أَنَّ/ الْكُفَّارَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالْإِلَهِ تَعَالَى وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا حَسُنَتْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ لِتَصِيرَ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ إِقْدَامُهُمْ عَلَى شَتْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَبِّهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا قَرُبَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ قُرَيْشٌ: نَدْخُلُ عَلَيْهِ وَنَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَنْهَى ابْنَ أَخِيهِ عَنَّا فَإِنَّا نَسْتَحِي أَنْ نَقْتُلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَتَقُولُ الْعَرَبُ: كَانَ يَمْنَعُهُ فَلَمَّا مَاتَ قَتَلُوهُ.
فَانْطَلَقَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَبُو جَهْلٍ وَالنَّضْرُ بن الحرث مَعَ جَمَاعَةٍ إِلَيْهِ وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ كَبِيرُنَا وَخَاطَبُوهُ بِمَا أَرَادُوا. فَدَعَا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ وَبَنُو عَمِّكَ يَطْلُبُونَ مِنْكَ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَأَنْ يَتْرُكُوكَ عَلَى دِينِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَأَبَوْا فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: قُلْ غَيْرَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ قَوْمَكَ يَكْرَهُونَهَا. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَنَا بِالَّذِي أَقُولُ غَيْرَهَا حَتَّى تَأْتُونِي بِالشَّمْسِ فَتَضَعُوهَا فِي يَدِي فَقَالُوا لَهُ اتْرُكْ شَتْمَ آلِهَتِنَا وَإِلَّا شَتَمْنَاكَ، وَمَنْ يَأْمُرُكَ بِذَلِكَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ تَعَالَى فَاسْتَحَالَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى شَتْمِ الْإِلَهِ بَلْ هَاهُنَا احْتِمَالَاتٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ قَائِلًا بِالدَّهْرِ وَنَفْيِ الصَّانِعِ فيما كَانَ يُبَالِي بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ السَّفَاهَةِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ مَتَى شَتَمُوا الْأَصْنَامَ فَهُمْ كَانُوا يَشْتُمُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَاللَّهُ تَعَالَى أَجْرَى شَتْمَ الرَّسُولِ مَجْرَى شَتْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْحِ: ١٠] وَكَقَوْلِهِ: إِنَّ
109
الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ
[الْأَحْزَابِ: ٥٧] وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي جُهَّالِهِمْ مَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ شَيْطَانًا يَحْمِلُهُ عَلَى ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لِجَهْلِهِ كَانَ يُسَمِّي ذَلِكَ الشَّيْطَانَ بِأَنَّهُ إِلَهُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَانَ يَشْتُمُ إِلَهَ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ شَتْمَ الْأَصْنَامِ مِنْ أُصُولِ الطَّاعَاتِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَنْهَى عَنْهَا.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الشَّتْمَ، وَإِنْ كَانَ طَاعَةً. إِلَّا أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مُنْكَرٍ عَظِيمٍ، وَجَبَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَالْأَمْرُ هَاهُنَا كَذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا الشَّتْمَ كَانَ يَسْتَلْزِمُ إِقْدَامَهُمْ عَلَى شَتْمِ اللَّهِ وَشَتْمِ رَسُولِهِ، وَعَلَى فَتْحِ بَابِ السَّفَاهَةِ، وعلى تنفير هم عَنْ قَبُولِ الدِّينِ، وَإِدْخَالِ الْغَيْظِ وَالْغَضَبِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلِكَوْنِهِ مُسْتَلْزِمًا لِهَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ، وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ: فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَيُقَالُ: عَدَا فُلَانٌ عَدْوًا وَعُدُوًّا وَعُدْوَانًا وَعِدًا. أَيْ ظَلَمَ ظُلْمًا جَاوَزَ الْقَدْرَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَعَدْوًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى فَيَعْدُوا عَدْوًا. قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِإِرَادَةِ اللَّامِ، وَالْمَعْنَى: فَيَنْسُبُوا اللَّهَ لِلظُّلْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ بِالْكَفَّارِ مَا يَزْدَادُونَ بِهِ بُعْدًا عَنِ الْحَقِّ وَنُفُورًا. إِذْ لَوْ جَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ، وَكَانَ لَا يَنْهَى عَمَّا ذَكَرْنَا، وَكَانَ لَا يَأْمُرُ بِالرِّفْقِ بِهِمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ. كَقَوْلِهِ لِمُوسَى وَهَارُونَ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: ٤٤] وَذَلِكَ يُبَيِّنُ بُطْلَانَ مَذْهَبِ الْمُجْبِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالُوا هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ قَدْ يُقَبَّحُ إِذَا أَدَّى إِلَى ارْتِكَابِ مُنْكَرٍ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ يُقَبَّحُ إِذَا أَدَّى إِلَى زِيَادَةِ مُنْكَرٍ، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْبَابِ وَفِيهِ تَأْدِيبٌ لِمَنْ يَدْعُو إِلَى الدِّينِ، لِئَلَّا يَتَشَاغَلَ بِمَا لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي الْمَطْلُوبِ، لِأَنَّ وَصْفَ الْأَوْثَانِ بِأَنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ يَكْفِي فِي الْقَدْحِ فِي إِلَهِيَّتِهَا، فَلَا حَاجَةَ مَعَ ذَلِكَ إِلَى شَتْمِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي زَيَّنَ لِلْكَافِرِ الْكُفْرَ، وَلِلْمُؤْمِنِ الْإِيمَانَ، وَلِلْعَاصِي الْمَعْصِيَةَ، وَلِلْمُطِيعِ الطَّاعَةَ. قَالَ الْكَعْبِيُّ: حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَقُولُ: الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ [مُحَمَّدٍ: ٢٥] وَيَقُولُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٧] ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ ذَكَرُوا فِي الْجَوَابِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ:
قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْمُرَادُ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ تَقَدَّمَتْ مَا أَمَرْنَاهُمْ بِهِ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَالْكَعْبِيُّ أَيْضًا ذَكَرَ عَيْنَ هَذَا الْجَوَابِ فَقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى زَيَّنَ لَهُمْ مَا يَنْبَغِي ان يعلموا وَهُمْ لَا يَنْتَهُونَ. الثَّانِي: قَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْ أُمَمِ الْكُفَّارِ سُوءَ عَمَلِهِمْ، أَيْ خَلَّيْنَاهُمْ وَشَأْنَهُمْ وَأَمْهَلْنَاهُمْ حَتَّى حَسُنَ عِنْدَهُمْ سُوءُ عَمَلِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَمْهَلْنَا الشَّيْطَانَ حَتَّى زَيَّنَ لَهُمْ، وَالرَّابِعُ: زَيَّنَّاهُ فِي زَعْمِهِمْ وَقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِهَذَا وَزَيَّنَّهُ لَنَا. هَذَا مَجْمُوعُ التَّأْوِيلَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ الْقَاطِعَ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا أَشْعَرَ بِهِ ظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ صُدُورَ الْفِعْلِ عَنِ الْعَبْدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِي. وَبَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ لَا
110
بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا مَعْنَى لِتِلْكَ الدَّاعِيَةِ إِلَّا عِلْمُهُ وَاعْتِقَادُهُ أَوْ ظَنُّهُ بِاشْتِمَالِ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَى نَفْعٍ زَائِدٍ، وَمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الدَّاعِيَةُ حَصَلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا كَوْنُهُ مُعْتَقِدًا لِاشْتِمَالِ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَى النَّفْعِ الزَّائِدِ، وَالْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ.
ثَبَتَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصْدُرَ عَنِ الْعَبْدِ فِعْلٌ، وَلَا قَوْلٌ وَلَا حَرَكَةٌ وَلَا سُكُونٌ، إِلَّا إِذَا زَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْفِعْلَ فِي قَلْبِهِ وَضَمِيرِهِ وَاعْتِقَادِهِ، وَأَيْضًا الْإِنْسَانُ لَا يَخْتَارُ الْكُفْرَ وَالْجَهْلَ ابْتِدَاءً مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ كُفْرًا وَجَهْلًا، وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ بَلْ إِنَّمَا يَخْتَارُهُ لِاعْتِقَادِهِ كَوْنَهُ إِيمَانًا وَعِلْمًا وَصِدْقًا وَحَقًّا فَلَوْلَا سَابِقَةُ الْجَهْلِ الْأَوَّلِ لَمَا اخْتَارَ هَذَا الْجَهْلَ. الثَّانِي: ثُمَّ إِنَّا نَنْقُلُ الْكَلَامَ إِلَى أَنَّهُ لِمَ اخْتَارَ ذَلِكَ/ الْجَهْلَ السَّابِقَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِسَابِقَةِ جَهْلٍ آخَرَ فَقَدْ لَزِمَ أَنْ يَسْتَمِرَّ ذَلِكَ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْجَهَالَاتِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا وَجَبَ انْتِهَاءُ تِلْكَ الْجَهَالَاتِ إِلَى جَهْلٍ أَوَّلَ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْجَهْلِ ظَنَّ فِي الْكُفْرِ كَوْنَهُ إِيمَانًا وَحَقًّا وَعِلْمًا وَصِدْقًا، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ مِنَ الْكَافِرِ اخْتِيَارُ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ إِلَّا إِذَا زَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْجَهْلَ فِي قَلْبِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الْبُرْهَانَيْنِ الْقَاطِعَيْنِ الْقَطْعِيَّيْنِ أَنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَقَدْ بَطَلَتِ التَّأْوِيلَاتُ الْمَذْكُورَةُ بِأَسْرِهَا، لِأَنَّ الْمَصِيرَ إِلَى التَّأْوِيلِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ. أَمَّا لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعُدُولُ عَنِ الظَّاهِرِ، فَقَدْ سَقَطَتْ هَذِهِ التَّكْلِيفَاتُ بِأَسْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ مُشْعِرٌ بِأَنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمُنْكَرِ إِنَّمَا كَانَ بِتَزْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى زَيَّنَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِي قُلُوبِ الْأُمَمِ، فَهَذَا كَلَامٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ يَتَنَاوَلُ الْأُمَمَ الْكَافِرَةَ وَالْمُؤْمِنَةَ، فَتَخْصِيصُ هَذَا الْكَلَامِ بِالْأُمَّةِ الْمُؤْمِنَةِ تَرْكٌ لِظَاهِرِ الْعُمُومِ، وَأَمَّا سَائِرُ التَّأْوِيلَاتِ، فَقَدْ ذَكَرَهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَسُقُوطُهَا لَا يَخْفَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ أَمْرَهُمْ مُفَوَّضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَحْوَالِهِمْ. مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمَائِرِهِمْ. وَرُجُوعِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى اللَّهِ فَيُجَازِي كُلَّ أَحَدٍ بِمُقْتَضَى عَمَلِهِ ان خيرا فخير، وان شرا فشر.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٩]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ شُبْهَةً تُوجِبُ الطَّعْنَ فِي نُبُوَّتِهِ، وَهِيَ قَوْلُهُمْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ إِنَّمَا جِئْتَنَا بِهِ لِأَنَّكَ تُدَارِسُ الْعُلَمَاءَ، وَتُبَاحِثُ الْأَقْوَامَ الَّذِينَ عَرَفُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. ثُمَّ تَجْمَعُ هَذِهِ السُّوَرَ وَهَذِهِ الْآيَاتِ بِهَذَا الطَّرِيقِ. ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِمَا سَبَقَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى شُبْهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُمْ لَهُ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ كَيْفَمَا كَانَ أَمْرُهُ، فَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُعْجِزَاتِ الْبَتَّةَ، وَلَوْ/ أَنَّكَ يَا مُحَمَّدُ جِئْتَنَا بمعجزة قاهرة وبينة ظاهرة لأنا بِكَ، وَحَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ وَبَالَغُوا فِي تَأْكِيدِ ذَلِكَ الْحَلِفِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَقْرِيرُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنَّمَا سَمَّى الْيَمِينَ بِالْقَسَمِ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَوْضُوعَةٌ لِتَوْكِيدِ الْخَبَرِ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ الإنسان:
111
إِمَّا مُثْبِتًا لِلشَّيْءِ، وَإِمَّا نَافِيًا. وَلَمَّا كَانَ الْخَبَرُ يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ احْتَاجَ الْمُخْبِرُ إِلَى طَرِيقٍ بِهِ يَتَوَسَّلُ إِلَى تَرْجِيحِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ وَذَلِكَ هُوَ الْحَلِفُ وَلَمَّا كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى ذِكْرِ الْحَلِفِ إِنَّمَا تَحْصُلُ عِنْدَ انْقِسَامِ النَّاسِ عِنْدَ سَمَاعِ ذَلِكَ الْخَبَرِ إِلَى مُصَدِّقٍ بِهِ وَمُكَذِّبٍ بِهِ. سَمَّوُا الْحَلِفَ بِالْقَسَمِ وَبَنَوْا تِلْكَ الصِّيغَةَ عَلَى- أَفْعَلَ- فَقَالُوا: أَقْسَمَ فُلَانٌ يُقْسِمُ إِقْسَامًا: وَأَرَادُوا أَنَّهُ أَكَّدَ الْقَسَمَ الَّذِي اخْتَارَهُ وَأَحَالَ الصِّدْقَ إِلَى الْقَسَمِ الَّذِي اخْتَارَهُ بِوَاسِطَةِ الْحَلِفِ وَالْيَمِينِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالُوا لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٤] أَقْسَمَ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لِيُؤْمِنُنَّ بِهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الثَّانِي:
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: تُخْبِرُنَا أَنَّ مُوسَى ضَرَبَ الْحَجَرَ بِالْعَصَا فَانْفَجَرَ الْمَاءُ وَأَنَّ عِيسَى أَحْيَا الْمَيِّتَ وَأَنَّ صَالِحًا أَخْرَجَ النَّاقَةَ مِنَ الْجَبَلِ فَأْتِنَا أَيْضًا أَنْتَ بِآيَةٍ لِنُصَدِّقَكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا الَّذِي تُحِبُّونَ» فَقَالُوا: أَنْ تَجْعَلَ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا وَحَلَفُوا لَئِنْ فَعَلَ لَيَتَّبِعُونَهُ أَجْمَعُونَ فَقَامَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْعُو فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ كَانَ ذَلِكَ وَلَئِنْ كَانَ فَلَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدَهُ لَيُعَذِّبَنَّهُمْ وَإِنْ تُرِكُوا تَابَ عَلَى بَعْضِهِمْ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: «بَلْ يَتُوبُ عَلَى بَعْضِهِمْ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ وُجُوهًا: قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِاللَّهِ فَهُوَ جَهْدُ يَمِينِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بَالَغُوا فِي الْأَيْمَانِ وَقَوْلُهُ: لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ:
فَقِيلَ: مَا رَوَيْنَا مِنْ جَعْلِ الصَّفَا ذَهَبًا وَقِيلَ: هِيَ الْأَشْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: ٩٠] وَقِيلَ: إِنَّ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ كَانَ يُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ كَانَ يَنْزِلُ بِالْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا أَنْبِيَاءَهُمْ فَالْمُشْرِكُونَ طَلَبُوا مِثْلَهَا.
وَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ لَفْظَةِ عِنْدَ وُجُوهًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقُدْرَةِ عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى النُّبُوَّاتِ شَرْطُهَا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى تَحْصِيلِهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ/ بِالْعِنْدِيَّةِ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ إِحْدَاثَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ هَلْ يَقْتَضِي إِقْدَامَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَى الْإِيمَانِ أَمْ لَا لَيْسَ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ؟ وَلَفْظُ الْعِنْدِيَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الْأَنْعَامِ: ٥٩] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَالِ مَعْدُومَةً إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى مَتَى شَاءَ إِحْدَاثَهَا أَحْدَثَهَا فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَشْيَاءِ الْمَوْضُوعَةِ عِنْدَ اللَّهِ يُظْهِرُهَا مَتَى شَاءَ وَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَتَحَكَّمُوا فِي طَلَبِهَا وَلَفْظُ عِنْدَ بِهَذَا الْمَعْنَى هُنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [الْحِجْرِ: ٢١].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يُشْعِرُكُمْ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ «مَا» اسْتِفْهَامٌ وَفَاعِلُ يُشْعِرُكُمْ ضَمِيرُ «مَا» وَالْمَعْنَى: وَمَا يُدْرِيكُمْ إِيمَانُهُمْ؟ فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ كَثِيرٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يُدْرِيكُمْ إِيمَانُهُمْ أَيْ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَجِيئَهُمْ هَذِهِ الْآيَاتُ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَقَوْلُهُ: أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو أَنَّهَا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْجَيِّدَةُ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ أَيْ وَمَا يُشْعِرُكُمْ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: سَأَلْتُ الْخَلِيلَ عَنِ الْقِرَاءَةِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي أَنَّ وَقُلْتُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مَا يُدْرِيكَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ؟ فَقَالَ الْخَلِيلُ: إِنَّهُ لَا يَحْسُنُ ذَلِكَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ لَوْ
112
قَالَ: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها بِالْفَتْحِ لَصَارَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُمْ هَذَا كَلَامُ الْخَلِيلِ. وَتَفْسِيرُهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ بِالْمِثَالِ فَإِذَا اتَّخَذْتَ ضِيَافَةً وَطَلَبْتَ مِنْ رَئِيسِ الْبَلَدِ أَنْ يَحْضُرَ فَلَمْ يَحْضُرْ فَقِيلَ لَكَ لَوْ ذَهَبْتَ أَنْتَ بِنَفْسِكَ إِلَيْهِ لَحَضَرَ فَإِذَا قُلْتَ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنِّي لَوْ ذَهَبْتُ إِلَيْهِ لَحَضَرَ كَانَ الْمَعْنَى: أَنِّي لَوْ ذَهَبْتُ إِلَيْهِ بِنَفْسِي فَإِنَّهُ لَا يَحْضُرُ أَيْضًا فَكَذَا هَاهُنَا قَوْلُهُ: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ آمَنُوا. وَذَلِكَ يُوجِبُ مَجِيءَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَيَصِيرُ هَذَا الْكَلَامُ عُذْرًا لِلْكُفَّارِ فِي طَلَبِ الْآيَاتِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ دَفْعُ حُجَّتِهِمْ فِي طَلَبِ الْآيَاتِ فَهَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِ الْخَلِيلِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ الْقُرَّاءِ أَنَّها بِالْفَتْحِ وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْخَلِيلُ: (أَنَّ) بِمَعْنَى لَعَلَّ تَقُولُ الْعَرَبُ ائْتِ السُّوقَ أَنَّكَ تَشْتَرِي لَنَا شَيْئًا أَيْ لَعَلَّكَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَعَلَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: (أَنَّ) بِمَعْنَى لَعَلَّ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَوْلًا لِأَنَّنِي أَرَى مَا تُرِينِي أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدَا
وَقَالَ آخَرُ:
هَلْ أَنْتُمْ عَاجِلُونَ بِنَا لِأَنَّا نَرَى الْعَرَصَاتِ أَوْ أَثَرَ الْخِيَامِ
وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ:
أَعَاذِلَ مَا يُدْرِيكَ أَنَّ مَنِيَّتِي إِلَى سَاعَةٍ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَفَسَّرَ عَلِيٌّ- لَعَلَّ مَنِيَّتِي- رَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَيْضًا فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ:
عُوجًا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لِأَنَّنَا نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ خِذَامِ
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ لَعَلَّهَا إِذَا جَاءَتْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تَجْعَلَ (لَا) صِلَةً وَمِثْلَهُ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الْأَعْرَافِ: ١٢] مَعْنَاهُ أَنْ تَسْجُدَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٥] أَيْ يَرْجِعُونَ فَكَذَا هَاهُنَا التَّقْدِيرُ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ يُؤْمِنُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَوْ جَاءَتْ لَمْ يُؤْمِنُوا قَالَ الزَّجَّاجُ وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ مَا كَانَ لَغْوًا يَكُونُ لَغْوًا عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ وَمَنْ قَرَأَ إِنَّهَا بِالْكَسْرِ فَكَلِمَةُ (لَا) فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَيْسَتْ بِلَغْوٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ جَعْلُ هَذَا اللَّفْظِ لَغْوًا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَغْوًا عَلَى أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ وَيَكُونُ مُفِيدًا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي؟ وَاخْتَلَفَ القراءة أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ فَقَرَأَ بَعْضُهُمْ بِالْيَاءِ وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ بِهَذَا الْوَصْفِ وَالْمَعْنَى وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّهُمْ إذا جاءتهم الآية التي الَّتِي اقْتَرَحُوهَا لَمْ يُؤْمِنُوا فَالْوَجْهُ الْيَاءُ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ بِالتَّاءِ وَهُوَ عَلَى الِانْصِرَافِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ وَالْمُرَادُ بِالْمُخَاطِبِينَ فِي تُؤْمِنُونَ هُمُ الْغَائِبُونَ الْمُقْسِمُونَ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ إِذَا جَاءَتْ وَهَذَا يُقَوِّي قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ تُؤْمِنُونَ بِالتَّاءِ. عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا. وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا ثَانِيًا: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ تَمَنَّوْا نُزُولَ الْآيَةِ لِيُؤْمِنَ الْمُشْرِكُونَ وَهُوَ الْوَجْهُ كَأَنَّهُ قِيلَ لِلْمُؤْمِنِينَ تَتَمَنَّوْنَ ذَلِكَ وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ؟
113
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْقَوْمَ طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ مُعْجِزَاتٍ قَوِيَّةً وَحَلَفُوا أَنَّهَا لَوْ ظَهَرَتْ لَآمَنُوا فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ وَإِنْ حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّهَا لَوْ ظَهَرَتْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ فِي الْحِكْمَةِ إِجَابَتُهُمْ إِلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِنُصْرَةِ الِاعْتِزَالِ.
الْحَكَمُ الْأَوَّلُ:
أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ لُطْفٌ يُؤْمِنُونَ عِنْدَهُ لَفَعَلَهُ لَا مَحَالَةَ إِذْ لَوْ جَازَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْجَوَابِ فَائِدَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ تَعَالَى لَا يُجِيبُهُمْ إِلَى مَطْلُوبِهِمْ سَوَاءٌ آمَنُوا أَوْ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يَكُنْ تَعْلِيقُ تَرْكِ الْإِجَابَةِ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عِنْدَهُ مُنْتَظِمًا مُسْتَقِيمًا فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا هُوَ فِي مَقْدُورِهِ مِنَ الْأَلْطَافِ وَالْحِكْمَةِ.
الْحُكْمُ الثَّانِي:
أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ لَوْ كَانَ لِإِظْهَارِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ أَثَرٌ فِي حَمْلِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَعَلَى قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ عِنْدَهُمُ الْإِيمَانَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا خَلَقَهُ حَصَلَ وَإِذَا لَمْ يخلقه لم يحصل فلم يكن لفعل الألطاف اثر في حمل المكلف على الطاعات.
وأقول هذا الذي قاله القاضي غير لازم. اما الاول: فلان القوم قالوا: لو جئتنا يا محمد بآية لآمنا بك فهذا الكلام في الحقيقة مشتمل على مقدمتين: إحداهما: انك لو جئتنا بهذه المعجزات لآمنا بك. والثانية: انه متى كان الأمر كذلك وجب عليك ان تأتينا بها والله تعالى كذبهم في المقام الاول وبين انه تعالى وان أظهرها لهم فهم لا يؤمنون ولم يتعرض البتة للمقام الثاني وَلَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ بَاقٍ.
فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عِنْدَ إِظْهَارِ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ فَلِمَ لَمْ يَجِبْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِظْهَارُهَا؟ اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ قَبْلَ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ اللُّطْفَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ هَذَا الْمَطْلُوبُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ جَعَلَ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ اللُّطْفِ فَثَبَتَ أَنَّ كَلَامَهُ ضَعِيفٌ.
وَأَمَّا الْبَحْثُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذَا كَانَ الْكُلُّ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْأَلْطَافِ أَثَرٌ فِيهِ فَنَقُولُ: الَّذِي نَقُولُ بِهِ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْفِعْلِ هُوَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي وَالْعِلْمُ بِحُصُولِ هَذَا اللُّطْفِ أَحَدُ أَجْزَاءِ الدَّاعِي وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. فَيَكُونُ لهذا اللطف اثر في حصول الفعل.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٠]
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)
هَذَا أَيْضًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَالتَّقَلُّبَ وَالْقَلْبَ وَاحِدٌ وَهُوَ تَحْوِيلُ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ وَمَعْنَى تَقْلِيبِ الْأَفْئِدَةِ وَالْأَبْصَارِ: هُوَ أَنَّهُ إِذَا جَاءَتْهُمُ الْآيَاتُ الْقَاهِرَةُ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا وَعَرَفُوا كَيْفِيَّةَ دَلَالَتِهَا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا قَلَّبَ قُلُوبَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ بقوا
114
عَلَى الْكُفْرِ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِتِلْكَ الْآيَاتِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَقْرِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ الْقَاهِرَةِ لَوْ جَاءَتْهُمْ لَمَا آمَنُوا بِهَا وَلَمَا انْتَفَعُوا بِظُهُورِهَا الْبَتَّةَ.
أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: الْمُرَادُ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فِي جَهَنَّمَ عَلَى لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يأمنوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي دَارِ الدُّنْيَا.
وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ بِأَنَّا لَا نَفْعَلُ بِهِمْ مَا نَفْعَلُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْأَلْطَافِ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ هَذَا الْحَدِّ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ.
وَأَجَابَ الْقَاضِي: بِأَنَّ الْمُرَادَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَدْ ظَهَرَتْ فَلَا تَجِدُهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهَا آخِرًا كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا أَوَّلًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعِيبَنَا فَيَقُولَ: إِنَّكُمْ تُكَرِّرُونَ هَذِهِ الْوُجُوهَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَإِنَّا نَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةَ لَهُمْ وُجُوهٌ مَعْدُودَةٌ فِي تَأْوِيلَاتِ آيَاتِ الْجَزَاءِ فَهُمْ يُكَرِّرُونَهَا فِي كُلِّ آيَةٍ فَنَحْنُ أَيْضًا نُكَرِّرُ الْجَوَابَ عَنْهَا فِي كُلِّ آيَةٍ فَنَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقُدْرَةَ الْأَصْلِيَّةَ صَالِحَةٌ لِلضِّدَّيْنِ وَلِلطَّرَفَيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ. فَإِذَا لَمْ يَنْضَمَّ عَلَى تِلْكَ الْقُدْرَةِ دَاعِيَةٌ مُرَجِّحَةٌ امْتَنَعَ حُصُولُ الرُّجْحَانِ فَإِذَا انْضَمَّتِ الدَّاعِيَةُ الْمُرَجِّحَةُ إِمَّا إِلَى جَانِبِ الْفِعْلِ أَوْ إِلَى جَانِبِ التَّرْكِ ظَهَرَ الرُّجْحَانُ وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ لَيْسَتْ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ. وَقَدْ ظَهَرَ صِحَّةُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ الْيَقِينِيَّةِ الَّتِي لَا يَشُكُّ فِيهَا الْعَاقِلُ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يَشَاءُ»
فَالْقَلْبُ كَالْمَوْقُوفِ بَيْنَ دَاعِيَةِ الْفِعْلِ وَبَيْنَ دَاعِيَةِ التَّرْكِ فَإِنْ حَصَلَ فِي الْقَلْبِ دَاعِي الْفِعْلِ تَرَجَّحَ جَانِبُ الْفِعْلِ وَإِنْ حَصَلَ فِيهِ دَاعِي التَّرْكِ تَرَجَّحَ جَانِبُ التَّرْكِ وَهَاتَانِ الدَّاعِيَتَانِ لَمَّا كَانَتَا لَا تَحْصُلَانِ إِلَّا بِإِيجَادِ اللَّهِ وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ عَبَّرَ عَنْهُمَا بِأُصْبُعَيِ الرَّحْمَنِ وَالسَّبَبُ فِي حُسْنِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَحْصُلُ بَيْنَ أُصْبُعَيِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ كَامِلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.
فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ وان شاء اسقطه فههنا أَيْضًا كَذَلِكَ الْقَلْبُ وَاقِفٌ بَيْنَ هَاتَيْنِ الدَّاعِيَتَيْنِ وَهَاتَانِ الدَّاعِيَتَانِ حَاصِلَتَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقَلْبُ مُسَخَّرٌ لِهَاتَيْنِ الدَّاعِيَتَيْنِ فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ
وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»
وَالْمُرَادُ مِنْ
قَوْلِهِ- مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ-
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَلِّبُهُ تَارَةً مِنْ دَاعِي الْخَيْرِ إِلَى دَاعِي الشَّرِّ وَبِالْعَكْسِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الظَّاهِرِ الْجَلِيِّ الَّذِي يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ كُلُّ طَبْعٍ سَلِيمٍ وَعَقْلٍ مُسْتَقِيمٍ فَلَا حَاجَةَ الْبَتَّةَ إِلَى مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْمُسْتَكْرَهَةِ.
وَإِنَّمَا قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ تَقْلِيبِ الْأَفْئِدَةِ عَلَى تَقْلِيبِ الْأَبْصَارِ لِأَنَّ مَوْضِعَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ هُوَ الْقَلْبُ. فَإِذَا حَصَلَتِ الدَّاعِيَةُ فِي الْقَلْبِ انْصَرَفَ الْبَصَرُ إِلَيْهِ شَاءَ أَمْ أَبَى وَإِذَا حَصَلَتِ الصَّوَارِفُ فِي الْقَلْبِ انْصَرَفَ/ الْبَصَرُ عَنْهُ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ يُبْصِرُهُ فِي الظَّاهِرِ. إِلَّا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ ذَلِكَ الْإِبْصَارُ سَبَبًا لِلْوُقُوفِ عَلَى الْفَوَائِدِ الْمَطْلُوبَةِ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً فَلَمَّا كَانَ الْمَعْدِنُ هُوَ الْقَلْبَ وَأَمَّا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ فَهُمَا آلَتَانِ لِلْقَلْبِ كَانَا لَا مَحَالَةَ تَابِعَيْنِ لِأَحْوَالِ الْقَلْبِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ تَقْلِيبِ الْبَصَرِ وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وقع
115
الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ تَحْصِيلِ الْكِنَانِ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ السَّمْعِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْقَوِيُّ الْعَقْلِيُّ الْبُرْهَانِيُّ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ مَعَ ذَلِكَ حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى التَّكَلُّفَاتِ الَّتِي ذَكَرُوهَا؟ وَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا يَلِيقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ الضَّعِيفَةِ فَنَقُولُ: أَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ فَمَدْفُوعٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَنَذَرُهُمْ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا، فَلَوْ قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ، كَانَ هَذَا سوأ لِلنَّظْمِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَدَّمَ الْمُؤَخَّرَ وَأَخَّرَ الْمُقَدَّمَ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْكَعْبِيُّ فَضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْحِرْمَانَ مِنْ تِلْكَ الْأَلْطَافِ وَالْفَوَائِدِ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ الْحِرْمَانِ وَالْخُذْلَانِ فَكَيْفَ تَحْسُنُ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فَبَعِيدٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ تَقْلِيبُ الْقَلْبِ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ وَنَقْلُهُ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ. وَعَلَى مَا يَقُولُهُ الْقَاضِي فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلِ الْقَلْبُ بَاقٍ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَدْخَلَ التَّقْلِيبَ وَالتَّبْدِيلَ فِي الدَّلَائِلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَاسِدَةٌ بَاطِلَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِيهِ وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: دَخَلَتِ الْكَافُ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِظُهُورِ الْآيَاتِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَتْهُمُ الْآيَاتُ مِثْلَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَالتَّقْدِيرُ فَلَا يُؤْمِنُونَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ ظُهُورِ الْآيَاتِ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فِي بِهِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ أَوْ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ إِلَى مَا طَلَبُوا مِنَ الْآيَاتِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى تَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، يَعْنِي كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَكَذَلِكَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَلَا حَاجَةَ فِيهَا إِلَى الْإِضْمَارِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فَالْجُبَّائِيُّ قَالَ: وَنَذَرُهُمْ أَيْ لَا نَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اخْتِيَارِهِمْ وَلَا نَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِمُعَاجَلَةِ الْهَلَاكِ وَغَيْرِهِ، لَكِنَّا نُمْهِلُهُمْ فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى طُغْيَانِهِمْ فَذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِمْ، وَهُوَ يُوجِبُ تَأْكِيدَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: مَعْنَاهُ إِنَّا نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَنَتْرُكُهُمْ فِي ذَلِكَ الطُّغْيَانِ وَفِي ذَلِكَ الضَّلَالِ وَالْعَمَهِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لِلْجُبَّائِيِّ: إِنَّكَ تَقُولُ إِنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ مَا أَرَادَ بِعَبِيدِهِ إِلَّا الْخَيْرَ وَالرَّحْمَةَ، فَلِمَ تَرَكَ هَذَا الْمِسْكِينَ حَتَّى عَمِهَ فِي طُغْيَانِهِ؟ وَلِمَ لَا يُخَلِّصُهُ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ وَالْقَهْرِ؟ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ فَيَفُوتُهُ الِاسْتِحْقَاقُ فَقَطْ، وَلَكِنْ يَسْلَمُ مِنَ الْعِقَابِ، أَمَّا إِذَا تَرَكَهُ فِي ذَلِكَ الْعَمَهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ. وَيَحْصُلُ لَهُ الْعِقَابُ الْعَظِيمُ الدَّائِمُ، فَالْمَفْسَدَةُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ خَلْقِ الْإِيمَانِ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ مَفْسَدَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ فَوْتُ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ، أَمَّا الْمَفْسَدَةُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ إِبْقَائِهِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَهِ وَالطُّغْيَانِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهِ فَهِيَ فَوْتُ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ الشَّدِيدِ،
116
وَالرَّحِيمُ الْمُحْسِنُ النَّاظِرُ لِعِبَادِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُرَجِّحَ الْجَانِبَ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ صَلَاحًا وَأَقَلُّ فَسَادًا، فَعَلِمْنَا أَنَّ إِبْقَاءَ ذَلِكَ الْكَافِرِ فِي ذَلِكَ الْعَمَهِ وَالطُّغْيَانِ يَقْدَحُ فِي أَنَّهُ لَا يريد به إلا الخير والإحسان.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١١]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفْصِيلَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ بِقَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَعْطَاهُمْ مَا طَلَبُوهُ مِنْ إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى حَتَّى كَلَّمُوهُمْ بَلْ لَوْ زَادَ فِي ذَلِكَ مَا لَا يَبْلُغُهُ اقْتِرَاحُهُمْ بِأَنْ يَحْشُرَ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُسْتَهْزِئُونَ بِالْقُرْآنِ كَانُوا خَمْسَةً: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَسْوَدُ بْنُ المطلب والحرث بْنُ حَنْظَلَةَ ثُمَّ إِنَّهُمْ أَتَوُا الرَّسُولَ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالُوا لَهُ أَرِنَا الْمَلَائِكَةَ/ يَشْهَدُوا بِأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ أَوِ ابْعَثْ لَنَا بَعْضَ مَوْتَانَا حَتَّى نَسْأَلَهُمْ أَحَقٌّ مَا تَقُولُهُ أَمْ بَاطِلٌ؟ أَوِ ائْتِنَا بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَيْ كَفِيلًا عَلَى مَا تَدَّعِيهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّهُمْ لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَاقِعَةِ الْفُلَانِيَّةِ مُشْكِلًا صَعْبًا فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ جَوَابُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَوْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَآمَنُوا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكَلَامَ بَيَانًا لِكَذِبِهِمْ وَأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِنْزَالِ الْآيَاتِ بَعْدَ الْآيَاتِ وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ بَعْدَ الْمُعْجِزَاتِ بَلِ الْمُعْجِزَةُ الْوَاحِدَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا لِيَتَمَيَّزَ الصَّادِقُ عَنِ الْكَاذِبِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا فَتَحَكُّمٌ مَحْضٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَإِلَّا فَلَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ الثَّانِيَةِ ثَالِثَةً وَبَعْدَ الثَّالِثَةِ رَابِعَةً وَيَلْزَمُ أَنْ لَا تَسْتَقِرَّ الْحُجَّةُ وَأَنْ لَا يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إِلَى مَقْطَعٍ وَمَفْصِلٍ وَذَلِكَ يُوجِبُ سَدَّ بَابِ النُّبُوَّاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: قِبَلًا هَاهُنَا وَفِي الْكَهْفِ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالضَّمِّ فِيهِمَا فِي السُّورَتَيْنِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو هَاهُنَا وَفِي الْكَهْفِ بِالْكَسْرِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ لَقِيتُ فُلَانًا قِبَلَا وَمُقَابَلَةً وَقُبُلًا وَقِبِلًا وَقَبِيلًا كُلُّهُ وَاحِدٌ. وَهُوَ الْمُوَاجَهَةُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي زَيْدٍ الْمَعْنَى فِي الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَ اللَّفْظَانِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَثْبَتَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَفَاوُتًا فِي الْمَعْنَى فَقَالَ أَمَّا مَنْ قَرَأَ قِبَلًا بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ عِيَانًا يُقَالُ لَقِيتُهُ قِبَلًا أَيْ مُعَايَنَةً
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قلت للنبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَكَانَ آدَمُ نَبِيًّا؟ قَالَ «نَعَمْ كَانَ نَبِيًّا كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قِبَلًا»
وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ قُبُلًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ قَبِيلٍ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْكَفِيلُ يُقَالُ قَبِلْتُ بِالرَّجُلِ أُقْبِلُ قُبَالَةً أَيْ كُلِّفْتُ بِهِ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى لَوْ حَشَرَ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ وَكُفِلُوا بِصِحَّةِ مَا يَقُولُ لَمَا آمَنُوا وَمَوْضِعُ الْإِعْجَازِ فِيهِ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَحْشُورَةَ مِنْهَا مَا يَنْطِقُ وَمِنْهَا مَا لَا يَنْطِقُ فَإِذَا أَنْطَقَ اللَّهُ الْكُلَّ وَأَطْبَقُوا عَلَى قَبُولِ هَذِهِ الْكَفَالَةِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ وَثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ قُبُلًا جَمْعَ قُبَيْلٍ بِمَعْنَى الصِّنْفِ وَالْمَعْنَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبَيْلًا قُبَيْلًا وَمَوْضِعُ الْإِعْجَازِ فِيهِ هُوَ حَشْرُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا ثُمَّ إِنَّهَا عَلَى اخْتِلَافِ طَبَائِعِهَا تَكُونُ مُجْتَمِعَةً فِي مَوْقِفٍ وَاحِدٍ. وَثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ قُبُلًا بِمَعْنَى قِبَلًا أَيْ مُوَاجَهَةً وَمُعَايَنَةً كَمَا فَسَّرَهُ ابو زيد.
117
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَظْهَرَ جَمِيعَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْعَجِيبَةِ الْغَرِيبَةِ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِيمَانَهُمْ. قَالَ أَصْحَابُنَا فَلَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا دَلَّ ذَلِكَ الدَّلِيلُ عَلَى/ أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَالْجُبَّائِيُّ ذَكَرَ الْوُجُوهَ الْمَشْهُورَةَ الَّتِي لَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. أَوَّلُهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يُرِدْ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ كَمَا لَوْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ. وَثَانِيهَا لَوْ أَرَادَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ لَكَانَ الْكَافِرُ مُطِيعًا لِلَّهِ بِفِعْلِ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلطَّاعَةِ إِلَّا بِفِعْلِ الْمُرَادِ وَثَالِثُهَا لَوْ جَازَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُرِيدَ الْكُفْرَ لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ وَرَابِعُهَا لَوْ جَازَ أَنْ يُرِيدَ مِنْهُمُ الْكُفْرَ لَجَازَ أَنَّهُ يَأْمُرُنَا بِأَنْ نُرِيدَ مِنْهُمُ الْكُفْرَ. قَالُوا فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ إِلَّا الْإِيمَانَ مِنْهُمْ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ الْإِيمَانَ مِنْهُمْ وَالتَّنَاقُضُ بَيْنَ الدَّلَائِلِ مُمْتَنِعٌ فَوَجَبَ التَّوْفِيقُ وَطَرِيقُهُ أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ تَعَالَى شَاءَ مِنَ الْكُلِّ الْإِيمَانَ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ وَأَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ الْحَاصِلَ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ وَالْقَهْرِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ زَالَ الْإِشْكَالُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أَيْضًا ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي سَمَّوْهُ بِالْإِيمَانِ الِاخْتِيَارِيِّ إِنْ عَنَوْا بِهِ أَنَّ قُدْرَتَهُ صَالِحَةٌ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ عَلَى السَّوِيَّةِ ثُمَّ إِنَّهُ يَصْدُرُ عَنْهَا الْإِيمَانُ دُونَ الْكُفْرِ لَا لِدَاعِيَةٍ مُرَجِّحَةٍ وَلَا لِإِرَادَةٍ مُمَيِّزَةٍ فَهَذَا قَوْلٌ بِرُجْحَانِ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ وَهُوَ مُحَالٌ وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْقُولًا فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الْإِيمَانِ لَا يَكُونُ مِنْهُ بَلْ يَكُونُ حَادِثًا لَا لِسَبَبٍ وَلَا مُؤَثِّرَ أَصْلًا لِأَنَّ الْحَاصِلَ هُنَاكَ لَيْسَ إِلَّا الْقُدْرَةَ وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الضِّدَّيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ تَخْصِيصٌ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِالْوُقُوعِ وَالرُّجْحَانِ ثُمَّ إِنَّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ قَدْ حَصَلَ بِنَفْسِهِ فَهَذَا لَا يَكُونُ صَادِرًا مِنْهُ بَلْ يَكُونُ صَادِرًا لَا عَنْ سَبَبٍ الْبَتَّةَ وَذَلِكَ يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ وَالتَّأْثِيرِ وَالْمُؤَثِّرِ أَصْلًا وَلَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي سَمَّوْهُ بِالْإِيمَانِ الِاخْتِيَارِيِّ هُوَ أَنَّ قُدْرَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلضِّدَّيْنِ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَصِيرُ مَصْدَرًا لِلْإِيمَانِ إِلَّا إِذَا انْضَمَّ إِلَى تِلْكَ الْقُدْرَةِ حُصُولُ دَاعِيَةِ الْإِيمَانِ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِأَنَّ مَصْدَرَ الْإِيمَانِ هُوَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي وَذَلِكَ الْمَجْمُوعُ مُوجِبٌ لِلْإِيمَانِ فَذَلِكَ هُوَ عَيْنُ مَا يُسَمُّونَهُ بِالْجَبْرِ وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَهُ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الَّذِي سَمَّوْهُ بِالْإِيمَانِ الِاخْتِيَارِيِّ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ مَعْنًى مَعْقُولٌ مَفْهُومٌ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِيمَانَ الِاخْتِيَارِيَّ مُمَيَّزٌ عَنِ الْإِيمَانِ الْحَاصِلِ بِتَكْوِينِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّا نَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَذَا وَكَذَا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا مَعْنَاهُ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِيمَانًا اخْتِيَارِيًّا بِدَلِيلِ أَنَّ عِنْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُؤْمِنُوا إِيمَانًا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ وَالْقَهْرِ فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا الْمُرَادُ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ ثُمَّ اسْتَثْنَى/ عَنْهُ فَقَالَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَالْمُسْتَثْنَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى عَنْهُ وَالْإِيمَانُ الْحَاصِلُ بِالْإِلْجَاءِ وَالْقَهْرِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْإِيمَانِ الِاخْتِيَارِيِّ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ الْإِيمَانُ الِاضْطِرَارِيُّ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِيمَانَ الِاخْتِيَارِيَّ وَحِينَئِذٍ يَتَوَجَّهُ دَلِيلُ أَصْحَابِنَا وَيَسْقُطُ عَنْهُ سُؤَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِالْكُلِّيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ الْجُبَّائِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ قَدِيمَةً لَمْ يُجِزْ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ كَمَا لَا يُقَالُ لَا يَذْهَبُ زَيْدٌ إِلَى الْبَصْرَةِ إِلَّا أَنْ يُوَحِّدَ اللَّهَ تَعَالَى وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا
118
إِذَا قُلْنَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فَهَذَا يَقْتَضِي تَعْلِيقَ حُدُوثِ هَذَا الْجَزَاءِ عَلَى حُصُولِ الْمَشِيئَةِ فَلَوْ كَانَتِ الْمَشِيئَةُ قَدِيمَةً لَكَانَ الشَّرْطُ قَدِيمًا وَيَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الشَّرْطِ حُصُولُ الْمَشْرُوطِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْجَزَاءِ قَدِيمًا.
وَالْحِسُّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ فَوَجَبَ كَوْنُ الشَّرْطِ حَادِثًا وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ هُوَ الْمَشِيئَةَ لَزِمَ الْقَوْلُ بِكَوْنِ الْمَشِيئَةِ حَادِثَةً. هَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَشِيئَةَ وَإِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً إِلَّا أَنَّ تَعَلُّقَهَا بِإِحْدَاثِ ذَلِكَ الْمُحْدَثِ فِي الْحَالِ إِضَافَةٌ حَادِثَةٌ وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِصِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ قَالَ أَصْحَابُنَا الْمُرَادُ يَجْهَلُونَ بِأَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ وَبِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ كُفَّارًا عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ الَّتِي طَلَبُوهَا وَالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يَظُنُّونَ ذلك.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٢]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢)
[قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ وَكَذلِكَ مَنْسُوقٌ عَلَى شَيْءٍ وَفِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الشَّيْءِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ مَنْسُوقٌ عَلَى قَوْلِهِ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام ١٠٨] اي كما فعلنا ذلك كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا الثَّانِي مَعْنَاهُ جَعَلْنَا لَكَ عَدُوًّا كَمَا جَعَلْنَا لِمَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ كَذلِكَ عَطْفًا/ عَلَى مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لَهُ أَعْدَاءً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي جَعَلَ أُولَئِكَ الْأَعْدَاءَ أَعْدَاءً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْعَدَاوَةَ مَعْصِيَةٌ وَكُفْرٌ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ خَالِقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْجَعْلِ الْحُكْمُ وَالْبَيَانُ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا حَكَمَ بِكُفْرِ إِنْسَانٍ قِيلَ إِنَّهُ كَفَّرَهُ وَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ عَدَالَتِهِ قِيلَ إِنَّهُ عَدَّلَهُ فَكَذَا هَاهُنَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَوْنَهُمْ أَعْدَاءً لَهُ لَا جَرَمَ قَالَ إِنَّهُ جَعَلَهُمْ أَعْدَاءً لَهُ وَأَجَابَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ إِلَى الْعَالَمِينَ وَخَصَّهُ بِتِلْكَ الْمُعْجِزَةِ حَسَدُوهُ وَصَارَ ذَلِكَ الْحَسَدُ سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ الْقَوِيَّةِ فَلِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ أَعْدَاءً لَهُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْمُتَنَبِّي
فَأَنْتَ الَّذِي صَيَّرْتَهُمْ لِي حُسَّدًا
وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الأنبياء بعداوتهم وَأَعْلَمَهُمْ كَوْنَهُمْ أَعْدَاءً لَهُمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي صَيْرُورَتَهُمْ أَعْدَاءً لِلْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَلِهَذَا الْوَجْهِ جَازَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ أَعْدَاءً لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ ضَعِيفَةٌ جِدًّا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَفْعَالَ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الدَّوَاعِي وَهِيَ حَادِثَةٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ مَذْهَبُنَا.
ثُمَّ هَاهُنَا بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ وَالصَّدَاقَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَحْصُلَ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَبْلُغُ فِي عَدَاوَةِ غَيْرِهِ إِلَى حَيْثُ لَا يَقْدِرُ الْبَتَّةَ عَلَى إِزَالَةِ تِلْكَ الْحَالَةِ عَنْ قَلْبِهِ بَلْ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِخْفَاءِ آثَارِ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ
119
وَلَوْ أَتَى بِكُلِّ تَكَلُّفٍ وَحِيلَةٍ لَعَجِزَ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ حُصُولُ الْعَدَاوَةِ وَالصَّدَاقَةِ فِي الْقَلْبِ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَلْبِ الْعَدَاوَةِ بِالصَّدَاقَةِ وَبِالضِّدِّ وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَالشُّعَرَاءُ عَرَفُوا أَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنِ الْوُسْعِ؟ قَالَ الْمُتَنَبِّي
يُرَادُ مِنَ الْقَلْبِ نِسْيَانُكُمْ وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ
وَالْعَاشِقُ الَّذِي يَشْتَدُّ عِشْقُهُ قَدْ يَحْتَالُ بِجَمِيعِ الْحِيَلِ فِي إِزَالَةِ عِشْقِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ حُصُولُ ذَلِكَ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ بِاخْتِيَارِهِ لَمَا عَجَزَ عَنْ إِزَالَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ النَّصْبُ فِي قَوْلِهِ شَياطِينَ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ عَدُوًّا وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَدُوًّا مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ وَالتَّقْدِيرُ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أَعْدَاءَ الْأَنْبِيَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَلَى قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمَعْنَى مَرَدَةُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالشَّيْطَانُ كُلُّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا إِنَّ مِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينَ وَمِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مِنَ الْجِنِّ إِذَا أَعْيَاهُ الْمُؤْمِنُ ذَهَبَ إِلَى مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْإِنْسِ وَهُوَ شَيْطَانُ الْإِنْسِ فَأَغْرَاهُ بِالْمُؤْمِنِ لِيَفْتِنَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: «هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؟» قَالَ قُلْتُ وَهَلْ لِلْإِنْسِ مِنْ شَيَاطِينَ؟ قَالَ «نَعَمْ هُمْ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ».
وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ وَلَدِ إِبْلِيسَ إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ وَلَدَهُ قِسْمَيْنِ فَأَرْسَلَ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ إِلَى وَسْوَسَةِ الْإِنْسِ. وَالْقِسْمَ الثَّانِي إِلَى وَسْوَسَةِ الْجِنِّ فَالْفَرِيقَانِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ الشِّكَايَةُ مِنْ سَفَاهَةِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ هُمُ الْأَعْدَاءُ وَهُمُ الشَّيَاطِينُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْقَوْلُ الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يَقْتَضِي إِضَافَةَ الشَّيَاطِينِ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْإِضَافَةُ تَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالشَّيَاطِينُ نَوْعٌ مُغَايِرٌ لِلْجِنِّ وَهُمْ أَوْلَادُ إِبْلِيسَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ قَوْلُهُ عَدُوًّا بِمَعْنَى أَعْدَاءً وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ
إِذَا أَنَا لَمْ أَنْفَعْ صَدِيقِي بِوِدِّهِ فَإِنَّ عَدُوِّي لَنْ يَضُرُّهُمُو بُغْضِي
أَرَادَ أَعْدَائِي فَأَدَّى الْوَاحِدَ عَنِ الْجَمْعِ وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذريات ٢٤] جَعَلَ الْمُكْرَمِينَ وَهُوَ جَمْعٌ نَعْتًا لِلضَّيْفِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَثَانِيهَا قَوْلُهُ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ [ق ١٠] وَثَالِثُهَا قَوْلُهُ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النُّورِ ٣١] وَرَابِعُهَا قَوْلُهُ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الْعَصْرِ ٢] وَخَامِسُهَا قَوْلُهُ كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [آلِ عِمْرَانَ ٩٣] أَكَّدَ الْمُفْرِدَ بِمَا يُؤَكَّدُ الْجَمْعُ بِهِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّكَلُّفِ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَدُوًّا وَاحِدًا إذا لَا يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَكْثَرُ مِنْ عَدُوٍّ وَاحِدٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فَالْمُرَادُ أَنَّ أُولَئِكَ الشَّيَاطِينَ يُوَسْوِسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
120
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ تَصْدُرُ عَنْ إِنْسَانٍ فَإِنَّهَا تَكُونُ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ شَيْطَانٍ وَإِلَّا لَزِمَ دُخُولُ التَّسَلْسُلِ أَوِ الدَّوْرِ فِي هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينِ فَوَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِانْتِهَاءِ هَذِهِ الْقَبَائِحِ وَالْمَعَاصِي إِلَى قَبِيحٍ أَوَّلَ وَمَعْصِيَةٍ سَابِقَةٍ حَصَلَتْ لَا بِوَسْوَسَةِ شَيْطَانٍ آخَرَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ إِنَّ أُولَئِكَ الشَّيَاطِينَ كَمَا أَنَّهُمْ يُلْقُونَ الْوَسَاوِسَ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَقَدْ يُوَسْوِسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلِلنَّاسِ فِيهِ مَذَاهِبُ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْأَرْوَاحُ إِمَّا فَلَكِيَّةٌ وَإِمَّا أَرْضِيَّةٌ وَالْأَرْوَاحُ الْأَرْضِيَّةُ مِنْهَا طَيِّبَةٌ طَاهِرَةٌ خَيِّرَةٌ آمِرَةٌ بِالطَّاعَةِ وَالْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْأَرْضِيَّةُ وَمِنْهَا خَبِيثَةٌ قَذِرَةٌ شِرِّيرَةٌ آمِرَةٌ بِالْقَبَائِحِ وَالْمَعَاصِي وَهُمُ الشَّيَاطِينُ. ثُمَّ إِنَّ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ الطَّيِّبَةَ كَمَا أَنَّهَا تَأْمُرُ النَّاسَ بِالطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ فَكَذَلِكَ قَدْ يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالطَّاعَاتِ وَالْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ كَمَا أَنَّهَا تَأْمُرُ النَّاسَ بِالْقَبَائِحِ وَالْمُنْكَرَاتِ فَكَذَلِكَ قَدْ يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِتِلْكَ الْقَبَائِحِ وَالزِّيَادَةِ فِيهَا وَمَا لَمْ يَحْصُلْ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الِانْضِمَامُ فَالنُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ إِذَا كَانَتْ طَاهِرَةً نَقِيَّةً عَنِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَرْوَاحِ الطَّاهِرَةِ فَتَنْضَمُّ إِلَيْهَا وَإِذَا كَانَتْ خَبِيثَةً مَوْصُوفَةً بِالصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ فَتَنْضَمُّ إِلَيْهَا. ثُمَّ إِنَّ صِفَاتِ الطَّهَارَةِ كَثِيرَةٌ وَصِفَاتِ الْخُبْثِ وَالنُّقْصَانِ كَثِيرَةٌ وَبِحَسَبِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا طَوَائِفُ مِنَ الْبَشَرِ وَطَوَائِفُ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْأَرْضِيَّةِ بِحَسَبِ تِلْكَ الْمُجَانَسَةِ وَالْمُشَابَهَةِ وَالْمُشَاكَلَةِ يَنْضَمُّ الْجِنْسُ إِلَى جِنْسِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَفْعَالِ الْخَيْرِ كَانَ الْحَامِلُ عَلَيْهَا مَلَكًا وَكَانَ تَقْوِيَةُ ذَلِكَ الْخَاطِرِ إِلْهَامًا وَإِنْ كَانَ فِي بَابِ الشَّرِّ كَانَ الْحَامِلُ عَلَيْهَا شَيْطَانًا وَكَانَ تَقْوِيَةُ ذَلِكَ الْخَاطِرِ وَسْوَسَةً.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فَيَجِبُ عَلَيْنَا تَفْسِيرُ أَلْفَاظٍ ثَلَاثَةٍ الْأَوَّلُ الْوَحْيُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيمَاءِ وَالْقَوْلِ السَّرِيعِ.
وَالثَّانِي الزُّخْرُفُ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ بَاطِنُهُ بَاطِلًا وَظَاهِرُهُ مُزَيَّنًا ظَاهِرًا يُقَالُ فُلَانٌ يُزَخْرِفُ كَلَامَهُ إِذَا زَيَّنَهُ بِالْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ وَكُلُّ شَيْءٍ حَسَنٍ مُمَوَّهٍ فَهُوَ مُزَخْرَفٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ كَوْنَهُ مُشْتَمِلًا عَلَى خَيْرٍ رَاجِحٍ وَنَفْعٍ زَائِدٍ فَإِنَّهُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ مُخْتَارًا لِكَوْنِهِ طَالِبًا لِلْخَيْرِ وَالنَّفْعِ ثُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا الِاعْتِقَادُ مُطَابِقًا لِلْمُعْتَقَدِ فَهُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ وَالْإِلْهَامُ وَإِنْ كَانَ صَادِرًا مِنَ الْمَلَكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقَدًا مُطَابِقًا لِلْمُعْتَقَدِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ظَاهِرُهُ مُزَيَّنًا لِأَنَّهُ فِي اعْتِقَادِهِ سَبَبٌ لِلنَّفْعِ الزَّائِدِ وَالصَّلَاحِ الرَّاجِحِ وَيَكُونُ بَاطِنُهُ فَاسِدًا بَاطِلًا لِأَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمُعْتَقَدِ فَكَانَ مُزَخْرَفًا فَهَذَا تَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ. وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ غُرُوراً قَالَ الْوَاحِدِيُّ غُرُوراً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ وَهَذَا الْمَصْدَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى لِأَنَّ مَعْنَى إِيحَاءِ الزُّخْرُفِ مِنَ الْقَوْلِ مَعْنَى الْغُرُورِ فَكَأَنَّهُ قَالَ/ يَغُرُّونَ غُرُورًا وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْمَغْرُورَ هُوَ الَّذِي يَعْتَقِدُ فِي الشَّيْءِ كَوْنَهُ مُطَابِقًا لِلْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ مَعَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَالْغُرُورُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ عَيْنِ هَذَا الْجَهْلِ أَوْ عَنْ حَالَةٍ مُتَوَلِّدَةٍ عَنْ هَذَا الْجَهْلِ فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَأْثِيرَ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ أَكْمَلَ وَلَا أَقْوَى دَلَالَةً عَلَى تَمَامِ الْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِهِ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ وَأَصْحَابُنَا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ.
121
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ يُرِيدُ مَا زَيَّنَ لَهُمْ إِبْلِيسُ وَغَرَّهُمْ بِهِ قَالَ الْقَاضِيَ هَذَا الْقَوْلُ يَتَضَمَّنُ التَّحْذِيرَ الشَّدِيدَ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّرْغِيبَ الْكَامِلَ فِي الْإِيمَانِ وَيَقْتَضِي زَوَالَ الْغَمِّ عَنْ قَلْبِ الرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ يَتَصَوَّرُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْقَوْمِ عَلَى كُفْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَمَا أَعَدَّ لَهُ مِنْ مَنَازِلِ الثَّوَابِ بِسَبَبِ صَبْرِهِ على سفاهتهم ولطفه بهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٣]
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اعْلَمْ أَنَّ الصَّغْوَ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ الْمَيْلُ. يُقَالُ فِي الْمُسْتَمِعِ إِذَا مَالَ بِحَاسَّتِهِ إِلَى نَاحِيَةِ الصَّوْتِ أَنَّهُ يُصْغِي وَيُقَالُ أَصْغَى الْإِنَاءَ إِذَا أَمَالَهُ حَتَّى انْصَبَّ بَعْضُهُ فِي الْبَعْضِ وَيُقَالُ لِلْقَمَرِ إِذَا مَالَ إِلَى الْغُرُوبِ صَغَا وَأَصْغَى. فَقَوْلُهُ وَلِتَصْغى أَيْ وَلِتَمِيلَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ «اللَّامُ» فِي قَوْلِهِ وَلِتَصْغى لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ. فَقَالَ أَصْحَابُنَا التَّقْدِيرُ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَمِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَإِنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ لِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ وَإِنَّمَا أَوْجَدْنَا الْعَدَاوَةَ فِي قَلْبِ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ مِنْ صِفَتِهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ لِيَكُونَ كَلَامُهُمُ الْمُزَخْرَفُ مَقْبُولًا عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ قَالُوا وَإِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُظْهِرُ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ قَالَ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الزَّجْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ [الْإِسْرَاءِ ٦٤] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا [الانعام ١١٣] وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قَالَ لِلرَّسُولِ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَتُهُمْ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْكَعْبِيُّ أَنَّ هذه اللام لام العاقبة اي ستئول عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ إِلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ. قَالَ الْقَاضِي وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْعَاقِبَةُ تَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ حَاصِلٌ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَمِيلَ قُلُوبُ الْكُفَّارِ إِلَى قَبُولِ الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ وَلَا أَنْ يَرْضَوْهُ وَلَا أَنْ يَقْتَرِفُوا الذَّنْبَ بَلْ يَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى ان عاقبة أمرهم تؤل إِلَى أَنْ يَقْبَلُوا الْأَبَاطِيلَ وَيَرْضَوْا بِهَا وَيَعْمَلُوا بِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. قَالَ «اللَّامُ» فِي قَوْلِهِ وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الانعام ١١٢] وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُوحِي إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ لِيُغْرَوْا بِذَلِكَ وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا الذُّنُوبَ وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّيَاطِينِ مِنْ ذَلِكَ الْإِيحَاءِ هُوَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْمَعَانِي. فَهَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرُوهُ فِي هَذَا الْبَابِ.
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْجُبَّائِيُّ فَضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ ذَكَرَهَا الْقَاضِي. فَأَحَدُهَا أَنَّ «الْوَاوَ» فِي قَوْلِهِ وَلِتَصْغى تَقْتَضِي تَعَلُّقَهُ بِمَا قَبْلَهُ فَحَمْلُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِعِيدٌ. وَثَانِيهَا أَنَّ «اللَّامَ» فِي قَوْلِهِ وَلِتَصْغى لَامُ كَيْ فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا لَامُ الْأَمْرِ وَيَقْرُبُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيفًا لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا يجوز.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ اللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ فَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذَا مَجَازٌ وَحَمْلُهُ عَلَى «كَيْ» حَقِيقَةٌ فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ فَهُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ لِأَنَّا نَقُولُ إِنَّ قَوْلَهُ: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ الْإِيحَاءِ هُوَ التَّغْرِيرَ وَإِذَا عَطَفْنَا عَلَيْهِ قوله: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فَهَذَا أَيْضًا عَيْنُ التَّغْرِيرِ لَا مَعْنَى التَّغْرِيرِ إِلَّا أَنَّهُ يَسْتَمِيلُهُ إِلَى مَا يَكُونُ بَاطِنُهُ قَبِيحًا وَظَاهِرُهُ حَسَنًا وَقَوْلُهُ: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ عَيْنُ هَذِهِ الِاسْتِمَالَةِ فَلَوْ عَطَفْنَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ عَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَمَّا إِذَا قُلْنَا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوحِيَ/ زُخْرُفَ الْقَوْلِ لِأَجْلِ التَّغْرِيرِ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا مِثْلَ هَذَا الشَّخْصِ عَدُوًّا لِلنَّبِيِّ لِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الْكُفَّارِ فَيَبْعُدُوا بِذَلِكَ السَّبَبِ عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ فَثَبَتَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ زَعَمَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الْبِنْيَةَ لَيْسَتْ مَشْرُوطًا لِلْحَيَاةِ فَالْحَيُّ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ وَالْعَالِمُ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْحَيُّ وَالْعَالِمُ هُوَ الْجُمْلَةُ لَا ذَلِكَ الْجُزْءُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَجُعِلَ الْمَوْصُوفُ بِالْمَيْلِ وَالرَّغْبَةِ هُوَ الْقَلْبُ لَا جُمْلَةُ الْحَيِّ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الَّذِينَ قَالُوا الْإِنْسَانُ شَيْءٌ مُغَايِرٌ لِلْبَدَنِ اخْتَلَفُوا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُتَعَلِّقُ الْأَوَّلُ هُوَ الْقَلْبُ وَبِوَاسِطَتِهِ تَتَعَلَّقُ النَّفْسُ بِسَائِرِ الْأَعْضَاءِ كَالدِّمَاغِ وَالْكَبِدِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْقَلْبُ مُتَعَلِّقُ النَّفْسِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالدِّمَاغُ مُتَعَلِّقُ النَّفْسِ الناطقة والكبد مُتَعَلِّقُ النَّفْسِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْأَوَّلُونَ تَعَلَّقُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مَحَلَّ الصَّغْوِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَيْلِ وَالْإِرَادَةِ الْقَلْبَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالنَّفْسِ الْقَلْبُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الكناية في قوله: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ [الانعام: ١١٣] عَائِدَةٌ إِلَى زُخْرُفِ الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلِيَرْضَوْهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ فَاعْلَمْ أَنَّ الِاقْتِرَافَ هُوَ الِاكْتِسَابُ يُقَالُ فِي الْمَثَلِ الِاعْتِرَافُ يُزِيلُ الِاقْتِرَافَ كَمَا يُقَالُ التَّوْبَةُ تَمْحُو الْحَوْبَةَ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِيَقْتَرِفُوا أَيْ لِيَخْتَلِفُوا وليكذبوا والاول أصح.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٤]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لِيُؤْمِنُنَّ بِهَا أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِظْهَارِ تِلْكَ الْآيَاتِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَظْهَرَهَا لَبَقَوْا مُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِهِمْ ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى نُبُوَّتِهِ قَدْ حَصَلَ وَكَمُلَ فَكَانَ مَا يَطْلُبُونَهُ طَلَبًا لِلزِّيَادَةِ وَذَلِكَ مِمَّا
لَا يَجِبُ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى نُبُوَّتِهِ قَدْ حَصَلَ لِوَجْهَيْنِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بِنُبُوَّتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَنْزَلَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ الْمُفَصَّلَ الْمُبينَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ وَالْفَصَاحَةِ الْكَامِلَةِ وَقَدْ عَجَزَ الْخَلْقُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَظُهُورُ مِثْلِ هَذَا الْمُعْجِزِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ بِنُبُوَّتِهِ فَقَوْلُهُ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً يَعْنِي قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكُمْ تَتَحَكَّمُونَ فِي طَلَبِ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ فَهَلْ يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يُطْلَبَ غَيْرُ اللَّهِ حَكَمًا؟ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ ثُمَّ قُلْ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِي حَيْثُ خَصَّنِي بِمِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُفَصَّلِ الْكَامِلِ الْبَالِغِ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْأُمُورِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ اشْتِمَالَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَسُولٌ حَقٌّ وَعَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْوَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرَّعْدِ: ٤٣].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّهْيِيجِ وَالْإِلْهَابِ كَقَوْلِهِ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: ١١٤] وَالثَّانِي: التَّقْدِيرُ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي أَنَّ أَهْلَ الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق وَالثَّالِثُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَلا تَكُونَنَّ خِطَابًا لِكُلِّ وَاحِدٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتِ الدَّلَائِلُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَرِيَ فِيهَا أَحَدٌ والرابع قِيلَ هَذَا الْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ لِلرَّسُولِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أُمَّتُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ مُنَزَّلٌ بِالتَّشْدِيدِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّنْزِيلِ وَالْإِنْزَالِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً الْحَكَمُ وَالْحَاكِمُ وَاحِدٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ قَالَ الْحَكَمُ أَكْمَلُ مِنَ الْحَاكِمِ لِأَنَّ الْحَاكِمَ كُلُّ مَنْ يَحْكُمُ وَأَمَّا الْحَكَمُ فَهُوَ الَّذِي لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمٌ حَقٌّ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ فَلَمَّا أَظْهَرَ الْمُعْجِزَ الْوَاحِدَ وَهُوَ الْقُرْآنُ فَقَدْ حَكَمَ بِصِحَّةِ هَذِهِ النُّبُوَّةِ وَلَا مَرْتَبَةَ فَوْقَ حُكْمِهِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ هَذِهِ النُّبُوَّةِ فَأَمَّا/ أَنَّهُ هَلْ يُظْهِرُ سَائِرَ الْمُعْجِزَاتِ أَمْ لَا؟
فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِصِحَّةِ هَذِهِ النُّبُوَّةِ بِوَاسِطَةِ إِظْهَارِ الْمُعْجِزِ الْوَاحِدِ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٥]
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)
وفيه مسائل [في قُوْلُهُ تَعَالَى وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ بِغَيْرِ أَلِفٍ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْبَاقُونَ كَلِمَاتُ عَلَى الْجَمْعِ قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَاتُ مَعْنَاهُمَا مَا جَاءَ مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ وَثَوَابٍ وَعِقَابٍ فَلَا تَبْدِيلَ فِيهِ وَلَا تَغْيِيرَ لَهُ كَمَا قَالَ: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: ٢٩] فَمَنْ قَرَأَ: كَلِمَاتُ بِالْجَمْعِ قَالَ لِأَنَّ معناها الْجَمْعُ فَوَجَبَ أَنْ يُجْمَعَ فِي اللَّفْظِ وَمَنْ قَرَأَ عَلَى الْوَحْدَةِ فَلِأَنَّهُمْ قَالُوا الْكَلِمَةُ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْكَلِمَاتُ الْكَثِيرَةُ إِذَا كَانَتْ مَضْبُوطَةً بِضَابِطٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِمْ قَالَ زُهَيْرٌ فِي كَلِمَتِهِ يَعْنِي قَصِيدَتَهُ وَقَالَ قُسٌّ فِي كَلِمَتِهِ أَيْ خُطْبَتِهِ فَكَذَلِكَ مَجْمُوعُ الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ فِي كَوْنِهِ حَقًّا وَصِدْقًا وَمُعْجِزًا.
124
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وَالْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ- الْقُرْآنُ- أَيْ تَمَّ الْقُرْآنُ فِي كَوْنِهِ مُعْجِزًا دَالًّا عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْلُهُ: صِدْقاً وَعَدْلًا أَيْ تَمَّتْ تَمَامًا صِدْقًا وَعَدْلًا وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: صِدْقاً وَعَدْلًا مَصْدَرَانِ يُنْصَبَانِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكَلِمَةِ تَقْدِيرُهُ صَادِقَةً عَادِلَةً فَهَذَا وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ تَعَالَى مَوْصُوفَةٌ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ فَالصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهَا تَامَّةً وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّمَامِ وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا كَافِيَةٌ وَافِيَةٌ بِكَوْنِهَا مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَافِيَةٌ فِي بَيَانِ مَا يَحْتَاجُ الْمُكَلَّفُونَ إِلَيْهِ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ عَمَلًا وَعِلْمًا وَالثَّالِثُ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي حَصَلَ فِي الْأَزَلِ وَلَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ فَذَلِكَ الَّذِي حَصَلَ فِي الْأَزَلِ هُوَ التَّمَامُ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مُمْتَنِعَةٌ وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ
قَوْلِهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ صِفَاتِ كَلِمَةِ اللَّهِ كَوْنُهَا صِدْقًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْكَذِبَ نَقْصٌ وَالنَّقْصُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَلَا يَجُوزُ إِثْبَاتُ أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ لِأَنَّ صِحَّةَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ فَلَوْ أَثْبَتْنَا امْتِنَاعَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ لَزِمَ الدَّوْرُ وَهُوَ بَاطِلٌ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُلْفَ فِي وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَهُوَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُلْفَ فِي وَعِيدِهِ مُحَالٌ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها [النساء: ٩٣] أَنَّ الْخُلْفَ فِي وَعِيدِ اللَّهِ جَائِزٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ وَوَعِيدَهُ كَلِمَةُ اللَّهِ فَلَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ يَجِبُ كَوْنُهَا مَوْصُوفَةً بِالصِّدْقِ عَلَى أَنَّ الْخُلْفَ كَمَا أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي الْوَعْدِ فَكَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الْوَعِيدِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ صِفَاتِ كَلِمَاتِ اللَّهِ كَوْنُهَا عَدْلًا وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ أَنَّ كُلَّ مَا حَصَلَ فِي الْقُرْآنِ نَوْعَانِ الْخَبَرُ وَالتَّكْلِيفُ أَمَّا الْخَبَرُ فَالْمُرَادُ كُلُّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ وُجُودِهِ أَوْ عَنْ عَدَمِهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْخَبَرُ عَنْ وُجُودِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ حُصُولِ صِفَاتِهِ أَعْنِي كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا قَادِرًا سَمِيعًا بَصِيرًا وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِخْبَارُ عَنْ صِفَاتِ التَّقْدِيسِ وَالتَّنْزِيهِ كَقَوْلِهِ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الْإِخْلَاصِ: ٣] وَكَقَوْلِهِ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥] وَيَدْخُلُ فِيهِ الْخَبَرُ عَنْ أَقْسَامِ افعال الله وكيفية تدبيره لملكوت السموات وَالْأَرْضِ وَعَالَمَيِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ أَمْرٍ عَنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْخَبَرُ عَنْ أَحْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْخَبَرُ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْخَبَرِ وَأَمَّا التَّكْلِيفُ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ تَوَجَّهَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عَبْدِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ ملكا او بشر أَوْ جِنِّيًّا أَوْ شَيْطَانًا وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي شَرْعِنَا أَوْ فِي شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الْمُتَقَدِّمِينَ أَوْ فِي شَرَائِعِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ الذين هم سكان السموات وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْعَرْشِ وَمَا وَرَاءَهُ مِمَّا لَا يَعْلَمُ أَحْوَالَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِذَا عَرَفْتَ انْحِصَارَ مَبَاحِثِ الْقُرْآنِ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فَنَقُولُ قَالَ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ: وَعَدْلًا إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ التَّكَالِيفِ وَهَذَا ضَبْطٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَعَدْلًا أَنَّ كُلَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ وَثَوَابٍ وَعِقَابٍ
125
فَهُوَ صِدْقٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ وَاقِعًا وَهُوَ بَعْدَ وُقُوعِهِ عَدْلٌ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً بِصِفَةِ الظُّلْمِيَّةِ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ صِفَاتِ كَلِمَةِ اللَّهِ قَوْلُهُ: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ أَنَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَنَّهَا تَامَّةٌ فِي كَوْنِهَا مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ.
ثُمَّ قَالَ: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ يُلْقُونَ الشُّبَهَاتِ فِي كَوْنِهَا دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الشُّبَهَاتِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّبْدِيلَ الْبَتَّةَ لِأَنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ ظَاهِرَةٌ بَاقِيَةٌ جَلِيَّةٌ قَوِيَّةٌ لَا تَزُولُ بِسَبَبِ تُرَّهَاتِ الْكُفَّارِ وَشُبُهَاتِ أُولَئِكَ الْجُهَّالِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَبْقَى مَصُونَةً عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: ٩].
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا مَصُونَةٌ عَنِ التَّنَاقُضِ كَمَا قَالَ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءِ: ٨٢] وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَقْبَلُ التَّبْدِيلَ وَالزَّوَالَ لِأَنَّهَا أَزَلِيَّةٌ وَالْأَزَلِيُّ لَا يَزُولُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَحَدُ الْأُصُولِ الْقَوِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْجَبْرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ عَلَى زَيْدٍ بِالسَّعَادَةِ وَعَلَى عَمْرٍو بِالشَّقَاوَةِ ثم قال: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ يَلْزَمُ امْتِنَاعُ أَنْ يَنْقَلِبَ السَّعِيدُ شَقِيًّا وَأَنْ يَنْقَلِبَ الشَّقِيُّ سَعِيدًا فَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالشَّقِيُّ مَنْ شقي في بطن امه.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَجَابَ عَنْ شُبُهَاتِ الْكُفَّارِ ثُمَّ بَيَّنَ بِالدَّلِيلِ صِحَّةَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَّنَ أَنَّ بَعْدَ زَوَالِ الشُّبْهَةِ وَظُهُورِ الْحُجَّةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَفِتَ الْعَاقِلُ إِلَى كَلِمَاتِ الْجُهَّالِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَشَوَّشَ بِسَبَبِ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ فَقَالَ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَرْضِ كَانُوا ضُلَّالًا لِأَنَّ الْإِضْلَالَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالضَّلَالِ وَاعْلَمْ أَنَّ حُصُولَ هَذَا الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَوَّلُهَا: الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْإِلَهِيَّاتِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ وَأَمَّا الْبَاطِلُ فَفِيهِ كَثْرَةٌ وَمِنْهَا الْقَوْلُ بِالشِّرْكِ أَمَّا كَمَا تَقُولُهُ الزَّنَادِقَةُ/ وَهُوَ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: ١٠٠] وَإِمَّا كَمَا يَقُولُهُ عَبَدَةُ الْكَوَاكِبِ وَإِمَّا كَمَا يَقُولُهُ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ وَثَانِيهَا: الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنُّبُوَّاتِ إِمَّا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يُنْكِرُ النُّبُوَّةَ مُطْلَقًا أَوْ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يُنْكِرُ النَّشْرَ أَوْ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يُنْكِرُ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَعَادِ وَثَالِثُهَا: الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَحْكَامِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ الْبَحَائِرَ وَالسَّوَائِبَ وَالْوَصَائِلَ وَيُحَلِّلُونَ الْمَيْتَةَ فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ فِيمَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنَ الْحُكْمِ عَلَى الْبَاطِلِ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَعَلَى الْحَقِّ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ عَنِ الطَّرِيقِ وَالْمَنْهَجِ الصِّدْقِ.
126
ثُمَّ قَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ الَّذِينَ يُنَازِعُونَكَ فِي دِينِكَ وَمَذْهَبِكَ غَيْرُ قَاطِعِينَ بِصِحَّةِ مَذَاهِبِهِمْ بَلْ لَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَهُمْ خَرَّاصُونَ كَذَّابُونَ فِي ادِّعَاءِ الْقَطْعِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الظَّنِّ رُجُوعُهُمْ فِي إِثْبَاتِ مَذَاهِبِهِمْ إِلَى تَقْلِيدِ أَسْلَافِهِمْ لَا إِلَى تَعْلِيلٍ أَصْلًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا رَأَيْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَالَغَ فِي ذَمِّ الْكُفَّارِ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ مُتَّبِعِينَ لِلظَّنِّ وَالشَّيْءُ الَّذِي يَجْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى مُوجِبًا لِذَمِّ الْكُفَّارِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي أَقْصَى مَرَاتِبِ الذَّمِّ وَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ يُوجِبُ اتِّبَاعَ الظَّنِّ فَوَجَبَ كَوْنُهُ مَذْمُومًا مُحَرَّمًا لَا يُقَالُ لَمَّا وَرَدَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ بِكَوْنِهِ حُجَّةً كَانَ الْعَمَلُ بِهِ عَمَلًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ لَا بِدَلِيلٍ مَظْنُونٍ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ:
أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَمْعِيًّا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا مَجَالَ لَهُ فِي أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ جَائِزٌ أَوْ غَيْرُ جَائِزٍ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يُنْكِرُ تَحْسِينَ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحَهُ وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ إِنَّمَا يَكُونُ قَاطِعًا لَوْ كَانَ مُتَوَاتِرًا وَكَانَتْ أَلْفَاظُهُ غَيْرَ مُحْتَمِلَةٍ لِوَجْهٍ آخَرَ سِوَى هَذَا الْمَعْنَى الْوَاحِدِ وَلَوْ حَصَلَ مِثْلُ هَذَا الدَّلِيلِ لَعَلِمَ النَّاسُ بِالضَّرُورَةِ كَوْنَ الْقِيَاسِ حُجَّةً وَلَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ مَفْقُودٌ الثَّانِي: هَبْ أَنَّهُ وُجِدَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ إِلَّا أَنَّ مَعَ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ إِلَّا مَعَ اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَبَيَانُهُ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْقِيَاسِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَقَامَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ مُعَلَّلٌ بِكَذَا وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ فَهَذَانِ الْمَقَامَانِ إِنْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ فَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فِي صِحَّتِهِ وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعُهُمَا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ظَنِّيًّا فَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ الْعَمَلُ/ بِهَذَا الْقِيَاسِ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ الظَّنِّ وَحِينَئِذٍ يَنْدَرِجُ تَحْتَ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ مُتَابَعَةَ الظَّنِّ مَذْمُومَةٌ.
وَالْجَوَابُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الظَّنُّ عِبَارَةٌ عَنِ الِاعْتِقَادِ الرَّاجِحِ إِذَا لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى أَمَارَةٍ وَهُوَ مِثْلُ اعْتِقَادِ الْكُفَّارِ أَمَّا إِذَا كَانَ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مُسْتَنِدًا إِلَى أَمَارَةٍ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ لَا يُسَمَّى ظَنًّا وَبِهَذَا الطَّرِيقِ سَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّكَ بَعْدَ مَا عَرَفْتَ أَنَّ الْحَقَّ مَا هُوَ وَأَنَّ الْبَاطِلَ مَا هُوَ فَلَا تَكُنْ فِي قَيْدِهِمْ بَلْ فَوِّضْ أَمْرَهُمْ إِلَى خَالِقِهِمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّ الْمُهْتَدِيَ مَنْ هُوَ؟ وَالضَّالَّ مَنْ هُوَ؟ فَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ بِمَا يَلِيقُ بِعَمَلِهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَإِنْ أَظْهَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمُ ادِّعَاءَ الْجَزْمِ وَالْيَقِينِ فَهُمْ كَاذِبُونَ وَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَحْوَالِ قُلُوبِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ وَمُطَّلِعٌ عَلَى كَوْنِهِمْ مُتَحَيِّرِينَ فِي سَبِيلِ الضَّلَالِ تَائِهِينَ فِي أَوْدِيَةِ الْجَهْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ قَالَ بَعْضُهُمْ أَعْلَمُ هَاهُنَا بِمَعْنَى يَعْلَمُ وَالتَّقْدِيرُ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ مَنْ يضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين فان قيل فهذا يوجب وقوع التفاوت في علم الله تعالى وهو محال.
127
قُلْنَا لَا شَكَّ أَنَّ حُصُولَ التَّفَاوُتِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ الْعِنَايَةَ بِإِظْهَارِ هِدَايَةِ الْمُهْتَدِينَ فَوْقَ الْعِنَايَةِ بِإِظْهَارِ ضَلَالِ الضَّالِّينَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: ٧] فَذَكَرَ الْإِحْسَانَ مَرَّتَيْنِ وَالْإِسَاءَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالثَّانِي: أَنَّ مَوْضِعَ: مَنْ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَلَفْظُهَا لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمَعْنَى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ أَيُّ النَّاسِ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ: قَالَ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى [الْكَهْفِ: ١٢] وَهَذَا قَوْلُ الْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ والكسائي والفراء.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٨]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨)
فِي الْآيَةِ مَبَاحِثُ نَذْكُرُهَا فِي مَعْرِضِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ السُّؤَالُ الْأَوَّلُ «الْفَاءُ» فِي قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقْتَضِي تَعَلُّقًا بِمَا تَقَدَّمَ فَمَا ذَلِكَ الشَّيْءُ؟
وَالْجَوَابُ قَوْلُهُ فَكُلُوا مُسَبَّبٌ عَنْ إِنْكَارِ اتِّبَاعِ الْمُضِلِّينَ الَّذِينَ يُحَلِّلُونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلْمُسْلِمِينَ إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تَعْبُدُونَ اللَّهَ فَمَا قَتَلَهُ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ/ تَأْكُلُوهُ مِمَّا قَتَلْتُمُوهُ أَنْتُمْ فَقَالَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ إِنْ كُنْتُمْ مُتَحَقِّقِينَ بِالْإِيمَانِ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُذَكَّى بِبَسْمِ اللَّهِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي الْقَوْمُ كَانُوا يُبِيحُونَ أَكْلَ مَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَلَا يُنَازِعُونَ فِيهِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُمْ أَيْضًا كَانُوا يُبِيحُونَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا يُحَرِّمُونَهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُرُودُ الْأَمْرِ بِإِبَاحَةِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَبَثًا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْحُكْمِ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَتَرْكَ الْحُكْمِ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ.
وَالْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ لَعَلَّ الْقَوْمَ كَانُوا يُحَرِّمُونَ أَكْلَ الْمُذَكَّاةِ وَيُبِيحُونَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ فَاللَّهُ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِمْ فِي الْأَمْرَيْنِ فَحَكَمَ بِحِلِّ الْمُذَكَّاةِ بِقَوْلِهِ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَبِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الثَّانِي: أَنْ نَحْمِلَ قَوْلَهُ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ اجْعَلُوا أَكْلَكُمْ مَقْصُورًا عَلَى مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَحْرِيمَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَقَطْ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْأَمْرِ وَهِيَ لِلْإِبَاحَةِ وَهَذِهِ الْإِبَاحَةُ حَاصِلَةٌ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَغَيْرِ الْمُؤْمِنِ وَكَلِمَةُ (إِنْ) فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ تُفِيدُ الِاشْتِرَاطَ وَالْجَوَابُ التَّقْدِيرُ لِيَكُنْ أَكْلُكُمْ مَقْصُورًا عَلَى مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِإِبَاحَةِ أَكْلِ الميتة لقدح ذلك في كونه مؤمنا.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٩]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ بِالْفَتْحِ فِي الْحَرْفَيْنِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالضَّمِّ فِي الْحَرْفَيْنِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ/ فَصَّلَ بالفتح وَحُرِّمَ بِالضَّمِّ فَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ فِي الْحَرْفَيْنِ فَقَدِ احْتَجَّ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ تَمَسَّكَ فِي فَتْحِ قَوْلِهِ: فَصَّلَ بِقَوْلِهِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ [الانعام: ٩٧ ٩٨ ١٢٦] وَفِي فَتْحِ قَوْلِهِ: حَرَّمَ بِقَوْلِهِ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ [الانعام: ١٥١].
128
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَى الْفَاعِلِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِالضَّمِّ فِي الْحَرْفَيْنِ فَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة: ٣] وَقَوْلُهُ: حُرِّمَتْ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلَمَّا وَجَبَ فِي التَّفْصِيلِ أَنْ يُقَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ بِفِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَجَبَ فِي الْإِجْمَالِ كَذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَلَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ حَرَّمَ بِضَمِّ الْحَاءِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ: فُصِّلَ بِضَمِّ الْفَاءِ لِأَنَّ هَذَا الْمُفَصَّلَ هُوَ ذَلِكَ الْمُحَرَّمُ الْمُجْمَلُ بِعَيْنِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا [الانعام: ١١٤] وَقَوْلُهُ: مُفَصَّلًا يَدُلُّ عَلَى فَصَّلَ وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ فَصَّلَ بِالْفَتْحِ وَحُرِّمَ بِالضَّمِّ فَحُجَّتُهُ فِي قَوْلِهِ: فَصَّلَ قَوْلُهُ:
قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ وَفِي قَوْلِهِ: حَرَّمَ قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ وَسُورَةَ الْمَائِدَةِ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ آخِرُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِالْمَدِينَةِ وَقَوْلُهُ وَقَدْ فَصَّلَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُفَصَّلُ مُقَدَّمًا عَلَى هَذَا الْمُجْمَلِ وَالْمَدَنِيُّ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمَكِّيِّ وَالْمُتَأَخِّرُ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ مُتَقَدِّمًا بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ [الْأَنْعَامِ ١٤٥] وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَذْكُورَةً بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَلِيلٍ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ التَّأْخِيرِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ أَيْ دَعَتْكُمُ الضَّرُورَةُ إِلَى أَكْلِهِ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْمَجَاعَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: لَيُضِلُّونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَذَلِكَ فِي يُونُسَ: رَبَّنا لِيُضِلُّوا [يونس: ٨٨] وفي ابراهيم: لِيُضِلُّوا [ابراهيم: ٣٠] وفي الحج: ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ [الحج: ٩] وفي لقمان لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ [لقمان: ٦] وفي الزمر: أَنْداداً لِيُضِلَّ [الزمر: ٨] وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ جَمِيعَ ذَلِكَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ هَاهُنَا وَفِي يُونُسَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَفِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ بِالضَّمِّ فَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ أَشَارَ إِلَى كَوْنِهِ ضَالًّا وَمَنْ قَرَأَ بِالضَّمِّ أَشَارَ إِلَى كَوْنِهِ مُضِلًّا قَالَ وَهَذَا أَقْوَى فِي الذَّمِّ لِأَنَّ كُلَّ مُضِلٍّ فَإِنَّهُ يَجِبُ كَوْنُهُ ضَالًّا وَقَدْ يَكُونُ ضَالًّا وَلَا يَكُونُ مُضِلًّا فَالْمُضِلُّ أَكْثَرُ اسْتِحْقَاقًا لِلذَّمِّ مِنَ الضَّالِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَيُضِلُّونَ قِيلَ إِنَّهُ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ فَمَنْ دُونَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ وَاتَّخَذَ الْبَحَائِرَ وَالسَّوَائِبَ وَأَكَلَ الْمَيْتَةَ وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ يُرِيدُ أَنَّ/ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ أَقْدَمَ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ عَنِ الْجَهَالَةِ الصِّرْفَةِ وَالضَّلَالَةِ الْمَحْضَةِ وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْمُرَادُ مِنْهُ الَّذِينَ يُحَلِّلُونَ الْمَيْتَةَ وَيُنَاظِرُونَكُمْ فِي إِحْلَالِهَا وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِمْ لَمَّا حَلَّ مَا تَذْبَحُونَهُ أَنْتُمْ فَبِأَنْ يَحِلَّ مَا يَذْبَحُهُ اللَّهُ أَوْلَى وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَضِلُّونَ فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالطَّعْنِ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ فِيهِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةَ وَلَا بَصِيرَةَ عِنْدَهُمْ وَلَا عِلْمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ حَرَامٌ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّقْلِيدِ قَوْلٌ بِمَحْضِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذلك حرام.
129
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ مِنَ التَّعَدِّي وَطَلَبِ نُصْرَةِ الْبَاطِلِ وَالسَّعْيِ فِي إِخْفَاءِ الْحَقِّ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِهِمْ وَكَانَ قَادِرًا عَلَى مُجَازَاتِهِمْ فَهُوَ تَعَالَى يُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ التهديد والتخويف والله اعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٠]
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ فَصَّلَ الْمُحَرَّمَاتِ أَتْبَعَهُ بِمَا يُوجِبُ تَرْكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِثْمِ مَا يُوجِبُ الْإِثْمَ وَذَكَرُوا فِي ظَاهِرِ الْإِثْمِ وَبَاطِنِهِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ظاهِرَ الْإِثْمِ الْإِعْلَانُ بِالزِّنَا وَباطِنَهُ الِاسْتِسْرَارُ بِهِ قَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَرَوْنَ الزِّنَا حَلَالًا مَا كَانَ سِرًّا فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ السِّرَّ مِنْهُ وَالْعَلَانِيَةَ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا النَّهْيَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ تَخْصِيصَ اللَّفْظِ الْعَامِّ بِصُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ غَيْرُ جَائِزٍ ثُمَّ قِيلَ: الْمُرَادُ مَا أَعْلَنْتُمْ وَمَا أَسْرَرْتُمْ وَقِيلَ: مَا عَمِلْتُمْ وَمَا نَوَيْتُمْ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يُرِيدُ وَذَرُوا الْإِثْمَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ كَمَا تَقُولُ: مَا أَخَذْتُ مِنْ هَذَا الْمَالِ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا تُرِيدُ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ الْإِثْمِ مَعَ بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ كَوْنِهِ إِثْمًا بِسَبَبِ إِخْفَائِهِ وَكِتْمَانِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ النَّهْيُ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْإِثْمِ ثُمَّ قَالَ: وَباطِنَهُ لِيَظْهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الدَّاعِيَ لَهُ إِلَى تَرْكِ ذَلِكَ الْإِثْمِ خَوْفُ اللَّهِ لَا خَوْفُ النَّاسِ وَقَالَ آخَرُونَ: ظاهِرَ الْإِثْمِ أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ: وَباطِنَهُ أَفْعَالُ الْقُلُوبِ مِنَ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالْعُجْبِ وَإِرَادَةِ السَّوْءِ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَدْخُلُ فِيهِ الِاعْتِقَادُ وَالْعَزْمُ وَالنَّظَرُ وَالظَّنُّ وَالتَّمَنِّي وَاللَّوْمُ عَلَى الْخَيْرَاتِ وَبِهَذَا/ يَظْهَرُ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَا يُوجَدُ فِي الْقَلْبِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَمَلٌ فَإِنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ وَمَعْنَى الِاقْتِرَافِ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَظَاهِرُ النَّصِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُعَاقَبَ الْمُذْنِبُ إِلَّا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَابَ لَمْ يُعَاقَبْ وَأَصْحَابُنَا زَادُوا شَرْطًا ثَانِيًا وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَعْفُو عَنِ الْمُذْنِبِ فَيَتْرُكُ عِقَابَهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨].
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢١]
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُ مَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ ذَكَرَ بَعْدَهُ تَحْرِيمَ مَا لَمْ يُذْكَرْ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ وَيَدْخُلْ فِيهِ الْمَيْتَةُ وَيَدْخُلْ فِيهِ مَا ذُبِحَ عَلَى ذِكْرِ الْأَصْنَامِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِبْطَالُ مَا ذَكَرَهُ الْمُشْرِكُونَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نُقِلَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَا لَمْ يُذْكَرْ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ فَهُوَ حَرَامٌ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى تَخْصِيصِ هَذَا الْعُمُومِ بِالذَّبْحِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ ذَبْحٍ لَمْ يُذْكَرْ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ فَهُوَ حَرَامٌ سَوَاءٌ تُرِكَ ذَلِكَ الذِّكْرُ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ
130
وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ تُرِكَ الذِّكْرُ عَمْدًا حَرُمَ وَإِنْ تُرِكَ نِسْيَانًا حَلَّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَحِلُّ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ سَوَاءٌ تُرِكَ عمدا او خطأ إذا كان أَهْلًا لِلذَّبْحِ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [الْمَائِدَةِ: ٣] فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا النَّهْيُ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ النُّصُبِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفَسِّقُ أَكْلَ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ الَّذِي تَرَكَ التَّسْمِيَةَ وَثَانِيهَا: قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ إِنَّمَا كَانَتْ فِي مَسْأَلَةِ الْمَيْتَةِ رُوِيَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: مَا يَقْتُلُهُ الصَّقْرُ وَالْكَلْبُ تَأْكُلُونَهُ وَمَا يَقْتُلُهُ اللَّهُ فَلَا تَأْكُلُونَهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: / تَأْكُلُونَ مَا تَقْتُلُونَهُ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا يَقْتُلُهُ اللَّهُ فَهَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ مَخْصُوصَةٌ بِأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِمَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ النُّصُبِ يَعْنِي لَوْ رَضِيتُمْ بِهَذِهِ الذَّبِيحَةِ الَّتِي ذُبِحَتْ عَلَى اسْمِ إِلَهِيَّةِ الْأَوْثَانِ فَقَدْ رَضِيتُمْ بِإِلَهِيَّتِهَا وَذَلِكَ يُوجِبُ الشِّرْكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
فَأَوَّلُ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا بِحَسَبِ الصِّيغَةِ إِلَّا أَنَّ آخِرَهَا لَمَّا حَصَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْقُيُودُ الثَّلَاثَةُ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ هُوَ هَذَا الْخُصُوصُ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ فَقَدْ صَارَ هَذَا النَّهْيُ مَخْصُوصًا بِمَا إِذَا كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِسْقًا ثُمَّ طَلَبْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مَتَى يَصِيرُ فِسْقًا؟ فَرَأَيْنَا هَذَا الْفِسْقَ مُفَسَّرًا فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلَهُ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَامِ: ١٤٥] فَصَارَ الْفِسْقُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُفَسَّرًا بِمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ مَخْصُوصًا بِمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ.
وَالْمَقَامُ الثَّانِي: أَنْ نَتْرُكَ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْمُخَصِّصَاتِ لَكِنْ نَقُولُ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ذِكْرُ اللَّهِ هَاهُنَا؟
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ مَعَ الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ قَالَ أَوْ لَمْ يَقُلْ»
وَيُحْمَلْ هَذَا الذِّكْرُ عَلَى ذِكْرِ الْقَلْبِ.
وَالْمَقَامُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: هَبْ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ إِلَّا أَنَّ سَائِرَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تُوجِبُ الْحِلَّ وَمَتَى تَعَارَضَتْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّاجِحُ هُوَ الْحِلَّ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَأْكُولَاتِ الْحِلُّ وَأَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْعُمُومَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحِلِّ الْأَكْلِ وَالِانْتِفَاعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: ٢٩] وَقَوْلِهِ: كُلُوا وَاشْرَبُوا [الْبَقَرَةِ: ٦٠] لِأَنَّهُ مُسْتَطَابٌ بِحَسَبِ الْحِسِّ فَوَجَبَ أَنْ يَحِلَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة: ٤] وَلِأَنَّهُ مَالٌ لِأَنَّ الطَّبْعَ يَمِيلُ إِلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُحَرَّمَ لِمَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ
فَهَذَا تَقْرِيرُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: الْأَوْلَى بِالْمُسْلِمِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْهُ لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا النَّصِّ قَوِيٌّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَأْكُلُوا يَدُلُّ عَلَى الْأَكْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ فَهَذَا الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى هَذَا الْمَصْدَرِ وَالثَّانِي: كَأَنَّهُ جَعَلَ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ فِسْقًا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ من الشياطين
131
هَاهُنَا إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ وَسْوَسُوا إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنَ المشركين ليجادلوا محمدا صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ/ وَأَصْحَابَهُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ.
وَالثَّانِي: قَالَ عِكْرِمَةُ: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ يَعْنِي مَرَدَةَ الْمَجُوسِ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا نَزَلْ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ سَمِعَهُ الْمَجُوسُ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ فَكَتَبُوا إِلَى قُرَيْشٍ وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ مُكَاتَبَةٌ أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ أَمْرَ اللَّهِ ثُمَّ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا يَذْبَحُونَهُ حَلَالٌ وَمَا يَذْبَحُهُ اللَّهُ حَرَامٌ فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِ نَاسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ يَعْنِي فِي اسْتِحْلَالِ الْمَيْتَةِ: إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ كُلَّ مَنْ أَهَلَّ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ حَرَّمَ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ مُشْرِكٌ وَإِنَّمَا سُمِّيَ مُشْرِكًا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ حَاكِمًا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقَ كَمَا جَعَلَ تَعَالَى الشِّرْكَ اسْمًا لِكُلِّ مَا كَانَ مُخَالِفًا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ مُخْتَصًّا بِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى طَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُشْرِكِينَ فِي إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ شِرْكًا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الشِّرْكِ هَاهُنَا اعْتِقَادَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرِيكًا فِي الْحُكْمِ وَالتَّكْلِيفِ؟ وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ يَرْجِعُ مَعْنَى هَذَا الشِّرْكِ الى الاعتقاد فقط.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٢]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُجَادِلُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي دِينِ اللَّهِ ذَكَرَ مَثَلًا يَدُلُّ عَلَى حَالِ الْمُؤْمِنِ الْمُهْتَدِي وَعَلَى حَالِ الْكَافِرِ الضَّالِّ فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُهْتَدِيَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَجُعِلَ حَيًّا بَعْدَ ذَلِكَ وَأُعْطِيَ نُورًا يَهْتَدِي بِهِ فِي مَصَالِحِهِ وَأَنَّ الْكَافِرَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ هُوَ فِي ظُلُمَاتٍ مُنْغَمِسٌ فِيهَا لَا خَلَاصَ لَهُ مِنْهَا فَيَكُونُ مُتَحَيِّرًا عَلَى الدَّوَامِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وَعِنْدَ هَذَا عَادَتْ مَسْأَلَةُ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ/ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: ذَلِكَ الْمُزَيِّنُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَدَلِيلُهُ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِي وَحُصُولُهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّاعِي عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمٍ أَوِ اعْتِقَادٍ أَوْ ظَنٍّ بِاشْتِمَالِ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَى نَفْعٍ زَائِدٍ وَصَلَاحٍ رَاجِحٍ فَهَذَا الدَّاعِي لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا هَذَا التَّزْيِينُ فَإِذَا كَانَ مُوجِدُ هَذَا الدَّاعِي هُوَ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ الْمُزَيِّنُ لَا مَحَالَةَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: ذَلِكَ الْمُزَيِّنُ هُوَ الشَّيْطَانُ وَحَكَوْا عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: زَيَّنَهُ لَهُمْ وَاللَّهِ الشَّيْطَانُ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْمَثَلَ مَذْكُورٌ لِيَمِيزَ اللَّهُ حَالَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الشَّيْطَانُ فَإِنْ كَانَ إِقْدَامُ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ عَلَى ذَلِكَ الْكُفْرِ لِشَيْطَانٍ آخَرَ لَزِمَ الذَّهَابُ إِلَى مزين آخر غَيْرِ النِّهَايَةِ وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْ مُزَيِّنٍ آخَرَ سِوَى الشَّيْطَانِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمُزَيِّنَ لَيْسَ إِلَّا هُوَ فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا أَمَّا قَبْلَهَا فَقَوْلُهُ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الانعام: ١٠٨] وَأَمَّا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ
132
فَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها [الانعام: ١٢٣].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ قَرَأَ نَافِعٌ مَيِّتًا مُشَدَّدًا وَالْبَاقُونَ مُخَفَّفًا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمَيْتُ مُخَفَّفًا تَخْفِيفُ مَيِّتٍ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ ثُقِّلَ أَوْ خُفِّفَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: قَدْ وَصَفَ الْكُفَّارَ بِأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ فِي قَوْلِهِ: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النَّحْلِ: ٢١] وَأَيْضًا فِي قَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس: ٧٠] وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النِّمْلِ: ٨٠] وَفِي قَوْلِهِ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ... وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ [فاطر: ١٩ و ٢٢] فَلَمَّا جُعِلَ الْكُفْرُ مَوْتًا وَالْكَافِرُ مَيِّتًا جُعِلَ الْهُدَى حَيَاةً وَالْمُهْتَدِي حَيًّا وَإِنَّمَا جُعِلَ الْكُفْرُ مَوْتًا لِأَنَّهُ جَهْلٌ وَالْجَهْلُ يُوجِبُ الْحَيْرَةَ وَالْوَقْفَةَ فَهُوَ كَالْمَوْتِ الَّذِي يُوجِبُ السُّكُونَ وَأَيْضًا الْمَيِّتُ لَا يَهْتَدِي إِلَى شَيْءٍ وَالْجَاهِلُ كَذَلِكَ وَالْهُدَى عِلْمٌ وَبَصَرٌ وَالْعِلْمُ وَالْبَصَرُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الرُّشْدِ وَالْفَوْزِ بِالنَّجَاةِ وَقَوْلُهُ:
وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَأَحْيَيْناهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا النُّورُ مُغَايِرًا لِتِلْكَ الْحَيَاةِ وَالَّذِي يَخْطُرُ بِالْبَالِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ لَهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ فِي الْمَعْرِفَةِ فَأَوَّلُهَا: كَوْنُهَا مُسْتَعِدَّةً لِقَبُولِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ وَذَلِكَ الِاسْتِعْدَادُ الْأَصْلِيُّ يَخْتَلِفُ فِي الْأَرْوَاحِ فَرُبَّمَا كَانَتِ الرُّوحُ مَوْصُوفَةً بِاسْتِعْدَادٍ كَامِلٍ قَوِيٍّ شَرِيفٍ وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ الِاسْتِعْدَادُ قَلِيلًا ضَعِيفًا وَيَكُونُ صَاحِبُهُ بَلِيدًا نَاقِصًا.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُحَصِّلَ لَهَا الْعُلُومَ الْكُلِّيَّةَ الْأَوَّلِيَّةَ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْعَقْلِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُحَاوِلَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ تَرْكِيبَ تِلْكَ الْبَدِيهِيَّاتِ: وَيَتَوَصَّلَ بِتَرْكِيبِهَا إِلَى/ تَعَرُّفِ الْمَجْهُولَاتِ الْكَسْبِيَّةِ إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَعَارِفَ رُبَّمَا لَا تَكُونُ حَاضِرَةً بِالْفِعْلِ وَلَكِنَّهَا تَكُونُ بِحَيْثُ مَتَى شَاءَ صَاحِبُهَا اسْتِرْجَاعَهَا وَاسْتِحْضَارَهَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَعَارِفُ الْقُدُسِيَّةُ وَالْجَلَايَا الرُّوحَانِيَّةُ حَاضِرَةً بِالْفِعْلِ وَيَكُونُ جَوْهَرُ ذَلِكَ الرُّوحِ مُشْرِقًا بِتِلْكَ الْمَعَارِفِ مُسْتَضِيئًا بِهَا مُسْتَكْمَلًا بِظُهُورِهَا فِيهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ:
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: وَهِيَ حُصُولُ الِاسْتِعْدَادِ فَقَطْ هِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْمَوْتِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنْ تَحْصُلَ الْعُلُومُ الْبَدِيهِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ فِيهِ فَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: فَأَحْيَيْناهُ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ تَرْكِيبُ الْبَدِيهِيَّاتِ حَتَّى يُتَوَصَّلَ بِتَرْكِيبَاتِهَا إِلَى تَعَرُّفِ الْمَجْهُولَاتِ النَّظَرِيَّةِ فَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً.
وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُ: يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ مُسْتَحْضِرًا لِتِلْكَ الْجَلَايَا الْقُدُسِيَّةِ نَاظِرًا إِلَيْهَا وَعِنْدَ هَذَا تَتِمُّ دَرَجَاتُ سِعَادَاتِ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا الْحَيَاةُ عِبَارَةٌ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ الْقَائِمِ بِجَوْهَرِ الرُّوحِ وَالنُّورُ عِبَارَةٌ عَنْ إِيصَالِ نُورِ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ بِهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِبْصَارِ مِنْ أَمْرَيْنِ: مِنْ سَلَامَةِ الْحَاسَّةِ وَمِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَكَذَلِكَ الْبَصِيرَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ أَمْرَيْنِ: مِنْ سَلَامَةِ حَاسَّةِ الْعَقْلِ وَمِنْ طُلُوعِ نُورِ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ بِهَذَا النُّورِ الْقُرْآنُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ نُورُ الدِّينِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ نُورُ الْحِكْمَةِ وَالْأَقْوَالُ بِأَسْرِهَا مُتَقَارِبَةٌ وَالتَّحْقِيقُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا مَثَلُ الْكَافِرِ: فَهُوَ كَمَنْ فِي
133
الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها
وَفِي قَوْلِهِ: لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها دَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا دَامَ حُصُولُهُ مَعَ الشَّيْءِ صَارَ كَالْأَمْرِ الذَّاتِيِّ وَالصِّفَةِ اللَّازِمَةِ لَهُ فَإِذَا دَامَ كَوْنُ الْكَافِرِ فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ صَارَتْ تِلْكَ الظُّلُمَاتُ كَالصِّفَةِ الذَّاتِيَّةِ اللَّازِمَةِ لَهُ يعسر إِزَالَتِهَا عَنْهُ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ وَأَيْضًا الْوَاقِفُ فِي الظُّلُمَاتِ يَبْقَى مُتَحَيِّرًا لَا يَهْتَدِي إِلَى وَجْهِ صَلَاحِهِ فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ وَالْعَجْزُ وَالْوُقُوفُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي ان هذين المثلين المذكورين هل هما مخصوصات بِإِنْسَانَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ أَوْ عَامَّانِ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ وكافر وفيه قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ خَاصٌّ بِإِنْسَانَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَبَا جَهْلٍ رَمَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ بِفَرْثٍ وَحَمْزَةُ يَوْمَئِذٍ لَمْ يُؤْمِنْ فَأُخْبِرَ حَمْزَةُ بِذَلِكَ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ صَيْدٍ لَهُ وَالْقَوْسُ بِيَدِهِ فَعَمَدَ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَتَوَخَّاهُ بِالْقَوْسِ وَجَعَلَ يَضْرِبُ رَأْسَهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: أَمَا تَرَى مَا جَاءَ بِهِ؟ سَفَّهَ عُقُولَنَا وَسَبَّ آلِهَتِنَا فَقَالَ/ حَمْزَةُ: أَنْتُمْ أَسْفَهُ النَّاسِ تَعْبُدُونَ الْحِجَارَةَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولَهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَأَبِي جَهْلٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: زَاحَمَنَا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ فِي الشَّرَفِ حَتَّى إِذَا صِرْنَا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا مِنَّا نَبِيٌّ يُوحَى إِلَيْهِ وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَنَا وَحْيٌ كَمَا يَأْتِيهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَبِي جَهْلٍ.
وَالرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبِي جَهْلٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ الْمَعْنَى إِذَا كَانَ حَاصِلًا فِي الْكُلِّ كَانَ التَّخْصِيصُ مَحْضَ التَّحَكُّمِ وَأَيْضًا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَالْقَوْلُ بِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُعَيَّنَةِ كَذَا وَكَذَا مُشْكِلٌ إِلَّا إِذَا قِيلَ ان النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ: أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْعَامَّةِ فُلَانٌ بِعَيْنِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ قَوْلَهُ:
فَأَحْيَيْناهُ وَقَوْلَهُ: وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَعْرِفَةِ وَالْهُدَى وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأُمُورِ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبِإِذْنِهِ وَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ سَاعَدَتْ عَلَى صِحَّتِهِ وَهُوَ دَلِيلُ الدَّاعِي عَلَى مَا لَخَّصْنَاهُ وَأَيْضًا إِنَّ عَاقِلًا لَا يَخْتَارُ الْجَهْلَ وَالْكُفْرَ لِنَفْسِهِ فَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَخْتَارَ الْإِنْسَانُ جَعْلَ نَفْسِهِ جَاهِلًا كَافِرًا فَلَمَّا قَصَدَ تَحْصِيلَ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا حَصَلَ ضِدُّهُ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالْجَهْلُ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ بِإِيجَادِ غَيْرِهِ.
فَإِنْ قَالُوا إِنَّمَا اخْتَارَهُ لِاعْتِقَادِهِ فِي ذَلِكَ الْجَهْلِ أَنَّهُ عِلْمٌ.
قُلْنَا: فَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ إِنَّمَا اخْتَارَ هَذَا الْجَهْلَ لِسَابِقَةِ جَهْلٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْجَهْلِ السَّابِقِ كَمَا فِي الْمَسْبُوقِ لَزِمَ الذَّهَابُ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ وَإِلَّا فَوَجَبَ الِانْتِهَاءُ إِلَى جَهْلٍ يَحْصُلُ فِيهِ لِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
134

[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٣]

وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «الْكَافُ» فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ يُوجِبُ التَّشْبِيهَ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَكَمَا جَعَلْنَا فِي مَكَّةَ صَنَادِيدَهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا كَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا الثَّانِي: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَيْ كَمَا زَيَّنَا لِلْكَافِرِينَ أَعْمَالَهُمْ كَذَلِكَ جَعَلْنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَكَابِرُ جَمْعُ الْأَكْبَرِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ وَالْآيَةُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ تَقْدِيرُهُ: جَعَلْنَا مُجْرِمِيهَا أَكَابِرَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَكَابِرُ مُضَافَةً فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ الْمَعْنَى وَيَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِلْجَعْلِ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: جَعَلْتُ زَيْدًا وَسَكَتَّ لَمْ يُفِدِ الْكَلَامُ حَتَّى تَقُولَ رَئِيسًا أَوْ ذَلِيلًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِاقْتِضَاءِ الْجَعْلِ مَفْعُولَيْنِ وَلِأَنَّكَ إِذَا أَضَفْتَ الْأَكَابِرَ فَقَدْ أَضَفْتَ الصِّفَةَ إِلَى الْمَوْصُوفِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مُجْرِمِيهَا أَكَابِرَ لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا جَعَلَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهُ أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ يَمْكُرُوا بِالنَّاسِ فَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ: بِأَنَّ حَمْلَ هَذِهِ اللَّامِ عَلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يَمْنَعُهُمْ عَنِ الْمَكْرِ صَارَ شَبِيهًا بِمَا إِذَا أَرَادَ ذَلِكَ فَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ وَهَذَا السُّؤَالُ مَعَ جَوَابِهِ قَدْ تَكَرَّرَ مِرَارًا خَارِجَةً عَنِ الْحَدِّ وَالْحَصْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّمَا جَعَلَ الْمُجْرِمِينَ أَكَابِرَ لِأَنَّهُمْ لِأَجْلِ رئاستهم أَقْدَرُ عَلَى الْغَدْرِ وَالْمَكْرِ وَتَرْوِيجِ الْأَبَاطِيلِ عَلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلِأَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ وَقُوَّةَ الْجَاهِ تَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي حِفْظِهِمَا وَذَلِكَ الْحِفْظُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِجَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ مِنَ الْغَدْرِ وَالْمَكْرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِ وَالْجَاهِ عَيْبٌ سِوَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا وَصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَجَاهٌ لَكَفَى ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى خَسَاسَةِ الْمَالِ وَالْجَاهِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فَاطِرٍ: ٤٣] وَقَدْ ذَكَرْنَا حَقِيقَةَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ١٥] قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ وَالزَّجْرِ فَلَوْ كَانَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ يَمْكُرُوا بِالنَّاسِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ الْحَكِيمِ الْحَلِيمِ أَنْ يُرِيدَ مِنْهُمُ الْمَكْرَ وَيَخْلُقَ فِيهِمُ الْمَكْرَ ثُمَّ يُهَدِّدُهُمْ عَلَيْهِ وَيُعَاقِبُهُمْ أَشَدَّ الْعِقَابِ عَلَيْهِ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ مُعَارَضَةَ هَذَا الْكَلَامِ/ بِالْوُجُوهِ الْمَشْهُورَةِ قد ذكرناها مرارا.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٤]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ مَكْرِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَحَسَدِهِمْ أَنَّهُمْ مَتَى ظَهَرَتْ لَهُمْ مُعْجِزَةٌ قَاهِرَةٌ تَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ
135
محمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى يَحْصُلَ لَنَا مِثْلُ هَذَا الْمَنْصِبِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ حَسَدِهِمْ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ لَا لِطَلَبِ الْحُجَّةِ وَالدَّلَائِلِ بَلْ لِنِهَايَةِ الْحَسَدِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ حَقًّا لَكُنْتُ أَنَا أَحَقَّ بِهَا مِنْ مُحَمَّدٍ فَإِنِّي أَكْثَرُ مِنْهُ مَالًا وَوَلَدًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُخَصَّ بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [الْمُدَّثِّرِ: ٥٢] فَظَاهِرُ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمَاعَةً مِنْهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَيْضًا فَمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها [الانعام: ١٢٣] ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَ تِلْكَ الْآيَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَكْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى هُوَ هَذَا الْكَلَامُ الْخَبِيثُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَرَادَ الْقَوْمُ أَنْ تَحْصُلَ لَهُمُ النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ كَمَا حَصَلَتْ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَنْ يَكُونُوا مَتْبُوعِينَ لَا تَابِعِينَ وَمَخْدُومِينَ لَا خَادِمِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمَعْنَى وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ تَأْمُرُهُمْ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى تؤتي مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إِلَى قَوْلِهِ: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاءِ: ٩٠- ٩٣] / مِنَ اللَّهِ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَإِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ كِتَابًا عَلَى حِدَةٍ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالْقَوْمُ مَا طَلَبُوا النُّبُوَّةَ وَإِنَّمَا طَلَبُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ آيَاتٌ قَاهِرَةٌ وَمُعْجِزَاتٌ ظَاهِرَةٌ مِثْلَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَيْ تَدُلَّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى وَأَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَلِمَنْ يَنْصُرُ الْقَوْلَ الثَّانِيَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُمْ لَمَّا اقْتَرَحُوا تِلْكَ الْآيَاتِ الْقَاهِرَةَ فَلَوْ أَجَابَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهَا وَأَظْهَرَ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى وَفْقِ الْتِمَاسِهِمْ لَكَانُوا قَدْ قَرُبُوا مِنْ مَنْصِبِ الرِّسَالَةِ وَحِينَئِذٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ
جَوَابًا عَلَى هَذَا الْكَلَامِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ فَالْمَعْنَى أَنَّ لِلرِّسَالَةِ مَوْضِعًا مَخْصُوصًا لَا يَصْلُحُ وَضْعُهَا إِلَّا فِيهِ فَمَنْ كَانَ مَخْصُوصًا مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي لِأَجْلِهَا يَصْلُحُ وَضْعُ الرِّسَالَةِ فِيهِ كَانَ رَسُولًا وَإِلَّا فَلَا وَالْعَالِمُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: النُّفُوسُ وَالْأَرْوَاحُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ فَحُصُولُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ لِبَعْضِهَا دُونَ الْبَعْضِ تَشْرِيفٌ مِنَ اللَّهِ وَإِحْسَانٌ وَتَفَضُّلٌ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ مُخْتَلِفَةٌ بِجَوَاهِرِهَا وَمَاهِيَّاتِهَا فَبَعْضُهَا خَيِّرَةٌ طَاهِرَةٌ مِنْ عَلَائِقِ الْجِسْمَانِيَّاتِ مُشْرِقَةٌ بِالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ مُسْتَعْلِيَةٌ مُنَوَّرَةٌ وَبَعْضُهَا خَسِيسَةٌ كَدِرَةٌ مُحِبَّةٌ لِلْجِسْمَانِيَّاتِ فَالنَّفْسُ مَا لَمْ تَكُنْ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَمْ تَصْلُحْ لِقَبُولِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ ثُمَّ إِنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ يَقَعُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ إِلَى مَرَاتِبَ لَا نِهَايَةَ لَهَا فَلَا جَرَمَ كَانَتْ مَرَاتِبُ الرُّسُلِ مُخْتَلِفَةً فَمِنْهُمْ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ الْمُعْجِزَاتُ الْقَوِيَّةُ وَالتَّبَعُ الْقَلِيلُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مُعْجِزَةٌ وَاحِدَةٌ أَوِ اثْنَتَانِ وَحَصَلَ لَهُ تَبَعٌ عَظِيمٌ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ الرِّفْقُ غَالِبًا عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ التَّشْدِيدُ غَالِبًا
136
عَلَيْهِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبَحْثِ فِيهِ اسْتِقْصَاءٌ وَلَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى دَقِيقَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ أَقَلَّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي حُصُولِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ الْبَرَاءَةُ عَنِ الْمَكْرِ وَالْغَدْرِ وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ. وَقَوْلُهُ لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ عَيْنُ الْمَكْرِ وَالْغَدْرِ وَالْحَسَدِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ مَعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ؟ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ سَيُصِيبُهُمْ صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَمْرَيْنِ التَّعْظِيمُ وَالْمَنْفَعَةُ وَالْعِقَابُ أَيْضًا إِنَّمَا يَتِمُّ بِأَمْرَيْنِ الْإِهَانَةُ وَالضَّرَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَهُمْ بِمَجْمُوعِ هذين الأمرين في هذه الآية اما الاهابة فقوله سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الصَّغَارِ عَلَى ذِكْرِ الضَّرَرِ لِأَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا تَمَرَّدُوا عَنْ طَاعَةِ/ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَلَبًا لِلْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ يُقَابِلُهُمْ بِضِدِّ مَطْلُوبِهِمْ فَأَوَّلُ مَا يُوَصِّلُ إِلَيْهِمْ إِنَّمَا يُوَصِّلُ الصَّغَارَ وَالذُّلَّ وَالْهَوَانَ وَفِي قَوْلِهِ صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا الصَّغَارَ إِنَّمَا يَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ حَيْثُ لَا حَاكِمَ يُنَفِّذُ حُكْمَهُ سِوَاهُ. وَالثَّانِي أَنَّهُمْ يُصِيبُهُمْ صغار بحكم الله وإيجابه في در الدُّنْيَا فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الصَّغَارُ هَذَا حَالُهُ جَازَ أَنْ يُضَافَ إِلَى عِنْدَ اللَّهِ. الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ وَقَالَ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ مُعَدٌّ لَهُمْ ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صَغَارٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ كَلِمَةِ «مِنْ» وَأَمَّا بَيَانُ الضَّرَرِ وَالْعَذَابِ فَهُوَ قَوْلُهُ وَعَذابٌ شَدِيدٌ فَحَصَلَ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى أَعَدَّ لَهُمُ الْخِزْيَ الْعَظِيمَ وَالْعَذَابَ الشَّدِيدَ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُصِيبُهُمْ لِأَجْلِ مَكْرِهِمْ وكذبهم وحسدهم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٥]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الضَّلَالَ وَالْهِدَايَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَمَا أَنَّ لَفْظَهَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا فَلَفْظُهَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْعَبْدَ قَادِرٌ عَلَى الْإِيمَانِ وَقَادِرٌ عَلَى الْفِكْرِ فَقُدْرَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حَاصِلَةٌ عَلَى السَّوِيَّةِ فَيَمْتَنِعُ صُدُورُ الْإِيمَانِ عَنْهُ بَدَلًا مِنَ الْكُفْرِ أَوِ الْكُفْرِ بَدَلًا مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا إِذَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا عِلْمُهُ أَوِ اعْتِقَادُهُ أَوْ ظَنُّهُ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصْلَحَةٍ زَائِدَةٍ وَمَنْفَعَةٍ رَاجِحَةٍ فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقَلْبِ دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى فِعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَإِنْ حَصَلَ فِي الْقَلْبِ عِلْمٌ أَوِ اعْتِقَادٌ أَوْ ظَنٌّ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُشْتَمِلًا عَلَى ضَرَرٍ زَائِدٍ وَمَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى/ تَرْكِهِ وَبَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الدَّوَاعِي لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي يُوجِبُ الْفِعْلَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَصْدُرَ الْإِيمَانُ عَنِ الْعَبْدِ إِلَّا إِذَا خَلَقَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ اعْتِقَادَ أَنَّ الْإِيمَانَ رَاجِحُ الْمَنْفَعَةِ زَائِدُ الْمَصْلَحَةِ وَإِذَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ هَذَا الِاعْتِقَادُ مَالَ الْقَلْبُ وَحَصَلَ فِي النَّفْسِ رَغْبَةٌ شَدِيدَةٌ فِي
137
تَحْصِيلِهِ وَهَذَا هُوَ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ لِلْإِيمَانِ. فَأَمَّا إِذَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ اعْتِقَادُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ مَثَلًا سَبَبُ مَفْسَدَةٍ عَظِيمَةٍ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَيُوجِبُ الْمَضَارَّ الْكَثِيرَةَ فَعِنْدَ هَذَا يَتَرَتَّبُ عَلَى حُصُولِ هَذَا الِاعْتِقَادِ نَفْرَةٌ شَدِيدَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ الْإِيمَانَ قَوَّى دَوَاعِيَهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ الْكُفْرَ قَوَّى صَوَارِفَهُ عَنِ الْإِيمَانِ وَقَوَّى دَوَاعِيَهُ إِلَى الْكُفْرِ وَلَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَإِذَا انْطَبَقَ قَاطِعُ الْبُرْهَانِ عَلَى صريح لفظ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ وَرَاءَهُ بَيَانٌ وَلَا بُرْهَانٌ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَقَامَانِ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ بَيَانُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِكُمْ.
الْمَقَامُ الثَّانِي مَقَامُ التَّأْوِيلِ الْمُطَابِقِ لِمَذْهَبِنَا وَقَوْلِنَا.
أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَضَلَّ قَوْمًا أَوْ يُضِلُّهُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ مَتَى أَرَادَ أَنْ يَهْدِيَ إِنْسَانًا فَعَلَ بِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ وَإِذَا أَرَادَ إِضْلَالَهُ فَعَلَ بِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ ذَلِكَ أَوْ لَا يُرِيدُهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ [الْأَنْبِيَاءِ ١٧] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَفْعَلُ اللَّهْوَ لَوْ أَرَادَهُ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ ذَلِكَ وَلَا يَفْعَلُهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ بَلْ قَالَ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ الْمُرَادَ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ عَنِ الْإِيمَانِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي آخِرِ الْآيَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ بِهَذَا الْكَافِرِ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ فَقَالَ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً فَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ جَعْلَ الصَّدْرِ ضَيِّقًا حَرَجًا يَتَقَدَّمُ حُصُولُهُ عَلَى حُصُولِ الضَّلَالَةِ وَأَنَّ لِحُصُولِ ذَلِكَ الْمُتَقَدِّمِ أَثَرًا فِي حُصُولِ/ الضَّلَالِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. أَمَّا عِنْدَنَا فَلَا نَقُولُ بِهِ. وَأَمَّا عِنْدَكُمْ فَلِأَنَّ الْمُقْتَضَى لِحُصُولِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُهُ فِيهِ لِقُدْرَتِهِ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِكُمْ.
أَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِقَوْلِنَا فَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْجًبَّائِيُّ وَنَصَرَهُ الْقَاضِي فَنَقُولُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ حَتَّى يَثْبُتَ عَلَيْهِ وَلَا يَزُولَ عَنْهُ وَتَفْسِيرُ هَذَا الشَّرْحِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ بِهِ أَلْطَافًا تَدْعُوهُ إِلَى الْبَقَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَفِي هَذَا النَّوْعِ أَلْطَافٌ لَا يُمْكِنُ فِعْلُهَا بِالْمُؤْمِنِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا وَهِيَ بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا يَدْعُوهُ إِلَى الْبَقَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التَّغَابُنِ ١١] وَبِقَوْلِهِ وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الْعَنْكَبُوتِ ٦٩] فَإِذَا آمَنَ عَبْدٌ وَأَرَادَ اللَّهُ ثَبَاتَهُ فَحِينَئِذٍ يَشْرَحُ صَدْرَهُ أَيْ يَفْعَلُ بِهِ الْأَلْطَافَ الَّتِي تَقْتَضِي ثَبَاتَهُ عَلَى الْإِيمَانِ وَدَوَامَهُ عَلَيْهِ فَأَمَّا إِذَا كَفَرَ وَعَانَدَ وَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُضِلَّهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُلْقِي فِي صَدْرِهِ الضِّيقَ وَالْحَرَجَ. ثُمَّ سَأَلَ الجبائي نفسه
138
وَقَالَ كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَنَجِدُ الْكُفَّارَ طَيِّبِي النُّفُوسَ لَا غَمَّ لَهُمُ الْبَتَّةَ وَلَا حَزَنَ؟
وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُخْبِرْ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ طَيِّبِي الْقُلُوبِ. وَسَأَلَ الْقَاضِي نَفْسَهُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ سُؤَالًا آخَرَ فَقَالَ فَيَجِبُ أَنْ تَقْطَعُوا فِي كُلِّ كَافِرٍ بِأَنَّهُ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ الضِّيقَ وَالْحَرَجَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ.
وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ وَكَذَلِكَ نَقُولُ وَدَفْعُ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ خُصُوصًا عِنْدَ وُرُودِ أَدِلَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ ظُهُورِ نُصْرَةِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَعِنْدَ ظُهُورِ الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ فِيهِمْ هَذَا غَايَةُ تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي التَّأْوِيلِ قَالُوا لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ إِلَى الْجَنَّةِ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ؟ أَيْ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي يَهْدِيهِ فِيهِ إِلَى الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ وَجَدَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ وَالْمَرْتَبَةَ الشَّرِيفَةَ يَزْدَادُ رَغْبَةً فِي الْإِيمَانِ وَيَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ مَزِيدُ انْشِرَاحٍ وَمَيْلٍ إِلَيْهِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يُضَيِّقُ صَدْرَهُ وَيُحْرِجُ صَدْرَهُ بِسَبَبِ الْحُزْنِ الشَّدِيدِ الَّذِي نَالَهُ عِنْدَ الْحِرْمَانِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالدُّخُولِ فِي النَّارِ قَالُوا فَهَذَا وَجْهٌ قَرِيبٌ وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُ فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يُقَالَ حَصَلَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ فَيَكُونُ الْمَعْنَى مَنْ شَرَحَ صَدْرَ نَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أَيْ يَخُصَّهُ بِالْأَلْطَافِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ أَوْ يَهْدِيَهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَهْدِيهِ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَمَنْ جُعِلَ صَدْرُهُ ضَيِّقًا حَرَجًا عَنِ الْإِيمَانِ/ فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُضِلَّهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ أَوْ يُضِلَّهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحْرِمُهُ عَنِ الْأَلْطَافِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ فَهَذَا هُوَ مَجْمُوعُ كَلَامِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالُوهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يُضِلُّهُ بَلِ الْمَذْكُورُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُضِلَّهُ لَفَعَلَ كَذَا وَكَذَا.
فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ الْإِضْلَالَ لِأَنَّ حَرْفَ «الْكَافِ» فِي قَوْلِهِ كَذلِكَ يُفِيدُ التَّشْبِيهَ وَالتَّقْدِيرُ وَكَمَا جَعَلْنَا ذَلِكَ الضِّيقَ وَالْحَرَجَ فِي صَدْرِهِ فَكَذَلِكَ نَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ.
وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالُوهُ ثَانِيًا وَهُوَ قَوْلُهُ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُضِلَّهُ عَنِ الدِّينِ.
فَنَقُولُ إِنَّ قَوْلَهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ هُوَ أَنَّهُ يُضِلُّهُ عَنِ الدِّينِ.
وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالُوهُ ثَالِثًا مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُلْقِي ذَلِكَ الضِّيقَ وَالْحَرَجَ فِي صُدُورِهِمْ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ.
فَنَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ بَلِ الْمُرَادُ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ قُضِيَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَقَطَ ما ذكروه.
139
وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالُوهُ رَابِعًا مِنْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ضِيقُ الصَّدْرِ وَحَرَجُهُ شَيْئًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الضَّلَالِ وَمُوجِبًا لَهُ.
فَنَقُولُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا خَلَقَ فِي قَلْبِهِ اعْتِقَادًا بِأَنَّ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ يُوجِبُ الذَّمَّ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ يُوجِبُ إِعْرَاضَ النَّفْسِ وَنُفُورَ الْقَلْبِ عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَيَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْقَلْبِ نَفْرَةٌ وَنَبْوَةٌ عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَهَذِهِ الْحَالَةُ شَبِيهَةٌ بِالضِّيقِ الشَّدِيدِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ إِذَا كَانَ ضَيِّقًا لَمْ يَقْدِرِ الدَّاخِلُ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ إِذَا حَصَلَ فِيهِ هَذَا الِاعْتِقَادُ امْتَنَعَ دُخُولُ الْإِيمَانِ فِيهِ فَلِأَجْلِ حُصُولِ هَذِهِ الْمُشَابَهَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أُطْلِقَ لَفْظُ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ عَلَيْهِ فَقَدْ سَقَطَ هَذَا الْكَلَامُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إِلَى تَفْصِيلِ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ بِاسْتِيلَاءِ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ عَلَى قَلْبِ الْكَافِرِ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَ الْكَافِرَ عَنِ الْمُؤْمِنِ بِهَذَا الضِّيقِ وَالْحَرَجِ فَلَوْ/ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ حُصُولَ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يَحْصُلُ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ مِنَ الْغُمُومِ وَالْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ أَزْيَدَ مِمَّا يَحْصُلُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ زِيَادَةً يَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلِ الْأَمْرُ فِي حُزْنِ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ عَلَى السَّوِيَّةِ بَلِ الْحُزْنُ وَالْبَلَاءُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ أَكْثَرُ. قَالَ تَعَالَى وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزُّخْرُفِ ٣٣]
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خُصَّ الْبَلَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ بِالْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ».
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ أَيْضًا مَدْفُوعٌ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى إِيضَاحِ الْوَاضِحَاتِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْجَنَّةِ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَفْرَحُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْهِدَايَةِ وَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لِلْإِيمَانِ مَزِيدَ انْشِرَاحٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ الْمُرَادُ مَنْ يُضِلُّهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ يَضِيقُ قَلْبُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنَّ حُصُولَ هَذَا الْمَعْنَى مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ إِخْرَاجٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْفَائِدَةِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ يَقْتَضِي تَفْكِيكَ نَظْمِ الْآيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَحْصُلَ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُصُولُ الْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ وَأَنْتُمْ عَكَسْتُمُ الْقَضِيَّةَ فَقُلْتُمُ الْعَبْدُ يَجْعَلُ نَفْسَهُ أَوَّلًا مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ يَهْدِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَخُصُّهُ بِمَزِيدِ الْأَلْطَافِ الدَّاعِيَةِ لَهُ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالدَّلَائِلُ اللَّفْظِيَّةُ إِنَّمَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهَا إِذَا أَبْقَيْنَا مَا فِيهَا مِنَ التَّرْكِيبَاتِ وَالتَّرْتِيبَاتِ فَأَمَّا إِذَا أَبْطَلْنَاهَا وَأَزَلْنَاهَا لَمْ يُمْكِنِ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَصْلًا وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ أَنْ لَا يُمْكِنَ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ وَإِنَّهُ طَعْنٌ فِي الْقُرْآنِ وَإِخْرَاجٌ لَهُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْفَصْلُ فِي هَذِهِ السُّؤَالَاتِ ثُمَّ إِنَّا نَخْتِمُ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذِهِ الْخَاتِمَةِ الْقَاهِرَةِ وَهِيَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ فِعْلَ الْإِيمَانِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَحْصُلَ فِي الْقَلْبِ دَاعِيَةٌ جَازِمَةٌ إِلَى فِعْلِ الْإِيمَانِ وَفَاعِلُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَانِبِ الْكُفْرِ وَلَفْظُ الْآيَةِ مُنْطَبِقٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُ قَوَّى فِي قَلْبِهِ مَا يَدْعُوهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أَلْقَى فِي قَلْبِهِ مَا يَصْرِفُهُ عَنِ الْإِيمَانِ وَيَدْعُوهُ إِلَى الْكُفْرِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَجَمِيعُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ السُّؤَالَاتِ ساقط والله تعالى اعلم بالصواب.
140
المسألة الثانية فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ أَمَّا شَرْحُ الصَّدْرِ فَفِي تَفْسِيرِهِ وَجْهَانِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ قَالَ اللَّيْثُ يُقَالُ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ فَانْشَرَحَ أَيْ وَسَّعَ صدره لقبول ذلك الأمر فتوسع. وأقول إِنِ اللَّيْثَ فَسَّرَ شَرْحَ الصَّدْرِ بِتَوْسِيعِ الصَّدْرِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ/ يُوَسِّعَ صَدْرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِ تَوْسِيعِ الصَّدْرِ فَنَقُولُ تَحْقِيقُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا بَأْسَ بِإِعَادَتِهِ فَنَقُولُ إِذَا اعْتَقَدَ الْإِنْسَانُ فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ أَنَّ نَفْعَهُ زَائِدٌ وَخَيْرَهُ رَاجِحٌ مَالَ طَبْعُهُ إِلَيْهِ وَقَوِيَتْ رَغْبَتُهُ فِي حُصُولِهِ وَحَصَلَ فِي الْقَلْبِ اسْتِعْدَادٌ شَدِيدٌ لِتَحْصِيلِهِ فَتُسَمَّى هَذِهِ الْحَالَةُ بِسِعَةِ النَّفْسِ وَإِذَا اعْتَقَدَ فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ أَنَّ شَرَّهُ زَائِدٌ وَضَرَرَهُ رَاجِحٌ عَظُمَتِ النَّفْرَةُ عَنْهُ وَحَصَلَ فِي الطَّبْعِ نَفْرَةٌ وَنَبْوَةٌ عَنْ قَبُولِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّرِيقَ إِذَا كَانَ ضَيِّقًا لَمْ يَتَمَكَّنِ الدَّاخِلُ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ وَإِذَا كَانَ وَاسِعًا قَدَرَ الدَّاخِلُ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ فَإِذَا حَصَلَ اعْتِقَادٌ أَنَّ الْأَمْرَ الْفُلَانِيَّ زَائِدُ النَّفْعِ وَالْخَيْرِ وَحَصَلَ الْمَيْلُ إِلَيْهِ فَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ الْمَيْلُ فِي ذَلِكَ الْقَلْبِ فَقِيلَ اتَّسَعَ الصَّدْرُ لَهُ وَإِذَا حَصَلَ اعْتِقَادٌ أَنَّهُ زَائِدُ الضَّرَرِ وَالْمَفْسَدَةِ لَمْ يَحْصُلْ فِي الْقَلْبِ مَيْلٌ إِلَيْهِ فَقِيلَ إِنَّهُ ضَيِّقٌ فَقَدْ صَارَ الصَّدْرُ شَبِيهًا بِالطَّرِيقِ الضَّيِّقِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الدُّخُولُ فِيهِ فَهَذَا تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي سِعَةِ الصَّدْرِ وَضِيقِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الشَّرْحِ يُقَالُ شَرَحَ فُلَانٌ أَمْرَهُ إِذَا أَظْهَرَهُ وَأَوْضَحَهُ وَشَرَحَ الْمَسْأَلَةَ إِذَا كَانَتْ مُشْكِلَةً فَبَيَّنَهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الشَّرْحِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْجَانِبِ الْحَقِّ لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِهِ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزُّمَرِ ٢٢] وَفِي الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النَّحْلِ ١٠٦]
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَقِيلَ لَهُ كَيْفَ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «يَقْذِفُ فِيهِ نُورًا حَتَّى يَنْفَسِحَ وَيَنْشَرِحَ» فَقِيلَ لَهُ وَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ أَمَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ»
وَأَقُولُ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ شَرْحِ اللَّهِ الصَّدْرَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَصَوَّرَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ زَائِدُ النَّفْعِ وَالْخَيْرِ وَأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا زَائِدُ الضَّرَرِ وَالشَّرِّ فَإِذَا حَصَلَ الْجَزْمُ بِذَلِكَ إِمَّا بِالْبُرْهَانِ أَوْ بِالتَّجْرِبَةِ أَوِ التَّقْلِيدِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى حُصُولِ هَذَا الِاعْتِقَادِ حُصُولُ الرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِنَابَةِ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالنَّفْرَةِ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَأَمَّا الِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ فَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي النَّفْرَةَ عَنِ الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةَ فِي الْآخِرَةِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ قَبْلَ حُصُولِ الْفِعْلِ وَشَرْحُ الصَّدْرِ لِلْإِيمَانِ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُولِ الدَّاعِي إِلَى الْإِيمَانِ فَلِهَذَا الْمَعْنَى أَشْعَرَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ شَرْحَ الصَّدْرِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى حُصُولِ الْإِسْلَامِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَانِبِ الْكُفْرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً فَفِيهِ مَبَاحِثُ الْبَحْثُ الْأَوَّلُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ضَيْقًا سَاكِنَةَ الْيَاءِ وَكَذَا فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَالْبَاقُونَ مُشَدَّدَةَ الْيَاءِ مَكْسُورَةً فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَدَّدُ وَالْمُخَفَّفُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَسَيِّدٍ وَسَيْدٍ وَهَيِّنٍ وَهَيْنٍ وَلَيِّنٍ وَلَيْنٍ وَمَيِّتٍ وَمَيْتٍ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ حَرِجًا بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَهُوَ فِي كَسْرِهِ وَنَصْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَجَلِ وَالْوَجِلِ وَالْقَرَدِ وَالْقَرِدِ وَالدَّنَفِ وَالدَّنِفِ قَالَ الزَّجَّاجُ الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ أَضْيَقُ الضِّيقِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ ضَيِّقٌ جِدًّا
141
فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ رَجُلٌ حَرَجُ الصَّدْرِ بِفَتْحِ الرَّاءِ فَمَعْنَاهُ ذُو حَرَجٍ فِي صَدْرِهِ وَمَنْ قَالَ حَرِجَ جَعَلَهُ فَاعِلًا وَكَذَلِكَ رَجُلٌ دَنَفٌ ذُو دَنَفٍ وَدَنِفٌ نَعْتٌ.
الْبَحْثُ الثَّانِي قَالَ بَعْضُهُمْ الْحَرِجُ بِكَسْرِ الرَّاءِ الضَّيِّقُ وَالْحَرَجُ بِالْفَتْحِ جَمْعُ حَرَجَةٍ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْكَثِيرُ الْأَشْجَارِ الَّذِي لَا تَنَالُهُ الرَّاعِيَةُ. وَحَكَى الْوَاحِدِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ حِكَايَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا رُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ هَلْ هَاهُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ. قَالَ رَجُلٌ نَعَمْ. قَالَ مَا الْحَرَجَةُ فِيكُمْ. قَالَ الْوَادِي الْكَثِيرُ الشَّجَرِ الْمُشْتَبِكُ الَّذِي لَا طَرِيقَ فِيهِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ. وَالثَّانِيَةُ رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ قَالَ قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ ائْتُونِي بِرَجُلٍ مِنْ كِنَانَةَ جَعَلُوهُ رَاعِيًا فَأَتَوْا بِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا فَتَى مَا الْحَرَجَةُ فِيكُمْ. قَالَ الْحَرَجَةُ فِينَا الشَّجَرَةُ تُحْدِقُ بِهَا الْأَشْجَارُ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهَا رَاعِيَةٌ وَلَا وحشية. فقال عمر وكذلك قَلْبُ الْكَافِرِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ فَفِيهِ بَحْثَانِ الْبَحْثُ الْأَوَّلُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرِ يَصْعَدُ سَاكِنَةَ الصَّادِ وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ يَصَّاعَدُ بِالْأَلِفِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ بِمَعْنَى يَتَصَاعَدُ وَالْبَاقُونَ يَصَّعَّدُ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَالْعَيْنِ بِغَيْرِ أَلِفٍ أَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ يَصْعَدُ فَهِيَ مِنَ الصُّعُودِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ فِي نُفُورِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَثِقَلِهِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مِنْ تَكَلَّفَ الصُّعُودَ إِلَى السَّمَاءِ فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ ثَقِيلٌ عَلَى الْقَلْبِ فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ ثَقِيلٌ عَلَى قَلْبِ الْكَافِرِ وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ يَصَّاعَدُ فَهُوَ مِثْلُ يَتَصَاعَدُ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ يَصَّعَّدُ فَهِيَ بِمَعْنَى يَتَصَعَّدُ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ وَمَعْنَى يَتَصَعَّدُ يَتَكَلَّفُ مَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّشْبِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كُلِّفَ الصُّعُودَ إِلَى السَّمَاءِ ثَقُلَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ عَلَيْهِ وَعَظُمَ وَصَعُبَ عَلَيْهِ وَقَوِيَتْ نَفْرَتُهُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ وَتَعْظُمُ نَفْرَتُهُ عَنْهُ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنَّ قَلْبَهُ يَنْبُو عَنِ الْإِسْلَامِ وَيَتَبَاعَدُ عَنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ فَشَبَّهَ ذَلِكَ الْبُعْدَ بِبُعْدِ مَنْ يَصْعَدُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ.
أَمَّا قوله كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَفِيهِ بَحْثَانِ الْبَحْثُ الْأَوَّلُ الْكَافُ فِي قَوْلِهِ كَذلِكَ يُفِيدُ التَّشْبِيهَ بِشَيْءٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ التَّقْدِيرُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَيْهِمْ كَجَعْلِهِ ضِيقَ الصَّدْرِ فِي قُلُوبِهِمْ. وَالثَّانِي قَالَ الزَّجَّاجُ التَّقْدِيرُ مِثْلُ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ.
الْبَحْثُ الثَّانِي اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الرِّجْسَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الشَّيْطَانُ يُسَلِّطُهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ الرِّجْسَ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ الرِّجْسَ الْعَذَابُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ الرِّجْسَ اللَّعْنَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ.
وَلْنَخْتِمْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا
رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ قَالَ تَذَاكَرْنَا فِي أَمْرِ الْقَدَرِيَّةِ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ لُعِنَتِ الْقَدَرِيَّةُ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نبيا منهم نبينا صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ وَقَدْ جُمِعَ النَّاسُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْكُلُّ أَيْنَ خُصَمَاءُ اللَّهِ فَتَقُومُ الْقَدَرِيَّةُ وَقَدْ أَوْرَدَ الْقَاضِي هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَقَالَ هَذَا
142
الْحَدِيثُ مِنْ أَقْوَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ هُمُ الَّذِينَ يَنْسِبُونَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَضَاءً وَقَدَرًا وَخَلْقًا لِأَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ هُمْ خُصَمَاءُ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلَّهِ أَيُّ ذَنْبٍ لَنَا حَتَّى تُعَاقِبَنَا وَأَنْتَ الَّذِي خَلَقْتَهُ فِينَا وَأَرَدْتَهُ مِنَّا وَقَضَيْتَهُ عَلَيْنَا وَلَمْ تَخْلُقْنَا إِلَّا لَهُ وَمَا يَسَّرْتَ لَنَا غَيْرَهُ فَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ اللَّهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحُجَّةِ أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ مَكَّنَ وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ وَإِنَّمَا أَتَى الْعَبْدُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَكَلَامُهُ مُوَافِقٌ لِمَا يُعَامَلُ بِهِ مِنْ إِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ فَلَا يَكُونُونَ خُصَمَاءَ اللَّهِ بَلْ يَكُونُونَ مُنْقَادِينَ لِلَّهِ هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَهُوَ عَجِيبٌ جِدًّا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ يَبْعُدُ مِنْكَ أَنَّكَ مَا عَرَفْتَ مِنْ مَذَاهِبِ خُصُومِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ وَلَا اسْتِحْقَاقٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَأَنَّ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الرَّبُّ فِي الْعَبْدِ فَهُوَ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ عَلَى الرَّبِّ اعْتِرَاضٌ وَلَا مُنَاظَرَةٌ فَكَيْفَ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ الَّذِي هَذَا دِينُهُ وَاعْتِقَادُهُ خَصْمًا لِلَّهِ تَعَالَى. أَمَّا الَّذِينَ يَكُونُونَ خُصَمَاءَ لِلَّهِ فَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ وُجُوبَ الثَّوَابِ وَالْعِوَضِ وَيَقُولُ لَوْ لَمْ تُعْطِنِي ذَلِكَ لَخَرَجْتَ عَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَصِرْتَ مَعْزُولًا عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ وَصِرْتَ مِنْ جُمْلَةِ السُّفَهَاءِ فَهَذَا الَّذِي مَذْهَبُهُ وَاعْتِقَادُهُ ذَلِكَ هُوَ الْخَصْمُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي أَنَّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى الْكُفْرِ سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ إِنَّهُ فِي آخِرِ زَمَنِ حَيَاتِهِ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَنِ الْقَلْبِ ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَعْطَاهُ النِّعَمَ الْفَائِقَةَ وَالدَّرَجَاتِ الزَّائِدَةَ أَلْفَ أَلْفِ سَنَةٍ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ تِلْكَ النِّعَمَ عَنْهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً فَذَلِكَ الْعَبْدُ يَقُولُ أَيُّهَا الْإِلَهُ إِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تَتْرُكَ ذَلِكَ لَحْظَةً وَاحِدَةً فَإِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً صِرْتَ مَعْزُولًا عَنِ الْإِلَهِيَّةِ/ وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِقْدَامَ ذَلِكَ الْعَبْدِ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ لَحْظَةً وَاحِدَةً أَوْجَبَ عَلَى الْإِلَهِ إِيصَالَ تِلْكَ النِّعَمِ مُدَّةً لَا آخِرَ لَهَا وَلَا طَرِيقَ لَهُ الْبَتَّةَ إِلَى الْخَلَاصِ عَنْ هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَهَذَا هُوَ الْخُصُومَةُ. أَمَّا مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَا يُوصَلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الثَّوَابِ فَهُوَ تَفَضُّلٌ وَإِحْسَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا لَا يَكُونُ خَصْمًا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْخُصُومَةِ مَا حُكِيَ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ لَمَّا فَارَقَ مَجْلِسَ أُسْتَاذِهِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَتَرَكَ مَذْهَبَهُ وَكَثُرَ اعْتِرَاضُهُ عَلَى أَقَاوِيلِهِ عَظُمَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا فَاتَّفَقَ أَنَّ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ عَقَدَ الْجُبَّائِيُّ مَجْلِسَ التَّذْكِيرِ وَحَضَرَ عِنْدَهُ عَالَمٌ مِنَ النَّاسِ وَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ إِلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَجَلَسَ فِي بَعْضِ الْجَوَانِبِ مُخْتَفِيًا عَنِ الْجُبَّائِيِّ وَقَالَ لِبَعْضِ مَنْ حَضَرَ هُنَاكَ مِنَ الْعَجَائِزِ إِنِّي أُعَلِّمُكِ مَسْأَلَةً فَاذْكُرِيهَا لِهَذَا الشَّيْخِ قُولِي لَهُ كَانَ لِي ثَلَاثَةٌ مِنَ الْبَنِينَ وَاحِدٌ كَانَ فِي غَايَةِ الدِّينِ وَالزُّهْدِ وَالثَّانِي كَانَ فِي غَايَةِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ وَالثَّالِثُ كَانَ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغْ فَمَاتُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ فَأَخْبِرْنِي أَيُّهَا الشَّيْخُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ. فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ أَمَّا الزَّاهِدُ فَفِي دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَفِي دَرَكَاتِ النَّارِ وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَمِنْ أَهْلِ السَّلَامَةِ. قَالَ قُولِي لَهُ لَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا أَخُوهُ الزَّاهِدُ هَلْ يُمْكِنُ مِنْهُ. فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ لَا لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَهُ إِنَّمَا وَصَلَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَأَنْتَ فَلَيْسَ مَعَكَ ذَاكَ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ قُولِي لَهُ لَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ حِينَئِذٍ يَقُولُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ لَيْسَ الذَّنْبُ لِي لِأَنَّكَ أَمَتَّنِي قَبْلَ الْبُلُوغِ وَلَوْ أَمْهَلْتَنِي فَرُبَّمَا زِدْتُ عَلَى أَخِي الزَّاهِدِ فِي الزُّهْدِ وَالدِّينِ. فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ يَقُولُ اللَّهُ لَهُ عَلِمْتُ أَنَّكَ لَوْ عِشْتَ لَطَغَيْتَ وَكَفَرْتَ وَكُنْتَ تَسْتَوْجِبُ النَّارَ فَقَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ رَاعَيْتُ مَصْلَحَتَكَ وَأَمَتُّكَ حَتَّى تَنْجُوَ مِنَ الْعِقَابِ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ قُولِي لَهُ لَوْ أَنَّ الْأَخَ الْكَافِرَ الْفَاسِقَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ فَقَالَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَيَا أَحْكَمَ الْحَاكِمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ كَمَا عَلِمْتَ مِنْ ذَلِكَ الْأَخِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ
143
كَفَرَ عَلِمْتَ مِنِّي ذَلِكَ فَلِمَ رَاعَيْتَ مَصْلَحَتَهُ وَمَا رَاعَيْتَ مَصْلَحَتِي؟ قَالَ الرَّاوِي: فَلَمَّا وَصَلَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ انْقَطَعَ الْجُبَّائِيُّ. فَلَمَّا نَظَرَ رَأَى أَبَا الْحَسَنِ فَعَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْهُ لَا مِنَ الْعَجُوزِ ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّ جَاءَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَدْوَارٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ بَعْدِ الْجُبَّائِيِّ فَأَرَادَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فَقَالَ: نَحْنُ لَا نَرْضَى فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ بِهَذَا الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ بَلْ لَنَا هَاهُنَا جَوَابَانِ آخَرَانِ سِوَى مَا ذَكَرْتُمْ ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ شُيُوخُنَا فِيهَا وَهِيَ أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَلِّفَ الْعَبْدَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ:
التَّكْلِيفُ مَحْضُ التَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: إِنَّهُ وَاجِبٌ/ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: فَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ فَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لِذَلِكَ الصَّبِيِّ إِنِّي طَوَّلْتُ عُمُرَ الْأَخِ الزَّاهِدِ وَكَلَّفْتُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِي مُتَفَضِّلًا عَلَى أَخِيكَ الزَّاهِدِ بِهَذَا الْفَضْلِ أَنْ أَكُونَ مُتَفَضِّلًا عَلَيْكَ بِمِثْلِهِ وَأَمَّا إِنْ فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِطَالَةَ عُمُرِ أَخِيكَ وَتَوْجِيهَ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ كَانَ إِحْسَانًا فِي حَقِّهِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ عَوْدُ مَفْسَدَةٍ إِلَى الْغَيْرِ فَلَا جَرَمَ فَعَلْتُهُ وَأَمَّا إِطَالَةُ عُمُرِكَ وَتَوْجِيهُ التَّكْلِيفِ عَلَيْكَ كَانَ يَلْزَمُ مِنْهُ عَوْدُ مَفْسَدَةٍ إِلَى غَيْرِكَ فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فِي حَقِّكَ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. هَذَا تَلْخِيصُ كلام ابي الحسن الْبَصْرِيِّ سَعْيًا مِنْهُ فِي تَخْلِيصِ شَيْخِهِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ سُؤَالِ الْأَشْعَرِيِّ بَلْ سَعْيًا مِنْهُ فِي تَخْلِيصِ إِلَهِهِ عَنْ سُؤَالِ الْعَبْدِ وَأَقُولُ قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْجَوَابِ عَنْ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ صِحَّةُ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ الدَّقِيقَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ إِنَّمَا لَزِمَتْ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَلَا مُنَاظَرَةَ الْبَتَّةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الرَّبِّ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ لِرَبِّهِ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ أَوْ مَا فَعَلْتَ كَذَا فَثَبَتَ أَنَّ خُصَمَاءَ اللَّهِ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ لَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَذَلِكَ يُقَوِّي غَرَضَنَا وَيُحَصِّلُ مَقْصُودَنَا ثُمَّ نَقُولُ:
أَمَّا الْجَوَابُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ إِطَالَةَ الْعُمُرِ وَتَوْجِيهَ التَّكْلِيفِ تَفَضُّلٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ فَنَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ مَدْفُوعٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لما او صل التَّفَضُّلَ إِلَى أَحَدِهِمَا فَالِامْتِنَاعُ مِنْ إِيصَالِهِ إِلَى الثَّانِي قَبِيحٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْإِيصَالَ إِلَى هَذَا الثَّانِي لَيْسَ فِعْلًا شَاقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُوجِبُ دُخُولَ نُقْصَانٍ فِي مُلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَهَذَا الثَّانِي يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ التَّفَضُّلِ وَمِثْلُ هَذَا الِامْتِنَاعِ قَبِيحٌ فِي الشَّاهِدِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ مِنَ النَّظَرِ فِي مِرْآتِهِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَى الْجِدَارِ لِعَامَّةِ النَّاسِ قَبُحَ ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّهُ مَنْعٌ مِنَ النَّفْعِ مِنْ غَيْرِ انْدِفَاعِ ضَرَرٍ إِلَيْهِ وَلَا وُصُولِ نَفْعٍ إِلَيْهِ فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْعَقْلِ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ مَقْبُولًا فَلْيَكُنْ مَقْبُولًا هَاهُنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا الْبَتَّةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ وَتَبْطُلُ كُلِّيَّةُ مَذْهَبِكُمْ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ فَاسِدٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي: فَهُوَ أَيْضًا فَاسِدٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَنَا تَكْلِيفُهُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ يُوجِبُ لِذَاتِهِ حُصُولَ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَحْصُلَ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ أَبَدًا فِي حَقِّ الْكُلِّ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ بَلْ مَعْنَاهُ:
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا كَلَّفَ هَذَا الشَّخْصَ فَإِنَّ إِنْسَانًا آخَرَ يَخْتَارُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فِعْلًا قَبِيحًا فَإِنِ اقْتَضَى هَذَا الْقَدَرُ أَنْ يَتْرُكَ اللَّهُ تَكْلِيفَهُ فَكَذَلِكَ قَدْ عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ الْكَافِرِ أَنَّهُ إِذَا كَلَّفَهُ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ الْكُفْرَ عِنْدَ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ فَوَجَبَ أَنْ يَتْرُكَ تَكْلِيفَهُ وَذَلِكَ يُوجِبُ قُبْحَ تَكْلِيفِ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَكْفُرُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ هَاهُنَا لَمْ يَجِبْ هُنَالِكَ وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَالَى تَرْكُ التَّكْلِيفِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ يَخْتَارُ فِعْلًا قَبِيحًا عِنْدَ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ/ إِذَا عَلِمَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ يَخْتَارُ الْقَبِيحَ عِنْدَ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ فَهَذَا محض التحكم
144
فَثَبَتَ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي اسْتَخْرَجَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بِلَطِيفِ فِكْرِهِ وَدَقِيقِ نَظَرِهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَدْوَارٍ ضَعِيفٌ وَظَهَرَ أَنَّ خُصَمَاءَ اللَّهِ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ لا أصحابنا والله اعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٦]
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)
[في قوله تعالى وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَهذا إِشَارَةٌ إِلَى مَذْكُورٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرَهُ وَقَرَّرَهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّاعِي وَحُصُولِ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ كَوْنُ الْفِعْلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّوْحِيدَ الْمَحْضَ وَهُوَ كَوْنُهُ تَعَالَى مُبْدِئًا لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ صِرَاطًا لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ يُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ بِالتَّوْحِيدِ الْحَقِّ وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مُسْتَقِيمًا لِأَنَّ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ رُجْحَانَ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ إِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى الْمُرَجِّحِ أَوْ لَا يَتَوَقَّفَ فَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى الْمُرَجِّحِ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ الْفِعْلُ لَا يَصْدُرُ عَنِ الْقَادِرِ إِلَّا عِنْدَ انْضِمَامِ الدَّاعِي إِلَيْهِ وَحِينَئِذٍ يَتِمُّ قَوْلُنَا وَيَكُونُ الْكُلُّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَيَبْطُلُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ رُجْحَانُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ عَلَى مُرَجِّحٍ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الِاسْتِغْنَاءُ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُحْدَثَاتِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ نَفْيُ الصُّنْعِ وَالصَّانِعِ وَإِبْطَالُ الْقَوْلِ بِالْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ وَالتَّأْثِيرِ وَالْمُؤَثِّرِ فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا الرُّجْحَانَ يَحْتَاجُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ دُونَ الْبَعْضِ كَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةُ فَهُوَ مُعْوَجٌّ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ إِنَّمَا الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ الْحَاجَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ يُوجِبُ عَيْنَ مَذْهَبِنَا فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ هَذَا الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ دِينُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَعْنِي الْقُرْآنَ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ عَوْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ أَوْلَى.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمُتَابَعَةِ مَا فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ لَا مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا ذَكَرَ شَيْئًا وَبَالَغَ فِي الْأَمْرِ بِالتَّمَسُّكِ بِهِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ وَأَنَّهُ يَجِبُ إِجْرَاؤُهَا/ عَلَى ظَاهِرِهَا وَيَحْرُمُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: انْتَصَبَ مُسْتَقِيمًا عَلَى الْحَالِ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى «هَذَا» وَذَلِكَ لِأَنَّ «ذَا» يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْإِشَارَةِ كَقَوْلِكَ: هَذَا زِيدٌ قَائِمًا مَعْنَاهُ أُشِيرُ إِلَيْهِ فِي حَالِ قِيَامِهِ وَإِذَا كَانَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَعْنَى الْفِعْلِ لَا الْفِعْلُ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ الْحَالِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ قَائِمًا هَذَا زِيدٌ وَيَجُوزُ ضَاحِكًا جَاءَ زَيْدٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ.
فنقول: اما تفضيل الْآيَاتِ فَمَعْنَاهُ ذِكْرُهَا فَصْلًا فَصْلًا بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِطُ وَاحِدٌ مِنْهَا بِالْآخَرِ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ صِحَّةَ الْقَوْلِ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مُتَوَالِيَةٍ مُتَعَاقِبَةٍ بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَوُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ فَالَّذِي أَظُنُّهُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا جَعَلَ مَقْطَعَ هَذِهِ الْآيَةِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي عَقْلِ كُلِّ وَاحِدٍ أَنَّ أَحَدَ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ لَا يَتَرَجَّحُ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمُعْتَزِلِيِّ: أَيُّهَا
الْمُعْتَزِلِيُّ تَذَكَّرْ مَا تَقَرَّرَ فِي عَقْلِكَ أَنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ حَتَّى تَزُولَ الشُّبْهَةُ عَنْ قَلْبِكَ بالكلية في مسالة القضاء والقدر.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٧]
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ عَظِيمَ نِعَمِهِ فِي الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَبَيَّنَ انه تعالى معد مهيئ لِمَنْ يَكُونُ مِنَ الْمَذْكُورِينَ بَيَّنَ الْفَائِدَةَ الشَّرِيفَةَ الَّتِي تَحْصُلُ مِنَ الْتَمَسُّكِ بِذَلِكَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَقَالَ: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَشْرِيفَاتٌ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: لَهُمْ دارُ السَّلامِ وَهَذَا يُوجِبُ الْحَصْرَ فَمَعْنَاهُ: لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ لَا لِغَيْرِهِمْ وَفِي قَوْلِهِ: دارُ السَّلامِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ السَّلَامَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَدَارُ السَّلَامِ هِيَ الدَّارُ الْمُضَافَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قِيلَ لِلْكَعْبَةِ بَيْتُ اللَّهِ تَعَالَى وَلِلْخَلِيفَةِ عَبْدُ اللَّهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ السَّلَامَ صِفَةُ الدَّارِ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى دَارُ السَّلَامَةِ وَالْعَرَبُ تُلْحِقُ هَذِهِ الْهَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَادِرِ وَتَحْذِفُهَا يَقُولُونَ ضَلَالٌ وَضَلَالَةٌ وَسَفَاهٌ وَسَفَاهَةٌ وَلَذَاذٌ وَلَذَاذَةٌ وَرَضَاعٌ وَرَضَاعَةٌ.
الثَّانِي: أَنَّ السَّلَامَ جَمْعُ السَّلَامَةِ وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْجَنَّةُ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ/ أَنْوَاعَ السَّلَامَةِ حَاصِلَةٌ فِيهَا بِأَسْرِهَا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ: فَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالُوا بِهِ لِأَنَّهُ أَوْلَى لِأَنَّ إِضَافَةَ الدَّارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى نِهَايَةٌ فِي تَشْرِيفِهَا وَتَعْظِيمِهَا وَإِكْبَارِ قَدْرِهَا فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي رَجَّحُوا قَوْلَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وَصْفَ الدَّارِ بِكَوْنِهَا دَارَ السَّلَامَةِ أَدْخَلُ فِي التَّرْغِيبِ مِنْ إِضَافَةِ الدَّارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّانِي: أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ السَّلَامُ فِي الْأَصْلِ مَجَازٌ وَإِنَّمَا وُصِفَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذُو السَّلَامِ فَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَانَ أَوْلَى.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْفَوَائِدِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ مَعَدٌّ عِنْدَهُ تَعَالَى كَمَا تَكُونُ الْحُقُوقُ مُعَدَّةً مُهَيَّأَةً حَاضِرَةً وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تعالى:
جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [البينة: ٨] وَذَلِكَ نِهَايَةٌ فِي بَيَانِ وُصُولِهِمْ إِلَيْهَا وَكَوْنِهِمْ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ أَنَّ قَوْلَهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْمُدَّخَرَ مَوْصُوفٌ بِالْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الْقُرْبُ لَا يَكُونُ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ فَوَجَبَ كَوْنُهُ بِالشَّرَفِ وَالْعُلُوِّ وَالرُّتْبَةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ بَلَغَ فِي الْكَمَالِ وَالرِّفْعَةِ إِلَى حَيْثُ لَا يَعْرِفُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السَّجْدَةِ: ١٧].
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٩] وَقَالَ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا-
أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لِأَجْلِي
- وَقَالَ أَيْضًا-
أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي
- وَقَالَ فِي صِفَتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَرِ: ٥٥] وَقَالَ فِي دَارِهِمْ: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَقَالَ فِي ثَوَابِهِمْ: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الْبَيِّنَةِ: ٨] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ كَمَالِ صِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ بِوَاسِطَةِ صِفَةِ العندية.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ التَّشْرِيفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ وَالْوَلِيُّ مَعْنَاهُ الْقَرِيبُ فَقَوْلُهُ:
عِنْدَ رَبِّهِمْ يَدُلُّ عَلَى قُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ اللَّهِ مِنْهُمْ وَلَا نَرَى فِي الْعَقْلِ دَرَجَةً لِلْعَبْدِ أَعْلَى مِنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ يُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْ لَا وَلِيَّ لَهُمْ إِلَّا هُوَ وَكَيْفَ وَهَذَا التَّشْرِيفُ إِنَّمَا حَصَلَ عَلَى التَّوْحِيدِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً فَهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ قَدْ عَرَفُوا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُدَبِّرَ وَالْمُقَدِّرَ لَيْسَ إِلَّا هُوَ وَأَنَّ النَّافِعَ وَالضَّارَّ لَيْسَ إِلَّا هُوَ وَأَنَّ الْمُسْعِدَ وَالْمُشْقِيَ لَيْسَ إِلَّا هُوَ وَأَنَّهُ لَا مُبْدِئَ لِلْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ إِلَّا هُوَ فَلَمَّا عَرَفُوا هَذَا انْقَطَعُوا عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَمَا كَانَ رُجُوعُهُمْ إِلَّا إِلَيْهِ وَمَا كَانَ تَوَكُّلُهُمْ إِلَّا عَلَيْهِ وَمَا كَانَ أُنْسُهُمْ إِلَّا بِهِ/ وَمَا كَانَ خُضُوعُهُمْ إِلَّا لَهُ فَلَمَّا صَارُوا بِالْكُلِّيَّةِ لَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ وَهَذَا إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُتَكَفِّلٌ بِجَمِيعِ مَصَالِحِهِمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَيَدْخُلُ فِيهَا الْحِفْظُ وَالْحِرَاسَةُ وَالْمَعُونَةُ وَالنُّصْرَةُ وَإِيصَالُ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعُ الْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ الْمَرْءُ عَنِ الْعَمَلِ فَإِنَّ الْعَمَلَ لَا بُدَّ مِنْهُ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ: أَنَّ بَيْنَ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ تَعَلُّقًا شديدا فكما ان الهيآت النَّفْسَانِيَّةَ قَدْ تَنْزِلُ مِنَ النَّفْسِ إِلَى الْبَدَنِ مِثْلَ مَا إِذَا تَصَوَّرَ أَمْرًا مُغْضِبًا ظَهَرَ الأثر عليه في البدن وفيسخن البدن ويحمى فكذلك الهيآت الْبَدَنِيَّةُ قَدْ تَصْعَدُ مِنَ الْبَدَنِ إِلَى النَّفْسِ فَإِذَا وَاظَبَ الْإِنْسَانُ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ ظهر الْآثَارُ الْمُنَاسِبَةُ لَهَا فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّالِكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى تركه البتة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٨]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨)
[في قوله تعالى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بَيَّنَ بَعْدَهُ حَالَ مَنْ يَكُونُ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ لِتَكُونَ قِصَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ مُرْدَفَةً بِقِصَّةِ أَهْلِ النَّارِ وَلِيَكُونَ الْوَعِيدُ مَذْكُورًا بَعْدَ الْوَعْدِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ مَنْصُوبٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ وَاذْكُرْ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ أَوْ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ قُلْنَا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ أَوْ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ وَقُلْنَا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ كَانَ مَا لَا يُوصَفُ لِفَظَاعَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: يَعُودُ إِلَى الْمَعْلُومِ لَا إِلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ الثَّقَلَانِ وَجَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ الَّذِينَ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الانعام: ١١٢].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا فَنَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ فَيَكُونُ هَذَا الْقَائِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا أَنَّهُ الْحَاشِرُ لِجَمِيعِهِمْ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ تَعَالَى بَعْدَ الْحَشْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا تَبْكِيتًا وَبَيَانًا لِجِهَةِ أَنَّهُمْ وَإِنْ تَمَرَّدُوا فِي الدُّنْيَا فَيَنْتَهِي حَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْجُرْمِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
التَّقْدِيرُ فَيُقَالُ لَهُمْ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ مَعَ الْكُفَّارِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي صفة
147
الْكُفَّارِ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الْبَقَرَةِ: ١٧٤].
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ فَنَقُولُ: هَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ لِأَنَّ الْجِنَّ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسِ لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْجِسْمِ وَعَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْفِعْلِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى الضَّلَالِ مَعَ مُصَادَفَةِ الْقَبُولِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ فَالْأَقْرَبُ أَنَّ فِيهِ حَذْفًا فَكَمَا قَالَ لِلْجِنِّ تَبْكِيتًا فَكَذَلِكَ قَالَ لِلْإِنْسِ تَوْبِيخًا لِأَنَّهُ حَصَلَ مِنَ الْجِنِّ الدُّعَاءُ وَمِنَ الْإِنْسِ الْقَبُولُ وَالْمُشَارَكَةُ حَاصِلَةٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فَلَمَّا بَكَّتَ تَعَالَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ حَكَى هَاهُنَا جَوَابَ الْإِنْسِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ فَوَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّوَفُّرِ عَلَى مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَالِاسْتِمْتَاعِ بِلَذَّاتِهَا إِلَى أَنْ بَلَغُوا هَذَا الْمَبْلَغَ الَّذِي عِنْدَهُ أَيْقَنُوا بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ. ثُمَّ هَاهُنَا قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُمُ اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ اسْتَمْتَعَ الْجِنُّ بِالْإِنْسِ وَالْإِنْسُ بِالْجِنِّ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ الِاسْتِمْتَاعِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى هَذَا الِاسْتِمْتَاعِ هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا سَافَرَ فَأَمْسَى بِأَرْضٍ قَفْرٍ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ قَالَ: أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ فَيَبِيتُ آمِنًا فِي نَفْسِهِ فَهَذَا اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ وَأَمَّا اسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ فَهُوَ أَنَّ الْإِنْسِيَّ إِذَا عَاذَ بِالْجِنِّيِّ كَانَ ذَلِكَ تَعْظِيمًا مِنْهُمْ لِلْجِنِّ وَذَلِكَ الْجِنِّيُّ يَقُولُ: قَدْ سُدْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِأَنَّ الْإِنْسِيَّ قَدِ اعْتَرَفَ لَهُ بِأَنَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَالْكَلْبِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الْجِنِّ: ٦].
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذَا الِاسْتِمْتَاعِ أَنَّ الْإِنْسَ كَانُوا يُطِيعُونَ الْجِنَّ وَيَنْقَادُونَ لِحُكْمِهِمْ فَصَارَ الْجِنُّ كَالرُّؤَسَاءِ وَالْإِنْسُ كَالْأَتْبَاعِ وَالْخَادِمِينَ الْمُطِيعِينَ الْمُنْقَادِينَ الَّذِينَ لَا يُخَالِفُونَ رَئِيسَهُمْ وَمَخْدُومَهُمْ فِي قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الرَّئِيسَ قَدِ انْتَفَعَ بِهَذَا الْخَادِمِ فَهَذَا اسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ. وَأَمَّا اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ فَهُوَ أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَدُلُّونَهُمْ عَلَى أَنْوَاعِ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ وَيُسَهِّلُونَ تِلْكَ الْأُمُورَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَمَنْ كَانَ يَقُولُ مِنَ الْإِنْسِ أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي قَلِيلٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ هُوَ كَلَامُ الْإِنْسِ خَاصَّةً لِأَنَّ اسْتِمْتَاعَ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ وَبِالْعَكْسِ أَمْرٌ قَلِيلٌ نَادِرٌ لَا يَكَادُ يَظْهَرُ أَمَّا اسْتِمْتَاعُ بَعْضِ الْإِنْسِ بِبَعْضٍ فَهُوَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ فَوَجَبَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ كَلَامُ الْإِنْسِ الَّذِينَ هُمْ أَوْلِيَاءُ الْجِنِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ اسْتِمْتَاعِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ اسْتِمْتَاعَ بَعْضِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ بِبَعْضٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا فَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِمْتَاعَ كَانَ حَاصِلًا إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ وَوَقْتٍ مَحْدُودٍ ثُمَّ جَاءَتِ الْخَيْبَةُ وَالْحَسْرَةُ وَالنَّدَامَةُ مِنْ حَيْثُ لَا تَنْفَعُ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ الْأَجَلَ أَيُّ الْأَوْقَاتِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَقْتُ الْمَوْتِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ وَقْتُ التَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ وَقْتُ الْمُحَاسَبَةِ فِي الْقِيَامَةِ وَالَّذِينَ قَالُوا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالُوا إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ مِنْ مَقْتُولٍ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَمُوتُ بِأَجَلِهِ لِأَنَّهُمْ أَقَرُّوا أَنَّا بَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا وَفِيهِمُ الْمَقْتُولُ وَغَيْرُ المقتول.
148
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ الْمَثْوَى: الْمَقَامُ وَالْمَقَرُّ وَالْمَصِيرُ ثُمَّ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ مَقَامٌ وَمَقَرٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَيَتَخَلَّصُ بِالْمَوْتِ عَنْ ذَلِكَ الْمَثْوَى فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذلك المقام والمثوى مخلد مؤيد وَهُوَ قَوْلُهُ:
خالِدِينَ فِيها.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ اسْتِثْنَاءُ أَوْقَاتِ الْمُحَاسَبَةِ لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ لَيْسُوا بِخَالِدِينَ فِي النَّارِ. الثَّانِي: الْمُرَادُ الْأَوْقَاتُ الَّتِي يُنْقَلُونَ فِيهَا مِنْ عَذَابِ النَّارِ إِلَى عَذَابِ الزَّمْهَرِيرِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ وَادِيًا فِيهِ بَرْدٌ شَدِيدٌ فَهُمْ يَطْلُبُونَ الرَّدَّ مِنْ ذَلِكَ الْبَرْدِ إِلَى حَرِّ الْجَحِيمِ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يُسْلِمُونَ وَيُصَدِّقُونَ النبي صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ «مَا» بِمَعْنَى «مَنْ» قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها مُنْذُ يُبْعَثُونَ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ مِنْ مِقْدَارِ حَشْرِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَمِقْدَارِ مُدَّتِهِمْ فِي مُحَاسَبَتِهِمْ. الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى الْخُلُودِ وَإِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَجَلِ الْمُؤَجَّلِ لَهُمْ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَبَلَغْنَا الْأَجَلَ الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا أَيِ الَّذِي سَمَّيْتَهُ لَنَا إِلَّا مَنْ أَهْلَكْتَهُ قَبْلَ الْأَجَلِ الْمُسَمَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الْأَنْعَامِ: ٦] وَكَمَا فَعَلَ فِي قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ مِمِنْ أَهْلَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ الْأَجَلِ الَّذِي لَوْ آمَنُوا لَبَقُوا إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ فَتَلْخِيصُ الْكَلَامِ/ أَنْ يَقُولُوا:
اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا مَا سَمَّيْتَ لَنَا مِنَ الْأَجَلِ إِلَّا مَنْ شِئْتَ أَنْ تَخْتَرِمَهُ فَاخْتَرَمْتَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِكُفْرِهِ وَضَلَالِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّهُ تَرْكٌ لِظَاهِرِ تَرْتِيبِ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَمَّا أَمْكَنَ إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا فَلَا حاجة الى هذا التكليف.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ أَيْ فِيمَا يَفْعَلُهُ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْمُجَازَاةِ وَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّمَا حَكَمْتُ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِعَذَابِ الْأَبَدِ لِعِلْمِي أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَوْلُهُ: النَّارُ مَثْواكُمْ الْمَثْوَى اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ دُونَ الْمَكَانِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: خالِدِينَ فِيها حَالٌ وَاسْمُ الْمَوْضِعِ لَا يَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْلِ فَقَوْلُهُ: النَّارُ مَثْواكُمْ مَعْنَاهُ: النَّارُ أَهْلٌ أَنْ تُقِيمُوا فيها خالدين.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٩]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ فَوَائِدُ:
الْفَائِدَةُ الاولى: اعلم انه تعالى لما حكيم عَنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَتَوَلَّى بَعْضًا بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِتَقْدِيرِهِ وَقَضَائِهِ فَقَالَ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ أَنَّ الْقُدْرَةَ صَالِحَةٌ لِلطَّرَفَيْنِ أَعْنِي الْعَدَاوَةَ وَالصَّدَاقَةَ فَلَوْلَا حُصُولُ الدَّاعِيَةِ إِلَى الصَّدَاقَةِ لَمَا حَصَلَتِ الصَّدَاقَةُ وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا للتسلسل فهبت بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا.
وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ تَصِيرُ هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلًا لَنَا فِي مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ لَهُمْ دَارَ السَّلَامِ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى وَلِيُّهُمْ بِمَعْنَى الْحِفْظِ وَالْحِرَاسَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالنُّصْرَةِ فَكَذَلِكَ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ أَهْلِ النَّارِ ذَكَرَ أَنَّ مَقَرَّهُمْ وَمَثْوَاهُمُ النَّارُ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُمْ مَنْ يُشْبِهُهُمْ فِي الظُّلْمِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَهَذِهِ مُنَاسَبَةٌ حَسَنَةٌ لَطِيفَةٌ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: كَافُ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي تَقْتَضِي شَيْئًا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالتَّقْدِيرُ: كَأَنَّهُ قَالَ كَمَا أَنْزَلْتَ بِالْجِنِّ وَالْإِنْسِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ الدَّائِمَ الَّذِي لَا مُخَلِّصَ مِنْهُ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً لِأَنَّ الْجِنْسِيَّةَ عِلَّةُ الضَّمِّ فَالْأَرْوَاحُ/ الْخَبِيثَةُ تَنْضَمُّ إِلَى مَا يُشَاكِلُهَا فِي الْخُبْثِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْأَرْوَاحِ الطَّاهِرَةِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَهْتَمُّ بِشَأْنِ مَنْ يُشَاكِلُهُ فِي النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالتَّقْوِيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّعِيَّةَ مَتَى كَانُوا ظَالِمِينَ فَاللَّهُ تَعَالَى يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ ظَالِمًا مِثْلَهُمْ فَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ ذَلِكَ الْأَمِيرِ الظَّالِمِ فَلْيَتْرُكُوا الظُّلْمَ وَأَيْضًا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْخَلْقِ مِنْ أَمِيرٍ وَحَاكِمٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ لَا يُخَلِّي أَهْلَ الظُّلْمِ مِنْ أَمِيرٍ ظَالِمٍ فَبِأَنْ لَا يُخَلِّي أَهْلَ الصَّلَاحِ مِنْ أَمِيرٍ يَحْمِلُهُمْ عَلَى زِيَادَةِ الصَّلَاحِ كَانَ أَوْلَى.
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَصْلُحُ لِلنَّاسِ إِلَّا أَمِيرٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ فَأَنْكَرُوا قَوْلَهُ: أَوْ جَائِرٌ فَقَالَ: نَعَمْ يُؤَمِّنُ السَّبِيلَ وَيُمَكِّنُ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ وَحَجِّ الْبَيْتِ.
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سال الرسول صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ الْإِمَارَةَ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَهِيَ فِي الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا من أخذها بحثها وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا»
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ: جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى- أَنَا اللَّهُ مَالِكُ الْمُلُوكِ قُلُوبُ الْمُلُوكِ وَنَوَاصِيهَا بِيَدِي فَمَنْ أَطَاعَنِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ رَحْمَةً وَمَنْ عَصَانِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ نِقْمَةً لَا تَشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِسَبِّ الْمُلُوكِ لَكِنْ تُوبُوا إِلَيَّ أُعَطِّفُهُمْ عَلَيْكُمْ-.
أَمَّا قَوْلُهُ: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فَالْمَعْنَى نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِسَبَبِ كَوْنِ ذَلِكَ الْبَعْضِ مُكْتَسِبًا لِلظُّلْمِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الجنسية علة للضم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٠]
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠)
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ بَقِيَّةِ مَا يَذْكُرُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَوْبِيخِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُمْ إِلَى الْجُحُودِ سَبِيلٌ فَيَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ وَإِنَّهُمْ لَمْ يُعَذَّبُوا إِلَّا بِالْحُجَّةِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمَعْشَرُ كُلُّ جَمَاعَةٍ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ وَيَحْصُلُ بينهم معاشرة/ ومخالطة والجمع: المعاشر. وقوله: سُلٌ مِنْكُمْ
اخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ مِنَ الْجِنِّ رَسُولٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الضَّحَّاكُ: أُرْسِلَ مِنَ الْجِنِّ رُسُلٌ كَالْإِنْسِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَتَلَا قَوْلَهُ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فَاطِرٍ: ٢٤] وَيُمْكِنُ أَنْ يَحْتَجَّ الضَّحَّاكُ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَامِ: ٩] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ اسْتِئْنَاسَ الْإِنْسَانِ بِالْإِنْسَانِ أَكْمَلُ مِنَ اسْتِئْنَاسِهِ بِالْمَلَكِ، فَوَجَبَ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ رَسُولَ الْإِنْسِ مِنَ الْإِنْسِ لِيَكْمُلَ هَذَا الِاسْتِئْنَاسُ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى، فَهَذَا السَّبَبُ حَاصِلٌ فِي الْجِنِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ الْجِنِّ من الجن.
150
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ مَا كَانَ مِنَ الْجِنِّ رَسُولٌ الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا كَانَ الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ. وَمَا رَأَيْتُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ حُجَّةً إِلَّا ادِّعَاءَ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ كَيْفَ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مَعَ حُصُولِ الِاخْتِلَافِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٣] وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الِاصْطِفَاءِ إِنَّمَا هُوَ النُّبُوَّةُ فَوَجَبَ كَوْنُ النُّبُوَّةِ مَخْصُوصَةً بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَقَطْ فَأَمَّا تَمَسُّكُ الضَّحَّاكِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قال: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ رُسُلَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ تَكُونُ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ هَذَا الْمَجْمُوعِ وَإِذَا كَانَ الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ كَانَ الرُّسُلُ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ فَكَانَ هَذَا الْقَدْرُ كَافِيًا فِي حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِثْبَاتُ رَسُولٍ مِنَ الْجِنِّ. الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرُّسُلَ كَانُوا مِنَ الْإِنْسِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ يُلْقِي الدَّاعِيَةَ فِي قُلُوبِ قَوْمٍ مِنَ الْجِنِّ حَتَّى يَسْمَعُوا كَلَامَ الرُّسُلِ وَيَأْتُوا قَوْمَهُمْ مِنَ الْجِنِّ وَيُخْبِرُونَهُمْ بِمَا سَمِعُوهُ مِنَ الرُّسُلِ وَيُنْذِرُونَهُمْ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الْأَحْقَافِ:
٢٩] فَأُولَئِكَ الْجِنُّ كَانُوا رُسُلَ الرُّسُلِ فَكَانُوا رُسُلًا لِلَّهِ تَعَالَى وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى رُسُلَ عِيسَى رُسُلَ نَفْسِهِ. فَقَالَ: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [يس: ١٤] وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا بَكَّتَ الْكُفَّارَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ الْعُذْرَ وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إِلَى الْكُلِّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَإِذَا وَصَلَتِ الْبِشَارَةُ وَالنِّذَارَةُ إِلَى الْكُلِّ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِزَاحَةِ الْعُذْرِ وَإِزَالَةِ الْعِلَّةِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ قال الواحدي: قوله تعالى: سُلٌ مِنْكُمْ
أَرَادَ مِنْ أَحَدِكُمْ وَهُوَ الْإِنْسُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرَّحْمَنِ: ٢٢] أَيْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمِلْحُ الَّذِي لَيْسَ بِعَذْبٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَا حَاجَةَ مَعَهُمَا إِلَى تَرْكِ الظَّاهِرِ أَمَّا هَذَا الثَّالِثُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ تَرْكَ الظَّاهِرِ وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ الا بالدليل المنفصل.
اما قوله: قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
فَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى الْأَدِلَّةِ بالتلاوة وبالتأويل: يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
أَيْ يُخَوِّفُونَكُمْ عَذَابَ هَذَا الْيَوْمِ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَ ذَلِكَ إِلَّا الِاعْتِرَافَ فَلِذَلِكَ قَالُوا: شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا.
فَإِنْ قَالُوا: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُمْ أَقَرُّوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْكُفْرِ وَجَحَدُوهُ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الانعام: ٢٣].
قُلْنَا: يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ طَوِيلٌ وَالْأَحْوَالُ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ فَتَارَةً يُقِرُّونَ وَأُخْرَى يَجْحَدُونَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ خَوْفِهِمْ وَاضْطِرَابِ أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّ مَنْ عَظُمَ خَوْفُهُ كَثُرَ الِاضْطِرَابُ فِي كَلَامِهِ.
ثُمَّ قال تعالى: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:
وَإِنَّمَا وَقَعُوا فِي ذَلِكَ الْكُفْرِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدنيا.
ثم قال تعالى: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ وَإِنْ بَالَغُوا فِي عَدَاوَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالطَّعْنِ فِي شَرَائِعِهِمْ وَمُعْجِزَاتِهِمْ إِلَّا أَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حمل قوله: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
بِأَنْ تَشْهَدَ عَلَيْهِمُ الْجَوَارِحُ بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَمَقْصُودُهُمْ دَفْعُ التَّكْرَارِ عَنِ الْآيَةِ وَكَيْفَمَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْحِ أَحْوَالِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ زَجْرُهُمْ فِي الدُّنْيَا عَنِ الكفر والمعصية.
151
واعلم ان أصحابنا يتمسكون بقوله تعالى: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْوُجُوبُ الْبَتَّةَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ لَوْ حصل الوجوب واستحقاق والعقاب قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّعْلِيلِ والذكر فائدة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣١]
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ مَا عَذَّبَ الْكُفَّارَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ بَعَثَ إِلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَالْحَقُّ وَالْوَاجِبُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَعْثَةِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ سُوءَ الْعَاقِبَةِ وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ: الْأَمْرُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعْلِيلٌ وَالْمَعْنَى: / الْأَمْرُ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ لِانْتِفَاءِ كَوْنِ رَبِّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَكَلِمَةُ «أَنْ» هَاهُنَا هِيَ الَّتِي تَنْصِبُ الْأَفْعَالَ وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ تكون مخففة من الثقلية وَالْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ كَقَوْلِهِ: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الْحِجْرِ:
٦٦].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِظُلْمٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِسَبَبِ ظُلْمٍ أَقْدَمُوا عَلَيْهِ. الثاني: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى ظُلْمًا عَلَيْهِمْ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ [هُودٍ: ١١٧] فِي سُورَةِ هُودٍ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الظُّلْمُ فِعْلًا لِلْكُفَّارِ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ عَائِدًا إِلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِقَوْلِنَا لِأَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ يُوهِمُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَهْلَكَهُمْ قَبْلَ بَعْثَةِ الرُّسُلِ كَانَ ظَالِمًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَحْكُمُ مَا يَشَاءُ وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ: فَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي مُطَابِقٌ لِمَذْهَبِهِمْ مُوَافِقٌ لِمُعْتَقَدِهِمْ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَمَنْ فَسَّرَ الْآيَةَ بِهَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَكِنَّهُ يَكُونُ فِي صُورَةِ الظَّالِمِ فِيمَا بَيَّنَّا فَوُصِفَ بِكَوْنِهِ ظَالِمًا مَجَازًا وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ هُودٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَهْلُها غافِلُونَ فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْغَفْلَةِ أَنْ يَتَغَافَلَ الْمَرْءُ عَمَّا يُوعَظُ بِهِ بَلْ مَعْنَاهَا أَنْ لَا يُبَيِّنَ اللَّهُ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ وَلَا أَنْ يُزِيلَ عُذْرَهُمْ وَعِلَّتَهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْوُجُوبُ قَبْلَ الشَّرْعِ وَأَنَّ الْعَقْلَ الْمَحْضَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ الْبَتَّةَ. قَالُوا: لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا بَعْدَ الْبَعْثَةِ لِلرَّسُولِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ قَالُوا: إِنَّهَا تَدُلُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ يَتَقَرَّرُ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ فَهَذَا الظُّلْمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْعَبْدِ أَوْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ الظُّلْمُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْفِعْلُ ظُلْمًا قَبْلَ البعثة لو
كَانَ قَبِيحًا وَذَنْبًا قَبْلَ بَعْثَةِ الرُّسُلِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ قَبِيحًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَعَ الِاعْتِرَافِ بتحسين العقل وتقبيحه.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٢]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عامر وحده تعلمون بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ أَهْلِ الثَّوَابِ وَالدَّرَجَاتِ وَأَحْوَالَ أَهْلِ الْعِقَابِ وَالدَّرَكَاتِ ذَكَرَ كَلَامًا كُلِّيًّا فَقَالَ: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا عَامٌّ فِي الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي وَالتَّقْدِيرُ: وَلِكُلِّ عَامِلٍ عَمِلَ فَلَهُ فِي عَمَلِهِ دَرَجَاتٌ فَتَارَةً يَكُونُ فِي دَرَجَةٍ نَاقِصَةٍ وَتَارَةً يَتَرَقَّى مِنْهَا إِلَى دَرَجَةٍ كَامِلَةٍ وَأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ التَّامِّ فَرَتَّبَ عَلَى كُلِّ دَرَجَةٍ مِنْ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الطَّاعَةِ لِأَنَّ لَفْظَ الدَّرَجَةِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِهِمْ. وَقَوْلُهُ: وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تعملون مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالصَّوَابُ هُوَ الْأَوَّلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِحَسَبِ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ بِدَرَجَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَعَلِمَ تِلْكَ الدَّرَجَةَ بِعَيْنِهَا وَأَثْبَتَ تِلْكَ الدَّرَجَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ زُمَرَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فَلَوْ لَمْ تَحْصُلْ تِلْكَ الدَّرَجَةُ لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ لَبَطَلَ ذَلِكَ الْحُكْمُ وَلَصَارَ ذَلِكَ الْعِلْمُ جَهْلًا وَلَصَارَ ذَلِكَ الْإِشْهَادُ كَذِبًا وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ
فَقَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالشَّقِيُّ مَنْ شقي في بطن امه.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٤]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤)
[وربك الغني ذو الرحمة] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ ثَوَابَ أَصْحَابِ الطَّاعَاتِ وَعِقَابَ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي وَالْمُحَرَّمَاتِ وَذَكَرَ أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ دَرَجَةً مَخْصُوصَةً وَمَرْتَبَةً مُعَيَّنَةً بَيَّنَ أَنَّ تَخْصِيصَ الْمُطِيعِينَ بِالثَّوَابِ وَالْمُذْنِبِينَ بِالْعَذَابِ لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى طَاعَةِ الْمُطِيعِينَ أَوْ يَنْتَقِصُ بِمَعْصِيَةِ الْمُذْنِبِينَ فَإِنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ لِذَاتِهِ عَنْ جَمِيعِ الْعَالَمِينَ وَمَعَ كَوْنِهِ غَنِيًّا فَإِنَّ رَحْمَتَهُ عَامَّةٌ كَامِلَةٌ وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْتِيبِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَالنُّفُوسِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَإِيصَالِهَا إِلَى دَرَجَاتِ السُّعَدَاءِ الْأَبْرَارِ إِلَّا بِتَرْتِيبِ التَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَاتِ وَالتَّرْهِيبِ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ فَقَالَ:
153
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ وَمِنْ رَحْمَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ تَرْتِيبُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فَنَفْتَقِرُ هَاهُنَا إِلَى بَيَانِ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِلَى بَيَانِ كَوْنِهِ تَعَالَى غَنِيًّا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحْتَاجًا لَكَانَ مُسْتَكْمِلًا بِذَلِكَ الْفِعْلِ وَالْمُسْتَكْمِلُ بِغَيْرِهِ نَاقِصٌ بِذَاتِهِ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَأَيْضًا فَكُلُّ إيجاب او سلب يفرض فان كان ذَاتُهُ كَافِيَةً فِي تَحَقُّقِهِ وَجَبَ دَوَامُ ذَلِكَ الْإِيجَابِ أَوْ ذَلِكَ السَّلْبِ بِدَوَامِ ذَاتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَافِيَةً فَحِينَئِذٍ يَتَوَقَّفُ حُصُولُ تِلْكَ الْحَالَةِ وَعَدَمُهَا عَلَى وُجُودِ سَبَبٍ مُنْفَصِلٍ أَوْ عَدَمِهِ فَذَاتُهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ الثُّبُوتِ وَالْعَدَمِ وَهُمَا مَوْقُوفَانِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ الْمُنْفَصِلِ وَعَدَمِهِ وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَى الشَّيْءِ مَوْقُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ ذَاتِهِ مَوْقُوفَةً عَلَى الْغَيْرِ وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْغَيْرِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ فَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَهُوَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ يُفِيدُ الْحَصْرَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا غَنِيَّ إِلَّا هُوَ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَمَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ مُحْتَاجٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا غَنِيَّ إِلَّا هُوَ فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ صِحَّةُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ وَأَمَّا إِثْبَاتُ أَنَّهُ: ذُو الرَّحْمَةِ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي وُجُودِ خَيْرَاتٍ وَسَعَادَاتٍ وَلَذَّاتٍ وَرَاحَاتٍ إِمَّا بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الْجِسْمَانِيَّةِ وَإِمَّا بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الرُّوحَانِيَّةِ فَثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا يدخل في الوجود بإيجاده وتكوينيه وَتَخْلِيقِهِ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَالرَّاحَاتِ وَالْكَرَامَاتِ وَالسَّعَادَاتِ فَهُوَ مِنَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَبِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ ثُمَّ إِنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ غَالِبٌ عَلَى الشَّرِّ فَإِنَّ الْمَرِيضَ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَالصَّحِيحُ أَكْثَرُ مِنْهُ وَالْجَائِعُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَالشَّبْعَانُ أَكْثَرُ مِنْهُ وَالْأَعْمَى وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا إِلَّا أَنَّ الْبَصِيرَ أَكْثَرُ مِنْهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِحُصُولِ الرَّحْمَةِ وَالرَّاحَةِ وَثَبَتَ أَنَّ الْخَيْرَ أَغْلَبُ مِنَ الشَّرِّ وَالْأَلَمِ وَالْآفَةِ وَثَبَتَ أَنَّ مَبْدَأَ تِلْكَ الرَّاحَاتِ وَالْخَيْرَاتِ بِأَسْرِهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ: ذُو الرَّحْمَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ يُفِيدُ الْحَصْرَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا رَحْمَةَ إِلَّا مِنْهُ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ أَوْ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ فَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ مِنْهُ وَالرَّحْمَةُ دَاخِلَةٌ فِيمَا سِوَاهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا رَحْمَةَ إِلَّا مِنَ الْحَقِّ فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ صِحَّةُ هَذَا الْحَصْرِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا غَنِيَّ إِلَّا هُوَ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا رَحِيمَ إِلَّا هُوَ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ يُمْكِنُنَا إِنْكَارُ رَحْمَةِ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ وَالْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّهَا عِنْدَ التَّحْقِيقِ مِنَ اللَّهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى أَلْقَى فِي قَلْبِ هَذَا الرَّحِيمِ دَاعِيَةَ الرَّحْمَةِ لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الرَّحْمَةِ فَلَمَّا كَانَ مُوجِدُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ هُوَ اللَّهُ كَانَ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ شَدِيدَ الْغَضَبِ عَلَى إِنْسَانٍ قَاسِي الْقَلْبِ عَلَيْهِ ثم ينقلب رؤوفا رَحِيمًا عَطُوفًا فَانْقِلَابُهُ مِنَ الْحَالَةِ الْأُولَى إِلَى الثَّانِيَةِ لَيْسَ إِلَّا بِانْقِلَابِ تِلْكَ الدَّوَاعِي فَثَبَتَ أَنَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْبُرْهَانِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ وَبِالْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ [الْأَنْعَامِ: ١١٠] فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا رَحْمَةَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ.
وَالثَّانِي: هَبْ أَنَّ ذَلِكَ الرَّحِيمَ اعطى الطعام والثواب وَالذَّهَبَ وَلَكِنْ لَا صِحَّةَ لِلْمِزَاجِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَإِلَّا فَكَيْفَ الِانْتِفَاعُ؟ فَالَّذِي أَعْطَى صِحَّةَ الْمِزَاجِ وَالْقُدْرَةَ وَالْمُكْنَةَ هُوَ الرَّحِيمُ فِي الْحَقِيقَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ
154
كُلَّ مَنْ أَعْطَى غَيْرَهُ شَيْئًا فَهُوَ إِنَّمَا يُعْطِي لِطَلَبِ عِوَضٍ وَهُوَ إِمَّا الثَّنَاءُ فِي الدُّنْيَا أَوِ الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ أَوْ دَفْعُ الرِّقَّةِ الْجِنْسِيَّةِ عَنِ الْقَلْبِ وَهُوَ تَعَالَى يُعْطِي لَا لِغَرَضٍ أَصْلًا فَكَانَ تَعَالَى هُوَ الرَّحِيمُ الْكَرِيمُ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْبَرَاهِينِ الْيَقِينِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ صِحَّةُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا غَنِيَّ وَلَا رَحِيمَ إِلَّا هُوَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْكُلِّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَكْمِلُ بِطَاعَاتِ الْمُطِيعِينَ وَلَا يَنْتَقِصُ بِمَعَاصِي الْمُذْنِبِينَ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ ثَبَتَ أَنَّهُ مَا رَتَّبَ الْعَذَابَ عَلَى الذُّنُوبِ وَلَا الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَاتِ إِلَّا لِأَجْلِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْكَرَمِ وَالْجُودِ وَالْإِحْسَانِ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: ٧] فَهَذَا الْبَيَانُ الْإِجْمَالِيُّ كَافٍ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا تَفْصِيلُ تِلْكَ الْحَالَةِ وَشَرْحُهَا عَلَى الْبَيَانِ التَّامِّ فَمِمَّا لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِ عَادِلًا مُنَزَّهًا عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ وَعَلَى كَوْنِهِ رَحِيمًا مُحْسِنًا بِعِبَادِهِ. أَمَّا الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ فَقَالَ: تَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِقُبْحِ الْقَبَائِحِ وَعَالَمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَعَالَى عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ.
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَتَقْرِيرُهَا إِنَّمَا يَتِمُّ بِمَجْمُوعِ مُقَدِّمَاتٍ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ فِي الْحَوَادِثِ/ مَا يَكُونُ قَبِيحًا نَحْوَ: الظُّلْمُ وَالسَّفَهُ وَالْكَذِبُ وَالْغِيبَةُ: وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ لِغَايَةِ ظُهُورِهَا. وَثَانِيهَا: كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِالْمَعْلُومَاتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الانعام: ١٣٢] وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُ تَعَالَى غَنِيًّا عَنِ الْحَاجَاتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ وَإِذَا ثَبَتَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الثَّلَاثَةِ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِقُبْحِ الْقَبَائِحِ وَعَالِمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهَا فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا امْتَنَعَ كَوْنُهُ فَاعِلًا لَهَا لِأَنَّ الْمُقْدِمَ عَلَى فِعْلِ الْقَبِيحِ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ إِمَّا لِجَهْلِهِ بِكَوْنِهِ قَبِيحًا وَإِمَّا لِاحْتِيَاجِهِ فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْكُلِّ امْتَنَعَ كَوْنُهُ جَاهِلًا بِقُبْحِ الْقَبَائِحِ وَإِذَا كَانَ غَنِيًّا عَنِ الْكُلِّ امْتَنَعَ كَوْنُهُ مُحْتَاجًا إِلَى فِعْلِ الْقَبَائِحِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ الْقَبَائِحِ مُتَعَالٍ عَنْهَا فَحِينَئِذٍ يُقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا فَلَمَّا كَلَّفَ عَبِيدَهُ الْأَفْعَالَ الشَّاقَّةَ وَجَبَ أَنْ يُثِيبَهُمْ عَلَيْهَا وَلَمَّا رَتَّبَ الْعِقَابَ وَالْعَذَابَ عَلَى فِعْلِ الْمَعَاصِي وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِيهَا فَبِهَذَا الطَّرِيقِ ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَادِلًا فِي الْكُلِّ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَبْ أَنَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ انْتَفَى الظُّلْمُ عَنْهُ تَعَالَى فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْلِيفِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّكْلِيفَ إِحْسَانٌ وَرَحْمَةٌ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي «كُتُبِ الْكَلَامِ» فَقَوْلُهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَقَامِ الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ: ذُو الرَّحْمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَقَامِ الثَّانِي فَهَذَا تَقْرِيرُ الدَّلَائِلِ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا طَوَائِفُ الْعُقَلَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ.
وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ الْكُلَّ لَا يُحَاوِلُونَ إِلَّا التَّقْدِيسَ وَالتَّعْظِيمَ وَسَمِعْتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ الْوَالِدَ ضِيَاءَ الدِّينِ عُمَرَ بْنَ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا الْقَاسِمِ سُلَيْمَانَ بْنَ نَاصِرٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: نَظَرَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ فِي جَانِبِ الْقُدْرَةِ وَنَفَاذِ الْمَشِيئَةِ وَنَظَرَ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ فِي جَانِبِ الْعَدْلِ وَالْبَرَاءَةِ عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَنْبَغِي فَإِذَا تَأَمَّلْتَ عَلِمْتَ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَصِفِ اللَّهَ إِلَّا بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّنْزِيهِ وَلَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ أَخْطَأَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَصَابَ وَرَجَاءُ الْكُلِّ مُتَعَلِّقٌ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ.
155
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ فَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ذَا الرَّحْمَةِ إِلَّا أَنَّ لِرَحْمَتِهِ مَعْدِنًا مَخْصُوصًا وَمَوْضِعًا مُعَيَّنًا فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى وَضْعِ الرَّحْمَةِ فِي هَذَا الْخَلْقِ وَقَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ قَوْمًا آخَرِينَ وَيَضَعَ رَحْمَتَهُ فِيهِمْ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الْعَالَمِينَ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الرَّحْمَةِ بِهَؤُلَاءِ لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِظْهَارُ رَحْمَتِهِ إِلَّا بِخَلْقِ هَؤُلَاءِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ فَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِهْلَاكُ وَيُحْتَمَلُ الْإِمَاتَةُ أَيْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُبْلِغَهُمْ مَبْلَغَ التَّكْلِيفِ/ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ يَعْنِي مِنْ بَعْدِ إِذْهَابِكُمْ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ مِنْ فَائِتٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَا يَشاءُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ خَلْقٌ ثَالِثٌ وَرَابِعٌ وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَلْقًا آخَرَ مِنْ أَمْثَالِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَكُونُونَ أَطْوَعَ وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ قادر على ان يخلق خالقا ثَالِثًا مُخَالِفًا لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْرَبُ لِأَنَّ الْقَوْمَ يَعْلَمُونَ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِنْشَاءِ أَمْثَالِ هَذَا الْخَلْقِ فَمَتَى حُمِلَ عَلَى خَلْقٍ ثَالِثٍ وَرَابِعٍ يَكُونُ أَقْوَى فِي دَلَالَةِ الْقُدْرَةِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى أَنَّ قُدْرَتَهُ لَيْسَتْ مَقْصُورَةً عَلَى جِنْسٍ دُونَ جِنْسٍ مِنَ الْخَلْقِ الَّذِينَ يَصْلُحُونَ لِرَحْمَتِهِ العظيمة التي هي النواب فَبَيَّنَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّهُ تَعَالَى لِرَحْمَتِهِ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْحَاضِرِينَ أَبْقَاهُمْ وَأَمْهَلَهُمْ وَلَوْ شَاءَ لَأَمَاتَهُمْ وَأَفْنَاهُمْ وَأَبْدَلَ بِهِمْ سِوَاهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى عِلَّةَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ لِأَنَّ الْمَرْءَ الْعَاقِلَ إِذَا تَفَكَّرَ عَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ لَيْسَ فِيهَا مِنْ صُورَتِهِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَحْضِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَمَا قَدَرَ تَعَالَى عَلَى تَصْوِيرِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ فَكَذَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى تَصْوِيرِهِمْ بِصُورَةٍ مُخَالِفَةٍ لَهَا. وَقَرَأَ الْقُرَّاءُ كُلُّهُمْ: ذُرِّيَّةِ بِضَمِّ الذَّالِ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِكَسْرِ الذَّالِ قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ مِنْ مَجِيءِ السَّاعَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْقِيَامَةَ وَأَقُولُ فِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْوَعْدَ مَخْصُوصٌ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الثَّوَابِ وَأَمَّا الْوَعِيدُ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْعِقَابِ فَقَوْلُهُ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ يَعْنِي كُلَّ مَا تَعَلَّقُ بِالْوَعْدِ بِالثَّوَابِ فَهُوَ آتٍ لَا مَحَالَةَ فَتَخْصِيصُ الْوَعْدِ بِهَذَا الْجَزْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ الْوَعِيدِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ آخِرُ الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ يَعْنِي لَا تَخْرُجُونَ عَنْ قُدْرَتِنَا وَحُكْمِنَا فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْوَعْدَ جَزْمَ بِكَوْنِهِ آتِيًا وَلَمَّا ذَكَرَ الْوَعِيدَ مَا زَادَ عَلَى قَوْلِهِ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنْ جَانِبَ الرحمة والإحسان غالب.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٥]
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ أَمَرَ رَسُولَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ يُهَدِّدَ مَنْ ينكر البعث عن الكفار فقال: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: مَكَانَاتِكُمْ بِالْأَلِفِ على الجمع في كل القرآن والباقون مَكانَتِكُمْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْوَجْهُ الْإِفْرَادُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وَالْمَصَادِرُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ مُفْرَدَةٌ وَقَدْ تُجْمَعُ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ إِلَّا أَنَّ الْغَالِبَ هو الاول.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمَكَانَةُ تَكُونُ مَصْدَرًا يُقَالُ: مَكُنَ مَكَانَةً إِذَا تَمَكَّنَ أَبْلَغَ التَّمَكُّنِ وَبِمَعْنَى الْمَكَانِ يُقَالُ: مَكَانٌ وَمَكَانَةٌ وَمُقَامٌ وَمُقَامَةٌ فَقَوْلُهُ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ يَحْتَمِلُ اعْمَلُوا عَلَى تَمَكُّنِكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ وَأَقْصَى اسْتِطَاعَتِكُمْ وَإِمْكَانِكُمْ وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُرَادَ اعْمَلُوا عَلَى حَالَتِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا أُمِرَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى حَالَةٍ عَلَى مَكَانَتِكَ يَا فُلَانُ أَيِ اثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ لَا تَنْحَرِفْ عَنْهُ: إِنِّي عامِلٌ أَيْ أَنَا عَامِلٌ عَلَى مَكَانَتِي الَّتِي عَلَيْهَا وَالْمَعْنَى: اثْبُتُوا عَلَى كُفْرِكُمْ وَعَدَاوَتِكُمْ فَإِنِّي ثَابِتٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعَلَى مَضَارَّتِكُمْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَيُّنَا لُهُ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ وَطَرِيقَةُ هَذَا الْأَمْرِ طَرِيقَةُ قَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ وَهِيَ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: مَنْ فِي قَوْلِهِ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ ذَكَرَ الْفَرَّاءُ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ الْإِعْرَابِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نَصْبٌ لِوُقُوعِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى مَعْنَى: تَعْلَمُونَ أَيُّنَا تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ [الْكَهْفِ: ١٢].
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ يُوهِمُ أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَتْ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ وَذَلِكَ مُشْكِلٌ.
قُلْنَا: الْعَاقِبَةُ تَكُونُ عَلَى الْكَافِرِ وَلَا تَكُونُ لَهُ كَمَا يُقَالُ: لَهُ الْكَثْرَةُ وَلَهُمُ الظَّفَرُ وَفِي ضِدِّهِ يُقَالُ: عَلَيْكُمُ الْكَثْرَةُ وَالظَّفَرُ.
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: مَنْ يَكُونُ
بِالْيَاءِ وَفِي الْقَصَصِ أَيْضًا وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِي السُّورَتَيْنِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْعَاقِبَةُ مَصْدَرٌ كَالْعَافِيَةِ وَتَأْنِيثُهُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ فَمَنْ أَنَّثَ فَكَقَوْلِهِ: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [المؤمنون: ٤١] وَمَنْ ذَكَّرَ فَكَقَوْلِهِ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هُودٍ: ٦٧] وَقَالَ: قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يُونُسَ: ٥٧] وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٥].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَالْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ قَوْلَهُ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ تَهْدِيدٌ وَتَخْوِيفٌ لَا أَنَّهُ أَمْرٌ وَطَلَبٌ وَمَعْنَاهُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ لا يفلحون ولا يفوزون بمطالبهم البتة.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٦]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (١٣٦)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ قُبْحَ طَرِيقَتِهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَنْوَاعًا مِنْ جَهَالَاتِهِمْ وَرَكَاكَاتِ أَقْوَالِهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى ضَعْفِ عُقُولِهِمْ وَقِلَّةِ مَحْصُولِهِمْ وَتَنْفِيرًا لِلْعُقَلَاءِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى كَلِمَاتِهِمْ فَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ مِنْ حُرُوثِهِمْ كَالتَّمْرِ وَالْقَمْحِ وَمِنْ أَنْعَامِهِمْ كَالضَّأْنِ وَالْمَعَزِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ نَصِيبًا فَقَالُوا:
هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ يُرِيدُ بِكَذِبِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ لِلَّهِ فَكَيْفَ نُسِبُوا إِلَى الْكَذِبِ فِي قَوْلِهِمْ: هَذَا لِلَّهِ؟
قُلْنَا: إِفْرَازُهُمْ النَّصِيبَيْنِ نَصِيبًا لِلَّهِ وَنَصِيبًا لِلشَّيْطَانِ هُوَ الْكَذِبُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ جَعَلُوا لله
نَصِيبًا وَلِشُرَكَائِهِمْ نَصِيبًا وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ تَفْصِيلُهُ الْقِسْمَيْنِ فِيمَا بَعْدُ وَهُوَ قَوْلُهُ: هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا وَجَعَلَ الْأَوْثَانَ شُرَكَاءَهُمْ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهَا نَصِيبًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ يُنْفِقُونَهَا عَلَيْهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ مِنْ حُرُوثِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ نَصِيبًا وَلِلْأَوْثَانِ نَصِيبًا فَمَا كَانَ لِلصَّنَمِ أَنْفَقُوهُ عَلَيْهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ أَطْعَمُوهُ الصِّبْيَانَ وَالْمَسَاكِينَ وَلَا يَأْكُلُونَ مِنْهُ الْبَتَّةَ. ثُمَّ إِنْ سَقَطَ مِمَّا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فِي نَصِيبِ الْأَوْثَانِ تَرَكُوهُ وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ هَذَا وَإِنْ سَقَطَ مِمَّا جَعَلُوهُ لِلْأَوْثَانِ فِي نَصِيبِ اللَّهِ أَخَذُوهُ وَرَدُّوهُ إِلَى نَصِيبِ الصَّنَمِ وَقَالُوا: إِنَّهُ فقيره الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ وَالسَّدِّيُّ: كَانَ إِذَا هَلَكَ مَا لِأَوْثَانِهِمْ أَخَذُوا بَدَلَهُ مِمَّا لِلَّهِ وَلَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِيمَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. الثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا انْفَجَرَ مِنْ سَقْيِ مَا جَعَلُوهُ لِلشَّيْطَانِ فِي نَصِيبِ اللَّهِ سَدُّوهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ تَرَكُوهُ. الرَّابِعُ: قَالَ قَتَادَةُ: إِذَا أَصَابَهُمُ الْقَحْطُ اسْتَعَانُوا بِمَا لِلَّهِ وَوَفَّرُوا مَا جَعَلُوهُ لِشُرَكَائِهِمْ. الْخَامِسُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنْ زَكَا وَنَمَا نَصِيبُ/ الْآلِهَةِ وَلَمْ يَزْكُ نَصِيبُ اللَّهِ تَرَكُوا نَصِيبَ الْآلِهَةِ لَهَا وَقَالُوا لَوْ شَاءَ زَكَّى نَصِيبَ نَفْسِهِ وَإِنْ زَكَا نَصِيبُ اللَّهِ وَلَمْ يَزْكُ نَصِيبُ الْآلِهَةِ قَالُوا لَا بُدَّ لِآلِهَتِنَا مِنْ نَفَقَةٍ فَأَخَذُوا نَصِيبَ اللَّهِ فَأَعْطَوْهُ السَّدَنَةَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ يَعْنِي مِنْ نَمَاءِ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ: فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ يَعْنِي الْمَسَاكِينَ وَإِنَّمَا قَالَ: إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْرِزُونَهُ لِلَّهِ وَيُسَمُّونَهُ نَصِيبَ اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَيْهِمْ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ هَذَا الْفِعْلَ: فَقَالَ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الْإِسَاءَةِ وُجُوهًا كَثِيرَةً: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ رَجَّحُوا جَانِبَ الْأَصْنَامِ فِي الرِّعَايَةِ وَالْحِفْظِ عَلَى جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ سَفَهٌ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ جَعَلُوا بَعْضَ النَّصِيبِ لِلَّهِ وَجَعَلُوا بَعْضَهُ لِغَيْرِهِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى الْخَالِقُ لِلْجَمِيعِ وَهَذَا أَيْضًا سَفَهٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ حُكْمٌ أَحْدَثُوهُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَشْهَدْ بِصِحَّتِهِ عَقْلٌ وَلَا شَرْعٌ فَكَانَ أَيْضًا سَفَهًا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ حَسُنَ إِفْرَازُ نَصِيبِ الْأَصْنَامِ لَحَسُنَ إِفْرَازُ النَّصِيبِ لِكُلِّ حَجَرٍ وَمَدَرٍ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْأَصْنَامِ فِي حُصُولِ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ وَلَا قُدْرَةَ لَهَا أَيْضًا عَلَى الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ النَّصِيبِ فَكَانَ إِفْرَازُ النَّصِيبِ لَهَا عبثا فثبت بهذا الْوُجُوهِ أَنَّهُ: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ حِكَايَةِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ أَنْ يَعْرِفَ النَّاسُ قِلَّةَ عُقُولِ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ وَأَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَحْقِيرِهِمْ فِي أَعْيُنِ الْعُقَلَاءِ وَأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى كَلَامِهِمْ أَحَدٌ الْبَتَّةَ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٧]
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ أَحْكَامِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَمَذَاهِبِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَقَوْلُهُ:
وَكَذلِكَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ [الانعام: ١٣٦] أَيْ كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ قَتْلَ الْأَوْلَادِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ جَعْلَهُمْ لِلَّهِ نَصِيبًا وَلِلشُّرَكَاءِ نَصِيبًا نِهَايَةٌ فِي الْجَهْلِ بِمَعْرِفَةِ الْخَالِقِ الْمُنْعِمِ وَإِقْدَامَهِمْ عَلَى قَتْلِ أَوْلَادِ أَنْفُسِهِمْ نِهَايَةٌ فِي الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ وَذَلِكَ يُفِيدُ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ هَؤُلَاءِ وَأَحْوَالَهُمْ يُشَاكِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي الرَّكَاكَةِ وَالْخَسَاسَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَدْفِنُونَ بَنَاتِهُمْ أَحْيَاءً خَوْفًا مِنَ الْفَقْرِ أَوْ مِنَ التَّزْوِيجِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالشُّرَكَاءِ فَقَالَ مُجَاهِدٌ: شُرَكَاؤُهُمْ شَيَاطِينُهُمْ أَمَرُوهُمْ بِأَنْ يَئِدُوا أَوْلَادَهُمْ خَشْيَةَ الْعَيْلَةِ وَسُمِّيَتِ الشَّيَاطِينُ شُرَكَاءً لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُضِيفَتِ الشُّرَكَاءُ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْأَنْعَامِ: ٢٢] وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ لِآلِهَتِهِمْ سَدَنَةٌ وَخُدَّامٌ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُزَيِّنُونَ لِلْكَفَّارِ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ وَكَانَ الرَّجُلُ يَقُومُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ لَئِنْ وُلِدَ لَهُ كَذَا وَكَذَا غُلَامًا لَيَنْحَرَنَّ أَحَدَهُمْ كَمَا حَلَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: الشُّرَكَاءُ هُمُ السَّدَنَةُ سمعوا شُرَكَاءً كَمَا سُمِّيَتِ الشَّيَاطِينُ شُرَكَاءً فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ زُيِّنَ بِضَمِّ الزَّاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ وَبِضَمِّ اللَّامِ مِنْ: قَتْلُ وَ: أَوْلَادَهُمْ بِنَصْبِ الدَّالِّ: شُرَكَائِهِمْ بِالْخَفْضِ وَالْبَاقُونَ: زَيَّنَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَالْيَاءِ: قَتْلَ بِفَتْحِ اللَّامِ أَوْلادِهِمْ بِالْجَرِّ: شُرَكاؤُهُمْ بِالرَّفْعِ. أَمَّا وَجْهُ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ فَالتَّقْدِيرُ: زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ شُرَكَائِهِمْ أَوْلَادَهُمْ إِلَّا أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ وَهُوَ الْأَوْلَادُ وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي الشِّعْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
فَزَجَجْتُهَا بِمِزَجَّةٍ زَجَّ الْقَلُوصِ أَبِي مَزَادَهْ
وَإِذَا كَانَ مُسْتَكْرَهًا فِي الشِّعْرِ فَكَيْفَ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ مُعْجِزٌ فِي الْفَصَاحَةِ. قَالُوا: وَالَّذِي حَمَلَ ابْنَ عَامِرٍ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ رَأَى فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ: شُرَكَائِهِمْ مَكْتُوبًا بِالْيَاءِ وَلَوْ قَرَأَ بِجَرِّ الْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ لِأَجْلِ أَنَّ الْأَوْلَادَ شُرَكَاؤُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ لَوَجَدَ فِي ذَلِكَ مَنْدُوحَةً عَنْ هَذَا الِارْتِكَابِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ: فَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفَاعِلِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها [الْأَنْعَامِ: ١٥٨] وَقَوْلُهُ: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] وَالسَّبَبُ فِي تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ هُوَ إِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ وَالَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ أَعْنَى وَمَوْضِعُ التَّعَجُّبِ هَاهُنَا إِقْدَامُهُمْ عَلَى قَتْلِ أَوْلَادِهِمْ فَلِهَذَا السَّبَبِ حَصَلَ هَذَا التَّقْدِيرُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِيُرْدُوهُمْ وَالْإِرْدَاءُ فِي اللُّغَةِ الْإِهْلَاكُ وَفِي الْقُرْآنِ: إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصَّافَّاتِ: ٥٦] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيُرْدُوهُمْ فِي النَّارِ وَاللَّامُ هَاهُنَا مَحْمُولَةٌ عَلَى لام العاقبة كما في قوله: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: ٨] وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أَيْ لِيَخْلِطُوا لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى دِينِ إِسْمَاعِيلَ فَهَذَا الَّذِي أَتَاهُمْ بِهَذِهِ الْأَوْضَاعِ الْفَاسِدَةِ أَرَادَ أَنْ يُزِيلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الدِّينِ الْحَقِّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ فَهُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ مِرَارًا: فَذَرْهُمْ/ وَما يَفْتَرُونَ [الانعام: ١١٢] وَهَذَا عَلَى قَانُونِ قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فُصِّلَتْ: ٤٠] وَقَوْلُهُ: وَما يَفْتَرُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِقَتْلِ أولادهم فكانوا كاذبين في ذلك القول.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٨]
وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ ثَالِثٌ مِنْ أَحْكَامِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَهِيَ أَنَّهُمْ قَسَّمُوا أَنْعَامَهُمْ أَقْسَامًا: فَأَوَّلُهَا: أَنْ قَالُوا: هذِهِ
أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ
فَقَوْلُهُ: حِجْرٌ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالذَّبْحِ وَالطَّحْنِ وَيَسْتَوِي فِي الْوَصْفِ بِهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْأَسْمَاءِ غَيْرِ الصِّفَاتِ وَأَصْلُ الْحِجْرِ الْمَنْعُ وَسُمِّيَ الْعَقْلُ حِجْرًا لِمَنْعِهِ عَنِ الْقَبَائِحِ وَفُلَانٌ فِي حِجْرِ الْقَاضِي: أَيْ فِي مَنْعِهِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: حُجْرٌ بِضَمِّ الْحَاءِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَرَجٌ وَهُوَ مِنَ الضِّيقِ وَكَانُوا إِذَا عَيَّنُوا شَيْئًا مِنْ حَرْثِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ لِآلِهَتِهِمْ قَالُوا: لَا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ يَعْنُونَ خَدَمَ الْأَوْثَانِ وَالرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ أَنْعَامِهِمُ الَّذِي قَالُوا فِيهِ: وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَهِيَ الْبَحَائِرُ وَالسَّوَائِبُ وَالْحَوَامِي وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي سورة المائدة.
والقسم الثالث: ف أَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا فِي الذَّبْحِ وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ عَلَيْهَا أَسْمَاءَ الْأَصْنَامِ وَقِيلَ لَا يَحُجُّونَ عَلَيْهَا وَلَا يُلَبُّونَ عَلَى ظُهُورِهَا.
ثُمَّ قَالَ: افْتِراءً عَلَيْهِ فَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَوْ حَالٌ أَوْ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الِافْتِرَاءِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الوعيد.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٩]
وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا نَوْعٌ رَابِعٌ مِنْ أَنْوَاعِ قَضَايَاهُمُ الْفَاسِدَةِ كَانُوا يَقُولُونَ فِي أَجِنَّةِ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ مَا وُلِدَ منها حيا فهو خالص لذكور لَا تَأْكُلُ مِنْهَا الْإِنَاثُ وَمَا وُلِدَ مَيِّتًا اشتراك فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْوَعِيدُ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ لِيَكُونَ الزَّجْرُ وَاقِعًا عَلَى حَدِّ الْحِكْمَةِ وَبِحَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي تَأْنِيثِ: خالِصَةٌ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: قَوْلَيْنِ لِلْفَرَّاءِ وَقَوْلًا لِلْكِسَائِيِّ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْهَاءَ لَيْسَتْ لِلتَّأْنِيثِ وَإِنَّمَا هِيَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ كَمَا قَالُوا: رَاوِيَةٌ وَعَلَّامَةٌ وَنَسَّابَةٌ وَالدَّاهِيَةُ وَالطَّاغِيَةُ كَذَلِكَ يَقُولُ هُوَ خَالِصَةٌ لِي وَخَالِصٌ لِي هَذَا قَوْلُ الْكِسَائِيِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ (مَا) فِي قَوْلِهِ: مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَجِنَّةِ وَإِذَا كَانَ عِبَارَةً عَنْ مُؤَنَّثٍ جَازَ تَأْنِيثُهُ عَلَى الْمَعْنَى وَتَذْكِيرُهُ عَلَى اللَّفْظِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ أُنِّثَ خَبَرُهُ الَّذِي هُوَ خَالِصَةٌ لِمَعْنَاهُ وَذُكِّرَ فِي قَوْلِهِ: وَمُحَرَّمٌ عَلَى اللَّفْظِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وَالتَّقْدِيرُ: ذُو خَالِصَةٍ كَقَوْلِهِمْ: عَطَاؤُكَ عَافِيَةٌ وَالْمَطَرُ رَحْمَةُ وَالرُّخَصُ نِعْمَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قرا ابن عامر وان تكن بالتاء و: مَيْتَةً بِالنَّصْبِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: يَكُنْ بِالْيَاءِ: مَيْتَةٌ بِالرَّفْعِ وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: تَكُنْ بِالتَّاءِ مَيْتَةً بِالنَّصْبِ وَالْبَاقُونَ: يَكُنْ بِالْيَاءِ مَيْتَةً بِالنَّصْبِ. أَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ فَوَجْهُهَا أَنَّهُ أَلْحَقَ الْفِعْلَ عَلَامَةَ التَّأْنِيثِ لَمَّا كَانَ الْفَاعِلُ مُؤَنَّثًا فِي اللَّفْظِ وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ فَوَجْهُهَا أَنَّ قَوْلَهُ: مَيْتَةً اسْمُ: يَكُنْ وَخَبَرُهُ مُضْمَرٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ مَيْتَةٌ أَوْ وَإِنْ يَكُنْ هُنَاكَ مَيْتَةٌ.
وَذُكِّرَ لِأَنَّ الْمَيِّتَةَ فِي مَعْنَى الْمَيِّتِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَمْ يَلْحِقِ الْفِعْلَ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ لَمَّا كَانَ الْفَاعِلُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ تَأْنِيثُهُ غَيْرُ حقيقي ولا يحتاج الكون الى خبره لِأَنَّهُ بِمَعْنَى حَدَثَ وَوَقَعَ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ عَاصِمٍ: تَكُنْ بِالتَّاءِ: مَيْتَةً بِالنَّصْبِ فَالتَّقْدِيرُ وَإِنْ تَكُنِ الْمَذْكُورُ مَيْتَهً فَأَنَّثَ/ الْفِعْلَ لِهَذَا السَّبَبِ وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ وَإِنْ يَكُنْ بِالْيَاءِ مَيْتَةً بِالنَّصْبِ. فَتَأْوِيلُهَا: وَإِنْ يَكُنِ الْمَذْكُورُ مَيْتَةً ذَكَّرُوا الْفِعْلَ لِأَنَّهُ مُسْنَدٌ إِلَى ضَمِيرِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ وَانْتَصَبَ قَوْلُهُ: مَيْتَةً لَمَّا كَانَ الْفِعْلُ مسندا الى الضمير.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٠]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَ قَتْلَهُمْ أَوْلَادَهُمْ وَتَحْرِيمَهُمْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيَّنَ مَا لَزِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ الْخُسْرَانُ وَالسَّفَاهَةُ وَعَدَمُ الْعِلْمِ وَتَحْرِيمُ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَالِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ وَالضَّلَالُ وَعَدَمُ الِاهْتِدَاءِ فَهَذِهِ أُمُورٌ سَبْعَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا سَبَبٌ تَامٌّ فِي حُصُولِ الذَّمِّ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْخُسْرَانُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَلَدَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ فَإِذَا سَعَى فِي إِبْطَالِهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا عَظِيمًا لَا سِيَّمَا وَيَسْتَحِقُّ عَلَى ذَلِكَ الْإِبْطَالِ الذَّمَّ الْعَظِيمَ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقَابَ الْعَظِيمَ فِي الْآخِرَةِ. أَمَّا الذَّمُّ فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ قَتَلَ وَلَدَهُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَهُ وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا ذَمٌّ أَشَدُّ مِنْهُ. وَأَمَّا الْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ فَلِأَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادَةِ أَعْظَمُ مُوجِبَاتِ الْمَحَبَّةِ فَمَعَ حُصُولِهَا إِذَا أَقْدَمَ عَلَى إِلْحَاقِ أَعْظَمِ الْمَضَارِّ بِهِ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ فَكَانَ مُوجِبًا لِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: السَّفَاهَةُ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخِفَّةِ الْمَذْمُومَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَتْلَ الْوَلَدِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْخَوْفِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْفَقْرُ وَإِنْ كَانَ ضَرَرًا إِلَّا أَنَّ الْقَتْلَ أَعْظَمُ مِنْهُ ضَرَرًا وَأَيْضًا فهذا القتل ناجز وذلك الفقر وموهوم فَالْتِزَامُ أَعْظَمِ الْمَضَارِّ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ حَذَرًا مِنْ ضَرَرٍ قَلِيلٍ مَوْهُومٍ لَا شَكَّ أَنَّهُ سَفَاهَةٌ.
وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ فَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ السَّفَاهَةَ إِنَّمَا تَوَلَّدَتْ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَهْلَ أَعْظَمُ الْمُنْكَرَاتِ وَالْقَبَائِحِ.
وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ: تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْحَمَاقَةِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ نَفْسَهُ تِلْكَ الْمَنَافِعَ وَالطَّيِّبَاتِ وَيَسْتَوْجِبُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَنْعِ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ.
وَالنَّوْعُ الْخَامِسُ: الِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَرَاءَةَ عَلَى اللَّهِ وَالِافْتِرَاءَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ.
وَالنَّوْعُ السَّادِسُ: الضَّلَالُ عَنِ الرُّشْدِ فِي مَصَالِحِ الدِّينِ وَمَنَافِعِ الدُّنْيَا.
وَالنَّوْعُ السَّابِعُ: أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُهْتَدِينَ وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ يَضِلُّ الْإِنْسَانُ عَنِ الْحَقِّ إِلَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى الِاهْتِدَاءِ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ الِاهْتِدَاءُ قَطُّ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الْمَوْصُوفِينَ بِقَتْلِ الْأَوْلَادِ وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ السَّبْعَةِ الْمُوجِبَةِ لِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الذَّمِّ وَذَلِكَ نِهَايَةُ المبالغة.

[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤١]

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مَدَارَ هَذَا الْكِتَابِ الشَّرِيفِ عَلَى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَإِثْبَاتِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَأَنَّهُ تَعَالَى بَالَغَ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأُصُولِ وَانْتَهَى الْكَلَامُ إِلَى شَرْحِ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى تَهْجِينِ طَرِيقَةِ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِحِكَايَةِ أَقْوَالِهِمُ الرَّكِيكَةِ وَكَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ فِي مَسَائِلَ أَرْبَعَةٍ. وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى ضَعْفِ عُقُولِهِمْ وَقِلَّةِ مَحْصُولِهِمْ وَتَنْفِيرِ النَّاسِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى قَوْلِهِمْ وَالِاغْتِرَارِ بَشُبُهَاتِهِمْ فَلَمَّا تَمَّمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَادَ بَعْدَهَا إِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ إِقَامَةُ الدَّلَائِلِ عَلَى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُ هَذَا الدَّلِيلِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الانعام: ٩٩] فَالْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ذَكَرَ تَعَالَى فِيهَا خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ وَهِيَ: الزَّرْعُ وَالنَّخْلُ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونُ وَالرُّمَّانُ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا ذَكَرَ هَذِهِ الْخَمْسَةَ بِأَعْيَانِهَا لَكِنْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْعِنَبَ ثُمَّ النَّخْلَ ثُمَّ الزَّرْعَ ثُمَّ الزَّيْتُونَ ثُمَّ الرُّمَّانَ وَذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ: مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ فَأَمَرَ تَعَالَى هُنَاكَ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِهَا وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فَأَذِنَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا وَأَمَرَ بِصَرْفِ جُزْءٍ مِنْهَا إِلَى الْفُقَرَاءِ فَالَّذِي حَصَلَ بِهِ الِامْتِيَازُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ هُنَاكَ أَمَرَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ وَهَاهُنَا أَذِنَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِذْنِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا سَعَادَةٌ رُوحَانِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ وَالْحَاصِلُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ سَعَادَةٌ جُسْمَانِيَّةٌ سَرِيعَةُ الِانْقِضَاءِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الْإِذْنِ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ أَيْ خَلَقَ يقال: نشا الشيء ينشا نشاة ونشاة إِذَا ظَهَرَ وَارْتَفَعَ وَاللَّهُ يُنْشِئُهُ إِنْشَاءً أَيْ يُظْهِرُهُ وَيَرْفَعُهُ وَقَوْلُهُ: جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ يُقَالُ عَرَّشْتُ الْكَرْمَ أُعَرِّشُهُ عَرْشًا وَعَرَّشْتُهُ تَعْرِيشًا إِذَا عَطَفْتَ الْعِيدَانَ الَّتِي يُرْسَلُ عَلَيْهَا قُضْبَانُ الْكَرْمِ وَالْوَاحِدُ عَرْشٌ وَالْجَمْعُ عُرُوشٌ وَيُقَالُ: عَرِيشٌ وَجَمْعُهُ عُرُشٌ وَاعْتَرَشَ الْعِنَبُ الْعَرِيشَ اعْتِرَاشًا إِذَا عَلَاهُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي قَوْلِهِ: مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْرُوشَاتِ وَغَيْرَ الْمَعْرُوشَاتِ كِلَاهُمَا الْكَرْمُ فَإِنَّ بَعْضَ الْأَعْنَابِ يُعَرَّشُ وَبَعْضُهَا لَا يُعَرَّشُ بَلْ يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُنْبَسِطًا.
وَالثَّانِي: الْمَعْرُوشَاتُ الْعِنَبُ الَّذِي يُجْعَلُ لَهَا عُرُوشٌ وَغَيْرُ الْمَعْرُوشَاتِ كُلُّ مَا يَنْبُتُ مُنْبَسِطًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ
162
مِثْلُ الْقَرْعِ وَالْبِطِّيخِ. وَالثَّالِثُ: الْمَعْرُوشَاتُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُتَّخَذَ لَهُ عَرِيشٌ يُحْمَلُ عَلَيْهِ فَيُمْسِكُهُ وَهُوَ الْكَرْمُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ وَغَيْرُ الْمَعْرُوشِ هُوَ الْقَائِمُ مِنَ الشَّجَرِ الْمُسْتَغْنِي بِاسْتِوَائِهِ وَذَهَابِهِ عُلُوًّا لِقُوَّةِ سَاقِهِ عَنِ التَّعْرِيشِ.
وَالرَّابِعُ: الْمَعْرُوشَاتُ مَا يَحْصُلُ فِي الْبَسَاتِينِ/ وَالْعُمْرَانَاتِ مِمَّا يَغْرِسُهُ النَّاسُ وَاهْتَمُّوا بِهِ فَعَرَّشُوهُ: وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ مِمَّا أَنْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحْشِيًّا فِي الْبَرَارِي وَالْجِبَالِ فَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوشٍ وَقَوْلُهُ: وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الزَّرْعَ هَاهُنَا بِجَمِيعِ الْحُبُوبِ الَّتِي يُقْتَاتُ بِهَا مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ أَيْ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا طَعْمٌ غَيْرُ طَعْمِ الْآخَرِ: وَالْأُكُلُ كُلُّ مَا أُكِلَ وَهَاهُنَا الْمُرَادُ ثَمَرُ النَّخْلِ وَالزَّرْعِ وَمَضَى الْقَوْلُ فِي: الْأُكُلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ [الْبَقَرَةِ: ٢٦٥] وَقَوْلُهُ: مُخْتَلِفاً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْ أَنْشَأَهُ فِي حَالِ اخْتِلَافِ أُكُلِهِ وَهُوَ قَدْ أَنْشَأَهُ مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ أُكُلِهِ وَأُكُلِ ثَمَرِهِ.
الْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْشَأَهَا حَالَ اخْتِلَافِ ثَمَرِهَا وَصِدْقُ هَذَا لَا يُنَافِي صِدْقَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْشَأَهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَيْضًا وَأَيْضًا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مَعَ أَنَّهُ يُؤْكَلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ لِأَنَّ اخْتِلَافَ أُكُلِهِ مُقَدَّرٌ كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدًا بِهِ غَدًا أَيْ مُقَدَّرًا لِلصَّيْدِ بِهِ غَدًا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ: أُكْلُهُ بِتَخْفِيفِ الْكَافِ وَالْبَاقُونَ: أُكُلُهُ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَأَمَّا تَوْحِيدُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ فَالسَّبَبُ فِيهِ: أَنَّهُ اكْتَفَى بِإِعَادَةِ الذِّكْرِ عَلَى أَحَدِهِمَا مِنْ إِعَادَتِهِ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَةِ: ١١] وَالْمَعْنَى: إِلَيْهِمَا وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التَّوْبَةِ: ٦٢].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ فَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَفِيهِ مَبَاحِثُ.
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِهِ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ ذَكَرَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ خَلْقِهَا وَهُوَ انْتِفَاعُ الْمُكَلَّفِينَ بِهَا فَقَالَ: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَاخْتَلَفُوا مَا الْفَائِدَةُ مِنْهُ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِبَاحَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِبَاحَةُ الْأَكْلِ قَبْلَ إِخْرَاجِ الْحَقِّ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ الْحَقَّ فِيهِ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى الْمَالِكِ تَنَاوُلَهُ لِمَكَانِ شَرِكَةِ الْمَسَاكِينِ فِيهِ بَلْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فَأَبَاحَ تَعَالَى هَذَا الْأَكْلَ وَأَخْرَجَ وُجُوبَ الْحَقِّ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ هَذَا التَّصَرُّفِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَبَاحَ تَعَالَى ذَلِكَ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمَقْصِدَ بِخَلْقِ هَذِهِ النِّعَمِ إِمَّا الْأَكْلُ وَإِمَّا التَّصَدُّقُ وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْأَكْلِ عَلَى التَّصَدُّقِ لِأَنَّ رِعَايَةَ النَّفْسِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى رِعَايَةِ الْغَيْرِ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [الْقَصَصِ: ٧٧].
الْبَحْثُ الثَّانِي: تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ وَالْإِطْلَاقُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُلُوا خِطَابٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَصَارَ هَذَا جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَةِ: ٢٩] وَأَيْضًا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ وَأَنَّ مَنِ ادَّعَى إِيجَابَهُ كَانَ هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ فَيُتَمَسَّكُ بِهِ فِي أَنَّ الْمَجْنُونَ إِذَا أَفَاقَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى وَفِي أَنَّ الشَّارِعَ فِي صَوْمِ النَّفْلِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ قَدْ تَرِدُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْوُجُوبِ وَفِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّدْبِ وَعِنْدَ هَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ فَوَجَبَ جَعْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ مُفِيدَةً لِرَفْعِ الْحَجْرِ فَلِهَذَا قَالُوا: الْأَمْرُ مُقْتَضَاهُ الْإِبَاحَةُ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُفِيدُ
163
تَرْجِيحَ جَانِبِ الْفِعْلِ وَأَنَّ حَمْلَهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ: حَصادِهِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْحَاءِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ يُقَالُ: حَصَادٌ وَحِصَادٌ وَجَدَادٌ وَجِدَادٌ وَقَطَافٌ وَقِطَافٌ وَجَذَاذٌ وَجِذَاذٌ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ جَاءُوا بِالْمَصَادِرِ حِينَ أَرَادُوا انْتِهَاءَ الزَّمَانِ عَلَى مِثَالِ فَعَالٍ وَرُبَّمَا قَالُوا فِيهِ فِعَالٌ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ يُرِيدُ بِهِ الْعُشْرَ فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَنِصْفَ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِالدَّوَالِيبِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَالضَّحَّاكِ.
فَإِنْ قَالُوا: كَيْفَ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ يَوْمَ الْحَصَادِ وَالْحَبُّ فِي السُّنْبُلِ؟ وَأَيْضًا هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ وَإِيجَابُ الزَّكَاةِ مَدَنِيٌّ.
قُلْنَا: لَمَّا تَعَذَّرَ إِجْرَاءُ قَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ لَا جَرَمَ حَمَلْنَاهُ عَلَى تَعَلُّقِ حَقِّ الزَّكَاةِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْمَعْنَى: اعْزِمُوا عَلَى إِيتَاءِ الْحَقِّ يَوْمَ الْحَصَادِ وَلَا تُؤَخِّرُوهُ عَنْ أَوَّلِ وَقْتٍ يُمْكِنُ فِيهِ الْإِيتَاءُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزَّكَاةَ مَا كَانَتْ وَاجِبَةً فِي مَكَّةَ بَلْ لَا نِزَاعَ أَنَّ الْآيَةَ الْمَدَنِيَّةَ وَرَدَتْ بِإِيجَابِهَا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً بِمَكَّةَ. وَقِيلَ أَيْضًا: هَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا حَقٌّ فِي الْمَالِ سِوَى الزَّكَاةِ. ؟ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا حَصَدْتَ فَحَضَرَتِ الْمَسَاكِينُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ وَإِذَا دَرَسْتَهُ وَذَرَّيْتَهُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ وَإِذَا كَرْبَلْتَهُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ وَإِذَا عَرَفْتَ كَيْلَهُ فَاعْزِلْ زَكَاتَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَمَّا فُرِضَتِ الزَّكَاةُ نُسِخَ هَذَا وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْحَقُّ مَعْلُومًا قَبْلَ وُرُودِ هَذِهِ الْآيَةِ لِئَلَّا تَبْقَى هَذِهِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ/ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ»
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْحَقِّ حَقَّ الزَّكَاةِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ وَهُوَ الْعِنَبُ وَالنَّخْلُ وَالزَّيْتُونُ وَالرُّمَّانُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْكُلِّ وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ كَمَا كَانَ يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَإِنْ قَالُوا: لَفْظُ الْحَصَادِ مَخْصُوصٌ بِالزَّرْعِ فَنَقُولُ: لَفْظُ الْحَصْدِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالزَّرْعِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَصْدَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَطْعِ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَأَيْضًا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: حَصادِهِ يَجِبُ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ وَذَلِكَ هُوَ الزَّيْتُونُ وَالرُّمَّانُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَيْهِ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْعُشْرُ وَاجِبٌ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: قَوْلُهُ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقٍّ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْحَقُّ هُوَ الزَّكَاةَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْقَلِيلِ والكثير.
164
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُسْرِفُوا فَاعْلَمْ أَنَّ لِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ الْإِسْرَافِ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: السَّرَفُ تَجَاوُزُ مَا حُدَّ لَكَ. الثَّانِي: قَالَ شِمْرٌ: سَرْفُ الْمَالِ مَا ذَهَبَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَعْطَى كُلَّ مَالِهِ وَلَمْ يُوَصِّلْ إِلَى عِيَالِهِ شَيْئًا فَقَدْ أَسْرَفَ لِأَنَّهُ
جَاءَ فِي الْخَبَرِ، «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ».
وَرُوِيَ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ عَمَدَ إِلَى خَمْسِمِائَةِ نَخْلَةٍ فَجَذَّهَا ثُمَّ قَسَّمَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُدْخِلْ مِنْهَا إِلَى مَنْزِلِهِ شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا أَيْ وَلَا تُعْطُوا كُلَّهُ. وَالثَّانِي: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَا تُسْرِفُوا أَيْ لَا تَمْنَعُوا الصَّدَقَةَ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِسْرَافِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ مُجَاوَزَةٌ فِي الْإِعْطَاءِ وَالثَّانِيَ: مُجَاوَزَةٌ فِي الْمَنْعِ. الثَّالِثُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ: لَا تُشْرِكُوا الْأَصْنَامَ فِي الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ بَابِ الْمُجَاوَزَةِ لِأَنَّ مَنْ أَشْرَكَ الْأَصْنَامَ فِي الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ فَقَدْ جَاوَزَ مَا حُدَّ لَهُ. الرَّابِعُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ مَعْنَاهُ: لَا تُنْفِقُوا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ كَانَ أَبُو قُبَيْسٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ رَجُلٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا وَلَوْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَ مُسْرِفًا. وَهَذَا الْمَعْنَى أَرَادَهُ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ حِينَ قِيلَ: لَهُ: لَا خَيْرَ فِي السَّرَفِ فَقَالَ لَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِي مَعْنَى السَّرَفِ فَإِنَّ مَنْ أَنْفَقَ/ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَقَدْ أَنْفَقَ فِيمَا لَا نَفْعَ فِيهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الزَّجْرُ لِأَنَّ كُلَّ مُكَلَّفٍ لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [الْمَائِدَةِ: ١٨] فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَذَلِكَ يُفِيدُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُحِبُّهُ الله فهو من اهل النار.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٤]
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ إِنْعَامِهِ عَلَى عِبَادِهِ بِالْمَنَافِعِ النَّبَاتِيَّةِ أَتْبَعَهَا بِذِكْرِ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِالْمَنَافِعِ الْحَيَوَانِيَّةِ. فَقَالَ: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «الْوَاوُ» فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً تُوجِبُ الْعَطْفَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ/ مِنْ قوله:
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ [الانعام: ١٤١] وَالتَّقْدِيرُ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَأَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا وَكَثُرَ أَقْوَالُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْحَمُولَةِ وَالْفَرْشِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى التَّحْصِيلِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَمُولَةَ مَا تَحْمِلُ الْأَثْقَالَ وَالْفَرْشَ مَا يُفْرَشُ لِلذَّبْحِ أَوْ يُنْسَجُ مِنْ وَبَرِهِ وَصُوفِهِ وَشَعْرِهِ
165
لِلْفَرْشِ. وَالثَّانِي: الْحَمُولَةُ- الْكِبَارُ الَّتِي تَصْلُحُ لِلْحَمْلِ وَالْفَرْشُ- الصِّغَارُ كَالْفُصْلَانِ وَالْعَجَاجِيلِ وَالْغَنَمِ لِأَنَّهَا دَانِيَةٌ مِنَ الْأَرْضِ بِسَبَبِ صِغَرِ أَجْرَامِهَا مِثْلَ الْفَرْشِ الْمَفْرُوشِ عَلَيْهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يُرِيدُ مَا أَحَلَّهَا لَكُمْ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِأَكْلِ الرِّزْقِ وَمَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ يَنْتُجُ أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ بِحَرَامٍ.
ثُمَّ قَالَ: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أَيْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ كَمَا فَعَلَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ خُطُواتِ جَمْعُ خُطْوَةٍ وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَفِي خُطُواتِ الشَّيْطانِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: بِضَمِّ الطَّاءِ وَفَتْحِهَا وَبِإِسْكَانِهَا وَمَعْنَاهُ: طُرُقُ الشَّيْطَانِ أَيْ لَا تَسْلُكُوا الطَّرِيقَ الَّذِي يُسَوِّلُهُ لَكُمُ الشَّيْطَانُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أَيْ بَيِّنُ الْعَدَاوَةِ أَخْرَجَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ الْقَائِلُ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: ٦٢].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: ثَمانِيَةَ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: انْتَصَبَ ثَمَانِيَةَ بِالْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ:
حَمُولَةً وَفَرْشاً وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: الْوَاحِدُ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ فَهُوَ فَرْدٌ فَإِذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِنْ جِنْسِهِ سُمِّيَ زَوْجًا وَهُمَا زَوْجَانِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [النَّجْمِ: ٤٥] وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ثُمَّ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ:
مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ.
ثُمَّ قال: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ [إلى قوله أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ] يَعْنِي الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالضَّأْنُ ذَوَاتُ الصُّوفِ مِنَ الْغَنَمِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهِيَ جَمْعُ ضَائِنٍ وَضَائِنَةٍ مِثْلَ تَاجِرٍ وَتَاجِرَةٍ وَيُجْمَعُ الضَّأْنُ أَيْضًا عَلَى الضِّئِينِ بِكَسْرِ الضَّادِ وَفَتْحِهَا وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُرِئَ وَمِنَ الْمَعْزِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْمَعْزُ ذوات الشعر من الغنم ويقال للواحد: ما عز وَلِلْجَمْعِ: مِعْزَى. فَمَنْ قَرَأَ الْمَعْزِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فهو جمع ما عز مِثْلَ خَادِمٍ وَخَدَمٍ وَطَالِبٍ وَطَلَبٍ وَحَارِسٍ وَحَرَسٍ. وَمَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ فَهُوَ أَيْضًا جَمْعُ ما عز كَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ وَتَاجِرٍ وَتَجْرٍ وَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ. وَأَمَّا انْتِصَابُ اثْنَيْنِ فَلِأَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ أَنْشَأَ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ أَنْشَأَ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَقَوْلُهُ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ نَصَبَ الذَّكَرَيْنِ بِقَوْلِهِ: / حَرَّمَ وَالِاسْتِفْهَامُ يَعْمَلُ فِيهِ مَا بَعْدَهُ وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحَرِّمُونَ بَعْضَ الْأَنْعَامِ فَاحْتَجَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ بِأَنْ ذَكَرَ الضَّأْنَ وَالْمَعْزَ وَالْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَذَكَرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ زَوْجَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى.
ثُمَّ قَالَ إنْ كَانَ حَرَّمَ مِنْهَا الذَّكَرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ ذُكُورِهَا حَرَامًا وَإِنْ كَانَ حَرَّمَ الْأُنْثَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ إِنَاثِهَا حَرَامًا وَقَوْلُهُ: أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ تَقْدِيرُهُ: إِنْ كَانَ حَرَّمَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ وَجَبَ تَحْرِيمُ الْأَوْلَادِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْأَرْحَامَ تَشْتَمِلُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ هَذَا مَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ عِنْدِي بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْأَرْبَعَةَ أَعْنِي: الضَّأْنَ وَالْمَعْزَ وَالْإِبِلَ وَالْبَقَرَ مَحْصُورَةٌ فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ تَحْرِيمِ مَا حَكَمُوا بِتَحْرِيمِهِ مَحْصُورَةً فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ بَلْ عِلَّةُ تَحْرِيمِهَا كَوْنُهَا بَحِيرَةً أَوْ سَائِبَةً أَوْ وَصِيلَةً أَوْ حَامًا أَوْ سَائِرَ
166
الِاعْتِبَارَاتِ كَمَا أَنَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ ذَبْحَ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَجْلِ الْأَكْلِ. فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ الْحَيَوَانَ إِنْ كَانَ قَدْ حُرِّمَ لِكَوْنِهِ ذَكَرًا وَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ كُلُّ حَيَوَانٍ ذَكَرٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ حُرِّمَ لِكَوْنِهِ أُنْثَى وَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ كُلُّ حَيَوَانٍ أُنْثَى وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْكَلَامُ لَازِمًا عَلَيْنَا فَكَذَا هَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَذْكُرَ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهًا صَحِيحًا فَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِالْوُجُوهِ الْفَاسِدَةِ فَلَا يَجُوزُ وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَا وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ بَلْ هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ يَعْنِي أَنَّكُمْ لَا تُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ نَبِيٍّ وَلَا تَعْرِفُونَ شَرِيعَةَ شَارِعٍ فَكَيْفَ تَحْكُمُونَ بِأَنَّ هَذَا يَحِلُّ وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ؟ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ حُكْمَهُمْ بِالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ مَخْصُوصٌ بِالْإِبِلِ فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ النِّعَمَ عِبَارَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ فَلَمَّا لَمْ تَحْكُمُوا بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ: الضَّأْنُ وَالْمَعْزُ وَالْبَقَرُ فَكَيْفَ خَصَصْتُمُ الْإِبِلَ بِهَذَا الْحُكْمِ عَلَى التَّعْيِينِ؟ فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا وَالْمُرَادُ هَلْ شَاهَدْتُمُ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا إِنْ كُنْتُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِرَسُولٍ؟ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّكُمْ لَا تَعْتَرِفُونَ بِنُبُوَّةِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَكَيْفَ تُثْبِتُونَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْمُخْتَلِفَةَ؟ وَلَمَّا بَيَّنَ ذَلِكَ قَالَ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يُرِيدُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي غَيَّرَ شَرِيعَةَ إِسْمَاعِيلَ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَحْمُولًا عَلَى كُلِّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَالْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِهَذَا الْحُكْمِ عَامَّةٌ/ فَالتَّخْصِيصُ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ. قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي تَحْرِيمِ مُبَاحٍ اسْتَحَقَّ هَذَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى. اللَّهِ الْكَذِبَ فِي مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَمَعْرِفَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمَلَائِكَةِ وَمَبَاحِثِ الْمَعَادِ كَانَ وَعِيدُهُ أَشَدَّ وَأَشَقَّ: قَالَ الْقَاضِي: وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِضْلَالَ عَنِ الدِّينِ مَذْمُومٌ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا ذَمَّ الْإِضْلَالَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَحْرِيمُ الْمُبَاحِ فَالَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ أَوْلَى بِالذَّمِّ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ مَذْمُومًا مِنَّا كَانَ مَذْمُومًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَتَسْلِيطَ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِمْ وَتَمْكِينَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْفُجُورِ مَذْمُومٌ مِنَّا وَغَيْرُ مَذْمُومٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَكَذَا هَاهُنَا.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَالَ القاضي: لا يهديهم الا ثَوَابِهِ وَإِلَى زِيَادَاتِ الْهُدَى الَّتِي يَخْتَصُّ الْمُهْتَدِيَ بِهَا. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِي أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ أَيْ لَا يَنْقُلُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَالْكَلَامُ فِي تَرْجِيحِ أَحْدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ معلوم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٧]
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)
167
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فَسَادَ طَرِيقَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ أَتْبَعَهُ بِالْبَيَانِ الصَّحِيحِ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِالتَّاءِ مَيْتَةً بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ أَوِ النَّفْسُ أَوِ الْجُثَّةُ مَيْتَةً. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِالتَّاءِ مَيْتَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى إِلَّا أَنْ تَقَعَ مَيْتَةٌ أَوْ تَحْدُثَ مَيْتَةٌ وَالْبَاقُونَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَيْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَأْكُولُ مَيْتَةً أَوْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ مَيْتَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالْوَحْيِ قَالَ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ أَيْ عَلَى آكِلٍ يَأْكُلُهُ وَذَكَرَ هَذَا لِيُظْهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ هُوَ بَيَانُ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ. ثُمَّ ذَكَرَ أُمُورًا أَرْبَعَةً: أَوَّلُهَا: الْمَيِّتَةُ وَثَانِيهَا: الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَثَالِثُهَا: لَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَإِنَّهُ رِجْسٌ وَرَابِعُهَا: الْفِسْقُ وَهُوَ الَّذِي أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ مُبَالَغَةٌ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُحَلَّلَاتِ إِلَّا بِالْوَحْيِ وَثَبَتَ أَنَّهُ لَا وَحْيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُهُ أَنْ يَقُولَ:
إِنِّي لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ كَانَ هَذَا مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ أَنَّهُ لَا مُحَرَّمَ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ ثُمَّ أَكَدَّ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: ١١٥] وَكَلِمَةُ (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ فَقَدْ حَصَلَتْ لَنَا آيَتَانِ مَكِّيَّتَانِ يَدُلَّانِ عَلَى حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَبَيَّنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ أَيْضًا أَنَّهُ لَا مُحَرَّمَ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ فَقَالَ:
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة: ١٧٣] وَكَلِمَةُ (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْمَدَنِيَّةُ مُطَابِقَةً لِتِلْكَ الْآيَةِ الْمَكِّيَّةِ لِأَنَّ كَلِمَةَ: (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ فَكَلِمَةُ إِنَّما فِي الْآيَةِ الْمَدَنِيَّةِ مُطَابِقَةٌ لِقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً إِلَّا كَذَا وَكَذَا فِي الْآيَةِ الْمَكِّيَّةِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ [الْمَائِدَةِ: ١] وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَلِيلٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ [المائدة: ٣] وَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَقْسَامُ الْمَيْتَةِ وَأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَعَادَهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْكُمُونَ عَلَيْهَا بِالتَّحْلِيلِ فَثَبَتَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا/ كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً عَلَى هَذَا الْحُكْمِ وَعَلَى هَذَا الْحَصْرِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَيَلْزَمُكُمْ فِي الْتِزَامِ هَذَا الْحَصْرِ تَحْلِيلُ النَّجَاسَاتِ وَالْمُسْتَقْذَرَاتِ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَيْضًا تَحْلِيلُ الْخَمْرِ وَأَيْضًا فَيَلْزَمُكُمْ تَحْلِيلُ الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِتَحْرِيمِهَا.
قُلْنَا: هَذَا لَا يَلْزَمُنَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا حَرَّمَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ لِكَوْنِهِ نَجِسًا فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ النَّجَاسَةَ عِلَّةٌ لِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ نَجِسٍ يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَإِذَا كَانَ هَذَا مَذْكُورًا فِي الْآيَةِ كَانَ السُّؤَالُ سَاقِطًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:
168
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٧] وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ الْخَبَائِثِ وَالنَّجَاسَاتُ خَبَائِثُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهَا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى حُرْمَةِ تَنَاوُلِ النَّجَاسَاتِ فَهَبْ أَنَّا الْتَزَمْنَا تَخْصِيصَ هَذِهِ السُّورَةِ بِدَلَالَةِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ فِي بَابِ النَّجَاسَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَا سِوَاهَا عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ تَمَسُّكًا بِعُمُومِ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْآيَةِ الْمَكِّيَّةِ وَالْآيَةِ الْمَدَنِيَّةِ فَهَذَا أَصْلٌ مُقَرَّرٌ كَامِلٌ فِي بَابِ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ وَأَمَّا الْخَمْرُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهَا نَجِسَةٌ فَيَكُونُ مِنَ الرِّجْسِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: رِجْسٌ وَتَحْتَ قَوْلِهِ: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَأَيْضًا ثَبَتَ تَخْصِيصُهُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ دِينِ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في تحريمه وبقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: ٩٠] وَبِقَوْلِهِ: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [الْبَقَرَةِ: ٢١٩] وَالْعَامُّ الْمَخْصُوصُ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ فَتَبْقَى هَذِهِ الْآيَةُ فِيمَا عَدَاهَا حُجَّةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَيَلْزَمُ تَحْلِيلُ الْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهَا مَيْتَاتٌ فَكَانَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّا نَخُصُّ عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ بِتِلْكَ الْآيَةِ وَثَالِثُهَا: أَنْ نَقُولَ إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَيْتَةً دَخَلَتْ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَيْتَةً فَنُخَصِّصُهَا بِتِلْكَ الْآيَةِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْمُحَرَّمَاتُ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَمَا وجهها؟
أجابوا عنه من وجه: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى لَا أَجِدُ مُحَرَّمًا مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُهُ مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَغَيْرِهَا إِلَّا مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمٌ غَيْرَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ وُجِدَتْ مُحَرَّمَاتٌ أُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا: هَبْ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ إِلَّا أَنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ فَنَحْنُ نُخَصِّصُ هَذَا الْعُمُومَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ لَا يَجِدُ فِي الْقُرْآنِ وَيَجُوزُ أَنْ يُحَرِّمَ اللَّهُ تَعَالَى مَا سِوَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْأَجْوِبَةُ ضَعِيفَةٌ.
أَمَّا الْجَوَابُ الْأَوَّلُ: فَضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً مَا كَانَ يُحَرِّمُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ السَّوَائِبِ وَالْبَحَائِرِ وغيرها إذا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَمَا كَانَتِ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ دَاخِلَةً تَحْتَهُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ دَاخِلَةً تَحْتَ قَوْلَهُ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً لَمَا حَسُنَ اسْتِثْنَاؤُهَا وَلَمَّا رَأَيْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُسْتَثْنَاةٌ عَنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ مَا ذَكَرُوهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ فِي تَحْرِيمِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَصَّصَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَتَحْلِيلُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَرَّمَهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَحْلِيلِ غَيْرِهَا فَوَجَبَ إِبْقَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عُمُومِهَا لِأَنَّ تَخْصِيصَهَا يُوجِبُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِعُمُومِهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ في سورة البقرة: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ [البقرة: ١٧٣] وذكره هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْأَرْبَعَةَ وَكَلِمَةُ (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ غَيْرُ مَسْبُوقَةٍ بِحِكَايَةِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي تَحْرِيمِ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ فَسَقَطَ هَذَا الْعُذْرُ.
وَأَمَّا جَوَابُهُمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ.
فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة: ١٧٣] آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الشَّرِيعَةِ وَكَلِمَةُ: (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ فَدَلَّ
169
هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا لَيْسَ إِلَّا حَصْرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِمُقْتَضَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ حَصْرُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ كان هذا اعترافا يحل مَا سِوَاهَا فَالْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ خَامِسٍ يَكُونُ نَسْخًا وَلَا شَكَّ أَنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ احْتِمَالُ طَرَيَانِ النَّاسِخِ مُعَادِلًا لِاحْتِمَالِ بَقَاءِ الْحُكْمِ عَلَى مَا كَانَ فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنَ النُّصُوصِ فِي إِثْبَاتِ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا إِلَّا أَنَّهُ زَالَ وَلَمَّا اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ وَأَنَّ الْقَائِلَ بِهِ وَالذَّاهِبَ إِلَيْهِ هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ عَلِمْنَا فَسَادَ هَذَا السُّؤَالِ.
وَأَمَّا جَوَابُهُمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّا نُخَصِّصُ عُمُومَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَنَقُولُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ بَلْ هُوَ صَرِيحُ النَّسْخِ لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ مُبَالَغَةٌ فِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ سِوَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَكَذَا وَكَذَا تَصْرِيحٌ بِحَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ كَلِمَةَ (إِنَّمَا) تُفِيدُ الْحَصْرَ فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ يَكُونُ دَفْعًا لِهَذَا الَّذِي ثَبَتَ بِمُقْتَضَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي أَوَّلِ الشَّرِيعَةِ بِمَكَّةَ/ وَفِي آخِرِهَا بِالْمَدِينَةِ وَنَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا جَوَابُهُمُ الرَّابِعُ: فَضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا كَانَ وَحْيًا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَحْيُ قُرْآنًا أَوْ غَيْرَهُ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ يُزِيلُ هَذَا الِاحْتِمَالَ فَثَبَتَ بِالتَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا قُوَّةُ هَذَا الْكَلَامِ وَصِحَّةُ هَذَا الْمَذْهَبِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَقُولُ بِهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمِنَ السُّؤَالَاتِ الضَّعِيفَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ خَصَّصُوا عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا
نُقِلَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَا اسْتَخْبَثَهُ الْعَرَبُ فَهُوَ حَرَامٌ» وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِي يَسْتَخْبِثُهُ الْعَرَبُ فَهُوَ غَيْرُ مَضْبُوطٍ فَسَيِّدُ الْعَرَبِ بَلْ سَيِّدُ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لما رآهم يأكلون الضب وقال: «يَعَافُهُ طَبْعِي»
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الِاسْتِقْذَارَ مَا صَارَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ الضَّبِّ. وَأَمَّا سَائِرُ الْعَرَبِ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَقْذِرُ شَيْئًا وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَيَسْتَقْذِرُهَا قَوْمٌ وَيَسْتَطِيبُهَا آخَرُونَ فَعَلِمْنَا أَنَّ أَمْرَ الِاسْتِقْذَارِ غَيْرُ مَضْبُوطٍ بَلْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَكَيْفَ يَجُوزُ نَسْخُ هَذَا النَّصِّ الْقَاطِعِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ مُعَيَّنٌ وَلَا قَانُونٌ مَعْلُومٌ؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا الْمَسَائِلَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ: فَأَوَّلُهَا: الْمَيْتَةُ وَدَخَلَهَا التَّخْصِيصُ فِي
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ»
وَثَانِيهَا: الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَالسَّفْحُ الصَّبُّ يُقَالُ: سَفَحَ الدَّمَ سَفْحًا وَسَفَحَ هُوَ سُفُوحًا إِذَا سَالَ وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِكُثَيِّرٍ:
أَقُولُ وَدَمْعِي وَاكِفٌ عِنْدَ رَسْمِهَا عَلَيْكِ سَلَامُ اللَّهِ وَالدَّمْعُ يَسْفَحُ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَا خَرَجَ مِنَ الْأَنْعَامِ وَهِيَ أَحْيَاءٌ وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَوْدَاجِ عِنْدَ الذَّبْحِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَلَا يَدْخُلُ في الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ لِجُمُودِهِمَا وَلَا مَا يَخْتَلِطُ بِاللَّحْمِ من الدم فإنه غير سائل وسئل او مِجْلَزٍ عَمَّا يَتَلَطَّخُ مِنَ اللَّحْمِ بِالدَّمِ. وَعَنِ الْقَدَرِيِّ: يُرَى فِيهَا حُمْرَةُ الدَّمِ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ إِنَّمَا نُهِيَ عَنِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ. وَثَالِثُهَا: لَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَإِنَّهُ رِجْسٌ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَهُوَ منسوق على
170
قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً فَسُمِّيَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ- فِسْقًا- لِتَوَغُّلِهِ فِي بَابِ الْفِسْقِ كَمَا يُقَالُ:
فُلَانٌ كَرَمٌ وَجُودٌ إِذَا كَانَ كَامِلًا فِيهِمَا وَمِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الانعام: ١٢١].
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ.
أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ بَيَّنَ أَنْ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ يَزُولُ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ وَهَذِهِ الْآيَةُ قَدِ اسْتَقْصَيْنَا تَفْسِيرَهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَوْلُهُ عَقِيبَ ذَلِكَ: فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الرُّخْصَةِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ أَشْيَاءَ أُخْرَى سِوَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ ذِي ظُفُرٍ. وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فِي الظُّفُرِ لُغَاتٌ ظُفُرٌ بِضَمِّ الْفَاءِ وَهُوَ أَعْلَاهَا وَظُفْرٌ بِسُكُونِ الْفَاءِ وَظِفْرٌ بِكَسْرِ الظَّاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَظِفِرٌ بِكَسْرِهِمَا وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي السَّمَّالِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي كُلِّ ذِي ظُفُرٍ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْيَهُودِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ الْإِبِلُ فَقَطْ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ الْإِبِلُ وَالنَّعَامَةُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ: إِنَّهُ كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَكُلُّ ذي حافر من الدواب. ثم قال: ذلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَقَالَ:
وَسُمِّيَ الْحَافِرُ ظُفُرًا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ. وَأَقُولُ: أَمَّا حَمْلُ الظُّفُرِ عَلَى الْحَافِرِ فَبَعِيدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَافِرَ لَا يَكَادُ يُسَمَّى ظُفُرًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ حَيَوَانٍ لَهُ حَافِرٌ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَنَمَ والبقر مباحان لهم من لحصول الْحَافِرِ لَهُمَا.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: وَجَبَ حمل الظفر على المخالب والبراثن لان المخاطب آلَاتُ الْجَوَارِحِ فِي الِاصْطِيَادِ وَالْبَرَاثِنَ آلَاتُ السِّبَاعِ فِي الِاصْطِيَادِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: يَدْخُلُ فِيهِ أَنْوَاعُ السِّبَاعِ وَالْكِلَابِ وَالسَّنَانِيرِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الطُّيُورُ الَّتِي تَصْطَادُ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ تَعُمُّ هَذِهِ الْأَجْنَاسَ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ يُفِيدُ تَخْصِيصَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ.
بِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كَذَا وَكَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ فِي اللُّغَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي حَقِّ الْكُلِّ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا فَائِدَةٌ فَثَبَتَ أَنَّ تَحْرِيمَ السِّبَاعِ وَذَوِي الْمَخَالِبِ مِنَ الطَّيْرِ مُخْتَصٌّ بِالْيَهُودِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَصَارَتْ هذه الآية دالة على هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: ما
روي انه صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ حَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطُّيُورِ
ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ عَلَى خِلَافِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَقْبُولًا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ:
يَقْوَى قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْيَهُودِ خَاصَّةً قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ شُحُومَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ثُمَّ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: إِنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى عَنْ هَذَا التَّحْرِيمِ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا مَا عَلِقَ بِالظَّهْرِ مِنَ الشَّحْمِ فَإِنِّي لَمْ أُحَرِّمْهُ وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا مَا عَلِقَ بِالظَّهْرِ وَالْجَنْبِ/ مِنْ دَاخِلِ بُطُونِهَا وَأَقُولُ لَيْسَ عَلَى الظَّهْرِ وَالْجَنْبِ شَحْمٌ إِلَّا اللَّحْمُ الْأَبْيَضُ السَّمِينُ الْمُلْتَصِقُ بِاللَّحْمِ الْأَحْمَرِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فذلك اللحم
171
السمين الملتصق مسمم بِالشَّحْمِ وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ: لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الشَّحْمَ وَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ بِأَكْلِ ذَلِكَ اللَّحْمِ السَّمِينِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوِ الْحَوايا قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهِيَ الْمَبَاعِرُ وَالْمَصَارِينُ وَاحِدَتُهَا حَاوِيَةٌ وَحَوِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هِيَ الْحَوِيَّةُ أَوِ الْحَاوِيَةُ وَهِيَ الدَّوَّارَةُ الَّتِي فِي بَطْنِ الشَّاةِ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ حَاوِيَةٌ وَحَوَايَا مِثْلُ رواية وَرَوَايَا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا: فَالْمُرَادُ أَنَّ الشُّحُومَ الْمُلْتَصِقَةَ بِالْمَبَاعِرِ وَالْمَصَارِينِ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ الثَّالِثُ: قوله: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ قَالُوا: إِنَّهُ شَحْمُ الْأَلْيَةِ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كُلُّ شَحْمٍ فِي الْقَائِمِ وَالْجَنْبِ وَالرَّأْسِ وَفِي الْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ يَقُولُ: إِنَّهُ اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالشَّحْمُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُوَ الثَّرَبُ وَشَحْمُ الْكُلْيَةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَوِ الْحَوايا غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى الْمُسْتَثْنَى بَلْ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالتَّقْدِيرُ: حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ شُحُومُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ قَالُوا:
وَدَخَلَتْ كَلِمَةُ «أَوْ» كَدُخُولِهَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الْإِنْسَانِ: ٢٤] وَالْمَعْنَى كُلُّ هَؤُلَاءِ أَهْلٌ أَنْ يُعْصَى فَاعْصِ هَذَا وَاعْصِ هَذَا فَكَذَا هَاهُنَا الْمَعْنَى حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ هَذَا وَهَذَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّا إِنَّمَا خَصَّصْنَاهُمْ بِهَذَا التَّحْرِيمِ جَزَاءً عَلَى بَغْيِهِمْ وَهُوَ قَتْلُهُمُ الْأَنْبِيَاءَ وَأَخْذُهُمُ الرِّبَا وَأَكْلُهُمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النِّسَاءِ: ١٦٠].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّا لَصادِقُونَ أَيْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ بَغْيِهِمْ وَفِي الْإِخْبَارِ عَنْ تَخْصِيصِهِمْ بِهَذَا التَّحْرِيمِ بِسَبَبِ بَغْيِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: نَفْسُ التَّحْرِيمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً عَلَى جُرْمٍ صَدَرَ عَنْهُمْ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ تَعْرِيضٌ لِلثَّوَابِ وَالتَّعْرِيضُ لِلثَّوَابِ إِحْسَانٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ جَزَاءً عَلَى الْجُرْمِ الْمُتَقَدِّمِ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الِانْتِفَاعِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِمَزِيدِ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِلْجُرْمِ الْمُتَقَدِّمِ وَكُلُّ وَاحِدٍ منهما غير مستبعد.
[قوله تعالى فَإِنْ كَذَّبُوكَ إلى قوله عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ يَعْنِي إِنْ كَذَّبُوكَ فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَكَذَّبُوكَ فِي تَبْلِيغِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ فَلِذَلِكَ لَا يُعَجِّلُ عَلَيْكُمْ بِالْعُقُوبَةِ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ أَيْ عَذَابُهُ إِذَا جَاءَ الْوَقْتُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ يَعْنِي الَّذِينَ كَذَّبُوكَ فِيمَا تقول. والله اعلم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٨ الى ١٤٩]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِقْدَامَهُمْ عَلَى الْحُكْمِ فِي دِينِ اللَّهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ حكى
172
عَنْهُمْ عُذْرَهُمْ فِي كُلِّ مَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِيَّاتِ فَيَقُولُونَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مِنَّا أَنْ لَا نَكْفُرَ لَمَنَعَنَا عَنْ هَذَا الْكُفْرِ وَحَيْثُ لَمْ يَمْنَعْنَا عَنْهُ ثَبَتَ أَنَّهُ مُرِيدٌ لِذَلِكَ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنَّا امْتَنَعَ مِنَّا تَرْكُهُ فَكُنَّا مَعْذُورِينَ فِيهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ زَعَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ إِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ:
فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ صَرِيحَ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مِنَّا أَنْ لَا نُشْرِكَ لَمْ نُشْرِكْ وَإِنَّمَا حَكَى عَنْهُمْ هَذَا الْقَوْلَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ وَالتَّقْبِيحِ فَوَجَبَ كَوْنُ هَذَا الْمَذْهَبِ مَذْمُومًا بَاطِلًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَذَّبَ وَفِيهِ قِرَاءَتَانِ بِالتَّخْفِيفِ وَبِالتَّثْقِيلِ. أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّخْفِيفِ فَهِيَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي تَقُولُهُ الْمُجْبِرَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَذِبٌ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ فلا يمكن حملها على ان القول اسْتَوْجَبُوا الذَّمَّ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا أَهْلَ الْمَذَاهِبِ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَيْهِ لَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى ضِدًّا لِمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ كَذَبَ بِالتَّخْفِيفِ وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ ضِدًّا لِلْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى وَذَلِكَ يُوجِبُ دُخُولَ التَّنَاقُضِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنْ كُلَّ مَنْ كَذَّبَ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنَّهُ كَذَّبَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْكُلُّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا الَّذِي/ أَنَا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ إِنَّمَا حَصَلَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْهُ فَهَذَا طَرِيقٌ مُتَعَيِّنٌ لِكُلِّ الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي دَفْعِ دَعَوْتِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَإِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَارَتِ الْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ مُؤَكِّدَةً لِلْقِرَاءَةِ بِالتَّخْفِيفِ وَيَصِيرُ مَجْمُوعُ الْقِرَاءَتَيْنِ دَالًّا عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا الْوَعِيدَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَهَابِهِمْ إِلَى هذا المذهب.
الوجه الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَلَا حُجَّةٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ حَقًّا كَانَ الْقَوْلُ بِهِ عِلْمًا.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يونس: ٣٦].
وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وَالْخَرَصُ أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى:
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذَّارِيَاتِ: ١٠].
وَالْوَجْهُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُمُ احْتَجُّوا فِي دَفْعِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ قَالُوا: كُلُّ مَا حَصَلَ فَهُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا شَاءَ اللَّهُ مِنَّا ذَلِكَ فَكَيْفَ يُمْكِنُنَا تَرْكُهُ؟
وَإِذَا كُنَّا عَاجِزِينَ عَنْ تَرْكِهِ فَكَيْفَ يَأْمُرُنَا بِتَرْكِهِ؟ وَهَلْ فِي وُسْعِنَا وَطَاقَتِنَا أَنْ نَأْتِيَ بِفِعْلٍ عَلَى خِلَافِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَهَذَا هُوَ حُجَّةُ الْكُفَّارِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
173
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ عُقُولًا كَامِلَةً وَأَفْهَامًا وَافِيَةً وَآذَانًا سَامِعَةً وَعُيُونًا بَاصِرَةً وَأَقْدَرَكُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَأَزَالَ الْأَعْذَارَ وَالْمَوَانِعَ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْكُمْ فَإِنْ شِئْتُمْ ذَهَبْتُمْ إِلَى عَمَلِ الْخَيْرَاتِ وَإِنْ شِئْتُمْ إِلَى عَمَلِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ وَالْمُكْنَةُ مَعْلُومَةُ الثُّبُوتِ بِالضَّرُورَةِ وَزَوَالُ الْمَوَانِعِ وَالْعَوَائِقِ مَعْلُومُ الثُّبُوتِ أَيْضًا بِالضَّرُورَةِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ ادِّعَاؤُكُمْ أَنَّكُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ دَعْوَى بَاطِلَةً فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَالِغَةٌ! بَلْ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَيْكُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: لَوْ كَانَتْ أَفْعَالُنَا وَاقِعَةً عَلَى خِلَافِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكُنَّا قَدْ غَلَبْنَا اللَّهَ وَقَهَرْنَاهُ وَأَتَيْنَا بِالْفِعْلِ عَلَى مُضَادَّتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُ عَاجِزًا ضَعِيفًا وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ إِلَهًا.
فَأَجَابَ تَعَالَى عَنْهُ: بِأَنَّ الْعَجْزَ وَالضَّعْفَ إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا لَمْ أَكُنْ قَادِرًا عَلَى حَمْلِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْإِلْجَاءِ وَأَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا أَنِّي لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْإِلْجَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْحِكْمَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنَ التَّكْلِيفِ فَثَبَتَ بِهَذَا الْبَيَانِ أَنَّ الَّذِي يَقُولُونَهُ مِنْ أَنَّا لَوْ أَتَيْنَا بِعَمَلٍ عَلَى خِلَافِ مَشِيئَةِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ تَعَالَى عَاجِزًا ضَعِيفًا كَلَامٌ بَاطِلٌ فَهَذَا أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُذْكَرَ فِي تَمَسُّكِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْجَوَابُ الْمُعْتَمَدَ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا وَمَذْهَبِنَا وَنَقَلْنَا فِي كُلِّ آيَةٍ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ وَأَجَبْنَا عَنْهَا بِأَجْوِبَةٍ وَاضِحَةٍ قَوِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْتُمْ لَوَقَعَ التَّنَاقُضُ الصَّرِيحُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الطَّعْنِ فِيهِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا لَمَّا كَانَ الْكُلُّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ كَانَ التَّكْلِيفُ عَبَثًا فَكَانَتْ دَعْوَى الْأَنْبِيَاءِ بَاطِلَةً وَنُبُوَّتُهُمْ وَرِسَالَتُهُمْ بَاطِلَةً ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْتَمَسُّكَ بِهَذَا الطَّرِيقِ فِي إِبْطَالِ النُّبُوَّةِ بَاطِلٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِلَهٌ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ فِي فِعْلِهِ فَهُوَ تَعَالَى يَشَاءُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَمَعَ هَذَا فَيَبْعَثُ إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءَ وَيَأْمُرُهُ بِالْإِيمَانِ وَوُرُودُ الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ الْإِرَادَةِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ.
فَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِبْطَالِ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ فَاسِدٌ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْمَشِيئَةِ لِلَّهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ دَفْعُ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَقَطْ سَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِالْكُلِّيَّةِ وَجَمِيعُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فِي التَّقْبِيحِ وَالتَّهْجِينِ عَائِدٌ إِلَى تَمَسُّكِكُمْ بِثُبُوتِ الْمَشِيئَةِ لِلَّهِ عَلَى دَفْعِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَيَكُونُ الْحَاصِلُ: أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بَاطِلٌ وَلَيْسَ فِيهِ البتة ما يدل على ان القول بالمشية بَاطِلٌ.
فَإِنْ قَالُوا: هَذَا الْعُذْرُ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذْ قَرَأْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: كَذلِكَ كَذَّبَ بِالتَّشْدِيدِ وَأَمَّا إِذَا قَرَأْنَاهُ بِالتَّخْفِيفِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ هَذَا الْعُذْرُ بِالْكُلِّيَّةِ فَنَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّا نَمْنَعُ صِحَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا تَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا: فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى قَوْلِهِمْ لَوَقَعَ التَّنَاقُضُ
174
وَلَخَرَجَ الْقُرْآنُ عَنْ كَوْنِهِ كَلَامًا لِلَّهِ تَعَالَى وَيَنْدَفِعُ هَذَا التَّنَاقُضُ/ بِأَنْ لَا تُقْبَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ الثَّانِي: سَلَّمْنَا صِحَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَكِنَّا نَحْمِلُهَا عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَذَبُوا فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ أَفْعَالِ الْعِبَادِ سُقُوطُ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَبُطْلَانُ دَعْوَتِهِمْ وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَبْقَ لِلْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ تَمَسُّكٌ الْبَتَّةَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعَانَنَا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ هَذِهِ الْعُهْدَةِ الْقَوِيَّةِ وَمِمَّا يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَهَابِ بَصَرِهِ مَا تَقُولُ فِيمَنْ يَقُولُ: لَا قَدَرَ فَقَالَ إِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَتَيْتُ عَلَيْهِ وَيْلَهُ أَمَا يَقْرَأُ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: ٤٩] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [يس: ١٢] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ اكْتُبِ الْقَدَرَ فَجَرَى بِمَا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ
وَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: «الْمُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: زَعَمَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ عَطْفَ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ فِي الْفِعْلِ قَبِيحٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ:
قُمْتُ وَزَيْدٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ أَصْلٌ وَالْمَعْطُوفَ فَرْعٌ وَالْمُضْمَرَ ضَعِيفٌ وَالْمُظْهَرَ قَوِيٌّ وَجَعْلُ الْقَوِيِّ فَرْعًا لِلضَّعِيفِ لَا يَجُوزُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَنَقُولُ: إِنْ جَاءَ الْكَلَامُ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ وَجَبَ تَأْكِيدُ الضَّمِيرِ فَنَقُولُ قُمْتُ أَنَا وَزَيْدٌ وَإِنْ جَاءَ فِي جَانِبِ النَّفْيِ قُلْتَ مَا قُمْتُ وَلَا زَيْدٌ إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا فَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَلا آباؤُنا عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: مَا أَشْرَكْنا إِلَّا أَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا كَلِمَةُ لَا فَلَا جَرَمَ حَسُنَ هَذَا الْعَطْفُ. قَالَ فِي جَامِعِ الْأَصْفَهَانِيِّ: إِنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنِ اللَّفْظَةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلضَّمِيرِ حَتَّى يَحْسُنَ الْعَطْفُ وَيَنْدَفِعَ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ مِنْ عَطْفِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا قُلْنَا: (مَا أَشْرَكْنَا نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا) حَتَّى تَكُونَ كَلِمَةُ (لَا) مُقَدَّمَةً عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ. أَمَّا هَاهُنَا حَرْفُ الْعَطْفِ مُقَدَّمٌ عَلَى كَلِمَةِ (لَا) وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ كَلِمَةَ (لَا) لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى قَوْلِهِ: آباؤُنا كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا إِضْمَارَ فِعْلٍ هُنَاكَ لِأَنَّ صَرْفَ النَّفْيِ إِلَى ذَوَاتِ الْآبَاءِ مُحَالٌ بَلْ يَجِبُ صَرْفُ هَذَا النَّفْيِ إِلَى فِعْلٍ يَصْدُرُ مِنْهُمْ وَذَلِكَ هُوَ الْإِشْرَاكُ فَكَانَ التَّقْدِيرُ: مَا أَشْرَكْنَا وَلَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْإِشْكَالُ زَائِلٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلِهِمُ الْكُلُّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ فَكَلِمَةُ «لَوْ» فِي اللُّغَةِ تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ وَمَا هَدَاهُمْ أَيْضًا. وَتَقْرِيرُهُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ قُدْرَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ إِنْ لَمْ تَكُنْ قُدْرَةً عَلَى الْإِيمَانِ فَاللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مَا أَقْدَرَهُ عَلَى الْإِيمَانِ فَلَوْ شَاءَ الْإِيمَانَ مِنْهُ فَقَدْ شَاءَ الْفِعْلَ/ مِنْ غَيْرِ قُدْرَةٍ عَلَى الْفِعْلِ وَذَلِكَ مُحَالٌ وَمَشِيئَةُ الْمُحَالِ مُحَالٌ وَإِنْ كَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْكُفْرِ قُدْرَةً عَلَى الْإِيمَانِ تَوَقَّفَ رُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِيَةِ الْمُرَجِّحَةِ.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ فَقَدْ حَصَلَتِ الدَّاعِيَةُ الْمُرَجِّحَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَمَجْمُوعُهُمَا مُوجِبٌ لِلْفِعْلِ فَحَيْثُ لَمْ يَحْصُلِ الْفِعْلُ عَلِمْنَا أَنَّ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ لَمْ تَحْصُلْ وَإِذَا لَمْ تَحْصُلِ امْتَنَعَ مِنْهُ فِعْلُ الْإِيمَانِ وَإِذَا
175
امْتَنَعَ ذَلِكَ مِنْهُ امْتَنَعَ أَنْ يُرِيدَهُ اللَّهُ مِنْهُ لِأَنَّ إِرَادَةَ الْمُحَالِ مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ وَالْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ من كل الوجوه او ما قَوْلُهُ: تُحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ فَنَقُولُ: هَذَا التَّأْوِيلُ إِنَّمَا يَحْسُنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ لَوْ ثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ امْتِنَاعُ الْحَمْلِ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْكَلَامِ أَمَّا لَوْ قَامَ الْبُرْهَانُ العقلي على أن الحق ليس إلا ما دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الظَّاهِرُ فَكَيْفَ يُصَارُ إِلَيْهِ؟ ثُمَّ نَقُولُ: هَذَا الدَّلِيلُ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِضْمَارٍ فَنَحْنُ نَقُولُ: التَّقْدِيرُ: لَوْ شَاءَ الْهِدَايَةَ لَهَدَاكُمْ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ التَّقْدِيرُ: لَوْ شَاءَ الْهِدَايَةَ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ لَهَدَاكُمْ فَإِضْمَارُكُمْ أَكْثَرُ فَكَانَ قَوْلُكُمْ مَرْجُوحًا. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ مِنَ الْكَافِرِ الْإِيمَانَ الِاخْتِيَارِيَّ وَالْإِيمَانُ الْحَاصِلُ بِالْإِلْجَاءِ غَيْرُ الْإِيمَانِ الْحَاصِلِ بِالِاخْتِيَارِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَلْزَمُ كَوْنُهُ تَعَالَى عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِ مُرَادِهِ لِأَنَّ مُرَادَهُ هُوَ الْإِيمَانُ الِاخْتِيَارِيُّ وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ الْبَتَّةَ عَلَى تَحْصِيلِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ بِالْعَجْزِ لَازِمًا. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِيمَانِ الْحَاصِلِ بِالِاخْتِيَارِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ الْحَاصِلِ بِالْإِلْجَاءِ. أَمَّا الْإِيمَانُ الْحَاصِلُ بِالِاخْتِيَارِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ دَاعِيَةٍ جَازِمَةٍ وَإِرَادَةٍ لَازِمَةٍ فَإِنَّ الدَّاعِيَةَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُصُولُ الْفِعْلِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ يَجِبُ تَرَتُّبُ الْفِعْلِ عَلَيْهَا أَوْ لَا يَجِبُ فَإِنْ وَجَبَ فَهِيَ الدَّاعِيَةُ الضَّرُورِيَّةُ وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى بينهما وَبَيْنَ الدَّاعِيَةِ الْحَاصِلَةِ بِالْإِلْجَاءِ فَرْقٌ وَإِنْ لَمْ تجب تَرَتُّبُ الْفِعْلِ عَلَيْهَا فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ تَخَلُّفُ الْفِعْلِ عَنْهَا فَلْنَفْرِضْ تَارَةً ذَلِكَ الْفِعْلَ مُتَخَلِّفًا عَنْهَا وَتَارَةً غَيْرَ مُتَخَلِّفٍ فَامْتِيَازُ أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ عَنِ الْآخَرِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِمُرَجِّحٍ زَائِدٍ فَالْحَاصِلُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا كَانَ تَمَامَ الدَّاعِيَةِ وَقَدْ فَرَضْنَاهُ كَذَلِكَ وَهَذَا خُلْفٌ ثُمَّ عِنْدَ انْضِمَامِ هَذَا الْقَيْدِ الزَّائِدِ إِنْ وَجَبَ الْفِعْلُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الضَّرُورِيَّةِ فَرْقٌ وَإِنْ لَمْ يَجِبِ افْتَقَرَ إِلَى قَيْدٍ زَائِدٍ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْفَرْقَ الَّذِي ذَكَرُوهُ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَبَيْنَ الدَّاعِيَةِ الضَّرُورِيَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُعْتَبَرًا إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ وَالْبَحْثِ لَا يَبْقَى لَهُ مَحْصُولٌ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٠]
قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَبْطَلَ عَلَى الْكُفَّارِ جَمِيعَ انواع حجهم بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ شُهُودٌ الْبَتَّةَ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَلُمَّ كَلِمَةُ دَعْوَةٍ إِلَى الشَّيْءِ وَالْمَعْنَى: هَاتُوا شُهَدَاءَكُمْ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالْجَمْعُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى قَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ وَقَالَ:
وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا [الْأَحْزَابِ: ١٨] وَاللُّغَةُ الثَّانِيَةُ يُقَالُ لِلِاثْنَيْنِ: هَلُمَّا وَلِلْجَمْعِ: هَلُمُّوا وَلِلْمَرْأَةِ: هَلُمِّي وَلِلِاثْنَيْنِ: هَلُمَّا وللجمع: هلمن وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَصْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ قَوْلَانِ: قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ إِنَّهَا «هَا» ضُمَّتْ إِلَيْهَا «لُمَّ» أَيْ جَمِّعْ وَتَكُونُ بِمَعْنَى ادْنُ يُقَالُ: لِفُلَانٍ لَمَّةٌ أَيْ دُنُوٌّ ثُمَّ جُعِلَتَا كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْفَائِدَةُ فِي قَوْلِنَا: «هَا» اسْتِعْطَافُ الْمَأْمُورِ وَاسْتِدْعَاءُ إِقْبَالِهِ عَلَى الْأَمْرِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ حُذِفَ عَنْهُ الْأَلِفُ عَلَى سَبِيلِ التَّخْفِيفِ كَقَوْلِكَ: لَمْ أُبْلَ وَلَمْ أَرَ وَلَمْ تَكُ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُهَا «هَلْ» أُمَّ أَرَادُوا «بِهَلْ» حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ وَبِقَوْلِنَا: «أُمَّ» اي اقصد؟
وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ قَصَدَ؟ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْأَمْرُ بِالْقَصْدِ كَأَنَّكَ تَقُولُ: اقْصِدْ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَانَ الْأَصْلُ أَنْ قَالُوا: هَلْ لَكَ فِي الطَّعَامِ أَمٌّ أَيْ قَصْدٌ؟ ثُمَّ شَاعَ فِي الْكُلِّ كَمَا أَنَّ كَلِمَةَ «تَعَالَى» كَانَتْ مَخْصُوصَةً بِصُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ عَمَّتْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ بِاسْتِدْعَاءِ إِقَامَةِ الشُّهَدَاءِ مِنَ الْكَافِرِينَ لِيُظْهِرَ أَنْ لَا شَاهِدَ لَهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ وَمَعْنَى هَلُمَّ أَحْضِرُوا شُهَدَاءَكُمْ.
ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ تَنْبِيهًا عَلَى كَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنْ وَقَعَتْ مِنْهُمْ تِلْكَ الشَّهَادَةُ فَعَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ لَا يَتَّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ ثُمَّ زَادَ فِي تَقْبِيحِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَكَانُوا مِمَّنْ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ وَزَادَ فِي تَقْبِيحِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَعْدِلُونَ بِرَبِّهِمْ/ فَيَجْعَلُونَ لَهُ شُرَكَاءَ. وَاللَّهُ اعلم
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥١]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فَسَادَ مَا يَقُولُ الْكُفَّارُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْنَا كَذَا وَكَذَا أَرْدَفَهُ تَعَالَى بِبَيَانِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :«تَعَالَ» مِنَ الْخَاصِّ الَّذِي صَارَ عَامًّا وَأَصْلُهُ ان يقوله من كان في مكان عال لِمَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ ثُمَّ كَثُرَ وَعَمَّ وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ مَنْصُوبٌ وَفِي نَاصِبِهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: أَتْلُ وَالتَّقْدِيرُ: أَتْلُ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَيْكُمْ وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِحَرَّمَ وَالتَّقْدِيرُ: أَتْلُ الْأَشْيَاءَ الَّتِي حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً كَالتَّفْصِيلِ لِمَا أَجْمَلَهُ فِي قَوْلِهِ: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ تَرْكَ الشِّرْكِ وَالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ لَا مُحَرَّمٌ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّحْرِيمِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ حَرِيمًا مُعَيَّنًا وَذَلِكَ بِأَنْ بَيَّنَهُ بَيَانًا مَضْبُوطًا مُعَيَّنًا فَقَوْلُهُ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ معناه: اتل عليكم ما بينه شَافِيًا بِحَيْثُ يَجْعَلُ لَهُ حَرِيمًا مُعَيَّنًا وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ وَانْقَطَعَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ:
عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا كَمَا يُقَالُ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ أَوْ أَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ وَانْقَطَعَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً بِمَعْنَى لِئَلَّا تُشْرِكُوا وَالتَّقْدِيرُ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ لِئَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ «أَنْ» / فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تُشْرِكُوا مُفَسِّرَةً بِمَعْنَى: أَيْ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَيْ لَا تُشْرِكُوا أَيْ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ هُوَ قَوْلُهُ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مُفَسِّرًا لِقَوْلِهِ: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْإِحْسَانُ بِالْوَالِدَيْنِ حَرَامًا وَهُوَ باطل.
177
قُلْنَا: لَمَّا أَوْجَبَ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِمَا فَقَدْ حَرَّمَ الْإِسَاءَةَ إِلَيْهِمَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ في هذه الآية امور خَمْسَةً: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ شَرَحَ فِرَقَ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَجْعَلُونَ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِلَيْهِمُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الْأَنْعَامِ: ٧٤].
وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَبَدَةُ الْكَوَاكِبِ وَهُمُ الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبْطَلَ قَوْلَهُمْ بِقَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الانعام: ٧٦].
وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ انهم جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: ١٠٠] وَهُمُ الْقَائِلُونَ بِيَزْدَانَ وَأَهْرِمَنْ.
وَالطَّائِفَةُ الرَّابِعَةُ: الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ بَنِينَ وَبَنَاتٍ وَأَقَامَ الدَّلَائِلَ عَلَى فَسَادِ أَقْوَالِ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ وَالْفِرَقِ فَلَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلِيلِ فَسَادَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ قَالَ هَاهُنَا: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَوْجَبَهَا هَاهُنَا قَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَإِنَّمَا ثَنَّى بِهَذَا التَّكْلِيفِ لِأَنَّ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ النِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ نِعْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتْلُوهَا نِعْمَةُ الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ الْحَقِيقِيَّ فِي وُجُودِ الْإِنْسَانِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَفِي الظَّاهِرِ هُوَ الْأَبَوَانِ ثُمَّ نِعَمُهُمَا عَلَى الْإِنْسَانِ عَظِيمَةٌ وَهِيَ نِعْمَةُ التَّرْبِيَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْحِفْظِ عَنِ الضَّيَاعِ وَالْهَلَاكِ فِي وَقْتِ الصِّغَرِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فَأَوْجَبَ بَعْدَ رِعَايَةِ حُقُوقِ الْأَبَوَيْنِ رِعَايَةَ حُقُوقِ الْأَوْلَادِ وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ أَيْ مِنْ خَوْفِ الْفَقْرِ وَقَدْ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْخَوْفِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الْإِسْرَاءِ: ٣١] وَالْمُرَادُ منه النهي عن الواد إذا كَانُوا يَدْفِنُونَ الْبَنَاتِ أَحْيَاءً بَعْضُهُمْ لِلْغَيْرَةِ وَبَعْضُهُمْ خَوْفَ الْفَقْرِ وَهُوَ السَّبَبُ الْغَالِبُ فَبَيَّنَ تَعَالَى فَسَادَ هَذِهِ الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ مُتَكَفِّلًا بِرِزْقِ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ فَكَمَا وَجَبَ عَلَى الْوَالِدَيْنِ تَبْقِيَةُ النَّفْسِ وَالِاتِّكَالُ فِي رِزْقِهَا عَلَى اللَّهِ فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي حَالِ الْوَلَدِ قَالَ شِمْرٌ: أَمْلَقَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ يُقَالُ: أَمْلَقَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُمْلِقٌ إِذَا افْتَقَرَ فَهَذَا لَازِمٌ وَأَمْلَقَ/ الدَّهْرُ مَا عِنْدَهُ إِذَا أَفْسَدَهُ وَالْإِمْلَاقُ الْفَسَادُ.
وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَكْرَهُونَ الزِّنَا عَلَانِيَةً وَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ سِرًّا فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنِ الزِّنَا عَلَانِيَةً وَسِرًّا وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُخَصَّصَ هَذَا النَّهْيُ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ بَلْ يَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ الْفَوَاحِشِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَالْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِهَذَا النَّهْيِ وَهُوَ كَوْنُهُ فَاحِشَةً عَامٌّ أَيْضًا وَمَعَ عُمُومِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى يَكُونُ التَّخْصِيصُ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ وَفِي قَوْلِهِ: مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ دَقِيقَةٌ وَهِيَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا احْتَرَزَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي الظَّاهِرِ وَلَمْ يَحْتَرِزْ عَنْهَا فِي الْبَاطِنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ احْتِرَازَهُ عَنْهَا لَيْسَ لِأَجْلِ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَلَكِنْ لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْ مَذَمَّةِ النَّاسِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مَذَمَّةُ النَّاسِ عِنْدَهُ أَعْظَمَ وَقْعًا مِنْ عِقَابِ اللَّهِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَمَنْ تَرَكَ الْمَعْصِيَةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَهَا تَعْظِيمًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَوْفًا مِنْ عَذَابِهِ وَرَغْبَةً فِي عبوديته.
178
وَالنَّوْعُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الْفَوَاحِشِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ لِفَائِدَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْإِفْرَادَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ كَقَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: ٩٨] وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهُ وَلَا يَتَأَتَّى هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي جُمْلَةِ الْفَوَاحِشِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: إِلَّا بِالْحَقِّ أَيْ قَتْلُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ قَدْ يَكُونُ حَقًّا لِجُرْمٍ يَصْدُرُ مِنْهَا.
وَالْحَدِيثُ أَيْضًا مُوَافِقٌ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ وَزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» وَالْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى سَبَبٍ رَابِعٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [الْمَائِدَةِ: ٣٣].
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ هُوَ الْحُرْمَةُ وَحِلُّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَحْوَالَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ أَتْبَعَهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي يُقَرِّبُ إِلَى الْقَلْبِ الْقَبُولَ فَقَالَ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لِمَا فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ مِنَ اللُّطْفِ وَالرَّأْفَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ لِيَكُونَ الْمُكَلَّفُ أَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ لِكَيْ تَعْقِلُوا فَوَائِدَ هَذِهِ التَّكَالِيفِ وَمَنَافِعَهَا في الدين والدنيا.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٢]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّكَالِيفِ وَهِيَ أُمُورٌ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ لَا حَاجَةَ فِيهَا إِلَى الْفِكْرِ وَالِاجْتِهَادِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّكَالِيفِ وَهِيَ أُمُورٌ خَفِيَّةٌ يَحْتَاجُ الْمَرْءُ الْعَاقِلُ فِي مَعْرِفَتِهِ بِمِقْدَارِهَا إِلَى التَّفَكُّرِ والتأمل والاجتهاد.
فالنوع الاولى: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قال في سورة البقرة: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٢٠] وَالْمَعْنَى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِأَنْ يَسْعَى فِي تَنْمِيَتِهِ وَتَحْصِيلِ الرِّبْحِ بِهِ وَرِعَايَةِ وُجُوهِ الْغِبْطَةِ لَهُ ثُمَّ إِنْ كَانَ الْقَيِّمُ فَقِيرًا مُحْتَاجًا أَخَذَ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَاحْتَرَزَ عَنْهُ كَانَ أَوْلَى فَقَوْلُهُ: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
مَعْنَاهُ كَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النِّسَاءِ: ٦].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
فَالْمَعْنَى احْفَظُوا مَالَهُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ فَإِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ فَادْفَعُوا إِلَيْهِ مَالَهُ. وَأَمَّا مَعْنَى الْأَشُدِّ وَتَفْسِيرُهُ: قَالَ اللَّيْثُ: الْأَشُدُّ مَبْلَغُ الرَّجُلِ الْحِكْمَةَ وَالْمَعْرِفَةَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَشُدُّ. وَاحِدُهَا شَدٌّ فِي الْقِيَاسِ وَلَمْ أَسْمَعْ لَهَا بِوَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: وَاحِدَةُ الْأَشُدِّ شِدَّةٌ كَمَا أَنَّ وَاحِدَةَ الْأَنْعُمِ نِعْمَةٌ وَالشِّدَّةُ: الْقُوَّةُ وَالْجَلَادَةُ وَالشَّدِيدُ الرَّجُلُ الْقَوِيُّ وَفَسَّرُوا بُلُوغَ الْأَشُدِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بالاحتلام بشرط ان يونس مِنْهُ الرُّشْدُ وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ.
179
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ.
اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بَلَغَ تَمَامَ الْكَمَالِ فَقَدْ وَفَى وَتَمَّ. يُقَالُ: دِرْهَمٌ وَافٍ وَكَيْلٌ وَافٍ وَأَوْفَيْتُهُ حَقَّهُ وَوَفَّيْتُهُ إِذَا أَتْمَمْتَهُ وَأَوْفَى الْكَيْلَ إِذَا أَتَمَّهُ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا وَقَوْلُهُ: وَالْمِيزانَ
أَيِ الْوَزْنَ بِالْمِيزَانِ وَقَوْلُهُ:
بِالْقِسْطِ
أَيْ بِالْعَدْلِ لَا بَخْسَ وَلَا نُقْصَانَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِيفَاءُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ هُوَ عَيْنُ الْقِسْطِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّكْرِيرِ؟
قُلْنَا: أَمَرَ اللَّهُ الْمُعْطِيَ بِإِيفَاءِ ذِي الْحَقِّ حَقَّهُ من غير نقصان وَأَمَرَ صَاحِبَ الْحَقِّ بِأَخْذِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الزِّيَادَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَهَّمَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى التَّحْقِيقِ وذلك صعب شديدة فِي الْعَدْلِ أَتْبَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا يُزِيلُ هَذَا التَّشْدِيدَ فَقَالَ: لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
أَيِ الْوَاجِبُ فِي إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ هذا القدر الممكن في إيفاء الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ أَمَّا التَّحْقِيقُ فَغَيْرُ وَاجِبٍ. قَالَ الْقَاضِي: إِذَا كَانَ تَعَالَى قَدْ خَفَّفَ عَلَى الْمُكَلَّفِ هَذَا التَّخْفِيفَ مَعَ أَنَّ مَا هُوَ التَّضْيِيقُ مَقْدُورٌ لَهُ فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ تَعَالَى يُكَلِّفُ الْكَافِرَ الْإِيمَانَ مَعَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ؟ بَلْ قَالُوا: يَخْلُقُ الْكُفْرَ فِيهِ وَيُرِيدُهُ مِنْهُ وَيَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِ وَيَخْلُقُ فِيهِ الْقُدْرَةَ الْمُوجِبَةَ لِذَلِكَ الْكُفْرِ وَالدَّاعِيَةَ الْمُوجِبَةَ لَهُ ثُمَّ يَنْهَاهُ عَنْهُ فَهُوَ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ التَّشْدِيدِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ إِيفَاءُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ عَلَى سَبِيلِ التحقيق فكيف يُضِيفَ عَلَى الْعَبْدِ مِثْلَ هَذَا التَّضْيِيقِ وَالتَّشْدِيدِ؟
وَاعْلَمْ أَنَّا نُعَارِضُ الْقَاضِيَ وَشُيُوخَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَسْأَلَةِ الْعِلْمِ وَمَسْأَلَةِ الدَّاعِي وَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ وَلَا يَبْقَى لِهَذَا الْكَلَامِ رُوَاءٌ وَلَا رَوْنَقٌ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَيْضًا مِنَ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا أَدَاءَ الْأَمَانَةِ وَالْمُفَسِّرُونَ حَمَلُوهُ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَقَطْ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَقَطْ قَالَ الْقَاضِي وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا يَتَّصِلُ بِالْقَوْلِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يَقُولُ الْمَرْءُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَذْكُرَ الدَّلِيلَ مُلَخَّصًا عَنِ الْحَشْوِ وَالزِّيَادَةِ بِأَلْفَاظٍ مَفْهُومَةٍ مُعْتَادَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْأَفْهَامِ وَيَدْخُلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ الْعَدْلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ وَنُقْصَانٍ عَنِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْحِكَايَاتُ الَّتِي يَذْكُرُهَا الرَّجُلُ حَتَّى لَا يَزِيدَ فِيهَا وَلَا يَنْقُصَ عَنْهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا تَبْلِيغُ الرِّسَالَاتِ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَيَدْخُلُ فِيهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِالْقَوْلِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُسَوَّى فِيهِ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ طَلَبَ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَخْتَلِفْ ذَلِكَ بِالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ.
وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنْ هَذِهِ التَّكَالِيفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
وَهَذَا مِنْ خَفِيَّاتِ الْأُمُورِ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَحْلِفُ مَعَ نَفْسِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْحَلِفُ خَفِيًّا وَيَكُونُ بِرُّهُ وَحِنْثُهُ أَيْضًا خَفِيًّا وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْأَقْسَامَ قَالَ:
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا السَّبَبُ فِي أَنْ جَعَلَ خَاتِمَةَ الْآيَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الانعام: ١٥١] وَخَاتِمَةَ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
180
قُلْنَا: لِأَنَّ التَّكَالِيفَ الْخَمْسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْأُولَى أُمُورٌ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ فَوَجَبَ تَعَقُّلُهَا وَتَفَهُّمُهَا وَأَمَّا التَّكَالِيفُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَأُمُورٌ خَفِيَّةٌ غَامِضَةٌ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الِاجْتِهَادِ وَالْفِكْرِ حَتَّى يَقِفَ عَلَى مَوْضِعِ الِاعْتِدَالِ فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ تَذَكَّرُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ تَذَكَّرُونَ
بِتَشْدِيدِ الذَّالِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَهُمَا بِمَعْنًى واحد.
تم الجزء الثالث عَشَرَ وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْجُزْءُ الرابع عشر واوله قوله تعالى:
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً من سورة الانعام. أعان الله على إكماله
181
الجزء الرابع عشر
[تتمة سورة الأنعام]

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٣]
وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَنَّ هَذَا بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ النُّونِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَإِنَّ بِكَسْرِ الْأَلِفِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ أَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ فَأَصْلُهَا وَإِنَّهُ هَذَا صِرَاطِي وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَالْحَدِيثِ وَعَلَى هَذَا الشَّرْطِ تُخَفَّفُ. قَالَ الْأَعْشَى:
فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الْهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا أَنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ
أَيْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ هَالِكٌ وَأَمَّا كَسْرُ أَنَّ فالتقدير أَتْلُ ما حَرَّمَ [الانعام: ١٥١] وَأَتْلُ أَنَّ هَذَا صِراطِي بِمَعْنَى أَقُولُ وَقِيلَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَأَمَّا فَتْحُ أَنَّ فَقَالَ الْفَرَّاءُ فَتْحُ أَنَّ مِنْ وُقُوعِ أَتْلُ عَلَيْهَا يَعْنِي وَأَتْلُ عَلَيْكُمْ أَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهَا خَفْضًا وَالتَّقْدِيرُ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ وَبِأَنَّ هَذَا صِرَاطِي. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: من فتح أَنَّ فقياس قوله سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ حَمَلَهَا عَلَى قَوْلِهِ: فَاتَّبِعُوهُ وَالتَّقْدِيرُ لِأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٢] وَقَالَ سِيبَوَيْهِ لِأَنَّ هَذِهِ أُمَتُّكُمْ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الْجِنِّ: ١٨] وَالْمَعْنَى وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقُرَّاءُ أَجْمَعُوا عَلَى سُكُونِ الْيَاءِ مِنْ صِراطِي غَيْرَ ابْنِ عَامِرٍ فَإِنَّهُ فَتَحَهَا وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ سِرَاطِي بِالسِّينِ وَحَمْزَةُ بَيْنَ الصَّادِ وَالزَّايِ وَالْبَاقُونَ بِالصَّادِّ صَافِيَةً وَكُلُّهَا لُغَاتٌ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَهَذَا صِرَاطِي وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكُمْ وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْآيَتَيْنِ المتقدمين مَا وَصَّى بِهِ أَجْمَلَ فِي آخِرِهِ إِجْمَالًا يَقْتَضِي دُخُولَ مَا تَقَدَّمَ فِيهِ وَدُخُولَ سَائِرِ الشَّرِيعَةِ فِيهِ فَقَالَ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً
فَدَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْمَنْهَجُ الْقَوِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ فَاتَّبِعُوا جُمْلَتَهُ وَتَفْصِيلَهُ وَلَا تَعْدِلُوا عَنْهُ فَتَقَعُوا فِي الضَّلَالَاتِ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَّ خَطًّا ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ الرُّشْدِ ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ خُطُوطًا ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كل سبيل منها شيطان يدعوا إِلَيْهِ؟ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَاتُ مُحْكَمَاتٌ لَمْ يَنْسَخْهُنَّ شَيْءٌ مِنْ جَمِيعِ الْكُتُبِ مَنْ عَمِلَ بِهِنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ تركهن دخل النار.
ثم قال: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ اي بالكتاب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ المعاصي والضلالات.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ حَقًّا فَهُوَ وَاحِدٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُلَّ مَا كَانَ وَاحِدًا فَهُوَ حَقٌّ فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا كَانَ كُلُّ مَا سِوَاهُ بَاطِلًا وَمَا سِوَى الْحَقِّ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِأَنَّ كُلَّ كَثِيرٍ بَاطِلٌ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ بَاطِلٍ كَثِيرًا بِعَيْنِ مَا قَرَّرْنَاهُ في القضية الاولى.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٤]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ آتَيْنا فِيهِ وُجُوهٌ: / الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ: ثُمَّ إِنِّي أُخْبِرُكُمْ بَعْدَ تَعْدِيدِ الْمُحَرَّمَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ أَنَّا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَذُكِرَتْ كَلِمَةُ «ثُمَّ» لِتَأْخِيرِ الْخَبَرِ عَنِ الْخَبَرِ لَا لِتَأْخِيرِ الْوَاقِعَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْأَعْرَافِ: ١١] وَالثَّانِي: إِنَّ التَّكَالِيفَ التِّسْعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ التكليف لَا يَجُوزُ اخْتِلَافُهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ بَلْ هِيَ أَحْكَامٌ وَاجِبَةُ الثُّبُوتِ مِنْ أَوَّلِ زَمَانِ التَّكْلِيفِ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا الشَّرَائِعُ الَّتِي كَانَتِ التَّوْبَةُ مُخْتَصَّةً بِهَا فَهِيَ إِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَ تِلْكَ التَّكَالِيفِ التِّسْعَةِ فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَهَا قَالَ: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ يَا بَنِي آدَمَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ. الثَّالِثُ: إِنَّ/ فِيهِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّا آتَيْنَا مُوسَى فَتَقْدِيرُهُ: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ ثُمَّ اتْلُ عَلَيْهِمْ خَبَرَ مَا آتَيْنَا مُوسَى.
أَمَّا قَوْلُهُ: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ تَمَامًا لِلْكَرَامَةِ وَالنِّعْمَةِ عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ.
أَيْ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا صَالِحًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا وَالثَّانِي: الْمُرَادُ تَمَامًا لِلنِّعْمَةِ وَالْكَرَامَةِ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي أَحْسَنَ الطَّاعَةَ بِالتَّبْلِيغِ وَفِي كُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ وَالثَّالِثُ: تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ مُوسَى مِنَ الْعِلْمِ وَالشَّرَائِعِ مِنْ أَحْسَنَ الشَّيْءَ إِذَا أَجَادَ مَعْرِفَتَهُ أَيْ زِيَادَةً عَلَى عِلْمِهِ عَلَى وَجْهِ التَّتْمِيمِ وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أَيْ عَلَى الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ بِحَذْفِ الْمُبْتَدَأِ كَقِرَاءَةِ من قرا مَثَلًا ما بَعُوضَةً [البقرة: ٢٦] بِالرَّفْعِ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: عَلَى الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ دِينًا وَأَرْضَاهُ أَوْ يُقَالُ الْمُرَادُ: آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا أَيْ تَامًّا كَامِلًا عَلَى أَحْسَنِ مَا تَكُونُ عَلَيْهِ الْكُتُبُ أَيْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْكَلْبِيِّ:
أَتَمَّ لَهُ الْكِتَابَ عَلَى أَحْسَنِهِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنَ النِّعَمِ فِي الدِّينِ وَهُوَ تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَخْتَصُّ بِالدِّينِ فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ بَيَانُ نبوة رسولنا صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ دِينِهِ وَشَرْعِهِ وَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ إِلَّا مَا نُسِخَ مِنْهَا وَلِذَلِكَ قَالَ: وَهُدىً وَرَحْمَةً وَالْهُدَى مَعْرُوفٌ وَهُوَ الدَّلَالَةُ وَالرَّحْمَةُ هِيَ النِّعْمَةُ لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ أَيْ لِكَيْ يُؤْمِنُوا بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ وَالْمُرَادُ بِهِ لِقَاءُ مَا وَعَدَهُمُ الله به من ثواب وعقاب.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥٥ الى ١٥٧]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)
اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهذا كِتابٌ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْقُرْآنُ وَفَائِدَةُ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مُبَارَكٌ أَنَّهُ ثَابِتٌ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ النَّسْخُ كَمَا فِي الْكِتَابَيْنِ أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَثِيرُ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ.
ثُمَّ قَالَ: فَاتَّبِعُوهُ وَالْمُرَادُ ظَاهِرٌ.
ثُمَّ قَالَ: وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَيْ لِكَيْ تُرْحَمُوا. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ اتَّقُوا مُخَالَفَتَهُ عَلَى رَجَاءِ الرَّحْمَةِ وَقِيلَ: اتَّقُوا لِتُرْحَمُوا أَيْ لِيَكُونَ الْغَرَضُ بِالتَّقْوَى رَحْمَةَ اللَّهِ وَقِيلَ: اتَّقُوا لِتُرْحَمُوا جَزَاءً عَلَى التَّقْوَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَفِيهِ وُجُوهٌ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالتَّقْدِيرُ: أَنْزَلْنَاهُ لِئَلَّا تَقُولُوا ثُمَّ حَذَفَ الْجَارَّ وَحَرْفَ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ:
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاءِ: ١٧٦] وَقَوْلِهِ: رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النَّحْلِ: ١٥] أَيْ لِئَلَّا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ مَعْنَاهُ: أَنْزَلْنَاهُ كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا وَلَا يُجِيزُونَ إِضْمَارَ «لَا» فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: جِئْتُ أَنْ أُكْرِمَكَ بِمَعْنَى: أَنْ لَا أُكْرِمَكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَحْقِيقَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «أَنْ» مُتَعَلِّقَةً بِاتَّقُوا وَالتَّأْوِيلُ: وَاتَّقُوا أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: أَنْ تَقُولُوا خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَعْنَى: كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولَ أَهْلُ مَكَّةَ أُنْزِلَ الْكِتَابُ وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَإِنْ كُنَّا «ان» هي المخففة مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ وَالْأَصْلُ وَأَنَّهُ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ إِثْبَاتُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ كَيْ لَا يَقُولُوا يَوْمَ القيامة ان التوراة والإنجيلى أُنْزِلَا عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَكُنَّا غَافِلِينَ عَمَّا فِيهِمَا فَقَطَعَ اللَّهُ عُذْرَهُمْ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَيْ لَا نَعْلَمُ مَا هِيَ لِأَنَّ كِتَابَهُمْ مَا كَانَ بِلُغَتِنَا وَمَعْنَى أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ مُفَسِّرٌ لِلْأَوَّلِ فِي أَنَّ مَعْنَاهُ لِئَلَّا يَقُولُوا وَيَحْتَجُّوا بِذَلِكَ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى قَطْعَ احْتِجَاجِهِمْ بِهَذَا وَقَالَ: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الْبَيِّنَةُ وَالْهُدَى وَاحِدٌ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّكْرِيرِ؟
قُلْنَا: الْقُرْآنُ بَيِّنَةٌ فِيمَا يُعْلَمُ سَمْعًا وَهُوَ هُدًى فِيمَا يُعْلَمُ سَمْعًا وَعَقْلًا فَلَمَّا اخْتَلَفَتِ الْفَائِدَةُ صَحَّ هَذَا الْعَطْفُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى رَحْمَةٌ أَيْ إِنَّهُ نِعْمَةٌ فِي الدِّينِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَالْمُرَادُ تَعْظِيمُ كُفْرِ مَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا أَيْ مَنَعَ عَنْهَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ ضَلَالٌ وَالثَّانِيَ: مَنْعٌ عَنِ الْحَقِّ وَإِضْلَالٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النحل: ٨٨].
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٨]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨)
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يَأْتِيَهُمْ بِالْيَاءِ وَفِي النَّحْلِ مِثْلَهُ وَالْبَاقُونَ تَأْتِيَهُمُ بِالتَّاءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ الْكِتَابَ إِزَالَةً لِلْعُذْرِ وَإِزَاحَةً لِلْعِلَّةِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ أَلْبَتَّةَ وَشَرَحَ أَحْوَالًا تُوجِبُ الْيَأْسَ عَنْ دُخُولِهِمْ فِي الْإِيمَانِ فَقَالَ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [الانعام: ١٥٨] ومعنى ينظرون ينتظرون وهل اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِكَ إِلَّا إِذَا جَاءَهُمْ أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ مَجِيءُ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مَجِيءُ الرَّبِّ أَوْ مَجِيءُ الْآيَاتِ الْقَاهِرَةِ مِنَ الرَّبِّ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ هَلْ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمَجِيءِ وَالْغَيْبَةِ عَلَى اللَّهِ.
قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا حِكَايَةً عَنْهُمْ وَهُمْ كَانُوا كُفَّارًا وَاعْتِقَادُ الْكَافِرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَالثَّانِي: إِنَّ هَذَا مَجَازٌ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ [النَّحْلِ: ٢٦] وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ [الْأَحْزَابِ: ٥٧] وَالثَّالِثُ: قِيَامُ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنَّ الْمَجِيءَ وَالْغَيْبَةَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ وَأَقْرَبُهَا قَوْلُ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الرَّدِّ عَلَى عَبَدَةِ الكواكب لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الانعام: ٧٦].
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى إِثْبَاتِ أَثَرٍ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ:
يَصِيرُ هَذَا عين قوله: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ إِتْيَانُ الرَّبِّ.
قُلْنَا: الْجَوَابُ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ هَذَا حِكَايَةُ مَذْهَبِ الْكُفَّارِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً وَقِيلَ: يَأْتِي رَبُّكَ بِالْعَذَابِ أَوْ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ وَهُوَ الْمُعْجِزَاتُ الْقَاهِرَةُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَلَامَاتُ الْقِيَامَةِ
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كُنَّا نَتَذَاكَرُ امر الساعة إذا أَشْرَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا تَتَذَاكَرُونَ؟ قُلْنَا: نَتَذَاكَرُ السَّاعَةَ قَالَ: «إِنَّهَا لَا تَقُومُ حَتَّى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ الدُّخَانَ وَدَابَّةَ الْأَرْضِ وَخَسْفًا بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفًا بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفًا بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَالدَّجَّالَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَنُزُولَ عِيسَى ونار تَخْرُجُ مِنْ عَدَنَ»
وَقَوْلُهُ: لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ:
نَفْساً وَقَوْلُهُ: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً صِفَةٌ ثَانِيَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الصِّفَةِ الْأُولَى وَالْمَعْنَى: إِنَّ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ إِذَا ظَهَرَتْ ذَهَبَ أَوَانُ التَّكْلِيفِ عِنْدَهَا فَلَمْ يَنْفَعِ الْإِيمَانُ نَفْسًا مَا آمَنَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قَبْلَ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وعيد وتهديد.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٩]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩)
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَارَقُوا بِالْأَلِفِ وَالْبَاقُونَ فَرَّقُوا وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ وَاحِدٌ لِأَنَّ الَّذِي فَرَّقَ دِينَهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَقَرَّ بِبَعْضٍ وَأَنْكَرَ بَعْضًا فَقَدْ فَارَقَهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ سَائِرُ الْمِلَلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْمُشْرِكِينَ بَعْضُهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ
بَنَاتُ اللَّهِ وَبَعْضُهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ فَهَذَا مَعْنَى فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا أَيْ فِرَقًا وَأَحْزَابًا فِي الضَّلَالَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصَارَى تَفَرَّقُوا فِرَقًا وَكَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ وَهُمْ أَهْلُ/ كِتَابٍ وَاحِدٍ وَالْيَهُودُ تُكَفِّرُ النَّصَارَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَخَذُوا بِبَعْضٍ وَتَرَكُوا بَعْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [الْبَقَرَةِ: ٨٥] وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النساء: ١٥٠].
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالشُّبَهَاتِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْحَثُّ عَلَى أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةً وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ وَلَا يَبْتَدِعُوا الْبِدَعَ وَقَوْلُهُ:
لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْتَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَهُمْ مِنْكَ بُرَآءُ وَتَأْوِيلُهُ: إِنَّكَ بَعِيدٌ عَنْ أَقْوَالِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ وَالْعِقَابُ اللَّازِمُ عَلَى تِلْكَ الْأَبَاطِيلِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَعَدَّاهُمْ. وَالثَّانِي: لَسْتَ مِنْ قِتَالِهِمْ فِي شَيْءٍ.
قَالَ السُّدِّيُّ: يَقُولُونَ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالِهِمْ فَلَمَّا أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ نُسِخَ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَسْتَ مِنْ قِتَالِهِمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ فِي شيء فورد الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ فِي وَقْتٍ آخَرَ لَا يُوجِبُ النَّسْخَ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ أَيْ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْإِمْهَالِ وَالْإِنْظَارِ وَالِاسْتِئْصَالِ وَالْإِهْلَاكِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ وَالْمُرَادُ الْوَعِيدُ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٠]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦٠)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَسَنَةُ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالسَّيِّئَةُ هِيَ الشِّرْكُ وَهَذَا بَعِيدٌ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْعُمُومِ إِمَّا تَمَسُّكًا بِاللَّفْظِ وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّهُ حُكْمٌ مُرَتَّبٌ عَلَى وَصْفٍ مُنَاسِبٍ لَهُ فَيَقْتَضِي كَوْنَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ فَوَجَبَ أَنْ يَعُمَّ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حُذِفَتِ الْهَاءُ مِنْ عَشْرٍ وَالْأَمْثَالُ جَمْعُ مِثْلٍ وَالْمِثْلُ مُذَكَّرٌ لِأَنَّهُ أُرِيدَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمْثَالِهَا ثُمَّ حُذِفَتِ الْحَسَنَاتُ وَأُقِيمَتِ الْأَمْثَالُ الَّتِي هِيَ صِفَتُهَا مَقَامَهَا وَحَذْفُ الْمَوْصُوفِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ وَيُقَوِّي هَذَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ عَشْرٌ أَمْثَالُهَا بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَذْهَبُنَا أَنَّ الثَّوَابَ تَفَضَّلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الثَّوَابِ وَالتَّفَضُّلِ بِأَنَّ الثواب هو المنفعة المستحقة/ والتفضيل هُوَ الْمَنْفَعَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ مُسْتَحَقَّةً ثُمَّ انهم على تقريع مَذَاهِبِهِمُ اخْتَلَفُوا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْعَشَرَةُ تَفَضُّلٌ وَالثَّوَابُ غَيْرُهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُبَّائِيِّ قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَاحِدُ ثَوَابًا وَكَانَتِ التِّسْعَةُ تَفَضُّلًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ دُونَ التَّفَضُّلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ التَّفَضُّلُ مُسَاوِيًا لِلثَّوَابِ فِي الْكَثْرَةِ وَالشَّرَفِ لَمْ يَبْقَ فِي التَّكْلِيفِ فَائِدَةٌ أَصْلًا فَيَصِيرُ عَبَثًا وَقَبِيحًا وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الثَّوَابَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ فِي الْقَدْرِ وَفِي التَّعْظِيمِ مِنَ التَّفَضُّلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ مِنْ هَذِهِ التِّسْعَةِ ثَوَابًا وَتَكُونَ التِّسْعَةُ الْبَاقِيَةُ تَفَضُّلًا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْوَاحِدَ يَكُونُ أَوْفَرَ وَأَعْظَمَ وَأَعْلَى شَأْنًا مِنَ التسعة الباقية.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: التَّقْدِيرُ بِالْعَشَرَةِ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّحْدِيدَ بَلْ أَرَادَ الْأَضْعَافَ مُطْلَقًا كَقَوْلِ الْقَائِلِ لَئِنْ أَسْدَيْتَ إِلَيَّ مَعْرُوفًا لَأُكَافِئَنَّكَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهِ وَفِي الْوَعِيدِ يُقَالُ: لَئِنْ كَلَّمْتَنِي وَاحِدَةً لَأُكَلِّمَنَّكَ عَشْرًا وَلَا يُرِيدُ التَّحْدِيدَ فَكَذَا هاهنا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّحْدِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: ٢٦١].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها أَيِ الْإِجْزَاءُ يُسَاوِيهَا وَيُوَازِيهَا.
رَوَى أَبُو ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ الْحَسَنَةُ عشر او أزيد والسيئة واحدة او عفو فَالْوَيْلُ لِمَنْ غَلَبَ آحَادُهُ أَعْشَارَهُ»
وَقَالَ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا فَإِنْ عَمِلَهَا فَعَشْرٌ أَمْثَالُهَا وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوهَا وَإِنَّ عَمِلَهَا فَسَيِّئَةً وَاحِدَةً»
وَقَوْلُهُ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيْ لَا يُنْقَصُ مِنْ ثَوَابِ طَاعَتِهِمْ وَلَا يُزَادُ عَلَى عِقَابِ سَيِّئَاتِهِمْ فِي الآية سؤالات:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كُفْرُ سَاعَةٍ كَيْفَ يُوجِبُ عِقَابَ الْأَبَدِ عَلَى نِهَايَةِ التَّغْلِيظِ.
جَوَابُهُ: أَنَّهُ كَانَ الْكَافِرُ عَلَى عَزْمٍ أَنَّهُ لَوْ عَاشَ أَبَدًا لَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ أَبَدًا فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْعَزْمُ مُؤَبَّدًا عُوقِبَ بِعِقَابِ الْأَبَدِ خِلَافَ الْمُسْلِمِ الْمُذْنِبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى عَزْمِ الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ عُقُوبَتُهُ مُنْقَطِعَةً.
السُّؤَالُ الثَّانِي: إِعْتَاقُ الرَّقَبَةِ الْوَاحِدَةِ تَارَةً جُعِلَ بَدَلًا عَنْ صِيَامِ سِتِّينَ يَوْمًا وَهُوَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَتَارَةً جُعِلَ بَدَلًا عَنْ صِيَامِ أَيَّامٍ قَلَائِلَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَاوَاةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ.
جَوَابُهُ: إِنَّ الْمُسَاوَاةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِوَضْعِ الشَّرْعِ وَحُكْمِهِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: إِذَا أَحْدَثَ فِي رَأْسِ إِنْسَانٍ مُوضِحَتَيْنِ: وَجَبَ فِيهِ أَرْشَانِ فَإِنْ رَفَعَ الْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا صَارَ الْوَاجِبُ أَرْشَ مُوضِحَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَهُنَا ازْدَادَتِ الْجِنَايَةُ وَقَلَّ الْعِقَابُ فَالْمُسَاوَاةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ.
وَجَوَابُهُ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعَبُّدَاتِ الشَّرْعِ وَتَحَكُّمَاتِهِ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ تَفْوِيتِ أَكْثَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ثُمَّ إِذَا قَتَلَهُ وَفَوَّتَ كُلَّ الْأَعْضَاءِ وَجَبَتْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ يمتنع الْقَوْلَ مِنْ رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ.
جَوَابُهُ: أَنَّهُ مِنْ باب تحكمات الشريعة. والله اعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦١]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلَّمَ رَسُولَهُ أَنْوَاعَ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالرَّدَّ عَلَى الْقَائِلِينَ بِالشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَضْدَادِ وَبَالَغَ فِي تَقْرِيرِ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالرَّدَّ عَلَى الْقَائِلِينَ بِالشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَضْدَادِ وَبَالَغَ فِي تَقْرِيرِ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالنَّافِينَ لِلْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَرَدَّ عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي أَبَاطِيلِهِمْ أَمَرَهُ أَنْ يَخْتِمَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِاللَّهِ وَانْتَصَبَ دِينًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَحَلِّ صِرَاطٍ لِأَنَّ مَعْنَاهُ هَدَانِي رَبِّي صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا كَمَا قَالَ: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً [الْفَتْحِ: ٢] وَالثَّانِي: ان يكون التقدير الزموا دينا وقوله: فيما قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْقَيِّمُ فَيْعِلٌ مِنْ قَامَ كَسَيِّدٍ مِنْ سَادَ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْقَائِمِ وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ قِيَمًا مَكْسُورَةَ الْقَافِ خَفِيفَةَ الْيَاءِ قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِيَامِ كالصغر
وَالْكِبَرِ وَالْحِوَلِ وَالشِّبَعِ وَالتَّأْوِيلُ دِينًا ذَا قِيَمٍ وَوَصَفَ الدِّينَ بِهَذَا الْوَصْفِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَقَوْلُهُ: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فَقَوْلُهُ: مِلَّةَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: دِيناً قِيَماً وَحَنِيفًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَالْمَعْنَى هَدَانِي رَبِّي وَعَرَّفَنِي مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَالَ كَوْنِهَا مَوْصُوفَةً بِالْحَنِيفِيَّةِ ثُمَّ قَالَ فِي صِفَةِ إِبْرَاهِيمَ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ والمقصود منه الرد على المشركين.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٦٢ الى ١٦٣]
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا عرفه الذين الْمُسْتَقِيمَ عَرَّفَهُ كَيْفَ يَقُومُ بِهِ وَيُؤَدِّيهِ فَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي/ وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُؤَدِّيهِ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: لَا شَرِيكَ لَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الْعِبَادَاتِ أَنْ يُؤْتَى بِهَا كَيْفَ كَانَتْ بَلْ يَجِبُ أَنْ يُؤْتَى بِهَا مَعَ تَمَامِ الْإِخْلَاصِ وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الصَّلَاةِ أَنْ يُؤْتَى بِهَا مَقْرُونَةً بِالْإِخْلَاصِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَنُسُكِي فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالنُّسُكِ الذَّبِيحَةُ بِعَيْنِهَا يَقُولُ: مَنْ فَعَلَ كَذَا فَعَلَيْهِ نُسُكٌ أَيْ دَمٌ يُهَرِيقُهُ وَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالذَّبْحِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الْكَوْثَرِ: ٢] وَرَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: النُّسُكُ سَبَائِكُ الْفِضَّةِ كُلُّ سَبِيكَةٍ مِنْهَا نَسِيكَةٌ وَقِيلَ: لِلْمُتَعَبِّدِ نَاسِكٌ لِأَنَّهُ خَلَّصَ نَفْسَهُ مِنْ دَنَسِ الْآثَامِ وَصَفَّاهَا كَالسَّبِيكَةِ الْمُخَلَّصَةِ مِنَ الْخَبَثِ وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَالنُّسُكُ كُلُّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ فِي الْعُرْفِ الذَّبْحُ وَقَوْلُهُ: وَمَحْيايَ وَمَماتِي أَيْ حَيَاتِي وَمَوْتِي لِلَّهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَأَثْبَتَ كَوْنَ الْكُلِّ لِلَّهِ وَالْمَحْيَا وَالْمَمَاتُ لَيْسَا لِلَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُؤْتَى بِهِمَا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ بَلْ مَعْنَى كَوْنِهِمَا لِلَّهِ أَنَّهُمَا حَاصِلَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَوْنُ الصَّلَاةِ وَالنُّسُكِ لِلَّهِ مُفَسَّرًا بِكَوْنِهِمَا وَاقِعَيْنِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَذَلِكَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ طَاعَاتِ الْعَبْدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ مَحْيايَ سَاكِنَةَ الْيَاءِ وَنَصَبَهَا فِي مَمَاتِي وَإِسْكَانُ الْيَاءِ فِي مَحْيَايَ شَاذٌّ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ سَاكِنَيْنِ لَا يَلْتَقِيَانِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ فِي نَثْرٍ وَلَا نَظْمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لُغَةٌ لِبَعْضِهِمْ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ صَلَاتَهُ وَسَائِرَ عِبَادَاتِهِ وَحَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ كُلَّهَا وَاقِعَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وتقديره وقضاءه وحكمه ثم نص على انه لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ يَقُولُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ أَيْ وَبِهَذَا التَّوْحِيدِ أُمِرْتُ.
ثُمَّ يَقُولُ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ أَيِ الْمُسْتَسْلِمِينَ لِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ أَوَّلًا لِكُلِّ مُسْلِمٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ أولا لمسلمي زمانه.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٤]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ الْمَحْضِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي إِلَى قَوْلِهِ:
لَا شَرِيكَ لَهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَذْكُرَ مَا يَجْرِي مَجْرَى الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّوْحِيدِ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الاول: ان
أَصْنَافَ الْمُشْرِكِينَ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّ عَبْدَةَ الْأَصْنَامِ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَعَبَدَةَ الْكَوَاكِبِ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَالْقَائِلُونَ: بِيَزْدَانُ وَأَهْرَمَنُ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: ١٠٠] أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَالْقَائِلُونَ: بِأَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةَ بَنَاتُهُ أَشْرَكُوا أَيْضًا بِاللَّهِ فَهَؤُلَاءِ هُمْ فِرَقُ الْمُشْرِكِينَ وَكُلُّهُمْ مُعْتَرِفُونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْكُلِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَبْدَةَ الْأَصْنَامِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هو الخالق للسموات وَالْأَرْضِ وَلِكُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَهُوَ الْخَالِقُ لِلْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ بِأَسْرِهَا. وَأَمَّا عَبْدَةُ الْكَوَاكِبِ فَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهَا وَمُوجِدُهَا. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِيَزْدَانُ وَأَهْرَمَنُ فَهُمْ أَيْضًا مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ مُحْدَثٌ وَأَنَّ مُحْدِثَهُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ.
وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ فَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْكُلِّ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ طَوَائِفَ الْمُشْرِكِينَ أَطْبَقُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ لَهُ يَا مُحَمَّدُ: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا رَبًّا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَقَرُّوا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَهَلْ يَدْخُلُ فِي الْعَقْلِ جَعْلُ الْمَرْبُوبِ شَرِيكًا لِلرَّبِّ وَجَعْلُ الْعَبْدِ شَرِيكًا لِلْمَوْلَى وَجَعْلُ الْمَخْلُوقِ شَرِيكًا لِلْخَالِقِ؟ وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ بِهَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ اتِّخَاذَ رَبٍّ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلٌ فَاسِدٌ وَدِينٌ بَاطِلٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ فَثَبَتَ أَنَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ وَثَبَتَ أَنَّ الْمُمْكِنَ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِإِيجَادِ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ تَعَالَى رَبًّا لِكُلِّ شَيْءٍ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: صَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ جَعْلُ الْمَرْبُوبِ شَرِيكًا لِلرَّبِّ وَجَعْلُ الْمَخْلُوقِ شَرِيكًا لِلْخَالِقِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِهَذَا الدَّلِيلِ الْقَاهِرِ الْقَاطِعِ هَذَا التَّوْحِيدَ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ ذَمٌّ وَلَا عِقَابٌ فَقَالَ: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَمَعْنَاهُ أَنَّ إِثْمَ الْجَانِي عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أَيْ لَا تُؤْخَذُ نَفْسٌ آثِمَةٌ بِإِثْمِ أُخْرَى ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ رُجُوعَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَوْضِعٍ لَا حَاكِمَ فِيهِ وَلَا آمِرَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٥]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)
اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وجوها: أحدها: جعلكهم خَلَائِفَ الْأَرْضِ لِأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَخَلَفَتْ أُمَّتُهُ سَائِرَ الْأُمَمِ. وَثَانِيهَا: جَعَلَهُمْ يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ يَمْلِكُونَهَا وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا.
ثُمَّ قَالَ: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ فِي الشَّرَفِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ وَالْجَاهِ وَالرِّزْقِ وَإِظْهَارُ هَذَا التَّفَاوُتِ لَيْسَ لِأَجْلِ الْعَجْزِ وَالْجَهْلِ وَالْبُخْلِ فَإِنَّهُ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ لأجل الابتلاء
192
وَالِامْتِحَانِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ حَقِيقَةَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ التَّكْلِيفُ وَهُوَ عَمَلٌ لَوْ صَدَرَ مِنَ الْوَاحِدِ مِنَّا لَكَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ فسمى لهذا الِاسْمِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْمُشَابَهَةِ ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمُكَلَّفَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَصِّرًا فِيمَا كُلِّفَ بِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَفِّرًا فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ نَصِيبُهُ مِنَ التَّخْوِيفِ وَالتَّرْهِيبِ وهو قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَوَصَفَ الْعِقَابَ بِالسُّرْعَةِ لِأَنَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُوَفِّرًا فِي تِلْكَ الطَّاعَاتِ كَانَ نَصِيبُهُ مِنَ التَّشْرِيفِ وَالتَّرْغِيبِ هُوَ قَوْلَهُ: وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَيَسْتُرُ الْعُيُوبَ فِي الدُّنْيَا بِسَتْرِ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ وَفِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يُفِيضَ عَلَيْهِ أَنْوَاعَ نِعَمِهِ وَهَذَا الْكَلَامُ بَلَغَ فِي شَرْحِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ إِلَى حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ.
193
Icon