ﰡ
الحمد معناه اللغوي: الثناء على المحمود بالفعل الاختياري الذي يقوم به، فلا يحمد على فعل كان بالجبلة والتسخير، إنما الحمد يكون ثناء على فعل اختياري، الحمد بمعنى الثناء مراتب، أدناه الثناء على العباد في أعمالهم الاختيارية. واستعماله في القرآن في الثناء على العباد قليل إلا إذا كان في التنديد بطلبهم للحمد مثل قوله تعالى: (... وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا...). وأعلى من هذا مرتبة الثناء على الله تعالى بما هو أهله، وذكر صفاته، والإحساس بجلائل نعمه، ولهج لسان العبد بهذه النعم.
والمرتبة العليا شكر هذه النعم والخضوع المطلق له سبحانه، والقيام بحق عبادته، وإفراده بالعبودية، وإن ذلك هو المطلوب من العباد، وهو أعلى الشكر، وقد قال سبحانه: (... لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ...)، والشكر امتلاء القلب بذكر الله تعالى وذكر نعمه، وشكرها، وهو الذي طالب به القرآن الكريم كما قال تعالى: (... اذْكرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ...)، و " أل " هنا للاستغراق، والمعنى أن المستحق لكل أنواع الحمد ومراتبها هو الله تعالى، فهو المستحق للعبادة، وهي أعلى درجات الحمد، وهو الجدير بكل حمد، دون غيره، وإذا كان ثمة حمد للعباد فهو إن كان على خير أسدوه كان حمد الله تعالى لتوفيقهم وعونهم، وإن كان الدافع على الثناء غير الخير، فهو ليس بحمد، وإنما هو كذب وافتراء على الحق وتعاون على الشر. وفد ذكر سبحانه أسباب ذلك الحمد الذي بلغ أعلى درجاته، فقال تعالت كلماته:
والقول الجملي - أن الذكر لخلق السماوات والأرض لبيان سلطان الله تعالى وقدرته واستحقاقه وحده الألوهية؛ بدليل قوله سبحانه بعد ذلك: (ثُمَّ الَّذِين كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).
وهنا بعض المباحث اللفظية التي نتعرض لها؛ لأنه يكون تقريبا لمعاني الإعجاز في النص:
المبحث الأول - التعبير في خلق السماوات والأرض بـ " خَلَق "، وفي الظلمات والنور بـ " جَعَل "، فنقول: الخلق معناه الإنشاء الابتدائي هنا، والجعل يتضمن معنى تكوين شيء من شيء أو شيئين، وقد يتضمن الخلق ذلك المعنى بقرينة؛ وهنا المتبادر من المعنى أن الله تعالى أنشأ السماوات والأرض إنشاء، وجعل منها الظلمات والنور، فمن اختفاء الشمس عن الأرض يكون ظلام الليل، ومن بزوغ الشمس على الأرض يكون النور، وذلك كله بجَعل الله تعالى، وبأصل التكوين والتقدير من العزيز العليم.
المبحث الثاني - لماذا جمع " الظلمات " وأفرد " النور "؟ والجواب عن ذلك: أن النور واحد، من نتائجه الكشف والظهور، وتعدد أسبابه لَا يغير حقيقته، أما الظلمة فإنها متنوعة بتنوع أسبابها.. فهناك ظلمة الليل، وهناك ظلمة المحابس،
المبحث الثالث - لماذا أفردت الأرض وجمعت السماوات مع أنه قد وردت نصوص تعتبر الأرض سبعا كالسماوات؟ والجواب عن ذلك: أنه في كثير من المواضع تفرد وتجمع السماء في مثل قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (٣٠).
وإنما تعدد السماوات لعظمها، ولإحاطتها بالأرض، ولما فيها من الآيات البارزة، ولتزيينها بالنجوم، ولأنه لم يعلم أن الله تعالى قد عُصي فيها، ولأن طبقاتها متمايزة ينفصل بعضها عن بعض، والأرض طبقاتها متصلة.
المبحث الرابع - ما الذي كان العطف عليه في قوله تعالى: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ولماذا عطف بـ " ثم "؟ أما الجواب عن الجزء الأول فهو أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وهو وحده يستحق الحمد، ثم مع ذلك يجعل الذين كفروا بسبب ضلالهم مثلا يعدلونه به، وهو أصنامهم، أو ما يزعمون من آلهة، والتعبير بـ " ثم " للبعد بين الحقيقتين، فالحقيقة الأولى التي توجب توحيد الله تعالى وحده، والثانية - ما يقع من هؤلاء الكافرين على غير بينة ولا إدراك، ولقد قرر الله تعالى الحقيقة الثابتة، فقال عز من قائل:
* * *
* * *
بعد أن ذكر جلت قدرته خلقه لهذا الكون وما فيه، وسلطانه على السماوات والأرض ومن فيهن، بين سبحانه خلق الإنسان الذي يؤمن ويكفر، ويأثم ويفسق، ويهتدي لأمر ربه، ، والذي حارت البرية فيه، كما قال أبو العلاء المعري:
والذي حارت البرية فيه | حيوان مستحدث من جماد |
وإن الله سبحانه وتعالى، قد خلق الإنسان من الطين، أي خلق أصله من طين، ثم توالد وتناسل من بعد ذلك، وعمر الأرض ما شاء أن يعمرها حتى كان منهم من نسي أصله الطيني، وقد قدر سبحانه لكل إنسان أجلا، ولبني الإنسان جميعا - أجلا - أما الأول - فقد أشار إليه سبحانه وتعالى: (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا) أي عمرا تكون له نهاية في هذه الدنيا، وعقبى هنالك في الآخرة، وكان العطف بـ " ثم " للإشارة إلى الأطوار التي يمر فيها الإنسان، والأطوار التي يمر بها الجنين، وللتفاوت بين الحقيقة التي نراها ونحسها والغيب الذي لَا نعرفه، مما قدره الله تعالى إذ يقول سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ...).
هذا هو أجل العمر، وقال سبحانه بحد ذلك: (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) وما هذا الأجل المسمى عنده، ولا يعلم به أحد الآن يصح أن يكون الأمد الذي يكون بين الوفاة، وبعث من في القبور، ويصح أن يكون ما قدر للإنسان في هذه الأرض من وجود، والأمران متلاقيان، فالزمن الذي يكون بين وفاة كل واحد، والبعث
ووصف هذا الأجل الثاني بأنه مسمى عنده يفيد اختصاص علمه سبحانه وتعالى بذلك، كما أشارت الآيات التي تلوناها، وقدم (أَجَلٌ مُّسَمًى) على قوله تعالى: (عِندَهُ)، لأن الأجل المسمى هو المبتدأ، وما بعده خبر، والمبتدأ مقدم حقيقة، ولأن الأجل هو المتحدث عنه باعتبار أن موضعه لَا يعلمه إلا الله تعالى، وسوغ الابتداء بالنكرة؛ لأنها موصوفة، والموصوف المنكر يصح أن يكون مبتدأ لأنه معرف بنوع من التعريف، وتأخير (عِندَهُ) ليس فقط، لأنَّ الأجل هو المبتدأ - بل لأن (عِندَهُ) مشعلقة بكون التسمية عنده فالعندية ليست لذات الخبر، إنما هي للوقت المسمى الذي اختص الله تعالى به، فكان الأنسب أن يكون المسمى مقترنا بالعندية التي هي متعلقه.
وإذا كانت الآجال ترى مقدرة، فكل حي ينتهي بالموت لَا محالة، فكان الأجل الذي لَا يعلمه إلا الله تعالى لَا ريب فيه أيضا، ولكن بعض الناس في ريب وشك، لأنهم مربوطون بالمحسوس؛ ولذا قال سبحانه: (ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرونَ) أي أنه مع ما ترون، وتعلمون من أن الإنسان يموت كما ترون، وأنه من طين، مع ذلك تمترون، أي تشكون وتجادلون في شككم، والأدلة قائمة، وكان العطف بـ " ثم " لتباعد ما بين الحقائق الثابتة وأسبابها، والامتراء هو التردد الذي ينتهي إلى محاجة ومجادلة، وقد ينتهي إلى شك، ثم إلى إنكار، وكان الخطاب لكل المخاطبين بالقرآن مؤكدا بـ " أنتم "، للإشارة إلى أن النفس البشرية حسية، وهي تأخذ أحكامها على الغائب الخفي من المحسوس الجلي. فكان الخطاب للجميع
* * *
* * *
بعد أن أشار سبحانه وتعالى أنه الخالق لكل شيء أشار سبحانه إلى البعث وذكر من قبل ذلك أنه الخالق ذو السلطان المطلق في هذا الوجود يسيطر عليه بجلاله، وألوهيته، واستحقاقه للألوهية وحده، وهو العالم فيه بكل شيء، فلفظ الجلالة يتضمن معنى الألوهية الحق، ومعنى الوحدانية والعلم والقدرة والإرادة، والسلطان الكامل الذي لَا يدانيه سلطان، فمعنى قوله: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ) يتضمن خضوع كل من فيهن له سبحانه، وسيطرته الكاملة وقدرته وعلمه، واستحقاقه للعبودية؛ والألوهية وحده.
والضمير في قوله: (وَهُوَ) يعود على المستحق للحمد الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، والذي خلق الإنسان من طين، وإنه بذلك يكون مستحقا للحمد، ويكون هو المسيطر في الكون الذي أنشأه وفي الإنسان الذي صوره من طين، وسخر له ما في السماء والأرض.
وقد ذكر وصفان جليلان فيهما تذكير وتبشير وإنذار.
أولهما - أنه يعلم (سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) فإنه يعلم ما تظهره الجوارح وما تخفيه السرائر، يعلم ما يجري على الإنسان وما تخفي الصدور، فإن حاسب على ما يفعلون، فحسابه حساب اللطيف الخبير الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء أنى يكون، وهو مجاز على ذلك إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهو من بعدُ الغفور الرحيم.
الوصف الثاني - أنه يعلم ما يكسبون من خير أو شر، ولكل ذلك حسابه من هنا إلى يوم القيامة.
* * *
* * *
قد وصف الله الذين كفروا بأنهم بعد قيام الدلائل التي تدركها الفطرة السليمة على وحدانية الله تعالى يجعلون عديلا لله في وحدانيته، ويشركون فيه، ومع أن الآيات الفطرية تدل أن خلق الإنسان إلى فناء في الدنيا ثم إلى بقاء، وإنها للجنة أبدا، أو للنار أبدا وقد بين من بعد أن الذين طمست فطرتهم فلم تدرك الحق لذات الحق لَا تجدي معهم البراهين مهما قويت، ولا الآيات مهما بينت، فبين أنهم معرضون كمن يرى ضوء الشمس فيضع غشاوة لكيلا يراها، ومن يسمع الحق فيضع أكنة على أذنه، وما تأتيهم أية حجة إلا أعرضوا عنها، وهنا بعض المباحث اللفظية التي تقرب معنى الآية الكريمة:
الأول - أن (ما) في قوله تعالى: (وَمَا تَأتِيهِم مِّنْ آيَةٍ) لعموم النفي (إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضينَ). واستغراقه، أي لَا توجد أي آية.
الثاني - التعبير بقوله تعالى: (مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ) فيه (من) تبعيضية، والمعنى فيه ما يأتيه آية (من) بعض آيات ربهم الذي خلقهم وذرأهم من العدم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، وهو الذي يكلؤهم ويرعاهم - إلا كانوا عنها معرضين.
المبحث الثالث - أن قوله تعالى: (إِلَّا كانُوا عَنْهَا مُعْرِضينَ) فيه إثبات أن الإعراض عن الحق دأبهم وصفة ثابتة فيهم لَا يتخلون عنها، ودل على ذلك النفي والإثبات، ثم التعبير بـ " كانوا " الدالة على الدوام والاستمرار، ثم التعبير بالوصف والمعنى الجملي: لَا تأتيهم معجزة قاطعة في الإثبات من عند خالقهم إلا تلقوها معرضين عن مغزاها، تاركين مؤداها.
* * *
* * *
إذا كانوا لَا تأتيهم آية بينة مثبتة الرسالة إلا استقبلوها بإعراض كأنه عادة لهم، وشأن من شئونهم، فلا بد أن يكذبوا بالحق الذي جاء به النبي - ﷺ - وهو ما اشتملت عليه الرسالة المحمدية، فهم قوم بور؛ لأن الناس أقسام ثلاثة: قسم يهتدي إلى الحق
وأنهم لم يكتفوا بتكذيب الحق إذ جاءهم على لسان الرسول - ﷺ -، وبما اشتمل عليه القرآن الكريم من حقائق ثابتة بل تجاوزوا إنكار الحق إلى الاستهزاء بأهله، والسخرية بمعتنقيه؛ ولذلك قال سبحانه: (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) فإن هذا النص الكريم يشير إلى إخبار بالاستهزاء مطوى قد أغنى عن ذكره ما بعده في ثنايا القول الحكيم، وإن هذا تهديد بأنه سينزل بهم عذاب شديد هو نتيجة وثمرة لاستهزائهم، وكأنه لحتميته نبأ عن القرآن الذي كان به هذا الاستهزاء، وفي الكلام إشارات بيانية تؤكد أنهم مخاطبون بالرسالة ومعاقبون على الإعراض.
الأولى - في قوله تعالى: (لَمَّا جَاءَهُمْ) وأنه نزل بساحتهم وصار قريبا منهم ففي هذا تنبيه على أنهم المخاطبون بحجيته، وأنه بينهم مستمر دائم لَا يتوانى عن تذكيرهم مهما فروا، حتى يكون ضلالهم عن بينة، ومن بعد فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها.
الثانية - تأكيد ما ينزل بهم نتيجة لسخريتهم بـ " اللام " وبـ " سوف "، وبأنه يأتيهم فينزل بساحتهم، وذلك تأكيد لوقوعه.
الثالثة - التعبير عن العذاب بأنه أنباء ما كانوا به يستهزئون، والنبأ هو الخبر العظيم، وقد وضح ذلك الزمخشري في الكشاف فقال: فسوف تأتيهم أنباء الشيء الذي كانوا به يستهزئون، وهو القرآن، أي أخباره وأحواله، بمعنى سيعلمون بأي شيء استهزءوا، وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته.
* * *
* * *
القرن: الجماعة المقترنة التي تعيش في زمن واحد، والاستفهام داخل على فعل محذوف دل عليه سابق الكلام ولاحقه، والمعنى المقرب: أيعرضون ذلك الإعراض عن المعجزات التي تبين لهم الحق، ويستهزئون ذلك الاستهزاء لأهل الحق، ولم يروا بأن ينظروا نظرة تدبر وتفكر العدد الكثير من القرون الذين أهلكناهم من قبل، وكانوا أشد قوة، وآكد منهم، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع فهو للتوبيخ، لأنهم فعلا أعرضوا واستهزأوا ولم يتدبروا ويتبصروا، والآية الكريمة تنبههم إلى وجوب التبصر والتدبر، وتذكرهم بما يستقبلهم إن استمروا على غيهم، وهي فوق ذلك دليل على كمال قدرته على تنفيذ إنذاره، وقد ذكَّر الله تعالى لأولئك الأقوام الذين أهلكهم الله تعالى في سبيل بيان العبرة:
أولا - بأنهم مكنوا في الأرض بما لم يمكن للمشركين الذين عاصروا محمدا - ﷺ - فقال تعالى: (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) أي جعلنأم مكانا في الأرض لم نمكن لكم مثله، أي لم نمكنه لكم، وذلك كناية عن سعة السلطان، وقيام الصنائع، وكثرة العمران، وثبات حكمهم، واستقرار أمرهم، فأنتم معشر المشركين لم يكن لكم شيء من ذلك، وأنى يكون مكانكم بجوار مكان فرعون، وأنى يكون سعة عمرانكم بجوار سبأ في مسكنهم الذي كان فيه جنات عن يمين وشمال.
وثانيا - أن الله جعل لهم العيش رغدا، ورغد العيش كان غيثا من السماء فأرسل عليم السماء مدرارا، والمراد من السماء هنا جهة العلو، ولذا أفردت فقال تعالت كلماته: (وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا) أي أرسلنا عليهم السحب تنزل دارَّة الماء، ويصح أن نقول: إنه أرسل ما في السماء من السحب، أو اعتبرت السحب
وثالثها - بالأنهار تجري من تحتهم؛ ولذلك قال تعالى: (وَجَعَبا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ) في التعبير بـ (جعل) معنى التحويل، أي حولنا أمطار السماء إلى أنهار تجري من تحتهم أي تحت سلطانهم يسيرون مجاريها كما يريدون، فكان الماء عندهم غدقا ولم يكن ذلك عند العرب، فبأي شيء يفترون ويستعلون، وماذا صنع سبحانه بهؤلاء؛ قال: (فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ).
الفاء هنا للتفصيل، والبيان بعد الإجمال، لقد أشار سبحانه إلى ما نزل بهم، وهنا يبين سبحانه أنه أهلكهم بسبب ذنوبهم، والإهلاك بسبب الذنوب له مظهران:
أحدهما - أن الذنوب ذاتها تهلك أمما، إذ تشيع فيهم الترف والغرور والفساد في الأرض، وبذلك تنحل وتضمحل، وتذهب قوتها.
المظهر الثاني - إهلاك الله تعالى الأمم عقابا على أوزارها، وإن الأمم إذا هلكت بسبب فسادها، جاء جيل يصلح أمرها، ويزيل أسباب الفساد، ويجدد المتخرب، وهو الجيل الذي ينشئه الله على آثار المفسدين، وهو غير الجيل السابق؛ ولذلك كان التنكير وكان الوصف بـ (آخرين).
* * *
(وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨)
* * *
كانت الآيات السابقة تبين إعراض الذين كفروا عن آيات الله تعالى، وهي المعجزات التي يأتي بها الأنبياء لإثبات أن رسالاتهم من عند الله سبحانه وتعالى، وأن المشركين يعرضون عن القرآن الكريم، ويطالبون بآيات أخرى ويحسبون أن المسوغ لكفرهم نقص فيها، لَا نقص فيهم بعدم الإذعان للحق، وأن الناس قسمان: قسم يذعن للحق إذا قامت بيناته، وهذا يكفيه ما اختاره الله سبحانه وتعالى دليلا على رسالة من بعثه الله تعالى؛ لأنهم طلاب حق يتعرفون دليله، ويذعنون إليه.
والقسم الثاني - استولت عليهم أهواؤهم وشهواتهم، وسدت مسالك النور في قلوبهم، فهم في لهو وإعراض، وهؤلاء لَا تزيدهم قوة الدليل إلا إصرارا، وهؤلاء لَا يذعنون للحق مهما تكن قوة الدليل، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:
وفى النص القرآني مقامات بيانية تقرب معناها السامي، وإن كان بينا في ذاته..
الأول - (لَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاس) (لو) هنا حرف امتناع لامتناع، أي أن الله سبحانه يمتنع عن أن يفعل ذلك، لأنه عبث لَا يليق أن يصدر عن ذاته العلية، إذ لَا ثمرة له، فلن يؤمنوا مهما تكن قوة الدليل، وذلك مثل قوله تعالى: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥).
فالكلام القرآني في مضمونه هنا يحكم بأن
الهداية السامية لَا تفتح لها قلوبهم المعرضة المتحيرة المركسة في الضلالة.
وقوى سبحانه وتعالى امتناع هدايتهم، إذا جاءتهم آية بأن لو نزل عليهم مكتوب من السماء محفوظ في قرطاس متضمن معنى رسالة الله تعالى، ولمسوه بأيديهم للدلالة على العلم الحسي الذي لَا ريب فيه ولا شك - لَا يؤمنون، فتأكدت لديهم رسالة الله تعالى بأمور ثلاثة بهذا المكتوب الذي وضع في غلافه، وبلمسه بالحس، وبكون اللمس بكل الأيدي والجوارح.
المقام الثاني - أنهم لَا يقابلون ذلك بالتصديق والإقبال والإذعان، بل ينتحلون الأعذار لكفرهم، ولا يجدون مساغا إلا ادعاء السحر يلجأون إليه، مع أن السحر تخييل وتسكير للإبصار، وهذا فيه لمس بالأيدي، فلم يقتصروا على الرؤية حتى يقولوا: إنما سكرت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون، ومع ذلك يبهتون الحق، ويجابهون الواقع ويقولون مؤكدين: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مبِينٌ).
الأول - الإشارة إلى أن الذين يقولون هم الذين كفروا، وأن هناك في مقابلهم مؤمنين يذعنون للحق، ويصدقون الآيات.
الثاني - أن السبب هو الكفر والجحود والإعراض، فلا يؤمنون بآية مهما تكن قوتها في الدلالة، لإعراض القلوب وعدم اتجاهها إلى الحق، بل إنها مظلمة معتمة لَا يدخل إليها النور مهما يكن وضاء.
الرابع - أنهم لفرط جحودهم وإغلاق قلوبهم يؤكدون أنه سحر مع اللمس بالأيدي، وقد أكدوا حكمهم الباطل أولا - بالنفي والإثبات، أي أنه مقصور على أنه سحر، ثانيا - بالإشارة إليه، وذكروا أنه بين واضح.
ثالثا - والمعنى الجملي أنه لَا تجدي فيهم معجزة ولا دليل، ويؤكد هذا قوِله تعالى: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١).
* * *
* * *
(لَوْلَا) هنا للتخصيص، أي أنها في ظاهرها لحضهم النبي - ﷺ - على طلب الملَك، وجاء بالبناء للمجهول؛ ليكون الطلب لمن أرسل الرسول، وأنهم يعلقون الإجابة على إنزال الملك، والحقيقة أنهم يتعنتون، والنص القرآني يفيد أنه وجد منهم من طلب ذلك فعلا، وأسند القول إلى المشركين؛ لأن التعنت في الصورة الشاملة لهم فما يصدر عن بعضهم تعنتا، إنما يصدر في المعنى عن جمعهم؛ لأن الباعث واحد.
ويروى محمد بن إسحاق فيقول: (دعا رسول الله - ﷺ - قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فقال زمعة بن الأسود بن المطلب، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعبد بن عبد يغوث، وأُبي بن خلف بن وهب، والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد مَلَك يحدث عنك الناس؛ ويُرى معك).
وقد رد عليهم خالق الكون بردين يبينان سذاجة تفكيرهم - أولا - وعنتهم ومعاندتهم للحق - ثانيا.
الأول - يقول الله تعالى: (وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ) والمعنى القريب إلينا، أننا نحن الله العلي القدير القاهر فوق عباده لو أنزلنا ملكا لقضى الأمر أي لانتهى أمر الدعوة، وألزمتهم نتيجتها في الدنيا، ولعوقبوا على تكذيبهم عاجلا، ولا يكون العقاب آجلا في الآخرة، بل يكون في هذه الحياة وترون أثر تكذيبهم، ولا (تنظرون) أي لَا تمهلون إلى اليوم الآخر، ولا ينطبق عليكم قول الله تعالى: (قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْم يُبْعَثُونَ)، فقضاء الأمر إنهاء أمر الدعوة بالهلاك، ولكن دعوة محمد جهاد مستمر، لَا ينتهي أمرها بإهلاك المعاندين، كما تحققت دعوة نوح في قومه: (وَقَالَ نُوحٌ ربِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)، إنما دعوة محمد - ﷺ - جهاد بالحق، ومغالبة للباطل، حتى يدفع الباطل بالحق فيدمغه فإذا هو زاهق، وهي صورة باقية واضحة في الجهاد إلى يوم القيامة؛ لأنها شريعة دائمة لدفع الناس بعضهم لبعض، ولولا ذلك لفسدت الأرض، وإذا كانت شريعته هي خاتمة الشرائع تكون للبقاء، فإنها لا تنتهي بمجرد معاندتها في ابتداء أمرها.
وإن الله سبحانه وتعالى قد أهلك ولم يُنظِر كما فعل مع قوم عاد وقوم لوط، وقوم شعيب؛ لأن الله تعالى لم يقدر أن يكون منهم مجاهدون مغالبون للباطل إلى يوم القيامة، فجعلهم عبرة المعتبرين.
الأمر الثاني - الذي رد به طلبهم التعنت كان بقوله:
* * *
* * *
ونرى أن الرد الأولى فيه بيان سنة الله تعالى في هداية خلقه، وأن الشريعة التي يريد الله تعالى لها البقاء لَا تنقضي بالإفناء لمن تلقوها وينقضي الأمر، والرد الثاني يثبت أن طلبهم لَا نتيجة له، وأنهم ليسوا طلاب حق، بل متعنتون مستهزئون، لَا يريدون الحق أو الدليل عليه؛ ولذا قال سبحانه:
* * *
* * *
في هذا النص الكريم تسلية للنبي - ﷺ -، فيما كان فيه من بلاء وابتلاء، لقد ابتُلِيَ من المشركين بالإنكار والمعاندة، وطلب آيات، ولا يقصدون إلا المهاترة، وقد سبق إنكارهم كل دليل يساق إليهم، ساق لهم القرآن دليلا. وتحداهم أن يأتوا بسورة منه، فطلبوا آيات أخرى، وجاءهم بدليل حسي يدل على أنه مبعوث من رب العالمين، وهو الإسراء والمعراج فاتخذوه سبيلا للإنكار، ولم يتخذوا منه حجة للإثبات، وابتلاه - ﷺ - باستهزائهم والسخرية منه، واتخاذهم القرآن مهجورا. فبين
وقد أكد سبحانه الاستهزاء بهم في قوله: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ من قَبْلِكَ) أكده سبحانه بـ " قد " وبـ " اللام ".
وإن الله لَا يترك الظالمين يعيثون في الأرض فسادًا ويؤذون أهل الإيمان؛ ولذلك لَا بد أن ينزل بهم عقاب هذه السخرية في الدنيا والآخرة؛ ولذلك قال سبحانه:
(فَحَاقَ بِالَّذِينَ لسَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ).
(الفاء) هنا فاء السببية، أي بسبب هذا الاستهزاء نزل ما نزل من عذاب بأمر الله وبأيدي المؤمنين، وقال الراغب الأصفهاني: إن (حاق) مأخوذة من (حَقَّ) قلبت فيها إحدى القافين حرفا لينا كالتظنن تقلب إحدى النونات ياء، فيقال (التظني) وهذا المعنى يشير إلى أن ما يحيق بهم من نتائج السخرية هو حق عليهم يؤخذون به.
والأكثرون من علماء اللغة: على أن حاق بمعنى أحاط، ولا تكون إلا في الشر، والمعنى أحاط بهم الأثر المؤلم لهم لسخريتهم. وهنا إشارتان بيانيتان:
أولاهما - أن الله ذكر أنه يحيق بالذين سخروا ولم يقل بالساخرين للإشارة إلى أن ما يصابون به من العذاب إنما هو بسبب سخريتهم؛ لأن التعبير بالموصول يفيد أن الصلة هي علة الحكم، وللإشارة إلى أن العذاب نتيجة السخرية.
ثانيتهما - أنه تعالى قال: (فَحَاقَ بالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءونَ) وإنما الذي حاق هو العذاب لَا ذات السخرية، ويقول العلماء: إن ذلك مجاز
والعذاب الذي ينزله الله تعالى بالساخرين قسمان: عذاب بهلاك أو بآفات سماوية، كما أرسل على فرعون وقومه الجراد والقُمَّل والضفادع والدم آيات مفصلات، والآخر بأن يمن على أولئك الذين يُسخر منهم بالقوة والنصر والتأييد، على كل من المستهزئين الساخرين، كما كان الأمر بالنسبة للمشركين الذين كفروا برسالة محمد - ﷺ -.
* * *
* * *
أمر الله تعالى نبيه بأن يذكرهم بحال من سبقوهم، وأن يروا آثارهم حسا، ثم يتدبروا فيها فكرا، ليعرفوا أين ذهب هؤلاء، فيستفيدوا من ذلك ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى - أن يعرفوا أن هذه الحياة التي يعيشون فيها ليس لها دوام، بل إن لها انتهاء، وأنها لَا تبقى فيها باقية.
والفائدة الثانية - أن أولئك الأقوام قد مكن لهم في الأرض بما لم يمكن لهم، وما منعهم ملكهم الواسع، وقوتهم الظاهرة من أن يؤخذوا كما يؤخذ أضعف الضعفاء، وأن النهاية واحدة لَا فرق فيها، فالدنيا عرض زائل.
الفائدة الثالثة - أن الله عذبهم بالإهلاك في الدنيا بسبب طغيانهم؛ لأن الله تعالى لم يرد أن يجعل منهم حماة لشريعة خالدة، فسيجدون في سيرهم أرض ثمود، وأرض عاد وما فيهما من بنيان قُوِّض عليهم، وأرض قوم لوط، وقد جعل الله تعالى عاليها سافلها، فإذا كانوا يطلبون من النبي - ﷺ - أن يستعجل لهم العذاب مستهزئين، فها هي ذي المَثُلات، والعبر، فليعتبروا، وإلا فهم قوم بور، لا يتعظون ولا يعتبرون.
أولها - أن الله أمر نبيه أن يخاطبهم هو؛ لأنهم يستهزئون به - ﷺ - فكانت المجاوبة منه لهم، وطلب السير، من قبيل الطلب المندوب، أو اللازم، والنظر كذلك من قبيل الطلب، والمراد النظر بالرؤية والإبصار ثم بالتدبر والتفكير، فليس إبصارا مجردا، ولكنه إبصار وتفكير، ولو كان إبصارا مجردا لكان مقيدا بالغاية منه وهو التفكير والتدبر.
ثانيها - الحكمة في العطف بـ " ثم " بدل (الفاء)، والمقام مقام (الفاء) كما في قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِين) النمل، فإن السياق هنالك يجعل النظر مسببا عن السير، ومترتبا عليه، أما هنا فالسير مطلوب في ذاته، ويجيء النظر المطلوب أيضا كأنه غير مقصود من السير، وكأنه أمر بدهي هو نتيجة للسير، ولم يربط بالسببية بينهما فكان التعبير بـ " ثم " المفيدة للتراخي، وهذا تصريف الله تعالى في آياته: (... كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ).
ثالثها - معنى " كيف " هنا " حال "، أي انظر حال عاقبة المكذبين بعد موتهم أين البطش الذي كانوا يبطشونه والجبروت الذي كانوا يطغون به، وأين المال والبنون وما كانوا يغترون به؟
وذكر الله (عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)، ولم يقل تعالت كلماته عاقبة المستهزئين؛ لأن التكذيب هو الأصل الذي ترتب عليه الاستهزاء وذكر السبب يتضمن ذكر المسبب.
* * *
* * *
أمر الله تعالى نبيه أن ينبههم إلى خلق السماوات والأرض ومن فيهن، والمجاوبة بينهم وبين النبي - ﷺ - فيمن خلقهم، ومن يملك من فيهن ومن له السلطان، وقد نقلهم من أمر حسي يستطيعون أن يروه، ويعتبروا به إلى أمر فكري هو ثمرة للتفكير في الإنسانية
ونميل إلى أن الاستفهام للتنبيه، فإنه من أمثل الطريق لتقرير الحقائق، السؤال ثم الإجابة؛ ولذلك كانت الإجابة بأمر الله تعالى نبيه أن يقول: (قُل لِّلَّهِ) فكانت هذه الإجابة تقريرا للحقيقة الثابتة التي يدركها العقل السليم، وهي مما يوجبه الإيمان، وتقرره الفطرة وبداهة العقول.
وقد ذكر عدله ثم ذكر رحمته من بعد، وأشار إلى أن العدل والرحمة متلازمان، فقال سبحانه:
(كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ)
ومعنى كتب الله تعالى على نفسه أنه أوجب تفضلا وتكرما من غير إلزام من أحد ألزمه الرحمة بعباده، فهو الذي يمدهم بنعمه محسنهم ومسيئهم، وخيِّرهم وشرِّيرهم، وهو الذي يكلؤهم بالليل والنهار، ولقد روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي - ﷺ - قال: " لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبى " (١) ولهذه الرحمة لم يسارع بإنزال الهلاك على العصاة ممن بعث إليهم محمداً - ﷺ -، عسى أن يخرج من ذرية المشركين من يعبد الله سبحانه وتعالى، ويخلص في إيمانه.
ومن مظاهر رحمته أن يعاقب المسيء، ويثيب المحسن، فإن ذلك هو العدل وفيه رحمة، فحيث كان العدل كانت الرحمة، فهل يستوي الذين يعملون والذين
________
(١) رواه بهذا اللفظ أحمد: مسند المكثرين - مسند أبي هريرة (٧٤٧٦)، ورواه البخاري: التوحيد - وكان عرشه على الماء. (٧٤٢٢) بلفظ مقارب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وهنا بعض إشارات بيانية:
الأولى - أن الله أكد جمع الناس يوم القيامة، وذلك بـ " اللام " الدالة على قسم مطوي في القول، وبنون التوكيد الثقيلة.
والثانية - تعدية الجمع بـ " إلى " دون " في "؛ للإشارة إلى أن الجمع نهايته تكون يوم القيامة، فهم يحشرون في القبور، والجمع مستمر في ذلك.
الثالثة - إثبات أن ذلك اليوم لَا شك فيه عند أهل الدراية والمعرفة ومن يشك فيه فهو ليس ذا إدراك سليم، وإذا كان بعض الناس يشك فيه، فليس ذلك إلا من سقم الإدراك، وفساد الفطرة، وينبغي ألا يشك فيه مدرك، فالبديهة تقول إن الله تعالى لم يخلق الكون عبثا، ولم يخلق الإنسان عبثا، بل خلقه ليفنى ثم ليبقى من بعد ذلك، ومن خلق في الابتداء قادر على الإعادة في الانتهاء، وبين سبحانه بعد ذلك الحال الواقعة للذين يكفرون بالله وبالرسالة وباليوم الآخر، وأن شرهم متكاثف يردف بعضه بعضا.
________
(١) متفق عليه رواه البخاري في كتاب: " الأدب ": رحمة الولد وتقبيله (٥٥٣٨)، ومسلم في كتاب " الفضائل " رحمته - ﷺ - بالصبيان والعيال (٤٢٨٢).
عبر عن الكفار بالرسالة المحمدية، والوحدانية واليوم الآخر بالذين خسروا أنفسهم، وجعل الكفر نتيجة للخسران، فالخسران يبتدئ، والكفر نهايته، أو هما متلازمان، فالخسران سابق ولاحق لأنه يترتب على الكفر خسران متضافر.
والخسران الذي يسبق الكفر، وهو خسران الفطرة، فلا يكفر بالدليل القاطع إلا من يخسر فطرته وخسران الإدراك السليم؛ لأنه لَا يكفر بوجود الله إلا من ينسى أن كل أثر له مؤثر، وكل موجود له موجد، وخسروا عقولهم إذ سيطرت الأوهام عليهم، فأشركوا مع الله أحجارا تحطم، وأوثانا تصنع، ونجوما تأفل، وخسروا نفوسهم فصارت معوجة، وخسروا قلوبهم فصارت مظلمة، وإذا كانت كل مداركهم قد سدت فهم لَا يؤمنون؛ لأن الإيمان يحتاج إلى قلب مخلص، وعقل مدرك، وإذعان للحق إذا بدت معالمه، وظهرت أماراته، وإنهم بعد الكفر يزيدون خسرانا، إذ كل إنكار للحق خسران في ذاته؛ لأنه نزول عن مرتبة الإنسانية السامية.
وقد قال تعالى: (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) وعبر بالمضارع للإشارة إلى أنهم لَا يكون الإيمان شأنا من شئونهم، ذلك لأن من امتلأت نفسه بالأوهام وصارت عشا لها، وضلت عقولهم لَا يمكن أن تذعن لشيء، بل هي دائما مضطربة حائرة تنتقل من ضلال إلى ضلال، ومن متاهة إلى مثلها، كمن يضل في بيداء كلما أوغل زاد ضلالا (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً...).
* * *
* * *
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة سلطانه في خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وإحاطة علمه سبحانه ومعرفته للسر والجهر، وتلقِّي المشركين لبيان تلك الحقائق مع الإعجاز الدال على صدق الأخبار النبوية بالتكذيب والاستهزاء، والإعراض عن البينات من الآيات، وطلبهم آيات أخرى، وبين سبحانه أنه ما دام الإعراض، وما دام الجحود مستوليا على نفوسهم، فلن تجدي معهم آية؛ لأن ما سيق إليهم كاف، ولأنهم يكذبون حسهم ما دام إنكارهم سابقا لتلقيهم، وقد ضرب لهم سبحانه الأمثال بما وقع للسابقين، ونبههم سبحانه إلى ملكيته لكل ما في السماوات والأرض، وفي الآيات التي نتكلم في معناها بيان لسلطانه وعلمه الكامل بكل ما فيها، وما ينبغي أن يكون أثرا لعلمه سبحانه وتعالى بذلك، فقال تعالى:
وقد يراد السكون الذي هو ضد الحركة، لأنه لَا سكون إلا معه حركة، إذ إن السكون معنى نسبي لَا يتحقق إلا إذا كان معه حركة، وإذا كان الله تعالى، يعلم السكون لكل ما في السماوات والأرض فهو سبحانه يعلم الحركة والسكون، وأنه لَا مانع من أن يراد المعنيان معا، إذ يعلم سبحانه كل ما استقر في السماوات والأرض، ويعلم حركاتهما وسكناتهما.
ويعلم ذلك في الليل والنهار، ويملك كل ذلك، فالنص الكريم يدل على ملكية الله تعالى لكل ما في السماوات والأرض عامة، بلا استثناء ويعلم ما في كل الأماكن، وفي عموم الأزمان، بلا استثناء ليل ولا نهار.
وهو مع هذه الملكية الكاملة يديرها بعلم كامل، ويهيمن عليها بقدرة قاهرة، وإرادة مسيطرة، وعلم دقيق لذلك قال سبحانه: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي أنه سبحانه وتعالى يسمع دبيب النمل من غير أُذن، ويعلم كل ما كان أو سيكون من غير مشابهة في سمعه وعلمه للمخلوقات (... لَيْس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُو السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، لَا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وفى هذا النص الكريم إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى يملك الناس وما حولهم لَا يخرجون عن قدرته، وهو المهيمن عليهم، إن شاء خسف بمن يخالفه، وأهلكهم، ولم يجعل من الكافرين ديَّارًا، وأنه عليم بما يكون من الطائعين، فيجزيهم ويهديهم، وما يكون من العصاة، فيعاقبهم ويرديهم، وفيه إنذار للمشركين.
* * *
* * *
والمعنى قل يا محمد لهؤلاء الذين أشركوا بالله غيره في العبادة وادعوا أن الأوثان تقربهم إلى الله تعالى زلفى - أنا لَا أتخذ غير الله وليا، وقدم في الاستفهام كلمة (أَغَيْرَ اللَّهِ) لأن ذلك موضع الشناعة عليهم في الاستنكار؛ إذ إنه موضع الغرابة أن يكون غير الله متخذا وليا، فكان ذات الاتخاذ غريبا في ذاته، والإشراك في ذاته ترك لعبادة الله وعدم اتخاذه وحده وليا ونصيرا؛ لأن الولاية الحق هي لله وحده، فاتخاذ أي ولي معه ترك لولاية الله تعالى، والولي يطلق بمعنى النصير، وبمعنى المعبود، وبمعنى الصديق الحميم، وهو هنا بمعنى النصير المعبود، فلا يُسْتنصَر إلا الله، ولا يُعبد سواه، وقد ذكر سبحانه على لسان نبيه الكريم عملين له سبحانه يوجبان أن ينفرد وحده بالعبادة:
أحدهما - ما ذكر سبحانه وتعالى: (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) أي منشئهما على غير مثال سبق، ابتداء حيث لم تكونا من قبل، وقد قال مجاهد التابعي تلميذ ابن عباس: (سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كنت لَا أدري ما
ونقول: إنه ليس بمعقول أن يكون ابن عباس جاهلا بالمعنى المفهوم من السياق، ولكن لعله كان لَا يعلم أصلها في اللغة، وكيف كانوا يستعملونها؛ حتى التقى بالأعرابيين، فوضح لديه أصل الاستعمال.
وفطر السماوات والأرض يوجب أن تكون الولاية لله وحده؛ لأنه الخالق لهذا الوجود والذين يشركونهن معه، لَا يملكن لأنفسهن ضرا ولا نفعا، فكيف نتصور ولاية لهن بجوار ولاية الله الخالق المنشئ.
الأمر الثاني - أن الله لَا يحتاج، وغيره يحتاج، فهو يُطْعِم كل من في هذا الوجود، ويمده بأسباب الحياة والنماء ولا يطعمه أحد، وهذا على قراءة (وَلا يُطْعَمُ) بالبناء للمجهول، وهناك قراءة بالبناء للمعلوم، والمعنى فيها أنه يطعم من يشاء بالرزق الموفور، ولا يطعم من يشاء بالتقتير عليه في الرزق.
(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكونَ أَؤَلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَن مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
كما أمر الله تعالى نبيه بأن يستنكر أن يتخذ غير الله وليا، وهو الذي أبدع ذلك الوجود، وكل ما فيه يحتاج إليه، وهو لَا يحتاج إلى أحد، وكنى عن هذا الاحتياج بإطعام غيره إذ أشد الحاجة تكون إلى الطعام، بعد هذا أمر الله تعالى نبيه بأن يقول إنه امر أن يكون أول من أسلم، وفي ذلك بيان أن الإسلام مطلوب من الجميع وأن النبي - ﷺ - أول من يُؤمر بالإذعان لله تعالى والخضوع له، وفي بيان أمر النبي - ﷺ - بذلك مع أنه بالبداهة أول من خوطب بالإسلام، وأمر بما اشتمل عليه، كان أمر النبي - ﷺ - بذلك؛ ليكون أسوة حسنة لهم، كما قال سبحانه: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...). ولأن الاقتداء دعوة حسية، ولأن في الإنسان نزوعا إلى التقليد، واتباع المهتدين، والتعبير بقوله تعالى: (أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) تعبير بالحال الواقعة من النبي - ﷺ -، بأن يكون في
أولها - كيف تعطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية، إذ إن الأولى أمرت، والثانية - ولا تكونن من المشركين؟ وقد أجاب عن ذلك العلماء بإجابات مختلفة، والذي نراه أن الجملة الأولى ظاهرها إخبارية، ولكن لتضمنها معنى الأمر كانت في معنى الجملة الطلبية الإنشائية، فإن نسق الكلام هكذا (كن أول من أسلم ولا تكونن من المشركين).
الثاني - لماذا كان النهي عن الشرك بعد الأمر بأن يكون أول مذعن لمطالب الإيمان بالواحدانية، والجواب عن ذلك أن النهي هو عن أن يكون من المشركين بأن يتبرأ منهم، ومن إشراكهم، ويخرج من صفوفهم، ولو كانوا قومه وعشيرته القربى، وإذا خرج من صفوف أهل الكفر كان في حزب الله، وحزب الله تعالى هم المفلحون.
الثالث - لماذا كان الالتفات من الإخبار الظاهر في قوله تعالى: (وأمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) إلى الخطاب في قوله تعالى: (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؟ والجواب عن ذلك أن الخطاب فيه توكيد معنى النهي عن الشرك، وكلتا الجملتين للخطاب كما خرجنا في الأمر الأول، والله تعالى هو وحده الذي يملك الأمر والنهي.
* * *
* * *
هذا أمر ثالث من الله سبحانه وتعالى لنبيه الأمين - ﷺ - أن يبين حالا من أحواله - ﷺ -، يكون فيها تنبيه لهم، وتحذير من أن يبقوا على الشرك، ويستمروا على عصيان الله تعالى، فيأمره تعالى بأن يقول لهم: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ).
فذكر هذه الحال من النبي - ﷺ - تنبيه لهم إلى أنهم في مقام من يخاف عذاب يوم عظيم.
ففي هذا النص إنذار لهم بأن عذاب يوم عظيم ينتظرهم، وأنه يجب أن يخافوه، ويتقوه، بأن يقلعوا عما هم فيه من الوقوع في أسبابه، وهو العصيان، وأكبر العصيان الشرك، وأنذروا بأدق تعبير، وأنصف تصوير، وأبلغ بيان إذ جعلت حال النبي - ﷺ - من الخوف من عذاب الله إن عصى منبهة إلى الاقتداء، والتفتيش عماهم فيه من معصية.
وفى الموضع كلام في عصيان الأنبياء أيتصور وقوعه؟ ونقول إن الأنبياء معصومون عن العصيان، ولكن الخوف من العصيان يعتريهم؛ لأنهم لفرط إحساسهم بعظمة الله وإيمانهم بحسابه وعقابه وثوابه، ورقابتهم النفسية لله يكونون دائما في خوف ووجل، لَا لتوقع العصيان، ولكن رهبة من الديَّان.
ولأن العصيان الجلي غير متوقع عبر بـ (إن) التي لَا تدل على الوقوع، فقال (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) وهنا فوق التعبيص بـ (إن) التعبير بـ (ربي) فإنه يستبعد عصيان الرب الخالق المنمي الكالئ، الذي هو فوق كل شيء.
واليوم العظيم هو يوم القيامة، وكان عظيما، بما فيه من أمور، من تجلي الله سبحانه وتعالى، وحسابه وعقابه، والتنكير للتعظيم، فهو ذو عظمة متكررة، ولعظمة ذلك اليوم وعذابه قال تعالى:
* * *
* * *
الضمير الذي يعتبر نائب فاعل يعود على عذاب يوم القيامة العظيم، وهناك قراءة بالبناء للفاعل (١)، ويكون المفعول محذوفا، والضمير يعود إلى ربي أو إلى الله المذكور تعالى في قوله: (أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا). إلى آخره، ويكون المعنى على هذه القراءة من يصرف الله تعالى عنه هذا العذاب العظيم في ذلك اليوم فقد رحمه، وعلى أي حال فالضمير في قوله تعالى: (فَقَدْ رَحِمَهُ) يعود على الله، ولهذا اختار ابن جرير الطبري قراءة البناء للفاعل، إذ يكون الصارف الدافع للعذاب هو الرحيم، فالنسق يكون واضحا.
و (يَوْمَئِذٍ) من إضافة الوقت إلى الوقت أي ذلك في يوم ذلك الوقت وهو يوم القيامة، وكان ذلك رحمة من الله لأن العذاب يكون عظيما، وذهاب العذاب ودفعه رحمة، ومع ذلك فهناك الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، والنعيم القيم، فالرحمة إيجابية وسلبية، فالسلبية دفع العذاب، والإيجابية الهداية؛ فإنها في ذاتها رحمة، ثم ما يعقبها من جزاء. ثم ما هو فوق ذلك وهو رضوان الله تعالى.
وذلك كله من الرحمة المتنوعة المتعددة وهو الفوز المبين الواضح الذي لا يماري فيه إلا جهول.
* * *
________
(١) (من يَصرِف) بفتح الياء، وكسر الراء: قراءة عاصم - غير حفص - وحمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب. [غاية الاختصار ج ٢، برقم (٨٣٣)].
* * *
المس يطلق على ما ينزل بالإنسان من ضر، مثل قوله تعالى: (... قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ...). وقوله تعالى: (... مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاءُ...)، ومثل قوله تعالى: (وَإذَا مَسَّ الإِنسَانَ
ويصح أن يكون الخطاب لكل مؤمن قارئ للقرآن، أو لكل من هو أهل للخطاب، وفيه بيان أن الناس جميعا في سلطان الله، فما يصيبهم من نفع فبتقديره، وما يصيبهم من ضر فبتقديره وإرادته، وهو الكاشف لهذا الضر إن أراد ذلك كله مع الأخذ بالأسباب؛ لأن الأسباب لَا تعمل وحدها، إنما لَا بد معها من إرادة الله تعالى والتوكل عليه؛ ولذلك كان الله تعالى يأمر بالتوكل عليه بعد الأخذ بالأسباب، لأنها وحدها لَا تعمل إلا مع التفويض، كما أن النوم والتواكل لا يجديان، والتوكل في هذه الحال تواكل وليس اعتمادا على الله سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: (وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كل شَيْء قَدِيرٌ) فيه المقابلة بين الخير والضر، وأن الأول يكشفه الله، والثاني بقدرة الله تعالى، والتعبير بالمس في الأمرين من قبيل التشاكل اللفظي، والكل تحت سلطان الله تعالى وقدرته، والخطاب للنبي - ﷺ - أو لكل من هو أهل للخطاب الذي يتلو القرآن الكريم، أو يستطيع تلاوته، وكشف الضر: إزالته، ومس الخير: نفعه، ولماذا عبر عن الضر بأن الله كاشفه، وعن مس النفع بقدرة الله تعالى؟ ونقول في الإجابة: إن من نزل به ضر يكون إحساسه بزواله، فعبر عن زواله بكشف الله تعالى، وأما النفع فإنه يكون صاحبه في حال تستوجب الحمد والثناء وطلب البقاء فيناسبه إثبات قدرة الله تعالى.
* * *
________
(١) جزء من حديث متفق عليه، رواه البخاري: القدر - لَا مانع لما أعطى الله (٦٦١٥)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (٥٩٣).
* * *
معاني هذه الآية الكريمة جامعة لكل سلطان الله على عباده في السماء والأرض، فهو الغالب على كل شيء لَا إرادة لأحد مع إرادته، وإرادته، فوق كل إرادة، فهو المسيطر سيطرة كاملة على عباده، والفوقية المذكورة في النص الكريم هي فوقية سلطان لَا فوقية مكان، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فلا جبار له إرادة عند سلطانه سبحانه، ولقد قال ابن كثير في معنى النص جملة رائعة، فقد قال: (يقول تعالى: إنه مالك الضر والنفع، وإنه المتصرف في خلقه بما يشاء لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه وهو القاهر فوق عباده، أي هو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء ودانت له الخلائق).
وإنه بهذا السلطان القاهر يدبر كل شيء بحكمته، وعلمه الدقيق المحيط، الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فبحكمته الظاهرة وبعلمه المحيط وقدرته القاهرة يسير الكون وما فيه ومن فيه إنه على ما يشاء قدير.
* * *
(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا
* * *
في الآيات السابقة بين الله تعالى أنه خالق السماوات والأرض، وفاطرها على غير مثال سابق، وكيف خالف المشركون الفطرة الإنسانية، والعقل المستقيم، وأشركوا بأحجار في عبادة الله لَا تنفع ولا تضر، وبين سلطانه تعالى، ثم ذكرهم سبحانه بنوازل تنزل بهم، فهو الذي يكشف الضر إن نزل، وهو الذي يسوق الخير بفضل قدرته ومنته. وفي هذه الآيات يذكرهم سبحانه بإشراكهم مع قيام المعجزة القاطعة بأنه سبحانه وتعالى هو الله وحده، فالآيات السابقة كانت في الآيات الكونية المثبتة للوحدانية، والآيات اللاحقة تثبت الوحدانية بالدلائل السمعية المثبتة للوحدانية والتي ثبت صدقها بالمعجزة القاطعة، وهي القرآن الكريم؛ ولذا قال تعالى:
فرض النص الكريم أن خصومة بين محمد - ﷺ -، وهو الداعي إلى الوحدانية، والمشركين الذين يرتعون في الوثنية، وأن هذه الخصومة تحتاج إلى شاهد يشهد، وأنه لابد من شاهد يفصل، وحاكم يحكم ويقضي، فأمر الله تعالى
أحدهما - أن الإجابة تنتهي عند قوله: (اللَّهُ) وأن ما بعد ذلك تقرير للشهادة، فـ (شَهِيدٌ) يكون جملة جديدة، لأنه خبر لمبتدأ محذوف، ويكون المعنى على هذا التخريج قل الله ذو الجلال والإكرام، والعزة وصاحب الإنعام في هذا الوجود، وهو كاف، وهو أكبر شهادة، ولا شهادة بعد شهادته، وهو يشهد بالحق وبالوحدانية، يشهد بما جاء في القرآن بعد أن شهد بما خلق وأنشأ، ثم بين أنه هو شهيد في هذه الخصومة.
والتخريج الثاني - أن الإجابة تكون في نهايتها عند (شَهِيدٌ)، فالمعنى قل إن الله تعالى شهيد، فـ (شَهِيدٌ) تكون خبرا للفظ الجلالة ابتداء، وكلاهما توجيه ليؤكد معنى الشهادة في النص القرآني.
ولماذا كانت شهادة الله تعالى أكبر شهادة؛ لأنها التي تتفق مع العقل، ولأنه المنشئ، ولأنه الباقي وكل شيء هالك إلا وجهه.
وما الدليل على شهادة الله تعالى؛ نقول: هي بيناته، وهي التي ينطق به بها القرآن الذي قام الدليل على أنه من عند الله تعالى العزيز الحكيم؛ ولذلك جاء ذكر القرآن الناطق بالحق، فقال تعالى:
هذا النص فيه المعجزة التي تدل على صدق الرسول - ﷺ -، وهو يشتمل على شهادة الله القولية بأنه واحد أحد ليس بوالد ولا ولد، وأنه القادر على كل شيء وأنه القاهر فوق عباده، وهو أمر حسي يتلى عليهم ليلا نهارا، ويقرأ عليهم جهارا، وكان معجزا ببلاغته، وما فيه من علم، وما فيه من قصص صادق، وما فيه من شرائع منظمة للعلاقات بين الناس في أسرهم ومعاملاتهم، واجتماعهم، وعلاقات الإنسانية بعضها ببعض، ولقد قال - ﷺ - في إثبات أنه المعجزة التي تحدى بها الناس أن يأتوا بمثلها فعجزوا عجزا مبينا: " ما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحي به إليَّ، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " (١).
ولماذا كانت معجزة النبي - ﷺ - قرآنا يتلى، وتولى سبحانه حفظه من التحريف والتبديل إلى يوم القيامة كما قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
والجواب عن ذلك أن معجزات الأنبياء السابقين كانت تقع ولا يعلم بها على اليقين إلا الذين عاينوها وشاهدوها، والذين من بعدهم لَا يعلمونها إلا بالخبر الذي لَا شك فيه. أما شريعة محمد - ﷺ - فإنها باقية خالدة إلى يوم الدين فلا بد أن تكون معجزاتها قائمة حاملة معنى الإعجاز والتحدي ما دامت الشريعة قائمة خالدة، فلا بد أن يكون القرآن الكريم حجتها خالدا بخلودها.
والنص القرآني الذي نتكلم فيه اشتمل على أمور ثلاثة:
أولها - بيان أنه المعجزة المثبتة لصدق النبي - ﷺ - وقد ذكر ذلك بالإشارة، إذ قال: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ) وقد ثبت بالتحدي عجزهم عن أن يأتوا بمثله.
________
(١) متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ثالثها - أن النص يتضمن أن القرآن حجة وإنذار لكل منِ بلغه سواء خاطبه
النبي - ﷺ - أم بلغه، وقد بين ذلك قوله تعالى: (لأُنذِرَكم بِهِ وَمن بَلَغَ) أي أن من بلغ القرآن فهو مخاطب به، سواء أكان من العرب أم كان من العجم، وكأنه خاطبه النبي - ﷺ -، ولقد روي أنه - ﷺ - قال: " بلغوا عن الله تعالى، فمن بلغته آية من كتاب الله تعالى فقد بلغه أمر الله " (١)، وروي عن جمع من التابعين أنهم كانوا يقولون: (من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد - صلى الله عليه وسلم). وإن هذا النص يستفاد منه أمران:
أولهما - أن من لم يبلغه القرآن ولا يعلم عنه شيئا، فإنه لَا يعتبر قد بلغته الدعوة الإسلامية، وإثمه على الذين تقاصروا عن تبليغها وبيانها.
ثانيهما - أنه لَا معذرة لمن يعرف القرآن، في الكفر بالحقائق الإسلامية.
ولكن كيف التبليغ بالقرآن، والعجمة سائدة في هذا الوجود سواء أكانت إنجليزية أو فرنسية أو غيرهما؟
والجواب عن ذلك أنه يجب في سبيل الدعوة إلى الإسلام؛ التي هي فرض كفاية على المسلمين؛ يأثم المسلمون جميعا إن لم يكن دعاة إلى الإسلام - يجب عليهم أن تفسر طائفة مخلصة مؤمنة فاهمة القرآن تفسيرا موجزا تبين معانيه، ويترجم ذلك التفسير إلى كل لغة أعجمية.
(أَئِنَّكمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أخرَى قل لَا أَشْهَدُ).
________
(١) رواه ابن جرير عن قتادة مرفوعا. وهو مرسل. [جامع البيان ج ٧، ص ١٠٣، ، وأخرج البخاري (٣٣٨٦) عن عبدِ الله بن عمر أنَّ النبي - ﷺ - قال: " بلِّغوا عني ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرجَ، ومن كذَبَ عليَّ مُتعمِّداً فليتَبوَّأْ مَقعدهُ منَ النار ".
ووصفت بـ (أُخْرَى) مع أنها جمع، وكان الظاهر أن توصف بـ (أخَر) ليوصف الجمع بالجمع، ولكن لأنها مشتركة في وصف جامع وهو أنها أحجار فهي في المعنى شيء واحد؛ لذا وصفت، فهي في المعنى واحد، وكذا وصفت بما يوصف به الواحد لَا بما يوصف به العدد، والوصف بـ (أخرى) فيه إشارة إلى بطلان عبادتها.
وإنه من المبالغة في التوبيخ والتنديد أن يأمر الله تعالى نبيه بألا يشهد بما يشهدون، بل يشهد بشهادة الحق، فيقول تعالى: (قُلْ لَا أَشْهَدُ).
وفى أمر الله تعالى له بالقول مع التنديد لهم والتوبيخ لهم ما يدعو إلى الاقتداء والتأسى به - ﷺ - وهو العاقل الصادق الأمين المعروف بذلك بينهم جاهلية وإسلاما، وإن ذهبت اللجاجة ببعضهم إلى إنكار المعروف بلسانه لَا بقلبه.
هذا تقرير وتأكيد لمعنى الجملة السابقة وهي لَا أشهد وتحتمل أن تكون داخلة في مقول القول، ويكون مقول القول لَا أشهد وإنما هو إله واحد، ويحتمل أن تكون جملة مبتدأة، والفصل في الأول يكون لأنها بيان لما قبلها، وفي الثانية يكون لابتداء الكلام، وإن كان في المعنى فيه تقرير لما سبقه.
والضمير (هو) يعود على الله تعالى، وهذا النص السامي تضمن أمرين: أولهما - وحدة الله تعالى، وقدض عليه غوله تعالى: (إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) وهذا يفيد قصر الألوهية على الله تعالى فلا يعبد سواه سبحانه، ويفيد مع ذلك أنه لَا يتصور أن يكون المعبود بحق غير واحد؛ لأن المنشئ المكون المدبر واحد، ولا يتصور بمقتضى النظر إلا أن يكون المعبود واحدا.
الأمر الثاني - التصريح ببراءة النبي - ﷺ - مما يعبدون من أوثان يشركون بها مع الله تعالى: (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ). في هذا النص تنديد شديد بعبادة الأوثان؛ لأن الرجل العاقل يتبرأ منها، ولا يليق أن يعبدها، وقد أكد براءته بـ (إن)، وبالوصف (بريء) وبأن ذلك افتحال منهم، وليس ألوهية في شيء.
* * *
* * *
الذين آتاهم الله سبحانه وتعالى الكتاب هم اليهود والنصارى أوتوا التوراة والإنجيل، وهم بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين يعرفون محمدا - ﷺ - ورسالته، وبعثه وصفته ومهجره، ويؤمنون بالله تعالى ويوحدونه، ولا يشركون، يعرفون هذه الحقائق كما يعرفون أبناءهم الذين هم من أصلابهم فهو عندهم بمرتبة اليقين، وقد وردت الآثار بذلك.
ويروى في ذلك أن كفار مكة قالوا للنبي - ﷺ -: ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله، وروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما
فهذا النص الكريم (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ) شهادة ثابتة بعد شهادة الله تعالى التي حكاها النبي - ﷺ - عنه جل جلاله، وبعد شهادته - ﷺ -، وهي شهادة النبيين السالفين أجمعين.
والضمير في (يَعْرِفُونَهُ) على من يعود؛ قال الأكثرون من المفسرين: إنه يعود إلى النبي - ﷺ -، ويؤيد ذلك سبب النزول المذكور أولا، وهو المروي عن النبي - ﷺ - عن طريق الكلبي، وهو يؤيد الوحدانية ويؤكد الشهادة بها من قبل تأييد النبي - ﷺ - في صدق رسالته. وجوز ابن جرير الطبري عودة الضمير على الله تعالى، ويؤيده أنه أقرب ظاهر مذكور في الآية، كما يؤيده رواية ابن عباس في شهادة أهل الكتاب الذين شهدوا بالتوحيد، وهو ظاهر، وإن كان لَا يظفر بالكثرة التي يظفر بها الرأي الأول.
(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).
ختم الله تعالى النص ببيان خسارتهم لأنفسهم، وإركاسهم أنفسهم في الفساد، ويترتب فقد الإيمان، وعلى هذه الخسارة الفادحة التي فقدوا بها أنفسهم كأناس لهم إدراك وفهم في ربط للمسببات المنطقية باسمها، وإن المشركين كانوا يؤيدون نحلتهم بتكاثر معتنقيها، فذكر لهم القرآن الكريم أن الله تعالى يشهد ببطلان كلامهم وقام الدليل على صدق شهادة الله - تعالى - بالكتاب الموحى به، والذي قام الدليل على صدقه بالتحدي به، وعجزهم عن أن يأتوا بمثله، وشهادة النبي - ﷺ - وقد علموا أنه الصادق الأمين وإن لجَّ قادتهم في الخصومة حتى فجروا
________
(١) رواه ابن جرير الطبري، في جامع البيان: ج ٧، ص ١٠٤.
* * *
* * *
الاستفهام هنا إنكاري للنفي وفيه توبيخ للمشركين، هو حكم على أمر واقع، ومعنى القول: لَا أحد أظلم من الذي قصد إلى الفرية على الله تعالى، أو كذب الحجج القائمة، أو كذب ما جاء في القرآن الكريم من آيات بينات، ومعنى النص أن المشركين كذبوا على الله تعالى بكل عقائدهم، وبذلك بلغوا أقصى درجات الظلم الذي لَا يوجد أعلى منه، إذ بلغوا أقصى غايات الكذب الذي يبهت العقلاء والأمناء الصادقين، وقد قال الزمخشري في بيان كذبهم على الله تعالى: (جمعوا بين أمرين متناقضين، فكذبوا على الله تعالى بما لَا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح، حيث قالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، والله أمرنا بها، وقالوا: الملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحرا ولم يؤمنوا بالرسول - صلى الله عليه وسلم).
هذه بعض أكاذيبهم على الله تعالى التي بلغوا بها أقصى درجات الكذب، وبها استحقوا أن يكونوا هم، ومن يشابهونهم أكثر الناس افتراء، وأظلم الناس في هذا الافتراء، وخلاصتها أنهم كذبوا على الله تعالى بأن ادعوا عليه سبحانه ما لم يكن، وكانوا في ذلك مرتكبين لأعظم بهتان، وكذبوا بآياته، والآيات قسمان: آيات هي المعجزات، ومنها التي تحدى بها الأنبياء، والآيات الكونية، وقد كذبوا الاثنين، وكفروا بآيات الله تعالى في آيات الكون الدالة على إبداع خلقه، وأنه سبحانه هو الخالق وحده، وهناك الآيات القرآنية قد كذبوا بها فلم يؤمنوا.
* * *
* * *
الكلام هنا متصل بما قبله، ذلك أن ختام الآية السابقة هو قوله تعالى: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) وذلك يومئ إلى أن الله لَا يوفقهم للخير في الدين؛ لأنهم
خسروا أنفسهم ولم يؤمنوا، ولأنهم أظلم الناس بافترائهم على الله، وتكذيبهم لآيات الله، ويوم يحشرهم أي يجمع الناس جميعا لَا يُستثنى منهم أحد، يكون الخسران المبين، والعذاب الأليم، والحرمان من النعيم.
وفى الآية الكريمة قراءتان ذكرهما الزمخشري، أولاهما - قراءة حفص بالنون في (نحشر) و (نقول) (١)، ومعناها ظاهر بين لَا يحتاج إلى تخريج أو تأويل، وثانيهما - بالياء في (يحشرهم) وفي (يقول)، ويكون الضمير في الأمرين يعود إلى الله تعالى، وهو مذكور عن قرب في الآية السابقة.
والحشر مؤكد بكلمة (جَمِيعًا)، وهذا التأكيد يمنع احتمال التخصيص، ويكون الضمير يعود على النابر أجمعين، وأن الذين يعاقبون ويحاسبون هم الذين أشركوا؛ ولذا قال تعالى: (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) والعطف بـ " ثم " كان لتعدد الوقائع قبل هذا الخطاب الموجه للمشركين خاصة، والذين اختصوا بالخطاب فيه؛ لأنه لَا شركاء يزعمونهم آلهة مع الله إلا عند الذين أشركوا، فهناك أمور تقع يوم القيامة قبل هذا الخطاب وكان تقدير القول هكذا: يوم نحشر يكون الحساب، وتحضر كل نفس ما كسبت، ويكون لكل امرئٍ كتابه، ويحصى عمله من خير وشر، ثم نقول للذين أشركوا: (أَيْنَ شركاؤُكمُ الَّذِينَ كنتُمْ تَزْعُمُونَ) الشركاء هم
________
(١) (ويوم يحشرهم.. ثم يقول) بالياء فيهما [الأنعام (٢٢)، وهي قراءة يعقوب، وقرأ بها عنه روح ورويس غاية الاختصار.
* * *
* * *
أصل معنى الفتنة، إدخال المعدن النار ليزول عنه الخبث الذي يعلق به، وأخص المعادن الذهب، ففتنته إدخاله في النار لتعلم جودته، ثم أطلقت على الاختبار والعذاب والبلاء، والمصيبة والكفر والإثم والألم والضلال.
وفى النص الكريم قراءتان: إحداهما - ضم تاء (فتنتُهم) (١)، والمراد من الفتنة الاختبار الشديد بهول ما رأوا، والمعنى على هذه القراءة وهي قراءة حفص: وكان من أثر الاختبار والهول الشديد الذي رأوه يوم الحشر والحساب، أن نسوا ما كانوا عليه من شرك، وقالوا مقسمين: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشرِكِينَ) أي أنهم أقسموا بالله غير صادقين في الحقيقة، ونادوا الله بـ (ربنا) معترفين بربوبيته وحده، ويكون ذلك من فرط الهول والشدة وعظمة ما رأوا من صدق الحقائق، حتى كذبوا أنفسهم.
والقراءة الثانية بفتح التاء وبالياء في يَكُنْ (٢). ويعتبر اسم (يكن) هو (أن قالوا)، وقد رجح هذه القراءة ابن جرير الطبري، وقال في معناها: (ثم لم يكن
________
(١) قرأ (فِتْنَتُهُمْ) بالرفع - ابن كثير وابن عامر، وحفص والمفضل كلاهما عن عاصم، وقرأ الباقون بنصب التاء.
(٢) (ثم لم يكن) بالياء - قراءة حمزة والكسائي، ويعقوب، وخلف، والمفضل عن عاصم، وقرأ الباقون بالتاء.
وإنما الفتنة الاختبار والابتلاء، ولكن لما كان الجواب من القوم غير واقع هنالك إلا عند الاختبار وضعت الفتنة التي هي الاختبار موضع الخبر عن جوابهم واعتذارهم).
وخلاصة المعنى الذي يقرره ابن جرير أن الفتنة الاختبار، وأنها بهذا المعنى هي السبب للقول، والقول هو المسبب ويكون التخريج هكذا لم يكن القول المتسبب عن الفتنة إلا أن قالوا إنا كنا مشركين، فعبر عن المسبب بالسبب لبيان شدة الهول وما يترتب عليه.
* * *
* * *
النظر هنا ليس هو نظر البصر، ولكنه نظر القلب والتأمل والتفكير والاعتبار، والنظر القلبي إنما هو إلى حالهم وما كانوا عليه من فزع واضطراب بسبب يوم القيامة الذي تزلزل فيه: (... وتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)، فهذا التصوير لحالهم بعد رؤيتهم هول يوم القيامة، إذ قالوا غير ما كان منهم كاذبين اعتذارا عما كان أو إنكارا، أو نسيانا للهول الذي هم فيه إذ ساروا سكارى لَا يعون، وهذا هو الذي نختاره فكذبهم بإخبارهم غير الواقع كان غفلة وذهولا؛ ولذا قال: (وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي غاب عن ذاكرتهم فنسبوا ما كانوا يفترونه من قول فيشركون مع الله غيره في العبادة، فـ (ما) اسم موصول بمعنى (الذي)، وما أنساهم إلا الهول حتى أخبروا بغير ما وقع منهم، اللهم نجنا من كرب يوم القيامة وما فيه.
* * *
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ
* * *
الكلام موصول في المشركين الذين تقوم لديهم الدلائل القاطعة على وحدانية الله تعالى، وسلطانه تعالى عليهم في الدنيا، وإثبات رسالة النبي - ﷺ - بالمعجزة التي تحدى العرب فيها أن يأتوا بمثلها، وبيان ظلمهم، ثم بين سبحانه بعض حالهم يوم القيامة، وكيف يغيب عنهم ما كانوا يفترونه، وفي هذه الآيات يبين حالهم عند تلقى الدعوة المحمدية.
الأَكتة جمع كنان، وهو الغطاء، والمعنى أنه لَا يصل الحق إلى قلوبهم لوجود ذلكَ الغطاء الحاجز المانع من أن يصل نوره إلى قلوبهم، بل إنه لَا يصل إلى مسمعهم، فقد جعل الله تعالى في آذانهم وقرا، والوَقر، بفتح الواو ثقل السمع، وهذا النص كناية عن كمال الإعراض، فهم لَا يصل إليهم القرآن،
وقوله: (أَن يَفْقَهُوهُ) المصدر المكون من (أن) وما بعدها مضاف إلى مصدر محذوف يقدر على ما يناسب المقام من وضع غلاف يمنع النور، ووقر يمنع السمع، فيكون التقدير كراهة أن يفقهوه أو لمباعدة أن يفقهوه، ومعنى يفقهونه أن يدركوه إدراكا عميقا، ينفذون فيه إلى لبابه، وغاياته، فليس المراد مجرد الفهم والمعرفة، بل المعرفة النافذة التي تصل إلى اللب وتستولي على القلب.
وإن سبب ذلك كله هو الإعراض المطلق الذي سيطر على كبرائهم، وسبق الكفر إلى قلوبهم ومعارفهم، ومع هذا الإعراض، وبسببه يحكمون من غير أن يفقهوا فيقول ما حكاه الله عنهم.
(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا).
والكافر بالحق المعرض عن الأدلة يسبق كفره إيمانه، فالكفر سابق على التثبت والاستدلال، فهو متجه إلى الإنكار ابتداء؛ ولذلك وصف الله تعالى الذين
* * *
* * *
إن المشركين لَا يكتفون بالإعراض عن الحجج الثابتة والبينات القاطعة، ولا يكتفون بالافتراء على الآيات تتلى عليهم، والاستهانة وقولهم إن هي إلا أساطير الأولين، لَا يكتفون بذلك، بل يتعدى شرهم إلى غيرهم فهم ينهون الناس عن اتباع محمد - ﷺ - والقرآن الكريم هو آيات بينات، فهم لَا يهتدون، ويمنعون الهداية عن غيرهم ينهونهم، ويثيرون السخرية عليهم إن اتبعوا الهدى واستقاموا على
وفى هذا التفسير يكون الضمير في (عنه) في الحالين يرجع إلى النبي - ﷺ - وما جاء به.
وبعض المفسرين التابعين لبعض التابعين جعل الضمير في ينهون في الحالين يعود إلى عشيرة النبي - ﷺ - وأعمامه وكانوا عشرة، فهم للعصبية التي كانت قائمة يذبون عن النبي - ﷺ - وينهون المشركين عن أن ينالوه، وفي الوقت ينأون عن إجابته، ولعل أوضح مثل لذلك أبو طالب، فقد كان يمنع النبي - ﷺ - من أذاهم، ويمتنع عن اتباعه مع أنه في قرارة نفسه كان يظنه على حق، ولقد روي عنه شعر في ذلك، فقد روى أنه قال:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم | حتى أوسَّد في التراب دفيناء |
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة | وأبشر بذاك وقرَّ منه عيونا |
ودعوتنى وزعمت أنك ناصح | ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينا |
وعرضت دينا لَا محالة إنه | من خير أديان البرية دينا |
لولا الملامة أو حذاري سبة | لوجدتني سمحا بذاك مبينا |
وإنهم في إصرارهم وعنادهم ولجاجتهم في كفرهم ونهي الناس عن الاتباع،
بل فتنتهم - يسيرون في طريق الفساد والضلال ولا يهلكون أحدا إلا أنفسهم؛ لأن
* * *
* * *
ذكر الله تعالى حال المشركين في الدنيا في لجاجتهم في الكفر، بإعراضهم عن الآيات البينات، وجحودهم للنبوة، ونهيهم غيرهم عن اتباعه ومجافاتهم له، وكان لابد من المقابلة بين هذه الحالة المنحرفة المتجافية عن الهداية، وحالهم يوم القيامة إذ يعرضون على النار، ويقفون عليها، فذكر سبحانه مخاطبا النبي: إنك أيها النبي لو اطلعت عليهم ورأيت حالهم إذ وقفوا على النار واطلعوا عليها ورأوها تستقبلهم بلهيبها وسعيرها - لرأيت هولا عظيما يدفعهم لأن يتمنوا أن يعودوا إلى الدنيا ولا يكذبوا بآيات خالقهم ومنشئهم وكالئهم وحاميهم ويكونوا من المؤمنين، وفي الآية الكريمة إشارات بيانية، بذكرها نقرب ما في الآية من بلاغة رائعة:
الأولى - التعبير بـ (إذ) التي تدل على الماضي بدل (إذا) التي تدل على المستقبل، وذلك لتأكيد الوقوع، وليستبين المستقبل حاضرا قائما، ويتصور على أساس أنه موجود لَا على أنه سيوجد.
الثانية - أنه عبر بـ (على) بدل (فِي) للإشارة إلى أن مجرد الاطلاع عليها، والعلم بها بالعيان يلقى في النفس بهولها وشدتها، فما بالك بالوقوع فيها.
الثالثة - أن (لو) شرطية والجواب محذوف وتقديره - لو رأيتهم في هول وفزع وشدة فتمنوا أن يعودوا ويصلحوا.
الرابعة - أن التمني كان بالنداء لصيغته وهي (ليت) كأنه يقول: (يا ليت) أقبلي فهذا وقتك الذي نستغيث بك فيه؛ إذ لَا نملك إلا التمني فهو أداتنا الوحيدة، وإن كانت أداة العاجزين.
السادسة - توكيد إيمانهم بأنهم يخرجون من صف أهل الشرك والكفر إلى صف المؤمنين الصادقين.
* * *
________
(١) (ولا نكذبَ.. ونكونَ) بالنصب فيهما - قراءة حمزة ويعقوب وحفص.
* * *
(بل) هنا للإضراب، والرد على ما يتمنونه، والغاية التي يريدونها، والمعنى أن أولئك لَا يتمنون الذي يتمنونه لأجل الهداية، بل ذلك لهول ما يرون والفزع لما يستقبلهم، ولأنه بدا لهم الأمر الذي كانوا يخفونه، ويصح أن يكون الإضراب هنا للانتقال من مقام تمنيهم إلى مقام آخر، وهو بيان أنهم لو عادوا في الدنيا وخلقت فيهم الشهوات والأهواء وعبثت بهم، واستولت عليهم لعادوا لما نهوا عنه.
وما الذي بدا لهم وكانوا يخفونه من قبل؟ اختلف المفسرون على آراء كلها محتملة، وهي تنتهي إلى رأيين:
أولهما - ما كانوا يخفونه في طوايا نفوسهم وأعمالهم في الدنيا قد بدا عيانا لهم، وأحسوا فيه بقبح ما فعلوا، فبدا لهم ما كانوا يخفون من مفاسد، وبدا أن كفرهم ليس لنقص في الاستدلال، ولكن لعناد، ولإعراض بدا لهم ما كانوا عليه من عنجهية جاهلية، وأنها جوفاء في الآخرة، وأنها التي دفعتهم إلى الكفر، وليس نقص الدليل، وبدا لهم أن إعراضهم عن الآيات لم يكن لنقصها، ولكن لنقص في نفوسهم وإذعانهم.
ولقد ادعوا في تمنياتهم أنهم يعودون ليكونوا في ضمن المؤمنين، ولا يكذبوا بآيات ربهم الذي خلقهم وكونهم وحماهم، فبين سبحانه أنهم لو ردوا إلى الدنيا بزخارفها وعصبياتها، وأهوائهم وشهواتهم، وحب الغلب لعادوا لما نهوا عنه من الإعراض عن الآيات، والمكابرات في المعجزات، والاستهانة بالإيمان والمؤمنين، ووقعوا في كل المخابث التي كانت منهم، وذلك لأن السبب في الجحود هو سيطرة الهوى والشهوة والعصبية الجاهلية، فإن عادوا إلى الدنيا بمتعها البراقة فسيستولي عليهم بريقها، ويكون منهم ما كان أولا.
ولقد أكد الله سبحانه كذبهم في أمنياتهم ونتائج تمنياتهم فقال: (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) والكذب هنا خاص بما يمكن أن يقع منهم، وما أرادوا في تمنيهم الأماني، فتمنياتهم كاذبة لَا يمكن أن تحقق، ولو عادوا لكان منهم ما وقع أولا؛ إذ إنهم يعودون بما كانوا يحملون من ركائز في نفوسهم، فالتكذيب لما يكون منهم في المستقبل، وقد أكد سبحانه تكذيبهم بـ " أن " وبالجملة الاسمية، وباللام المؤكدة.
* * *
* * *
الحياة التي تسمى حياة في نظرهم ولا شيء سواها حياة الدنيا، هذه الجملة تفيد ثلاث فوائد:
أولها - نفي وجود أي حياة غير الحياة التي يعيشونها، ولو كانت هذه الحياة هي الدنيا وليست العالية القويمة.
الثانية - أنهم ينسبون الحياة إليهم لاستمتاعهم فيها وما فيها من لهو ينغمسون فيه، وعبث يعبثونه.
الثالثة - إنكارهم صراحة لبعثهم وتأكيد النفي بالباء، وبالجملة الاسمية.
لقد قالوا ذلك القول في الدنيا بلا ريب، ولكن كلمة (قالوا) في هذا النص " أهي معطوفة على كلمة (لعادوا)، وقولهم هذا يكون على فرض عودتهم، وهذا هو الظاهر، ويكون قوله تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) جملة اعتراضية مؤكدة لمعنى عودتهم إلى ما كانوا عليه إن عادوا إلى الدنيا، إذ هي تكذيب ادعاء أنهم لا يكذبون بآيات ربنا، ويكونون من المؤمنين.
ويصح أن تكون (وقالوا) كلام سيق مستأنفا للمقابلة بين حالهم التي يرونها في الآخرة، إذ يرون الهول عيانا، وقد ينكرون البعث، ويؤكدون الإنكار له، وها هم أولاء يرونه، ويتمنون ما يتمنون.
* * *
* * *
ولو ترى إذ وقفوا على النار كانت في بيان ما يستقبلهم من عذاب مادي رهيب يقرع إحساسهم قرعا شديدا مزعجا، وفي هذا الموضع، (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ) هي بيان عقاب معنوي توبيخي، وبيان كذبهم في الدنيا ومحرهم بآيات ربهم، ولو ترى يا محمد أو لو ترى يا قارئ القرآن إذ وقفوا أي حبسوا مطلعين على تجلي ربهم، ومملطانه وكمال عزته البارزة لهم التي حاولوا إخفاءها في
* * *
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ
* * *
الكلام موصول في الكفر باليوم الآخر وأثره النفسي والاعتقادي، وما يترتب على الكفر باليوم الآخر جحود النبوات، ولقد ابتدأ سبحانه بما يتصل بما قبله، فقال تعالى:
ثانيها - ما المراد بالساعة؟ واضح أنها القيامة فذلك تعبير قرآني عنها، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ...).
وسميت القيامة ساعة؛ لأنها تحمل أشد الأهوال، ولأنها فاصلة بين نوعين من الحياة، حياة فانية وأخرى باقية، حياة عمل، وحياة جزاء.
الثالثة - الساعة تجيء من غير علم بوقتها للجميع فكيف تكون بغتة للذين كذبوا بلقاء الله دون غيرهم؟ والجواب عن ذلك أن الذين آمنوا بلقاء الله تعالى يتوقعونها، وإن لم يعلموا وقتها، أما الذين كذبوا فهم يكفرون بها فيفاجأون بها، وإن الذين آمنوا يرجون لقاء ربهم، ويرجون رحمته، وأما الذين كفروا بلقاء الله تعالى فلا رجاء عندهم.
أولئك الذين تجيئهم القيامة ولقاء ربهم بغتة ويرون العذاب، تصيبهم حسرة، أي غم شديد، وقد قال الأصفهاني في تفسير الحسرة ما نصه: (الحسرة الغم على ما قاله والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه، وانحسرت قواه إذا انحسرت قواه من فرط غم أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه).
والتفريط هو الإهمال وعدم العناية والغفلة عما يجب للأمر.
والضمير في قوله تعالى (فِيهَا) يعود إلى الحياة عند بعض العلماء ولكن ليس لها مذكور سابق إلا أن يكون ما ذكروه من قبل، وقولهم: (... إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)، والحق في نظري أنه يعود إلى
ونادوا الحسرة مضافة إليهم قائلين (يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا)؛ لبيان أنهم في حال غم وحزن، وينادون حسرتهم التي تلازمهم كأن هذا وقتها ولا وقت ألزم وأنسب لها من هذا الوقت.
(وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ).
الوزر الحمل الثقيل، وسمي به الإثم والذنب؛ لأنه أثقل الأحمال النفسية التي تنوء به القوة، والجملة استعارة تمثيلية لما يثقلون به يوم القيامة من أثقال الآثام، فقد شبهت حال من يحمل الآثام الثقال الكثيرة بحال من يحمل الأحمال الثقال على ظهره وينوء بها؛ لأن كليهما ثقيل، الآثام لوباءتها وعذابها، وقد رشح سبحانه للمشبه به في قوله تعالى: (أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) فإن هذا بيان لسوء ما يحملون، وقد ابتدأ بـ (أَلا) الدالة على التنبيه، ثم التعجب من شدة ما يحملون، وساء وأساء: تستعمل للتعجب، فمعنى (سَاءَ مَا يَزِرُونَ) ما أسوأ ما يزرون وما يحملون لسوء عاقبته، وما وراءه من عذاب.
* * *
* * *
في هذا النص تكون المقابلة بين الحياة الدنيا والآخرة، أو الحياة العاجلة والحياة الآجلة، أو بالأحرى بين من يطلب الحياة الدنيا من غير نظر إلى ما وراءها من حياة أخرى، ومن يطلب الحياة الآخرة، وأيهما أمثل، ولذلك كان حصر الحياة الدنيا في أنها لهو ولعب، فإن هناك حصرا بالنفي والإثبات، فهي مقصورة على اللهو واللعب، وذلك لمن يطلبها من غير نظر إلى ما وراءها من حياة أخرى، فإنه حينئذٍ لَا ينظر إلا إلى لذائذها وشهواتها، ولا تكون حينئذ إلا لهوا ولعبا، واللهو واللعب هما الاشتغال بما لَا يجدي في ذاته، ولكن قد يختلفون في حقيقتهما مع قربهما في المعنى، فاللعب العمل الذي لَا مقصد منه إلا تزجية الفراغ وقضاء الوقت، وقد يكون عبثا، واللهو طلب ما يُلهي عن الجد من الأمور من ملاذ
وإن قصر الحياة على اللهو واللعب إنما هو لمن أهمل ما وراءها، أما من عنى بما وراءها وقام بالجد من الأمور، فإنها الطريق إلى الآخرة، وهي طريق الذين يتقون.
وكانت المقابلة للدلالة على موضوع القصر، فإن الذين يتقون هم من الذين يعيشون في الدنيا، ولكن لم تكن لهم كل شيء، بل ما نظروا إليها إلا ليطلبوا الآخرة بها والله على كل شيء قدير.
وقوله: (وَلَلدَّار الآخِرَةُ خَيْرٌ للَّذِينَ يَتَّقُونَ).
في هذه مقابلة بين الذين يطلبون الدنيا لذاتها، والذين يطلبون بها الآخرة؛ إذ الأولون تكون عندهم لعبا ولهوا، والآخرون تكون عندهم جدا، يطلبون ما في الدنيا لغاية وراءها، ولا يطلبونها لذاتها، وهذه المقابلة فهمت بالصراحة في الكلام بشأن الأولى، وهو الخسران، وفهمت بذات القابلة في الثانية، وهناك مقابلة أخرى، وهو أن عاقبة الآخرين خير، وهذه فهمت بصراحة في الثانية، وبالمقابلة ذاتها في الأولى وهو الخسران أيضا، وقد أكد الله تعالى الخيرية لأهل التقوى فأكد باللام المؤكدة، ثم خاطب الله تعالى الناس فقال تعالت كلماته: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الاستفهام هنا للحث على التفكر والتدبر، والمقابلة بين اللذات العاجلة السريعة الفانية، واللذات الآجلة الدائمة الباقية.
* * *
* * *
وإن النبي - ﷺ - كان يحزنه أن القوم لَا يؤمنون، ويفترون الكذب عليه، ولقد نهاه الله تعالى عن أن يلج الحزن في نفسه لعدم إيمانهم، فقال تعالى: (... فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ...)، وقال تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمنِينَ). ولقد كان يحزن النبي - ﷺ - كفرهم، وما يقولون في هذا الكفر من رميهم له بالكذب والافتراء، وأنه ساحر، وأنه مجنون، وأن كتاب الله تعالى أساطير الأولين، ولقد ذكر الله تعالى أنهم لَا يكذبون النبي - ﷺ -، و (الفاء) هنا تكشف عن محذوف يفيد السببية، تقديره مثلا فلا تحزن لأنهم لا يكذبونك، (وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ)، والجحود نفي ما في القلب ثبوته، وإثبات ما في القلب نفيه أي عدم الإذعان للحق، وقد قامت أدلته، وكثير من العرب كانوا يعتقدون صدق محمد - ﷺ -، ولكنهم يمارون في الحق، ولا يذعنون، ويجادلون في آياته، وقد روي أن طاغوت الشرك أبا جهل عوتب في أنه صافح النبي - ﷺ - مرة فقيل له في ذلك فقال: إني لأعلم أنه النبي، ولكن متى كنا لبني مناف تبعا؟!
وهذا على أساس أن الجحود في الآية منصبّ على نبوة النبي - ﷺ - إذ يعرفون صدقه، ولكن لَا يذعنون له، فيكونون جاحدين، وهناك تخريج بياني آخر، وهو أن الجحود منصب على آيات الله تعالى وليس تكذيبا، فهو تعزية للنبي - ﷺ - من جهة أنهم لَا يكذبونه، ولكن يقرّون في ذات أنفسهم، ولكن يجحدون بشهادة ربهم على صدقه، فهم أشد وبالا.
وهنا إظهار في مقام إضمار إذ إنه سبحانه وتعا أف قال: (وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) ولم يقل (ولكنهم) وذلك لبيان سبب الجحود وهو الظلم
* * *
* * *
هذا تنبيه للنبي - ﷺ - وحث على الصبر، والانتظار لما وعد من النصر المؤزر، فالله سبحانه وتعالى يبين أنه ليس أول المكذبين، بل سبق إلى ذلك الرسل الصادقون الداعون، ولقد أكد الله سبحانه وتعالى الخبرب (اللام) وبـ (قد) لتأكيد التسلية، ولتأكيد طلب الصبر، وتأكيد الوعد بالنصر، ولم يكن التكذيب للرسل سببا للحزن، بل كان طريقه شحذ العزيمة بالصبر، وبتحمل الأذى، وبترقب النصر، والعمل عليه، فمع العزيمة المعززة بالصبر النصر، وليس مع اليأس قوة، فالصبر كان نتيجة التكذيب؛ ولذا كان العطف بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب، وقوله (كُذِّبُوا وَأُوذُوا) للبناء للمجهول وهو مع (ما) يكون المصدر المؤوَّل منهما - فما للموصول الحرفي أي المصدرية، والمراد الصبر على تكذيبهم وإيذائهم، ودل على أن موضع الصبر هو تكذيبهم وإيذاؤهم، وكانوا صابرين حتى أتاهم نصر الله تعالى وأنه مع الصبر الأجر، ولقد قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤).
فالنصر إن شاء الله آت لَا محالة، وهو العزيز الحكيم القادر العليم.
(وَلا مبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَأِ الْمُرْسَلِينَ).
كلمات الله تعالى هي كلمات النصر الذي وعد الله تعالى به نبيه - ﷺ - ووعد به المرسلين، من قبله، مثل قوله تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣). وقوله تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١).
ومعنى تبديل كلمات الله تعالى أن يتخلف وعد الله، فلا يكون النصر المبين ما دامت الأسباب بأمر الله وتوفيقه مهيأة، وإنه وعد الله تعالى من كلمات الله
وفسر بعض العلماء كلمات الله تعالى بما هو أعم من النصر، وهو شرائعه، وآياته وتوحده، وصفاته، ونصره أي أنه إذا كان النبي - ﷺ - يشفق على رسالته أن يعروها تغيير بسبب تكذيبهم وإيذائهم فلا مبدل لكلمات الله تعالى، ونحن لهذا نميل.
ولقد أكد سبحانه العظة والتسلية في أنباء المرسلين، فقال تعالت كلماته:
(وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن ئبَأِ الْمُرْسَلِينَ) ولقد جاءك فيما قص عليك من قصص النبيين وأخبارهم وأنبائهم ما فيه العظة الكاملة، وفيه المثُلات لأقوامهم والنصر لهم، وكما قال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ...).
* * *
* * *
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة من أول السورة. أنهم متعنتون طلبوا أن يكون مع الرسول ملك، وبين الله سبحانه في ذلك أنهم معرضون عن الآيات، وأن الكفر قد سبق إلى قلوبهم، فانسدت عليهم كل مسالك الإيمان، فلا يشرق فيهم نور اليقين، ولو نزل عليهم قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين، وإن يروا كل آية لَا يؤمنوا بها، وأنهم معرضون عن الحق، وإن الآية التي نزلت عليك كافية لإيمانهم إن أرادوا إرشادا، وابتغوه، ولم يبتغوا غيره.
وإن النبي - ﷺ - كان حريصا على إيمانهم، وكان يكبر عليه إعراضهم عن الدعوة الحق التي يدعو إليها، والحجة الدامغة التي يثبت بها صحة دعوته، وكأنه
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَ مِنَ الْجَاهِلِينَ).
إن النبي - ﷺ - كان حريصا على أن يؤمن كل الذين يدعوهم إلى دعوته، ويظن أن الحجة وحدها كافية لاستجابتهم، فبين سبحانه وتعالى أن حكمته اقتضت أن يكون في الوجود أشرار وأخيار من الناس، حتى يبتلى الأخيار بالأشرار، وأن سنته في خلقه اقتضت أن يكون في الخلق إبليس يوسوس في صدور الناس ويكون الكفاح بينهم، وأن يبلوهم بالشر والخير فتنة. ولو شاء سبحانه أن يكونوا جميعا مهديين لجمعهم على الهدى والتقوى، ولكنه لم يشأ، كما قال تعالى في آية أخرى: (وَلَوْ شَاءَ ربُّكَ لآمنَ من فِي الأَرْضِ كُلهُمْ جَمِيعا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حتَى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
وما دامت إرادة الله تعالى لَا بد أن يكون في عباده أخيار يصدقون ويؤمنون، ومعرضون جاحدون، فادع إلى سبيل الله وانتظر أن يكون المناوئ والمجيب، ولا تكونن من الجاهلين بحكمة الله تعالى، وليس الجهل بأمر شرعي حتى لَا يكون محلا للنهي، إنما هو تنبيه إلى أمر تكويني، كان التنبيه للنبي - ﷺ - مؤكدا، وهو تنبيه لغيره بالأولى.
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله.
* * *
* * *
الكلام في شأن المشركين وعرض الآيات عليهم، وطلبهم آيات أخرى، وهم معرضون عن كل الآيات بقلوبهم لأنها في أكنة، ولا يسمعون الحق لأن آذانهم فيها وقر لانصرافها، وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك وذكر وجوب اليأس من المشركين الذين يعرضون عن آيات الله مدعين أن ما سيق لهم لَا يكفي لإقناعهم، فقال تعالى:
الاستجابة هنا هي الإجابة بعد التفكر والإمعان وتقدير الأمر، فهي إجابة محكمة دقيقة، وهذا ما تدل عليه (السين)، فهي إجابة بعد استقراء الدليل على
وقد قال تعالى من بعد (وَالْمَوْتَى يَيْعَثُهُمُ اللَّهُ)، وقيل: إن الموتى هم موتى الأحياء الذين لَا يدركون الحق، ومعنى بعثهم إيمانهم وهدايتهم، أي أن الله تعالى قادر على هداية موتى التفكير الذين لَا يستجيبون، وقيل المراد بالموتى الكفرة الأموات، ومعنى البعث ليس الإيمان، إنما المراد أنه سبحانه وتعالى سيبعثهم ثم يحاسبهم على كفرهم، والرأي عندي أن تكون كلمة الموتى على حقيقتها والبعث على حقيقته، ويكون نسق النص الكريم هكذا: إنما يستجيب للحق ويذعن له الذين لَا يعرضون عن الآيات، ثم بين بعد ذلك حال الذين لَا يجيبون بإثبات قدرة الله بأن الله تعالى سيبعثهم مع الموتى، ثم يكون الحساب والعقاب ويرون ما لم يؤمنوا به، ويستمعون إلى ما أعرضوا عنه وكفروا، ولذا قال سبحانه من بعد ذلك: (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أي ثم إليه وحده يعودون راجعين ليجازيهم المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ولا يستوي المحسن والمسيء.
* * *
* * *
فقد دأبوا على الإنكار، لأنهم دأبوا على الإعراض (وَمَا تَأْتيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) أالأنعام، (... وَإِن يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا...)، ولكنهم مع ذلك الإعراض يدعون أن إنكارهم لنقص الدليل، وليس للعنت ومجرد الجحود. ولقد كرروا القول في ذلك، وما أرادوا معجزة مطلقة بل معجزة حسية تلفت أنظارهم وقد ذكر القرآن الكريم بعض ما طلبوا، فقال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠)
قالوا بصيغة الطلب الذي يشبه التمني والتحريض فعبر بـ (لولا) الدالة على التحريض والتمني، وكأنهم يتمنون الإيمان بتمني الآية وهم في ذلك منحرفون عن الغاية، وقالوا لولا أنزل عليه، أي على النبي - ﷺ - وذلك التنزيل آت من قبل ربه وعبروا بالمجهول وبربه وهما يفيدان أن الطلب ليس منه، ولكنه من ربه، فإذا كان رسولا من عنده، فليجب ذلك الطلب الذي نتمناه، ونكون من بعده مؤمنين. وقد رد الله سبحانه وتعالى بأمرين:
أولهما - أنه سبحانه قادر عليه فهو المالك للسماوات والأرض ومن فيها، وهو القادر على أن ينزل عليهم تلك الآية، فلن يعجزه شيء في الأرض، ولكن الآيات التي تكون مع النبيين لإثبات رسالتهم تكون على مقتضى حكمته، وتكون مناسبة لشريعتهم فتكون خالدة بخلودها.
الأمر الثاني - الذي أجابهم سبحانه وتعالى هو أن أكثرهم لَا يعلمون، وهذا يفيد أنه سبحانه وتعالى مع قدرته على ما يطلبون لن يجيبهم، لأنهم لَا يعلمون أنهم لَا يؤمنون، ولو جاءهم بالآيات؛ لأنهم سبقوا إلى الإنكار والجحود. فيكفرون بهذه الآية كما كفروا بالقرآن، ولأن القرآن حجة في ذاته وهو أقوى حجة تناسب شريعة محمد - ﷺ -، لأن الآيات المادية وقائع حسية تنتهي بانتهاء زمنها، ولا يعرفها إلا الذين يرونها، أما القرآن فهو باق خالد معجز في كل الأعصار والدهور فناسب شريعة خالدة باقية إلى يوم القيامة.
* * *
* * *
ذكر في الآية السابقة بيان قدرة الله تعالى على أن ينزل أي آية يريدونها، ولكنه لَا ينزلها، لأنهم لَا يعلمون ولا يفهمون ما يناسبهم، والله تعالى لَا يسير
ومؤدى هذا الكلام إثبات أن علم الله تعالى الواسع كان من مقتضاه ألا يجيب ما طلبوا؛ لأنهم لَا يعلمون المآل، وهو يعلمه، كما يعلم كل حيوان من دابة تدب، وطائر يطير، ويعرف ما يحتاج إليه وما لَا يحتاجه، لقد بين الله سبحانه وتعالى عظم خلق الحيوان، وأنها جماعات وطوائف مخصوصة، كل طائفة تكون جنسا قائما، وقد فسرها الأصفهاني بقوله قوله تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِير بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم) أي كل نوع منها على طريقة قد سخرها الله عليها بالطبع، فهي من ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالشرنقة، ومدخرة كالنمل، ومعتمد على قوت وقته كالعصفور والحمام، إلى غير ذلك من الطبائع التي يخصص بها كل نوع. والنص فيه تعميم للأنواع كلها لأن اجتماع (ما)، و (من) يدل على الاستغراق للجماعات والآحاد معًا، فهي في علم الله تعالى جماعات وأجناس وطبائع مختلفة مثلكم - وقوله تعالى: (وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) لإفادة التعميم في أن علمه تعالى يشمل الطائر في الجو، كما يشمل الدابة التي تدب في الأرض، والطائر الذي يطير، فذكر الذي يطير بجناحيه يدل على علم الله تعالى على ما في الأرض من دواب تدب، وأسماك ولآلئ تسبح، وما في الجو من طيور تطير، وكل هذه أجناس ذات طبائع مختلفة، وذكر الجناحين في الطير لتوجيه الأنظار إلى الإبداع في الصنع مع جمال التكوين والقدرة.
وفى ذلك بيان لقدرة الله تعالى، وبيان لأن الإنسان لَا يصح أن يعلو ويستكبر فأمثاله من الأحياء عدد كثير، وليس عددًا قليلا.
ما تركنا شيئًا لم يحص في الكتاب أي في المكتوب المسجل بعلم الله وهو اللوح المحفوظ، فالكتاب هو اللوح المحفوظ، وقد ذكر ذلك صراحة في آية أخرى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦).
أي مفصح ذاكر لأسمائها وأعدادها وأنواعها. وهذا أوضح تفسير لمعنى (مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِن شيءٍ) وقال بعض المفسرين: الكتاب هو القرآن ومعنى التفريط أنه لم يغادر شيئا من الأحكام إلا بينه. وأسرف آخرون فقالوا: إن القرآن ما ترك علم شيء قط من الشرائع أو غيرها من الأشياء والأحياء.
والأبين هو ما ذكرناه أولا - لأنه المتفق مع النصوص الأخرى، وثانيًا لأنه المناسب لذكر الأحياء. ولقد ذكر الله تعالى من بعد ذلك أن كل الأحياء يحشرون إلى ربهم، فقال تعالت كلماته: (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أي يجمعون إلى ربهم الذي خلقهم من عدم، والتعبير بـ " ثم " للإشارة إلى أنهم أعداد لَا تحصى في علمنا، وجمعهم ليس يسيرًا في ذاته، وإن كان بالنسبة لله تعالى أمرًا ميسرًا، وفيه أيضًا بيان لبعد الموت عن البعث والقيامة، وإشارة لاستغراقهم جميعا.
* * *
* * *
هذا النص السامي يبين أن الذين لم يسارعوا إلى الحق استجابة لعناصر الانحراف والجحود في نفوسهم، واتباعًا للهوى لَا يهتدون؛ لأنهم سدوا على أنفسهم مسارب النور إلى الحق، وقد شبه سبحانه وتعالى حالهم بحال الصم والبكم الذين يسيرون في الظلمات، فإنهم لَا يبصرون طريقًا للهداية يسيرون فيه؛ إذ إنهم في ظلمات حالكة متكاثفة فلا يبصرون، ولو كان بصرهم سليما، فهؤلاء لا يجذبهم دليل ولا يهديهم برهان، ولا يمكن أن يستجيبوا لمن يهديهم، لأنهم بكم لَا ينطقون، ولا يمكنهم أن يستجيبوا لداعي الهداية، لأنهم لَا يسمعون إذ هم
وقد بين سبحانه وتعالى أن ذلك بعلم الله تعالى وإرادته، وأنه لَا تخرج حركة عن حركة إلا بإذنه فهدايته المهتدين بمشيئته، وضلال الضالين بمشيئته، فلا يخرج شيء في الوجود من غير مشيئته، ومعنى (مَن يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ) أي مَن يَشَأ الله تعالى له أن يكون في ضلال يضلله بأن يجعله يسير في طريق غوايته، فيعرض عن الآيات ويصاب بستار يحول بينه وبين الحق من ذات نفسه لَا من أمر خارج عنه، بل باختياره الغواية فيتركه الله يسير في طريقه الذي رسمه لنفسه، ومن يشأ الله تعالى له الهداية يسير في طريق مستقيم يوصله إلى الحق والهداية.
وهنا أمر نشير إليه، هو أن الهداية والضلال ليسا إجباريين لَا اختيار للعبد فيهما، كما يقول الجهمية ومن يسيرون في طريقهم، وليسا للعبد من كل الوجوه، كما يقول المعتزلة، ومن يسيرون في فجهم، وإنما الأمر أن للعبد اختيارًا في الطريق الذي يسيره، والله تعالى يوفقه فيه، فإن كان خيرًا خطا فيه إلى الغاية، وإن كان شرَا سار حتى الهاوية.
* * *
* * *
(أَرَأَيتَكُمْ) استعمال قرآني أراد العلماء أن يخرجوه على مقتضى قواعدهم النحوية، من حيث الإعراب، وكيف يكون وضع الحروف، وكلمة أرأيت في القرآن والاستعمال العربي تستعمل للتنبيه والتحريض على الرؤية والنظر، فهو استفهام للتنبيه مؤداه أرأيت كذا فإن لم تكن رأيته فانظره، فهو تنبيه، وحث على الإمعان فيه والتأمل، وقوله تعالى: (أَرَأَيْتَكُمْ) فيه جمع بين خطابين أحدهما مفرد، وظاهره أنه خطاب للنبي - ﷺ - وهو التاء، وهو فاعل الرؤية أو على حد قول النحويين التاء فاعل، والثاني - خطابهم بالكاف، والظاهر الذي يبدو بادي
هذا ما يبدو لنا من معنى هذا الاستفهام البليغ الذي هو من آيات الإعجاز، ولا حاجة فيه إلى أن نقول: إن الكاف حرف أو اسم، ولا أن نقول الخطاب بأيهما أبالتاء وحدها أم بالكاف وحدها. والحق أنه بهما معًا فالتاء للنبي - ﷺ -، والكاف للمشركين، وفي التاء تنبيه إلى ما يكون منهم من إجابة.
والخطاب موجه إليهم للإجابة عن سؤال معين إن أتاكم عذاب الله الدنيوي من زلزال مدمر أو خسف يجعل عالي الأرض سافلها، أو عاصف شديد، أو فاجأتكم الساعة أي القيامة (أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ) أي أتدعون غير الله من أحجار تجتلبونها أو نار توقدونها وتعبدونها، أو شمس تقدسونها؛ لَا أحد غير الله سبحانه، إذن فلِمَ تعبدون غير الله؟! وهم لَا يملكون ضرا ولا نفعًا، وعلق سبحانه وتعالى الإجابة على الصدق لكي يكون الجواب لَا تمويه فيه بل يكون صادرًا عن حقيقة واقعة لَا عن أوهام يتوهمونها، ويحسبونها، بل عن عقل مدرك صادق خالص من الأوهام والأهواء والأخيلة الفاسدة. ولقد أكد سبحانه الإجابة السليمة بقوله تعالى:
* * *
* * *
انتهى الكلام السامي بقوله تعالى: (أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كنتُمْ صَادِقِينَ) أي تتحرون الحق وتدركونه. وقد أجاب سبحانه وتعالى عنهم بالإضراب عن تفكير أوهامهم وهو أنهم لَا يدعون سواي، ولذا قال سبحانه: (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) قيل للإضراب الانتقالي عن تفكيرهم وأوهامهم، وتقديم المفعول على الفعل والفصل بقوله: (إِيَّاهُ تَدْعُونَ) للقصر، أي لَا تدعون إلا إياه، إذا لَا تفكرون في غيره،
وإن الله تعالى يكشف الضر إذا لم يكن في ذلك مفسدة وكان فيه خير، وكانت الرحمة تفرضه، كما قال تعالى: (... كَتَبَ رَبّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ...)، ولذا قال سبحانه: (إِن شَاءَ) أن يتفضل عليكم بهذا الكشف، ويرحمكم ولم يكن في هذا مضرة، ولا إغراء بالفساد، ولا إيذاء لغيره، فعمله تعالى في دائرة الحكمة والنفع، وإن لم يكن في ذلك إلزام، فإنه سبحانه وتعالى (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).
وظاهر أن كشف الشدة إنما يكون في شدائد الدنيا، وهي التي تتعلق بها المشيئة إن شاء أنزلها وأبقاها لحكمة، وإن شاء أزالها وأنظرهم، كما كان يفعل مع قريش، أما ما يجيء بعد الساعة من حساب وعقاب المشركِين فإن الله لَا يكشفه عن المشركين، إذ يقول سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْركَ بِهِ وَيَغْفِر مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ...). فلا يمكن بمقتضى وعيده سبحانه أن تكون عقوبة الشرك يوم القيامة موضع كشف أو إزالة.
وقوله تعالى: (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ) الكلام متعلق فيه بالمشيئة، وأريد به السبب، ذلك أن السياق يستفاد منه أن الكشف عن الدعاء، والحقيقة أن الكشف عن الضر الذي سبب الدعاء والله سبحانه وتعالى كاشفه، ومزيل ضرهم.
إنهم في هذا الحال يتركون أحجارهم، لأنهم في هذه الحال تستيقظ مداركهم، فلا يلتفتون إلى أوثانهم إذ يرونها لَا تنفع ولا تضر، بل ربما يكون
ويكون هذا النسيان سببا للترك وعدم الالتفات، ولذا قال سبحانه وتعالى: (وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكونَ) أي تغيب عن ذاكرتكم فتتركونها لأنها لَا حول لها ولا قوة، ولا يذكرون إلا خالق الكون، ورب الوجود كله، وهو الحي القيوم، ولكن نسيانهم قد يستمر، وقد يذكرونها بعد الشدة.
ويجب أن نذكر هنا أن المشركين من قريش لم تكن قد ذهبت بهم اللجاجة في المادة إلى ألا يؤمنوا بالروح، فهم مع إشراكهم بالله تعالى كانوا يحسون بمقتضى الفطرة أن هناك قوة روحية تسير الأمور الكونية؛ قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٦٣).
اللهم ألهمنا شكرك ولا تنسنا ذكرك.
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٥)
* * *
ولقد فعل الله تعالى ذلك بفرعون وقومه عندما أصابه هو وهم الغرور وطغوا في البلاد. وقد قال تعالى في ذلك بعد أن سخروا بكل آية: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ (١) وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (١٣٦).
________
(١) قال المؤلف - رحمه الله -: القمل: حشرة تأكل الزرع تشبه دودة القطن، ولعلها هي.
والخضوع للحق. فالمراد من الرجاء لازمه، وهو القرب من الحق، والإذعان له.
* * *
* * *
البأس هنا الشدة. وهي أكثر ما تكون في شدة الحرب. ولأواء القتال، ويطلق على شدة الفقر والبؤس في العيش، و (لولا) هنا للنفي مع تمني الوجود فهي لنفي تضرعهم مع تمني أن يكونوا قد تضرعوا، والتمني هنا معناه ينبغي، كأن المعنى هكذا لم يتضرعوا وكان ينبغي أن يكون البأس الشديد مؤديا إلى ضراعتهم، لأنه يشعرهم بضعفهم أمام قدرة الله تعالى الغالب القاهر فوق كل شيء. لكن الإحساس بالضعف الذي دل عليه نزول البأس عليهم - ولا قبل لهم - وجد مانعان يمنعان أثره. فإذا كان قد وجد سبب الضراعة فقد وجد المانع منها. والمانع منها أمران:
أحدهما - قسوة القلوب. وقد عبر سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله تعالى:
(وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) وكان ذلك الاستدراك للإشارة إلى أن الضراعة وقسوة القلوب لَا يجتمعان ولو نزلت الشدائد، وإن ضرعوا فإلى أمد محدود، ثم تعود إليهم أحوالهم.
والسبب في أن القسوة والضراعة نقيضان لَا يجتمعان أن القسوة غلظ في النفوس والطباع وإن بعض النفوس لتقسو حتى تكون كالحجارة أو أشد قسوة، وإن
والضراعة رقة في القلب ورأفة في النفس، وإحساس بآلام الغير وآلام النفس فلا يكون القاسي ضارعا ولو كان جبانا، إذ الضراعة علو مع رأفة ورحمة وطمأنينة والقسوة غلظة، وقد يكون الجبان غليظا، بل في أكثر الأحوال هو كذلك.
الأمر الثاني الذي يمنع الضراعة - تزيين الشيطان العمل للنفس. وقد عبر سبحانه عنه بقوله تعالى: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) إن الشيطان قد يراد به هنا النفس الأمارة بالسوء التي تزين السوء فتجعله كالحسن وما هو بحسن، وإن هذا التزيين النفسي لعمل السوء للنفس لَا يجعل الآثم يحس بإثم ما ارتكب.
والضراعة توجب الإحساس بذلك الإثم، حتى يتجه إلى ربه تائبًا توبة نصوحا، ومن أول درجات هذه التوبة أن يحس بإثم ما فعل. ثم يندم عليه. ثم يعتزم ألا يفعل، ولا يمكنه أن يكون ذلك ممن زين له سوء عمله فيراه حسنا وما هو بحسن.
وفى التعبير بقوله تعالى: (وَزَينَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ناحية بيانية رائعة ذلك أن عبر بزين لهم الشيطان سوء ما يعملون.. ولم يقل حسن لهم الشيطان. كما يجري على الألسنة فلان يحسن القبيح؛ لأن القبيح لَا ينقلب حسنًا، والسيئ لَا ينقلب، ولكن السيئ أو القبيح بتمويهات وتزيينات يظن معها أنه حسن. وما هو إلا تمويه باطل، وإنهم إن لم يهذبوا بالشدائد اختبروا بالنعم، فقال تعالى:
* * *
* * *
الفاء لتفصيل ما كان منهم وبيان ما ترتب من عواقب قريبة وأخرى بعيدة، فإنهم إذا لم يتضرعوا بسبب قسوة قلوبهم وأنهم زينت لهم أعمالهم - كان لذلك
والله تعالى في هذه الحال التي أصابهم فيها النسيان يقول: (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) أي أن الرزق وأسباب القوة والاغترار والاستكبار تأتيهم وتسهل لهم، فكانوا في سعة في كل شيء، وقوله هذا: (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كلِّ شَيْءٍ) فيه استعارة تمثيلية لمعنى تسهيل كل شيء حتى يكونوا في بحبوحة وسعادة مادية وعدم خوف، واطمئنان إلى المستقبل، أو نقول إن النص القرآني كناية عن هذا المعنى، لأنَّ من يفتح له باب كل شيء، يكون لَا محالة في سعة مادية واطمئنان مادي.
وهذا المعنى فيه اختبار للنفس غير المؤمنة بالنعمة بعد أن اختبرها بالنقمة.
كقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩٥).
وإن هذا الذي ذكره النص القرآني بالنعمة بعد النقمة هو اختبار شديد؛ ولذا روى عقبة بن عامر أن النبي - ﷺ - قال: " إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج. ثم تلا قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ). وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله - ﷺ - قال: " إذا أراد الله تعالى بقوم بقاء أو نماء رزقهم فتح باب القصد والعفاف، وإذا أراد بقوم اقتطاعا فتح باب الخيانة ".
(حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هم مُّبْلِسُونَ).
إنهم إذ يكونون في فرح مما أعطاهم الله تعالى أخذهم الله تعالى بالحرمان أو أصابهم بالموت المفاجئ أو الخراب الجائح في وقت لم يتوقعوه، بل كانوا يتوقعون المزيد من النعم ويحسبون أنها حق مكتسب لَا يمحى (فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ)، أي في غم وكمد وحزن ويأس وحيرة بعد الفرحة.
وهنا تعبيران جليلان جديران بالالتفاف.
أولهما - أنه عبر عن إعطاء الله النعمة بما أوتوا - أي بالبناء للمجهول؛ لأنهم يحسبون أن ذلك بعلمهم وقدرتهم وحدهم. كما جاء على لسان واحد من أمثالهم وهو قارون (... إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨).
الثاني - أن الله أضاف الأخذ إلى ذاته العلية إذ قال: (أَخَذْنَاهُم) لأنهم لا ينكرون ذلك وينسبونه إلى ربهم.
* * *
* * *
الفاء هنا للتفريع على ما قبلها، و (دَابِرُ الْقَوْمِ) أي آخر. والدابر هو الآخر وإذا قطع الدابر، فإن معنى ذلك أن القطع سرى من الأول حتى وصل إلى الدابر، وإطلاق الدابر بمعنى الآض جاء في كلام العرب، ومن ذلك قول بعضهم: " إن من الناس من لَا يأتي الصلاة إلا دابرا " أي آخر الوقت والدابر تجيء بمعنى الأصل.
والمؤدى واحد في النص الكريم، أي قطع الذين ظلموا عن آخرهم، وذلك بسبب
وقد ختم الله تعالى النص بقوله: (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يعلمنا الحمد لله عند زوال الظالمين، فهلاك الظلمة والطغاة نعمة تستوجب الحمد والثناء، ويقول في ذلك الزمخشري: " (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة، وأنه من أجل النعم وأجزل القيم ".
ونظير هذا النص الكريم قوله تعالى: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى...).
ووصفه سبحانه بـ (رَبِّ الْعَالَمِينَ) إيذان بأن القضاء على الذين ظلموا بعد أن اختبروا بالبأساء والضراء، ثم بالسراء والنعماء هو من تقدير الربوبية، وتدبيره سبحانه رب العالمين.
* * *
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)
* * *
في الآيات السابقة - كما قلنا - كان ذكر ما ينزل حولهم ثم يصيبهم، فالدمار ينزل حولهم ثم يصيبهم، وهنا ذكر ما ينزل بحواسهم وكيانهم قائم لم ينقص، ففي هذا النص بيان قدرة الله تعالى في أنفسهم وفي أجزائهم وحواسهم، وامتلاكه لهذه المداخل التي تكون إدراكهم وهي السمع والبصر والفؤاد؛ كما قال تعالى في آية أخرى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٣١).
ومعنى أخذ الله سمعهم وأبصارهم والختم على أفئدتهم، أن يصبحوا لَا يسمعون حقيقة ولا يبصرون حقيقة، ولا يفقهون فيسلبهم سبحانه الفهم والإدراك، وواضح أن أخذ السمع والبصر يكون بعدم السماع والإبصار؛ لأن هاتين الحاستين تسمعان وتريان، وأخذهما فَقْدُ عملهما - ولكن الأفئدة شيء يخفى لَا يؤخذ بل هو باق، ولكن يغشى عليه، فليس الجنون ذهاب العقل، وإنما الجنون ستر العقل فلا يدرك الأمور على وجهها، ولذلك عبر عن فقد الإدراك بالجِنة؛ لأن العقل يُستر ولا يذهب كما يذهب السمع والبصر؛
وقوله تعالى: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ) الاستفهام فيه لإنكار الوقوع الثابت بالدليل الذي لَا مجال لإنكاره، والضمير في (به) يعود إلى المأخوذ، وهو السمع والبصر والفؤاد، وقام الأخذ والختم مقامه من قبيل قيام السبب مقام المسبب، و (يأتيكم) معناه برده عليكم، وعبر سبحانه بـ (يأتي) للإشارة إلى أنه يكون كالجديد، والنص يشير إلى أنهم وحواسهم في يد الله سبحانه وتعالى، ويشير إلى أمر آخر، وهو أنه تعالى قادر على إعادة السمع والبصر والإدراك، وهي أجزاء جسمكم المدركة المصرفة، أفلا يكون قادرا على إعادتكم في البعث كما بدأكم أول مرة، إنكم ترون من يذهب سمعه كان في أذنيه وقرا ثم يسمع، ومن يذهب بصره ثم يبصر بعمل الله، ومن يصاب بجنة ثم يفيق، وكل ذلك من الله تعالى، إن ذلك محسوس، فلماذا لَا يقيسون عليها عودة الأجسام بعد بلاها كما بداكم تعودون.
(انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) الخطاب للنبي - ﷺ - لبيان حال المشركين، وأنهم لَا تؤثر الحجة فيهم مهما تكن واضحة نيرة ملزمة، والتصريف: التغيير، وهو يكون في ذات الآيات يتعددها من آية كونية إلى آية قرآنية، فالتعدد صورها، فتعدد في صور الآيات الكونية من عواصف عاتية إلى مطر صاخب إلى خسف للديار، ومن آيات قرآنية زاجرة ضاربة للأمثال مبينة للمثلات، إلى تذكير بقدرة الله تعالى فيما تحيط بهم، وتذكير بأنفسهم، ومع هذا التصريف المتتابع، والآيات الواضحة المنوعة تجدهم صادفين، ولذا قال تعالى: (ثمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) أي
* * *
* * *
الخطاب للنبي - ﷺ - في قوله تعالى: (قُلْ)، وللنبي - ﷺ - وللمشركين في قوله: (أَرَأَيْتَكُمْ) وقد ذكرنا تخريج هذا اللفظ على ما يقوله النحويون واللغويون في البحث السابق، فارجع إليه، (بَغْتَةً) أي مفاجأة، و (جَهْرَةً) أي جهارا، وقد ذكرت الجهرة في مقابل البغتة؛ لأن البغتة بمقتضى المعتادة تكون في خفية ولا إعلان فيها من قبل، أو على الأقل تجيء من غير ترقب ولا انتظار، فهي خافية على من نزلت عليهم، ولذلك قابلتها جهرة، ولقد فسر الزمخشري احتمال بغتة أن تكون بمعنى ليلا، وجهرة بمعنى نهارا، وهو معنى مقارب، لأن المفاجأة تكون بالليل، والعلنية تكون بالنهار عادة.
وعذاب الله تعالى يجيء من غير ترقب. كحال الذين قالوا (عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا) فقال سبحانه: (... بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ).
وقوله تعالى: (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الوقوع، أي لَا يهلك إلا القوم الذين تجمعوا على الظلم، وتحزبوا وتضافروا عليه، وتعاونوا على إثمه. وهنا مباحث لفظية موضحة:
أولها - لماذا كان النفي بالاستفهام؟ الجواب عن ذلك للتنبيه، كأنه كان سؤال وكانت إجابة، وذلك تأكيد للنفي فضل تأكيد.
ثانيها - أن سبب الهلاك هو الظلم، فقد ظلموا بسبب الشرك، وظلموا بعدم الطاعة، وظلموا أنفسهم بضلالها، والظلم وخيم العاقبة.
ونقول في الجواب عن ذلك: إن الله لَا يهلك الظالمين إلا إذا ساد الظلم، فبعضهم وقع منهم الظلم فعلا، والآخرون سكتوا عنه فكانوا ظالمين بسكوتهم، وقد قال تعالى في شأن بني إسرائيل: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩).
ولقد ورد في الأثر: إن الله لَا يعذب العامة بظلم الخاصة، إلا إذا رأوا المنكر وسكتوا عنه. أو كما قال رسول الله - ﷺ - (١).
* * *
________
(١) عن عدي، قال رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ -: " إِنَّ اللَّهُ عَزً وَجَل لَا يُعَذبُ الْعَامَةَ لعَمَلِ الْخَاصةِ حَتَّى يَرَوا الْمُنكَرَ بَينَ ظَهرَانَيْهِمْ وَهُم قَادرُونَ عَلَى أنْ يُنْكِرُوهُ فَلا يُنْكِرُوهُ، فَإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْخَاصةَ وَالْعَامَةَ ". رواه أحمد: مَسند الشاميين - حديث عدى بن عمَيرة الكندي رضي الله عنه (١٧٢٦٧).
* * *
التبشير هو الإخبار بالبشرى، وهي الخبر السار، والإنذار هو الإخبار بالسوء في المستقبل تحذيرا وإعذارا، فالتبشير وعد بما يلقى في النفس السرور والاطمئنان، والإنذار وعيد بالعذاب، والجزاء المماثل للإثم، وقصر الله تعالى المرسلين على الإنذار والتبشير -؛ لأنه ليس عليهم أن يحملوا الناس على الهداية إن لم يهتدوا، ولا يتحملوا وزر العصاة إن عصوا أمر ربهم، إنما الثواب لمن أطاع، والعذاب لمن عصاه، وذكر سبحانه وتعالى ذلك بالنص، لأن النبي - ﷺ - كادت نفسه تذهب عليهم حسرات حتى يؤمنوا، وقال تعالى له: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، فالله سبحانه بين له أنه لَا يهدي من أحب، وأنه ليس عليه هدايتهم وأن رسالته غايتها الإنذار والتبشير كسائر المرسلين، وأنه بعد تبليغ الرسالة يكون الخير لهم، والتبعة عليهم.
* * *
* * *
أولئك هم المقابلون للذين أذعنوا للحق وعملوا عملا صالحًا، وهؤلاء كذبوا بآيات الله، ويراد بالتكذيب للآيات الإعراض عن الأدلة القاطعة المثبتة لوحدانية الله تعالى من كونيات ظاهرة، ومعجزات قاهرة، وآيات قرآنية بينة واضحة باهرة، فلم يكن تكذيبهم للنبي - ﷺ - فقط، بل كان تكذيبهم للأدلة الواضحة التي تشبه الحس المرئي والبارز المحسوس، وهذه الآيات هي التي ساقها الله لهم، وهو خالق الكون ومدبره، وقال في عقوبتهم: (يَمَسُّهُم الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) أي يصيبهم العذاب بسبب فسقهم، أي خروجهم عن الحق، وإنكارهم لَا يوجب العقل الإيمان به، وأردفوا كذلك بفعل الموبقات، فإذا كان المؤمنون قد أذعنوا للحق، وزكوه بالعمل الصالح، فأولئك أنكروا الحق، ودعموا الإنكار بارتكاب الموبقات والزور من الأعمال، وعبر سبحانه عن إصابة العذاب وإدخالهم جهنم بـ " يمسهم "، لأن موضع الإحساس بالألم هو الجلد، فمسه بالعذاب هو الإيلام الشديد، اللهم قنا عذاب النار.
* * *
(قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ
* * *
في الآيات السابقة كان بيان الله سبحانه وتعالى للآيات الكبرى تتابع عليهم آية بعد آية، وهم معرضون، والله تعالى يذكرهم بسلطانه في الأرض وفي السماء وفى أنفسهم، وبين أن من يشركونهم مع الله لَا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا يدفعون عنهم شيئًا لو أخذ الله تعالى سمعهم وأبصارهم وختم على قلوبهم، ولا يملكون أن يدفعوا العذاب إذا أتاهم بغتة أو جهرة، ولم يبين علاقتهم بالمؤمنين وكلامهم في النبي - ﷺ - وحوارييه، وفي هذه الآيات يتكلم في ذلك، فيقول الله تعالى:
كان المشركون يستكثرون أن يكون محمدا نبيَّا مرسلا، ولم يكن من الأغنياء العظماء في أموالهِم، بل كان يتيما فقيرًا، فقد قالوا: (... لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرآنُ عَلَى رَجُلٍ منَ الْقَرْيتينِ عَظِيمٍ)، وحسبوا أن النبي يجب أن يكون
وقد كانوا يقولون إنهم يريدون ملكًا رسولا. وقد أخبر تعالى عنهم:
(... مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ...). وقد تولى الله سبحانه وتعالى ردهم في هذه الآيات، وأمره بأن يقول لهم:
(قُل لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ) أمره الله تعالى بأن يحدد مضمون الرسالة، ولا يتوهموا أن الرسالة تقتضي أن يكون الرسول مالكًا للأموال والخزائن، ولا أن يكون عليما بالغيب، وأن الرسول لم يدع شيئًا من ذلك، وإن الرسول ليست له خاصة إلا أنه يبشر وينذر، وأنه يوحى إليه من رب العالمين، وأنه مع من يدعوهم يتبع ما يوحى إليه من ربه.
إن الرسالة الإلهية يضعها الله تعالى في عباده المصطفين الأخيار من البشر، (... اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ...)، وإن محمدًا - ﷺ - ما تطاول بفضل مال ولا ثروة، ولا غنى، ولكنه كان فقيرًا بين الفقراء قريبا منهم متدانيا إليهم يخفق قلبه معهم، ويحس بآلامهم، وكان من البشر، ليخاطب البشر، (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ). وإن التفوقة ليست بالغنى والفقر، وإنما التفوقة بالهداية والضلال، والعلم والجهل؛ ولذا قال سبحانه في التفوقة بين من استبصر وأدرك ولو فقيرًا، وبين من ضل وغوى، ولو كان غنيا.
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ).
أمر الله تعالى نبيه بأن ينبههم إلى أنه لَا يستوي العالم والجاهل والمهدِي والضال، والرشيد والسفيه، وكان أمر الله تعالى بذلك لنبيه، وتكرار الأمر بأن يقول لهم ما يقول، لفضل التنبيه، ولتقوية الإيمان بأنه يتكلم عن ربه، ولأنه الذي يتولى محاجاتهم، والاستفهام هنا لنفي الوقوع مع التنبيه إلى هذا، والمراد من
وقدم العمى في الذكر على البصر؛ لأن المشركين يدعون أنهم مع ضلالهم وجهلهم، وبعدهم أعلى من أتباع النبي - ﷺ - من المؤمنين، وذلك لكثرة أموالهم، وقلة أموال المؤمنين، فبين سبحانه أنهم لَا يمكن أن يساووهم فضلا أن يعلوا عليهم؛ لأن الأعمى ولو غنيا، لَا يساوى المبصر ولو فقيرا، وكان عليهم بدل أن يفضلوا أنفسهم على المؤمنين لفقرهم أن يتفكروا ويتدبروا في أسباب الفقر والغنى، وأسباب الفضل وأسباب العلو، وأن يتعرفوا الهدى والضلال، وأن يتدبروا في حاضر أمرهم وقابله، وأن يعتبروا بالعظات والأمثال التي تساق إليهم، وأن يكشفوا عن أنفسهم غمة الاغترار والإعراض عن الحق، وألا يكونوا في غيهم يعمهون؛ ولذا قال تعالى: (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) الفاء هنا موضعها قبل الاستفهام، ولكن الاستفهام له الصدارة فقدم عليها عن تأخير في نسق الكلام، والمعنى أنه كان يترتب على عدم المساواة بين الأعمى البصير أن يتدبروا ويتفكروا، والاستفهام للتحريض على التفكير.
* * *
* * *
الكلام السابق في المشركين، وإعراضهم عن الآيات وختم الله تعالى على قلوبهم مع توالي الآيات والنذر عليهم وإعراضهم، وقد يتوهم متوهم أن الإنذار لا جدوى منه، ولكن ليس الناس جميعا كذلك، بل فيهم من تؤثر فيه الموعظة ويجدي فيه الإنذار، والحق أن الناس قسمان: قسم تعتريه الرهبة من الغيب، ويخاف الحشر إن ذكر به، فلم يكن فيه اغترار يقسو به قلبه، ويصرفه عن المنذرات والاستماع إلى داعي الحق، وصنف غلبت عليه شقوته لَا تجدي فيه موعظة،
والضمير في به يعود إلى ما أوحى إلى النبي - ﷺ - وهو القرآن الكريم، وقد ذكرنا ضروب الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم، ويلاحظ بعض أمور:
أولها - أن الإنذار للجميع فلا يختص الذين يخافون دون غيرهم، ولكن الذين ينتفعون به هم الذين يخافون الحشر، وما وراءه من حساب وعقاب.
ثانيها - أن العنصر المميز بين أهل الخير وغيرهم هو الخوف والخشية من الله فأولئك يكون فيهم رأفة، ومع الرأفة يتفتح القلب للهداية، ويدخله النور، ومع الغلظة يكون الظلام، وكأن الغلظة حجارة قوية تجعل ما وراءها في ظلام دامس.
ثالثها - أن الغرور باعتقاد شفيع يشفع أو ولي يناصر من دون الله تعالى يسدُّ مسالك النور والهداية، فلا بد أن يكون كل الإحساس لله سبحانه وتعالى.
رابعها - أن الإنذار في هذه الحال يجعل للتقوى مكانا، فيكون الرجاء فيها، وهو من العبد لَا من الرب، ولذا قال: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
* * *
* * *
جاء النهي من الله تعالى بألا يطرد أهل التقى ولو كانوا عبيدًا أو فقراء، فإن هؤلاء يقوم بهم عمود الدين، وإذا كانت الضلالة لَا تساوي الهداية، والعمى
وروي عن خباب بن الأرت في قوله تعالى: (ووَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) إلى قوله: (فَتَكُون مِنَ الظَّالمِينَ) قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزارى فوجدوا النبي - ﷺ -قاعدًا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في أناس من الضعفاء من المؤمنين؛ فلما رأوهم حوله أتوه، فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك، فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعْبُد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئمت، فنزل قوله تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذين يَدْعُونَ رَبَّهُم).
هذا ما قيل في سبب نزول هذه الآية، والنص يومئ إلى هذا المعنى، فقد قال تعالى، كما سنتلوا:
* * *
* * *
نهى الله النبي عن أن يطرد هؤلاء الضعفاء، وإن كان النبي - ﷺ - يميل إلى تأليف قلوب الأقوياء للدخول في الإسلام لينال بقوتهم قوة، ولكن الله تعالى بين أن القوة في الإيمان، لَا في غطرسة المتغطرسين وإن أولئك وإن كانوا ضعفاء فقراء فإنهم أقوياء بعزة الإيمان وبعزة الحق ولا تفرقة بين أتباع الأنبياء بالطبقية، إنما التفرقة بقوة الإيمان والتقوى كما قال تعالى: (... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...). وإن الرفعة بين أتباع الأنبياء بالإيمان والعبادة. وقد ذكر الذين نهى النبي - ﷺ - عن طردهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي، ومعنى يدعون يعبدون مخلصين؛ لأن العبادة دعاء، والدعاء: التضرع الخالص، وهو مخ العبادة، وهو لبها، ولذلك عبر عن العبادة بالدعاء - وبالغداة
(مَا عَلَيْكَ مِنْ حسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ).
جاء هذْا النص الكريم بعد قوله تعالت كلماته: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي يقصدون بعبادتهم ذاته العلية ولا يقصدون شيئًا سواها، مهما يكن، وإن الله تعالى يتولى حسابهم بالجزاء، وما يعود عليك من حسابهم شيء ولا يعود عليهم من حسابك شيء فهم عباد مجزيون بأعمالهم، كما أنك يا محمد مجزي بعملك، فليس لك أن تطردهم، وهذا التعبير (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ) يشبه ما نقل عن نوح - عليه السلام - في قول الله تعالى: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣).
ويؤدي التعبير على هذا أن هؤلاء آمنوا بربهم وحسابهم عند ربهم، وما عليَّ من حسابهم من شيء، كما لَا يحاسبون على عملي، فكل له عمله، فكيف أطردهم، ولذلك قال تعالى: (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي فإن طردتهم استجابة لغيرهم وأنت لَا تتحمل مغبة أعمالهم، ولا ما هم فيه كنتط من الظالمين؛ إذ لَا وزر كان منهم يستوجب الطرد إلا مسارعتهم للإيمان بما جئت وتلكؤ غيرهم، إن ذلك لظلم عظيم إن كان، ولا يمكن أن يكون من محمد - ﷺ -.
إن الضعفاء أول من يتبع الأنبياء، لأنهم غير مشغولين بالمال والبنين وزخارف الحياة، وضجاتها، ولجاجة القوة وخصوصًا ما يكون منها على غير أساس من الأخلاق، فنفوسهم تكون أقرب إلى الفطرة والاستقامة؛ ولذلك كان غالب الذين اتبعوا النبي - ﷺ - من الضعفاء والعبيد، وكل الذين يحسون بآلام الحياة الدنيا، ورجاء حياة أخرى، ولقد سأل هرقل ملك الرومان أبا سفيان ابن حرب الذي كان قائد الشرك إبان ذاك عمن يتبع النبي - ﷺ - أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؛ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: فكذلك أتباع الرسل (١).
وإن هذا بلا ريب اختبار لنفوس الأقوياء فقوله: (فتنا) معناها اختبرنا، وكان فتنة لهم من ناحيتين: الناحية الأولى أن جاههم مع كبريائهم سيكون حاجزًا لا يسهل دخول الإيمان في قلوبهم. الثانية سيجدون أن الذين يسبقونهم إلى الإسلام هم الضعفاء، فيكون ذلك صعوبة نفسية أخرى لَا تسهل دخول الحق إلى قلوبهم، ويقول قائلهم الضال: (... لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)، ومن يجتاز هاتين الصعوبتين من الأقوياء يكون إيمانه أرسخ من الجبال كأبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وحمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب،
________
(١) راجع هذا الحديث، في صحيح البخاري: بدء الوحي - باب بدء الوحي (٧)، ومسلم: الجهاد والسير - كتاب النبي - ﷺ - إلى هرقل ملك الروم (١٧٧٣) فيما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن أبي سفيان رضي الله عنه. وهو حديث طويل.
والكاف في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا)، للتشبيه، وقد شبهت الصورة الكلية لاختبار الله تعالى لخلقه، أو على الحقيقة معاملته معاملة المختبر لهم شبهت تلك الصورة بهذه الحالة القائمة، التي آمن فيها الضعفاء وسبقوا بها الأقوياء، وصار لهم فضل السبق، والتشبيه للتقريب والتوضيح، واللام في قوله تعالى: (لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) للعاقبة أي: وما كانت هي الباعث على الاختبار، ولكن كانت عاقبة ونتيجة الاختبار.
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).
يثبت الله سبحانه وتعالى هذا النص بثلاثة أمور:
أولها - أن الفضل ليس بالغنى، ولا بالجاه ولا بالقوة في الدنيا، ولكن بمقدار شكر الله تعالى على ما أنعم، والإنسان في الوجود محفوف بنعم الله تعالى تحوط به من يوم خروجه إلى الحياة إلى وقت مفارقتها، وواجب عليه الشكر لها فشكر النعم واجب بمقتضى العقل والنقل، وبمقدار شكر النعمة يكون الفضل.
ثانيها - أن أولئك الذين يسارعون إلى الإيمان بوحدانية الديان، هم أصحاب الفضل؛ لأنهم هم الذين يسارعون إلى الإيمان، ودعوة الله وعبادته، والإذعان له.
ثالثها - أن الله هو وحده العالم بمن يستحق الفضل وبمن يشكره وهو المستحق للفضل منه، وأفعل التفضيل على غير بابه، والمراد أنه سبحانه يعلم الشاكرين علماً ليس فوقه علم، فهو وحده العليم، السميع البصير.
* * *
* * *
قوله تعالى:
السلام والسلامة بمعنى واحد. ومعنى " سلام عليكم " سلمكم الله في دينكم وأنفسكم؛ نزلت في الذين نهى الله نبيه - ﷺ - عن طردهم؛ فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال: " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام " فعلى هذا كان السلام من جهة النبي - ﷺ -. وقيل: إنه كان من جهة الله تعالى، أي أبلغهم منا السلام، وعلى الوجهين ففيه دليل على فضلهم ومكانتهم عند الله تعالى. وفي صحيح مسلم عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصُهَيْبٍ وبلال ونفر فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها؛ قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟! فأتى النبي - ﷺ -
قوله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجب ذلك بخبره الصدق، ووعده الحق، فخوطب العباد على ما يعرفونه من أنه من كتب شيئا فقد أوجبه على نفسه. وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَة) أي خطيئة من غير قصد. قال مجاهد: لَا يعلم حلالا من حرام ومن جهالته ركب الأمر، فكل من عملِ خطيئة فهو بها جاهل. وقيل: من آثر العاجل على الآخرة فهو الجاهلِ. (فَأَنَّهُ غفُورٌ رحِيم) قرأ بفتح (أنَّ) من " فأنَّهُ " ابن عامر وعاصم، وكذلك (أَنَّهُ منْ عَمِلَ). وقرأ الباقون بالكسر فيهما (٢)؛ فمن كسر فعلى الاستئناف، والجملة مفسرة للترجمة؛ و " إنَّ " إذا دخلت على الجمل كُسِرت وحكم ما بعد الفاء الابتداء والاستئناف فكُسِرت لذلك. ومن فتحهما فالأولى في موضع نصب على البدل من الرحمة، بدل الشيء من الشيء وهو هو فأعمل فيها " كتب " كأنه قال: كتب ربكم على نفسه أنه من عمل؛ وأما " فأنه غفور " بالفتح ففيه وجهان؛ أحدهما - أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر، كأنه قال: فله أنه غفور رحيم؛ لأن ما بعد الفاء مبتدأ، أي فله غفران الله. الوجه الثاني -
________
(١) رواه مسلم: فضائل الصحابة - من فضائل سلمان وصهيب وبلال رضي الله عنهم (٢٤٠٥)، وأحمد: أول مسند البصريين - حديث عائذ بن عمرو رضي الله عنه (٢٠١١٧).
(٢) (أنه.. فأنه) بفتحهما (أي بفتح الهمزة في الموضعين): ابن عامر، وعامر ويعقوب. ووافقهم نافع وأبو جعفر في الأول، وقرأ الباقون بالكسر فيهما.
* * *
قوله تعالى:
* * *
قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ) التفصيل التبيين الذي تظهر به المعاني؛ والمعنى: وكما فصّلنا لك في هذه السورة دلائلنا ومحاجتنا مع المشركين كذلك نُفصِّل لكم الآيات في كل ما تحتاجون إليه من أمر الدين، ونبين لكم أدلتنا وحججنا في كل حق ينكره أهل الباطل.
وقال القُتَبى: (نُفَصِّلُ الآيَاتِ) نأتى بها شيئا بعد شيء، ولا ننزلها جملة متصلة، (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) يقال: هذه اللام تتعلق بالفعل " فأين - الفعل الذي تتعلق به؛ فقال الكوفيون: هو مقدّر، أي وكذلك نفصل الآيات لنبين لكم ولتستبين؛ قال النحاس: وهذا الحذف كله لَا يحتاج إليه، والتقدير: وكذلك نفصل الآيات فصلناها. وقيل: إن دخول الواو للعطف على المعنى، أي ليظهر الحق وليستبين، قرئ بالياء والتاء (١). " سبيل " برفع اللام ونصبها، وقراءة التاء خطاب للنبي - ﷺ -، أي ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين. فإن قيل: فقد كان النبي - ﷺ - يستبينها؟ فالجواب عند الزجاج - أن الخطاب للنبي - ﷺ - خطاب لأمته، فالمعنى: ولتستبينوا سبيل المجرمين. فإن قيل: فلم لم يذكر سبيل المؤمنين؟ ففي هذا جوابان: أحدهما - أن يكون مثل قوله: (... سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ...).
المعنى: وتقيكم البرد ثم حُذِف، وكذلك يكون هذا المعنى ولتستبين سبيل المؤمنين ثم حذف. والجواب الآخر - أن يقال: استبان الشيء واستبنته، وإذا بان
________
(١) (وليستبين) بالياء: عاصم (غير حفص)، وحمزة والكسائي وخلف، وقرأ الباقون بالتاء.
* * *
قوله تعالى:
* * *
قيل: " تَدْعُونَ " بمعنى تعبدون. وقيل: تدعونهم في مهمات أموركم على جهة العبادة؛ أراد بذلك الأصنام. (قُل لَا أَتَّبِعُ أَهُوَاءَكُمْ) فيما طلبتموه من عبادة هذه الأشياء، ومن طرد من أردتم طرده. (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا) أي قد ضللت إن اتبعت أهواءهم (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِين) أي على طريق رشد وهدى.
وقرى " ضلَلْتُ " بفتح اللام وكسرها وهما لغتان. قال أبو عمر بن العلاء:
ضَللتُ بكسر اللَام لغة تميم، وهي قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف، والأَولى هي الأصح والأفصح، لأنها لغة أهل الحجاز، وهي قراءة الجمهور. وقال الجوهري: والضلال والضلالة ضد الرشاد، وقد ضَلَلتُ أَضِلُّ، قال الله تعالى: (قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي...)، فهذه لغة نجد، وهي الفصيحة، وأهل العالية يقولون: ضَلِلْتُ بالكسر أَضَلّ.
* * *
قوله تعالى:
* * *
قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ من رَّبِّي) أي دلالة ويقين وحجة وبرهان، لا على هوى؛ ومنه البينة لأنها تبين الحق وتظهره. (وَكَذَّبْتُم بِهِ) أي بالبينة لأنها في معنى البيان؛ كما قال: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكينْ فَارْزُقُوهم مِّنْهُ...). وقيل يعود على الرب، أي كذبتم بربي لأنه جرى ذكره.
وقيل: بالعذاب. وقيل: بالقرآن. وفي معنى هذه الآية والتي قبلها ما أنشده مصعب بن عبد الله بن الزبير لنفسه، وكان شاعرا محسنا رضي الله عنه:
أأقعدُ بعد مارجفتْ عظامي | وكان الموتُ أقربُ ما يَلِينِي |
أُجادلُ كل مُعترِضٍ خَصِيم | وأجعل دِينَه غَرَضًا لِدِينِي |
فأتركُ ما علمتُ لرأي غيرِى | وليس الرأيُ كالعلم اليقينِ |
وما أنا والخصومةُ وهْى شيء | يُصرَّفُ فِى الشَّمال وفِى اليَمِينِ |
وقد سُنَّت لنا سُنَن قِوام | يَلُحْنَ بكلِّ فَجِّّ أَو وَجِين (١) |
وكان الحقُّ ليس به خفاء | أَغَرَّ كَغُرَّةِ القَلَقِ المبينِ |
وما عوِضٌ لنا مِنهاجُ جَهْمٍ | بمنهاج ابنِ آمنةَ الأمينِ |
فأمَّا ما علمتُ فقدكَفَانِي | وأمَّا ما جهلتُ فجنبونِي |
________
(١) الوجين: شط الوادي.
(٢) قال الفخر الرازي " يقض " بغير ياء لأنها سقطت لالتقاء الساكنين، كما كتبوا (سندع الزبانية) (فما تغن النذر).
قال النحاس: هذا لَا يلزم، لأن معنى " يقضي " يأتي ويصنع فالمعنى: يأتي الحق، ويجوز أن يكون المعنى: يقضي القضاء الحق. قال مكيّ: وقراءة الصاد أحب إليّ؛ لاتفاق الحرميين وعاصم على ذلك، ولأنه لو كان من القضاء للزمت الباء فيه كما أتت في قراءة ابن مسعود، قال النحاس: وهذا الاحتجاج لَا يلزم؛ لأن مثل هذه الباء تحذف كثيرا.
* * *
قوله تعالى:
* * *
قوله تعالى: (قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي من العذاب لأنزلته بكم حتى ينقضي الأمر إلى آخره. والاستعجال: تعجيل طلب الشيء قبل وقته (وَاللَّه أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) أي بالمشركين وبوقت عقوبتهم.
* * *
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ
* * *
في الآيات السابقة ذكر الله تعالى آمرا نبيه أن الله على بينة ويقين من أمر ربه، وذكر أن المشركين يستعجلون ما ينذرهم الله تعالى، ويذكر الله تعالى ما نزل بغيرهم، والنبي يترك الأمر لحكم الله يفصل بينه وبينهم، والفصل الحق يقتضي علما واسعا، وتنفيذه يقتضي قهرا غالبا، وسيطرة كاملة، فذكر سبحانه اختصاصه بالعلم الكامل، والقدرة القاهرة، والسيطرة الكاملة؛ ولذا قال سبحانه:
المفاتح جمع مِفْتح، وهو المفتاح فيقال مفتح ومفتاح بمعنى واحد، وقيل من بعض النحويين: إن مفاتح جمع مفتاح، إذ يجوز نحويا حذف الياء، كما يقال في محاريب جمع محراب، محارب بحذف الياء، وهناك قراءة، (وعنده مفاتيح الغيب) والمعنى واحد في القراءتين، وقال بعض المفسرين: إن المراد خزائن الغيب أي الأسرار المكنونة في علم الله تعالى.
والأكثرون على المفازح هي جمع مفتاح، وهو ما يتوصل به إلى ما يكون بداخل الشيء، فمعنى قوله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) لَا يتوصل إلى غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول، فإنه يعطيه غيبا بما اختزنه في علمه المكنون إن أراد وبمقدار يقدر حسب المصلحة والحكمة كما أعطى عيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهما.
والغيب ما غيب واستتر، والكلام فيه استعارة تمثيلية تشبه بحال علم الله بالغيب واستتاره عن الناس - إلا من أراده - بحال من يكون معه مفاتيح خزانة لا يصل إلى ما فيها سواه، وقد تأكد علم الله تعالى بالغيب وحده، وأنه لَا يعلم أحد إلا من جانبه، بأمرين: أولهما - التقديم، فقال سبحانه: (وَعِندَهُ) بتقديم
ويعلم ما في البحار من أسماك وجواهر ولآلئ، والجاريات المنشآت في البحر، وفي البحر عالم، ولسير البحار نظم، ولاستعمالها قوانين نظمها بإرادته الحكيمة رب العالمين، وخالق السماء والماء، وكلها مسخر للإنسان، يستعملها في العمارة والبناء، وفي التخريب والفساد، وكل ذلك بتمكين الله تعالى: (... لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...).
(وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).
هذا نوع تفصيل بعد إجمال، وقد اختير ما يكون ظاهره تحت أنظار الناس، وأسراره في علم الله تعالى العليم الخبير اللطيف البصير، وقد ابتدأ بالأوراق التي تسقط، فقال سبحانه: (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا) و (من) هنا الدالة على عموم العلم، وعلم الله ليس كعلمنا الظاهر المبني على البصر، إنما علمه هو العلم بأصل تكوينها، وسير نموها، فهو يعلم الأشجار التي علقت بها كيف غرست، وكيف كونت، وكيف نمت جذورها وتفرعت فروعها وتهدلت أغصانها، وكيف تكونت أوراقها، وأندت بالحياة حتى اخضرت وازدهرت، ثم كيف جفت وسقطت فذلك بعض علم الله تعالى، وهو علم بغيبها، ولا يعلم ذلك العلم سواه؛ لأنه
فالنص الكريم جمع فيه تكوين الأشجار والغروس، وتكوين الزروع والحب، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ فَالِق الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ...)، وبعد أن بين سبحانه علمه بإنشاء الغروس والزرع بين سبحانه وتعالى علمه الكامل بثمرات الغروس والنباتات في ضمن علمه الكامل بالرطب واليابس، فقال تعالى: (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) وتفسير العلماء للرطب يتجه إلى اتجاهين: أولهما - تفسير الرطب واليابس بما يناسب الورق والحبة، وهو ما يكون ثمرًا. للأشجار رطبا أو جافا من عموم الثمار كالموز والتفاح، والقصب، وغير ذلك، وفيه توجيه للنعمة التي أنعم الله بها على عباده فوق إحاطة علمه، وقدرته في التكوين والإبداع.
وبعض المفسرين يرى أن الرطب واليابس في كل الوجود، فهو يعلم اللين والجامد في كل شيء، فهو يعلم ما في باطن الأرض من فلزات ومعادن كريمة، ومعادن سائلة، وما يكون في باطن الأرض من أحجار نباتية وغير نباتية وسائلة وجامدة.
وإني أرى ذلك الرأي وأختاره ليكون ذلك تقريبا لأكبر قدر من النعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده.
وبعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى تمام علمه بالأشياء أشار إلى قدرته سبحانه وتعالى، وعلمه بالإنسان، وما يكون منه، فالله يعلم بما يسر، وما يظهر، فهو سبحانه يعلم ما ظهر وما بطن، ويعلم السر وأخفى، ولذا قال تعالى من بعد:
* * *
* * *
الضمير يعود على الله تعالى ذي الجلال، وهو سبحانه الذي يتوفاكم بالليل، والمراد إنامتكم، ولم يعبر بتسكنوا في الليل وهو يتضمن معنى النوم، لأن السياق لبيان قدرة الله تعالى، وسلطانه عليهم، وكونهم في قبضة يده، وأنه يحصي عليهم أعمالهم، فكان التعبير بالوفاة عنه أنسب، والنوم يعتبر من قبيل الوفاة، كما قال تعالى: (اللَّهُ يتَوفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مسْمًّى...).
فالموت الأكبر هو قضاء النحب، والموت الأصغر هو النوم، ولقد شبه النبي - ﷺ - عند إنذار عشيرته بأمر ربه: " والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون وإنها لجنة أبدا، أو لنار أبدا " (١).
وقوله: (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) الجَرْح هو إصابة الأعضاء والأجسام بما يدميها، ويطلق على الكسب، والمراد هنا الكسب خبيثا أو طيبا، وسميت سباع
________
(١) رواه ابن عساكر ج ٢، وذكره القرطبي بلفظ " كما تنامون فكذلك تموتون وكما توقظون فكذلك تبعثون " ج ٨ ص ٥٧٠٥.
وقوله تعالى: (ثُمَّ يَيْعَثُكُمْ فِيهِ) الضمير يعود إلى النهار، ويكون الكلام متصلا بالتوفي بالليل، فالسياق يتوفاكم بالليل، ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم في النهار بعد الليل، ولذلك قال الشوكاني في تفسيره: إن الضمير يعود إلى الليل، لابتداء النهار والمؤدى واحد، وإن كان ثمة اختلاف في توجيه السياق والإعراب، وكان التعبير بـ " ثم " لتفاوت ما بين مظهر الليل ومظهر النهار، والتفاوت ما بين أعمال النهار وأعمال الليل.
إن تداول الليل والنهار مستمر، فليل يعقبه نهار، ونهار يعقبه ليل لنهاية واحدة، وهو قضاء أجل مسمًّى عند الله تعالى، وإن كان لَا يعلمه إلا الله تعالى لأنه سبحانه وتعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤).
(لِيُقْضَى أَجَلٌ مسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ). إنه بعد أن يقضى الأجل المسمى، يكون المرجع إلى الله وحده، فلا سلطان لغيره، ولا يرجع إلى أحد سواه، ودل على هذا القصر تقديم الجار والمجرور، فإنه دل على القصر، والتعبير بـ " ثم "، لأن هناك تفاوتا زمنيا، بمقتضى الأجل المسمى الذي يطول ويقصر، ولتفاوت ما بين ما يكون في الحياة الدنيا من لهو وعبث وتفاخر، وتقوى أحيانا، ثم قال
وبعد أن بين سبحانه بكل شيء، وبكل إنسان، وأن لكل جزاءه على قدر عمله. بين قدرته القاهرة، فقال تعالى:
* * *
* * *
هذه تبين قدرة الله تعالى، وكمال سلطانه على كل شيء، فهو سبحانه وتعالى قد قهر له كل شيء وذل، ولا يخرج عن سلطانه أحد، وكل شيء في سلطانه وفي إرادته لَا يقع شيء في الكون، ولا يخرج دون أمره، وقوله تعالى (فَوْقَ عِبَادِهِ) كناية عن علو إرادته ولا إرادة لمخلوق فوق إرادته، أو يقال إنها استعارة تمثيلية فيها تصوير علو الله تعالى على كل شيء في الوجود سلطانا وتذليلا بمن يكون فوق كل شيء حسا، وفي الحقيقة ذلك مجاز مشهور لَا يحتاج إلى تقدير تشبيه أو نحوه، كقولنا: الأمير فوق رؤسائه، أو فوق رعيته، وقد انحرف انحرافا كبيرا الذين قالوا: إن ثمة فوقية حسية، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وإنه من قهره وسلطانه، وكونه فوق الكل أرسل على الناس حفظة، والتعبير بـ (أرسل) لتناسق الكلام إذ إن الذي يسيطر على كل شيء وفوق كل شيء يناسبه فيمن يسخره من خلقه على خلقه أن يكون بـ (أرسل)، و (حفظة) جمع حافظ.
مثل كتبة جمع كاتب، وسفرة جمع سافر، وهؤلاء الحفظة يحفظون العباد، ويحوطونهم، ويكتبون ما يكون منهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ...)، وقال تعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨).
وإن هذه الرقابة والمحافظة لأولئك تستمر، حتى الوفاة؛ ولذا قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) " حتي " هنا للغاية، والمعنى تستمر هذه
الحال حتى يجيء أحدهم الموت، وعبر بالماضي لتحقق المجيء مثل قوله تعالى:
(أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ...)، أو تكون حتى تفريعية أي إن تلك الرقابة لأجل الحساب كما يدل الكلام، وقوله - تعالى: (تَوَفَتْهُ رُسُلُنَا) أي ملك الموت ومن معه، وهنا يلاحظ أن ذكر مجيء الموت قدم على ذكر الوفاة، والمراد من مجيء الموت تقدير نهاية الأجل؛ ولذلك عبر بـ (أَحَدَكُمُ) ولم يقل، حتى إذا ماتوا؛ والوفاة قد جاءت بعد الإحصاء الدقيق من الحفظة؛ ولذلك قال من بعد ذلك: (وَهُمْ لَا يُفَرِّطونَ) أي لَا يهملون، ولا يتركون شيئًا مما فعل، بل كل ما عمل مهيأ له يجده حاضرا بعد وفاته.
* * *
* * *
وإنه بعد أن يموتوا يردون إلى الله تعالى معروضة أعمالهم محصاة إحصاء دقيقا يردون إلى الله تعالى مولاهم الحق، وفي هذا النص بضعة مباحث نشير إليها ففيها تقريب لمعنى النص الكريم.
أولها - التعبير بـ " ثم "، والتراخي هنا لبيان مكانة الحساب والرد على الله تعالى؛ لأن الالتقاء بحساب الله أمر ذو خطر عظيم لما كانوا يفعلون غير متوقعين بعد ذلك من وقائع تزلزل قلوب الفاسقين، وتطمئن لها قلوب المؤمنين.
وثانيها - أنه عبر عن الرد للحساب بالرد لله تعالى ذي الجلال، وذلك يشير إلى خطورة الأمر، ودقة الموقف، وجلال الحساب.
وقوله تعالى: (أَلا لَهُ الْحُكْمُ)، " ألا " فيه للتنبيه وتقديمه له على الحكم للإشارة إلى أنه وجد له الحكم، ولا حكم لأحد سواه فليترقبوا جزاء ما عملوا، والحساب قائم ومؤكد؛ ولذا قال من بعد: (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) أي أنه لَا يوجد حاسب في سرعة حسابه وهذا يؤكد الحساب وما يترتب عليه من ثواب وعقاب، وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِر أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ...). ويثبت أن حساب الله سريع؛ لأن الله يعلم كل شيء قبل أن يقدموا عليه إن الله بكل شيء عليم.
* * *
(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥)
* * *
وفى هذه الآيات، يبين نعم الله تعالى عليهم، إن ادلهمت بهم كارثة يضرعون إليه، وبين أنه إذ كان هو وحده الملجأ عند الكارثة تكرثهم فهو القادر على أن ينزل بهم البأساء والضراء، ومع هذه النعم السالفة، ومظاهر القدرة الباهرة يكذبون بالحق إذ جاءهم، وأنباء الرسالة ثابتة مستقرة لَا تتخلف، وأنه إذا كان الناس فيهم أطهار وأشرار، فعلى الأطهار ألا يخوضوا في فتن الأشرار، وقد ابتدأ سبحانه بقوله:
كان المشركون يعرفون الله سبحانه وتعالى، ولكن لَا يؤمنون به، ولا يخصونه بالعبادة بل يشركون معه الأوثان، ويقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وكذلك أكثر الوثنيين، يعرفون أن قوة خفية تسير الوجود، ولكنهم يعبدون أشياء حسية يحسبون أن روح الألوهية تحل فيها، وهم في غيهم يعمهون.
فلا عجب، إذا كان المشركون عندما تشتد بهم الشديدة لَا يتجهون إلا إلى خالق الكون ومنشئه ومسيره والقيوم عليه سبحانه وتعالى، ولقد أمر الله تعالى الرسول الكريم أن يوجه أنظارهم إلى أنه لَا يذكر في الشديدة إلا الله سبحانه وتعالى، وأنهم يذكرونه حيث تكون الكريهة، وحيث يكون الخطر، فأمره بأن يوجه إليهم الاستفهام ليقروا بهذه الحقيقة: (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) والاستفهام إنكاري تقريري بمعنى لَا أحد ينجيكم من ظلمات البر والبحر، وأنتم
وإن حالهم أنهم لَا يلجأون إلا إليه ولذا قال سبحانه عنهم: (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) أي أنكم في حال الشدة، تتجهون إليه سبحانه وتعالى بقلوبكم ونفوسكم، ولا تجدون ملجأ منه إلا إليه، ويظهر ذلك الالتجاء القلبي ضراعة وتذللا يجري على ألسنتكم ولا تجدون سبيلا للامتناع عن الجهر بالضراعة والتذلل لله تعالى، وتسليم الوجه له، فالتضرع دعاء الله تعالى مستسلمين له جهرا، والخفية خنوع النفس، واتجاهها قلبيا إليه سبحانه، وقد صور الله تعالى ضراعتهم، بقوله: (لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ).
هذا قسم يقسمونه، ويؤكدون به ما هم عليه من الالتجاء إلى الله؛ ولذلك كان التوكيد بالنون الثقيلة وباللام، وموقع هذه الجملة مما قبلها أنها تفسير للضراعة التي جهروا بها أو هي تفسير بمعنى (تدعون) فهم يدعون الله تعالى، بمعنى أنهم في سريرة أنفسهم وضراعة قولهم، يقسمون بأن الله تعالى إن أنجاهم من هذه الكروب الكاربة، والشدائد الشديدة، ليشكرونه حق شكره، وشكر الله تعالى
________
(١) المَحَجَّةُ: الطريق.
ويصح أن يكون قوله تعالى عنهم: (لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) مقولا لقول محذوف تقديره قائلين لئن أنجيتنا من هذه.
ومع أنهم وعدوا بالشكر أي إخلاص العبادة لله تعالى، فهل وفوا بذلك؟ إنهم لم يفوا؛ إذ إنها حال إذعان في الشدة، فإذا نجوا عاد إليهم جحودهم، وغرتهم أنفسهم وأمانيهم.
* * *
* * *
أمر الله تعالى نبيه الكريم أن يبين لهم أن الله تعالى مستجيب لضراعتهم عند تضرعهم، والتجائهم إليه خفية، ووعدهم بأن يخلصوا عبادتهم لله ويشكروه على نعمائه المتضافرة المتكاثرة الحي نعيش في ظلها دائما، وإن كان تعالت حكمته يعلم أنهم غير موفين لعهدهم وأنهم ناكثون في أيمانهم، كما حكى سبحانه وتعالى عن طبيعة الإنسانية المنحرفة، إذ قال تعالت كطماته: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ...).
وإن الله تعالى بين أنه لَا ينجيهم مما يعرض لهم من شدائد من خارجهم، وما لَا قبل لهم به وحسب، بل ينجيهم من ذلك، وينجيهم من الكروب الحي تعتري نفوسهم من ضراء تنزل بهم، أو مرض يحل بأجسامهم، ومن كل شيء يكربهم ويلقي غمة النفس عليهم، ولذلك قال سبحانه: (وَمِن كُلِّ كَرْبٍ). ولقد فسر الأصفهاني في مفرداته الكرب فقال: الكرب الغم الشديد (... فَنَجًّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)، والكربة كالغمة. وأصل ذلك من كرب الأرض وهو قلبها بالحفر، فالغم يثير النفس إثارة، ويصح أن يكون ذلك من كربت
أولها - التعبير بـ " ثم " ففيه إشارة إلى التفاوت الكبير بين حال ضراعتهم، وحال كفرهم، أو بعبارة أدق استمرار حالهم.
الثانية - أنه سبحانه عبر بالجملة الاسمية، وذلك تأكيد لشركهم الذي كان نقيض شكرهم الذي وعدوا به ونكثوا في وعدهم.
الثالثة - أنه عبر بالفعل المضارع الذي يصور حالهم ويدل على استمرارهم.
وبعد أن بين سبحانه وتعالى كمال سلطانه في النعم يمنحها ليرغبوا في الإيمان والإذعان، ذكر سبحانه قوته في القهر والعذاب.
* * *
* * *
بعد بيان قدرته على كشف الكروب بين سبحانه وتعالى قدرته على إنزال الشدائد؛ جزاءً لهم بما كسبت أيديهم، فهو كاشف الضر، وهو منزل العذاب، كل يسير على مقتضى حكمته، وعلى ما يصلح به الإنسان، ويستقيم عليه أمر العالم كما قدر رب العالمين: (... وَكلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ).
وقبل أن نتكلم في معنى القدرة القاهرة، نذكر كلمة في ناحية بيانية، وهو لماذا أمر الله تعالى نبيه في التنبيه إلى ضعفهم، وقدرته سبحانه وتعالى، وصدر الكلام بكلمة (قُلْ) في بيان ضعفهم، واستجابته لضراعتهم، واستعلائه بقدرته عليهم؟ ونقول في الإجابة عن ذلك فيما يبدو: إن تصدير الكلام بـ " قل " فيه تنبيه؛ فضل تنبيه، وفيه بيان مقام النبي - ﷺ - أنه هو الصلة بينهم وبين ربهم، وأنه المبعوث إليهم من قبله، وأنه هو الذي يخاطبهم عنه سبحانه في كشف الضر عنهم، ورفع الغمة إن نزلت بهم، وهو منذرهم بالعذاب الشديد.
والخطاب هنا لمن؟ أهو للمشركين فقط الذين وعدوا بالشكر ثم أشركوا؛ أم هو خطاب للناس أجمعين؛ ظاهر السياق هو الأول لأنه الخطاب، ولكن موضوع الخطاب يعم، ولا يخص المشركين، ولأن مفسري السلف والآثار الواردة عن الرسول - ﷺ - تومئ إلى أن المؤمنين يدخلون في عموم الخطاب، وإنا نميل إلى هذا العموم.
والنص الكريم يفيد عموم العقاب؛ لأن العذاب الذي ينزل من فوق يعم الجميع، كذلك العذاب الذي يجيء من تحت الأرجل يجيء عاما لَا خاصا، فإذا كانت صواعق، أو إعصار شديد وصواعق، أو سيل عارم كل هذا يعم ولا يخص، وكذلك الخسف الذي تمور به الأرض مورا، والزلازل المدمرة، والبراكين الحارقة كل هذا يعم ولا يخص ينزل بالمؤمنين مع الكافرين، وقد عبر الله سبحانه وتعالى عن هذه الأمور بعبارتين جديرتين بالنظر فيهما:
ثانيتهما - التعبير عن ذلك بكلمة (عَذَابًا) ففيها الإشارة إلى أنه في معنى الجزاء على بنيان واقع، أو أن الذين نزل بهم أكثرهم يستحقون، وهو على أية حال أمر مقصود، وقد أشار الله تعالى في آيات أخرى إلى أن الكوارث قد تكون عقابا على ذنوب سلفت، أو طغيان استحكم كقوله تعالى فيمن ينفقون من غير إيمان: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧).
ومثل قوله فيما نزل بقارون وداره في حال طغيانه: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦).
إلى أن قال سبحانه عنه: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (٨١).
فدلت هذه النصوص على أن الله تعالى ينزل عذابا كونيا، لغرور أو طغيان أو فسق عن أمر ربهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أنواعًا ثلاثة من العذاب الذي يبعثه:
الأول والثاني أن يبعث عذابا من فوق أو من تحت، (أَن يَيْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ).
وعبر عما يجيء من الأرض بقوله تعالى: (مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) وذلك للإشارة إلى قربه الشديد منهم، وإلى أنه يكون في مقام استقرارهم، فيكون ميد الأرض من تحت أقدامهم حيث هم مستقرون فيها، وللإشارة إلى أنهم أول من يصابون بهذا العذاب، ولا منجاة منه، إلا أن يكون لله تعالى في منجاتهم إرادة.
وروي عن ابن عباس أنه فسر العذاب من فوقهم بفوقية معنوية، وهم الأئمة المفسدون، والحاكمون العابثون، ومن هم تحت أرجلهم بالرعاع الأقربين يهرفون بما لا يعرفون ويتبعون كل ناعق يدعو إلى هواه ويقفون على ما يريد (١)، فعلى هذا النظر تكون الفوقية والتحتية ليست حسية، وإن لذلك الكلام وجها من الحقيقة، فإن أشد ما تصاب به الأمم أن تتحكم فيهم أئمة الفساد، وأن يجدوا تابعا من الذين لَا يعرفون كيف يرادون، أعلى الخير أم على الشر، وعلى ورد الماء العذب الذي يسقي النفوس، أم على مناقع الأوباء الخلقية والاجتماعية، فإن ذلك يفني الأمم في وحدتها واجتماعها، وإن تخريب السماء وتخريب الأرض يسرع تعويضه، وإقامة بديل له، أما تخريب النفوس وإشاعة الرذيلة فلكي تخرج الأمة
________
(١) روى ابن جرير الطبري في جامع البيان - ج ٧، ص ١٤١، أن ابن عباس كان يقول في هذه: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) فأما العذاب من فوقكم: فأئمة السوء. وأما العذاب من تحت أرجلكم: فخدم السوء.
وإني أرى أن العذاب الذي ينزل من فوق، والذي يجيء من تحت الأرجل، كلا الأمرين يشمل الحسي، ويشمل المعنوي بولاة السوء، وتحكم السفلة ومن لا يفقهون، ويتبعون كل ناعق، ولا يميزون بين الخبيث وغيره، لَا على أن ذلك من الجمع بين الحقيقة والمجاز، بل على أن ذلك تفسير لكلمة العذاب، بما يعم ولا يخص حسيا أو معنويا.
والنوع الثالث من العذاب الذي تصاب به الأمم، وهو الداء العضال الذي أصاب أهل الإسلام، هو التفرق والتباين (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأسَ بَعْضٍ).
هذا عذاب للأمم، يحل وحدتها، وينثر جمعها، وهو أشد أنواع العذاب، عندما يتفاقم، ويكون الهوى المتبع، والشح المطاع وإعجاب كل امرئٍ وكل جماعة بنفسها وطريقتها (... كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحونَ)، فعندئذ تنفك العرا، وتنحل الأواصر، ويقوم المنكر، ويذهب المعروف، ولا سماع لصوت الحق.
و (يلبسكم) المذكورة في الآية من لبَس بفتح الباء يلبس، وهي تتضمن معاني ثلاثة: أولها - الستر، فالحقائق تستر عمن يُلَبَّس عليه، فلا يراها، وثانيها - الخلط، فيختلط الحق بالباطل، والذين يقعون في هذا اللبس (يلبسون الحق بالباطل) فلا يكون وضوح يفرق بين الحق والباطل، وثالثها - وجود غشاوة على القلوب تحجب عنها بسبب التعصب لما يعتقده، فيزين له سوء عمله، فيراه حسنا، ويرين على قلبه فلا يدرك.
ومعنى الجملة السامية (يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا) أنه سبحانه يخلطكم، وتلتبس الأمور، ولا تميزون بين الخبيث والطيب، وتكونون قوما بورا، وذلك الضلال يصحبه انقسامكم شيعا متفرقين توقد بينكم نيران البغضاء والعداوة، وتفترقون فيما بينكم، فلا تكونون أمة واحدة تجمعها وحدة جامعة، ولكن تكون طرائق متفرقة، وأخلاطا غير متجانسة ولا متمازجة.
ولا تكون العلاقة فيها مودة واصلة ورحمة عاطفة، بل تكون العداوة المستحكمة، كل شيعة تتربص بالأخرى الدوائر في غير هوادة، ولا نفوس قارة، بل في نفوس فاترة، وهذا مؤدى قوله تعالى: (وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأسَ بَعْض) أي تكون العلاقة أن يذوق كل جماعة شدة الجماعة الأخرى، أي يكون بأسهم بينهم شديدا، فقوتهم تكون على أنفسهم، ولا تكون على غيرهم، وعبر سبحانه عن البغضاء والعداوة بأن يذيق بعضهم بأس بعض، وذلك تصوير بياني يشبه الإصابة بالبأس بذوقه واستطعامه للإشارة إلى أنهم يستطعمون العداوة بينهم، ويستطيبون البأس الشديد الذي يحكمهم كمن يستطيب طعاما شهيا، وذلك ينبئ عن فساد أمرهم، واضطراب حالهم، وقلب طباعهم، حتى إنهم يستمرئون العداوة كأنها طعام مريء.
(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).
يأمر الله تعالى نبيه بأن ينظر في تصريف الله تعالى آياته البينات، وهو توجيه لما في القرآن الكريم من توجيه حكيم، وإعجاز يتحدى به الإنسانية كلها، فالسورة كلها تصريف في التوجيه، وفي كل بيان جده، ألم تره نبه إلى علمه المحيط الذي لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة فهو يعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، وهو الذي يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها، وهو
________
(١) من ذلك ما روى الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة الأنعام (٣٠٦٦) عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وَقَاصم عَنْ النبى - ﷺ - في هَذه الآيَة: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) فَقَالً النبِي - ﷺ -: " أمَا إِنهَاً كَائنَةٌ وَلَمْ يَأتِ تأوِيلُهَا بَعْدُ " قَالَ أبُو عيسى: هَذَا حَديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. كما رواه أحمد في مسند العشرة (١٤٦٩).
(٢) وروَاه مسلم: الفتن وأشراط الساعة - هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض (٢٨٨٩) بلفظ مقارب.
هذا تصريف في القول المحكم الصادق ليدركوا الأمور على وجوهها بعد أن يوجهوا إليها، رجاء أن يفقهوا ويدركوأ، فالرجاء هنا في قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) هو في حالهم إذا كانوا يعتبرون، وفيما هو من شأن ذلك التصريف في القول الحكيم، ويفقهون معناها يدركون لب الحقائق، وتنفذ بصائرهم إليها، والله سبحانه هو الحكيم الخبير العليم.
* * *
(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)
* * *
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أنه سبحانه وتعالى هو الذي يلجأ إليه عند الشدة، وأنهم يلجئون إليه ويدعونه تضرعا وخفية في ظلمات البر والبحر، وأنه هو وحده المنجي، ولا منجي سواه، وأنه سبحانه منزل الشدائد، وهم بعد زوال الغمة بدل أن يوفوا بعهودهم ويشكروا نعمة الله باختصاصه بالعبادة، كما اختص بالإنجاء والابتلاء - يشركون غيره ممن لَا يضر ولا ينفع، وفى هذه يقرر موقفهم من الحق، وخوضهم في أمره بالباطل مما يدل على أن
مع هذا التصريف في بيان الآيات، بذكر النعمة التي يلجأون إلى طلبها دون سواه، وبيان القدرة الكاملة الشاملة، وبيان أنه الذي ينزل الابتلاء، والعذاب الدنيوي ليقيسوا عليه من بعد العذاب الأخروي، كذبت قريش قوم النبي - ﷺ - وتكذيبها مع قيام البينات الصادقة، ومع حالهم من الاستسلام، وطلب النجاة منه عند الشدة، يدل على إدراك ناقص أولا - لأنَّ مناقضة الشخص لحاله أو لبعض أحواله دليل على غفلته عن إدراك الحقائق كاملة، وعن نسيان الوقائع، ويدل أيضا على جحود مستحكم ومقاومة للحق مع قيام الأدلة، وشهادة الآيات، ويدل على تغلغل التقليد في نفوسهم، حتى إنه يضع على أعينهم غشاوة، وإن كان البصر قائما، فلهم أعين لَا يبصرون بها ولهم آذان لَا يسمعون بها.
وقال بعض المفسرين: إن قوم النبي - ﷺ - هم أمته الذين بعث فيهم لَا فرق بين عربي وأعجمي، ولا أبيض وأسود، ولا شرقي ولا غربي، فأولئك قومه - ﷺ -.
ونحن نميل إلى ما عليه الجمهور من المفسرين، لأن الأمة أعم من القوم، في أصل الدلالة اللغوية، وإنما ذكر الله تعالى قوم النبي - ﷺ - من قريش، لأن النبي - ﷺ - كان حفيا بأن يؤمنوا حريصا على إيمانهم، حتى إنه عندما كان الأذى بشتى ضروبه، قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لَا يعلمون، وقال: " وإني لأرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله " (١)، وللإشارة إلى عموم الدعوة إلى هذه الدعوة، وإنه
________
(١) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ [ص: ١٧٦]، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ". متفق عليه؛ البخاري: أحاديث الأنبياء - حديَث الغار (٣٤٧٧)، ومَسلم: الجَهاد والسير - غزوة أحد (١٧٩٢). =
قوله تعالى: (وَهُوَ الْحَقُّ) فيه إشارة إلى أنهم لَا دليل عندهم ولا موجب، لأنه الحق الثابت الذي قام الدليل عليه، وشهدت له البينات، وقام من أنفسهم دليل صدقه، فالواو ما يسمى في عرف النحويين واو الحال، أي أنى يكذبون ذلك التكذيب، والحال أنه حق ثابت، وذلك لشدة العناد، إذ إن الدليل قائم، والقربى بينك وبينهم ثابتة ومع ذلك جحدوا بها، وإن استيقنتها أنفسهم، ولست مسئولا عن كفرهم، وقد بينت وبلغت، وما عليك إلا البلاغ.
وإذا كان قومك يكذبون بالحق، وقد ظهرت دلائله، وبرقت بوارقه، فقل لهم إنك إذ بلغْت، وبينت، لست مسئولا عنهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيل) وأمره - ﷺ - من قبل الله تعالى لتأكيد أن عليهم وحدهم تبعة تكذيبهم، وأن النبي - ﷺ - مهما تكن صلته بهم من قرابة ورحم موصولة من جانبه، لَا يتحمل تبعة ما يفعلون، بل كل امرئٍ بما كسب رهين، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وما على الرسول إلا البلاغ، والوكيل هنا المتكفل بأمورهم، الموكول إليه شئونهم الذي شملت كفالته عليكم، فليس بذي رقابة ومسئولية عنهم، وقد قال الراغب في معنى وكيل: وكيل فعيل بمعنى مفعول قال تعالى: (... وَكفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)، أي اكتف به أن يتولى أمرك، ويتوكل لك، وعلى هذا: (... حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ). (... وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكيلٍ)، أي بموكل عليهم، وحافظ لهم، كقوله تعالى: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣). وعلى هذا قوله تعالى: (قُل لَّسْتُ
________
= وأما قوله - ﷺ - " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم... " فهو في حديث الأخشبين، وهو متفق عليه رواه البخاري: بدء الخلق - ذكر الملائكة (٣٢٣١)، ومسلم: الجهاد والسير - ما لقى النبي - ﷺ - (١٧٩٥).
* * *
* * *
النبأ هو الخبر العظيم الذي يكون ذا فائدة، وله واقع مصدق يفيد علما يقينيا، أو علما ظنيا، ولذلك بقال عن الأخبار المتواترة أنها أنباء، ومن ذلك قوله تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نوحِيهَا إِلَيْكَ...)، ومستقر هي مصدر مسمى بمعنى استقر، أو اسم زمان بمعنى زمان يستقر.
ومعنى الاستقرار مأخوذ من القرار بمعنى الثبوت والتحقق والوجود، فالمؤدى اللفظي للنص الكريم لكل خبر عظيم، بالإنذار أو التبشير؛ زمان يكون فيه، ويتحقق مضمونه، والمؤدى العام؛ أن أولئك الذين كذبوا بالحق لما جاءهم، قد جاءتهم الأنباء بالنذر، وجاءت المؤمنين الأنباء بما سيجدون من نعيم مقيم، وجنات عدن خالدين فيها، وإنه نبأ في الدنيا، أو في الحاضر، وتحققه ومستقره في القابل، وستجدون حقيقته ثابتة معلومة علم اليقين بالمشاهدة المحسوسة، وكذلك قال تعالى: (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي من المؤكد، أنكم ستعلمونه علم اليقين والاستقرار والوجود.
وقد يرد سؤال؛ أليس في ذكر القرآن الكريم وإنذار النبي - ﷺ - ما فيه العلم اليقيني أو ما من شأنه تكوين العلم اليقيني؛ فلا علم أعلى منه، كما قال تعالى بعد هذه البينات: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ...)؟ والجواب عن ذلك أن العلم الذي قامت أسبابه بإنذار الله تعالى الصادق صدقا لَا يرتاب فيه عاقل هو علم الإخبار، أما العلم الذي يكون عند نزول العذاب، فهو علم المعاينة والمشاهدة، والنزول بهم، حيث لَا مجال للمراء، ولا للمباهتة والتكذيب. وقوله تعالى: (لِّكلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ) أهي منِ قول النبي - عليه الصلاة والسلام - المأمور به في قوله تعالى: (قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوكِيلٍ) ظاهر السياق أنها من مقول
* * *
* * *
كان المشركون الذين خاطبهم النبي - ﷺ - بالدعوة إلى الوحدانية. بعد أن أنذر وبشر، وصدع بأمر ربه، يتخاطبون فيما بينهم، لَا يظلهم طلب الحق، ولا تدفعهم إرادة الحقيقة، وإنما يسود حديثهم اللجاجة في الجحود، ومعاندتهم للنبي - ﷺ - واستهزائهم بضعاف المؤمنين، وتدبيرهم أساليب تعذيبهم، فحالهم ليست حال من يستمعون إلى الحق؛ إذ دعوة الذين يلجُّون في الخصومة والمعاندة تزيدهم تشديدا في موقفهم، وصم آذانهم، ولذلك لَا يكون من الخير تذكيرهم في هذه الحال الجاحدة لأنها تزيدهم إصرارا وجفاء وبعدا وعنادا.
والخوض أصل معناه في اللغة المرور في الماء، والشروع، والانغمار في موجاته، ثم استعمل في الانغمار في الأحاديث والأقوال باعتبارها تغطي الفكر، وتسيطر عليه كما يغطي الماء الخائض فيه. جاء في تفسير الشوكاني ما نصه: (الخطاب للنبي)، أو لكل من يصلح للخطاب، والخوض أصله في الماء ثم استعمل في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيها لغمرات الماء، فاستعير من المحسوس إلى المعقول، وقيل هو مأخوذ من الخلط وكل شيء خضته فقد خلطته، ومنه خاض الماء بالعسل وخلطه، والمعنى إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والرد، والاستهزاء فدعهم، ولا تقعد معهم لسماع هذا المنكر العظيم، حتى يخوضوا في حديث مغاير!.
وإن جلوس النبي - ﷺ - مع هؤلاء لَا يتصور أن يكون لمجرد المسامرة، ولكن لأجل رسالته. والدعوة في هذا الخوض المعاند، لَا تجدي كما ذكرنا، وإن الأمر
(وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
إن النبي - ﷺ - كان حريصا على دعوة المشركين، فبين الله تعالى كما ذكر آنفا أنهم إذا خاضوا في الآيات التي هي دلائل الرسالة، واستهزءوا بها وألحوا في جحودها، ولجوا في استمساكهم بما هم عليه لَا يزيدهم ذكر الحق إلا لجاجة وعنادا وطغيانا إذ كلما جاءتهم آية ودلائل أخرى زادتهم كفرا، كما قال تعالى (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (١٢٥).
فنكران الحق لَا يزيد الظالمين إلا خسارا، ويدفعهم إلى اللجاجة.
ولذلك كان النهي في الآية السابقة، ولكن دعاة الحق في قلوبهم ميل إلى ذكره، وهداية الناس إليه، فقد يدفعهم ذلك إلى أن يعاودوا الدعوة إليه وذكره عند الخائضين منكرين مستهزئين؛ ولذلك كان النص الكريم مكررا النهي في حال النسيان بسبب الرغبة في الدعوة إلى الهداية وقوله: (وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَان) هي " إن " الشرطية مؤكدة بـ " ما " ويصحب التأكيد بما التأكيد بالنون الثقيلة لغة وبيانا في (يُنْسِيَنَّكَ)، وهذا من مواضع وجوب التأكيد، والمعنى إن أنساك الشيطان، نسيانا مؤكدا فقعدت معهم، فلا تقعد بعد التذكر معهم، لأنهم ظالمون، ولأجل بيان بعض مرامي النص نتكنم في النواحي الآتية:
الثانية - أن النهي جاء بعد التذكر، فلا نهى في حال النسيان لأنه رفع عنِ الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وقال سبحانه: (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَع الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) عبر سبحانه وتعالى عن الذكر بالذكرى، ومعنى الذكرى كثرة الذكر، والتحري له، والحرص عليه، وذلك فيه إيماء إلى وجوب التحرز من النسيان ما أمكن، حتى لَا يزداد الداعي تعبا، ويزداد المدعو لجاجة، فلا دعوة إلى الحق مع الإعراض عنه واللجاجة في الإعراض.
الثالثة - أن النص الكريم منع من القعود مع القوم الظالمين. أي تجمعوا وتحزبوا، وهم مستمرون في ظلمهم بكفرهم، وإصرارهم عليه، ولجاجتهم، واستهزائهم، ففي النص وصف لهم بالظلم، وأنه السبب في عدم القعود معهم.
* * *
* * *
الباعث لأهل التقوى على الجلوس والاستماع إلى الظالمين، وهم يخوضون في الآيات البينات الثابتة الدالة على صدق محمد - ﷺ - منكرين، جاحدين مستهزئين، لاجِّين في عنادهم هو رغبتهم الملحفة في الهداية فأشارت الآية الكريمة أنه لَا رجاء فيهم، ولا غضاضة على أهل التقوى في ذلك؛ لأنهم ما عليهم إلا التذكير، وما عليهم من تبعات أعمالهم شيء إنما تبعات أعمالهم عليهم.
وهذا النص الكريم الذي نتكلم في معناه يبين أن الذين يتقون الله تعالى حق تقاته، ويجعلون بينهم وبين غضبه سبحانه وتعالى وقاية ليس عليهم تبعة عن أعمال الذين يخوضون في آيات الله تعالى، فالمراد من حسابهم أي أعمالهم المحسوبة عليهم، فهو من إطلاق المصدر على اسم المفعول باعتبار أن العمل هو السبب في الحساب، وهو من إطلاق اسم المسبب، وإرادة السبب، والمعنى ما دمتم قد أديتم واجب الإرشاد والتذكير، فما عليكم من تبعة أعمالهم من شيء. ولقد قال في معنى (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ) الأصفهاني ما نصه: وقوله تعالى: (... مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ...).
فنجد قوله تعالى: (... عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ...)، أي أن المعنى ما دام أهل التقوى قد أدوا، فلا حساب عليهم، ولا ينالهم أذى من حسابهم، وقوله: (مِن شَيْءٍ) " من " هنا للدلالة على عموم النفي واستغراقه، أو تأكيد استغراقه، أي ما عليكم أي قدر - ولو ضؤل - من تبعات أعمالهم ما دمتم قد ذكرتموهم العاقبة لما هم عليه، فالواجب عليكم التذكير، ولذا قال سبحانه:
هذا النص الكريم يبين ما على النبي والمتقين من بعد إلا التذكير الثابت الدائم المستمر، وفي أوقات يرجى فيها الإنصات والالتفات، والعناية بما يلقى عليهم، وذلك التذكير لرجاء أن يكونوا في حال من يتوقع إيمانهم، والتذكير بذاته موجب للإيمان إذا زالت الموانع، وأشد الموانع أن يسبق الجحود، وأن تغلف القلوب، فالرجاء في قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ليس من الله تعالى، ولكن لتصوير حالهم إذا استقامت قلوبهم، وخلصت من الشمر والجحود نفوسهم، وهو أنه يرجى إيمانهم، ولكنهم أحلوا محل الرجاء الجحود، والإصرار على الكفر، والعناد.. وقانا الله شر ذلك، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
* * *
(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى
* * *
بين الله سبحانه وتعالى قدرته القاهرة، وأنه الملجأ في الكرب، ومع ذلك كانوا يخوضون، ويعبثون، والله يأمر نبيه بأن يعرض عنهم ولكنهم يستمرون في استهزائهم بالمتقين إذ كانوا ضعفاء فيسخرون منهم، وبذلك اتخذوا دينهم الذي كان يجب عليهم أن يعتنقوه لعبا، وذلك من غرورهم بالحياة، وظنهم أن الحياة الدنيا هي الباقية، أو لَا حياة بعدها؛ ولذا قال تعالى بعد أن أمر نبيه بالإعراض عن مجالسهم قال آمرا له:
" ذَرْ " بمعنى اترك، وقال علماء النحو: إن " ذر " و " دع " لَا ماضيَ لهما، ولكن لهما مضارع وأمر، ولكن وجدنا في أساس البلاغة للزمخشري أن ماضيها حيٌّ يستعمل، فقد جاء فيه إذا قيل للقوم: ذروا هذا، قالوا: وذرناه.
والمعنى أعرض عن الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، والدين المضاف إليهم هو عبادة الأوثان التي عبدوها كأنهم اتخذوها لعبا ولهوا، واللعب هو الفعل الذي ليس مقصد يقره أهل العقل، واللهو ما يتلهى به، ويشغل به عن الأمر الجاد المنتج المثمر، الذي يكون له غرض مقصود مطلوب، فهؤلاء في اتخاذهم الأوثان التي يصنعونها ولا تنفع ولا تضر آلهة تعبد كأنهم يلعبون إذ يعملون عملا لَا يقره أهل
ويرد على ذلك التفسير أن هذا ليس جديرا بأن يسمى دينا، ولو كان مضافا إليهم.
ورأى بعض المفسرين أن المراد من دينهم الإسلام؛ لأنه الدين الذي جاء إليهم، وهم مخاطبون به، ومكلفون أن يتبعوه، فهو دينهم الذي جاء به رسول منهم، وهو الذي ارتضاه لهم أن يكون دينا، وقد اتخذوا ذلك الدين لعبا ولهوا، إذ لم يفهموا ما هم عليه، ومعنى اتخاذه لعبا ولهوا أنهم سخروا بمن اتبعه، وتهكموا على أهله، وأخذوا يخوضون فيه لعبا في مجالسهم، ولهوا عن الحق، يزكي ذلك قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضونَ فِى آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ...). وقال تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (١٤٠).
وإن هذا اللعب وذلك اللهو وتعابثهم بالمؤمنين سببه هو غرورهم بالحياة الدنيا، وفهمهم لها أنها غاية الوجود ونهايته، ولذلك قال تعالى عاطفا على قوله تعالى: (اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا). أي خدعتهم هذه الحياة، وما اتخذوه فيها من مباهج غير ملتفتين للحياة الآخرة، ولا مؤمنين بها، ولا بالبعث والنشور، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ للَّذينَ يَتَّقُونَ).
خدعوا بالحياة الدنيا، فكان منهم ما كان من العبث بالحقائق الدينية والسخرية بأهلها، ولذا أمر الله تعالى نبيه - وإن ذلك فيه معنى التهديد لهم - بأن يتركهم في غيهم حتى يفاجئوا بمآلهم، ولكن مع ذلك أمر الله تعالى نبيه
الضمير في " به " قال أكثر المفسرين: أنه يعود على القرآن، والقرآن في حضور كل ذهن فكأنه مذكور يعود الضمير عليه، وأميل إلى أن الضمير الذي يعود إلى الدين الذي هم مكلفون أن يأخذوا به، ويتبعوا هديه، وإن الله تعالى مع أمره نبيه أن يتركهم فلا يلتفت إلى هزلهم وعبثهم واستهزائهم بالمؤمنين، أمره بأن يستمر في تذكيرهم بالدين تبليغا لرسالته التي أنزلت عليه، ولا يأخذنه الأذى الذي ينزلونه به وبمن معه، فذلك هو ما يصيب دعاة الحق، ولكن يجب مع الإعراض عن لعبهم ولهوهم أن يستمر في دعوته ومثله معهم كمثل المربي الكامل الذي لَا يهمه عبث تلاميذه، يعرض عنه، ولكن يستمر في هدايته لهم.
وذكر بالدِّين كراهة أن تبسل نفس بما كسبت، والابتسال: معناه في اللغة الإسلام إلى الهلاك، وأن تؤخذ بسوء ما اختارت.
والمعنى الجلي لَا تشغل نفسك بلهوهم وعبثهم، ولا يمنعنك ذلك من أن تستمر في تذكيرهم، حتى لَا يسلموا إلى الهلاك ويمنعوا من الخير، ويكون نصيبهم جهنم وبئس المصير، وإنك منذر، ولكل قوم هادٍ.
وإنه في هذه الحال لَا منجاة لهم منها، فلا ينقذهم منها ولي يناصرهم، ولا شفيع يشفع لهم، إذ هي الهلاك الدائم والعذاب المستمر؛ ولذا قال تعالى: (لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِى وَلا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا) وإذا أسلموا إلى الهلاك في جهنم لَا يكون لهم من غير الله ولي يناصرهم أو يواليهم بمقتضى القرابة أو العصبة التي كانوا يتنادون بها، أو شفيع يشفع، ويترضى عنهم، وإن يقدموا ما يستطيعون من فداء لَا يقبل منهم فلا ولاية ولا شفاعة ولا فدية من عذاب أليم، فالعدل: هو الفداء الذي يعادل ما ارتكبوا، ويخرجون به من النار والعذاب، ومعنى (وَإِن تَعْدِلْ)، وإن تقدم فداء؛ يكون عدلا، لَا يؤخذ منهم.
وقد بين بعد ذلك هذا العقاب الذي لَا مناص منه، ولا منجاة ولا خلاص، فقال تعالت قدرته: (وأُوْلَئكَ الَّذينَ أُبْسلُوا بمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ منْ حَميمٍ وَعَذَابٌ أَليمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ).
والإشارة إلى الذين يخوضون في آيات الله تعالى، الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، وكانوا يسخرون من الذين آمنوا وهم يذكرون بالدين الذي بعث به رسوله إليهم، وقد كانوا بفعلهم هذا (أُبْسِلُوا) أي أسلموا أنفسهم للهلاك والبوار، وأتوا إلى النار، ذلك بما كسبوا من عبث وكفر، وعتو، واستهانة، وعبر سبحانه بقوله: (بِمَا كَسَبُوا) للإشارة إلى أنهم قد فعلوا ذلك يريدون الكسب، فكان ذلك العذاب، فهم اشتروا العذاب والضلالة بالهدى، وهذا العذاب شديد يحيط بكل أجسامهم، النار في بطونهم وفي جلودهم، لهم شراب من حميم أي ماء يغلي يدخل بطونهم، فيمزق أمعاءهم، وهو نار في جوفهم، ونار تكوى جلودهم (... كُلَّمَا نضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ...). ولهم بذلك عذاب أليم وذلك العذاب بما كانوا يكفرون أي بسبب كفرهم المستمر الذي كان يتجدد، فكانوا يحدثون كل وقت من مظاهر ما أوجب استحقاقهم لهذا الألم؛ فمرة يسخرون من النبي - ﷺ - ومن معه، ومرة يؤذون المستضعفين من المؤمنين، ومرة يقطعون عنهم الميرة (١)، ويقاطعونهم وأهلهم، ومرة يؤذون النبي - ﷺ -، وأخرى يخوضون في آيات الله تعالى، ويتخذون الدين الذي بعث به رسول منهم لعبا ولهوا، فهو كفر مستمر متعدد الوجوه أساسه الجحود، والآيات قائمة.
________
(١) المِيرَةُ، بالكسر: جَلَبُ الطعام. القاموس المحيط (مير).
* * *
* * *
الله سبحانه وتعالى يأمر نبيه بأن يقول مصورا ضلالهم، وفساد تفكيرهم في أن يعود محمد وأصحابه إلى عقيدتهم، فيقول: (قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا).
ذلك أن قريشا بذلوا ما بذلوا في سبيل حمل محمد - ﷺ - على أن يرجع عن دعوته، عرضوا عليه المال، وعرضوا عليه الإمرة عليهم، وعرضوا عليه كل ما يظنون أنه يرغبه في العود إليهم، كما يتصورون، ليرتاحوا في ذات أنفسهم حاسبين أن ما يدعوهم إليه يضرهم في عصبيتهم وجاهليتهم، وأنه يمنعهم مما كان عليه آباؤهم.
فالله أمر نبيه أن يستنكر ما يدعونه إليه، ويبين في استنكاره بطلان ما يعتقدون، وأنه انحدار في الإنسانية، وذلك من الجدل الحكيم، والدعوة إلى الإسلام في رفق وتواضع، فيقول: (أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا) أي لا يملك نفعا ولا ضرا، ولا يملك من أمره شيئا، ولا يملك موتا ولا حياة، وإن هذا إهمال لحكم العقل، نترك عبادة ما يضر وينفع، وهو مالك كل شيء وهو القاهر فوق عباده، وهو الذي نلجأ إليه في شدائد البحر والبر، كيف نترك عبادته إلى ما تدعونا إليه من أوثان لَا تنفع ولا تضر، وإن الله تعالى قد هدانا إليه سبحانه، وإن ما تدعوننا إليه نكسة بعد تقدم، ورجعة بعد الهداية، ولذلك قال تعالى فيما أمر به نبيه: (وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ) أي أنرد إلى الضلال بعد الهدى، وإلى الباطل بعد الحق، وإلى الظلمات بعد النور، وعبر سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله وأن نرد على أعقابنا. العقب ما وراء القدم، أي أنرجع مدبرين على أعقابنا، منكسين بعد أن أبان الله الحق واهتدينا بهديه، وامتلأت قلوبنا بوحدانيته في العبادة، فلا نعبد سواه.
والاستفهام هذا إنكاري بمعنى النفي، أي لَا ندعو ما لَا ينفعنا ولا يضرنا، وهو نفي فيه معنى التوبيخ لمن يدعو ما لَا ينفعه ولا يضره.
وقد صور الله تعالى حالهم في دعوتهم إلى الباطل من اهتدى، ومن تنزل عليه أسباب الهداية كحال الشياطين التي تستهوي الضال بدعوتهم إلى ما لَا هداية فيه؛ بجوار أن له أصحابا يدعونه إلى الطريق اللاحب (١)، والسير فيما فيه النجاة فقال تعالى: (كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطينُ فِى الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا).
استهواه أي طلب هواه واستولى عليه يوجهه كيف شاء، كالذين يصنعون ذلك بالنوم، والاستيلاء على الحس، والشياطين هم الذين يضلون، ومن ذلك الأوهام التي تعتري من يسير في صحراء قفراء يتلمس المرشد في مهامه الأرض (٢)، فيسمعه الوهم نداء يسير به في طريق الضلال، وسماهم الله تعالى شياطين تستهوي الأنفس، فيسيرون وراء هذه الأوهام والضلال كما قال المفسرون، وفى الوقت نفسه له أصحاب يدعونه إلى الطريق المستقيم، وهو حيران متردد بين دعوة الأوهام والدعوة الحق، فهو تشبيه حال المؤمن الذي يرى الأوهام ويرى الهادي.
________
(١) لحب: اللَّحْبُ: الطريق الواضح، واللاحب مثله. ويقال أيضًا: لَحَبَ، إذا مر مرًّا مستقيمًا. الصحاح للجوهري (لحب).
(٢) المَهمَهُ: المفازةُ البعيدة الأطراف، والجمع المَهامِهُ. الصحاح للجوهري.
وقد أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم بعد هذا التشبيه البين المبين: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أي إن هدى الله تعالى هو وحده الهدى أي لَا هدى غيره، وقد بين سبحانه أن الهدى هو حق الله وحده، بالعبارة الدالة على القصر، وهي تعريف الطرفين، وضمير الفصل، الذي يدل على أنه لا هداية غير هداية الله، ومن عُدِم هذه الهداية فهو في ضلال مبين.
ولقد قال تعالى فيما ترتب على أن الهداية من الله وحده: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أي أمرنا من الله تعالى الهادي إلى سواء السبيل بألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، وأن نكفر بالجبت والطاغوت، وأن نطيع الله تعالى الذي أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث، وأن نكون ربانيين وذلك لنسلم، اللام لام العاقبة أو لام كي للتعليل، ونسلم أي نخلص، ونكون لله تعالى حده، وقد أسلمنا وجهنا لله مخلصين له سبحانه.
وهنا كان البناء للمجهول لأن الآمر معلوم، وهو في صدورنا وأطواء نفوسنا، ولم تذكر المأمورات، ولكن ذكرت نهايتها وغايتها، وهو أن نسلم لرب العالمين الذي خلقنا وربانا، ويقوم على عامة أمورنا وخاصتها، وهو الحي القيوم.
ويلاحظ أن الله تعالى أمر نبيه أن يقول أندعو ما لَا ينفعنا ولا يضرنا، وكل ما كان من بعده بصيغة المتكلم ومعه غيره، وذلك لأن النبي - ﷺ - كما أمره ربه، كان يتكلم ومعه المؤمنون المخلصون الذين لاقوا الشدائد في مكة حتى هاجر منهم إلى الحبشة من هاجر، وقد آذاهم المشركون يريدون ردهم على أعقابهم بعد إذ هداهم الله.
فالله تعالى أمر نبيه بأن يقول هذا القول عنه وعنهم، ليلقي اليأس في قلوب المشركين من أن يعود أحد إلى الشرك بعد الوحدانية، وإلى الكفر بعد أن ذاقوا حلاوة الإيمان.
* * *
* * *
حكى النبي - ﷺ - أمر الله تعالى بالصيغة التي أمره الله تعالى بها، فقال: (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) وهذا عطف على معنى (لنسلم)، أي أمرنا سبحانه بأن نسلم لله رب العالمين، وأمرنا أن نقيم الصلاة، وكان الأمر بإقامة الصلاة بصيغة قول الله تعالى، لَا قول النبي - ﷺ - لمكانة الصلاة في الدين، فإنه لَا دين من غير صلاة، فهي عموده، وهي لُبه، وهي مظهره ودلالته، والوحدانية أظهر ما تكون في الصلاة فهي عبادة الله وحده لَا يشرك به شيئا فيها، إلا أن يرائي، فهذه ليست صلاة.
وطلب الله تعالى من المؤمن إقامة الصلاة بأن يأتي بها مقومة كاملة في أركانها الظاهرة، ومعانيها من خشوع وخضوع، يتحقق فيها قوله تعالى: (... إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكبَرُ...).
وأورد سبحانه وتعالى إقامة الصلاة بالأمر بالتقوى فقال تعالى: (وَاتَّقُوهُ) أي اجعلوا بينكم وبين الله تعالى وقاية بينكم وبين غضبه بإطاعته حق الطاعة فيما يأمر وينهى، وأن يملأ نفسه بتقواه دائما، فيذكره في سره وعلانيته، ويملأ قلبه بخشيته، ويحس بأنه يراه دائما، ويعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور، يحس بأنه مع الله دائما، وبذلك يتربى فيه معنى الربوبية.
وذكر تعالى ما يربي التقوى في النفس، فقال: (وَهُوَ الًّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وآمنوا بأنكم إليه تحشرون وهذا التعبير السامي يتضمن ثلاث حقائق يجب الإيمان بها:
الحقيقة الأولى - البعث وأن الناس يجتمعون بين يديه سبحانه وتعالى، وأن الإيمان بالبعث هو سر الإيمان وهو علو بالنفس الإنسانية إلى المرتبة السامية فلا يكون آكلا شاربا فقط يقول: (إِنْ هِي إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعوثينَ)، بل يعلو بإنسانيته يفعل الخير، ويرجو الجزاء.
الحقيقة الثالثة - الحساب والعقاب والثواب فهو نهاية الحشر فتجزى كل نفس ما كسبت.
وقد ذكر سبحانه ما يدل على البعث والنشور بكمال قدرته فقال تعالت حكمته:
* * *
* * *
أي خلق سبحانه وتعالى السماوات والأرض وما فيهما، بالأمر الثابت وهو الحق، أي خلقه قائما على الحق والحكمة، وأنه قدر وجود هذا الكون بحكمته، وما خلقه ليفنى وينتهي، بل خلقه ليبقى، ويستمر، وهذا كقوله تعالى: (أَفَحَسِبْتمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجعُونَ). بل إنكم راجعون وستبقون إما في نعيم مقيم وإما في عذاب خالد وقال القرطبي: معنى بالحق، أي بكلمة الحق، وهي كن، وما ذكرناه أوضح.
ثم بين سبحانه وتعالى أن بعثهم ليس شيئا عسيرا ولا بعيدا ولا غريبا، بل إن البعث يكون بكلمة هي الحق فقال تعالى: (وَيَوْمَ يَقُولُ كن فَيَكُونُ). أي هذا القول الثابت الذي هو حق في ذاته، وهو كن فيكون أي أنه بقوله تعالى: كن، فإنه يكون كل شيء قد حضر فيجمع ما بعث من القبور، ويخرج الناس أشتاتا، مهما يكونوا وأينما يكونوا، كما قال تعالى: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (٥٢)، فيوم يقول كن فيكون يكون البعث الكامل.
وقد قال سبحانه وتعالى إن قوله هذا هو الحق الذيِ لَا ريب فيه، وإنه آت لا محالة، ولذا قال: (قَوْلُهُ الْحَقُّ) وهو مبتدأ خبره (يوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ) أي
وقد وصف الله تعالى ذاته الكريمة بما يدل على أنه يعلم كل ما يفعله الذين يبعثون، فقال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) أي يعلم ما غيّب، وما يشهد ويحضر، أي يعلم ما تسرون وما تعلنون، ويكافئ الناس على ما عملوا إن خيرا فخير، وإن شرا فشر وكل امرئ بما كسب رهين.
وإن ذلك كله على مقتضى حكمته وعلمه الذي لَا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض؛ ولذا ختم سبحانه وتعالى النص الكريم بقوله تعالى: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).
* * *
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)
* * *
كان الكلام في الآيات السابقات في الأصنام، وأنها لَا تنفع ولا تضر، وأنها لا تملك من أمر نفسها شيئا، حتى تملك من أمر غيرها، ممن يدعونها واقعين تحت أوهام تضافرت وتكاثرت عليها السنون حتى صارت كأنها حقائق في زعمهم، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى كيف أنكرها أبو العرب الذي يعتزون بنسبهم إليه، وأنه عدها ضلالا مبينا، وخاطب بذلك أباه مستنكرا، ورؤية الحقائق باررة من لسان شخص يكون أشد أثرا، وأنقى فكرا وأبعث على الاعتبار.
" إذ " ظرف للزمان، والمعنى اذكر لهم ما كان في الماضي من موقف أبيهم إبراهيم - عليه السلام - من الأصنام، إذ قال لأبيه الذي كان يحبه، ويؤثره، مستنكرا ما كان منه من عبادة: أتتخذ أصناما آلهة؛ وهو استفهام إنكاري للتوبيخ، ولم يمنعه مقام الأب من أن يوبخه على عظيم ما يرتكب مستنكرا فعله: أتتخذ أصناما مصنوعة صنعتها أنت وأمثالك أتتخذها آلهة تعبد، أي أتتخذ من صناعتك آلهة معبودة، إن ذلك ضلالا مبينا تصنعه الأوهام في العقول حتى تجعل غير المعقول اعتقادا، ولذا قال لأبيه الذي كان يحبه: (إِنِّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ) إني أراك مع قومك (فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ)، أي بين واضح، والتعبير باسم الفاعل (مبين) للمبالغة في وضوح الضلال أي الضلال مبين لنفسه موضح لها، إذ كيف تصنع بيديك حجرا، ثم تعبده، هذا إجمال كلامه لأبيه، ولقد فصل الله سبحانه وتعالى مقالته لأبيه، في آية أخرى، فقال تعالى حكاية للمجاوبة التي كانت بينهما: (... إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (٤٢) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (٤٣) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (٤٤) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (٤٥) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨).
اعتزل قومه وأباه، وكان في بلد يعبد أهله النجوم، ولهم علم بها فانصرف إلى تعرف حال النجوم التي يقدسونها، ويجاريهم في تقديسها، حتى تبين له ولهم أنها غير جديرة بالتقديس والربوبية، لأنها متغيرة وتأفل وتختفي ثم تظهر، وذلك ليس شأن الإله الخالق المنشئ المبدع.
* * *
* * *
كهذا الإلهام الذي ألهمه إبراهيم صغيرا من إنكاره الأصنام، نرى إبراهيم سر الوجود نريه (ملكوت): أي ملك، وزيدت الواو والتاء للمبالغة في ملك الله تعالى، وأنسب أنها للمبالغة في سر الملك، وهو دلالته على الخالق المنشيء ليعلم ويعرف، ويحكم بالحق، وقال تعالى: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، الواو لطعطف على فعل مفهوم من مضمون الكلام السابق، إذ تقدير القول نرى إبراهيم سر الملك في السماوات والأرض، وما يدل عليه ليعرف الله تعالى، وليكون من الموقنين الذين يعرفون الحق، ويجزمون به من دليله، ومن المعاينة التي تكشف عما غيب، لتَعَرُّف الغيب من مظاهر الحس.
قد أخذ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وهو بعد لم يبلغ أشده كما تدل على ذلك الأخبار الصحاح يتعرف الإله على ما يجري عليه علمهم، وما يقدسون، لقد كانوا يقدسون الكواكب أو يعبدونها ويسمون أصنامهم بأسمائها، أخذ يتتبع النجوم والكواكب، يتعرف خواصها في ظهورها، وخفائها، وذلك في الليل، لأنه وقت ظهورها، إذ ضوء الشمس يخفيها.
* * *
* * *
مسايرة لهم في تفكيرهم واعتقادهم، أي على حسب ما تدعون وما تعبدون، (فَلَمَّا أَفَلَ) واختفى، وجده قد تغير من حال ظهور إلى حال اختفاء، وليس ذلك شأن الرب القائم على كل شيء؛ ولذا أثبت لهم لأول وهلة أن هذا لَا يمكن أن يكون ربا وقال مبينا بغض هذه الحال، وأنه لَا يعبد ما يكون على هذه الشاكلة، (قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)، وإذا كنت لَا أحبها فإني لَا أعبدها؛ لأن العبادة محبة، وإذا فقدت المحبة فلا عبادة.
واتجه إلى كوكب آخر وهو القمر، فقال الله تعالى عنه:
* * *
* * *
أي باديا في أوله - (قَالَ) مسايرا لهم ومتجها في الظاهر اتجاههم أو ظانا: (هَذَا رَبِّى فَلَمَّا أَفَلَ) تبين أنه لَا يصلح إلها، وأراهم رأي العين أنه لَا يصلح إلها (قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ).
وقال بعض آخر من المفسرين: إنه يتلمس الإله الذي يعبد بحق، بفطرته المستقيمة المدركة التي أدرك بها أنه لَا يمكن أن يكون ما يجري عليه الأفول إلها، فهو عندما قال: هذا ربى على النجم وقد كان يظنه ربا، فلما أفل عدل عن وصفه بالربوبية.
وهذا ما نراه، لأنه يتفق بعد ذلك مع قوله عندما رأى بزوغ القمر وأفوله إنه علم أنه ضال إن اعتمد على تفكيره من غير أن تلمسه نعمة الهداية من الله الذي علم مظاهر ألوهيته، وتلمسها فيما يعتقد قوِم أبيه في الكواكب والنجوم -، والشمس والقمر، وقال: (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) أقسم أنه أصبح في حاجة إلى هداية من ربه يهتدي بها في هذا الديجور، فاللام لام القسم، واللام الأخيرة في جوابه، وأكد أنه يكون من الضالين الذين لَا سبيل عندهم إلى الهداية إلى الحق في الألوهية، إن لم يهده ربه الذي لَا يعرفه، ويريد أن يعرفه.
وإن هذا الكلام يدل على أنه يعلم أن له ربا هو الذي أنشأه ورباه، ويقوم على حفظه وصيانته، ولكن ما هو؛ لقد تلمسه في كوكب ساطع من الكواكب في دُجُنَة الليل البهيم كأهل بلده، فلم يجده، وتلمسه في القمر فلم يجده، فاتجه طالبا الهداية إليه، وإن كان لم يعرفه في النجوم.
ثم عاوده طلب المعرفة في الشمسِ الساطعة التي هي ضياء الوجود، وتمده بالدفء والحرارة.
* * *
* * *
تتبع الكواكب متدرجا إلى القمر، ثم تدرج إلى الشمس التي تمد الوجود كله بالنور في النهار، والدفء في الليل والنهار، وتمد الأحياء من
انتهت نظرات إبراهيم الناشئ. وسياق المؤرخين يدل على أنه في ذلك الإبان كان ناشئا، ولم يكن قد بلغ أشده - اتجه إلى رفض عبادة النجوم، والأصنام التي تسمّت بأسمائها، واتجه إلى خالق الكون وما فيه، ومن فيه، وإنه قد آمن بأن له موجدا لَا محالة، وبطل أن يكون كوكبا أو نجما، أو قمرا أو شمسا، فلم يبق إلا أن يكون موجودا واجب الوجود، وليس واحدا مما رأى.
ولذا اتجه إليه وحده، لَا على أنه قد عرف ذاته، ولكن عرف وجوده وكفاه ذلك معرفة؛ ولذا قال الله تعالى عنه.
* * *
* * *
إني وجهت نفسي، وعبر عن ذلك بوجهه؛ لأن الوجه هو الذي يواجه به، ويتجه به إلى ما يتجه، ولأنه مظهر الخضوع والطاعة وبه يكون السجود، فكان الوجه له مظهر يجعله صالحا لأن يعبر به عن الجسم كله.
اتجه إلى الخالق لأنه عرفه مما خلق، والأثر يدل على المؤثر، و (فطر) معناها أنشأه وأوجده على غير مثال سبق، وهذا يدل على أن الفطرة السليمة تدرك بذاتها من فطرها؛ ولذا قال تعالى في دين الحق: (... فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكثرَ النَّاسِ لَا يَعْلَقونَ).
وإن بعض العلماء كالظاهرية يرون أن إدراك الله تعالى بدهيٌّ يدرك بالبداهة، لَا بالبرهان ذلك أن إبراهيم - عليه السلام - أدرك الله تعالى بفطرته بعد أن أبعد عنها ضلال الوثنية، ولأن أوهام الوثنية غشاء صفيق يحول بين الفطرة وإدراكها السليم.
وقد وصف نبي الله إبرهيم بقوله: (حَنِيفًا) أي متجها ناحية الحق وحده دون غيره، فهو الحق وإن لم أرَه وهو الكمال وإن لم أحسه بالجارحة فقد أدركته بعقلي وقلبي، وهو ملء نفسي.
وقد ختم بقوله: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) نفي أن يكون من المشركين، فذكر ضمير المتكلم في موضع النفي، وقد نفي أن يكون في عداد المشركين الذين أشركوا النجوم مع الله أو الأصنام التي تسمت بأسمائها، وبذلك انخلع من الشرك وأهله، وصار حجة للمؤمنين على الكافرين.
* * *
(وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)
* * *
انتهى إبراهيم بعد أن تعرف الكواكب وأحوالها، وأن واحدا منها لَا يمكن أن يكون الذي يعبد، وأن الأصنام لَا تنفع ولا تضر اتجه إلى خالق الكون، واعتزل الشرك، وقال: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُون مِن دُونِ اللَّهِ...). وبعد هذا أخذوا يحاجونه في أمر أصنامهم وقوتها وهددوه بأنه سيصيبه منها ضرر، وهو يقول لهم: إن كانت تأكيد وتضر، فكيدوني ولا تنظروني.
والمحاجة التي أقاموها بينهم وبينه كانت محاجة بين اثنتين أحدهما اعتمد على الهداية والعقل، والثاني اعتمد على الخرافة والوهم، ولقد قال تعالى:
وتدل الآية الكريمة على أن أوهامهم زينت لهم أن أصنامهم قادرة على إنزال الأذى فخوفوه من الأذى، وقد ذكر سبحانه وتعالى محاجتهم لإبراهيم - عليه السلام - في مواضع من كتابه العزيز، فقد قال تعالى: (قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦).
وجاء في محاجتهِم: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (٦٩) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (٧٠) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (٧١) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢).
هذه عبارات من المحاجة التي أثبت بها أنه سبحانه وتعالى هداه، ولا يصح أن يتوهموا أنه يعود إليهم بعد أن هداه الله وقد هددوه بأن تصيبه آلهتهم بأذى رجاء أن يخاف ويسكت عن أصنامهم فحطمها، وجعلها جذاذا إلا كبيرها.
ولكنه قد اعتصم بالله تعالى، وهو يرى أنها لَا تضر ولا تنفع، وهكذا نجد العقل والهدى في صدام مع الوهم والضلال؛ ولذا قال لهم في إدراك عقلي مستقيم:
وقد كان إبراهيم حريصا في إجابته، ويخشى أن يصيبه قدر، فيتوهمون أن ذلك من سر آلهتهم، فقطع عليهم - عليه السلام - أسباب ذلك، وقال مطمئنا إلى قضاء الله تعالى: (إِلَّا أَن يشَاءَ رَبِّى شَيْئًا) هذا استثناء يدل على أمرين: أولهما - تفويضه لله تعالى في كل أموره، وأنه راض بما يقدره الله تعالى له، يتقبل ما يأتي به، وأنه وحده الذي يفعل ما يشاء.
ثانيهما - الرد عليهم في أن أصنامهم تستطيع أن تفعل شيئا، إنما الأمر كله لله وحده، هو الذي يصيب بالضرر إن شاء وهو الذي ينزل الخير من سحائب رضوانه إن شاء.
وأنه قادر على ذلك، وهو القادر وحده، وهو العليم بكل شيء يضع الأمور في مواضعها، لَا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وكل شيء على مقتضى علمه بما كان، وما سيكون، ولذا قال تعالى: (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) وهو تمييز محول، ومعناه: وسمع علم ربي كل شيء، وفي تأخير التمييز إيهام مؤقت للتشويق، وبذلك يثبت في النفوس علم الله تعالى فضل ثبوت.
وذكره لله تعالى بوصف " ربي " للدلالة على أنه يستشعر معنى الربوبية دائما، فهو الذي رباه، وهو الذي يحميه ويحفظه من كل ضر وسوء، إلا أن يكون ذلك من حكمة أرادها، وهو العليم الخبير.
ثم قال تعالى: (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) الهمزة للاستفهام، والفاء للإفصاح، والمعنى إذا كان الأمر كله بيد الله تعالى وأن أحجاركم لَا تنفع ولا تضر، أفلا
إن حال هؤلاء الذين ساروا وراء الأوهام عجب، يخوفون نبي الله تعالى من أن يصيبه سوء من أحجارهم التي لَا تضر ولا تنفع كما هو مشاهد بالحس ومدرك بالعقل، ومع ذلك لَا يخافون أن ينزل بهم مقت من الله تعالى الذي يملك الوجود كله، اكهتهم، وغيرها.
ولذا قال تعالى على لسان إبراهيم - عليه السلام:
* * *
* * *
الاستفهام هنا للتعجب من المفارقة التي كانت منهم، وهي مفارقة عجيبة يخوفون إبراهيم من أن تصيبه آلهتهم بسوء، ومع ذلك لَا يخافون هم من إشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطانا، والعجب من ناحيتين: أولاهما - أن أصنامهم لَا تملك نفعا ولا ضرا، والله تعالى يملك كل شيء يملك النفع والضر، والإنقاذ من أسباب الضرر.
وثانيتهما - أنهم يخوفون إبراهيم - عليه السلام - ولا سبب للتخويف ولا يخافون، وقد توافر سبب الخوف، وقوله تعالى: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا) قالوا: السلطان هو الحجة، وقد ورد السلطان بمعنى الحجة في آيات من القرآن الكريم، قال تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ...).
وقد رتب الله تعالى على هذه الحال أن قال تعالى: (فَأيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ). الفاء هنا فاء الإفصاح الذي يفصح عن هذا الشرط المقدر، أي إذا كنتم تلجأون إلى من لَا يضر ولا ينفع، وتحسبون أنه يمس من لا يعتقد به، وإبراهيم يلجأ إلى الله تعالى الذي يملك كل شيء، فأي الفريقين أحق بأن يكون في أمن لَا خوف أهو الذي يلجأ إلى الله القادر على كل شيء أم الذي يلجأ في عبادته إلى أصنام لَا تضر ولا تنفع؛ وعلق سبحانه وتعالى الحكم على العلم؛ لأنه لَا حكم من غير علم؛ ولذا قال سبحانه وتعالى: إِن كنتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تدركون الأمور على وجهها، ولا تسيطر عليكم الأوهام التي تضل ولا تهدي، وقال في أداة التعليق التي تفيد الشك في العلم، لَا اليقين فيه، وإنه لا ريب الحكم واضح بين، وهم الذين يعبدون الله وحده، ولا يلجأون إلا إليه في خوفهم.
ولذا قال تعالى في بيان الفريق الآمن:
* * *
* * *
إذ الأمن من الخزي في الدنيا، ومن عذاب الله تعالى في الآخرة، يكون لفريق الإيمان، وهم الذين يؤمنون بالله تعالى ولا يخلطون إيمانهم بأي ظلم، ولا يعبدون مع الله غيره، ولا يقدمون أي شيء إلا بأمره، و " لبس " هنا معناها خلط.
وقوله: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) هنا فسره النبي - ﷺ - بالشرك، روي أنه لما نزلت هذه الآية (الًّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) شق ذلك على أصحاب رسول الله - ﷺ -، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه، فقال - ﷺ -: ليس الذي
وكان الشرك ظلما، لأنه تجاوز الحد المعقول، إذا كان الظلم تجاوز الحد، فالشرك أشد الأمور تجاوزا للحد، وقد فسر الزمخشري الظلم بالمعصية سيرا على مذهب من أن مرتكب الكبيرة غير مؤمن، وقد نرى تفسيره من غير أن ننتهي إلى نهايته؛ لأن العصاة وإن كانوا يدخلون في أهل القبلة ليسوا في أمن من العذاب إنما يعذبون بمقدار ذنوبهم إلا أن يتغمدهم الله تعالى برحمته.
وقال بعض المفسرين: إن الظلم الذي يعد شركا ما يلبسون به إيمانهم وهو الذي يقرره عباد الأوثان من أنهم يؤمنون بأن الله خالق السماوات والأرض ولكنهم يجعلون الأوثان مع الله لأنهم يقربونهم إلى الله زلفى، كما جاء في قوله تعالى (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (٣).
وإن هذا التفسير ينتهي إلى أن الشرك هو الظلم، ولكنه يبين لنا لماذا عبر الله تعالى بقوله: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) أي بشرك، فإنه يكون هذا التعبير ردا على المشركين الذين يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فإنهم يكونون مشركين في عبادتهم، ولو كانوا معتقدين أن الله وحده هو الذي خلق السماوات والأرض، وأنه وحده الذي ينجي من ظلمات البر والبحر، وأنه وحده الذي يكشف الضر، وأنه وحده الذي يلجأ إليه، وإنهم مع هذا الاعتقاد مشركون أوثانهم مع الله تعالى في العبادة، ومناط الشرك هو الإشراك في العبادة، وخلوص النفس في العبادة لله وحده هو الوحدانية الحق، وقد قرر الله تعالى أن الأمن لهؤلاء الذين لم يخلطوا إيمانهم بشرك، ولذا قال تعالى: (أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) الإشارة إلى الموصوفين بالإيمان الذي لم يخالطه ظلم أو شرك،
________
(١) متفق عليه رواه البخاري. ورواه أحمد. وفي آخره زيادة: " إنما هو الشرك ". مسند المكثرين - مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (٣٥٧٨).
انتهت محاجة إبراهيم لقومه الذين كانوا يعبدون الأوثان والكواكب والنجوم، وقد كانت محاجة بين حكم العقل، وحكم الأصنام، وانتهت المحاجة ببيان أن الأمن والهداية في جانب الحق، ولقد قال سبحانه وتعالى إن حجة إبراهيم هي حجة العقل، وهي الجديرة بأن تنسب إلى الله، ونسبها الله سبحانه وتعالى إليه. فقال تعالى:
* * *
* * *
الإشارة في قوله: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا) هي الإشارة للبعيد، وهي تبتدئ من وقت أن جن الليل فرأى كوكبا فظنه ربه، ثم لما أفل نفر منه، وأنكر أن يكون ربا، ولما رأى القمر بازغا ظن هذا ربه، فلما أفل أحس أنه ضال إذ يتبع النجوم والكواكب في أفلاكها ثم رأى الشمس، فبهره ضياؤها وحجمها، فظنها ربه فلما أفلت علم أن ربه ليس كوكبا، ولا نجما مهما يعظم حجمه، وأن ربه هو خالق الشمس والنجوم، والوجود كله، ثم من بعد ذلك حاجه قومه فأفلج عليهم، الإشارة إلى كل هذا فكانت للبعيد، ولعظم الفكر وقوة الاستدلال مع البعد كانت الإشارة للبعيد، وأضاف الله سبحانه وتعالى الحجة إلى ذاته العلية إعلاء لمكانتها، ولصدقها، وتشريفا لمن أجراها على لسانه وقلبه، وقوله تعالى: (آتَيْأَهَا) أي أعطيناها له بإلهام الفطرة السليمة، والعقل الحنيف الذي لَا يميل إلا للحق، ولا يتجه إلا إليه، وكانت هذه حجة قوية، أفلج (١) بها على قومه، وقامت حجة
________
(١) من الفَلجُ: الطفَرُ، والفوزُ. كما في القاموس.
وإن الله تعالى اختار إبراهيم أبا الأنبياء لتقوم به الحجة؛ لأنه لم يخلق الناس في الفكر والعلم على سواء فمنهم الهادي المرشد، الذي اختاره الله تعالى ليكون رسول الحق إلى الناس، ورسوله إليهم، ومنهم الضال الذي يطلب الهداية ومنهم من أركس في الشر، وختم الله على بصيرته وسمعه وبصره، فلا يدرك حقا، ولا يستمع لداعي الحق؛ ولذا قال تعالى: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) الدرجات المراتب العالية في الهداية والتوفيق، وعبر سبحانه وتعالى بالمضارع " نرفع " لتجدد الرفعة المستمرة، فالوجود الإنساني يستمر الخير فيه بوجود الهداة المرشدين، والمستمعين الأخيار الذين يستمعون فيقولون سمعنا وأطعنا، وبجوار هؤلاء أولئك الذين يستمعون طيب القول، فيقولون سمعنا وعصينا، وبذلك يتفاعل الخير والشر في هذه الحياة، وسيق لبيان العاقبة للمتقين، قال تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٦٩).
وقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ). إن الله الذي رباك وقام على نفسك وعلى عقلك، وهدى الأنفس فجورها وتقواها، وعلمك ما لم تكن تعلم، عليم بكل شيء، حكيم يضع كل شيء بميزان، وله فيما يشاء ويختار الحكم والعبر البالغات، تبارك الله رب العالمين.
* * *
(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (٨٩)
* * *
بعد أن بين الله تعالى هداية إبراهيم - عليه السلام - والتفكير المستقيم الذي هداه إلى ربه، وأن الله رفعه بذلك الإدراك المستقيم، ليكون هاديا مرشدا، ذكر الله سبحانه وتعالى ذريته من النبيين الهداة المهديين من بني إسرائيل، ومن العرب، وأشار سبحانه إلى من سبقه من النبيين، فذكر نوحا، وهو من قبله.
لم يستطع إبراهيم المقام في قومه بعد أن بلغ ما بلغ من الإدراك، وبعد أن اتسعت الهوة بينه وبينهم عندما جعل أصنامهم جذاذا وألقوه في النار، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (٥١) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ
رأى إبراهيم ذلك، وأنه لَا مقام له بينهم، ولا قبل له بتحويلهم، فهاجر واعتزلهم، وأخذ يطوف في الآفاق فذهب إلى بلاد الشام، وإلى مصر، وأخذ رسول التوحيد يبث التوحيد في كل ركن، ولا يصاحبه إلا امرأته ومعه ابن أخيه لوط عليهما السلام.
عوضه الله تعالى عن هذا الانفراد في هذا التطواف أن وهب له إسحاق ويعقوب، ومن جاء من ذريتهما، وأن جعل من ذريته إسماعيل ويونس ولوطا.
وإذا كان قد عاش مفردا داعيا إلى الله تعالى بين الوثنيين في الأرض فقد عوضه عن هذا الانفراد بأن جعل في ذريته النبوة والحكمة، وقد قال تعالى فور اعتزاله لقومه، وهجرته عنهم: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا). وإن هذه المهمة لم تكن فور اعتزالهم، بل بعد أن جاهد داعيا إلى الوحدانية في وسط المدينة حينما كان في
ولقد ذكر سبحانه وتعالى فيمن وهبهم له من الأنبياء خمسة عشر نبيا، وذكر نوحا من قبله، لأنه أبو الخليقة بعد آدم - عليه السلام - فهو الأب الثاني.
ولقد ذكر الله تعالى طائفة من أنبياء الله تعالى من ذرية إبراهيم بلغ عددها كما ذكرنا خمسة عشر نبيا، كان لكل منهم مزية خصه الله تعالى بها، وذكر رسالة نوح من قبل.
وإن الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم في هذه الآيات من ذرية إبراهيم أولا: إسحاق ويعقوب، لأن إسحاق أول أنبياء بني إسرائيل، وهو الأب الأول لهم، ويعقوب الذي يسمى إسرائيل، وينسبون إليه، وجاء الرسل والأنبياء من بعده، وقال تعالى عنهما
بعد ذلك ذكر الله تعالى ذريته من غير ترتيب زمني، ولا ترتيب في المكانة، وتلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، ومن غير تفرقة بين أولي العزم من الرسل، وغيرهم، بل ذكرهم القرآن فيما يبدو مجموعات ظاهرة تجمع كل مجموعة منها صفة بارزة فيها.
المجموعة الأولى - بعد ذكر نوح وإسحاق ويعقوب الذين كان لكل واحد منهم هداية بعثه الله تعالى بها، وإن تلاقت الهدايات كلها، لأنها من الله تعالى موحد الشرائع، وهم: داود وسليمان، وأيوب ويوسف، وموسى وهارون وهذه المجموعة تمتاز بالصبر، وهو واضح في حياة كل نبي منهم، فداود وسليمان كانا خليفتين في الأرض، ولهما ملك شرقي وغربي، والملك العادل يحتاج إلى صبر حكيم بالامتناع عن الظلم، وهو شهوة الملوك وداؤهم، وإن الصبر على نعمة
وكان داود وسليمان، من رجال الحرب الذين لقوا بأسها وشدتها، والصبر في البأس أمر واضح بين، وأيوب - عليه السلام - صبر على الضراء إذ نادى ربه رب أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، وقد ضرب به المثل في الصبر على الضراء لكل من يصيبه ضر، حتى لقد قالوا في أعلى درجات الصبر، إنه صبر أيوب، فقد صبر من غير أنين ولا شكوى، مع الرحمة والمحبة لمن عاشره في ضرائه.
ويوسف - عليه السلام - كان عبدا صابرا، صبر على كيد إخوته، وإظهارهم البغض والعداوة، ثم صبر على نعمة السلطان بعد ذلك، فاجتمع له نوعان من الصبر، صبر على البأساء والشديدة حتى إنه ليسترقّ، وصبر عن هوى الشيطان وكف لشهوة النفس، وإنه رأى برهان ربه في أدق المواقف انفعالا نفسيا، وتعرض لمهاوي الشهوات، (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ...). وصبر على السجن مع الإحساس بالبراءة، وصبر على كيد النساء مع الكتمان من غير إفحاش، ولا تفحش، ابتلاه الله بترغيب النساء، فتقبل السجن عن أن يكون تحت إغرائهن: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكن مِّنَ الْجَاهِلِينَ).
وهكذا نجد المغالبة بين الإغراء الجارف، والصبر والعزيمة، وضبط النفس من الشاب القوي الجميل، ولقد هيا الله تعالى من بعد ذلك لهذا الشاب القوي أن يجلس على عرش مصر، فيكون الصبر على العدل، وتنظيم سياسة الاقتصاد، ومدافعة أهواء الناس، مع الصبر على البعد عن الأقارب، وعن أبيه الصابر الشفيق
________
(١) الأرِيبُ: العاقلُ. ورَجُل ارِيب من قوم أرَباء. لسان العرب.
وموسى وهارون، وكانا من عباد الله الصابرين، صبرا على أذى فرعون لقومهما، كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وصبر موسى كليم الله الذي عاش في بيت فرعون عدو قومه، فصبر على مجابهة أهله، حتى اجتذب بصبره وتحمله من آمن من آل فرعون، وكان على رأسهم امرأته الطيبة الطاهرة.
وصبر كليم الله تعالى على بني إسرائيل بعد أن خرج من أرض فرعون، صبر على فساد قلوبهم، فكان يعالجه بصبر المؤمن التقي الهادي، وصبر على كفرهم، وعاود دعوتهم إلى الإيمان، وصبر عندما اتخذوا العجل إلها، وصبر عليهم وهم يقولون اجعل لنا إلها، كما لهم آلهة.
دعاهم إلى القتال ليدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله تعالى أن يدخلوها، فقالوا له: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.
ثم كان القتال بهؤلاء المستخذين الضعفاء في أنفسهم، الأقوياء في أبدانهم تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، وإني أحسب أن صبره عليهم، كان كصبر أيوب، وإن اختلف الشكلان، والنوعان، ولكن كليهما صبر.
وختم سبحانه الآية بقوله: (وَكذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ) أي كهذا الجزاء من الهدى نجزي المحسنين، وحيث كان الإتقان والإحسان كان الصبر.
والمجموعة الثانية - تمتاز بالروحانية والزهادة في الدنيا إلا ما يكون للحلال الصرف وهم زكريا ويحيى وعيسى، وإلياس، فزكريا هو الذي كان قائما على المسجد الأقصى، وهو الذي ربَّى مريم البتول (... وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ...).
وعيسى كانت ولادته معجزة، وكانت حياته كلها معجزة، وقد أتى بالبينات، كان ينفخ في الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله، وينادى الموتى فيخرجون من قبورهم بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وينبئهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، وإلياس كان قليل الطلب للحياة وملاذها كإخوانه من أولئك ذوي الأرواح الطاهرة، وإنه حيث كانت المادة كان النزاع في الأرض، وحيث غلبت الروحية كان الصلاح في الأرض، وكان منع الفساد، ولذلك قال تعالى عقب ذكر هذه المجموعة الطاهرة النى امتلأ قلبها بنور الله والروح الزاهدة. وقد وصفهم الله تعالى بوصف الصلاح الكامل، لأنه ذهبت عنهم كل أدران المادية الداعية إلى النزاع في الأرض
المجموعة الثالثة - هي ذرية إبراهيم من العرب، وهم إسماعيل باني الكعبة مع أبيه، وابنه البكر، والذبيح الذي فداه الله تعالى بذبح عظيم، وقد قال: يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين، واليسع ويونس، ولوط وكان ابن أخيه، فكان من ذريته بهذا الاعتبار.
وكان من صلب إسماعيل محمد - ﷺ -، وبهذا كان لهم فضل فوق كل فضل سبقه؛ لأنه اجتمع في محمد - ﷺ - الصبر والإقدام في موطن الإقدام، والروحانية بما لَا يقل عن روحانية عيسى، ولذلك قال تعالى:
المستقيم هو صراط الحق جل جلاله، ومن سار فيه لَا يضل ولا يغوى. وإن ما عليه أولئك النبيون من صبر في النعماء والضراء، والقوة والضعف، والشدة والرخاء، ومن سيطرة للروح على الجسد، وجعله خادما لمطالب الحياة، والعزة التي لَا ذلة فيها، والتواضع الذي لَا ضعة فيه، هذه هي الهداية تؤخذ من أخلاق النبوة، هذا هدى الله تعالى؛ ولذا قال تعالى بعد قصص الأنبياء السابقين:
الإشارة هنا للتقييد، وهو ما ذكر من إحسان الأنبياء وروحانيتهم، وما فعلوا من خير هو هدى الله تعالى المنسوب إليه، المطلوب من العباد من اتباع النبيين، يختار الله من عباده من يهديه، إذا سار في طريق الخير، واتبع سواء السبيل فإنه إن اتجه إلى الله هداه الله، وإن اتجه إلى الشيطان، أكسبه الله تعالى فضلا، وفي نفسه أسباب الهداية، ولكنه طمسهأاغواء الشيطان.
وقد قال تعالى: (مِنْ عِبَادِهِ) فالجميع عبيد لله تعالى يهدي إلى الحق من كتب الله له الهداية على النحو الذي بيناه وإن هؤلاء، وصلوا إلى ما وصلوا بالوحدانية (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ). " لو " كما يقول النحويون: حرف امتناع لامتناع، أي امتناع الجواب لامتناع الشرط، أي لو أشركوا، وهو ممتنع عليهم لاختيار الله، لحبطت أعمالهم وهو أيضا ممتنع لامتناع الشرط،
والشرط هنا مع امتناعه وامتناع الجواب للتحريض على الوحدانية، وترك الشرك تركا تاما، وبيان أنه يحبط كل عمل يظن فيه الخير، ألا ترى أنه يحبط عمل الأنبياء، وهداهم، فكيف لَا يحبط عمل من دونهم، فالنص تقبيح للشرك أيَّا كانت صورته، وحث لهم على فعل الخير، وحمايته بالوحدانية.
ولقد بين الله سبحانه وتعالى ما آتي به النبيين من فضل، فقال تعالى:
* * *
* * *
الإشارة إلى الأنبياء الذين ذكر الله تعالى بعضهم بأسمائهم، ورتب جموعهم من حيث الغالب على أوصافهم، و (آتاهم) معناها أعطاهم.
والكتاب هو الكتاب المنزل، والمراد جنس الكتاب، وليس كتابا معينا كالقرآن أو التوراة، ومعنى أوتوه أنهم أوتوا علمه، وعلموه، ونشروه وتوارثوا ما اشتمل عليه، فيشمل الذين أوتوه من - نزل عليهم، ومن جاءوا داعين إلى ما فيه، والتكليفات التي اشتمل عليها، كبعض الأنبياء الذين لم ينزل عليهم كتاب، ولكن بينوا الكتاب الذي جاءوا لبيانه، كأيوب ويوسف، وسليمان، ويشمل الذين أوتوا - من عملوا به وأقاموا دعائمه من أتباع النبيين المخلصين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا ولم يحرفوا، ولم يبدوا قراطيس يبدونها، ويخفون كثيرا منها.
والحكم، وهو الفصل بين الحق والباطل والظلم والعدل، والصالح والفاسد، ويدبرون الأمور على الهدى، والشرع.
والنبوة، وهي الإنباء عن الله بخطاب منه سبحانه، وما كان خطابه سبحانه إلا أن يكلم من وراء حجاب، أو يوحى إليه أو يرسل رسولا. وقد أفرد الله سبحانه وتعالى النبوة بالذكر مع أن ما مضى يتضمنها، وذلك لشرفها باتصالها
ولذلك قال تعالى: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ).
الإشارة إلى هؤلاء الذين أنكروا النبوة، وكان من المشركين من قريش وغيرهم من كانوا يجابهون النبي - ﷺ - بإنكار أصل النبوات، وأن تكون مع النبي رسالة في قرطاس من الله سبحانه وتعالى أو يكون معه ملك، كما سيذكر الله تعالى من بعد ذلك، (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ...)، وسيجيء الكلام في هذه الآية قريبا إن شاء الله تعالى.
كان المشركون ينكرون أصل النبوة، فالإشارة في قوله تعالى: (فَإِن يَكْفرْ بِهَا هَؤُلَاءِ) هو الإشارة إلى قوم النبي - ﷺ - الذين أنكروا نبوته، وحاربوا رسالته، وآذوه هو والمستضعفين من المؤمنين، وصابرهم حتى كانت الهجرة وهذه السورة مكية، فتعينت الإشارة إلى من ناوءوا الرسول - ﷺ -.
وقوله تعالى: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ) شرط جوابه: (فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) ومعنى وكلنا، عهدنا إلى قوم من بعد كفركم يحفظونها، ويصونونها، وينقلونها للأخلاف من بعدهم جيلا بعد جيل، فيقال: وكلت فلانا بهذا الأمر أي عهدت به إليه يقوم عليه، ويحافظ.
وهؤلاء الأقوام الذين وكل الله بهم أمر النبوة المحمدية، ليسوا كافرين بها، بل يؤمنون ويصدقون، وقدم الجار والمجرور وهو (بها) على (كافرين)، للاهتمام، والتنبيه.
وإن هذا النص، فيه تبشير للنبي - ﷺ - ومن معه من المؤمنين بأن عهد الظلم والإيذاء سيأتي بعده عهد النصرة والقوة، وفيه تبشير للنبي - ﷺ - بأن هذا سينتشر
وأكد الله سبحانه وتعالى ذلك بـ (قد)، وأكد إيمان أولئك الذين سينصرونها بأنهم ليسوا بها بكافرين فنفى عنهم الكفر نفيا مؤكدا مستغرقا شاملا.
* * *
(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (٩٠) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩٢)
* * *
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى الأنبياء من ذرية إبراهيم ومن قبله، وما اختص به بعضهم من الصبر وشكر النعمة، والعدالة في القوة، وبعضهم من الزهد، والروحانية، وبعضهم من الصدق في القول والوعد، بين الله تعالى أن أولئك الأنبياء نالوا هدى الله، وصبروا على أقوِامهم، وأنه حق على محمد خاتم النبيين أن يقتدى بهم فقال تعالى:
والاقتداء الموافقة في سلوك الطريق الذي سلكوه، والهدى الذي اتبعوه، والمنهج الذي نهجوه، و (الفاء) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، لأنه إذا كان ذلك الهدى من الله فإنه يجب اتباعه، والاقتداء بهم فيه وتقديم (بهداهم) على (اقتده) للاختصاص، ومؤداه الاقتداء بهذا الهدى دون غيره، إذ إن الهدى هدى الله فلا هداية إلا هدى الله.
(هُداهم) كما أشرنا التوحيد، وألا تشركوا بالله شيئا، وما جاءوا به من شرائع أبدية لَا تتغير بتغير الأزمان، وبما اتصفوا به من صفات الصبر، والشكر والروحانية، والزهد، والصدق والأخلاق الكريمة، وإن الاقتداء يوجب الدعوة إلى هذا الهدى.
وإن هذا الكلام السامي يفيد أن الأنبياء الذين تختلف مراتبهم، وخواصهم، وصفاتهم كما قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ...).
قد أمر النبي - ﷺ - بالاقتداء بهم جميعا في صفاتهم كلها مجتمعة، فهو يكون بهذا الاقتداء جامعا لكل ما عندهم منهم؛ لأنه خاتم الأنبياء، ولأنه مخاطب للأجيال كلها، وأرسل للناس كافة بشيرا ونذيرا، فكان هو وشريعته صالحين لكل
وإذا كان ذلك مقام رسالته، فقد أوجب الله سبحانه وتعالى الدعوة إليها: لأنها الكمال البشري، وأنه لَا يريد منهم جزاء ولا شكورا؛ ولذا قال تعالى مخاطبا نبيه: (قُل لَا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) لَا أريد منكم أي أجر من مال أو جاه أو سلطان لقد ظنوا بادي رأيهم أنه يريد مالا فعرضوا عليه مالهم، أو يريد السلطان فيسودوه عليهم، فبين الله لنبيه أن يقول لهم إن شيئا من أعراض الدنيا لا يريدها، ولكن يريد الإصلاح والتذكير بالله واليوم الآخر (إِنْ هُوَ إِلَّا ذكْرَى لِلْعَالَمِينَ).
إن المقصود من إنزال الله تعالى القرآن على نبيه الكريم ليس مالا يأخذ، ولا سلطانا يفرضه، ولا سيادة يطلبها وإنما جاء للذكرى والموعظة والهداية للعالمين أي للعقلاء أجمين، فهو ذكرى لهم بما فيه صلاحهم، وقيام أمرهم، ونشر العدالة، وذكرى لهم باليوم الآخر، وما فيه من حساب وعقاب، وذكرى ربهم بأن يكونوا دائما ذاكرين، أي تذكر دائم لله تعالى، وفي ذكر الله طب للقلوب من أدوائها.
وإن ذكر هؤلاء الأنبياء ونسبتهم إلى إبراهيم - عليه السلام - تذكير لعرب مكة ومن حولها بالنبوة الأولى نبوة نوح أولا، ونبوة إبراهيم أبيهم الذي ينتسبون إليه ثانيا، وتعليمهم أن الله يرسل أنبياء ورسلا، ولا يصح أن يكفروا بإرسال الله تعالى، والعرب وقت بعث النبي - ﷺ - كان كلامهم ينبئ عن أنهم لَا يؤمنون برسالة ولا رسول، وجابهوا النبي - ﷺ - منكرين أصل الرسالة مستغربين لها، قال تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ...)، وقال تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (٩٤).
ولذلك نزل قوله تعالى ردا على كل من أنكر أن يرسل الله بشرا رسولا، وعلى من أنكر أن تكون الرسالة في غير بني إسرائيل؛ ولذا قال تعالى:
قَدَرَهُ أن تَعَرَّف مقداره بكيل أو وزن أو قياس، ولما صارت تطلق على العقلاء كانت بمعنى تقدير المعاني، والمعنى هنا (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ) ما علموه حق العلم، وما عظموه حق التعظيم، إذا اعتقدوا أن الله لَا يبعث بشرا رسولا؛ لأن ما خلق هذا الوجود الإنساني عبثا، بل بعثه ليتحمل الأمانة التي حملها بمقتضى فطرته، وليكون خليفة في الأرض وما كان ليبعثه، ويتركها من غير بشير ونذير، يرشده إلى الحق، وينذره لكيلا يقع في الآثام، فكان من مقتضى الحكمة الإلهية أن تكون الرسالة الإلهية ليهدي الرسول ويرشد، وينذر، ويجنب الإثم والشر (... وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)، وقال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نبْعَثَ رَسُولًا).
أنكر المشركون الرسالة الإلهية، وأنكر اليهود أن تكون في العرب، فرد الله تعالى كلامهم بالحجة الباهرة وأمر النبي - ﷺ - بأن يورد الحجة على لسان رسوله - ﷺ -، وكذلك كل أمر يرد الله به على باطل المعاندين يأمر رسوله أن يتولى هو الرد عليهم، بما أوحى الله تعالى به، وهذا ما يلاحظه المتتبع لكتاب الله تعالى بترك الرد على باطلهم للنبي - ﷺ - بأمره وبيانه.
قال الله تعالى آمرا نبيه: (قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَذِى جَاءَ بِهِ موسَى). أي بينا واضحا كالنور في تكليفاته ومعانيه، ليكون مصدر الهدى للناس، يعلمون التكليفات والعقائد السليمة منه، ويرشدهم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، إن أطاعوه، وأخذوا بما فيه، واهتدوا بهديه.
وقد اختلف في هذه الآية أنزلت بمكة، وهو الأصح، أو نزلت بالمدينة، والخطاب فيها ابتداء لليهود الذين غيروا وبدلوا ونسوا حظا مما ذكروا به، والقراطيس هي الصحائف من التوراة المكتوبة أبدوا بعضها، وأخفوا أخرى، وعلى بـ " مِن " أن الآية مكية، تكون قراءة الآية سائرة على مقتضاه، فيكون الاحتجاج بنزول الآية نقضا لعموم نفيهم إذ قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء فقد نفوا مؤكدين بمن أي بأي شيء، والنفي العام ينقض بإثبات أي جزء من المنفي، والجزء الذي ذكره القرآن هو نزول التوراة، وقد كانوا يعرفونها، وإن لم يقرأوها، ويتسامعون بينهم بها، وإن لم يتداولوها؛ لأنهم قوم أميون، وكانوا يلتقون باليهود، ويعرفون أنهم أهل كتاب دونهم؛ وذلك لأن أهل مكة كانوا تجارا يذهبون إلى اليمن وإلى الشام في متاجرهم فيمكن الاحتجاج عليهم بما عند اليهود إذ يعلمونهم، والمعنى أنه ثبت أن اليهود نزل عليهم كتاب هو في أصله نور وهدى، وذلك ينقض قولكم ما أنزل الله على بشر من شيء، وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى التوراة بالإكبار، لأنه كتاب من عند الله تعالى، ذكر سبحانه وتعالى ما فعله اليهود فيها مزقوها، وجعلوها قراطيس أبدوا بعضها، وأخفوا كثيرا، وليست الكثرة بمقدار ما أخفوا، ولكن بقيمته، وكان فيما أخفوا البشرى بمحمد - ﷺ - الذي ينكرون؛ وإن الرسالة التي أنكرتم أصلها، وألزمتم بها - فيها خيركم، وفيها رفعكم من مرتبة الأمية إلى العلم، وفهم الحقائق الدينية، ولذا قال تعالى:
(وَعُلِّمْتم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ) وعلى أن الآية مكية مع قراءة التاء، يكون على أنه بعد إثبات نزول التوراة الذي ينقض نفيهم يكون هناك التفات من الحديث عن الغائب إلى الحضور لتوبيخ اليهود على صنيعهم، فكان ثمة احتجاجان في
________
(١) (يجعلونه.. يبدونها.. ويخفون)، بالياء غيباً ابن كثير، وأبو عمرو، وقرأ الباقون بالتاء.
هذا كله على أن الآية نزلت بمكة، أما على أنها مدنية فيكون الخطاب ابتداء لليهود الذين كانوا يجادلون النبي - ﷺ - فقد روي عن ابن عباس أن اليهود قالوا في القرآن: ما أنزل الله كتابا، ويكون قوله تعالى: (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تبْدُونَهَا وَتخْفُونَ كَثِيرًا)، توبيخا شديدا لهم، ولوما عنيفا على تغيير في كتابهم وإنكار الحقائق الاعتقادية التي اشتمل عليها، وعلمتم بهذا الكتاب ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم، وافتريتم بأنكم أهل علم بكتاب، وجحدتم حقوق غيركم بانتمائكم إلى هذا الكتاب، وقلتم ما علينا في الأميين من سبيل، وإن كنتم بذلك ظالمين.
وتفسيرها على هذا واضح بين، وكونها آية مدنية في سورة مكية لَا يمنع، فإن العبرة بكون السورة مكية بالأغلب الكثير، لَا بالنادر القليل، وقد قال بعض الناس: إنها نزلت مرتين مرة في مكة وأخرى في المدينة، وأودعت في سورة مكية؛ لأنها نزلت فيها أول مرة، وعلى قراءة (يخفون) و (يجعلون)؛ يكون التفات عن اليهود تحقيرا لأمرهم، ومبالغة في توبيخهم على ما حرفوا وبدلوا.
سألهم الله تعالى على لسان رسوله الأمين (مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاءَ بِهِ موسَى) ولكن الجواب لم يجئ إلا في آخر الآية الكريمة، وكان الجواب الكريم الذي أمر الله نبيه أن يقوله: (قُلِ اللَّهُ) أي الذي أنزله الله تعالى القادر على كل شيء الذي لَا يبعد عن سلطانه شيء في هذا الوجود، وإذا كان قد أنزل التوراة فهو منزل القرآن، قال الله تعالى لشبيه: (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)، قل لهم (اللَّهُ) بإيجاز، ولا تزدهم، ليتفكروا أو يتدبروا بما فيه أمرهم إن كان فيهم عقل غير عابث، (ثُمَّ ذَرْهُمْ) أي اتركهم (فِى خَوْضِهِمْ) في القول الذي
وقد ذكر الله تعالى ذلك الكتاب الذي أنكروه، فقال تعالت كلماته:
* * *
* * *
(وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) الإشارة إلى الكتاب وهو القرآن ذكر الله تعالى أمورا ثلاثة، بعضها فيه معنى التعليل، وبعضها فيه تعليل بالغاية، وأولها أنه (مُبَارَكٌ)، ومعنى البركة النماء والزيادة، وإن القرآن مبارك في معانيه فهو يشمل كل علوم الدين والأخلاق، وفيه ذكر للكون، وفيه بيان العقيدة الإسلامية، وفيه أسماء الله الحسنى، وفيه أوصاف الله الذاتية، وثبوت الكمال المطلق لله تعالى، ونفي كل ما لَا يليق بالله، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وفيه كل أصول التكليفات الدينية، وفيه القصص الحق عن النبيين، وعن الأمم التي خالفت أنبياءها وكيف كان مصيرها، وإن معانيه وما كشفه ألفاظه تذهب في العقول إلى مذاهب من الإدراك لَا نهاية لها، وكلما أمعن القارئ في ألفاظه وعباراته أشعت منها نورا مبينا، وذكرا حكيما، حتى قال بعض الناس إن للقرآن ظاهرا وباطنا، إذ كلما أمعن فيه بالنظر، أدرك ما لم يكن من قبل، وهو يوجه الأنظار إلى علم الأكوان بإشارات لامحة، وعبارات واضحة.
ومهما نتكلم في معاني القرآن، فلن ندرك الغاية، ولا نقاربها، وهذا يصور معنى أنه مبارك الأمر الذي في القرآن أنه مصدق الذي بين يديه، ونجد اللفظ عاما لكل ما بين يديه من أخبار الأنبياء السابقين وأخبار أقوامهم، والعبر، والمثلات فيهم، فهو سجل النبوات، ومعجزات الرسل، وكان كذلك ليعلم بها من يعلم، ومن عنده العظة والاعتبار، كما قال تعالى: (... إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ)، ومصدقا للكتب السابقة من التوراة والإنجيل والزبور.
وإنذار أم القرى هو إنذار أهلها، وإطلاق المكان وإرادة أهله هذا كثير في القرآن، ومن ذلك قوله تعالى: (فَلْيَدْعُ نَادِيَه)، وما كانت البقع والمباني لتنذر إنما ينذر أهلها.
(وَمَنْ حَوْلَهَا) من مساكن سواء أكانت لأهل المدر أم كانت لأهل الوبر، بل يمتد ما حولها إلى الفرس والشام وما وراءه والرومان وغير ذلك، للدلالة على عموم الرسالة المحمدية، ولقد قال النبي - ﷺ -: " كان كل نبي يبعث لقومه، وبعثت للأحمر والأسود " (١). ولقد قال تعالى في عموم رسالة النبي - ﷺ - بالقِرآن: (... وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)، وقال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (٢).
وهكذا نجد الآيات الكثيرة الدالة على عموم الرسالة المحمدية، وهو خاتم النبيين، فلا نبي بعده، وما كان الله تعالى ليترك عباده سدى من غير نذير يرهب بسوء عاقبة الشر، وبشير يبشر بحسن العاقبة لأهل الخير.
________
(١) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَكَانَ النَّبِيُّ إِنَّمَا يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، فَلْيُصَلِّ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ ". رَواه أحمد: باقي مسند المكثرين - مسند جَابر رضي الله عنه (١٣٨٥٢). وأصله عند البخاري ومسلم بنحوه.
ولذا أخبر تعالى أن الذين يؤمنون بالآخرة هم الذين يؤمنون بالقرآن فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنونَ بِهِ) ذلك أن الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بالحق والخير؛ لأنهم يرون أن الحياة الدنيا فيها التنازع بين الخير والشر، بين النفس اللوامة، والنفس الأمارة، ولا بد أن ينتصر الخير، لأنه الفطرة، ولا يكون ذلك إلا بحياة أخرى، ولأن الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بحكمة الإيجاد والتكوين، ولا يمكن أن تكون نتيجة الحياة النهائية هي تلك المغالبة وذلك التناحر، وفوق ذلك أن الإيمان بالغيب يجعل النفس مستسلمة لله تعالى راضية بما عنده، وما أعده لها من نعيم، فلهذا كان الإيمان بالآخرة والإيمان بالقرآن العظيم متلازمين لَا ينفصلان، فمن آمن بالآخرة آمن بالقرآن، ومن آمن بالقرآن آمن بالبعث والنشور والقيامة واليوم الآخر.
وإن كمال وصف المؤمنين بالقرآن أن يكونوا صالحين غير مفسدين، وألا يعملوا إلا معروفا، ولا يقع منهم منكر، وذلك بالصلاة التي هي عمود الدين لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتملأ النفس بذكر الله، وبذكر الله تطمئن القلوب، ولذا قال تعالى: (وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) وتقديم الجار والمجرور لبيان أن اختصاص الصلاة بالمحافظة يؤدي إلى كل الخير، والمحافظة عليها بإقامتها مستوفية الأركان حسا ومعنى، وامتلاء النفس بخشية الله تعالى، وأدائها في أوقاتها فإنه بهذا يكمل الدين، ويتم الإيمان.
* * *
* * *
بين الله تعالى منزلة كتابه الكريم وذكر أنه الحق الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد بدأ سبحانه وتعالى بذكر ظلم من يفترى عليه سبحانه، ويدعى أنه أوحى الله تعالى إليه، ولم يوح إليه بشيء، فقال تعالى:
الاستفهام في قوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ) هو للإنكار بمعنى النفي، وفيه من التنديد بالذين يفعلون ذلك أشد التنديد، وقد ذكر سبحانه افتراءهم على الله بنفيهم إنزال الرسل، وقولهم: (... مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ...)، والآن يبين أنهم لَا يقفون موقف الإنكار، بل يبهتون ويكذبون ويفترون، وذكر سبحانه طوائف ثلاثة ترتكب في حق الله تعالى أشد الظلم لأنفسهم
أولى هذه الطوائف التي افترت على الله تعالى كذبا، أي اختلقت على الله كذبا، والافتراء هو اختلاق الكذب، وهو يتضمن معنى الكذب، ولكن صرح بالكذب، لبيان شدة افترائهم، واختلاقهم، وكلامهم الباطل الذي ليس له أصل من الحق أو الحقيقة كعبادتهم الأوثان، وادعاء أنهم يقربونهم إليه زلفى، وكادعاء النصارى أن لله ولدا، وأنه إله، وكتحريم المشركين بعض النعم على أنفسهم، وتحريم البحيرة والموصولة، وغير ذلك، وكافترائهم على الله بأنهم أولياؤه وأحباؤه، فهؤلاء في أشد أحوال الظلمة.
الطائفة الثانية - تلك التي تدعي أنه أوحى لها، ولم يوح إليها بشيء كبعض المقربين من النصارى مثل بولس الذي كان وثنيا، وادعى بعد ذلك دخوله في دين المسيح وحوَّله من وحدانية، إلى وثنية، وادَّعوا أن من سموهم رسلا أوحى إليهم وتجلى لهم روح القدس، وغير ذلك من الأوهام الباطلة، والأكاذيب التي ما أنزل الله بها من سلطان، وكبعض الأعراب الذين كانت منهم نواة الردة الذين ادَّعوا أنه يوحى إليهم كما يوحى إلى محمد - ﷺ -.
الطائفة الثالثة - التي ادَّعت أن القرآن لَا يعجز، وأنها ستنزل مثل ما أنزل الله تعالى من قرآن، وقد أخبر تعالى عنهم، فقال: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ).
هؤلاء الطوائف الثلاث هم أظلم الناس، لأنهم كذبوا على الله تعالى، وأضلوا أنفسهم وأضلوا الناس وكان كلامهم افتراء، وإن هذا النوع الذي يبهت الناس بالباطل هو الذي نشر الأديان الباطلة والأوهام الكاذبة، وما من عقيدة باطلة تنتشر إلا بظلم هؤلاء، ومن تبعهم.
وإن هؤلاء مآلهم جهنم وبئس المصير، وقد صور الله تعالى حالهم، وأرواحهم تنتزع من أجسامهم، والأيدي تبسط إليهم بالعذاب الشديد العتيد المهيأ
وقول المعتدى عليه من ولدى آدم: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِط يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) أالمائدة، فمعنى قوله تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ) أي بالضرب والعذاب الذي لَا مناص منه، ولا يمكنهم التخلص منه ولا الخروج، والملائكة يقولون لهم بالقول أو بلسان الحال: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ) أي أنه قد أحيط بهم فلا خلاص لهم، ويقال أخرجوا أنفسكم إن استطعتم إلى الخروج سبيلا، فهو مصيركم ونهايتكم، وما صرتم إليه، بأعمالكم المتكافئة بالشر التي حبط فيها كل خير، لأنه قد طمس على بصائركم.
وقال بعض المفسرين: إن قوله تعالى (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ) خطاب لهم حال الاحتضار كأنه يقال لهم سلموا أنفسكم لنا وقد علمتم أن هذا اليوم هو ساعة الأداء لما كسبتم وما قدمتم فتأخذوا جزاءه، وقالوا: إن هذا تشبيه لحالهم بحال المدين الذي يلازمه غريمه، فلا يستطيع الهرب منه حتى يؤدي الدين الذي عليه، ونرى أن الأول أوضح، وأبين، والنتيجة واحدة.
________
(١) رواه الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع - باب منه (٢٤٦٠) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وقد ذكر الله الجزاء فقال: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) اليوم فيما يظهر هو ما بعد القيامة من عقاب، وعذاب الهون هو العذاب الذي يكون هوانا، وذلا، واستحقارًا لأمرهم، وإضافة العذاب إلى الهوان إضافة تدل على أن الهوان ملازم للعذاب، فقد استكبروا على الحق، وقالوا غير الحق، فكانت العقوبة من جنس الجريمة، ولقد قال سبحانه في سبب ذلك: (بِمَا كنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ). أي السبب في العقاب أمران جمع الله فيهما الظلم كله:
أولهما - أنهم كانوا يقولون على الله غير الحق، فيشركون به، ويقولون إنه ثالث ثلاثة، ويقولون: المسيح إله، ويحلون ويحرمون بغير ما أنزل الله تعالى، وقوله تعالى: (كنتُمْ تَقولُونَ) تدل على استمرار قولهم، وعدم انقطاعه عنهم، وإصرار عليه؛ لأن (كنتم) تدل على الاستمرار، والمضارع يدل على تجدد القول آنا بعد آن. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
ثانيهما - أن الآيات البينات الهادية من معجزات دالة، ومن دلائل أخرى فكانوا يعرضون عنها، ويستكبرون، ويظنون أن الالتفات إليها فيه هوان عليهم، وكبرياؤهم منعهم عن الالتفات إلى الحق، فاستكبروا وتجبروا، وخاب كل جبار عنيد وكان الاستكبار متضمنا الإعراض عن الآيات؛ ولذا عدى بـ " عن " التي تدل على التجاوز والإعراض إذ قال تعالى: (وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) أي كنتم تستكبرون معرضين عن آياتنا الدالة؛ ولأنها قاطعة على الحق وفيها الهداية، ولكن لا تهتدون استكبارا وإعراضا، فنالوا جزاءهم.
* * *
* * *
فرادى جمع فريد كأسارى جمع أسير، أي جئتم منفردين عن النصراء الذين كنتم تعتزون بهم، فما لكم من نصراء، وذهب عنكم افتراؤكم وما كنتم تقولون نحن أعز نفرا، وذهبت عنكم أموالكم التي كانت تعزكم، وتدفعكم إلى الاستكبار والتطاول بها، وتقولون معتزين نحن أكثر مالا، ذهب عنكم كل هذا وجئتم إلى الله بأنفسكم منفردين، وقد روى ابن عباس عن النبي - ﷺ - في موعظة له: " أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غُرْلا " (١) (أي غير مختونين). قال تعالى: (... كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْق نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كنَّا فَاعِلِينَ).
وإنكم تكونون في هذه الحال، كالحال التي بدأ خلقكم بها ولذا قال تعالت كلماته: (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَولَ مَرَّة) أي تعودون ضعفاء كما خلقكم من ضعف أول أمركم؛ إذ خلقكم ضعفاء لَا تقدرون على شيء ولا تملكون شيئا، وفي النص إشارة إلى حجة البعث على الذين ينكرونه، ويستغربونه، إذ مؤداها أنه خلقكم ابتداء بقدرته، ويعيدكم بقدرته، ومن كان قادرا على الإنشاء، هو على الإعادة أقدر، وهو العزيز الحكيم.
وإن كل ما كانوا يملكونه من مال ونسب، وعبيد، وصولة، وسلطان يكون وراء ظهورهم وقال تعالى في ذلك: (وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) خولناكم أي مكناكم من أموال وأنعام، وسلطان، وراء ظهوركم، أي جئتم إلينا، وقد خلفتموه وراء ظهوركم فلا يمكن حينئذ أن تعتزوا بشيء منه، وقوله تعالى: (وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) تشبيه لحالهم في أنهم لَا يأخذون شيئا معهم كمن ترك ما يملك وراء ظهره، وذهب تاركا له، أو من ولَّى الأدبار من اللقاء فقد كانوا يغترون
________
(١) جزء من حديث متفق عليه، رواه بهذا اللفظ مسلم: الجنة ونعيمها وأهلها - فناء الدنيا وبيان الحشر (٢٨٦٠)، والبخاري بنحوه: أحاديث الأنبياء - (٣٣٤٩٠) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ولقد ذكر سبحانه بعد ذلك حالهم مع ما كانوا يعبدون من دون الله تعالى بغير الحق، فقال تعالى:
(وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ).
أي أنهم في اليوم الآخر حيث الحساب، ثم العقاب لَا يرى معهم شفعاؤهم، أي الأصنام التي زعموها، تقربهم إلى الله زلفى إذ كانوا يقولون (... مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى... )، أي ليكونوا شفعاء لنا يقربوننا إلى الله تعالى، ولقد قال تعالى: (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ)، ولم يقل تركتموهم وراءكم ظهريا؛ لأن المال والأنصار والعصبيات كان لها وجود، أما هذه الأحجار فلا وجود لها، وليس لها لسان تنطق، فقال سبحانه وما نرى هؤلاء الشفعاء؛ لأنهم لم يكن لهم وجود في الدنيا إلا بزعمهم، فهم موجودون في أوهامهم، ولا وجود لهم في ذاتهم إلا أنهم حجارة، ولقد قال تعالى في أوصاف هؤلاء الشفعاء في زعمهم: (الَّذِينَ زَعَمْتمْ أَنَّهُمْ فِيكمْ شرَكَاء) " الذين " وصف للشفعاء وهم حجارة، وكان الموصول بعبارة " الذين " التي تكون للعقلاء إجراء على لفظ الشفعاء لَا على حقيقتهم، والزعم هو الاعتقاد الباطل الذي ليس له أساس من العقل أو النقل، والزعم هو أنهم شركاء الله تعالى فيكم بالنسبة للنفع والضرر، والجزاء عقابا أو ثوابا، وقدم قوله تعالى: (فِيكُمْ) إشارة إلى أن الزعم
________
(١) سبق تخريجه.
كذلك هنا كان الشفعاء الذين غابوا، ولم يُروا قد انقطع ما بين هؤلاء وأولئك، لأنه كان وهما ولم يكن هناك سبب يربط بينهم، فلما انكشف الأمر يوم القيامة تقطعت الحبال الواهية التي كانت تربطهم، فقال تعالى: (لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أي تقطعت الصلة التي كانت بينكم التي خلقها وهمكم، والآن قد تكشف لكم الحق البين، وهم أنهم لَا وجود لهم إلا ما كان من أوهامكم، فماذا زالت فُقدَ الذي بينكم، ثم أكد الله تعالى هذا المعنى، فقال تعالت كلماته: (وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي غاب عنكم الزعم الذي كنتم مستمرين عليه مجددين له آنًا بعد آنٍ.
* * *
آيات الله في الكون وتوليد الأشياء من الأشياء بقدرته (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧)
* * *
ووجه الإعجاب في خلق الحب والنوى هو التوجيه إلى أن هذا الحب يكون منه ذلك الزرع الأخضر، الذي تغلظ سوقه ويقوى، وإن هذا النوى يكون منه النخيل الباسق والدوحات العظام، ويكون منه ذلك الشجر المثمر المعروف، كما قال تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (٣٥).
وقد ضعف ابن جرير، تفسير " فالق " بمعنى خالق، لأنه لَا يوجد (فلق) بمعنى (خلق)، ولكن الزجاج جوَّز ذلك، وأكثر المفسرين على أن الفَلْق ليس معناه الخلق إنما معناه الشَّق، وإن الله تعالى يشق الحب ليخرج منه نبات أخضر فذلك إشارة إلى التوالد الذي يتولاه الله تعالى، فيشق الحب فيكون منه الزرع الذي يكون منه حب.. ، متراكب كثير، ويخرج من الحبة الواحدة، زرع فيه حب كثير، والنوى يشق فيكون أشجار باسقة، وثمرات طيبة، ويكون من النواة، ثمر فيه نوى كثير، وثمرات ناضجة كثيرة.
وإذا كانت الحياة تخرج من هذا الجامد الذي يبدو بادي الأمر أنه لَا حياة فيه، فيخرج منه، ولذا قال تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيتِ مِنَ الْحَيِّ).
هذه الجملة السامية الأكثرون على أنها في معنى التفسير لـ فالق الحب والنوى، ويكون قوله تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي يخرج من ذلك الزرع، وذلك الشجر، وهما من الأحياء من الحب والنوى اللذين هما كالجماد الذي لا حياة فيهما في مظهرهما، وبذلك لَا يقال كيف تعد الحبة ميتة، أو النواة كذلك، وهما يطويان في أنفسهما بذرة الحياة، ولا يعدهما علماء النبات من الأموات.
وقوله تعالى: (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) أي أن هذا الحي، وهو الزرع والشجر، يخرج منه الذي يشبه الجماد، وإن كان فيه أصل عنصر الحياة، فقوله تعالى: (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ)، معطوف في الظاهر المتبادر على (يخرج)، وقالوا إنه يجوز عطف اسم الفاعل، على الجملة المصدرة بفعل مضارع، لأن اسم الفاعل في معناه.
وقد يسأل سائل لماذا عبر بالمضارع، ثم عبر باسم الفاعل؟ ونقول في ذلك: أن التعبير باسم الفاعل يدل على تصوير الفعل، وهو الحياة، وتجددها آنًا بعد آنٍ، فيبتدئ بنبت، ثم يخضر ثم يكون له سوق، فهو يصور تدرج الحياة فيه بحكمة الله تعالى، وكذلك في النواة فالحياة فيها تبتدئ مما يشبه النبت، ثم تكون عودا فشجرة، أما الحبة أو النواة التي تجيء من الزرع أو الشجرة، فإنها تكون نهاية التجديد، وتظهر دفعة واحدة؛ ولذا كان التعبير باسم الفاعل.
وكانت الإشارة بخطاب الجمع إذ قال: (ذَلِكُمُ) وذلك لأن ثمة خطابا للناس الذين أشركوا بالله تعالى، والفاء في قوله تعالى: (ذَلِكمُ) لترتيب ما قبلها على ما بعدها، فهي لتعريف الذات العلية بأنها التي فلقت الحب والنوى، وأنها تحيي الموتى، فترتب على ذلك استنكار موقف المشركين، وتعريف الذات العلية، وقال تعالى: (فَأنَّى تُؤْفَكُونَ) فالفاء للإفصاح عن شرط مقدر مطوي في إذا كانت الذات العلية هي التي خلقت، وتحيي وتميت، فكيف تؤفكون، أي تصرفون عن عبادته وحده سبحانه وتعالى إلى الشرك: وتؤفك، وتأفك وأفك بمعنى صرف، وأحسب إنها صرف فيه إفك وكذب على الله، فالمعنى كيف تصرفون كاذبين على الله تعالى، مفترين عليه بعبادة غيره، سبحانه وتعالى عما تشركون.
وإن الله تعالى خلق الأرض وأحياها بالنبات والشجر وغذاها بالماء، وقد أظلها بالسماء، وإذا كان قد فلق الحب، فأخرج منه النبات، والنوى فأخرج منه الثمر، فقد فلق السحاب، فانشق؛ ولذا قال تعالى:
* * *
* * *
الإصباح هو شروق الفجر، وذلك بأن يشق الخط الأبيض ظلام الليل.
والذين قالوا: إن معنى (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) خالقهما، قالوا هنا أيضا إن معنى (فَالِقُ الإِصْبَاح) أي خالق الإصباح بعد إظلام الليل، والذين قالوا، وهم الأكثرون: إن معنى فلق شق، وإن معنى (فَالِقُ الإِصْبَاح) شق الظلمة، بخيط الفجر الأبيض الذي يتسع شيئا فشيئا حتى يعم النور الوجود، فكان النهار المضيء الذي يكون فيه العمل والسعي في الحياة، وطلب الرزق، ولذلك قال تعالى: (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا).
والقمر تقدر به الأشهر القمرية بالأهلة، وتعرف أيامها بحال الهلال؛ ولذا قال تعالى فيما تلونا من قبل: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ...). وقوله تعالى: (... بِحُسْبَان)، أي بحساب دقيق لَا يتخلف عن مواقيته في كل بقعة في الأرض على حالها، لَا يتقدم ميقاتها ولا تتأخر حتى ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات.
والفرق بين الحساب والحسبان، أن الحساب مقدر بعد وقوع ما يحسب وما يعد، أما الحسبان فإنه يحسب ويقدر قبل الوقوع.
ويلاحظ أنه إن ذكر التوالد في النبات والإحياء والإماتة ذكر الشمس والقمر، لأثرهما في إنبات النبات ووجود الأشجار، وحياة الأحياء، فالشمس
وقد ابتدأ سبحانه ببيان سلطانه سبحانه في الأرض، وما يتوالد فيها من أحياء، ثم ذكر ما يؤثر فيها وفي أهلها في الليل والنهار وما جعل من الشمس والقمر بحسبان، بعد ذلك ذكر السماء، وما يكون فيها، فقال تعالى:
* * *
* * *
خلق الله تعالى النجوم في السماء، وهي ذات أبراج كمطالع الشمس والنجوم، ولكل نجم مدار خاص به، يظهر في إبانه، واتجاهه يهدي السائرين في البر، فيهتدون به، ويعرفون به أهم متجهون إلى الشرق أم إلى الغرب وهل هم متجهون إلى الشمال أم إلى الجنوب، فيهتدون في الحيرة، ويصح أن يراد بها في ظلمات البر بالاهتداء بها في حيرة البر، وظلمات البحر بالاهتداء بها في ظلمات البحر.
ويصح أن يراد بذلك ظلمات الليل في البر والبحر، فإن الناس في نهارهم يهتدون بالشمس في شروقها وغروبها ومن ذلك يعرفون الاتجاه إلى الجنوب أو الشمال، أما في ظلمات الليل فالنجوم ليس بكونها منيرة، إنما بمسارها في اتجاهها.
هذه إحدى فوائد النجوم، أما المزايا الأخرى فأهمها أنها والأرض دلالة على منظم حكيم مبدع فقد قال تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (١١).
* * *
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)
* * *
بعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى خلق النبات من الحبَّات، والشجر من النواة - بين خلق الإنسان في الأرحام فقال تعالى:
اتجه المفسرون إلى اتجاهات في تفسير قوله تعايى: (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) فمنهم من نظر إلى أن قوله تعالى: (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) تتجه إلى أصل التكوين الإنساني في أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات، فقال: معنى مستقر أي مكان استقرار وهو رحم الأم، ومستودع، أي مكان الوديعة الإلهية في أصلاب الآباء، فهو بيان لأدوار النطفة حتى تخرج من المستودع الذي أودعه الله تعالى فيها، وهو الأصلاب إلى المقر الذي أقرها الله فيها لتنمو فتكون نطفة في قرار مكين، ثم تكون النطفة علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، فيكسو العظام لحما، ثم
واتجه آخرون إلى الاستقرار في الحياة، والاستيداع في النهاية إلى باطن الأرض، فالمستقر هو الدنيا والوجود في هذه الأرض، والمستودع القبر، الذي يودع فيه حتى يكون البعث والنشور، وذلك كقوله: (... وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَر...)، والأكثرون من الصحابة والتابعين على الاتجاه الأول، وهو أوضح، وأقرب تبادرًا للذهن، وإني أرى أنه لَا مانع من أن تكون في الاثنين، واللفظ يحتملهما، ويكون في الأول: لما يشبه العبارة وفي الثاني: لما يشبه الإشارة، فالعبارة سيقت لأصل التكوين، كما سيق أمر الحبة والنواة، وما جاء بعدها لذلك، ودلت بالإشارة على أنه استقرار إلى أمد، وبعده الاستيداع في القبر، حتى يوم البعث، فتأتي كل نفس بما كسبت، وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهونَ) أي ينفذون إلى أسرار الوجود من وراء مظاهره؛ لأن فَقِه ليس المراد بها مجرد العلم، إنما المراد بها العلم الذي يشق المظهر ليصل إلى سر ما وراءه، وقد علل الزمخشري أنه ختم الآية التي تدل على الاهتداء بالنجوم بقوله تعالى: (... قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، وهنا ختم بقوله: (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) بأن الاهتداء حسي يرى فهو آية بينة محسوسة لَا تحتاج إلى النظر، والانتفاع والاهتداء، وأما الثانية، فإن الآيات فيها سر الوجود الإنساني الذي يتدرج فيه الحي من نطفة تجيء من الأصلاب، وتوح في الأرحام حتى تكون بشرا سويا.
وليس الفقه هو الفهم المجرد، إنما الفقه هو شق الحقائق حتى يصل إلى لبها وغايتها، فقوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ منْهُمْ
وبعض الكتاب قال: إن العلم أعلى درجة من الفقه؛ لأن الفقه مطلق الفهم، والعلم هو المعرفة عن دليل قاطع يؤدي إلى اليقين، ونحن إلى قول الزمخشري نميل، ونرى أنه هو الذي يتفق مع (فقِه)، ومن غير الزمخشري أكثر إدراكا منه.
بعد أن بين الله تعالى كون الإنسان، وتدرجه في الخلق من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات وتدرجه فيها إلى أن صار إنسانا في أحسن تقويم، ذكر سبحانه وتعالى نعمة الماء في هذا الوجود، وما يخرج به في الأرض من حبوب وثمار تتشابه في شكلها، ولا تتشابه في طعمها، فهِي متشابهة وغير متشابهة، فقال تعالى كلامه:
* * *
* * *
أخبر الله عن ذاته العلية أنه هو الذي أنزل من السماء ماء، فهو وحده الذي أنزل من السماء الماء فلم ينزل إلا بقدرته؛ وهو وحده الذي يثير السحاب حاملة المطر الذي ينزل ماء على الأرض، فنزوله من السماء، هو نزوله من السحاب؛ لأن السماء ما تعلو فوق الأرض، وسماها الله تعالى سماء؛ لأنها تغطي الناس بالغمام الذي يتكاثف فيصير ماء يهطل على الأرض مطرِا، ولقد التفت البيان القرآني السامي من الغيبة إلى التكلم، فقال تعالى: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ) أضاف الإخراج إلى ذاته العلية بصيغة المتكلم لبيان عظيم فضله، وأن إخراج النبات والنخيل والأعناب، والزيتون والرمان، وغيرها من أنواع الثمر والمطعومات بإرادته، وتخيره وتشكيله لها سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: " به " أي منه، وبه وعن طريقه ولقد قال تعالى: (... وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْء حَيٍّ...).
وإن النص الكريم يفيد أن الله تعالى أنزل الماء وهو في ذاته نعمة، لأن منه حياة الأحياء من نبات وحيوان وإنسان كما قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨)
ولقد فصل الله تعالى أدوار الإنبات فقال: (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا)، أي يخرج الله تعالى خضرا، أي أخضر، غضا طريا ذا شعب، ومن هذا الأخضر الغض يخرج بعظيم قدرته حبا جامدا متراكبا أي يركب بعضه بعضا في نظام رتيب متسق بقدرته تعالى كالسنبلة في القمح والأرز، والكوز في الذرة، وغيرها من الأنواع المختلفة، كيف تبدأ خضرا مزهرة فإذا نضجت وصارت حطاما أو قريبا من ذلك أتت بنبات نافع يكون مطعوما يغذي الأبدان، وهنا نجد عجيب قدرة الله تعالى فلقت الحبة الصلبة، وجعلت منها عودا أخضر غضا، ثم جعلت من هذا العود الأخضر وقد صار ثمارا حوى حبا متراكبا صلبا.
وقد ابتدأ سبحانه وتعالى بذكر النبات؛ لأنه يكون منه الغذاء والكساء من العرى، كالقطن، والكتان، والتيل، وغيرها مما يكون اللباس والكساء للناس. وبعد ذلك بين سبحانه الثمرات التي تكون من النوى، وابتدأ منها بالنخيل؛ لأنه يجيء منه التمر، وهو إن كان فاكهة هو أيضا غذاء، وقد كان غذاء عند العرب يشبه أن يكون رئيسيا.
فقال تعالى: (وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ) طلع النخل هو أول ما يبدو من ثمر النخل فيبدو ليه شق، فإذا شق كان العزق، وهذا العزق هو القنوان، وهو الذي بعد التمر يكون عرجونا، وتكون الشماريخ.
وفي هذا بيان نعم الله تعالى في التمر، وهو عطف على الكلام السابق جملة على جملة، ولم يقل سبحانه وتعالى، وأخرجنا النخل، وإن كان قد
وقد ذكر الله تعالى النخل والتمر عقب الحَب؛ لأن التمر كما ذكرنا يكون غذاء، وكما يقول علماء النبات إنه غذاء كامل.
وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك الأعناب، والزيتون والرمان فقال تعالى: (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ).
وقوله " جنات " معطوفة على " نبات كل شيء " أي أخرجنا جنات من أعناب، وأعناب جمع عنب، والجنات جمع جنة، وهي الأرض ذات الأشجار الملتفة المتكاثفة التي تجنّ الأرض وتظلها، وعبر عن الأعناب بالجنات؛ لأنه إذا نما وترعرع، وأقيمت له العرائش كان جنة ساترة للأرض وحديقة غناء، تظهر وخضراؤها، وتُجَنُّ أرضها، وذكرت الأعناب بعد النخيل، لأنه كان كثيرا في أرض العرب، ولأنه فاكهة كانت أطيب الفواكه عندهم، ولأنه غذاء ودواء من عجمه وهو نواه.
ثم ذكر سبحانه وتعالى الزيتون والرمان، معطوفين على (نبات كل شيء) والتقدير في كل هذا أخرجنا بالإسناد إلى الذات العلية، لبيان قدرته العظيمة وإرادته الحكيمة، وآلائه على العرب وغيرهم.
وكان النخيل وطلعه بمقتضى السياق يكون معطوفا على (أخرجنا)، والاختصاص عندهم بالأهمية، ولأنه أكبر الأشجار المثمرة وأعلاها، فكان موجب الاختصاص أن يتغير الإعراب.
المشتبه والمتشابه بمعنى متقارب كمستوٍ ومتساو، وهنا في تفسير مشتبه وغير متشابه اتجاهان في الفهم:
أحدهما - أن ثمار الزيتون قد يكون متشابها في الحجم والطعم، وقد يكون غير متشابه، وذلك دليل على أن الأمر باختيار الله تعالى جعل هذا متغيرا فقد يخلق التمر متشابها في حجمه وطعمه، وقد يخرج غير متشابه في ذلك؛ وكلٌّ بإرادة الله تعالى.
واتجاه آخر - وهو أن تتشابه الثمرتان في أنهما من شجرة واحدة، ولكن لا تتشابهان في الطعم أو اللون والرائحة كما ترى في ثمر الرمان، فقد تكون رمانتان من شجرة واحدة، ولكنهما مختلفتان في الحجم، وطعم الثمر ولونه، ويقول بعض العلماء: إن شجر الزيتون والرمان تتشابه فيهما الأوراق، ويختلف ما ينتجانه والحق أن الوجهين الأولين يمكن الجمع بينهما بأن يكون التشابه في العدد والحجم، وألا يكون تشابه قط، وقد قال تعالى: (نظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ).
" الينع " النضج، والمعنى انظروا نظرة اعتبار واستبصار إذا أثمر كيف يبتدئ الثمر خيوطا رفيعة، ثم تغلظ شيئا فشيئا نامية متدرجة في نموه، حتى تصل إلى حال النضج، فإنه يكون متغير الأحوال كما يبتدئ الجنين نطفة، ثم علقة ثم مضغة حتى يصير خلقا سويا، كذلك انظر إلى الثمر، كيف يسير في نموه حتى يصير ناضجا طيبا.
ثم قال تعالى: (إِنَّ فِى ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ).
الإشارة إلى ما تقدم من إنزال الماء من السماء، وإخراج نبات كل شيء منه، والنخيل وطلعه من قنوانه، وتدرجه من حال إلى حال، والأعناب والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه، الإشارة إلى هذا كله وما فيه من عجائب أن فيه آيات بينات على قدرة الله تعالى في تكوين الأثمار وتوالدها، وإذا كان الله تعالى
وخاطب بالإشارة بالجمع بقوله تعالى: (إِنَّ فِى ذَلِكُمْ) للتنبيه وتوجيه أنظار الجمع إلى ما في هذا الخلق أو التكوين من عِبَر، تعالى الله العلي القدير.
* * *
الوثنية وادعاءالبنوة لله
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)
* * *
بعد أن بين سبحانه وتعالى آياته في خلق الأشياء وتوالده وإثبات قدرته القاهرة، وإرادته العلية، وأنها تقتضي الإيمان بالله تعالى منشئ هذا الكون وما فيه ومن فيه، وأنه الحي القيوم القائم عليه يمسكه، ويمسك السماوات والأرض أن تزولا. ولئن زالتا لَا يمسكهما أحد من بعده.
ومعنى قوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ) أي أن الشركاء هم الجن، أي أنهم عبدوا الجن بجوار عبادة الله تعالى، وقد يسأل سائل إن المشركين قد عبدوا الأصنام، ولم يعبدوا الجن، فكيف يقال إن الشركاء لله الجن، وقد قال في محكم آياته أنهم اتخذوا الأنداد، والأنداد التي حسبوها أندادا لله هي الأصنام.
وقد اتجه المفسرون في إجابة هذا السؤال اتجاهين: أولهما - أن الشياطين، وهم من أتباع إبليس وهو رأس الجن هم الذين سولوا لهم عبادة الأوثان، وزينوها لهم، وقد جاءت بذلك النصوص القرآنية الكثيرة، من ذلك قوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١).
ويقول الله تعالى على لسان الملائكة: (... سُبْحَانَكَ أَنتَ ولِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُفم بِهِم مُّؤْمِنُونَ).
ويقول تعالى: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (١١٧) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (١١٩). وإنه ما من شرك إلا والشيطان وراءه، والشيطان من الجن؛ إذ هو تابِع لإبليس، وهو من الجن، كما قال تعالى: (... إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عن أَمْرِ رَبِّهِ...). هذا هو قول الأكثرين.
الاتجاه الثاني - روي عن ابن عباس والكلبي أنهما قالا: إن الذين كانوا يعبدون الجن هم الثنوية من المجوس الذين كانوا يقولون إن الوجود يحكمه إلاهان إله الخير، واسمه يزدان وإله الشر واسمه أهرمن،
وفى الحق: إن الآية تشمل بعمومها عباد الأوثان والزنادقة، لأن كليهما عبدا الشيطان، وإبراهيم - عليه السلام - عندما نهى أباه عن عبادة الأوثان قال له: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (٤٤). وعلى ذلك يكون المشركون والمجوس قد أشركوا الجن في عبادة الله تعالى، سواء أكان ذلك بأن سولوا لهم عبادة الأحجار، فتكون عبادة الأحجار عبادة للجن، أم عبدوا الجن مباشرة كالثنوية.
ولقد قال تعالى بعد أن ذكر هذه الشركة الوثنية قال تعالى: (وَخَلَقَهُمْ) أي أن الله تعالى خلقهم، فهم مخلوقون، حادثون ولا يصلحون أن يكونوا معبودين، لأن المعبود بحق هو القديم الذي لَا أول له، والباقي الذي لَا آخر له، ولأنه ليس من العقل في شيء أن يشترك الخالق مع المخلوق.
ثم ذكرِ سبحانه وتعالى افتراءات المشركين ومن لف لفهم، فقال تعالى:
(وَخَرَقُوا لَهُ بنِينَ وَبَنَات بِغَيْرِ عِلْمٍ) وخرقوا معناها اختلقوا القول، وافتعلوا، كان الرجل إذا كذب في النادي، قالوا خرق ورب الكعبة أي اختلق، فالمعنى: اختلقوا أن يكون لله بنون أو بنات، ومن الناس من قال الملائكة بنات الله، وقد تردد ذلك على ألسنة المشركين وعلى ألسنة اليهود.
ولقد قال تعالى إن ذلك قول ليس له أصل قام عليه، ولكنه جهالة، فقال تعالت كلماته: (بِغَيْرِ عِلْم) أي أنه ادعاء ليس له أساس، من أين أوتوه. بل عن أوهام توهموها، وجهل مبين بمعاني الألوهية، ويدل على فساد فكر وضلال فهم، واستهواء نفس ممن سيطر على نفوسهم. والله تعالى منزه عن ذلك.
وختم الله تعالى الآية بما يدل على التنزيه، وعلو المقام الإلهي عن ذلك فقال تعالى: (سُبْحَانَهُ) وهي مصدر يدل على التسبيح وتنزيه الله العلي الكريم عن ذلك (وَتَعَالَى) أي تسامي سبحانه وتعالى عما يشركون.
ولقد بين سبحانه وتعالى استحالة أن يكون له ولد، فقال تباركت آياته:
* * *
* * *
وكلمة (بديع) فعيل بمعنى اسم الفاعل، أي مبدع السماوات والأرض، وهي تقتضي معنيين: أحدهما - أنه أنشاها على غير مثال سبق، والثاني - أنه لم يكن قبلها شيء يحتذى، فقد أنشأها من العدم إنشاء، فهو خالقها، قبل أن لم تكن ومن كان منشئا لهذا الوجود بإرادة مطلقة لَا يمكن أن يكون وجود الأشياء لديه بنظام الأسباب والمسببات، فلم تكن الأشياء كإيجاد العلة للمعلول، بل هو إنشاء الموجد للموجود.
وإن من كانت هذه الحال حاله لَا يمكن أن يكون له ولد.
وقد بين الله سبحانه وتعالى استحالة ذلك من وجهة الأسباب العادية التي تقتضي أن يكون الوالد له امرأة تلد منه؛ ولذا قال تعالى: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ).
لقد قال النصارى الذين أخذوا من البراهمة والبوذية: إن مريم البتول ولدت عيسى، وأقروا بأنها ولدته بعد أن حملت به تسعة أشهر، وجاءها المخاض، كما يجيء كل امرأة تلد، وألجأها إلى جذع النخلة، وولدته ووضعته في مزود، ثم عاش كما يعيش الناس، ثم ادعوا له بنوة لله تعالى ثم ألوهية زعموها فمن أين أتت إليه الألوهية وقد عاش بشرا سويا، يأكل كما يأكل الناس؟.
لقد زعموا لفرط وهمهم أن مريم البتول - عليها السلام - ولدت الإنسان والإله، وزعم بعضهم مخفّفًا فساد القول الأول أنه ولد إنسانا، ثم فاضت عليه الألوهية والبنوة معا، (... كَبُرَتْ كلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا).
ولقد قال الله تعالى مؤكدا نفي البنوة عن ذاته العلية: (وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ) أي أنه سبحانه وتعالى خالق كل شيء فهو غير محتاج لأحد؛ لأنه خالق الوجود كله، والبنوة ثمرة الاحتياج لتكون امتدادا للوالد، والله تعالى الخالق للوجود كله فكيف يحتاج لولده، ولكنها الأوهام المسيطرة، وكل عقيدة تشتمل على أن شخصا له بنوة أو ألوهية عقيدة أساسها الوهم الباطل، وأصحابها يعيشون في أوهام، وشيوعها دليل على فسادهم وفساد من يتبعونهم.
وقد قال تعالى مؤكدا معنى خلقه وقدرته بسعة علمه وإحاطته بكل شيء علما، فقال تعالى: (وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ) فالخلق والتكوين هو بمقتضى العلم والحكمة والإرادة.
* * *
* * *
الإشارة في " ذلكم "، إلى ما ذكر من فلق الحب والنوى وإنشاء النبات والأشجار والأنفس، والتوالد، والنزاهة المطلقة عن الشريك والولد، وانفراده سبحانه وتعالى بالخلق والتكوين والقيام لكل شيء والعلم بكل شيء وهذه أوصاف الوحدانية، وإذا كان واحدا في ذاته العلية، وواحدا في إنشائه للكون، فهو الجدير بالعبادة وحده وكل عبادة لغيره تكون باطلة بطلانا مطلقا؛ ولذا قال سبحانه: (ذَلِكُمُ اللَّهُ) أي ذلك المعبود بحق وحده، وهو ذو الجلال والإكرام، والإشارة بالخطاب للجميع (ذلكم) للإشارة إلى التكليف العام بعبادة الله تعالى وحده، وقد ذكر سبب الألوهية الكاملة، فقرنها بوصفين يزكيان معنى الألوهية: أولهما - الربوبية الكاملة؛ الذي يربي الناس والأشياء، يربها ويرعاها ويحفظها، الوصف الثاني - أنه خالق كل شيء، ولا شيء في الوجود إلا وهو الخالق له والقائم عليه، والمدبر لأمره، والكالئ له، وهو على كل شيء وكيل.
وقد قال تعالى: (فَاعْبُدُوهُ) أي أنه إذا كان هو وحده الخالق، وهو وحده المدبر فاعبدوه وحده، لَا شريك له، فهذه نتيجة للمقدمات الواقعة السابقة، ومن عبد غيره، فإنه قد سبق إليه وهم، وهو عبد للأوهام وليس مؤمنا بالله.
وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى أنه خالق كل شيء بين أنه خلقه، وِهو يحافظ عليه؛ ولذا قال جلت قدرته، وعظمت حكمته: (وَهُوَ عَلَى كلِّ شيءٍ وَكيلٌ) " وكيل " هنا من وكل إليه الأمر ليحفظه ويصونه فمعنى وكيل هنا قائم على الأشياء كلها ليحفظها ويصونها، ويدبر أمرها إلى أن يقضي فيها قضاءه وكان أمرا مفعولا، فهو الإله القائم على كل شيء سبحانه، وإن الله سبحانه وتعالى منشئ الوجود نحس بآثاره، وننعم بنعمه ولا نراه، فهو خفي الألطاف ظاهر بنعمه وآثاره؛ ولذا قال تعالى:
* * *
* * *
والإدراك هو: الرؤية المحيطة بالشيء من كل جوانبه، فالرؤية البصرية لا ترى إلا الجانب الذي يكون مقابل العيون، أما الإدراك فهو الإحاطة بكل الجوانب، من كل ناحية، ومعنى قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) لَا تحط الأبصار بكل جوانب عظمته وجلاله، وعندئذ ننتقل من الرؤية البصرية إلى ما تنتجه الرؤية من تأمل وتفكير، ذلك أن الرؤية البصرية رؤية للمحسوس، ثم بعد رؤية المحسوس يكون التفكير فيما توجهه هذه الرؤية، فإذا رأيت منظرا جميلا، فالرؤية تريك هذا المنظر، فتستريح نفسك، وتستروح معاني من الإحساس بالجمال، فإذا علا إدراكك. فإنك تفكر في بديع الصنع، وحسن هندسة التناسق، ثم أطياف الألوان، ثم مهارة الصانع، فهذا هو الإدراك بالإبصار، فالإدراك بالإبصار هو المعاني التي تومئ بها الرؤية، ويوجه إليها النظر المستقيم.
وقوله تعالى: (لا تُدْرِكهُ الأَبْصَارُ) هو كناية عن التفكير والعلم الذي ينتج عن البصر، وقد نفَى الله تعالى الإدراك، وهو يتضمن نفي الرؤية البصرية ابتداء، لأن الرؤية البصرية في الدنيا إنما تكون في مكان متميز متحيز، والله سبحانه وتعالى ليس له مكان، ولا يحده شيء في الوجود، وسع كرسيه السماوات والأرض وهو السميع العليم.
وفوق ذلك لَا يمكن للعقل البشري أن يدرك الحقيقة الإلهية؛ لأنه أعلى وأجل وأعظم من أن تصل إليه المدارك، ونحن ندرك آياته، ولا نعرف كنه ذاته، تبارك الله العلي الحكيم، هذ معنى نفي إدراك الأبصار، وما تؤدى إليه، وما يمكن أن يؤدي إليه مضمون هذا النفي، ثم قال تعالى: (وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ) أي يعلمها علما محيطا، وسع علمه كل شيء لَا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه
وقد تكلم العلماء في هذا المقام في رؤية الله في الآخرة وفي الدنيا، فقال الأكثرون: إن الله تعالى يرى يوم القيامة بكيفية لَا نعرفها، يراه الأبرار وقد أخذوا ذلك من ظاهر قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، وإن ذلك من جزِاء المتقين، ولا يراه المجرمون أخذا من ظاهر قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ). ومن ظاهر قوله تعالى: (... وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكيهِمْ...).
وأما في الدنيا، فإن الله لَا يُرى فيها؛ لأن الرؤية تقتضي التحيز في مكان، والله تعالى منزه عن ذلك، وقد طلب موسى - عليه السلام - رؤية ربه فقال: (... قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ...). فدلت هذه الآية على أن الرؤية في الدنيا غير ممكنة. وهنا يثار سؤال هل رأى النبي - ﷺ - ربَّه في المعراج؟ بعض العلماء زعم أنه رآه، ولا يوجد نص قاطع يدل على ذلك، ولكن وردت آثار كثيرة، تدل على نفيه، فقد سئل النبي - ﷺ -: أرأيت ربك؟ قال: " إنه نور، فأنَّى أراه " (١).
وروى مسلم في صحيحه بسنده إلى مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال: كنت متكئا عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة (كنية مسروق) ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية - وكنت متكئا، فجلست - فقلت: يا
________
(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان، والترمذي في تفسير سورة ٥٣ (النجم) وأحمد بن حنبل، ج ٥ ص ١٥٧، ص ١٧١، ١٧٥.
هذا بالنسبة لرؤية الله تعالى في الدنيا، وأما في الآخرة فالأمر فيها إلى الله تعالى، وهو على كل شيء قدير.
* * *
* * *
بعد أن ذكر الله تعالى أنه خالق كل شيء ووجه الأنظار إلى تصريف الله تعالى في الكون مما ذكر الله تعالى في الآيات السابقة، ووجه الأنظار إلى ما فيها من دلائل على أنه وحده هو الخالق، وأنه ليس كمثله شيء وأنه وحده المستحق للعبادة - قرر أن هذه آيات تبضَر ذوي العقول الواعية، والقلوب الخاشعة المبصرة فقال تعالى:
وإن هذه الآيات علامات الحق ودلالاته، فمن أدركها فقد نجا، ومن لم يدركها فقد بغى على نفسه وأضلها؛ ولذا قال تعالى: (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ
وقوله تعالى: (وَمَا أنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظ) ظاهر ذلك أنه من النبي - ﷺ -، ولم يكن ثمة حاجة إلى أن يقول الله تعالى لنبيه - ﷺ -: (وَمَا أنَا عَلَيْكم بِحَفِيظ)؛ لأن الكلام منزل من عند الله تعالى، والنبي - ﷺ - يخاطب به العرب، والقرينة دالة على أن ذلك من النبي - ﷺ - لقومه الذي هو رءوف بهم، ولكنه ليس بحفيظ عليهم، ثم إن هذا النص السامي، وهو (وَمَا أنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظ) هو كالنتيجة المنطقية لقوله تعالى: (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِي فَعَلَيْهَا) أي فالتبعة عليكم كما قال تعالى: (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ).
يقول تعالى حكاية عن قول النبي - ﷺ - كما أمره ربه: (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) قدم الجار والمجرور؛ لأن نفوسهم ستهمهم؛ ولذلك قدم خطابهم على الوصف، وقد أكد سبحانه النفي بالباء، وأكده بالجملة الاسمية، والمعنى وما أنا بحفيظ عليكم من أن تتدلوا في العذاب بإنكاركم بآيات ربكم، وكفركم بالله بعد أن بدت الدلائل القاطعة، والأدلة البينة، الواضحة، كما قال تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ من رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)، ولقوله تعالى: (وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْى عَن ضَلالَتِهِمْ...)، فلا مسئولية على الرسول في ضلالهم.
العاقبة، أي لتكون العاقبة عند الكافرين أن يقولوا دارستها مع أهل الكتاب أو درست عليهم وأعانوك، وهذا كما جاء في آيات كثيرة عن افترائهم، كقوله تعالى عنهم: (وَقَالَ الَّذين كفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا)، وقوله: (وَقَالُوا أَسَاطيرُ الأَوَّلِينَ اكتَتَبَهَا فَهِي تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)، وقال الله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ). وقرئ (دَرَسَتْ) بفتحتين، ومعناها مضت وتكررت، كقولهم: سمعنا هذا من قبل. وإن الله تعالى أمر نبيه أن يعرض عن المشركين، وإنه يعتبر بحقائق القرآن المؤمنون؛ ولذا قال تعالى: (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). واللام هنا للتعليل أي نبين لمن
وقوله (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي لقوم يعلمون علما متجددا بنزول القرآن فهو يزيدهم علما كما يزيد غيرهم خسارا.
إن الأدلة على صدق دعوة النبي - ﷺ - قائمة لَا يماري فيها إلا جَحُود، وآيات الله تعالى هي البصائر لمن عنده قلب يذعن للحق إذا تبين، وقد قامت دالة على وحدانيته، وإذا كان الجاحدون ينكرون دلالات الوحدانية في العبادة، فلا تلتفت إليهم، وامض لما أمرك الله تعالى، ولذا قال تعالى:
أولهما - شرف ذاتي وهو أنه الكتاب الكامل الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه المعجز الذي لَا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، وأنه النبوة فمن حفظه فقد حفظ النبوة بين جنبيه.
ثانيهما - شرف إضافي، وهو أنه الكتاب الوحيد الذي ينسب إليه، وإذا كانت سبقته كتب أخرى فهو جامعها، وهو سجل النبوات قبله، فيه الشرائع السماوية كلها من غير تفريط في واحدة منها.
وقوله تعالى: (مِن رَّبِّكَ) تقوية للاتباع بأنه من الله ذي الجلال والإكرام الذي رَبَّى هذا الوجود ونماه وعلمه وكونه، فهو أوحى إليك من ربك الذي يعرف ما يشتمل على مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، في حياتهم الدنيا، وفيما يوصل إلى الآخرة.
وإن ذلك الإعراض عنهم؛ لأنك دعوتهم وتدعوهم، ولست مسئولا عن إيمانهم، ولا معاقبا على كفرهم (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)، وإن إشراكهم بتقدير الله تعالى وبعلمه، وإنهم ساروا في طريقهم إلى الشرك، وسهلوا سبيلهم إليه، ولو شاء سبحانه ما مكنهم من الشرك، ولكن لأن الله تعالى خلق الإنسان، وأعطاه قدرة يرى بها الخير والشر كما قال تعالى: (وَنَبْلُوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، لهذا الاختيار الذي ركبه الله تعالى في نفوسهم من خروج على سلطانه تركهم في غيهم يعمهون، لأنهم سلكوا طريقا واختاروه.
* * *
* * *
أي لو كانت مشيئة الله تعالى تعلقت بعدم شركهم ما أشركوا وما كانوا مشركين، وإذا كان ذلك قدر الله تعالى الذي قدره، وتدبيره الذي دبره، ودخلوا الشرك باختيارهم فأعرض عن أذاهم وسخريتهم، واتجه إلى الدعوة، واستمر فيها مع ملاحظة أنك لست كفيلا بإيمانهم، إنما أنت منذر.
وما جعلناك حفيظا عليهم بمنعهم من الشرك ودفعهم إلى الإيمان، و (حفيظ) صيغة مبالغة من حفظ، أي ما جعلناك (حارسا) على إيمانهم تمنعهم من الخروج منه، وتحملهم على الدخول فيه، وقدم (عليهم) بيانا لاهتمامه بشأنهم بمقتضى الحراسة الحافظة، التي نفاها الله تعالى عنه، فالله تعالى لم يجعله كذلك، ولكن جعله فقط مبشرا ونذيرا، وهاديا بإذنه وسراجا منيرا، وقد أكد سبحانه وتعالى عدم مسئولية النبي - ﷺ - بقوله: (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوكِيل) أي ما أنت قد فوض أمرهم إليك بتوكيل وكلته فتُدبر أمرهم وتوجههم إلى حيث تريد، إنما أنت منذر، وذلك كقوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ).
والله تعالى هو الذي ينظم علاقة الرسول بمن بعث إليهم وهي الدعوة، فمن أجاب فقد أحسن، ومن أعرض عن ذكر الله تعالى فقد طغى وكفر، وليس على الرسول تبعة كفرهم، والله تعالى هو المجازي.
* * *
النهي عن سب الآلهة، وقاعدة سدِّ الذرائع
(وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)
نهى الله تعالى عن سب الأوثان والأصنام، وكل ما كانوا يعبدون من دون الله تعالى، حتى لَا يسبوا الله تعالى عدوانا وظلما واعتداء على الحق بجهل وبغير علم وإدراك سليم؛ إذ سووا بين الله تعالى وآلهتهم، فالفاء فاء السببية أي بسبب سب المؤمنين الحق لأصنامهم، يسبون الله تعالى ظلما وجهلا بغير الحق، وعبر عن أصنامهم بالموصول الذي يكون للعاقلين بقوله: (الَّذِين يَدْعُونَ) جريا على زعمهم من أن لهم فكرا وعقلا وإن كانوا لَا يعقلون.
وهنا نسأل عن معنى السب أهو الشتم أم مجرد ذكرهم بأنهم لَا يضرون ولا ينفعون، وأنها أحجار لَا تضر ولا تنفع، لَا يمكن أن تكون من السب أن يقال إنهم لَا يضرون ولا ينفعون، فقد ذكر في القرآن كثيرا أنهم لَا يضرون ولا ينفعون، فقد قال تعالى: (قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا)، وحكى الله تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال لأبيه: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُيْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا). والقرآن الكريم المنزل من رب العالمين لَا يكون فيه سب ولا شتم، وإنما يكون فيه ذكر الحقائق الثابتة التي لا مجال للريب فيها.
وعلى ذلك لَا يمكن أن يكون وصف الأوثان بأنها لَا تضر ولا تنفع سبا؛ لكنه لكي يمنع العرب من عبادتها، لَا بد من وصفها بحقيقتها ومآلها، ولقد قال تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ).
إنما السب هو شتم الأوثان مثل: (لعنها الله)، و " قبِّحت آلهتكم " من غير ذكر أوصافها.
ولكن قد يقال: إن المشركين عدوا ذلك سبا، فقد قالوا أو قال وفدهم عن النبي - ﷺ - لأبي طالب، لقد سفه أحلامنا، وسب آلهتنا، ونقول: إننا نفسر كلام الله تعالى، وما علينا أن نفسر كلامهم، فليسموا ذكر الحقيقة سبا كما يشاءون، ولكن السب ليس كما يقولون.
وإن ذلك أصل ثابت قد قررته هذه الآية الكريمة، وقد قال الإمام الزمخشري في ذلك: (فإن قلت: سب الآلهة حق وطاعة فكيف صح النهي عنه، وإنما يصح النهي عن المعاصي، قلت: رُبَّ طاعة علم أنها تكون مفسدة، فتخرج عن أن تكون طاعة فيجب النهي عنها؛ لأنها معصية، لَا لأنها طاعة، كالنهي عن المنكر، وهو من أجل الطاعات، فإذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر، انقلب إلى معصية، ووجب النهي عن ذلك، كما يجب النهي عن المنكر، فإن قلت: فقد قال الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا، قلت: ليس هذا مما نحن بصدده لأن حضور الجنازة طاعة، وليس بسبب لحضور النساء؛ فإنهن يحضرنها، حضر الرجال أم لم يحضروا، بخلاف سب الآلهة).
وقد كان كلام الحسن ردا على ابن سيرين إذ امتنع عن السير في الجنازة؛ لأن فيها النساء.
ويلاحظ على كلام الزمخشري أنه عدَّ سبَّ الآلهة طاعة، كأن الدين أمرنا بسب الآلهة!! إن القرآن ومحمدا - ﷺ - لم يأمرانا بسبِّ قط، وقد قلنا إن وصف
ومهما يكن تعليقنا على قول الإمام الزمخشري فإن مسألة سد الذرائع ثابتة، والآية الكريمة توحي إليها وتحث عليها، وإنه من المقررات ما يفضي إلى المعصية يعد معصية، ولو كان أصلها مباحا.
(كذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أمَّةٍ عَمَلَهُمْ).
أي كذلك الذي نراه من اندفاع المشركين إلى سب الله تعالى، وهو العلي الحكيم، إذا كان السب لآلهتهم كذلك الأمر زَيَّن الله تعالى بمقتضى سنته في الأحياء أن في كل أمة أي طائفة من يُحَسَّن لها عملها، حتى تظنه الحق وما هو إلا الباطل الصراح، ومن زين له سوء عمله فظنه حسنا، فإن عليه مغبته؛ وعليه تبعة ذلك الظن الفاسد وذلك العمل الظالم، وتزيين الله تعالى لكم ذلك سنة الله تعالى في خلقه، ليس مؤداه أنه يبرره، ويرضى عنه، فإن بيان الله تعالى هنا هو بيان لسنة الوجود، وليس ذكرًا للعقاب والثواب، والتكليف، وإنه مختار فيما يفعل ومرده إلى الله تعالى في العقاب والثواب؛ ولذا قال تعالى: (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
أي أنه إذا كان قد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا في الدنيا، فإنهم راجعون إلى ربهم يوم القيامة، والتعبير بـ " ثم " للدلالة على البعد الزماني في نظرهم، والبعد بين ما زين لهم من الشر، وما يستقبلهم من جزاء؛ وفاقا لما عملوا من شر، وقوله تعالى: (إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهمْ) فيه تقديم الجار والمجرور على ربهم، للدلالة على الاختصاص، أي المرجع إلى الله وحده، وهو الذي يتولى جزاءهم على ما قدموا من شر، والتعبير بـ (ربهم) إشارة إلى كفرهم بالنعم التي أوْلاهم؛
النبأ: الخبر الخطير، ينبئهم أي يخبرهم بما كانوا يعملون، وهو إنباء مقترن بالجزاء، فهو إنباء بأعمالهم وجزائها، فيجزَوْن ما كانوا يعملون، أي أن الجزاء موافق للعمل، وأعدل العدل أن يكون العقاب مأخوذا من الجريمة نفسها، والله يتولى المحسنين.
* * *
الكافر الجاحد لَا يؤمن بمعجزه
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)
* * *
إن النبي - ﷺ - قد جاءهم بالمعجزة الكبرى، وهي القرآن، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، وعجزوا عن أن يأتوا بسورة من مثله ولو مفتراه، وكان يكفي ذلك برهانًا على رسالة النبي - ﷺ - ولكنهم لم يؤمنوا، وأعنتوا في الطلب، وأرادوا آيات أخرى، فطلبوا أن ينزل عليه كتاب في قرطاس من عند الله، ولن يؤمنوا حتى يروه، وطلبوا أن ينزل ملك من السماء مع هذا القرطاس، وهكذا من طرق الإعنات المختلفة، ولم يقدروا القرآن - المعجزة الكبرى - حق قدره، ولم يعدوه آية كافية، وهو أقوى الآيات، وهو المناسب لشريعة خاتم النبيين ومخاطبة الأجيال إلى
________
(١) رُمِسوا: دفنوا، ورمس الميت دفنه، والرمْس: تراب القبر. الصحاح.
جهد الأيمان، رُوِي أنه الحلف. ذلك أن العرب كانوا يعرفون الله تعالى، ويعلمون أنه الخالق، وأنه ليس كمثله شيء، ولكن يعبدون معه غيره، فإذا حلف بغير الله لم يكن هذا الحلف أشد الأيمان، فإذا حلفوا بالله كان ذلك أشد الأيمان، وهذا روى في التفسير المأثور.
وإننا نرى أن القَسَم الذي يعد جهد أيمانهم هو أغلظها وأشدها أيا كانت صيغته وأيا كان المحلوف به، وإن كان القسم بالله في ذاته هو أغلظ الأقسام وأشدها، ولا يمنع أن يكون غيره غليظا شديدا في زعمهم الوثني، وجهد: بمعنى الشاق وهو نائب عن مفعول مطلق محذوف (١)، أو هو مصدر بمعنى اسم الفاعل، ومعناه جاهدين، وهو حال من أقسموا، واللام في (ليؤمنن) لام جواب القسم، ونرى من هذا أنهم يؤكدوا أيمانهم إذا جاءتهم آية أي معجزة، وكأنهم لا يعتبرون ما جاءهم من معجزة قاهرة لَا يعدونها آية؛ لأنهم قوم ماديون، ويريدون آية مادية كما طلبوا أن ينزل عليهم كسفا من السماء، أو تفجر الأنهار تفجيرا، ولقد قال الله لنبيه: (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ) ينزلها بحكمته وإرادته، وهو الذي يقدر مناسبتها ويقدر الهداية بها، وهو منزلها، فالأمر إليه، وفي ذلك إقناع وإنذار.
ولكن أهم صادقون في أيمانهم أنهم إذا جاءت الآية التي تكون على الوصف الذي طلبوه؛ إنه لَا دليل من ماضيهم المتعنت أنهم يؤمنون إن جاءت؛ لأن كفرهم ليس في نقص الدليل، ولكنه جحود ولا يزيدهم الدليل إلا شدة في الجحود، وعتوا واستكبارا؛ ولذا قال تعالى:
(يُشْعِرُكُمْ) أي يدريكم ويعلمكم علما يكون كالشعور الحسي (أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنونَ)، وقرئت بفتح همزة (أن)، ويكون المعنى ما يدريكم أنها إذا جاءت الآية كما يطلبون لَا يؤمنون، ويكون هذا إيذانا بأنهم لَا يؤمنون، ولو جاءتهم هذه الآيات التي يطلبونها، لأنهم جاحدون ابتدءوه وهم يصرون عليه فهم لا يؤمنون؛ لأن الجحود غلب عليهم فغلبت عليهم شقوتهِم، وكما قال تعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧).
لقد سبق إليهم الجحود فاستقر في قلوبهم، فلا يرجى إيمانهم، وهم فوق ذلك بسبب جحودهم، ومسارعتهم إليه في قلق فكري ونفسي دائم، يغيرون تفكيرهم حيثما كان موجب له، ولكنه تغيير في دائرة الجحود.
وقرىء بكسر (إن) (١) ويكون المعنى: وما يشعركم، أي وما يدريكم، ويكون على معنى الاستفهام، وما يدريكم أنهم صادقون في عزمهم، وأنهم مريدون تحقيق أيمانهم الذين جهدوا فيها، ثم قرر سبحانه أنهم لَا يؤمنون فقال تعالت كلماته: (إنها إذا جاءت لَا يؤمنون) إنهم ليس لهم عزم صادق، ولذا قال تعالى:
* * *
________
(١) (إنها إذا جاءت) بكسر الهمزة، قراءة ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وخلف، وأبو بكر غير يحيى، وأبو زيد غير الفضل، والسراج عن حماد، ونصير وقتيبة غير النهاوندي. غاية الاختصار.
* * *
وإن الجاحد لَا يكون مستقرا على قرار، ولا على نظر، بل هو مضطرب النفس والفؤاد والنظر فهو ينظر إلى التي تلوح أماراته، فتبهره بيناته، وهو لجوج في جحوده، فيكون متحيرا بين جحود مستكن قار، ونور تبدو آياته، وهذا قريب من معنى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ) أي أن قلوبهم غير مستقرة وأبصارهم أي
وقوله تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) معطوف على (يؤمنون) كما عطف عليه " ونذرهم في طغيانهم يعمهون ".
(وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
أي نتركهم في طغيانهم الظالم، وهو تمردهم على آيات الله تعالى، واقتراحهم على الله أن يأتي بآية أخرى، مما يدل على أنهم لَا يريدون إيمانا، إنما يريدون أن يظهروا أنهم على استعداد لقبول ما يجيء من آيات يقترحونها، وما كانوا يريدون بذلك إلا تعلة لكفرهم، بأنهم لم يقتنعوا بالقرآن دليلا، ومهما يؤت لهم من آية لَا يؤمنون بها، إنه قد سبق جحود نظرهم وفي الأدلة المقدمة لهم، فهم قضوا بكفر، وأدلة الأيمان تقرع حسهم قرعا.
(يَعْمَهُونَ) معناها يترددون في باطلهم والبينات القائمة على بطلانه، فهم يترددون متحيرين، ولا منجاة لهم إلا بإيمان صادق مذعن، وأنى يكون لهم، وقد غلب عليهم طغيانهم الظالم الأثيم، فلا سبيل لأن يصل الحق إلى نفوسهم إذ قد غلفها الجحود، فكان على قلوبهم غشاوة فلا يهتدون.
* * *
(وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى أنهم لَا يؤمنون بالآيات، ولو أقسموا جهد أيمانهم بأنهم يؤمنون إذا جاءهم ما يطلبون من آيات، لأنهم قد سبق جحودُهم تفكيرهم، وأن أفئدتهم ومداركهم متقلبة وأنهم مترددون بسبب طغيانهم، وفي هذه الآيات يبين سبحانه أنهم لَا يؤمنون إلا أن يشاء الله تعالى ولو نرل إليهم الملائكة وكلمهم الموتى، وحشر عليهم كل شيء.
إن هؤلاء لَا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية. فليس هناك حاجة إلى دليل فوق ما تقدم من أدلة، فإنه لَا ينقصهم الدليل، ولكن ينقصهم القلب المؤمن الذي يذعن، وقد كتب الله تعالى عليهم الجحود، لأنهم لَا يؤمنون، ولو أننا أجبناهم إلى كل ما طلبوا على أقصى مداه - ما أجابوا إلى الإيمان إلا أن يشاء الله، فيقول الله تعالى العلمِم بالنفوس (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ) وقد طلبوا أن
وكلمهم الموتى من قبورهم أو خرجوا من القبور ليدلُّوا بالفعل على البعث الذي أنكروه، ولو حشر عليهم كل شيء قبلا أي قبيل بعد قبيل، كما فسر مجاهد عن ابن عباس، لأن قبُلًا جمع قبيل.
وقرى قِبلًا بكسر القاف (١) بمعنى مقابلة، أي عاينوهم معاينة وقابلوهم مقابلة، ويصح الجمع بين القراءتين بأن يكون المعنى، وجمعنا كل شيء من المعجزات والناس المبعوثين وعاينوهم جماعة بعد جماعة ورأوهم بالعيان والمقابلة - لو كان ذلك ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله، وقوله تعالى: (مَّا كانوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ) معناها مما كان من شأنهم أن يؤمنوا إلا أن بكون تعالى شاء ذلك، فكل شيء بمشيئته سبحانه وتعالى.
وإن هذا النص السامي يفيد أنهم بجحودهم وإصرارهم عليه، وإنكارهم للمعجزات لو سيقت لهم لن يؤمنوا؛ لأن الله تعالى لم يشأ لهم الإيمان، فكتب عليهم الضلال لسوء ما يفعلون، ويجحدون، وتدل في سياقها على أنه لَا جدوى عندهم في تكاثر الأدلة، وما عندهم يكفي لقوم يؤمنون.
وقال تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (لكن) للاستدراك عما يقتضيه السياق من أنهم يطلبون ويؤكدون أنه إذا جاءتهم آية يؤمنون، فيبين أنهم بجحودهم لم يشأ لهم الإيمان فلا يجدي دليل، فهو استدراك على ما زعموا من أن كفرهم لنقص الآيات، وينسون مشيئة الله تعالى التي كانت لجحودهم وهي أنهم لَا يؤمنون، وإن ذلك بجهلهم أن الله قد كتب عليهم الكفر بسبب جحودهم، ويجهلون أن ما عندهم من دليل وبينات فيها ما يوجب الإيمان، وهذا معنى، (وَلَكِنَّ أَكثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) الحق، ولا يذعنون له ولا يرضون به، وأن الله
________
(١) (قِبَلًا) بكسر القاف وفتح الباء، قراءة نافع وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وابن عامر، ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالضم فيهما (قُبُلًا). غاية الاختصار (٨٦٠).
وإن هؤلاء المعاندين قد نصبوا أنفسهم لعداوة النبي - ﷺ -، ومقاومة دعوته، وهم وأشباههم من أعداء النبيين الذين قاوموا الدعوة؛ ولذا قال تعالى:
* * *
* * *
إن النبي - ﷺ - كان يصابر المشركين ويتحمل أذاهم هو وأصحابه، ويتحمل معاندتهم له، لَا يرضون القرآن دليلا على نبوته، وقد عجزوا عن أن يأتوا بمثله أو بعضه، وأقروا صاغرين بعجزهم، ولكن لم يمتنعوا هم عن معاداته بالباطل متخذين كل ذريعة سبيلا لباطلهم.
والله تعالى يثبت فؤاد النبي - ﷺ - بأن ذلك كان للنبيين من قبله، وكان مألوفا، وهو سنة الله تعالى في رسالاته فقال تعالى: (كذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) أي كذلك الذي تراه من عداوة نفر من المشركين ولجاجتهم في العداوة، حتى لَا يتركوا بابا من أبواب الكيد إلا سلكوه، ولا مسلكا من مسالك الإعنات إلا اتخذوه، كذلك جعلنا لكل نبي عدوا من شياطين الإنسان والجن، وشياطين الإنس هم أولئك الذين ناصبوك العداوة، وشياطين الجن هم أعوان إبليس الذين يوسوسون، ويأمرون بالسوء والفحشاء ويسولون كل قبيح، ويزينونه، ويسمونه بغير اسمه، فهؤلاء يدفعون النفس الأمارة بالسوء، وأولئك يستجيبون لهم، ويفترون بوسوستهم، ولذلك قال تعالى: (يُوحِي) الوحي: الخطاب الخفي أو التوجيه الخفي، كما قال الله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتَا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ).
فالوحي هنا هو التوجيه الخفي الذي يوسوس في الناس فيلقي في نفوسهم بتغريرهم، بزخرف القول، فيوهم بأن الكفر إكرام للآباء، وأن تقليدهم تعصب لهم، وأن الانطلاق من كل القيود الخلقية مروءة، وأن المعاندة هداية، وأن إهمال حكم العقل هو الاتباع، وهذا معنى قوله: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ
وهكذا يجيء تضليل النفوس في الآحاد والجماعات بزخرف القول، فتسمى الحقائق بغير أسمائها فيسمى الجحود طلبا للدليل، ويسمى الشجاعة في الحق تهورا، ويسمى الإفساد حرية، ويسمى الاستبداد شورى، والشورى طغيانا، ولذلك كان بعض الحكماء يرى أن إصلاح الأخلاق يكون أولا بتصحيح الألفاظ، وإن هذه العداوة للأنبياء من شياطين الإنس والجن بإرادة الله تعالى، ولذا قال: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ).
أي إن هذه إرادة الله تعالى اختيارا، وليبلغ النبيون أعلى مراتب الإنسانية
بجهادهم في الدعوة إلى الله، وقوله تعالى: (ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ). معناه لو أراد الله تعالى ما فعلوه، أي شياطين الإنس والجن، ولكنهم فعلوه ليكون التنازعِ بين الخير والشر، ولأن الله تعالى مكن لإبليس الذي قال: (لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، ولو أراد الله ما تمكن، ولو شاء الله تعالى ما خلقه.
وإذا كان ذلك أمرا ثابتا بالنسبة للنبيين أجمعين، فتقبله وأعرض عنهم، ولا تأس على القوم الفاسقين؛ ولذلك قال تعالى: (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) أي فاتركهم وأكاذيبهم من إنكارهم حجية القرآن، ودلالته على النبوة، وافتراءهم على أنفسهم بحلفهم أنهم يؤمنون لو جاءتهم، وافتراءهم عليك من أنك تعيب أحلامهم، وتسفه آباءهم، وأنت تنطق بالحق وترشدهم وتهديهم سواء السبيل.
وقوله تعالى: (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)، (الواو) واو المعية، و (ما) اسم موصول، أي أعرض عنهم واتركهم هم وما يفترونه، هذه هي النتيجة بالنسبة للنبي - ﷺ -، وهي أن يتركهم في غيهم يتحيرون، أما النتيجة بالنسبة لهم ولأمثالهم فقد ذكرها الله تعالى بقوله تعالى:
* * *
* * *
(الواو) هنا عاطفة على نتيجة الجملة السابقة؛ لأن نتيجة يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا أن يفتروا، فكان العطف عليه (وَلِتَصْغَى إِلَيهِ أَفْئِدَةُ الَّذِين لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ) فالإغواء بزخرف القول غرهم فأفسدهم وأفسد من هم على شاكلتهم، وهم الذين لَا يؤمنون بالآخرة، وتصغي معناها تميل، أي تميل قلوب أولئك الذين لَا يؤمنون بالآخرة، ولم يقل الجاحدون بالآيات، بل ذكر الذين لا يؤمنون بالآخرة؛ ليشير إلى سبب الكفر وهو عدم الإيمان بالآخرة، ذلك أن الإيمان بالآخرة مقياس الإيمان، وهو ما يفصل قلب المؤمن عن قلب الكافر، فقلب الكافر لَا يتسع إلا لما هو مادي محسوس، ولا ينظر إلى ما هو مغيب مستور، فهو لَا يؤمن بأن وراء الحياة التي يعيشها حياة أخرى فيها جزاء ما يكون في هذه الحياة؛ ولذلك كان من أوصاف المتقين كما قال تعالى: (الذِينَ يُؤْمِنونَ بِالْغَيْبِ...)، فالإيمان بالغيب إيمان بسر الوجود وغايته ونهايته، وإنه لا نهاية لها بالقبور، أما الكافرون الجاحدون فيقولون كما حكى القرآن (إِنْ هِي إِلَّا حَيَاتُنَا الذُنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).
(وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ).
ليميل أولئك الذين لَا يؤمنون بالآخرة إلى زخرف الشيطان، وتغرير بالغرور، يحسبون أنه الغاية فهو سبيلهم وإذا رضوه عملوا بمقتضاه، وارتكبوا من الآثام ما هو غايته ونهايتهم، وهذا معنى قوله: (وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُون) والاقتراف معناه الاكتساب، وهو أكثر ما يكون في اكتساب ما لَا يحس وما ليس بخير، وأصل مادة " قرف " أن يقول ما ليس بحق يقال قرفتين إذا رميتني ما ليس فيَّ، فهو في القول الرمي بالباطل، وفي الأفعال اكتساب ما فيه إثم أو ما تكون عاقبته إثم.
فهو يبتدئ أولا: بالميل إليه واستحسانه، وكما يقول الدارسون للنفس الإنسانية: أول الشر استحسانه. وثانيا: بالرضا به خلقا وقولا، فالرضا أعلى من الميل المجرد في مراتب الإدراك النفسي، والقلبي. وثالثا: بالعمل على مقتضى ما مال إليه وارتضاه؛ ولذا ختم الآية بقوله جل كلامه عن الشبيه والمماثل، (وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ) أي ليرتكبوا من المعاصي ما شاءوا أن يرتكبوا حتى يكون اقتراف المعاصي وصفا ملازما لهم لَا يفترقون وهناك بقراءة اللام بالسكون في قوله تعالى (وَلِيَقْتَرِفُوا) ويكون الأمر للتهديد، والإشارة إلى فساد طواياتهم، كأنه وراء الرضا الارتكاب، فليرتكبوا، كقوله - ﷺ -: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " (١) كأنه لَا حاجز بين الإنسان والشر إلا الرضا به، فإذا رضي فقد زال وفتح باب الشر فليلج فيه. وهذا يدل على التهديد والإنذار ببلوغ نهاية الشر، والوصول إلى غايته، فليفعل ما يشاء والعاقبة والمآل إلى الله، وهو يستقبلهم بعذاب جهنم وبئس المصير.
إن الكافرين يريدون آية غير القرآن، والله تعالى هو الذي اختار القرآن آيته الكبرى ومعجزته الخالدة الباقية فإذا كان يستمع إليهم، فقد اختارهم حكاما على آية الله تعالى التي اختار، وذلك أمر منكر لَا يرضاه مؤمن، ولا يرضاه محمد - ﷺ -؛ ولذا قال الله تعالى على لسان نبيه الأمين:
* * *
________
(١) رواه البخاري: أحاديث الأنبياء - حديث الغار (٣٤٨٣). كما رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد ومالك. أما أبو داود فقد رواه بلفظ: " إذا لم تستح ".
* * *
(الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وقد كان ما قبلها طلب آيات، وقسم منهم بأنها إذا جاءت ليؤمنن بها، وكأنهم بذلك يريدون أن يجعلوا من أنفسهم حكاما على آيات الله تعالى على الآية الكبرى وهي القرآن فينكر النبي - ﷺ - بأمر ربه أن يكونوا حكاما على آيات الله غير الله.
وهنا إشارات بيانية:
أولاها: أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لَا أبتغى غير الله تعالى حكما، وقد قدم غير الله حكما، لمزيد استنكار ذلك، وإنه غير معقول وغير جائز، وغير مقبول في ذاته.
الثانية: أن الابتغاء من (بغى) بمعنى طلب، ومن موضع الاستنكار أن يرضي بغير الله حكما، فضلا عن أن يبتغيه، ويطلبه طلبا مشددا فيه، كما يريدون أن يطلب النبي - ﷺ -، والله تعالى هو الذي ارتضى له هذه الآية، وهي القرآن الكريم.
ولذا قال تعالى على لسان النبي: (وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مفَصَّلًا) وهذه الجملة حالية، أي كيف أبتغي غير الله تعالى حكما في آياته وقد أصدر حكمه، وأنزل إليكم الكتاب مفصلا مبينا معرفا بالأحكام المطلوبة، والأحكام المنهية في بلاغة، تحداكم أن تأتوا بمثلها فعجزتم عجزا مبينا.
وقوله تعالى: (أَنزَلَ إِلَيْكمُ الْكِتَابَ) أي آتاكم آيته؛ الكتاب الكريم مفصلا مبينا حجة باهرة، وقد شهدت له الكتب السابقة والأنبياء السابقون؛ ولذا قال تعالى:
(وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُم الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّه مُنَزَّلٌ من رَّبِّكَ بِالْحَقِّ)
فالله سبحانه وتعالى يبين أنه كتاب مجيد يعلمه السابقون من الأنبياء، وهو كتاب أزلي أبدي، علم أمره السابقون وسيبقى في الخلود إلى يوم الدين، وقد
ولقد قال تعالى رادا على أي شكوك وارتياب: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٩٤).
وإن الشك ليس من النبي - ﷺ -، ولكنه شك من المشركين أداهم إليه جحود الحق وقد عرفوه ولقد قال بعد ذلك في هذه الآية.
(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)
الامتراء: الشك، والنهي مؤكد بنون التوكيد الثقيلة، والفاء للإفصاح عن شرط مقدر فإن تقدير القول إذا علمت أنه حكم الله تعالى، وأن الكتب السابقة شاهدة على الصدق، فلا تكونن من الممترين والنهي للنبي - ﷺ -، بظاهر القول، وهو لأمته التي يدعوها إلى الإسلام، وإلى أولئك الذين تهجموا بطلب آيات أخرى، وليس النهي للنبي - ﷺ - في الحقيقة؛ لأن النهي عن فعل يكون حيث يتوقع وقوعه، ولا يمكن أن يكون ذلك من النبي - ﷺ -، لأنه الذي نزل عليه القرآن، فلا يمكن أن يكون منه امتراء إنما يكون من غيره، وإنما ذكر موجها إليه - ﷺ -، لإعلاء شأن القرآن، ولبيان مكانته، وأنه فوق ارتياب المرتابين، ولأنه إذا كان النبي - ﷺ - منهيا عن الامتراء، وهو من نزل عليه القرآن فغيره أولى بالنهي.
وإن نزول القرآن والتحدي به، وعجزهم عن أن يأتوا بمثله، وتقدير الله تعالى بأنه لَا يؤتى بمثله قط إذ قال تعالت كلماته: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ
وإذا قد نزل القرآن الآية الكبرى، فقد تمت كلمة الله في ذلك؛ ولذا قال سبحانه:
* * *
* * *
كلمة الله تعالى حكمه وتدبيره، وما قرره، كما نقول في الكلام الجاري: قال فلان كلمته أي ما قرره وانتهى إليه فمعنى (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) بعد أن ذكر شأن الكتاب مقترفا بما يقترحون من آيات يسترون بها جحودهم وكفرهم فقُرّرت وسجلت، فالقرآن هو المعجزة التي اختارها حجة للنبي - ﷺ -، على المشركين، ومن يجيء بعدهم من أجيال يخاطبهم القرآن الكريم إلى يوم الدين، وكما تحدى العرب يتحداهم أن يأتوا بمثله.
وقوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ) قرئت بقراءة أخرى بالجمع لَا بالمفرد بـ (كلمات ربك) (١) وإسنادها إلى الرب في القراءتين للدلالة على أنه سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ما يناسب الأقوام والشرائع من معجزات النبوات، فهو يختار لكل نبي وشريعته، ما يناسبهما.
وقوله تعالى: (صِدْقًا وَعَدْلًا) أي قررت كلمة الله تعالى في القرآن حال كونه صدقا وعدلا أن كل ما فيه عن الله تعالى صدق لَا ريب فيه، وما فيه من أحكام هي العدل والقسطاس المستقيم، ثم أكد الله تعالى تمام كلماته، فقال تعالت حكمته:
(لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) أي تمت وتقررت كلمة الله الصادقة في القرآن، وأنه العدل والقسطاس ولا مبدل لكلماته، أي فإن الله تعالى لَا يبدل كلماته لأنها الصدق والعدل المستقيم، ولا يمكن أن يكون هناك مبدل لكلمات الله تعالى
________
(١) (كلمت) على الإفراد، قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف، ويعقوب، وقرأ الباقون (كلمات) بالف بعد الميم على الجمع. غاية الاختصار.
(وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم) وقد ختمت الآيات الكريمة بذكر الله تعالى بهذين الاسمين من أسماء الله الحسنى وهو أنه السميع العليم بكل شيء علم من يسمع ويرى بغير كيف ولا مماثلة لعلمنا وأنه عليم علما مطلقا ضمت الآيات الخاصة بالمعجزات لتأكيد أن الله تعالى هو الذي يختار بعلمه المحيط بكل شيء ما مثله يؤمن عليه البشر لكل نبي، وهو الحكيم الخبير فيما يختار، فليس لأحد أن يختار عليه، وهو الذي يقدر كل شيء، (... وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (٨) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (٩).
* * *
الاتباع يكوق عن بينة
(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)
* * *
إن قوة الحق ليست بكثرة من يقولون، وإنما قوته بقوة دليله، فلا تطع الأكثرين لأنهم الكثرة، بل أطعهم لقوة ما عندهم من دليل، فالآية تدعو إلى اتباع العقل والمنطق واليقين، وليس اتباع الكثرة لأنها كثرة، وقد ذكر الله تعالى عن كثرة ضلت، وقلة اهتدت، فقال تعالى مثلا لذلك: (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ)، وقال تعالى: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين).
هذه الآية تدل بجملتها وظاهر ألفاظها أن الله تعالى يقول لنبيه الأمين: إنك تضل لو أطعت من في الأرض واتبعت كثرتهم، وإذا أريد بالأرض أرض المشركين من بلاد العرب، فالمعنى يكون محدودًا بحدود الكثرة العربية الذين كانوا في ذلك الوقت مشركين، فإن تطع أكثرهم يضلوك عن سبيل الله تعالى؛ لأنهم مشركون والشرك ضلال، فإن أطعتهم دخلت في ضلالهم، ويكون معنى القول نهي لمن مع النبي - ﷺ - من أن يتبعوا المشركين في ضلالهم لأنهم الأكثرون، فالكثرة لَا تعطي الدليل قوة، ولا تتبع اليقين دائما، بل إن أقوالهم تعتمد على الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا؛ ولذا قال تعالى: (إِنْ يتَّبِعُونَ اٍلَّا الظَّنَّ)، و (إنْ) هنا نافية بمعنى (ما)، أي إنهم لَا يتبعون إلا الظن فيظنون الأمر ظنا، ثم يعتقدونه اعتقادا، كما قال تعالى عن أمثالهم: (إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)، وأكد هذا ببيان طريق ظنهم فقال تعالى: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)
والخرص مأخوذ من خرص النخل؛ ليعرف ما تحمل من بلح، فيقال: خرص النخل يخرصه إذا حزره، ولا يمكن أن تكون نتيجة الخرص علما قطعيا تبنى عليه عقيدة، أو يؤخذ به رأى سليم في أي أمر من الأمور، وأقصى ما ينتهي إليه ظن لا قطع فيه. فالمعنى: إن هم إلا يظنون، وإن هم في سبيل ذلك لَا يتبعون إلا الخرص الذي لَا ينتهي إلى يقين قط.
هذا الكلام خرجناه على أن الأرض المراد بها أرض الشرك، ويكون المقصود طاعة المسثركين، ولكن الأرض لو يراد منها الأرض الواسعة أرض الله تعالى، ويكون المراد إن تطع الناس فيما يرون ويبتغون يضلوك عن سبيل الله تعالى، وليس الحق دائما مع الكثرة، بل قد تكون الكثرة على غير الحق، بل إنه ثبت من التحليل للعقلية الجماعية أنها لَا تدرك ما يدركه المتفكر في خاصة نفسه، وذلك
ومهما يكن فإن الآية الكريمة تدل على أمرين:
أولهما - أن الاتباع عن غير بينة لَا يجوز، بل إنه يجب النظر والبحث، وأن اتباع الجماعات من غير دراسة لَا يجوز، وأن الجماعات يغلب على تفكيرها الحدس والتخمين، ولا يسودها التفكير والدرس العميق والمنطق السليم.
ثانيهما - أن قوة الآراء ليست بكثرة معتنقيها، وإنما بقوة ما فيها من دليل، وإنه يترتب على ذلك أن التقليد لَا يجوز.
وقد يقول قائل إن الكثرة تغلب في الآراء عند الشورى، فلا يغلب رأي القلة، وإن كان معقولا، فكيف رأى الكثرة غير صحيح.
ونقول في الإجابة عن ذلك: إن أساس الشورى الرضا بالعمل، ورأى
الكثرة اتباعه هو الدليل على النزول على رضا الجماعة، والنبي - ﷺ - نزل على رأي الكثرة عند الشورى في حرب أحد، ولو كان رأيه غير ذلك.
إذا كان الناس يضلون في تفكيرهم الجماعي، فلا تطعهم لأنهم يظنون ظنا، والظن لَا يغني من الحق، فإن الله هو الذي يعلم من يضل، ومن يهديه، ولذلك قال:
* * *
* * *
أكد الله سبحانه وتعالى أنه هو وحده الذي يعلم علما لَا يدانيه علم بمن يضل عن سبيله، وهنا أمور بيانية نشير إليها:
أولها - أن الله سبحانه وتعالى عبر بـ (رَبَّكَ) وهو إشارة إلى كمال علمه الخاص بالأنفس، لأنه ربها الذي كونها، وربها وقام عليها، ووجهها إلى النجدين، نجد الخير ونجد الشر.
ثالثها - أن قوله: (مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) فيه حرف جر حذف دل عليه قوله تعالى بعد ذلك (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، فـ (مَن): على حد تعبير النحويين منصوب بنزع الخافض.
رابعا - أن قوله تعالى: (يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ) عبر بالمضارع للدلالة على بقائه في الضلال مع تجدده، كلما جاء تارة يضل عنه، ويزداد إيغالا في الضلال، ومعنى " عن سبيله "، أي عن طريق الهداية، والوصول إلى الحق المبين. خامسا - أن الله سبحانه وتعالى أكد علمه الذي لَا يصل إليه علم؛ بـ " إنَّ " الدالة على التوكيد، وبالجملة الاسمية، وبضمير الفصل، الذي يدل على تأكيد الخبر.
(وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهدِينَ) العطف على " هو " في الجملة السابقة، وتكرر ضمير الفصل تأكيدا للإسناد، وعبر بالصفة بالنسبة لمن لم يضلوا، تأكيد لهدايتهم، وأنهم بسلوكهم طريق الحق، قد أنار الله تعالى قلوبهم، فكانوا مهتدين بهدايته.
* * *
الله أحل الطيبات
(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ
* * *
نهى الله تعالى عن اتباع المشركين خاصة، والجماعات من غير نظر عامة، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى الضلال الذي كانوا يتبعونه فكانوا يأكلون ما ذبح باسم أصنامهم، وما ذبح على نصبها، وكانوا يحرمون على أنفسهم بعض الأنعام، ويزعمون أن تحريم ذلك من الله، لذلك أباح الله تعالى للمؤمنين أن يأكلوا مما ذكر عليه اسم الله، وألا يأكلوا مما لم يذكر عليه اسم الله، وألا يحرموا على أنفسهم إلا ما حرم الله، فقال تعالى:
وقد دلت هذه الجملة السامية على أمرين:
أولهما - إباحة ما ذكر اسم الله عليه تعالى عند ذبحه، فإن الذبح بإنهار الدم يكون تطهيرا له من الخبث الحسي، وذكر الله تعالى يكون تطهيرا معنويا من خبث الوثنية.
ثانيهما - أن كل الأنعام مباح أكله بعد تذكيته مع ذكر اسم الله تعالى عليه، فلا يحرم المؤمن شيئا مما حرمه المشركون، وإنه رد على بعض المشركين الذين
وهنا يثار بحث: هل تناول المباح يعد من الإيمان؟ ونقول في الجواب عن ذلك: إن تناول المباح له جانبان، جانب التناول، وهو مباح بالجزء، فيجوز للإنسان أن جمل نوعا، وألا يأكل آخر، فيجوز أن يأكل اللحم، وأن يأكل الطير، أو يأكل السمك، فكلها حلال طيب، ولكن لَا يجوز أن يمتنع عنها جملة، فهي مباح بالجزء مطلوبة بالكل، فلا يجوز أن يمتنع عن كل المباحات، والجانب الثاني أن يحسب أن الامتناع عن بعض المباحات تعبد، كأن يمتنع عن اللحم من غير ضرورة جسمية كبعض الذين يسمون أنفسهم نباتيين، فإن هذا يكون ممنوعا لغير ضرِورة أو حاجة، فإنه يدخل في النهي في قوله تعالى: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تحرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ...)، وقال تعالى مستنكرًا مِن حرم بعض اللباس من غير نص والطيبات من الرزق، فقال تعالى: (قُلْ منْ حرَّمَ زِينة اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ...).
* * *
ولذا قال تعالى:
________
(١) رواه النسائي: الضحايا - تأويل قول الله عز وجل: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) (٤٤٣٧) عَنْ ابْنِ عَباسٍ في قَوْلِه عَزَّ وَجَلَّ: (وَلا تَأْكُلُوا مما لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللَّه عَلَيْه) قَالَ: خَاصَمَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَقَالُوَا: مَا ذبَحَ اللَّهُ فَلا تَأْكُلُوهُ، وَمَا ذَبَحَتُمْ أنْتُمْ أكَلْتُمُوهُ؟! َ
* * *
(ما) هنا للاستفهام الإنكاري، وهو بمعنى التوبيخ للمشركين إذ حرموا على أنفسهم ما لم يحرم الله من بعض الأنعام كالسائبة والبحيرة والحام؛ وذلك لأنه
(وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي تحرمون على أنفسكم ما أباحه الله تعالى وقد فصل لكم ما حرم عليكم، أي بينه، فإنه حرام، وقد ذكر تفصيل ما حرم الله تعالى، فيما يأتي من سورة الأنعام فقال تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥).
وقوله تعالى (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) فيه قراءتان متواترتان، قراءة بالبناء للفاعل بفتح الفاء والحاء (١)، ويكون المعنى تحرمون عليكم بعض الأنعام التي ذكر عليها اسم الله عند ذبحها، وأنتم تعلمون ما بينه الله من محرمات أباحها للضرورة، ولم يكن المنع قيها إلا في حال الاختيار، ولا منع فيها في حال الاضطرار.
ويكون التوبيخ على أنهم علموا تحريم الله وأن ما عداه حلال، ومع ذلك حرموا ما حرموا من تلقاء أنفسهم. والمعنى على قراءة البناء للمجهول بضم الفاء والحاء (٢) يكون المعنى تحرمون ما تحرمون بغيا، وقد علم بالتفصيل ما حرم عليكم،
________
(١) (فَصل) بالفتح، (ما حُرم) بالضم، قراءة عاصم وحمزة والكسائي، غير حفص والمفضل كلاهما عن عاصم. غاية الاختصار (٨٦٣).
(٢) (فُصِّل.. حرِّم) بضم الفاء والحاء، قراءة ابن عامر، وابن كثير؛ وأبو عمر والمفضل. وقرأ الباقون، وهم نافع وأبو جعفر وحفص ويعقوب: (فَصَّل.. ما حَرَّم). المرجع السابق.
(وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِآهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ) المعنى: إن كثيرا من الناسِ تسيطر عليهم الأوهام، حتى تزين لهم الضلال، فيتوهمون أنه حق، وما هو إلا الباطل والهوى هو الذي يخرج الوهم، ويحكمون من غير علم.
وقوله (لَيُضِلُّونَ) فيها قراءتان إحداهما - بفتح الياء (١) والمعنى أن كثيرا من الناس يضلون في ذات أنفسهم بأهوائهم التي تسيطر عليهم بغير علم، بل بوهم توهموه، وحكموا على مقتضاه من غير علم أوتوه، وينسبون ذلك إلى الله، والله تعالى بريء منه؛ لأنه مفترى عليه.
وهناك قراة أخرى بضم الياء، ويكون المعنى: إن كثيرا من الناس يُضلون غيرهم تبعا لأهوائهم التي تجعلهم يتوهمون تحريما في أشياء بغير ما حرم الله تعالى، وينسبون ذلك لله تعالت قدرته بغير علم علموه من قبل الله سبحانه وتعالى.
وإن القراءتين متواترتان كل منهما قرآن كريم، فكل واحدة قرآن، ويكون بين القراءتين أنهم يضلون بأهوائهم في ذات أنفسهم، حتى استمكن الضلال منهم فأضلوا غيرهم، فهم يضلون ويضلون بغير علم.
وهذا فيه تنبيه للمؤمنين، بأن يجتهدوا في عدم اتباع المشركين الذين ضلوا وأضلوا: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ).
وإن هؤلاء اعتدوا على الله فكذبوا عليه، واعتدوا على الناس فأضلوهم واعتدوا بتحريم ما لم يحرم عليهم، فكما أن الاعتداء يكون بتحليل ما حرم الله تعالى، فالاعتداء أيضا يكون بتحريم ما أحل الله.
________
(١) (يُضلون) بضم الياء، قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف غير المفضل، و (يَضلون) بفتحها ابن كثير وأبو عمرو. وقرأ الباقون وهم نافع وأبو جعفر وروح - بفتح الياء. غاية الاختصار (٨٦٤).
وقد أكد سبحانه علمه باعتدائهم بذكر أنه رب كل شيء، والرب يعلم بمن خلق وربى، وأكده بضمير الفصل: " هو " وهو يدل على أنه وحده العليم بالمعتدين، وأكده بـ " إنَّ "، وهذا فيه إنذار شديد للمعتدين.
* * *
* * *
الإثم هو ما يبطِّئ عن الخير، وأطلق على كل شر إثم، وعلى كل مخالفة لأمر الله تعالى إثم، وقد عد النبي - ﷺ - أن الإثم يبتدئ من القلب " ولذا قال فيما رواه مسلم: " البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس " (١).
وقد جاء ذلك النص السامي في هذا الموضع الذي يذكر فيه إباحة الذبائح التي ذكر فيها اسم الله للإشارة إلى أن الأساس في الذبائح وغيرها، هو ترك الآثام، فذكر اسم غير الله إثم ظاهر وهو شرك واجب تركه، وإن بجوار ترك الإثم الظاهر إثم باطن، وهو ما يتعلق بالنفس من حقد وحسد، ورغبة في الشر، والدس، والنميمة، والغيبة، والهم بالشر، بحيث لَا يكون التخلف عنه بقدرته، بل يكون بأمر خارج عن إرادته، والشرور قسمان: شرور ظاهرة كالقتل والزنى والقذف وشرب الخمر والسرقة، وقطع الطريق، والمجاهرة بالمعاصي، وشر خفي وهو أن تركس النفس في الآثام، فلا يكون في النفس، إلا عزم على الشر، أو إخفاء الضغن على الناس، وألا ينوي الخير، وأن يفعل الأمر الحسن مُرِائيا، وأن يزكي ويصلي مُرائيا، وذلك هو الشرك الخفي، كما قال - ﷺ -: " من تصدق يرائي فقد أشرك " (٢).
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) سبق تخريجه.
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ) هذا هو الجزاء الذي كتبه الله تعالى، لمرتكبي الآثام ما ظهر منها وما بطن، والذين يكسبون الإثم، سواء أكانوا يكسبونه بجوارحهم الظاهرة، أم يكنُّونه في نفوسهم مع اعتزاله، والحرص عليه، (سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُون) و (السين) هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل، وعبر سبحانه وتعالى بالموصول للإشارة إلى أن الصلة سبب الجزاء، وأن الجزاء يعم كل من يفعل، وكسب الإثم ارتكابه بقصد وإصرار عليه، وإغلاف باب التوبة، والكسب يجعله يسكن في النفس حتى يصير لونا من ألوانها، أو تعزيزه والملكة فيها، فلا يقال إنه كسب السوء، من يفعله مرة أو مرتين عن جهالة ثم يتوب من قريب.
وقال تعالى في الجزاء: (سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ) والاقتراف الكسب، ويطلق كثيرا على الكسب الآثم، وقد يطلق في قلة على كسب الخير، كما في قوله تعالى: (وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ).
* * *
* * *
أباح الله أن نأكل مما ذكر اسم الله عليه، فقال تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وندد بالذين لَا يأكلون مما ذكر اسم الله ممن يحرمون بعض الأنعام؛ لأنهم حرموا ما أحل الله تعالى لهم.
وفى هذه الآية الكريمة أكد سبحانه أن الإهلال عند الذبح لغير الله تعالى فسق، فقال تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) وقد أكد سبحانه وتعالى أنه فسق بـ (إن) المؤكدة، و (اللام) المؤكدة، والجملة الاسمية.
وقد تكلم الفقهاء في هذا الموضوع موضحين موجهين الآيات الكريمة غير مخالفين لها.
ذلك أن أمرين نُصَّ عليهما:
أولهما - إباحة ما ذكر عليه اسم الله تعالى، وإن ذلك مباح بالاتفاق لأنه منصوص عليه، ولأن الله وبخ الذين لَا يأكلون ما ذكر عليه اسم الله، ولأنه يكون قد حرم ما أحل الله تعالى.
ثانيهما - أن الله تعالى نص على النهي عن أكل ما أهل به لغير الله، وأكد النهي بـ (إن) ذلك فسق أي خروج على الدين، ولكن بقيت حال لم ينص عليها نصا صريحا، وهي الحال التي يترك فيها اسم الله تعالى سهوا أو عمدا.
قال بعض العلماء: إنه في حال العمد يكون الأكل غير حلال، وقيل ولو كان سهوا، وحجتهم في ذلك، أن الله تعالى أباح ما ذكر عليه اسم الله تعالى، فكان بمفهوم المخالفة لَا يباح ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه، ولأنه نص على تحريم ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه، وإن النبي - ﷺ - ذكر أن المباح هو ما أنهمر دمه وذكر عليه اسم الله تعالى عند ذبحه، ولأن النبي - ﷺ - ذكر أن الصيد لَا يحل إلا إذا ذكر اسم الله تعالى عند إرسال السهم أو الكلب الصائد، فقد روي في الصحيحين " إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذُكر اسم الله عليه فكلوه " (١)، هذا نظر
________
(١) سبق تخريجه.
وقال آخرون من الفقهاء: إن المحرم هو ما ذبح بأنه لغير الله تعالى ويباح غيره لتلاقي الآيتين في المعنى، إذ إنه ذكر في تحريم المطعومات أن ما أهل لغير الله هو المحرم، فقد قال تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ... )، فمعنى (مِمَّا لَمْ يُذْكرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيه) أي ذكر غيره، والدليل على ذلك الآية الأخرى، وقوله تعالى: (وَإنَّهُ لَفِسْقٌ)، والضمير يعود إلى الأكل مما لم يذكر عليه اسم الله، أي الذبيحة، ولا يمكن أن يكون فسقا إلا إذا كان ثمة ذكر لغير الله تعالى.
وفوق ذلك فإنه من المقررات الشرعية أن ذبائح أهل الكتاب حلال أكلها، فقد قال تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ).
وهكذا نرى فريقا حرم ما لم يذكر عليه اسم الله سواء أتركه عمدا أو سهوا، وآخرون قالوا: يحل، سواء أتركه عمدا أو سهوا، وهناك قول وسط بين القولين المحل والمحرم، فقال: إن لم يذكر اسم الله سهوا، فإنها تحل، وإن تركه عمدا لَا تحل الذبيحة، وهذا الرأي أقرب إلى روح الإسلام؛ لأن من لم يذكر اسم الله سهوا، فإنه قد رفع الخطأ والنسيان، وما كان بإِكراه، وأما من تركه عمدا فقد أعرض عن ذكر الله، وذلك إثم لَا يبرره شيء.
ونحن نميل إلى هذا الرأي.
(وِإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ) الظاهر أن الشياطين هنا هم شياطين الإنس يوسوسون إلى أصدقائهم ليجادلوا المؤمنين في أمر ما أبيح من
(وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكونَ) أي إن سايرتموهم في جدلهم، وفتحتم لهم صدوركم، فإنهم يجرونكم إلى طاعتهم، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون مثلهم، وهنا قسم مقدر في القول، وقوله تعالى: (إِنَّكمْ لَمُشْرِكونَ) هو جواب القسم بدليل وجود (اللام)، وبدليل أنه لم توجد (الفاء) إذ لو كانت جوابا للشرط لجاء بالفاء.
وهذا تأكيد لإشراك المؤمنين إن سايروهم في الجدل في أمور ليست موضع جدل، فالجدل - كما قلت - يولد الريب. اللهم اكف أمة محمد شر جدل أهلها، وامنحها الإيمان بما تقول، وما تدعو إليه.
* * *
الإيمان حياة والشرك ظلمات
(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا
* * *
كانت الآيات السابقات في أحوال المشركين من إشراك بالله إلى سيطرة الأوهام عليهم، حتى حرموا على أنفسهم ما أحل الله تعالى، وفي هذه الآيات يبين سبحانه وتعالى أن الشرك موت نفسي كمن يموت موتا حسيا، وأن الهداية حياة بعد الموت، وأنها نور، وأن الشرك ظلمات متكاثفة بعضها فوق بعض تبتدئ بالأهواء، وهي ظلمة، ثم بالأوهام، وهي ظلمة، ثم تنتهي بالشرك وهو ظلمات.
شبه الله تعالى حال من يكون في جهل ثم يتجه إلى الهداية كحال من يكون ميتا فيحييه الله ويجعل له نورا يمشي به في الناس، ليهتدي به، ثم نفى أن يكون ذلك الحي المهدي بعد الجهل الذي هو الموت نفى أن يكون مثله كمثل من يعيش في ظلمات من الجهالة والضلالة لَا يمكن أن يخرج منها، وهذا معنى قوله تعالى:
(الواو) عاطفة، هذه الجملة عطفت على ما قبلها من ذكر أوهام المشركين، وطلبهم آيات وتحريمهم ما أحل الله، وإحالة الإثم منهم ظاهرا وباطنا، وهذه الآية هي بيان للفرق بين المؤمن والمشرك، والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، فهو نفي للمشابهة، والمعنى لَا يستوي من يكون ميتا بالجهالة فأحييناه بالإسلام والهداية
فلا يستوي - بمقتضى هذا النفي - المؤمن والمشرك، كما لَا يستوي النور والظلمة، كما لَا يستوي المبصر والأعمى، وهذا كقوله تعالى في آية أخرى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (٢٠) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (٢١) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (٢٣).
(كَذَلِكَ زُينَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) كهذه الحال التي صاروا بها في ظلمات ليسوا بخارجين منها، لأنهم استمرأوا الظلام وألفوه، واستطابوا الإقامة فيه لَا يخرجون - مثل هذه الحال زين للكافرين ما كانوا يعملونه من إنكار، وبقاء في الباطل، حتى حسبوا أن ما هم عليه، هو الحق الذي لَا يأتيه الباطل.
وقوله تعالى: (زُيِّنَ) بالبناء للمجهول للإشارة إلى أنه لم يكن لهم من عقل أو فكر أو هداية، إنما زين لهم باهوائهم وأوهامهم، فضلوا ضلالا بعيدا، و (ما) هنا موصول بمعنى الذي، و " كانوا " دالة على استمرار عملهم، وسيكون ما زينته لهم أوهامهم وبالا عليهم يوم القيامة.
* * *
* * *
كان النبي - ﷺ - يعارَض، ويُمكَر به، ويُدبر له وللمؤمنين زعماء مكة وكبراؤها، وذوو البيوتات الكبيرة فيها، يؤذون النبي - ﷺ -، وضعفاء المؤمنين، وكانوا هم الذين يدبرون ما يقال توهينا لأمر الدعوة، وإدحاضا لقول الحق،
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا).
الأكابر جمع أكبر، وهو الذي بلغ أعلى العلو في قومه على حسب مقياس العلو عندهم، وكذلك، أي كالحال التي ترى من ذوي البيوتات في قومك جعلنا في كل قرية، أي مدينة عظيمة، أكابر مجرميها يمكرون ويدبرون وقوله تعالى: (أكَابِرَ مُجْرِمِيهَا) الظاهر منها أن " أكَابِرَ " مضافة إلى " مجرميها "، أي صيرنا في كل قرية مجرميها، (لِيَمْكُرُوا فِيهَا) أي يدبرون ما يقاومون به الأنبياء، ويعارضون، ويكون المؤدى الذين يعارضون الأنبياء في القرى أي المدن هم الذين يمكرون المكر السيئ فيها، وهذا كقول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٣٤) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥).
وإن مقياس الكبر عندهم هو النسب وكثرة المال والقوة الظاهرة، وليست الأخلاق الفاضلة والعقيدة السليمة والشرف الذاتي الذي لَا يكتسب بالنسب، ولكن يكتسب بالخلال الكريمة الفاضلة.
ومعنى (لِيَمْكُرُوا فِيهَا)، أي ليدبروا الأمور العامة كما يحبون، أي يسيطرون على الفكر العام، فلا يكون الرأي العام عندهم فاضلا، وإنما يكون فاسدا أثيما.
(وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) أي إن عاقبة التدبير الفاسد الأثيم يعود عليهم بالوبال؛ لأنهم يريدون إعلاء الرذيلة بتدبيرهم وإنكار الحق بتفكيرهم،
وهكذا لَا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، وقد قال تعالى أيضا: (مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ من نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ).
مكر هؤلاء أن يحرضوا على معارضة الرسول، وأن يلقنوا الناس ما يردون به على دعوة الحق التي جاء بها النذير من قبَل الله تعالى، وأن يزيدوا معارضة الحق وأن يثبتوهم على الشرك.
(وَمَا يَمْكرُونَ إِلَّا بِأنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرونَ) لَا يحيق المكر السيئ إلا بأهله كما يكون؛ ولذا قال سبحانه: (وَمَا يَمْكُرونَ إِلَّا بِأَنفسِهِمْ)، أي أن مآل مكرهم عائد بالوبال عليهم، وقد أكد سبحانه أن مآل الوبال على أنفسهم، لَا على النذير الذي أنذرهم، أكد ذلك بالنفي ثم الإثبات وذلك فيه معنى القصر، أي أن المكر في عاقبته لَا يكون إلا عليهم، فهم في حقيقة الأمر يمكرون بأنفسهم، لَا بغيرهم.
وما يشعرون بتلك العاقبة؛ لأنهم سادرون في غيهم، لَا يرشدون ولا يفكرون، عميت عليهم أمورهم، فلا يشعرون بمغبة ما يفعلون، ولا بنتيجته، وإنهم إذ يقاومون أمر الله ونهيه اللذين حملهما نبيه المرسل - يقاومون مالك كل شيء والعليم بعواقب الأمور.
وكان مكرهم بأنفسهم؛ لأنهم يضللونها، ويزيدونها ضلالا، إذ إن كثرة التدبير للدفاع عن الضلال يزيد الضال ضلالا، والخاسر خسرانا، وإن عاقبة كل ذلك عليهم، إذ سينالون جزاء ذلك، وسيحملون أوزارهم، وأوزار الذين يضلونهم بمكرهم، وسوء تدبيرهم.
* * *
* * *
سمعوا القرآن الكريم، وهو يتلو عليهم قصص النبيين وآياتهم التي أجراها الله تعالى على
قالوا مؤكدين النفي بـ (لن) بأنهم لَا يؤمنون، (حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)، أي حتى نؤتى من المعجزات مثل ما أوتي رسل الله.
أي أنهم إذا جاءتهم آية بينة تدل على رسالة النبي - ﷺ - قالوا مؤكدين النفي، لن نؤمن حتى نؤتى الآيات التي أوتيها رسل الله تعالى، أي حتى ينزل علينا كما نزل عليهم، أو تكلمنا الملائكة كما كلموهم، وجاء ذلك على لسان بعض المشركين الذين يمكرون في أم القرى، وقد قال تعالى عنهم، إنهم يريدون أن يكونوا كالرسل لهم صحف منشرة (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (٥٢).
وروى أنه عندما دعا النبي - ﷺ - قومه في مكة، وأبلغهم أنه رسول من رب العالمين، قال الوليد ين المغيرة: لوكانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا، وقال أبو جهل: والله لَا نرضى ولا نتبعه حتى يأتينا وحي كما يأتيه.
________
(١) راجع كتاب (المعجزة الكبرى) للمؤلف - طبعة دار الفكر العربي. وقد نصح الإمام رحمه الله تعالى في المقدمة بقراءته كتقدمة لهذا التفسير.
(اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الله ذو الجلال والإكرام، والعلم والقدرة على كل شيء أعلم حيث يجعل رسالته، وأفعل التفضيل ليس على بابه، وكذلك كل أفعل تفضيل يوصف به الله تعالى؛ لأنه لَا توجد مفاضلة بينه وبين أحد من خلقه في أي وصف من الأوصاف، ومعنى أفعل التفضيل في العلم بالنسبة لله تعالى على هذا أن الله تعالى يعلم مواضع الرسالة علما ليس فوقه علم قط؛ لأنه علم الله العليم بما كان وما سيكون، وما هو كائن إلى يوم الدين.
وقوله تعالى (حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (حيث) ظرف مكان، أي الموضع من خلقه الذي يرتضيه ويصطفيه رسولا فهو الذي يربيه على عينه، ويشب على التقوى والعفة والأمانة، والخلق الكريم، حتى صح له أن يقول: " أدبني ربي فأحسن تأديبي " (١).
وإن ذلك لبين لهم لو كانوا لَا يجحدون بالحق إذا بدت لهم بيناته، وظهرت آياته، ولقد كان من أوسطهم نسبا، فكان في الذؤابة من قريش (٢)، وكان أكرمهم خلقا وأطيبهم نفسا، وأعفهم وأشدهم أمانة، حتى كان يقال: الأمين، وسموه بهذا الاسم، فكانوا إذا أطلقوا كلمة (الأمين) لَا تنصرف إلا إليه عليه الصلاة والسلام، وكانوا يرضون حكمه، إذا جاء الأمر بالاحتكام فعندما اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود بعد أن بنوا الكعبة ارتضوا أن يكون الحكم أول من يدخل
________
(١) ذكره السيوطي في الجامع الصغير: ج ١، ص ٢١.
(٢) الذؤابة: الشعر المضفور، واستعير هنا للدلالة على الصدارة، وأنه كان موضع الشرف والتباهي فيهم. صلى الله عليه وسلم.
فالله تعالى العليم الحكيم، قد وضع رسالته في خيرهم بإقرارهم فكيف يمارون من بعد ذلك، ويقول قائلهم كبرا وعلوا في الأرض: أنا أولى، ويقول آخر: نريد أن نؤتى مثل ما أوتي الرسل، قالوا ذلك استكبارا فكان عقابهم صغارا، وعذابا أليما، ولذا قال تعالى:
(سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ).
الصَّغار: هو الضيم والذل والهوان، فقد كانوا الأكابر الذين أجرموا، فكان العقاب الهوان، وكان عقاب الإجرام الذي ارتكبوه واستمرءوه وداوموا عليه العذاب الشديد.
وقوله تعالى: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) فيه (السين) لتأكيد الوقوع في المستقبل القريب، والتعبير بالموصول فيه فائدتان بيانيتان، أولاهما - أنها تفيد أن الصلة هي سبب هذا العذاب الشديد، والثانية - تسجيل الإجرام عليه، وأنهم كانوا فيما يمكرون مجرمين، ولم يكونوا أشرافا كراما، كما هو شأن الأكابر الذين يستعلون بانسابهم.
وقوله تعالى: (بِمَا كانُوا يَمْكُرُونَ) أي بسبب مكرهم السيئ، وهذا يفيد أن الكلام في موضوع الأكابر المجرمين الذين ذكروا في الآية السابقة؛ ولذا قالوا إن (الواو) في قوله تعالى: (وَإذَا جَاءَتْهُمْ آيَة) واو عاطفة على قوله تعالى: (وَكذَلِكَ جَعَلْنَا فِى كل قَرْيَة أَكابِر مُجْرِمِيهَا).
اللهم أبعدنا عن الإجرام وأسبابه، وعن الطغيان وبواعثه.
* * *
* * *
بين الله تعالى في هذه الآية أن الناس صنفان صنف سلك طريق الهداية فهداه الله تعالى وشرح صدره للإسلام، فدخله مطمئنا نيِّرَ القلب، وقسم قد كتب الله تعالى عليه الشقوة، فضاق صدره ولم يدخل النور قلبه، وهذا بعض ما يشير إليه النص السامي.
هذا قسم المهديين الذين كتبهم في عباده المؤمنين، وإنه قد فهم القسمان فهمًا إجماليا من حال الجحود عند الوثنيين وتدبيرهم الأذى للمؤمنين، ففهم أن هناك فريقين فريق اهتدى وآمن، وفريق كفر وجحد وأنزل الأذى، وفي هذا يبين الله كيف يدخل الإيمان القلوب، وكيف يكون الصد عن سبيل الله، والفاء مترتبة على ما فُهم من أن الناس فريقان لبيان الحال النفسية، ولتفصيلها فمن يرد الله أن يهديه فالأمر أولا لهداية الله تعالى وإرادته، وإنه لَا بد أن يكون من حال النفس ما يجعلها تتجه إلى الهداية، فلا تكون معوجة بل تكون إرادة العبد مستقيمة خالصة نقية من الشوائب، ويكون الاتحاد، فتكون إرادة للهداية، ويريد سبحانه أن يهديه مع اختباره من غير إجباره، و (شرح) معناها يوسِّع؛ لأن معنى (شرح) في اللغة: التوسعة، والصدر القلب، وفي
وإن هذا يدل على أن شرح القلب، يكون بتوسعة المدارك وفهم قيمة هذه الحياة الفانية وإدراك أنها قنطرة للحياة الباقية، ومن غمَّ عليه ذلك فهو من الفريق الثاني الذي قال الله تعالى فيه:
(وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)، ليس الإضلال من غير عمل من جانب من أراد الله تعالى إضلاله، إنما يكون بعمل من جانبه قد كتبه الله تعالى عليه، بأن تهوى نفسه في طريق الضلالة بالميل إليها، والرغبة فيها، والحرص على طريق يدفعه إليه الغرور ونسيان الآخرة، وأن يعتقد أنه لَا حياة إلا الدنيا وما فيها.
وإنه إذا سار على هذا النحو أراد الله تعالى له الضلال، والكل بما كتبه الله تعالى عليه، وإنه إذا أراد الله ضلاله على هذا النحو الذي بيناه، جعل صدره ضيقا حرجا، أي أن قلبه لَا يتسع لغير ما ختم عليه، كما قال تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ). فالله تعالى يضيِّق صدره، وفي هذا أيضا مجاز، لأنه تشبيه للأمر المعنوي، وهو الإعراض عن الحق، وابتعاده عنه بالضيق الحسي، وإسناد الضيق إلى الصدر من ترشيح الاستعارة وتقويتها.
________
(١) مصنف ابن أبي شيبة (٣٠١٠٤)، والحاكم قى المستدرك (٧٩٣٥)،) ج ٤، ٣٤٦.
وقرى (حَرِجا) بكسر الراء (٢) بمعنى الضيق، وهي تأكيد للضيق أي ضيقا شديدا لَا يمكن أن تدخله الهداية، وعلى تفسير الحرج بالفتح على اسم جنس جمعي للحرجة قيل إن الإمام عمر رضي الله عنه هو صاحب هذا التفسير.
فقد روى أنه سأل رجلا من الأعراب من أهل البادية عن الحرجة. فقال هي الشجرة تكون بين الأشجار لَا تصل إليها راعية، ولا وحشية ولا شيء، فقال عمر رضي الله عنه، وكذلك قلب المنافق لَا يصل إليه خير.
وعلى هذا التفسير، يكون في الكلام تشبيه، أو استعارة، وهو تشبيه قلب الكافر في أنه لَا ينتفع به، ولا يصل إليه بالحرج، وهو الشجر الملتف الذي لَا ترى الأرض من تحته، ولا تصل إليه راعية ولا وحشية ولا شيء، لأنه لَا ينتفع به في شيء.
(كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ).
هذا تشبيه آخر للكافر، (يَصَّعَّدُ) أصلها يتصعد، وقلب التاء صادا، وأدغمت الصاد في الصاد، وقرئ يَصَّاعد (٣) وأصله تصاعد، وكان التصريف ما ذكرنا في يصعد، وهما بمعنى واحد، وتزيد تصاعد على تصعد؛ في أنها تدل على محاولة الصعود بعد الصعود، وذلك أثقل.
________
(١) (حَرَجًا) بالفتح، كلهم إلا نافع وأبو جعفر وأبو بكر. غاية الاختصار (٨٦٦).
(٢) (حَرجً) بكسر الراء، نافع وأبو جعفر وأبو بكر. السابق.
(٣) (يصَّاعد) بتشديد الصاد وبالألف، قراءة أبو بكر والمفضل عن عاصم، وقرأها (يصْعد) بالتخفيف ابن كثير، وقرأ الباقون بالتشديد بغير ألف (يصَّعَد). غاية الاختصار.
وإن ذلك يدل على أمرين: أولهما - أنه مهما يكن الجحود فإن الفطرة تقاومه، وتجعله عبئا ثقيلا، ومن يحارب الفطرة، فإنه يبوء بخسران مبين.
ثانيهما - أنها تشير إلى أن الضيق الشديد الذي جعله الله تعالى في قلب الكافر يجعله غير قادر على الرقى إلى الحقائق السماوية التي جاء بها الإسلام.
(كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ).
(كَذَلِكَ) الإشارة إلى حال المشركين التي أركسوا، والتشبيه هو تشبيه الرجس الذي ينزل بهم، و (الرِّجْسَ) أصل معناه الفتن أي الأمر القذر، الذي تستقذره النفوس وتعافه، وفيه بيان أن الكفر أمر قبيح تعافه العقول المستقيمة، وكيف تدرك العقول أن حجرا يصنع بأيديهم وهو لَا يضر ولا ينفع يعبدونه.
والمعنى لهذه الحال التي رأيناها في الكافرين، ووصف الله تعالى الكافرين بقوله: (الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) وذلك وصف لهم بأقل أوصافهم، وهو أنهم لا يؤمنون، النفي نفي للمضارع، وهو أنه يدل على الدوام المتجدد آنًا بعد آنٍ، أي يتكرر، بتكرار الآيات التي لَا تزيدهم إلا كفرا.
* * *
* * *
بعد أن بين الله تعالى شرح صدر المؤمن لنور الحق، وضيق صدر الكافر، حتى لَا يدخل النور قلبه، بعد ذلك بيَّن الصراط المستقيم، والصراط هو الطريق والخط المستقيم.
والإشارة في قوله تعالى: (وَهَذَا صرَاطُ رَبِّكَ) إشارة إلى ما أوحي للنبي - ﷺ - مما نزل عليه من الدين والقرآن، وقال سبحانه وتعالى: (مُسْتَقِيمًا) وهي حال من اسم الإشارة، وهو حكم من الله تعالى بأنه مستقيم، لَا عوج فيه، ولا
* * *
الجزاء
(لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)
* * *
بعد أن ذكر الله سبحانه حال الناس في الدنيا بين مهدي كتبت له الهداية، وبين شقي كتبت له الغواية، وبين من هداه الله إلى الصراط المستقيم صراط الله، أخذ يبين سبحانه جزاء كل من الفريقين، وابتدأ سبحانه بمن هداه الله تعالى إلى صراط العزيز الحميد، فقال تعالى:
الضمير في (لهم) يعود على من فصل لهم الآيات، فتذكرها، إذ يقول سبحانه: (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) فقال سبحانه وتعالى: (لَهُمْ دَارُ السَّلام عِندَ رَبِّهِمْ) والسلام معناه الأمن، ودار السلام هي الجنة، وسميت دار السلام لأنها دار الأمن من الخوف، فلا يخافون أحدا، ولا يحزنون على شيء فاتهم فيها، وهي دار إقامة وفيها النعيم المقيم، وغيرهم في العذاب، وهم فيها يتمتعون بأمرين أولهما النعيم الدائم الذي لَا يخافون فيه انقطاعا.
ثاني الأمرين أنهم يكونون عند ربهم، فهم يلقون الله تعالى، وهو وحده نعيم نفسي لَا يعدله نعيم، وهو الذي رَبَّهم في الدنيا، ويربهم في الآخرة، فهم في رحمته في الدنيا، وقد قاموا بالشكر، وفي رحمته في الآخرة لاستحقاقهم الأجر، فالشكر منهم، والأجر من الله تعالى متقابلان، وهما البيع الرابح - وأكد الله تعالى الأمر الثاني وهو قربهم من الله تعالى فقال تعالى: (وَهُوَ وَلِيُّهم بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ).
(الولي) الموالى والنصير، والحبيب، والله سبحانه وتعالى هو ذلك كله بالنسبة للمؤمن الطائع الذي سلك طريق الله تعالى المستقيم، وتذكر الله تعالى في الدنيا، في سره وجهره، في ظاهره وباطنه، فهو وليه إذ أخرجه من الظلمات إلى النور وهو وليه إذ شرح قلبه للإسلام وهو وليه إذ وقاه الله تعالى ضر النفس بالانحراف والظلم، ثم هو وليه إذ لقيه في الآخرة ووقاه عذاب الجحيم.
وقد تكرم الله سبحانه وتعالى - وهو مجري النعم - بأن جعل نعيم الجنة جزاء، وهو المتفضل، وله المن والفضل، فقال تعالى: (بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي أنهم استحقوا دار السلام عند ربهم وولايته بالذي عملوا في الدنيا وداوموا عليه، وكان يتجدد عملهم بتجدد شعورهم بنعمة الله تعالى عليهم، ذلك الفضل من الله، والله يختص برحمته من يمثماء، وهو ذو الفضل العظيم.
* * *
* * *
بين الله الجزاء الخاص بالمؤمنين أولا؛ لأن بيان جزاء الطاعة أعظم أهمية من جزاء العذاب؛ ولذا بينه سبحانه وتعالى أولا، لمكان التبشير، والله تعالى قدم التبشير على الإنذار رجاء الطاعة.
وقال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) (الواو) تصل الكلام السابق بالكلام اللاحق، وإن (الواو) قد تكون عاطفة على ما فُهِم من الكلام السابق.
(ويوم) مفعول متعلق بفعل معناه اذكر لهم يوم يحشرهم الله جميعا، ويخاطبهم سبحانه بهذا الخطاب (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم)، والمراد - والله أعلم - قد شددتم في طلب الكثرة من الإنس لتضلوا، فالسين والتاء للطلب، وخبر الله تعالى بطلب استكثارهم يدل على أنهم نالوا هذه الكثرة، فأغووها، كما قال تعالى في كتابه العزيز؛ عن إبليس: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠). وقال تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢).
والجن هنا هم إبليس وجنده من الشياطين كما تدل على ذلك الآيات الكريمة، وكما يدل على قسمه بأن يغويهم أجمعين إلا عباده منهم المخلصين، ولم يَرُدَّ الجن، أو لم يذكر الله تعالى جوابا لهم؛ لأن ماضي قولهم يدل على فعلهم، فلم يكن سبيل لأن يردوا، وقد توعدوا المؤمنين وجاهروا بعصيان ربهم، فلم يبق إلا أن ينالوا الجزاء راضين أو ساخطين (وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ) المغرورين، لأنهم لم يكونوا قد رأوا العذاب بما ذكر سبحانه وتعالى بقوله: (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا).
قال جل جلاله بلسان الفعل والمقال: (النَّارُ مَثْوَاكُمْ) أي محل إقامتكم الدائم الخالد الذي لَا ينتهي، فله ابتداء وليس له انتهاء، و (المثوى) اسم مكان من ثوى يثوى بمعنى أقام إقامة دائمة لَا يخرج منها مختارا، فالغالب فيها الإقامة الاختيارية، وقد عبر بها هنا تهكما عليهم، كأنهم اختاروا بأفعالهم؛ إذ قد اختاروا أسبابها، ومن اختار بابا فقد اختار الدخول فيه، وإن التعبير بـ (خالدين) يدل على البقاء الدائم بمشيئة الله تعالى الخالدة، وبإنذاره بذلك في عدة من آياته.
ولكنه قال سبحانه وتعالى مستثنيا: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) فهل هذا الاستثناء يدل على أن النار لها نهاية، تنتهي بمشيئة الله تعالى وأنه لَا خلود فيها؛ وكذا قال بعض العلماء ونسب هذا القول إلى ابن تيمية، وقرره ابن القيم في كتابه حادي الأرواح.
وقوله تعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) لَا يدل على أنه عذاب غير أبدي؛ لأنه صرح في النص بأنهم خالدون فيها، ولأنه صرح سبحانه وتعالى بكلمة أبدا في كثير من آياته، فيقول سبحانه: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدا...)، ولأن كلمة (إِلَّا مَا شَاءَ) تدل أن الأمر إلى مشيئته عذابا وغفرانا، وأنه شاء العذاب، وأنه: توعد بالتأبيد، وهو لَا يخلف الميعاد، وذكر المشيئة هنا للدلالة على أنه شاء ذلك، وأنه يمكن أن يشاء غير ذلك، ولقد قال الزمخشري إمام البيان في ذلك: " يخلدون فيها في عذاب النار الأبد كله إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير، فقد روي أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم، أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بوتره، ولم يزل يحرق عليه أنيابه، وقد طلب أن ينفس من خناقه، أهلكني الله إن نفست عنك إلا إذا شئت، وقد علم الله أنه لَا يريد إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف، والتشديد فيكون قوله: إلا إذا شئت من أشد الوعيد، مع تهكمه بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع ".
هذا تخريج حسن في الثاني لَا في الأول، لأن الأول يفيد أن ثمة عقابا بالبرد الشديد.
________
(١) سبق تخريجه.
ولا يقال إن مشيئة الله تعالى في عدم التخليد تتحقق في عصاة المسلمين، إذ عقابهم على سيئاتهم وما يفعلوا من خير فلن يكفروه، ويرد هذا أن الكلام في الكافرين بدليل وصف الخلود، إذ يقول سبحانه خالدين فيها.
ومن الغريب أن ابن القيم الذي ساق الأدلة غير الصحيحة في أن العذاب غير دائم، قال إن نعيم الجنة دائم، وأنه لَا مرية فيه، مع أنه جاء في سورة " هود " الآية الخاصة بنعيمِ الجنة والاستثناء بالمشيئة أيضا، فقد قال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨).
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (إنَّ رَبَّكَ حَكِيم عَلِيم).
ختم هذه الآية الكريمة بذلك الكلام، وهو يؤيد مشيئة الله المطلقة التي دل عليها الاستثناء (إِلَّا مَا شاءَ) فإن مشيئة الله تعالى تسير على مقتضى ربوبيته التي ربت الإنسان وأتمت عليه بالنعمة، وحكمته التي تقدر الأمور والأشياء والأشخاص، وأنه ما خلى هذا الوجود عبثا، كما قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثَا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا ترْجَعُونَ)، وأن تدبيره للوجود بمقتضى علمه الذي أحاط بكل شيء، تعالى الله علوا كبيرا وتنزهت ذاته وعلت حكمته، وسع كك شيء علما.
* * *
* * *
إن الولاء يُصْلح، وَيُفسد، فإذا كان الولي صالحا صلح به من والاه، وإذا كان فاسدًا أفسد من والاه، وقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا) التشبيه فيه هو تشبيه حال الناس في تأثير بعضهم في بعض بالفساد، بحال تولي
ووجه الشبه في الظلم بين الراعي والرعية بالتولي بين الجن والإنس، بإغراء الأولين وتلقى الآخرين وأن كليهما ظالم.
هذا إذا فسرنا التولية بمعنى السلطان، سلطان الظالم من الحكام على الرعية الظالمة الفاسدة، ويرشح لهذا المعنى قوله تحمالي: (بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بما كانت الرعية تكسب من ظلم في نفسها، وظلم في معاملاتها وفساد فيما بينهم يفسدون ولا يصلحون، فيجيء حكام على شاكلتهم فيتشاكلون فيما بينهم، يحكمون بمثل أخلاقهم.
________
(١) جاء في كشف الخفا: ج ٢، ص ١٨٤ بلفظ: " كما تكونوا يولى عليكم، وقال في الأصل رواه الحاكم، ومن طريق الديلمي عن أبي بكرة مرفوعا، وأخرجه البيهقي بلفظ: " يؤمر عليكم!، وذكر أيضا أنه رواه الطبراني.
(٢) رواه ابن عساكر في تاريخه عن ابن مسعود رضي الله عنه، رفعه، وفيه ابن زكريا العدوي. متهم بالوضع. كما في المقاصد. وراجع أيضا: كشف الخفاج ٢، ص ٣١٥.
(٣) رواه أبو داود: الملاحم - الأمر والنهي (٤٣٣٦)، كما رواه الترمذي أحمد وابن ماجه بنحوه.
وعندي أن الآية الكريمة تحتمل التخريجين، ولا مانع من الجمع بينهما، والتشابه قائم في الحالين.
* * *
(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (١٣٠) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)
* * *
بعد أن بين الله تعالى أنه سبحانه وتعالى يكشف يوم الحشر استغواء الجن لأوليائهم من الإنس، واستكثارهم من ذلك، وشعور الإنس بأنهم انتفعوا انتفاع متعة لَا انتفاع مصلحة، بعد ذلك بين تقصيرهم جميعا، وأنهم مخاطبون جميعا بهذا التقصير، وأنهم خوطبوا جميعا بالرسل، فما استجابوا للحق فقال تعالى:
(المعشر) الجماعة العامة، يا جماعة الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم... والخطاب للجن والإنس معا، وقدم الجن: لأنهم الذين كان منهم الاستغواء، والإنس استجابوا لاستغوائهم، فهم أساس الشر، إذ هم الذين وسوسوا بالشر، وهم الذين دعوا إليه وأغووا به؛ ولذا قدموا عند اللوم على إهمال دعوة الرسل، أولا، والإنس كان لومهم؛ لأنهم أطاعوهم، فالمُضِل منزلته في الضلال أقوى من منزلة من استجاب للتضليل اختيارا، وقوله تعالى: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ منكُمْ) فيه استفهام إنكاري لإنكار الوقوع، وفيه معنى التوبيخ والتأكيد، والمعنى قد أتتكم رسل منكم.
والرسل، أهُمْ من الإنس والجن، أم من الإنس فقط؛ والأكثرون على أنهم من الإنس فقط، أولا - لأن الله تعالى لم يذكر رسلا من الجن قط، ولو كان منهم رسل لذكرهم، وثانيا - لأن إرسال الرسل كان لما صنعه إبليس مع آدم إذ وسوس له أن يأكل من الشجرة، فكان الهبوط، وكانت الهداية بِالرسلِ لقوِله تعالى: (فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدى فَمَن تَبِعَ هُدَاي فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يحزنُونَ).
وثالثا - أنه جاء النص بأن الرسل ذوو الكتب المنزلة، وجاء على لسان الجن؛ أنهم خوطبوا بما جاءوا به، فقد قال تعالى عنهم: (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٢).
ورابعا - أن الله تعالى ذكر الأنبياء وكلهم من الإنس، فذكر أعدادا كبيرة، ثم قال تعالى: (ومِنْهُم مَّن قَصَصنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ).
ولم يذكر ولا بالإشارة أن في الجن رسلا أرسلهم.
لهذا رجح الأكثرون أو اختاروا أن الرسل ليسوا من الجن، ولكن قال بعض العلماء إنه كان من الجن رسل، أخذها من هذه الآية، وهي قوله تعالى:
وقد أجيب عن ذلك بأن هذا لَا يقتضي أن يكون من كل فريق رسول، بل إن الظاهر أن يكون الرسول من جماعة الجن والإنس معا، وبذلك يسوغ أن يكون من أحدهما دون الآخرين ما دام ينطبق عليه أنه من جماعة الإنس والجن فهما جماعة المكلفين، وضربوا لذلك مثلا قوله تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (١٩) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (٢٢).
فذكر سبحانه أنه يخرج من البحرين اللؤلؤ والمرجان مع أنه لا يخرج من الماء العذب اللؤلؤ والمرجان بل يخرجان فقط من الماء الملح، ولكن عبر عنهما بقوله تعالى (منهما) - لأنه ذكر البحرين، وهو يخرج منهما، وإن كان لا يخرج إلا من أحدهما.
وإن أولئك الرسل، يقصون آيات الله تعالى الدالة على الوحدانية، وأنه قادر على كل شيء؛ ولذا قال تعالى:
(يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا). (يقصون) من القصص، أو قص الأثر، والآية الكريمة تحتملهما، والمعنى على الأول، يذكرون لكم آياتي التي جاءت على أيدي الأنبياء السابقين، فكل رسول يتقدم بالآيات التي أجراها الله تعالى على يديه، ويذكر آيات من سبقوه من الرسل السابقين له، فمحمد - ﷺ - تقدم بالمعجزة الكبرى وهي القرآن، وكان معه آيات أخرى من خوارق العادات، وإن لم يُتحدَّ بها، وذكر الآيات التي جرت على يد عيسى - عليه السلام - من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى إلى آخر ما جاء في القرآن الكريم من آياته، وذكر في القرآن معجزات موسى - عليه السلام - من العصا، وفلق البحر، وانفجار الماء من الأحجار، وغير ذلك من المعجزات الباهرات الدالة على رسالة الله تعالى، وعلى قدرته القاهرة، وآياته الباهرة.
هذا إذا خرَّجنا كلمة (يَقُصونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي) على معنى القصص، وإذا خرجناها على معنى قَصِّ الأثر، أي تتبع الأثر واستدل، يكون المعنى في نظرنا أن الرسل عليهم السلام يتتبعون آيات الله في الكون، من سماء ذات أبراج، وأرض ذات جبال، وماء ينزل من السماء إلى الأرض فينبت كل شيء، ويكون منه كل شيء حي، ورياح تجري بإذن الله، وسحاب مسخر بين السماء والأرض، وغير ذلك من آيات الله، قَصَّ رسل الله تلك الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى أولا، وعلى قدرته القاهرة التي تقدر على الإعادة كما قدرت على الإنشاء، وكما قال تعالى: (كمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ). وإنه من بعد ذلك كان الإنذار باللقاء، والإنذار باللقاء ليس بذات اللقاء، ولكن بما وراءه من حساب وعقاب، ودخول جهنم والعياذ بالله من نارها وشرها.
هذا ما نراه في معنى القص، ونرى أن الآية تحتمل المعنيين، ولا مانع من الجمع بينهما بأن يكون المعنى ذكر قصص آيات النبيين التي جرت على أيديهم، وتتبع الأنبياء لآيات الله في الكون الدالة على وحدانيته وكمال قدرته، هذا ما يقوله الله تعالى للجن والإنس في ذلك المشهد الرهيب، فبماذا يجيبون؟ (قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا).
ومعنى (شهدنا) أقررنا، فإن الشهادة تكون بمعنى الإقرار، وبمعنى الإثبات، وبمعنى الحكم، وهي هنا بمعنى الإقرار المبني على المعاينة والرؤية، فهو إقرار مؤكد بالمعاينة والمشاهدة لَا بمجرد الإخبار عن أمر مغيب، وأكدوا الإقرار بأنه على أنفسهم، وهذا الإقرار موضوعه أن الرسل قد أتوا إليهم، وأشارت الآية إلى أنهم شهدوا على أنفسهم بمجيء الأنبياء ولم يؤمنوا بهم، ولم يصدقوهم، وأشار
(وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ).
كانت الشهادة الأولى على أنفسهم بأنهم جاءتهم الرسل، ثم ذكر ما يشير بأنهم لم يؤمنوا بالرسل، إذ غرتهم الحياة الدنيا، فدلاهم بغرورها، (واستجابوا لغواية الأبالسة)؛ ولذا كان تكرار الشهادة والإقرار، وإذا كانت الشهادة الأولى إقرارًا بأن الرسل دعتهم إلى الحق، فالشهادة الثانية إقرار بأنهم دعوا إلى الحق وكفروا به، ولذلك قال تعالى: (وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كَافِرِينَ) وهي إقرار على أنفسهم بالكفر، وهي شهادة تنطق بها ألسنتهم وجوارحهم وقلوبهم، كما قال تعالى في آية أخرى: (يوْمَ تَشهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ).
ولقد اعترض بأنه ذكر أنهم يكونون في حال فتنة، ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين، وقد أجيب عن ذلك بجوابين: أولهما - أنهم كانوا في اضطراب من هول الموقف، فمرة ينكرون، وذلك بسبب ما فتنوا به، وما أخذت به نفوسهم المضطربة الحائرة.
وثانيهما - أنهم في حال الإنكار كانوا في اضطراب، ولم يكن كشف لهم المكتوب عليهم، والمسجل عليهم في كتابهم فقد كتب عملهم في سجل، كمن يكون في حساب وتحقيق في القضاء فينكر ابتداء، فإذا عرض عليه فعله المسجل اضطر إلى الإقرار، لأنه يحس بأنه لَا مناص من أن يقر، والله أعلم بما يكون في يوم القيامة.
* * *
* * *
(ذلك) الإشارة إلى إرسال الرسل، وقصهم للبينات، وآيات الله، وذكر يوم القيامة، كل هذا ليكون نذيرا لأهل القرى حتى يهلكهم الله تعالى بظلمهم، وهم
وهنا إشارتان بيانيتان
إحداهما - أن الله تعالى ذكر هلاك القرى، والهلاك نازل على أهلها، ولكنه ذكر القرى، وحذف الأهل للإشارة إلى عمومه وشدته، وأنه لَا قبل لهم به.
الثانية - أنه نص على المحذوف في قوله، (وأهلها غافلون)، فكان المحذوف هنالك مذكورًا هنا، ونفَى الله تعالى الغفلة عنهم عند نزوِل الهلاك بهم إذ أنذروا بالرسل والآيات، كما قال تعالى: (وَمَا كنَّا مُعذِّبِينَ حتَى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وكما قال تعالى: (وِإن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)، وقال تعالى عن أخبار جهنم: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (٩).
وقد نفَى الله تعالى أن يهلك القرى قبل الإنذار؛ بقوله تعالى: (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى) نفي - سبحانه وتعالى - عنه وصف الإهلاك باسم الفاعل من غير إنذار تأكيدًا للنفي، ومنعا للظلم.
وقوله تعالى (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ) (أنْ) مخففة من الثقيلة، وهنا ضمير محذوف هو ضمير الشأن، والمعنى أنه ليس من شأن ربك أن يكون مهلكا للقرى.
والظلم المنفي، أهو نفي الظلم عن الله، أي أن الله تعالى لَا يهلك القرى وأهلها غافلون ظالما لهم بعدم الإنذار، كقوله تعالى: (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ للْعَبِيدِ)، وكقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا)، أي أن الله سبحانه وتعالى مهلك قرى المشركين، ولكي يكون الهلاك عدلا لَا ظلما كان الإنذار.
وقوله (وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) حال من القرى، والمعنى ما كان الله ليهلكهم حتى ينذروا، ويبين لهم الحق، حتى يهتدوا عن بينة أو يضلوا عن بينة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
* * *
* * *
ولكل من المكلفين درجات في القيام بما كلفوه من أعمال، فمنهم من يحسن، ويبلغ أقصى درجات التقوى فيكون له في الجنة على مقدار ما فعل، ومنهم من يفعل دون ذلك فيغفر الله تعالى ما شاء أن يغفر، ورحمته سبحانه وتعالى قد سبقت غضبه وعذابه، فيعطى بمقدار ما عمل، وكذلك العصاة درجات، فمن أطاع الكبراء له عذاب يناسب طاعتهم، أي أن الطاعة لها مراتب، والعصيان له دركات، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، كما قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٩).
ويكون المعنى على الدرجات في الخير والشر، وأهل الخير درجات، وأهل الشر دركات متفاوتة، على مقدار شرهم وإن كانوا جميعا منغمرين فيه، كما قال تعالى: (الَّذينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كانُوا يُفْسِدُونَ).
وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الدرجات في العذاب فقط، لأن الآيات في تهديد الكافرين وإنذارهم لَا في جزاء المؤمنين ودرجاتهم.
وعندي أن الآية فيها تبشيو للمؤمنين، وأنهم درجات، وإنذار للكافرين وإنهم في دركات جهنم طبقات، والآية الكريمة تفيد أن الدرجات مما عملوا أي
(وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).
إن هذه الأعمال يعلمها الله تعالى لَا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء، فهو جزاء لما يعملون، جزاء من يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، ولذا قال تعالت كلماته: (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) عبر سبحانه وتعالى بنفي الغفلة عنه - سبحانه وتعالى - نفيا مؤكدًا، بمؤكدات ثلاثة أولها - التعبير بالجملة الاسمية، وثانيها - دخول (الباء) التي تدل على استغراق النفي. ثالثها - التعبير بـ (ربك)؛ لأن الرب هو الذي رَبَّ النفوس والأخلاق فهو أعلم الوجود بها، وأخبرهم بأحوالها، فجزاؤه جزاء من يضع العقاب في موضعه، والثواب في مكانه.
* * *
(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)
* * *
إن الله سبحانه وتعالى أشار إلى أن الكافرين يجحدون، وقد قامت الآيات عليهم تدعوهم إلى الوحدانية، وأنه لَا يعبد إلا الله، وثبت أنهم يعاندون، ويردون الآيات، ويكذبون رسل الله سبحانه وتعالى، وقد أوتوا بالبينات من
(الواو) عاطفة عطفت هذه الجملة على ما قبلها، وصدرها بقوله تعالت كلماته: (وَرَبُّكَ) أي خالقك، ومربيك وقد تولاك بربوبيته كما تولى الوجود كله بربوبيته، وهذا ترشيح لمعنى أن الغنى من لَا يحتاج فيكون في غناء عن غيره، ومن هو قائم على الوجود لَا يحتاج لأحد في الوجود، وقد ذكر سبحانه أنه الغني وحده، فكل من في الوجود يحتاج لغيره والله تعالى لَا يحتاج إلى أحد، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقد عرَّف الله سبحانه وتعالى الطرفين في قوله تعالى: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ) وتعريف الطرفين يدل على القصر أي لَا غني في الوجود سواه، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥).
ووصف الله سبحانه وتعالى بعد تأكيد أنه الغني وحده، وأن كل من في الوجود فقراء إليه - بأنه ذو الرحمة أي أنه صاحب الرحمة وحده، و (ذو) بمعنى صاحب، فهو الرحيم رحمة مطلقة بعباده، ورحمة غيره رحمة نسبية، تليق بالمخلوقات، أما الله تعالى فرحمته واسعة، وسعت كل شيء، خلق الكون والناس برحمته، وخلق العقلاء وكفلهم برحمته، وأنزل من السحاب ماء مدرارا برحمته، وخلق من الماء كل شيء حي برحمته، وجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا برحمته، وخلق الموت والحياة برحمته، وخلق البعث والنشور برحمته، وأنشأ السمع والأبصار والأفئدة برحمته.
فإذا كان هو الغني وحده، فهو الرحمن الرحيم، والقادر على كل شيء؛ ولذا قال تأكيدا لقدرته وفقر العباد إليه.
إن الذين يعاندون الله تعالى، ويحادون رسوله ومن اتبعه من المؤمنين، ويحادون الله بمحادة عباده المؤمنين. الله لَا يحاده شيء في الوجود، فإنه (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) لَا تكونون في الوجود، وذلك بإماتتكم أو إفنائكم (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ) من الخلق، ومعنى (يستخلف) يكون خلفا لكم في الأرض ما يشاء من عباده، وجاء الكلام للدلالة على العموم، والمعنى أنكم وجدتم بمشيئة الله، ويذهبكم بمشيئته، وبجعل خلفا لكم من يشاء فأنتم في حياتكم ومماتكم، وحياة من بعدكم ومماته بمشيئته سبحانه، وهذا كما قال تعالى: (وَإِن تَتَولَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ). وكما قال تعالى: (إِن يَشَأ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأتِ بِآخَرِينَ...)، وقد أقام سبحانه الدليل على الإذهاب والاستخلاف بحالهم هم، فقال تعالى: (كمَا أَنشَاكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ).
أي أنتم لستم أول المخلوقين ولا آخرهم، فقد كنتم ذرية لمن سبقوكم، وهم قوم آخرون، وستكون من بعدكم ذرية، وقوله تعالى: (كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) تشبيه لحال الذين يخلفونهم بحالهم، فهو قياس حالهم على حال من يجيئون بعدهم، فإذا كنتم قد نشأتم من ذرية من سبقوكم، فمن يخلفونكم ينشئون من ذريتكم. والخلاصة: الله غني عنكم، وهو يرحمكم، والوجود يتوالد بعضه من بعض بقدرة الله تعالى والأجيال متعاقبة فإن كنتم جيلا كافرا، سيجيء من بعدكم جيل مؤمن، والله على كل شيء قدير.
* * *
* * *
إن أشد إنكارهم كان في البعث، وكان هو العجب الغريب عليهم، فقد كانوا يعتقدون أن الله خالق كل شيء، وأنه ليس كمثله شيء، ولكن يعبدون ما يعبدون من الأوثان ليقربوهم إلى الله زلفى في زعمهم وما كانوا يؤمنون
وإن البعث يكون بعده الحشر والحساب، ثم العقاب أو الثواب، وقد ذكرهم الله تعالى بالبعث، بذكر ما يكون فيه مما وعد الله تعالى به، وأوعد، وقد ذكر آخر ما يكون فيه وهو العقاب على كفرهم، والثواب لغيرهم، فقال تعالى: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ) (ما) هنا اسم موصول بمعنى الذي، وقد حذف الضمير من الصلة، والمعنى إن الذي توعدونه لآت، فأكد سبحانه وتعالى إثبات ذلك الذي أوعدوا به بـ (إنَّ)، وبالجملة الاسمية، وباللام، في قوله تعالت كلماته (لآتٍ) وكان الكلام بالبناء للمجهول، لمزيد التهديد بإبهام الوعيد، وعدم ذكره، ليذهب فيه العقل كل مذهب، وبعدم ذكر من أوْعد وهو معلوم، ليزدادوا خوفا، فيضعفوا عن المقاومة، ويؤمن من كتب الله تعالى الإيمان له، ويستمر في غيه من كتب الله العقاب له.
وإن الله تعالى قادر على كل شيء فهو قادر على إعادتهم، كما هو قادر على إنزال العقاب بهم؛ ولذا قال تعالى: (وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ) نفَى الله تعالى قدرتهم على إعجاز الله تعالى عن الإعادة، فإنه قادر عليها كما قال تعالى: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ)، وكما قال تعالى: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (٥١).
ونفَى سبحانه وتعالى قدرتهم على الامتناع عن عقابه، فهو مالك يوم الدين، وهو المسيطر وحده (... لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَارِ).
وهنا في قوله تعالى: (وَمَا أَنتم بِمُعْجِزِينَ) إشارات بيانية:
الإشارة الثانية - أنه لم يذكر في النفي من يعجزونه، فلم يذكر الله تعالى إعلاء لاسمه الكريم عن أن يكون مظنة عجز أو أن يعجزه أحد، إذ إعجازه مستحيل، ونفي أمر هو مستحيل في ذاته غير سائغ، في سنة البيان.
الثالثة - نفي عموم الإعجاز من أي نوع هو، ولقد قال - ﷺ -: " يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، وما أنتم بمعجزين " (١).
وإنهم يستمرون في طريقتهم من معاندة محمد - ﷺ -، وجحودهم وإيذائهم له عليه الصلاة والسلام ولأصحابه الذين اتبعوه مخلصين مسلمين وجوههم لله تعالى، وقد هددهم سبحانه وتعالى بأمر النبي - ﷺ - لهم أمر تهديد لقوله:
* * *
________
(١) رواه ابن أبي حاتم، وخرجه الحافظ العراقي: الإحياء: ج ٤، ص ٤٣٧.
* * *
وقد أمر الله تعالى نبيه الأمين أن يتولى هو القول التهديدي، وهو اعملوا على مكانتكم، والمكانة: الطريقة، أو الأمر الذي مكنوا منه، والأمر هنا للتهديد بالإشارة إلى عاقبة ما يفعلون، كقول النبي - ﷺ -: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " (٢)، فالأمر (اصنع) للتهديد بأن يفعل متحملا تبعة ما يفعل ونتيجته، فإن كنتم تزعمون أنكم على حق فاعملوا وسترون العاقبة، وإني عامل على ما أدعو إليه، وهو الحق الذي لَا ريب فيه، ولكل وجهة هو موليها، فكونوا كما تريدون لأنفسكم.
________
(٢) سبق تخريجه.
(الفاء) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، و (سوف) هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل، أي سوف يعلمون بالعيان لَا بالخبر من له عاقبة الدار، و (العاقبة) النهاية التي تعقب ما يسبقها من أسباب تؤدى إليها، و (عاقبة الدار) المراد بها نهاية هذه الدار، وعاقبتها تكون لمن، والدار هنا قد تراد بها مكة وما حولها مما يسيطرون عليه، أو البلاد العربية، أو الدار الدنيوية على العموم.
أي سوف تعلمون من تكون له في النهاية، وفي عاقبة الأعمال الدار والسلطان، فالمراد من تكون له العاقبة في الدار والسلطان، وينصره الله تعالى حيث يكون لأهل الحق السلطان.
ويصح أن يراد الآخرة، وعندي أنه يراد الداران، أما الدار الآخرة، فأمرها إلى الله تعالى، وقد أشار سبحانه وتعالى أن النعيم المقيم يكون للمؤمنين، والجحيم يكون للكافرين.
وأما في الدنيا - وهذه الآيات قد نزلت بمكة - فإنه قد آل أمر البلاد العربية من اليمن إلى حدود الشام إلى المؤمنين في عصر النبي - ﷺ -، وصارت الكلمة للمؤمنين، وحقت كلمة الله تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُنْيَا
________
(١) المداجا ة: المداراة. الصحاح (دجى).
وقال تعالى: (كَتَبَ اللًّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عزِيزٌ).
هذه عاقبة الدار في الدنيا والآخرة، ولقد ختم الله تعالى الآيات بقوله: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).
الضمير ضمير الشأن، أي إن الله والشأن وسنة الله تعالى في خلقه لَا يفلح الظالمون، أي لَا يفوز الظالمون، والتعبير بالوصف يشير إلى أن الظلم هو سبب الخسران، وإنه وإن بدا الظلم قويًّا غالبًا فائزًا فإلى حين، والعاقبة للعادلين المنصفين المقيمين للحق، وللظلم صور شتى: ظلم في العقيدة، وظلم في العمل، وظلم في الحكم وظلم في المعاملة بين الناس، فإن الظالم لَا يفوز في نهايته، وإن فاز في بعض الأمور العرضية، والله هو الحكم العدل.
* * *
تحريم ما أحل الله
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (١٣٧)
* * *
إن فساد الاعتقاد يؤدي إلى فساد الأعمال، فحيث فسدت العقيدة، اتجهت النفس تحت تأثير الأوهام إلى مفاسد كثيرة، فالأوهام التي تفسد الاعتقاد تفسد أيضا الحياة، فتحت تأثير أوهام الوثنية أفسدوا حياتهم، فحرموا على أنفسهم بعض ما أحل الله، وقتلوا أولادهم حاسبين أن ذلك يرضي أوثانهم، ونذروا للأوثان بعض الزرع والنعم ولله نصيب، فكما سووا بينها وبين الله في العبادة، أو زادوهم، فكذلك سووا بينه وبينها في النذر وتحيفوا في تنفيذها لله ولم يتحيفوا على الأوثان، ولذا قال تعالى:
وهنا إشارات بيانية ننبه إليها:
أولاها - أن التعبير بـ (ذرأ) أي خلق متولدا من الحب، وانفلاق النوى، فالله سبحانه وتعالى هو الذي ذرأ النبات، وذرأ الثمار، وعبر عنه تعالى بالحرث، وهو نبت الأرض لإنتاج الزرع وهو سبب عادي لإخراج الزرع من الأرض، فأطلق السبب وأريد المسبب، فأطلق الحرث على كل ما أخرجت الأرض من زروع وثمار.
الثانية - التعبير بقولهم (نصيبا) وهو قدر ذكروه مجهولا، ولم يعرفوه ليتصرفوا فيه بما يشاءون، وهو المالك لكل شيء، فالأصل أن يكون كله لله تعالى، ويعطى بحكم الله لَا بحكم الهوى كل ذي حق حقه، فهو مقسم الأرزاق وهو الخالق لكل شيء، ولكنهم يذكرون نصيبا، ويعينونه بأنفسهم، وعلى حسب ما تهوى.
الثالثة - قولهم (هذا لله بزعمهم) التعبير (بزعمهم) في هذا، والزعم معناه الكذب. أو الظن الذي لَا دليل عليه يفيد أمرين:
أولهما - أن ذلك التقسيم فاسد في ذاته لأنهم لَا يملكون تقسيم الأرزاق، بل الذي يملكها؛ لأنه هو بارئها، وهو الله تعالى، ولكنهم يتهجمون على الله، فيقسمون بأهوائهم وأوهامهم، ومع ذلك يغيرون ولا ينفقون بأمر الله في أوجه البر فيعتدون.
إنها قسمة ضيزى، فينقصون مما هو لله في زعمهم، ويزيدون ما هو لشركائهم، فما يكون لشركائهم يخصصون لها شيئًا غير منقوص، وما يكون لله لا يخصصونه له كاملًا، ويقولون الله غني، وهؤلاء فقراء محتاجون، والله لا يحتاج لشيء، فإذا كان ما خصص للأوثان لَا يكفي سدنتها وخدمتها، وما ينفق حولها لَا يكفيها أخذوا من نصيب الله ليسدوا كل حاجاتها في نظرهم، وكله إنفاق في باطل، لَا خير فيه.
وقد روي أنهم كانوا في الحرث، عندما يخرصون ما ينتج، كل زيادة عما خرصوه يكون للأوثان، ولا يكون لله، وإذا كان الماء الذي يسقى به نصب أوثانهم قد ذهب إلى حرث الله عدوه حرثا للأوثان، وإذا كان الماء المخصَّص لحرث الله ذهب إلى حرث أوثانهم جعلوا الخارج لأوثانهم، ولوكان قد سقى بماء الله تعالى، وهذا قد روي عن ابن عباس فقد روي عنه رضي الله عنه أنه قال في تفسير هذه الآية: إن أعداء الله تعالى كانوا إذا حرثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منها جزءا، وللوثن جزءا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه، وأحصوه وإن سقط شيء مما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن، فسقى شيئا مما جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن وإن سقط شيء من الحرث والثمرة التي جعلوها لله فاختلط
تلك إذن قسمة باطلة في مآلها، وفي أصلها، ولعل الذي جعلهم يفرطون في حق الله تعالى، أنهم ماديون، يؤمنون بالمادة وحدها، فظنهم في الوثن ما ظنوا، وهم يرونه ويلمسونه أنساهم الله تعالى فنسوا أنفسهم، فكل شيء يذهب من نصيب الوثن إلى نصيب الله يردونه حرصا عليه، وكل ما يجيء إلى نصيب صنمهم من نصيب الله يحسبون أن الوثن أراده، لمجسقطونه، فضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى:
(سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).
(ساء) في معنى التعجب، أي ما أسوأ ما يحكمون به، أي أنه أبلغ الأحكام إساءة، فهو حكم سىء في ذاته، وعندي أن الحكم السيئ أشد من الحكم الظالم؛ لأن الحكم الظالم قد يكون في تطبيفه ظالم، أما الحكم السيئ فإنه في أصله فاسد، وفي تطبيقه ظالم وفاسد.
* * *
* * *
إن الوثنيين تحكمهم أوهام باطلة يتوهمونها، وتسيطر عليهم أهواء ينسبونها إلى أوثانهم الذي سماهم الله شركاءهم، أي الشركاء التي زعموها شريكة لله تعالى في عبادته سبحانه.
وكما موهوا عليهم فأرادوا تحت سلطان الوهم أن يجعلوا من الحرث والنسل نصيبا لله، ونصيبا لشركائهم كذلك زيَّن لهم شركاؤهم أي أوثانهم في أوهامهم قتل أولادهم.
(زينوا) أي حسنوا وجعلوه كأنهم زينة لهم، يتباهون بها، (شُرَكَاؤُهُمْ)، ونقول في معنى الشركاء: أهم الأوثان أم شياطين الجن الذين تغلغلوا في
وإن قلنا: إن الشركاء هي الأوثان التي جعلوها شركاء لله تعالى في عبادته فإنها أحجار فكيف تحسن أو تزين، وهي لَا تعقل، ولا تتكلم، ولا تضر ولا تنفع، ونقول إن أوهامهم نحوها من أنها تضر وتنفع وأنهم يريدون إرضاءها، وقد توهموا أنها تطالبهم بذلك، فإن هذا يكون هو التزيين، فوهمهم نحوها هو الذي زين لهم قتل أولادهم، وقدم (قتْل) وهو المفعول على الفاعل وهم (شركاؤهم) لأنه أبلغ في التشنيع، والقتل هو الأمر الذي لَا يبرر.
وقال تعالى: (لِكثِيرٍ منَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ) فعبر سبحانه بقوله: (لِكَثِيرٍ منَ الْمُشْرِكِينَ) فلم ينسب إلى كلهم، بل نسب سبحانه إلى كثير منهم، وذلك إنصاف القرآن الكريم في حكاية أفعال العباد، وقتل الأولاد كان عند كثيرين منهم، وقد نص القرآن الكريم من شناعتهم في ذلك في الكثير من آياته، ومنها قوله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٥٩).
وقال تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩).
وكان بعضهم إذا وصل أبناؤه عددا من الأبناء نذر قتل أحدهم، كما يروى عن عبد المطلب أنه نذر إذا وصل عدد أبنائه إلى عشرة قتل واحدا منهم، فكانت القرعة على عبد الله أبي النبي محمد - ﷺ -.
وكان منهم من يقتل أوِلاده من إملاق أو خشيته، كما قال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)، وقال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ).
وقد ذكر الله تعالى ما توسوس به الأنفس، - والأوهام المسيطرة، ونهاية ما تؤدى إليه فقال سبحانه:
(لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ).
(اللام) للتعليل أو ما يسمونها لام كي، وهي مع كونها تعليلا هي بيان نتيجة قتل أولادهم، ذلك أن النتيجة أن يوقعوهم في الردى هو الهلاك، فمآل قتل الأولاد سواء أكان بالوأد، أم كان بالقتل خشية الفقر، أو للفقر، وقد يكون ذلك بالعمل على منع النسل، بالعزل أو نحوه، مما سماه النبي - ﷺ - " الوأد الخفي " (١) فإن ذلك يؤدي إلى منع نسل الأمة، ومنع نسل الأمة هلاك لها، وفناء تدريجي لقوتها، فالولد قوة، والعرب يعتزون بكثرة النفر.
وقال تعالى: (وَليَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي ليخلطوا دين إسماعيل الذي كان الحنفية كدين أبيه إبراهيم، بأوهام كاذبة، وبذلك يفسدونه، وقد أفسدوه بالشرك، وأفسدوه أيضا أن أدخلوا فيه ما ليس من الدين ولا بأمر من الله ونهيه، كما فعلوا في جعل نصيب الله تعالى مما ذرأ من الحرث والأنعام، ومن قتل الأولاد، فإن هذا خلط ما ليس بالأصل الديني، وبذلك ضلوا سواء السبيل.
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)
إن الله سبحانه وتعالى قدر لهم الضلالة، إذا ستروها، وتركوا الهداية، وسلكوا سبيلها فاختارها الله تعالى لهم، بعد أن اختاروها لأنفسهم، وإن الله لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وإذا كان الله تعالى قد كتب عليهم ذلك، فعن مشيئته صدر فعلهم، ولو شاء ألا يفعلوه ما فعلوه، ولكنه شاء
________
(١) رواه مسلم: النكاح - جواز الغيلة، وكراهة العزل (١٤٤٢). عن عائشة رضي الله عنها. كما رواه الترمذي وأبو داود وأحمد ومالك وابن ماجه.
* * *
* * *
هذا كلام موصول بما قبله مما ترتب على العقيدة الفاسدة؛ إذ إنه متى فسدت العقيدة فسد الفكر وضلت الأفهام، فلا يصد عن القلب الذي امتلأ بالعقيدة إلا باطل، وكان أظهر مظاهر بطلان العقيدة الفاسدة ما يتعلق بالحرث والأنعام، فإن فرط أوهامهم في الأوثان أثر في حرثهم وأنعامهم، يعطون لها الأكثر ويبقون الأقل.
وقالوا بأفواههم جازمين في قولهم مشيرين: (هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ)، أي محجورة وممنوعة ليس لأحد أن يأكل منها، فمعنى حجر محجورة ممنوعة، فهي حجر بمعنى محجور كذبح بمعنى مذبوح ونقض بمعنى منقوض، أي أنهم يشيرون إلى ناحية من الزرع والثمار فيمنعونه، وإلى قدر من الأنعام فيمنعونه، وقرروا أن الأصل فيه المنع، حتى يكون منهم الإذن بأخذه لمن شاءوا، ولكن المنع يكون لمن، ولأجل من؛ قالوا: إنه يمنع لأجل الأوثان تكون لخدمتهم وسدانتهم ومن يكون حولهم، ومن بقي ينفق منهم على من نريد، ويرون أنه ينتفع منه رجالهم دون نسائهم.
ومهما يكن فإنهم يقررون أنه ممنوع لَا يقربه أحد إلا من يشاءون، وهذا مؤدى ما قال الله عنهم: (لا يَطْعَمُهَا إِلَّامَن نَّشَاءُ بِزعْمِهِمْ).
وهنا عبارتان نقف عندهما قليلا.
أولاهما - (لا يَطْعَمُهَا) أي لَا ينال منه أي قدر، ولو بالذوق، إلا من نشاء.
الثانية - (بِزَعْمِهِمْ) فإنه بزعمهم أي بافترائهم وظنهم، وهي تدل على أن المنع كان على زعم فاسد منهم، لَا على حق اعتمدوا عليه، ويدل أيضا على أن
وقد ندد الله تعالى بهذا العمل في قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرونَ).
وإنهم لضلالهم مع علمهم بأن الله تعالى خالق كل شيء وأنه ليس كمثله شيء ما يتخذونه حلالا من طعامهم لَا يذكرون اسم الله تعالى، فهم آثمون فيما يحرمون، وآثمون في تناول ما أحل الله تعالى، ولذا قال تعالى:
(وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ) كما حرموا على أنفسهم بعض الحرث والنسل؛ حرموا ركوب بعض الحيوان، ولا يذكرون اسم الله تعالى في الأنعام التي يأكلونها، فمن الأنعام التي حرموا ظهورها، أي لَا تركب مهما كانت الحاجة إلى ركوبها ولو كان هناك من يريد ركوبها يعني قد انقطع، ولا يستطيع: البحيرة والحام، فالبحيرة هي التي نتجت منها خمسة أبطن، وكان آخرها ذكرا، فإنها تبحر أي تشق أذنها، وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل، وذاتها من الذبح، ولا ترد عن ماء، ولا تمنع من مرعى.
والحام هو الفحل من الإبل يضرب عشرا ونتج، فإذا بلغ ذلك قالوا هذا حام، أي حمى ظهره من الركوب، وقد بينا هذه في سورة المائدة في ربع (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما). عند تفسير قوله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ).
يحرمون هذا بأوهام سيطرت على أفهامهم، ويقولون هذا من عند الله، وما هو من عند الله أن هذا افتراء افتروه فارتكبوا إثمين؛ إثم تحريم ما أحل الله من الأنعام أكلا وحملا، وإثم افترائهم على الله تعالى بإسناد التحريم إليه، فضلوا ضلالا بعيدا.
أي أن الله تعالى سيجزيهم أشد الجزاء، و (السين) لتأكيد الوقوع في المستقبل، وسيكون جزاء وفاقا بسبب ما كانوا يفترونه، أي يقصدون الكذب فيه، فقد افتروا على الله وأشركوا، وافتروا على الله تعالى وأحلوا ما حرم الله تعالى ونسبوا التحريم إليه، فكان ذلك بهتانا وإثما مبينا.
* * *
* * *
الكلام موصول في بيان ما حرموه على أنفسهم أو بعضهم من الأنعام، وما في بطون هذه الأنعام هي من الإناث؛ لأن الذكور لَا يكون في بطونها شيء يناله الرجال دون النساء، وما في بطونها الذي يحرم على النساء ويباح للرجال خالصة قيل هو اللبن، وقيل هو الحمل، وأرى أنه يشمل الأمرين، وإن كان قوله تعالى: (وَإِن يَكُن مَّيْتَةً) أي إن تجئ به فهم فيه شركاء أي يشترك الذكر والأنثى، يرجح أو يقرب أن المراد الأجنة في الظاهر، ولكنه لَا يمنع أن يكون ما في البطون يشمل الألبان والأجنة معا، وخصت الأجنة بأنها إن نزلت ميتة اشتركوا فيها جميعا.
والإشارة في قوله تعالى: (وَقَالُوا مَا فِى بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لذُكُورِنَا) إشارة إلى نوع معين من إناث الأنعام، وقد قال مفسرو السلف إنها البحيرة والسائبة التي لَا ترد عن حوض ماء ولا مرعى، إذا ولدت خمسة أبطن، فإن هذه يكون لبنها، وما في بطنها من حمل للذكور دون الإناث إن نزل حيا وإن نزل ميتا فهم فيه شركاء بمعنى اشترك فيه الذكور والإناث.
وإنه يجب إن ننبه هنا إلى أنهم في هذا الإفك الذي يأفكونه يجعلون للمرأة من الطعام الشيء الذي يعاف، ويجعلون للرجل الطيب من الطعام، ولا يحرمونه مما يخص النساء.
وقوله تعالى: (وَقَالُوا مَا فِى بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَة (التاء) أي الوصف بالخلوص، فهي تاء للمبالغة، كالتاء في علامة ونسَّابة، وليست تاء التأنيث؛ لأنها خبر لما في البطون، وبدليل ما بعدها، وهو محرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء.
هذا ضلال جاءهم من أوهامهم في أوثانهم وفساد اعتقادهم؛ فإن فساد الاعتقاد يجعل العقل عشا للأوهام وتضل به الأفهام، وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت حكمته:
(سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) الوصف الذي جعل سببا للجزاء، هو الظلم الذي افتروه في جعل بعض الحرث والنعم لله، والطغيان في نصيب الله تعالى وقتل الأولاد من كثير منهم، وتحريمهم بعض الحرث والنسل إلا من يريدون أن يطعموه، وفي الغالب يحبسونه لأوثانهم إلا من يكون فيما حولهم، هذا هو الوصف، وطغوا في الظلم في ذاته، وشرك في الباعث عليه، وظلم لأنفسهم، وإن قوله تعالى: (سَيجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) قالوا: إن معناه سيجزيهم بوصفهم، فوصفهم منصوب على نزع الخافض وكان حذف (الباء) فيه بيان أن الجزاء، هو على قدر هذا الوصف، وهو الظلم المبين الذي لَا يمكن إلا أن يكون من الشرك وما حوله.
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالت حكمته: (إِنَّه حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي أن ذلك الجزاء الحكيم هو من وصفين لله تعالى وهو أنه (حكيم عليم) يضع الأمور
* * *
* * *
هذا حكم الله تعالى فيهم في الدنيا والآخرة، فقد خسروا أنفسهم وأولادهم وأموالهم في الدنيا، ونالوا العذاب الدائم في الآخرة بافترائهم على الله بزعمهم أن ذلك بأمر من الله، أو رضا منه، والافتراء على الله تعالى عاقبته عذاب أليم، وقوله تعالى: (سَفَهًا) أي بخفة عقول وجهل، ولا علم ولا سبب للعلم.
وأى سفه وخفة عقل وعدم تفكير أقبح من أن يقتلوا أولادهم من إملاق أو خشية إملاق، وفي الوقت نفسه يحرمون بعض أموالهم على أنفسهم، كتحريمهم البحيرة والسائبة والحام والوصيلة، إنه جهل مبين، وعقل سفيه، لَا إدراك فيه، وينسبون ذلك إلى الله من غير علم.
إن الخسارة في الدنيا واضحة، خسروا أولادهم الذين هم فلذات أكبادهم بوأدهم أو قتلهم من إملاق أو خشية إملاق، وخسروا أموالهم التي حرموها على أنفسهم بأوهامهم، وأنفقوها إسرافا وبدارا على خدمة أوثانهم، وخسروا إيمانهم، إذ أشركوا بالله وافتروا، وأنهم حرموا بالوهم الفاسد، وزعموا أن ذلك تحريم من الله تعالى، وخسروا الحق في ذاته، وأثموا إثما عظيما، مع قتل الأولاد.
(وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ) هذا هو الأمر الثاني الذي خسروه، أو كان فيه خسرانهم، بأن رزقهم رزقا، فجعلوا منه حراما، فخسروا ولم ينتفعوا بنعمة الله التي أنعمها، وافتروا على الله، فقالوا بزعمهم الكاذب: إن الله تعالى هو الذي حرمها، وبذلك حكموا أوهامهم فخسروا عقولهم، وسيطرت عليهم أوهام بثها فيهم الشياطين فهم في تحريم ما رزقهم ارتكبوا إثمين: إثم التحريم، وإثم نسبته إلى الله تعالى افتراء عليه، ولذلك كان الخسران في الدنيا، والعقاب في الآخرة، والضلال المبين، ولذا قال تعالى:
حكم الله تعالى عليهم حكمين وأكدهما: أولهما - الحكم عليهم بأنهم وقعوا في الضلال والبعد عن الحقيقة، وقد أكد الضلال بقد، لأن قد تكون في القرآن للتحقيق، سواء أدخلت على الماضي أم على المضارع فلا يكاد في القرآن استعمالها إلا للتحقيق، فلا تكون للتقريب، ولا تكون للتكثير أو التقليل.
فالله قد أكد ضلالهم، وأي ضلال أشد من أن يقتلوا أولادهم للإملاق، وفى الوقت نفسه يمنعون ما رزقهم فيقعون في الإملاق.
الحكم الثاني أنه سبحانه حكم بأنهم ما كانوا مهتدين، فبين في الحكم ضلالهم وبين في الحكم أنه ليس من شأنهم أن يهتدوا، ولذلك نفي وصف الاعتداء، وأكد ذلك النفي بالجملة الاسمية، وبنفي الوصف عنهم.
ونقول هنا إننا بينا أن الخسران في الدنيا والآخرة، وهو في الدنيا واضح بين، وفي الآخرة مؤكد، وقد رأينا بعض المفسرين يقولون إن الخسارة هي في الآخرة لَا في الدنيا، واستدل بقوله تعالى في سورة يوِنس: (قلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْترُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلحُونَ مَتَاعٌ فِى الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كانُوا يَكْفُرُونَ).
ولكنا لَا نراها تدل على أن الخسارة في الآخرة فقط، وفوق ذلك إن الآية السامية التي نتكلم في معناها السامي، قد شملت قتل الأولاد وتحريم ما رزق الله تعالى افتراء، أما هذه الآية التي ساقها المفسر الفاضل فإنها في اتخاذ الولد ونسبته إلى الله بدليل الآية التي قبلها، إذ يقول الله تعالى: (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ... )، إلى آخر الآية الكريمة..
فكان بمقتضى النسق البياني للقرآن أن يكون العقاب الأخروي. أما في الآية التي نتكلم في معناها فواضح أنهم خسروا في الدنيا بقتل أولادهم سفها بغير علم، وتحريم ما أحل الله تعالى وافتراءً على الله تعالى.
وقد جاء في تفسير القرطبي: روى أن رجلا من أصحاب رسول الله - ﷺ -، كان لَا يزال مغتما بين يدي رسول لله، فقال له رسول الله - ﷺ -: ما لك تكون محزونا، فقال يا رسول الله: إني أذنبت ذنبا في الجاهلية، فأخاف ألا يغفره الله، وإن أسلمت، فقال - ﷺ -: أخبرني عن ذنبك، قال: يا رسول الله إني كنت من - الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت فتشفعت إليَّ امرأتي أن أتركها، فتركتها، حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء، فخطبوها، فدخلتني الحمية، ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج، فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا في زيارة أقربائي، فابعثيها معي، فسرَّت بذلك، وزينتها بالثياب والحلي، وأخذت عليَّ المواثيق بألا أخونها، فذهبت إلى رأس بئر، فنظرت في البئر ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر، فالتزمتني، وجعلت تبكي وتقول: يا أبت أيْش تريد أن تفعل بي، فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت عليَّ الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت لَا تضيع أمانة أمي فجعلت مرة أنظر في البئر، ومرة أنظر إليها أرحمها، حتى غلبني الشيطان، فأخذتها وألقيتها في البئر معكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبت قتلتني، فكنت هناك حتى انقطع صوتها، فرجعت، فبكى رسول الله - ﷺ -، وأصحابه وقال: " إن الله لرءوف، لو أمرت أن أعاقب أحدا بما كان في الجاهلية لعاقبتك " (١). هذه قصة مثيرة، ولا بد أنها كانت تقع من الجاهليين، سواء أصحت هذه الرواية بالذات أم لم تصح، فكيف لَا تكون الخسارة في الدنيا بهذا الطيش الجاهل، رحم الله أمثال هذه الفتيات.
* * *
________
(١) ذكره القرطبي في التفسير: ج ٤، ص ٢٥٣٣ - طبعة الشعب. ورواه الدارمي في سننه: المقدمة - ما كان عليه الناس قبل مبعث النبي - ﷺ - (٢).
* * *
ذكر الله تعالى أحوال أولئك الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم، وحرموا على أنفسهم ما رزقهم الله من بهيمة الأنعام ونسبوا التحريم إلى الله تعالى افتراء، ثم ذكر سبحانه من بعد ذلك بطلان التحريم من خلق الله تعالى للنبات والنعم، مع ذكر نعمته في النبات والأشجار مما كان يدعوهم إلى التوحيد، والإيمان بالله وحده بدل أن يشركوا به، ويفتروا على الله بأوهامهم، فقال تعالى:
الضمير يعود على الذات العلية، و (أنشأ) معناها خلق، وعبر هنا سبحانه وتعالى بكلمة (أنشأ) لبيان أنهم لم ينشئوها؛ فإن إشراف أصحابها عليها يجعلهم يتوهمون أنها نشأت بفعلهم، وإشرافهم فهم الذين غرسوا غرسها، وهم الذين بذروا حبها، وهم الذين حرثوا أرضها، وهم الذين رعوها وسقوها وأبرأوها، وسمدوها إلى غير ذلك. فنبههم الله سبحانه وتعالى أنه الذي أنشأها، ونماها، وأنزل لها الماء الذي يحييها، فإن الماء يسير من جذورها، ويعلو بقدرة الله، ثم
إن الذي أنشأ الأشجار، وأنشأ الزروع والثمار هو الله تعالى، فما كانت الأرض لتخرج الغرس وحدها، ولتخرج الزروع والثمار وحدها، وإنما يخرجها الله تعالى فهو الله تعالى الذي ينشئها.
وقوله تعالى: (مَّعْروشَات)، أي لها مما يشبه العرش يقام على سيقان، كما في الكروم التي تقام على سيقان من الخشب، وأحيانا شبه العروش من غير ما يقام عليه إلا جذور الأشجار، كأشجار البرتقال وغيره مما يشبهه، فإنك إذ تراها متلاحمة تكون كالمعروشات القائمة على العروش، وغير المعروشات، كالأشجار التي تعلو وحدها.
(وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِه).
خص هذه بالذكر، لما لها من أهمية في حاجة الناس، فالنخل قوت وفاكهة، والزرع فيه غذاء الإنسان والحيوان، والحيوان فيه غذاء الإنسان، وكل هذه من نعم الله تعالى ما أنشأناها، ولكن أنشاها خالق هذا الوجود فهو الذي يتولاها في نموها من حبة فلقها، أو نواة شقها، إلى أن تصير نباتا غلظ سوقه، أو نخلة عالية، والزيتون والرمان متشابها في ورقه، فورق الرمان كورق الزيتون يتشابهان، ولكن ثمرتهما مع التشابه في الورق والأغصان لَا تتشابهان.
وقوله تعالى (مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ)، الأكل الطَعْم، وتناوله، فهو مختلف في ذوقه وإن تشابه نموه، وعناصر الأرض التي يتغذى منها، والأسمدة التي تنميه واحدة.
وإن هذا التنويع في التكوين وإشباع الحاجات الإنسانية يدل على فاعل مختار فعال لما يريد، ولنستعرض في هذا المقام كلمات كتبها القرطبي في تفسيره، فقد قال رحمه الله تعالى:
(كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ).
قوله تعالى: (كلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) الأمر فيه للإباحة؛ لأن الأكل من جنس الثمر ليس بواجب، ولكنه مباح، وقوله تعالى: (إِذَا أَثْمَرَ)، إشارة إلى وقت الإباحة، فهو إباحة وإرشاد بألا يأكل قبل أوان الإثمار فإن ذلك قد يضر ولا ينفع؛ لأن الفج من الثمار يضر الأجسام ولا يفيدها، فوق ذلك أنه إتلاف لَا فائدة (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) أهو الأمر فيه للندب أم للوجوب، ومن المؤكد أنه ليس للإباحة؛ لأن أشعبير بحقه، يفيد أن الإيتاء لصاحب الحق، والإيتاء لصاحب الحق في المال لَا يمكن أن يكون مخيرا فيه بين الإعطاء والمنع، وقد اختلف الفقهاء؛ أهو واجب فتكون زكاة المال قد ثبتت قبل الهجرة، مع أن الثابت أن
والحق أن هذا الحق في المال ثبت في مكة، ولكن لم تشرع الزكاة التي تعد فريضة، ومصارفها التي جمعها ولي الأمر إلا في المدينة، حيث قامت الدولة الإسلامية التي تجمعها، أما في مكة حيث ثبت الإسلام ثبتت الصدقات حقا للفقراء والمساكين والسائل والمحروم، فلقد قال تعالى في سورة المعارِج وهي مكية وصفا للمؤمنين (وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦).
فالصدقات كانت مفروضة في الأموال، وخصوصا في الزروع والثمار، وإن كان ولي الأمر لَا يجمعها، لأنه لم يكن للمؤمنين دولة تجمعها، إذ كانوا مستضعفين في الأرض، فلما كانت السنة الثانية بعد الهجرة نظمت وعمت الأموال التي يكون لها نماء بالفعل أو القوة، وإن حق الفقراء في الزروع والثمار كان معروفا قبل الهجرة، ونظم الجمع، وعمم بعدها.
واقرأ ما جاء في قول الله تبارك وتعالى في ابتلاء أهل حديقة: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (١٧) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (٢٣) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (٣٠) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (٣١) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (٣٢).
إن هذه الآيات الكريمة تدل على أنه قبل الهجرة كان المؤمنون يشعرون بأن في الزرع والثمار حقا للسائل والمحروم كانوا يشعرون بذلك مؤمنين بهذا الحق.
ولذا نقول إن الآية مكية، ولا نسخ فيها بعموم ولا خصوص، وحكمها داخل في فرضية الزكاة الذي ثبت في المدينة تنظيمه، ولذا نرجح أن الأمر هنا للوجوب.
وقوله تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) أي يوم صرمه وقطعه، وسماه الله تعالى حق الزرع فقال (حقه) أي الحق الواجب فيه، فالصدقة حق المال، وواجب فيه أي أن المال ينتفع منها، فهي تزكيه وتنميه وتطهره، وهي أيضا حق السائل والمحروم، فهي حق الفقير لتسد حاجته، وحق المال لتطهره وتنميه، ويكون طيبا.
(وَلا تُسْرِفُوا إِنَّه لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
هذا عطف على قوله تعالى: (كلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) فالعطف على إباحة أكل الثمار، فهو إذ أباح أكل الثمار وأمر بإعطاء حق المال يوم قطعه، لقد نهى عن الإسراف، والإسراف معناه الإنفاق في غير موضعه أو الأكل من غير حاجة، كقوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تسْرِفوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين).
وإن النهي عن الإسراف ظاهر في أنه منع من الإسراف في الأكل في الثمر، إذا أثمر، بأن يأكلوا فوق طاقتهم، أو أن يبيعوه وينفقوا ثمنه إسرافا وبدارا، أو أن يوزعوه على من يستحق ومن لَا يستحق، أو إعطاء الكثير لمن يستحق القليل، وبعض المفسرين يعمم النهي عن الإسراف، فيمنعه على من يأكل الثمار إذا أثمرت، وعلى إيتائه حقه يوم حصاده، ومن الإسراف في ذلك أن يدع قرابته فقراء ويعطي غيرهم، فابدأ بنفسك ثم بمن تعول، وقالوا: إن النهي عن الإسراف
وقد ختم الله النهي عن الإسراف ببيان سببه، فقأل تعالى: (إِنَّهُ لَا يحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي النهي سببه أن الله جل جلاله لَا يحبه، فيغضب الله تعالى ممن يسرف بمجاوزة حق الإنفاق، وبوضع المال في غير موضعه، وبأخذ الصدقات مسرفا في الأخذ؛ لأنها إذا أخذ منها أكثر من حقها، فهو كمانعها، والله رءوف رحيم.
* * *
________
(١) رواه الترمذي: الزكاة - ما جاء في المعتدي في الصدقة (٦٤٦)، وابن ماجه: الزكاة - ما جاء في عمال الصدقة (١٨٠٨)، ورواه أبو داود: الزكاة (١٥٨٥) بلفظ: " المعتدي المتعدي في الزكاة... ". عن أنس بن مالك.
* * *
(الواو) عاطفة على قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّات مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَات) أي: وأنشأ لكم من الأنعام حمولة وفرشا وطعاما ولحما طريا، فهي ذكر لآلاء الله تعالى ونعمه في خلقه إذ هيأ لهم أسباب الهناء التي أحل فيها طيباته ومكنكم منها.
و (الأنعام) جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم، وما شاكلها مما يؤكل، وينتفع به الإنسان، وجعل الله تعالى منه (حمولة)، وهي ما يحمل عليها، و (فرشا) وهي ما يذبح بأن يفرش ويذبح، وما يتخذ من أصوافها وأوبارها وأشعارها فرشا، وهذه تشمل النعم التي تذبح، والغنم والعجول التي لَا تبلغ القدرة على حمل الأشياء، بل تذبح ويؤكل لحمها، وتسمى العجول، والغنم فَرْشا؛ لأنه يفرش ويذبح كما ذكر، ولأنها قريبة من الأرض، وقد جعلها الله فراشا، وقد قال تعالى في ذلك: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (٧٢).
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا
ولأن الفرش منها الغنم، ونسل الأنعام الذي يذبح، قال تعالى بعد ذلك: (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ).
والمعنى إذا كان الله تعالى قد خلقها فرَشا يذبح، فكلوا منه، لأنه رزق الله، ورزق الله تعالى يُقبل لأنه عطية الله، ويُشكر عليه، فلا تجعلوا مما رزقكم الله حلالا وحراما كما يفعل الذين يتبعون خطوات الشيطان، والأمر هنا للإباحة، والترغيب في تناول الحلال، وقد قلنا إن أوامر الإباحة تكون فيها الإباحة بالجزء وهي مطلوبة بالكل، فليس للإنسان أن يمتنع عن المباحات، ويترك تناولها، ولا يتركها كلها.
وقد كان بعض العرب يتصدقون بأكثر ما ينتج غرسه، فنهى الله تعالى عن الإسراف وقال: (كلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ).
(وَلا تَتَّبِعوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُو مُّبِينٌ).
الخطوات ما بين الأقدام، والمراد النهي عما يوسوس به الشيطان، وتجنبه بألا يسير سيره الذي يزين به الشر، وفي الكلام مجاز مشهور، والمجاز المشهور تنسى فيه العلاقة والقرائن، وكأنه حقيقة، ومؤدى المجاز تشبيه من يطيع الشيطان فيما يوسوس بالسائر وراء إنسان يتبعه خطوة خطوة، لَا يحيد عن طريقه، ولا يترك طريق الشر الذي يسيو فيه. وقد علل سبحانه وتعالى النهي بأنه عدو بَيِّن العداوة وبيانها ببيان آثارها ونتائجها، وليس معنى (مبين) أنه بَيِّن واضح عند السير وراءه، إنما هو بين في نتائجه وغوايته.
واتباع خطواته هو ما كان عليه الجاهليون فيما رزقهم الله تعالى فحرموا بعضه، بغير ما حرم الله، حرموا السائبة والوصيلة والحام بغير ما أنزل الله،
ولقد أخذ سبحانه وتعالى يبين ضلالهم فيما يحرمون على أنفسهم بوسوسة الشيطان، وينقض زعمهم فقال:
* * *
(ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)
* * *
نهى الله تعالى بالنسبه لما رزق الله تعالى - المكلفين أن يتبعوا خطوات الشيطان، وما يزينه للذين يفتحون قلوبهم لوسوسته، وآذانهم لسماع دعاته وأتباعه، وقد زين لهم أن يحرموا بعض الثمرات والزروع ويجعلوا جزءا لله، وجزءا لأوثانهم، وتطيش فيعتدون على ما جعلوه لله، ويحمون ما جعلوه لأوثانهم وحرموا بعض الأنعام، حرموا الوصيلة والسائبة والحام والبحيرة، وقد بينا ما يريدون من هذه الألفاظ من مسميات في موضعها في سورة المائدة في ربع
(ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) عطف على (أَنشَأَ)، أو مفعول لفعل محذوف، وإذا كان التأويل فهي منصوبة، والأزواج جمع زوج، والزوج يطلق على كل فرد يقابله درد آخر، ويقال لكل واحد منهما زوج، ويقال لمجموعهما زوج، وعدّ الله تعالت كلماته، ثمانية: اثنان من الضأن ذكر وأنثى، واثنان من الماعز ذكر وأنثى، واثنان من الإبل، فحل، وناقة، واثنان من البقر ثور وبقرة، والضأن ذكره كبش، وأنثاه نعجة، والماعز ذكره تيْس أو جدي، وأنثاه معزة.
فهذه هي ثمانية أزواج عدا، وقد سلك القرآن في احتجاجه عليهم مسلك الجمع والإفراد، فبين أن التحريم في الرزق يكون لخبث في ذاته اقتضى تحريمه، وأن التحريم يكون من الله تعالى مانح الأرزاق والوجود، وقد ادعوا تحريمهم لما حرموا بوسوسة الشيطان أنه من الله تعالى، متتبعا تحريمهم، فقال تعالى: (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) أي كل زوج من المحرمات حرم الذكرين منها كالكبش والجدي فتحرم الذكور كلها، ولكنكم لم تحرموها كلها، بل خصصتم بعضها (أَمِ الأُنثَيَيْنِ) منها فحرم النعجة والمعزة، وكان يجب أن تحرم كل الإناث، ولكنكم حرمتم بعضها، وتركتم الآخر، وعلى ذلك لَا يكون التحريم بسبب في ذاتها أو ما اشتملت أرحام الأنثيين أي المواليد ذكورا وإناثا فيحرم الجميع، ولكن خصصتم فلا يكون سببه التحريم لذاتها، ولا بسبب من النقل، فبينوا ما اعتمدتم عليه من العلم إن كنتم صادقين، ولذا قال تعالى:
وإنه بعد البيان الصادق الذي ذكر أولا، يكون قوله تعالى: (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) من قبيل التهكم بهم؛ إذ لَا دليل عندهم، وطلبه بعد بطلان وجوده تهكم به أو تعجيز لهم، والعجز عن إقامة الدليل في وقت الاحتجاج تسليم بالمدعى بحكم المنطق المستقيم والتفكير القويم.
وقوله تعالى: (إِن كنتُمْ صَادِقِينَ) التعليق بـ (إنْ) فيه إشارة إلى أنهم لا صدق عندهم وأنهم يفترون على الله تعالى فيما يدعون، وقوله تعالى: (نَبِّئونِي) النبأ الخبر العظيم، وهذا عظيم في زعمهم.
* * *
* * *
هذه هي أربعة الأزواج بعد الأربعة الأولى فتكون عدتها ثمانية، قال تعالى: (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثَيَيْنِ) أحرم الفحل من الإبل والثور من البقر، أم حرم الأنثيين من الأربعة، فحرم الناقة من الإبل، والبقرة من البقر، فإن كان التحريم للذكرين يشمل الذكور كلها، فإن التحريم على الإناث شمل الإناث كلها. أما وقد حرمتم بعضها دون بعضها، فإنه لَا يمكن التحريم لأمر ذاتي فيها، ولا لأمر نقلي، فلا دليل من عقل ولا نقل.
وإذا كان التحريم للمواليد كلها ذكورا وإناثا، وهي ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فإنه بمقتضى عموم القول. يكون التحريم لجميع المواليد من البقر والإبل، ولكنكم تحرمون بعضها دون بعض، فلا يمكن أن يكون التحريم لخبث فيها؛ لأن الخبث إن كان سبب التحريم، فهو يعم ولا يخص، فلا يمكن أن يكون التحريم بسبب في ذاتها، ولا لنقل نقلتموه، وإن ادعيتم ذلك فأنتم تكذبون على الله في ذلك، ولا دليل عندكم على التحريم من قبل الله، بل هو اتباع الشيطان، وتزيينه لكم حتى صار ذلك هواكم، وغلبتكم الأوهام؛ ولذا قال تعالى:
الفاء لترتيب ما بعدها على معنى ما قبلها، والمعنى إذا كانوا قد كذبوا على الله تعالى، وادعوا أن الله حرمها، فهم ظالمون مفترون ومن أشد ظلما ممن يفتري على الله كذبا ليضل الناس، ومن استفهامية، وهي للإنكار، لإنكار الوقوع، إذ معناه، لَا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا، أي قصد الكذب على الله تعالى بادعاء أن الله تعالى حرم بعض ما رزقهم الله، وهو لم يحرم، وفي ذلك مع النفي توبيخ لهم، لأنهم فعلوا ما استنكر أشد الاستنكار. وإن ظلمهم مركب من أمرين، أولاً لأنهم كذبوا على الله وقصدوا الكذب، والثاني أنه أضل الناس بهذا الكذب على الله، فقال إنه تحريم من الله، وليس من الله في شيء إلا أوهامهم الضالة.
وذلك الظلم والإضلال أوضح ما يكون في كبرائهم الذين أضلوا ضعفاءهم، وقد ختم الله سبحانه الآية بقوله تعالى:
* * *
(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (١٤٦)
* * *
وإن المتتبع لآي الله تعالى يجد أن كل أمر يجري فيه الجدل، أو يثيرون هم فيه الجدل يأمر الله تعالى نبيه بأن يتولى البيان بلسانه مع بيان الله تعالى.
لعموم نفي عدم الوجود، وفيه إشارة إلى أن ما حرموه غير معقول إن سمي به وحي مطلقا.
وقال (عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ)، أي على آكل يأكله، وعبر سبحانه بقوله تعالى (عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ) بدل (آكل يأكله)؛ لأن الطعم تذوق واستطابة، والأكل قد يكون أكل غير مرغوب فيه، أو ما ليس له ذوق يستطاب، ففي هذا إشارة إلى أنهم يحرمون طيب اللحوم والمطعومات.
(إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فإنَّهُ رِجْسٌ).
الميتة الحيوان الذي يموت، وينحبس دمه فيه، ويدخل في معناه المنخنقة، والموقوذة التي وقذت بالحجارة حتى ماتت، والمتردية التي تردت في حفرة أو بئر، والنطيحة التي نطحت من أخرى حتى ماتت، فإن هذه تدخل في عموم كلمة ميتة إن توسعنا في معناها، بأن قلنا: إن الميتة ما لم تذكَّ بالذبح، وإنهار الدم، ومهما يكن فإنها في المعنى قريبة من الميتة.
والدم المسفوح هو الدم السائل، وقد تبين أنه سريع الفساد، وتسارع الميكروبات إليه، والدم المسفوح خرج به الدم الذي يكون بعد الذبح في جوار
وقد ذكر سبحانه وتعالى سبب التحريم فقال: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) أي قذر، فهو قذر في ذاته، وهو قذر في غذائه فهو يتغذى من الأقذار، فيتغذى من العذرة، ولحمه رجس إذ إنه مقشش (٢) فيه ميكروبات. أخصها الدودة، ولاحظ كثيرون أنه حيث يكثر آكلوه يكثر مرض السرطان، ولو تنبه العلماء إليه وبحثوا لحمه لوجدوا بعد الحيرة الطويلة أن هذا الداء العضال تكمن جرثومته فيه؛ لأن الله تعالى قال: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) وهو أصدق القائلين وإذا كان الخنزير فيه رجس حسي، ومن أجله حرم أكله، فان الله تعالى قد حرم ما فيه رجس معنوي، وقرنه به، وهو ما أهل لغير الله به، ولذا قدم كلمه (فسقًا) مقارنة لكلمة (رجس) لأنهما يلتقيان في المعنى؛ لأن هذا الخنزير رجس حسي، - وهذا الفسق رجس معنوي، فهما من باب واحد.
وقوله تعالى: (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) أي أنهم ذبحوه لَا باسم الله، بل باسم أوثانهم، وكانوا حريصين على ذلك كل الحرص؛ لأنهم قدموا غير الله في ذبحهم، فقصدهم التقرب لآلهتهم فيه.
وهنا يثار بحث، فإن الآية تدل على أن ما أهل لغير الله يكون حراما، وبمفهوم المخالفة ما لم يهل لغير الله به يكون حلالا، وعلى ذلك يكون ما لم يذكر عليه اسم الله تعالى، ولم يهل به لغير الله يكون حلالا، وقد قررنا أنه إن
________
(١) رواه أحمد: مسند المكثرين (٥٦٩٠)، وابن ماجه: الأطعمة - الكبد والطحال (٣٣١٤). عن عبد الله بن عمررضي الله عنهما.
(٢) قشَّش: أكل ما في المزابل. القاموس المحيط.
وهناك بحث آخر، وهو أن ثمة محرمات قد وردت بها آثار كسباع البهائم فإنها وردت الآثار بتحريمها وسباع الطيور، وبعض خشاش الأرض، كالحية والعقرب، وغيرها، وكالحمر الأهلية التي حرمت في غزوة خيبر. والآية تفيد القصر، أي قصر المحرمات على المذكور، كما تفيد إباحة غيره؛ لأن القصر كما هو مقرر في علم البيان نفي وإثبات، فقد أثبت التحريم في هذه الأشياء الميتة والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وثبتت الإباحة بالنص الذي أفاد القصر فيما عداها، وقد ثبت أن بعض ما عداها كان حراما. وهذا يتناقض مع القصر.
وقد أجيب عن ذلك بعدة إجابات:
أولها - أن هذا القصر خاص بالأنعام، وما كان يشبهها من البهائم كالخنزير، فإن النص سيق للرد على المشركين الذين حرموا بعض الأنعام وافتروا على الله تعالى بالكذب، فكان الرد بهذا القصر الذي يفيد تحريم ما نص عليه، وأن غيره مباح، وغيره هو ما يتعلق بالأنعام، وقد يرد على هذا أن التحريم كان فيه الخنزير، وهو لَا يشبهها، فمجيئه لَا يدل على أن الكلام في الأنعام فقط، ونقول إن مجيئه لَا يمنع أن الإباحة فيما عدا المنصوص عليه كان في الأنعام فقط، فلا يدخل في مدلول نفي التحريم غير الأنعام، بل يبقى سكوتا عنه حتى يجيء نص فيحرمه، وإلا فهو في مرتبة العفو أو الإباحة، هذا تخريج للقصر، ونعتقد أثه لا يمنع تحريم سباع البهائم وسباع الطير، وخشاش الأرض وهذا عندي أوضح التخريجات وأقربها.
والتخريج الثاني تخريج الزمخشري - وهو أن الاستثناء منقطع بمعنى لكن، وأنه لَا قصر حتى يكون الكلام مشتملا على نفي وإثبات نفي التحريم وإثبات
ونقول لإمام البلاغة: إنه تخريج لَا يستقيم مع النسق البياني الذي يليق بكتاب الله العظيم.
والتخريج الثالث - أن الآية لم تدل على الإباحة المطلقة، إنما أخذت الإباحة بالمفهوم، ولا يؤخذ بالمفهوم حيث يكون نص، وهناك نصوص تمنع.
(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلا عَاد فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُور رَّحِيمٌ).
هذا التحريم مؤكد في حال الاختيار، لَا في حال الاضطرار، فمن كان في حال ضرورة لَا يجد ما يطعمه، وقد تعرض للهلاك جوعا وهو غير باغ ولا معتد، فإن الله تعالى يغفر له أكله، وقد قلنا إن حد الضرورة قد بينه النبي - ﷺ - إجابة لمن سأله - إذ قال له: " أن يجيء الصبوح والغبوق ولا تجد ما تأكله " (١).
(والباغي) له تخريجان:
أولهما - أن الباغي، هو من خرج باغيا على الحاكم العادل ظالما له، أو من خرج لمعصية، فإنه لَا ينتفع بهذه الرخصة، وذلك يكون سيرا على قاعدة: إن من ارتكب معصية لَا تكون المعصية سببا لنعمة الرخصة، كمن يرتكب جريمة وهو سكران بمحرم، فإنه لَا يعفى من الجريمة بسبب السكر، وذلك مبدأ مقرر عند بعض الفقهاء وخصوصا فقهاء العراق.
والثاني - أن الباغي الطالب لهذا المحرم المشتهى له، كأن يكون مضطرا فلا يجد إلا خنزيرا، يشتهيه ويأكله باغيا له طالبا.
________
(١) سبق تخريجه.
والثاني - أن العادي أي المتجاوز لحد الضرورة.
وأميل إلى أن الباغي المشتهى الطالب للميتة أو الخنزير، وأن العادي هو المتجاوز لحد الضرورة، فإن رحمة الله تعالى في الدنيا، تتسع للأشرار كما تتسع للأخيار والحساب عند الله، وعسى أن يغفر الله لهم، وننبه هنا إلى أمرين:
أحدهما - معنوي، وهو أن هذه الحرمات ما حرمت إلا لأنها خبائث، والله حرم الخبائث، وإن فيها إفسادا للجسم الإنساني وإضرارا به، وإن الضرورة وشدة الجوع قد تذهب بأوضار الأخباث التي في هذه المحرمات، وإن ضررها يقل بالنسبة للجائع جوعا شديدا يؤدي إلى الهلاك، وإن كان ثمة ضرر من بعد، فإنه أخف مما يترتب على الامتناع، ولذلك كانت الرخصة مقيدة بالا يتجاوز حد الضرورة؛ لأنه إن تجاوزه غلب الضرر، واشتد أثر الجراثيم المفسدة للجسم التي تحتوي عليها هذه المحرمات.
وثانيهما - وهو بياني ومعنوي أيضا، وهو قوله تعالى: (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) أثر لجواب الشرط المحذوف أو سبب له، فإن المقدر هكذا، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، كما ذكر في آيات أخر، أما هنا فلم يذكر، ولكن ذكر سببه، وهو فإن ربك غفور رحيم فالسبب أن الشارع الحكيم هو ربكم الذي خلقكم ورئكم، وقام على أمر حياتكم، وأنه غفور يغفر الإثم ويستره، وأنه رحيم لا يرهقكم وإن هذا يدل على رفع الإثم سببا بسببه.
* * *
* * *
بعد أن بين الله ما أحل للمسلمين وما حرم، وأنه فتح باب إباحة الطيبات بإطلاق فكل طيب حلال، وقد استنكر في عدة آيات كريمات على من حرم الطيبات التي أحلهِا الله، ونهى عن تحريم الطيبات، وقال تعالت كلماته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا).
واليهود أصيبوا بالتخمة والترهل، وأدى ذلك إلى خمول وكسل، ومع الخمول والكسل، يكون القعود، ودعاهم سيدنا موسى إلى أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم أن يدخلوها، لَا أن يملكوها لهم دون سائر الناسِ، قالوا له متخاذلين بسبب ترهل أجسامهم: (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُون).
ويقولون أيضا: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدونَ).
كان لَا بد من علاج لترهل أجسامهم وذهاب النخوة من نفوسهم. أما الثاني فرباهم على اليأس بأن يعيشوا في الأرض تائهين في صحرائها، فقال تعالى: (... فَإِنُّهَا محَرَّمَة عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ...)، وأما الأول وهو ترهل الأجسام وكسلهم، فقد عالجه سبحانه بأن حرم عليهم ما يؤدي إلى ترهل الأجسام من شحوم، ولحوم تربي الدهن في الأجسام، وتثقل عليهم حركاتهم. ولذا قال سبحانه.
(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كلَّ ذِي ظُفُرٍ) حرم الله تعالى على اليهود كل ذي ظفر من الأنعام. وذو الظفر - كما قال ابن جرير رضي الله تعالى عنه - كالبهائم التي لم تكن مشقوقة الأصابع كالإبل، والطير والأنعام والأوز والبط، والحيتان.
ويلاحظ أن هذه المحرمات تمتاز بكثرة الشحم، فالإبل لها سنام كله شحم، والأوز والبط هي شحوم قليل لحمها، وذو الظفر كما ترى قد فسرت به، وكل حيوان لم تنفرج أطراف أرجلها، وكان التحريم لهذا المعنى الذي ذكرناه، وفطما لنفوسهم، وفطم النفوس يعطيها قوة إرادة، ويجعل للعقل سيطرة على أفعالهم.
هذا هو القسم الثاني مما حرمه الله تعالى، وقد نص على الشحوم مما يدل على سبب التحريم في الماضي فوق أنه يقال إن أكل لحوم الإبل يقسَّي القلب، وقلوبهم قاسية.
وهنا نرى علاج الله تعالى لأجسامهم مع ملاحظة الرحمة بنفوسهم، فقد حرم سبحانه وتعالى الشحوم لما تؤدي إليه من ترهل، وضخامة، مع ضعف قوته وعزيمته، ومع قسوة النفس، وضعف الإحساس، ولكنه استثنى ما لَا يستطيعون عليه صبرا؛ استثنى أولا ما حملت ظهور البقر والغنم لطيب طعامها، ولأنها ليست شحوما كثيرة، ولا تؤدي إلى الترهل الكثير، واستثنى أيضا سبحانه: (أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ). (الحَوَايَا) جمع مفرده حاوية أو حَوْي، وهو ما تحوي واجتمع في البطن، وتشمل المعدة والأمعاء، ومواضع اللبن وأبيح ما حملت من شحم، كما أبيحت هي، وذلك لصعوبة فصله وإخراجه، وكان ذلك تيسيرا وتخفيفا في موضع التحريم، وتسهيلا للاستجابة إن كانوا طائعين.
وأن ذلك التحريم كان علاجا لأجسامهم، ولكسلهم، وفطما لنفوسهم، وتزكية لأرواحهم، وإرهافا لمداركهم وأجسامهم، ولذا قال تعالى:
(ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ) البغي هو الظلم، والظلم يشمل ظلمهم لأنفسهم بانطلاقهم في أكل ما يشتهون، وتسمن به أجسامهم، ويشمل بغيهم على غيرهم بالاعتداء والفحشاء، ويشمل ارتكابهم المعاصي ما ظهر منها وما بطن، ودلت الإشارة فيه إلى ما حرمه تعالى عليهم وفطم به نفوسهم الشرهة، وهذا كقوله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ). وإن هذا التحريم كان تطهيرا لنفوسهم وتقوية لأجسامهم، وجزاء دنيويا على ما اقترفوا من طغيان.
والله تعالى ولي النعم.
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى:
(وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) الصدق معنى جامع لكل المعاني العالية، والصدق هنا هو الإخبار بالحق الذي لَا مرية فيه، وكيف نشك في خبر حكاه الله رب العالمين، ويشمل العدل في الجزاء الذي جازى به بني إسرائيل على طغيانهم، وعتوهم ويشمل صدق الدواء الذي عالج ترهلهم، وإفسادهم لأجسامهم بشهواتهم، وإفراطهم إلى غير حد محدود، وقد أكد الله سبحانه وتعالى صدقه في خبره وعدالته وعلاجه لأدواء جسمهم ونفوسهم بمؤكدات ثلاثة، أولها - الجملة الاسمية، وثانيها - (إنَّ) المؤكدة، وثالثها - اللام، والله تعالى هو العلي الكبير.
* * *
(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)
* * *
يخاطب الله نبيه الكريم بقوله: (فَإِن كذَّبُوكَ) كافرين برسالتك، فلا تجعلهم في يأس من أن يتوبوا، وينتهوا من كفرهم إلى إيمان بربهم، وقل لهم عن ربك فاتحا باب التوبة والإيمان من غير أن تؤيسهم (رَبُكمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَة) أي صاحب رحمة وسعت كل الوجود أنعم على الناس بالوجود، والنعم المترادفة لعصاتهم والطائعين فيهم، وقد فتح باب التوبة للعصاة، والثواب ثابت للطائعين. وإنه مع هذه الرحمة الواسعة التي وسعت كل عاص يفتح باب التوبة له، والطائع بالثواب والنعيم المقيم، إنه سبحانه مع ذلك لَا يترك العصاة المصرين من غير عقاب إذا استمروا على غيهم؛ ولذا قال تعالى:
(وَلا يُرَدُّ بَأسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).
البأس الشدة، والظاهر أن المراد هنا العذاب الأليم يوم القيامة، وعبر سبحانه بقوله: (الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)، بلفظ القوم؛ لأن الإجرام يكون في جماعة تتضافر على الشر ويتعاونون على الإثم والعدوان، ونادر أن يكون من واحد بمفرده، أو عدد متنافر غير متجمع متعاون على الشر. هذا وإن سنة الله تعالى في كتابه الحكيم أن فتح التوبة مرغبا فيها، وأن يذكر بجوارها العقاب، كما قال تعالى:
(... وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ للنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَاب).
وكما قال عز من قائل: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠).
وكقوله تعالت كلماته: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤).
وكقوله سبحانه: (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ).
* * *
* * *
يبين الله سبحانه وتعالى ما يجول في قلوب الذين أشركوا وما أبدوه وهو قول الذين يعتذرون عن كفرهم بإلقاء التبعة عنهم، وقولهم هذا لَا يؤمنون به ولا يخضعون له، ولكنهم قوم خصمون، والمجادل المموّه يحتج بالحجة الباطلة وغير الباطلة.
إنه لو شاء الله ما أشركوا ولا آباؤهم، ولا حرموا من شيء، ولكنهم في وسط هذا القول الظاهر ينسون حقيقتين:
الأولى - أنهم عصوا الله، وأشركوا به، وحرموا ما حرموا مختارين وغير مجبرين، وأنه على ذلك يكون حسابهم وعقابهم في الآخرة ومؤاخذتهم في الدنيا ببيان أنهم خارجون عن الحق ينحرفون عنه، وفوق ذلك حرموا ما حرموا، وادعوا من غير أي برهان أو حجة بأن التحريم من الله افتراء عليه.
الثمانية - أنه ما كان الله تعالى ليتركهم في غيهم إلا لأنهم اختاروا السير في طريق الضلالة، فتركهم الله يسيرون فيه حتى بعدوا عن الحق بالضلال البعيد.
وإن ذلك دأب الخارجين، فخرج الذين من قبلهم بذلك القول الذين يلقون به الإثم عن أنفسهم وهو محيط بهم، لَا يخرجون من دائرته، ولذلك قال تعالى:
(كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِين مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقوا بَأسَنَا).
كهذا القول الذي سيقوله الذين أشركوا ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء قال الذين سبقوهم بالشرك من قبلهم، فالشر مسلسل فيهم ما داموا قد غووا، والكفر كله ملة واحدة في التفكير واستيلاء الهوى، وعدم تحملهم مسئولية فعلهم بإلقاء التبعة على غيرهم، ونفيها عنهم، واعتذارهم بأنهم لَا يؤاخذون على ما يرتكبون من آثام، وذلك الشأن في العصاة، يروى أنه حدث أن مرتكبا لما يوجب حدا سيق إلى عمر، فسأله لم ارتكبت هذا؟ قال: قضاء الله، فأقام عمر عليه الحد، وزاده أسواطا لأنه يحمِّل قضاء الله تعالى مسئولية عمله، ولقد قال
ذلك شأن الذين يفسقون عن أمر ربهم يلقون عن أنفسهم أوزارهم كاذبين بمثل هذه الاعتذارات وهم لَا يؤمنون بها.
وإنهم استمروا على غيهم وعلى قولهم حتى ذاقوا عذاب الله تعالى، ولذا قال الله تعالت كلمته (حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا).
وهذا يحتمل أن يكون بأس الله بقوة المؤمنين في الدنيا، ويحتمل أن بأسه بعذابه الأليم في الآخرة، وكيفما يكون العذاب فإن الله تعالى عبر بالماضي، وهو واقع في المستقبل للدلالة على تأكد وقوعه، كما في قوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ).
وإن هذه الاعتذارات التي يسوقونها بأنه لو شاء ما أشركوا ولا حرموا بعض الأنعام افتراء على الله فهل عندهم حجة على أن شركهم برضا الله، وأن تحريمهم ما حرموا بأمره أو رضاه لَا حجة عندهم، ولذا قال تعالى مفحما لهم رادا على افترائهم.
(قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا).
قل يا محمد في جدلهم مفحما لهم إن ادعاء رضا الله لَا يكون بمثل ظنكم، ولكن يكون بعلم جاء إليكم من الله، فتحتجون بهذا العلم، لَا بمجرد الظن والتخمين، وكثرة الكلام، والتهافت فيه، فهل عندكم من علم فتخرجوه لنا تحتجون به، وتسوغون كلامكم إن كان فيه ما يسوغ ما تزعمون.
والاستفهام للإنكار والتوبيخ، واستغراق النفي المتضمن له الاستفهام بـ (مِن) يفيد الاستغراق، أي هل عندكم من علم أي علم تزعمونه فتخرجوه لنا ليكون دليلا لكم؟.
إنهم لَا حجة لهم من علم أوتوه، ولا من دليل اعتنقوه، ولكن الظن الذي سبق إليهم، وتوهموه حقا لَا شك فيه هو دفعهم، وإن الظن لَا يغني من الحق شيئا، فهو رجحان أمر في نفوسهم جعلوه حراما، وذلك الظن لم يبنوه ولو على دليل ظني مرجح، ولكن على خرص وتخمين سيطرت عليه أوهامهم ووجهتهم إليه، وهذا معنى أو قريب من معنى قوله تعالى: (إِن تَتَّبعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) و (إنْ) للنفي، و (إلا) للاستثناء، أي ما يتبعون إلا الظن، فهذه الكلمة السامية نافية أن يكون دليلا مقنعا أو ملزما باليقين، ولكنهم يتبعون ظنا ترجحه أوهامهم، وأكد أن الظن مبني على أوهام بقوله تعالى: (وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصونَ) أي ما هم إلا يخمنون تخمينا قائما على الأوهام المضللة، وقد ضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
وقد التفت الله سبحانه في خطابه الكريم من الغيبة إلى الخطاب لتكون المواجهة أرهب في نفوسهم، وليفزعوا إلى الحق وليلتزموا قول الحق - ولكنهم لَا يعلمون.
* * *
* * *
ساقوا كلاما كثيرا في تبرئة أنفسهم من ذنب شركهم، وتحريمهم بعض ما أحل الله، وطولبوا بالحجة، فلم يجدوا عندهم ما يستدلون به، وتحداهم رب البرية أن يأتوا بعلم أي علم، وقد بهت أولئك الكفار، بما طلب إليهم أن يأتوا به، وفى هذه الآية الكريمة يبين الله أن عنده الحجة البالغة أي التي تبلغ بصاحبها أقصى الحق والاستدلال، فـ (بالغة)، معناها مبلغة صاحبها أقوى الأدلة، كقول الله تعالى: (... عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ)، أي مرضي بها، أو مرضية، وإن استعمال المشتقات بعضها مكان بعض هو من أبلغ البيان العربي.
وتلك الحجة البالغة هي هذا الخلق والتكوين والإنثاء وتوليد الأحياء بعضها من بعض، فكل هذا يدل على الخالق الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، وليس كمثله شيء وهو السميع العليم، ولوكان معه آلهة كما يقولون لفسدت السماوات والأرض، وهكذا كل ما في الوجود يدل على أنه واحد سبحانه وتعالى، وأنتم معشر العرب تقرون أنه الخالق وحده ليس كمثله شيء، ولكن مع هذه الحجة التي لَا يمتري فيها عاقل، وتقرون بها تشركون معه غيره في العبادة، والألوهية، فضلت عقولكم، ولم ترتبوا على المعلوم نتيجته، بل حكمتكم من بعد ذلك الأوهام، وسيطرت. وتلك مشيئة الله تعالى (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكمْ أَجْمَعِينَ) أي أن الله تعالى شاء لكم الضلالة لأنكم اخترتموها وسرتم في طريقها بإرادتكم المختارة، فوصلتم إلى الضلال.
وهم في قولهم معتذرين مبطلين: (... لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِن شيْءٍ) قد حسبوا أن مشيئة الله تستلزم رضاه، كما فهم بعض الفرق الإسلامية من بعد، ولذا قالوا ما قالوا، والحق أن المشيئة لَا تستلزم الرضا، إنما الأمر هو الذي يستلزم الرضا والنهي يستلزم الغضب، فالهداية هي التي تستلزم الرضا؛ ولذا قال تعالى: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكمْ أَجْمَعِينَ).
أي أن كل شيء في الوجود تحت سلطانه وإرادته، وهو لو أراد أن تكونوا جميعا على هدى لكان ذلك، ولكنتم جميعا في أعمالكم في رضوان الله تعالى.
وإنما أراد أن يكون منكم المهديون الدعاة إلى الحق، المؤمنون به، وأراد منكم من يكون على غير ذلك ليتم الابتلاء والاختبار، وهذا قوله تعالى: (ولَوْ شَاءَ اللَّه لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً). مهتدين كما قال تعالى: (ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ
وكما قال لو شاء لجمعهم على الهدى وكما قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا).
وإننا نؤكد هنا أن الإرادة والمشيئة، لَا يستلزمان رضاه سبحانه، فإذا كان قد شاء ضلالة بعض عباد، فإنه لَا يرضى من عباده الكفر.
ولذا لَا يصح للمشركين، ولا لمن تكلموا في فلسفة أن يربطوا بين المشيئة والرضا، فقد نفَى الله تعالى ذلك نفيا مؤكدا في الكثير من الآيات، وما ربك بظلام للعبيد.
* * *
* * *
الكلام الكريم لَا يزال فيما حرموه على أنفسهم مما أحله لهم وآتاهم من رزق، وقد طالبهم الله تعالى بما عندهم من علم أي علم بأن الله تعالى حرم هذا، فلم يكن علم أوتوه، ولكن أوهام سيطرت عليهم، والآن يطالبهم ليشهدوا أن الله حرم هذا ولذا قال تعالى: (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا).
(هَلُمَّ) اسم فعل أمر بمعنى ادعوا أو هاتوا شهداءكم، أي الذين تعدونهم قدوتكم، والفضلاء فيكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا.
ولكن حال تكذيبهم للنبي - ﷺ -، واتباعهم أهواءهم، وسيطرة الأوهام عليهم قد تغلب عليهم نزعة الصدق، ولذا كان أمر الله تعالى الذي أمره بدعوتهم بأنهم إن شهدوا بالباطل، وليس بمستحيل على من أشرك فقد تدفعه لجاجة الكفر إلى أن يطمس معالم الحق فيكذب، إن شهدوا بغير الحق، (فَلا تَشْهَدْ مَعَهمْ) أي فلا تصدقهم؛ لأن الهوى قد يغلبهم على سجيتهم، ومن يشرك لَا يؤمن كذبه، ولو كان من أهل الصدق، ولذا قال تعالى: (فَإِن شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي فإن غلب عليهم فشهدوا بالباطل كما ذكر، فأنكر عليهم شهادتهم، ولا تشهد معهم، ولا تسايرهم، وهذا معنى قوله تعالى: (فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي فلا تسايرهم في كذبهم الذي ينبعث من الهوى، ولذا قال تعالى من بعد.
(وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).
نهى الله تعالى نبيه الكريم، ونهيه نهي لكل الذين اتبعوه، ويتبعونه إلى يوم الدين، نهاه عن أن يتبع أهواءهم، لأن الهوى ذاته يضل، ولا يهدي، ومن جعل إلهه هواه، فقد ضل سواء السبيل.
ولذلك كان النهي عن اتباع هواهم، وقد ذكر لهم أوصافا ثلاثة مع أنهم أصحاب هوى وليسوا أصحاب عقل:
الوصف الأول أو الحال الأولى من أحوالهم - أنهم كذبوا بآياتنا آي بآيات الله تعالى في الكون الدالة على وحدانيته سبحانه وتعالى، فكذبوا الآيات الدالة على وحدانيته، ومعنى تكذيبهم هذه الآيات أنهم لم يعملوا بمقتضى ما تدل عليه من القدرة القاهرة، والإرادة المختارة، وكذبوا بالآيات الدالة على نبوة محمد - ﷺ -، وكذبوا بالآيات القرآنية، والأحكام التي نزل بها وحي الله تعالى على نبيه الأمين الكريم - ﷺ -.
والمكذب بالحق المعلوم الذي تبهر آياته البينات، لَا يصح أن يتبع لأنه ضال مضل.
الوصف الثاني أو الحال الثانية - أنهم لَا يؤمنون بالآخرة، ومن ينكر الآخرة ينكر حقيقتين لَا ينكرهما مؤمن، ولا يقع في هذا الإنكار إلا مادي لَا يؤمن بالغيب، وهو لب الإيمان.
أولى هاتين الحقيقتين - إنكار البعث، ويقولون: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما نحن بمبعوثين، وهم بذلك يحسبون أن الله سبحانه وتعالى خلقهم عبثا، وأنه تركهم سدى، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ).
الوصف الثالث - وهو الحال الثالثة، وهي نتيجة للأمرين، وهي أنهم بربهم يعدلون، أي يجعلون الأوثان، - وهي حجارة - معادلة للعبادة مع ربهم الذي خلقهم، وكوَّنهم، وربَّهم بربوبيته، أي أنه خلقهم ولم يتركهم، بل قام على تطويرهم من حياة إلى حياة، فهو الحي القيوم القائم على كل شيء الذي يكلؤهم بالليل والنهار سبحانه الواحد القهار.
وتقديم (بِرَبِّهِمْ) على (يَعْدِلُونَ)، لبيان ضلالهم في مساواتهم الله ربهم بالأوثان، وهو تأنيب لهم، وبيان لضلال عقولهم.
* * *
وصايا الله
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا
* * *
هذه وصايا عشر هي وصايا الله تعالى لبناء مجتمع إنساني كامل، يقوم على أساس التعاون الإنساني والمودة ودفع الأذى ووقاية المجتمع من الآفات، ورعاية الضعفاء.
ولقد قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله - ﷺ - التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات
هذا ما قاله ابن مسعود الصحابي الفقيه النافذ ببصيرته في معاني القرآن الكريم، ومستخرج الأحكام من بين ما نص عليه وما ظهر، وما استكن من معانيه العالية.
وفى الحق إن هذه الوصايا الإلهية التي هي وصايا النبي - ﷺ - يقوم عليها بناء المجتمع الإنساني السليم، وبها تحارب الآفات الاجتماعية التي تتردى بها الجماعات في مهاوي التفرق والانحلال. فيها تطهر النفس والعقول من آفات الفكر، وتطهير المجتمع من التقاطع والتنابذ ومنع الاعتداء بأي نوع من أنواعه. وفيها، التعاون على حماية الضعفاء، وفيها إعطاء كل ذي حق حقه، وفيه إقامة العدل في كل ضروبه الذي هو ميزان الحقوق والواجبات، وفيها الوفاء بالعهود الذي هو رباط الجماعات الإنسانية مهما تختلف أجناسها وشعوبها وقبائلها.
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
خاطب الله نبيه - ﷺ - ليبلغ جوهر رسالة ربه بأن يقول بهم: (تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) أي أقبلوا أيها الناس أجمعين في شتى الأرض أجناسا وشعوبا وقبائل، وأقبلوا بعقولكم وأنفسكم أبين لكم ما حرم عليكم، فالنداء بـ (تَعَالَوْا) دعوة لإقبالهم له بكل مداركهم وتفكير وتنبيه لعظم ما سيبينه لهم من وصايا وتكليفات، والتلاوة هي قراءة القرآن الكريم مرتلا متتابعا في كلماته وأساليبه، والمراد هنا البيان لأن البيان؛ ثمرة تلك التلاوة المتتابعة الموضحة، فهذا تعبير بالمسبب عن السبب.
وقوله تعالى: (مَا حَرَّمَ رَبُكُمْ عَلَيْكُمْ)، (ما) اسم موصول بمعنى الذي، أي أبين لكم الذي حرمه الله تعالى عليكم، ويصح أن تكون ما موصولا حرفيا، ويكون المؤدى تعالوا أتلُ تحريم ربكم تعالى عليكم.
وفى التعبير بقوله تعابى: (مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إشارة إلى أن ذلك من ربكم الذي خلقكم وربَّكمْ، وهذبكم، وهو العالم بالأمور كلها، وهو المحيط بما فيه خيركم، و (حرَّمَ)، إنما هو في الأمور الخمسة الأولى التي آخرها، (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)، فإن هذه الخمسة محرمات ننتهي عنها وإذا شئنا الإحسان إلى الوالدين، أما الباقي فأكثره مأمورات من الوفاء بالكيل والميزان، وألا يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، فهو في معنى الأمر في معاملة اليتيم بالتي هي أحسن في ماله، ثم إقامة العدل والوفاء بالعهد فهذه أوامر لَا محرمات.
هذه الأوامر المذكورة في الآيات نهيا أو طلبا هي تسعة إن جعلنا الوفاء بالكيل والميزان أمرا واحدا، وإن جعلناها أمرين تكون عشرة كاملة.
فالواحدانية لب الإيمان، والله تعالى يجعل كل السيئات قابلة للغفران إلا الشرك، ولذا يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْركَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ).
وإن الوحدانية فيها تطهير للعقول من رجس الأوثان، والإذعان للإنسان والأوثان، وهي تربي العزة في المرء، فلا يخضع إلا للواحد الأحد، الفرد الصمد، وذلك من يعبد غير الله، ومن يخضع لغيره، وأنه إذا كانت الوحدانية برا بالخالق، فإن الإحسان إلى الوالدين برٌّ بمن جعلهم الله سببا ماديا في وجود الولد ولذا قال تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
هذا هو الأمر الثاني وهو الوصية بالوالدين، والوصية بهما هي الإحسان إليهما، والإحسان مرتبة أعلى من العدل، إذ هو فوق العدل في الرحمة والرأفة، فهو عدل ورأفة ووفاء وبر، ولذلك كان الأمر بالإحسان بجوار الأمر بالعدل، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠).
وقال تعالى: (وقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). وإن الأمر بالإحسان يتضمن النهي عن الإساءة، إذ هو نهي عن الإساءة، وأمر بفضل العاطفة والمواساة والقرب، وإحسان الصحبة.
وإن الله تعالى أمر بالإحسان إلى الوالدين مقترِنا بالنهي عن الشرك في كثير من الآيات الكريمة، فقال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ
والإحسان إلى الوالدين شريعة النبيين أجمعين قد كلفها بني إسرائيل، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
فمن يعق الوالدين فهو فاسق عن أمر الله ونهيه. (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) هذه هي الوصية الثالثة،
وقد نزل سبحانه من إكرام الأصول والإحسان إليهم إلى الإحسان إلى الأولاد،
ولم يذكر سبحانه الإحسان إلى الأولاد لأنه أمر فطري تتقاضاه المحافظة على النفس، فالولد امتداد أبيه وما جاء القرآن بالأمر بالإحسان إلى الأولاد، ولكن أمر الإسلام بالقيام على تربيتهم ورعاية شئونهم ورزق أمهاتهم، كما قال تعالى:
(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ)،
ولكن كان في وحشية الجاهلية من يئد بناته بغيا بغير علم، وكان من يفعل ذلك وغيره لإملاقهم، والإملاق الفقر من كثرة الإنفاق، وقد نهى سبحانه وتعالى عنه، فقال: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكم مِّنْ إِمْلاقٍ) أي من فقر بسبب الإنفاق عليهم، وهو متلاق في المعنى مع قوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكمْ...)، فكأنه كان في الجاهلية من يقتل أولاده لإملاق واقع بسبب الإنفاق، ومن يقتل ولده لأنه يتوقع الإملاق إن لم يقتله.
وقد نهى الله تعالى عن ذلك الإثم الجاهلي، وهو من إغواء الشياطين، ولعله كان يسهل على الذين يفعلونه معهم، أنهم يفعلون ذلك، وهم بعد في المهد، أو عقب ولادتهم، فلم يكونوا تعلقوا بهم تعلق الآباء بالأولاد، وكانوا يفعلون ذلك سفها بغير علم، ولم يكونوا قد ذاقوا محبتهم؛ بالإلف، والتودد،
وقد فهم بعض العلماء من هذه الآية أن منع النسل لَا يجوز بعزل أو نحوه، والعزل أن يلقي النطفة خارج الرحم، ولكن رويت آثار عن النبي - ﷺ - أنه رأى العزل، ولم يأمر به ولم ينه عنه (١)، ولكن جاء آخر الحديث في هذا الباب، أن النبي - ﷺ - قال: " العزل هو الوأد الخفي " (٢).
وروي عن الصحابة أنه رأى أن العزل ليس به من بأس، ولكنه خلاف الأولى، ورأى آخر منعه، والفقهاء بعد ذلك اختلفوا فيه، فمنهم من قال إنه مكروه، ومنهم من قال إنه حرام كالحنابلة وأهل الظاهر، والغزالي قال إنه لَا يجوز إلا إذا كان ثمة عذر إليه، وفتح باب الأعذار على مصراعيه حتى لخشيت المرأة على جمالها، فإن زوجها يعزل عنها، ولكنه منع منعا مطلقا العزل أو حد النسل خوف الإملاق أو للإملاق، فإن ذلك يكون مصادمة للنص، ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق، والقول الفصل في الحد من النسل المترتب على العزل ونحوه، أن جمهور الفقهاء لم يرضه، حتى إن الغزالي الذي فتح باب المبررات له، قال: إنه لا ينبغي.
ومهما يكن فإنه من المؤكد أن الذين قالوا ليس به من بأس قرروا أن ذلك بالجزء لَا بالكل، أي أنه يكون لمن يريد ذلك أن يفعل، إذا كان له مبرر، على التوسعة في المبرر عند الغزالي. ولكنه حرام بالكل، أي حرام أن يدعو أحد إليه،
________
(١) من ذلك ما جاء في باب العزل من صحيح البخاري ومسلم، ففي صحيح مسلم: النكاح - حكم العزل (١٤٣٨) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: ذُكِرَ الْعَزْلُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " وَلِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ؟ - وَلَمْ يَقُلْ: فَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ - فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إِلَّا اللهُ خَالِقُهَا ".
(٢) سبق تخريجه.
وقد قرر مجمع البحوث الإسلامية المنعقد في الأزهر سنة ١٩٦٥ أن الإسلام يرغِّب في النسل؛ لأنه يقوي الأمة اجتماعيا، واقتصاديا، وحربيا، ويربي في الأمة روح العزة والمنعة، وقرر أن تنظيم النسل حق للزوجين دون غيرهما، يستعملانه للضرورة، ومسئوليتهما عن الضرورة أمام الله وحده.
(وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)
هذه هي الوصية الرابعة، وهي تتصل بالأولاد عن قرب أو عن بعد؛ لأن أخصِ الفواحش هو الزنى وقد قال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا).
والفواحش: جمع فاحشة، والأصل في الفحش الزيادة عن الأمر المعتدل، والفاحش هو الزائد عن المعقول، ولذا يقال غبن فاحش أي زائد عن الحد المعقول في الصفقة؛ إذ لَا يدخل في تقويم المقومين، والفواحش هي المعاصي لأنها انحراف، وزيادة عن الفطرة وخروج عن منهاجها، وعن الطريق المستقيم، والظاهر ما يعلن، ويجهر به، والجهر بالمعصية في ذاته حرام، وما بطن أي وما استتر ولم يجهر به، وهو إثم، ولكنه دون إثم المجاهرة، ومن يجهر بالمعاصي، فإن ما يفعله إثمان إثم الفعل وإثم المجاهرة، ولقد قال النبي - ﷺ -: " إن من أشد الناس بعدا عن الله المجاهرين " قيل: ومن هم؟ قال: " ذلك الذي يعمل عملا بالليل قد ستره الله فيصبح يقول فعلت كذا وكذا يكشف ستر الله " (٢)، ولقد قال - ﷺ - فيما رواه
________
(١) رواه أبو داود: النكاح - النهي عن تزويج من لم يلد من النساء (٢٠٥٠)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (١٢٢٠٢). عن أنس رضيِ الله عنه.
(٢) عن أبي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ". متفق عليه: رواه البخاري: الأدب - ستر المسلم على نفسه (٦٠٦٩)، وَمسلمَ: الزهد والرقائق - النهي عن هتك المسلم ستر نفسه (٢٩٩٠).
ومن المعاصي ما يستتر استتارا؛ لأنه خلجات القلوب ولم يظهر في العمل لَا لعدول صاحبها، ولكنه فوجئ ما فوت عليه مقصده كمن بيت الاعتداء، أو الزنى، واتجه إلى الفعل، ولكن فات عليه ارتكابها لأمر خارج عن إرادته، فإنه يكون قد أبْطن معصيته، ولكن لم يُمكَّن من ارتكابها رغما عنه لَا مريدا، فإن من الآثام ما يكون باطنا، وعليه الإثم، وكمن يهاجر إلى مكان لَا يريد الهجرة لله أو لعمل صالح، ولكن يريد الفسق والفجور أو البغي، فإن هذا يكون فاحشة مما بطن. وهذا النص مثل قوله تعالى: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ...).
وقد يسأل سائل، إن هذا النص القرآني وما يشبهه فيه نص على المؤاخذة على ما في النفس وما يبطن، مع أن الحديث بأن الله تعالى لَا يؤاخذ على ما يحدث المرء به نفسه، وقال عليه الصلاة والسلام: " من هم بحسنة فلم يفعلها كتبت له حسنة، ومن همَّ بسيئة فلم يفعلها لم يكتب عليه شيء " (٢)، فإن هذا حديث النفس أو همُّها، من غير أن تشرع بعمل، بل عدل من تلقاء نفسه.
وما في النص السامي الذي نتكلم في معناه هو من ارتكب الشروع، ولم يقتصر على حديث النفس ولا هم النفس والعدول، بل أراد الفعل وقصده، وأخذ في الأسباب، ولكن لم يتم لأمر خارج عن إرادته.
________
(١) رواه مالك في الموطأ: الحدود - ما جاء فيمن اعمْرف على نفسه بالزنا (١٥٦٢).
(٢) رواه الإمام البخاري: الرقاق - من هم بحسنة أوسيئة (٦٤٩١)، وفي رواية: التوحيد (٧٥٠١).
كما رواه مسلم: الإيمان - إذا هم العبد بحسنة (١٢٨) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وعلى هذا فإن من هم بسيئة فلم يفعلها - ابتغاء مرضاة الله تعالى - كتبت له حسنة. والله أكبر.
هذه هي الوصية الخامسة التي أوصى بها رب العالمين، وهي النهي عن قتل النفس التي حرم الله تعالى قتلها إلا بالحق، ويكون القتل بحق أي بسبب يوجب القتل.
وهذا النص يفيد تحريم قتل النفس أساسا، فهي على أصل المنع إلا أن يكون ثمة موجب لذلك، فإن ذلك يكون بحق لحماية النفوس العامة، وقد قال - تعالى - في قتل قابيل أخاه هابيل حسدا وبغيا: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
فالقتل حرام، إلا إذا كان ما يبرره فيكون بحق، ومن الحق الذي يوجب القتل، ويحل النفس، أن يقتل غيره أو أن يبغي، أو أن يحارب الله ورسوله وهم قطاع الطريق أو أهل الحرابة كما قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤).
وهكذا نجد الحق الذي يبرر قتل النفس يكون لحماية النفس ذاتها، أو يكون صاحبها قد أباحها.
وإن النهي عن قتل النفس عام إلا إذا وجد ما يبرره، لأن الله تعالى حرم قتلها، فقوله تعالى (الَّتي حَرَّمَ) قتلها فيه الصلة، وهي علة النهي، فقتلها منهى عنه، لأن الله تعالى حرمها، ولذا إذا أباح صاحبها نفسه بردة، أو محاربة للمسلمين، فإن الله تعالى لم يحرم قتلها، فلا نهي، لأنه مباح الدم.
وبذلك يتبين أن الله تعالى نهى عن قتل الذمي المعاهد، ومن دخل أرض المسلمين مستأمنا، لأن عهده عصم دمه، والله أعلم.
(ذَلِكُمْ) الإشارة إلى المذكور من النهي عن الشرك والأمر بالإحسان إلى الوالدين، والنهي عن قرب الفواحش وهو نهي عن المقاربة لَا عن الوقوع؛ لأنه نهي عن أن يدنو منها، فمن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيها، والنهي عن القرب يدل على النهي عن الوقوع، والإشارة تشمل النهي عن قتل النفس، فهذا كله من وصايا الله سبحانه وتعالى، ووصايا الله تعالى جديرة بالاتباع، وجعل الخطاب في الإشارة بـ (ميم الجمع) لعموم التوصية بهذه الأمور التي أشار إليها، وليتسق القول مع (وَصَّاكُم بِهِ)، وقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لكي ترجوا دائما أن تكونوا متذكرين. وقوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرونَ) لعل فيه للرجاء والرجاء من العباد لَا من الله تعالى.
والتوصية هي الطلب المؤكد من العباد.
* * *
* * *
نهى الله تعالى أن يقربوا مال اليتيم أو يأخذوه، وكان التعبير بالقرب، ويكون بالأولى النهي عن أكله لأنه إذا كان النهي عن القرب إلا بالخصلة أو بالطريقة التي هي أحسن لإنمائه وحفظه وصيانته، ومنها الاتجار فيه إذا كان الوصي عليه أمينا قادرا ماهرا لقوله عليه الصلاة والسلام: " اتجروا في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة " (١)، كان أولى بالنهي أكله.
واليتيم هو الذي مات أبوه، والخصلة التي هي أحسن قال فيها بعض المفسرين، إنه المحافظة على أصوله وتثمير فروعه، ولو عَبَّر فقال المحافظة على الأموال الثابتة كالأرضين والدور والأغراس، وتثمير المنقول بكل طرق التثمير بالأمانة، ولا يأكلها، فإن التعبير يكون أوضح.
________
(١) سبق تخريجه.
وإن مال اليتيم هو جزء من مال الأمة؛ إن حوفظ عليه كان محافظة على جزء من ثروتها.
وإن المال أمانة في يد وصيه، وفي رعاية الأمة مجتمعة ممثلة في قاضيها، حتى يبلغ أشده، أي يبلغ السن التي يقدر فيها على المحافظة على ماله، والقيام على شئونه في خاصة نفسه، وفي معاملته، والأشُد قيل جمع شَدّ، ككلب وأكلب، وقيل اسم لَا مفرد له، والمراد ما ذكرنا وهو بلوغه حد القدرة على إدارة شئون ماله، وأدناه بلوغ النكاح بأن يكون قد بلغ السن التي يمكن أن يتزوج، وأن يبلغ رشدا، أو يؤنس منه الرشد، بعد بلوغه سن النكاح، قال تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (٦).
وقد شدد الله تعالى في الوصية باليتامى في أموالهم وأشخاصهم لأنهم ضعاف، ولشدة الوصايا بالأيتام كان المؤمنون يخشون على أنفسهم أن يخالطوا اليتامى فيظلموهم أو يأكلوا مالهم فأمرهم الله تعالى أن يكون برهم بالمحافظة على أموالهم، ومخالطتهم؛ لأن المخالطة تقر بها نفوسهم، ويأنسون بها، فلا ينفرون من مجتمعهم، ولذا قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ).
وإن رعاية نفس اليتيم تجعله قريبا بنفسه إلى الناس، ولا ينشأ نافرا منهم؛ لأنه لَا يجد الحماية والرعاية، وينشأ عدوا للجماعة التي يعيش فيها، ولذا قال
هذا إصلاح في الأسرة وهو إكرام اليتيم، وأوصى سبحانه وتعالى بالأمانة في الجماعة، فهي رباط المودة فقال تعالت كلماته:
(وَأَوْفوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّف نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)
هذان هما الأمران السابع والثامن اللذان أوصى الله تعالى بهما في ضمن عشر الوصايا، وهما الوفاء بالكيل في المكيلات، والوفاء بالوزن في الموزون بالقسط من غير بخس ولا شطط، ولا زيادة ولا نقص، بل للناس من وفاء الكيل بمقدار ما تطلب، وتعطيهم من الوزن بمقدار ما تطلب لو كنت طالب الكيل والميزان، وذلك على حسب الطاقة في تحري الحق في مكيل غير منقوص، وموزون غير مبخوس؛ ولذا قال تعالى: (لا نُكَلِّف نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) وإن الله تعالى إذ يطالب بالوفاء في الكيل والميزان يذم المطففين لهما، فقد قال تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣).
وكان الأمر بالوفاء؛ لأنه المطلوب، فالزيادة غير مطلوبة إلا من أهل السماحة، والنقص محرم ممنوع.
وإن الوفاء في الكيل والميزان يرمز إلى حسن التعامل في الأمة، ومنع أكل أموال الناس بالباطل الذي يضعفها ويقتلها.
ولذا عقب الله تعالى النهي عن أكل أموال الناس بالباطل بالنهي عن قتل أنفسهم أي تفريق النفوس في جماعتهم، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٢٩).
________
(١) رواه بنحوه ابن ماجه: الأدب - حق اليتيم (٣٦٧٩).
هذا وإن العدل في الأمة ميزانها، ولذا قال تعالى:
(وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى).
أمر الله تعالى بالعدل في القول، وأن لَا نقول إلا عدلا، ولذا قال: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) والعدل في القول تحري الحق فيه، فلا ينطق بأمر لَا يكون حقا.
والعدل في القول يشمل الحكم بين المتخاصمين، كما قال تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ). وتشمل الفصل في الخلافات بين الناس، فلا يقول إلا الحق، لأن الحق يحسم النزاع ويقطع دابر الخلاف، ويشمل القول في الشهادة، فلا ينطق إلا بما رأى وعاين، فإن الشهادة حكم أو هي طريق الحكم ودليله، وإذا قلت في مباراة فكن عادلا، وإذا قلت في امتحان فكن عادلاً؛ لأن الامتحان تقدير كفاية فهي حكم.
والعدل ميزان الحق في معاملات الناس وأحوالهم، والإسلام دين العدل، وإذا كان لكل دين سمة فسمة الإسلام هي العدل، ولذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠).
ولذا كان العدل رابطة الجماعة وميزانها، وقال تعالى: (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) أي ولو كان الذي يقوم عليه العدل في القول في حكم أو شهادة، أو فصل في
________
(١) الرواية موقوفة على ابن عباس في موطأ مالك: الجهاد - ما جاء في الغلول (٩٩٨). وختر العهد: نقضه.
وإذ كان العدل ميزان الترابط بين الجماعات في الأمة، فالوفاء بالعهد ميزان العدالة في الأمم، ولذا قال تعالى:
(وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفوا).
هذه هي الوصية العاشرة من وصايا الله تعالى وهي تطلب من الناس أجمعين الوفاء بالعهد، وقوله تعالى: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا) قدم فيه (بِعَهْدِ اللَّهِ) لأهمية الوفاء بعهد الله، ولمعنى الاختصاص، أي احرصوا على الوفاء بعهد الله دون غيره.
وعهد الله تعالى الذي يتجه إليه، ما عهده إلى بني آدم من فطرة مستقيمة أنشأهم عليها، كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى). وإن تكليفات الله تعالى عهود عليهم.
والعهود بين العباد عهود الله تعالى عليهم؛ لأنهم عادة يوثقونها بأيمانهم، وقد قرر سبحانه وتعالى ذلك، وقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢).
فهذه الآية تحث على الوفاء بما يكون من العهود بين الآحاد والجماعات، وهي تدل على ثلاثة أمور:
أولها - أن من وثق عهده بالله فقد جعل الله تعالى كفيلا بالوفاء، والخيانة أو خفر العهد خيانة لله تعالى.
ثالثها - أنه لَا يصح أن تكون الرغبة في زيادة الأرض والسلطان سببا لخيانة العهد؛ لأن ذلك ظلم وطغيان، وفقد لقوة أكبر وأعز من النكث في العهد والخيانة وصدق ما قاله ابن عباس فيما نقلنا (ما خفر قوم في العهد إلا سلط الله تعالى عليهم عدوهم).
هذه وصايا الله سبحانه وتعالى، ويلاحظ أنه لم يذكر في هذه الوصايا الصلاة والزكاة والصوم والحج، وهي من أركان الإسلام، والصلاة عمود بهل دين، وكما قال النبي - ﷺ -: " لا دين من غير صلاة " (١) لأنها لب العبادة. ولماذا لم تذكر الصلاة في هذه الوصايا، مع أنها لَا تقل طلبا في الإسلام عما ذكر من الوصايا العشر؛ ونجيب عن ذلك بثلاثة أمور.
أولها - أن المطالبة بها ذكرت إجمالا في قوله تعالى: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفوا) وقد ذكرنا أن أول عهود الله تعالى تكليفاته التي كلفها عباده.
ثانيها - أن هذه الوصايا مجمع عليها في الأديان، وهي الأساس النفسي والعملي لتكوين الجماعات الفاضلة، وقد جاءت بها الأديان كلها، ورضيتها الشرائع الوضعية المستقيمة.
ثالثها - وهي أهمها، أن هذه الآية مكية، ولم تكن الصلاة ولا الصوم ولا الحج قد فرض، والزكاة لم تكن قد نظمت كما ذكرنا آنفا.
________
(١) رواه أبو داود: الخراج والإمارة - ما جاء في خبر الطائف (٣٠٢٦)، وأحمد: مسند الشاميين - حديث عثمان بن أبي العاص (١٧٤٥٤)، بلفظ: " لا خير في دين لَا ركوع فيه " أي لَا صلاة فيه.
* * *
* * *
(الواو) واو العطف، فهي عاطفة هذه الآية على ما قبلها من الوصايا، و (أنَّ) مفتوحة، فهي ليست صدر جملة مبتدأة، بل مصدر منسبك مع ما بعدها، وعاملها (اتل)، واتل عليهم، وبين لهم أن هذا صراطي مستقيما لَا عوج فيه، والصراط: الطريق، فطريق الله تعالى مستقيم، والمستقيم أقرب طريق يوصل إلى الحق، كما أن الخط المستقيم أقرب خط بين نقطتين.
والإشارة إلى ما يبينه الله تعالى من ضلال الذين يحرمون ما أحل الله، وبيان ما أحل وما حرم وبيان ضلال من قتلوا أولادهم سفها بغير علم، وما بينه الله تعالى من نهي عن الشرك، وطلب الإحسان إلى الوالدين، والنهي عن قتل الأولاد من إملاق، والنهي عن القرب من الفواحش والنهي عن قتل النفس التي حرم الله قتلها، والأمر بالإحسان إلى اليتيم ووفاء الكيل والميزان، والعدل في القول والوفاء بعهد الله.
كل هذه المعاني، أو جماعها هو طريق الله تعالى وهو طريق مستقيم، وقوله تعالى (مُسْتَقِيمًا) حال من اسم الإشارة.
والطريق المستقيم الذي هو صراط الله، والذي هو الخط الذي بينه الله تعالى لعباده يجيء بجواره سبل مختلفة هي مثارات الشيطان يضل بها عباد الله تعالى عن الطريقة المثلى، والمنهاج السوي الهادي.
ولقد روى ابن مسعود قال: خَطَّ رسول الله - ﷺ - خطًّا بيده، ثم قال - ﷺ -: " هذا سبيل مستقيم " وخط عن يمينه، وعن شماله ثم قال: " هذه السبل ليس
ومعنى قوله تعالى (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) أن هذه السبل التي هي مثارات الشيطان فيها أمران يخرجان بهما عن سبيل الله.
أولهما - أنها آثام لَا استقامة فيها بل هي معوجات مضلة. وثانيها - أنها مع ما فيها من إثم تبعد عن الحق وتتفرق في باطلها، فهي لَا تلتقي مع الخط المستقيم، وتتفرق بعضها عن بعض.
جاء في سنن ابن ماجه بسنده عن العِرْباض بن سارية قال: " وعظنا رسول الله - ﷺ - موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقلنا يا رسول الله إن هذه موعظة موح فما تعهد إلينا، فقال: تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك من يعش منكم فسيرَى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي. عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة، وعليكم بالطاعة وإن كان عبدا حبشيا، وإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد " (٢).
اللهم إن اتباع السبل المتفرقة التي هي مثارات الشيطان، والتي على كل رأس منها شيطان هي التي فرقت أمتك وجعلت بأسها بينها شديدا، اللهم فاهدها إلى صراطك المستقيم.
وإن هذا الصراط هو جماع التوصيات، ولذا قال الله تعالى:
(ذَلِكُمْ وَصَّاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ويصح أن نعد هذه الوصية العاشرة، وتكون الوفاء بالكيل والميزان وصية واحدة، وهو أولى والإشارة إلى الصراط المستقيم
________
(١) رواه أحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (٤١٣١)، والدارمي: المقدمة - في كراهية الرأي (٢٠٢).
(٢) رواه ابن ماجه: المقدمة - اتباع سنة الخلفاء الراشدين (٤٤)، وأحمد: مسند الشاميين (١٦٦٩٢) من حديث الْعِرباض بن سَاريَةَ رضي الله عنه.
* * *
الرسالة المحمدية حجة على المشركين
(ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)
* * *
(ثُمَّ) هنا عاطفة على الصراط المستقيم، وما سبقه من وصايا، وفهم من التعبير بـ (ثم) هنا أنها لمجرد العطف على التراخي من غير ترتيب؛ لأن ما يتعلق بموسى عليه السلام سابق على شريعة محمد - ﷺ - قال الحافظ ابن كثير ذلك، وقال إنه ترقّ في الخبر من الحاضر إلى الماضي، واستشهد بقول الشاعر:
قلن لمن ساد ثم ساد أبوه | ثم من قبل ذاك قد ساد جدهْ |
ويكون معنى قوله تعالى: (ثم آتَيْنَا موسَى الْكِتَابَ) إننا وصينا بالصراط المستقيم الذي هو صراط الله تعالى، وهوالقرآن الكريم، ثم من قبل ذلك آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا.... أي أن هذه الوصايا العشر، قد آتيناها من قبل موسى، كما قال تعالى: (وَكتَبْنَا لَهُ فِى الأَلْوَاح مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْعِظَةً). وكما قال تعالى: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا).
وفى الجملة: إن الله تعالى يقرر بهذا أن الشرائع السماوية في الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر ظاهره وباطنه وأن حديثها في الوحي والتنزيل واحد.
وقال تعالى: (تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ) أي تتميما وتكميلا لنعمة الهداية فلا شيء أتم من الهداية والتوفيق إلى الصراط وبيان الحق، ولأنه الكمال والتمام للخير جعله الله تفصيلا لكل شيء من شئون الهداية والتوجيه، فهو كتاب قد آتاه الله تعالى موسى فيه كمال الخير وبيانه، ووصفه الله سبحانه وتعالى بوصفين كريمين.
أحدهما - أنه هدى فهو يهدي إلى الحق ويرشد الذي أحسن التلقي، وكان قلبه مفتوحا للحق ويدخل إليه، ويصل إليه، ولم ينطمس قلبه وبصيرته، ولم يكن على بصره غشاوة.
وثانيهما - أنه رحمة، ففيه تفصيل الخير، وبيان الوصول إلى الحق في كل مسالك الحياة، والهداية ذاتها رحمة، والشريعة التي جاءت بها التوراة رحمة بمن بعث موسى عليه السلام لهم، وإن هذه الهداية والرحمة، الأخذ بها هو طريق لرجاء الإيمان باليوم الآخر، ولذا قال سبحانه (لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يؤْمِنُونَ).
أي أن الله تعالى آتي موسى هذا الكتاب تتميما وتكميلا للذي أحسن التلقي، وشرح صدره لقبول الحق، وجعله الله تفصيلا للحق وبيانا له، ونورا وهدى ورحمة - كان رجاء أن يؤمنوا بلقاء ربهم، فقوله تعالى: (لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) الرجاء فيها من العبيد لَا من الله تعالى.
وهنا يسأل سائل، لماذا كان الرجاء في الإيمان باليوم الآخر وبلقاء الله تعالى، ولم يذكر سبحانه وتعالى غيره مع أن الإيمان له عناصر غير مجرد الإيمان بلقاء الله تعالى؛ ونقول في الإجابة عن ذلك، إن الإيمان بلقاء الله تعالى هو
وفى قوله تعالى: (لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ) ذكر لقاء الله الذي خلقهم وربَّهُم كناية عما يكون في اليوم الآخر؛ لأن لقاء الله تعالى هو أعظم ما يكون في يوم الدين.
* * *
* * *
الإشارة إلى القرآن لأنه حاضر مهيأ كامل، وهو مبارك لأنه يشمل الخير والحق والفضل، وفيه مصالح الناس في معاشهم، وفيه الشريعة الإنسانية الكاملة ما ترك صغيرة ولا كبيرة من أمر الدين إلا بينها وفصلها تفصيلا، ففيه ما يطهر الروح والجسم، وفيه ما يطهر الجماعة وينميها، وفيه ما يجمع الناس على الود والرحمة، وفيه ما يحقق العدالة والميزان في هذا الوجود، فهو مبارك، وإنه لمستمر لكل من يتلقاه مهتديا بهدى الله تعالى، فهو حبل الله تعالى إلى يومه فهو مبارك في كل نواحيه. وهذا كقوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩٢).
وإذا كان الكتاب له هذه البركة وهذه الهداية فإن اتباعه يكون واجبا ولازما، لمصلحتهم، فإن فيه النفع العميم؛ ولذا قال تعالى: (فَاتَّبِعُوهُ)، (الفاء) تفصح عن شرط مقدر وجوابه الأمر (اتبعوه)، وقوله تعالى: (وفَاتَّبِعُوهُ) كان لرجاء الخير منه، وقوله بعد ذلك: (وَاتَّقُوا) كانت للوقاية من العذاب، فالاتباع لرجاء النفع، والاتقاء لتجنب ما يترتب على المخالفة من عقاب بعد الحساب، فالأمران فيهما ترغيب في الخير بالاتباع، وترهيب باتقاء نار جهنم عند الاختلاف والعاندة، وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
وهنا يجب أن نلاحظ أن القرآن الكريم يذكر دائما شريعة موسى عليه السلام، وذلك لأن موسى أنزل عليه الكتاب وهو التوراة فيه بيان كل شيء وفيه ما كان عقابا لبني إسرائيل، ولذلك عندما سمع نفر من الجن قالوا كما أخبر القرآن الكريم: (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٣١).
وإنه كان من المشركين من يعثذرون عن عبادة الأوثان بأنه لم يجئ إليهم من يهديهم كاليهود والنصارى، فذكر الله سبحانه وتعالى أنه أنزل إليهم الكتاب المبارك لكي يقطع عذر جهلهم، فقال تعالى:
* * *
* * *
المشركون كانوا يعتذرون عن وثنيتهم بكل تعلة سواء أكانت مقبوله أو مرذولة، فهم كانوا يرون اليهود والنصارى لَا يعبدون الحجارة، وإن كان فيهم - خصوصا النصارى - من يقدسون بعض الأحجار كتمثال العذراء. فكانوا يعتذرون عن وثنيتهم بأنه لم يجئ كتاب يهديهم إلى الحق كهاتين الطائفتين.
وقوله تعالى: (أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ) متصل بالآيات التي قبلها، فهي قطع الطريق عن تعلة متعللون، وهو أنهم لَا كتاب يهديهم، فالمعنى وهذا كتاب مبارك خاطبناكم لئلا تقولوا معتذرين، أو فأنزلناه حجة عليكم، حتى لا تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين.
أولهما - أنهم قالوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، والطائفتان هما اليهود والنصارى، والكتاب المذكور هو فيما يظهر التوراة، فهي مصدر عند اليهود والنصارى، كما هو مقرر عند النصارى في هذا الزمان، وقد قرروا قصر هذه الكتب على هاتين الطائفتين، بكلمة (إنما)، أي الإنزال مقصور على هاتين الطائفتين، ولم ينزل علينا، وما كنا لنكلف بكتاب لم ينزل علينا إنما نزل على غيرنا.
ثانيهما - أننا كنا عن دراستهم غافلين غير مهتمين بدراسة ما عندهم، ولا ظالمين ولكن غافلين عنه، ولأننا لَا نعرف لغة الكتاب، ولم يبلغ إلينا.
وقوله تعالى: (وَإِن كنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ) (إنْ) هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، والمعنى أنه الحال والشأن كنا عن دراستهم غافلين لا نعرفها، ولم ننبه إلى معرفتها.
وقد أكدوا غفلتهم عنها بعدة مؤكدات.
أولها - (إنْ) المخففة فهي للتأكيد. ثانيها - (كنا)، وهي تدلى على استمرار غفلتهم، ثالثها - الجملة الاسمية فهي تؤكد ثبوت الغفلة، رابعها - (اللام).
وكان تسجيل الغفلة عليهم وتأكيدها، لتأكيد عذرهم.
وقد بين الله تعالى أنه قطع عليهم عذرهم بإنزال القرآن الكريم فلا حجة لجهلهم من بعد بيانه، وإنه المبارك والنور، وفيه الهداية، وفيه الشريعة الكاملة.
* * *
* * *
(أو) عاطفة على (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين...) فإنزال الكتاب الكريم لكيلا يقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين، أو يقولوا لو أنا أنزل
وإن المشركين قرروا ذلك كما حكى عنهم القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ ليَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ).
أكدوا أنهم لو أنزل عليهم الكتاب لكانوا أهدى منهم فقالوا (لو أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم)، الكتاب المراد الذي أنزل على الطائفتين من قبلهم، ولكنه لم ينزل غلينا، فلهم الهداية دوننا، و (لو) هنا حرف امتناع لامتناع، أي امتنع علينا أن نكون مئلهم لأنه لم ينزل علينا مثلهم.
أنزل الله تعالى الشرطية الأولى، وهي أنهم لم ينزل عليهم، فقال تعالى: (فَقَدْ جَاءَكم بَيِّنَةٌ من رَّبكمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ).
وعبر عن الكتاب الكريم بقوله (بينة) إذ المعنى فقد جاءكم كتاب هو بينة، وعبر بهذا التعبير للإشارة إلى أنه بين في ذاته، وهي بينة فيها ما يدل على صدق النبي - ﷺ - والدلالة على النزول من عند الله تعالى، فهو كتاب بيِّن يحمل في نفسه دليل صدقه؛ لأنه حجة يتحدى بها، وقد تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا عجزا مبينا.
و (الفاء) في قوله تعالى: (فَقَدْ جَاءَكُم) للإفصاح عن شرط مقدر مضمونه في كلامهم، أي فإذا كنتم تطلبون أن ينزل عليكم كتاب، فقد جاءكم.
وقد وصف سبحانه الكتاب بأربعة أوصاف.
أولها - أنه (بَيِّنَةٌ)، أي هو بين في ذاته، وفيما دل عليه من شرائع بينها وفصلها، وأحكم بيانها.
وثالثها - أنه فيه الهداية إلى الصراط المستقيم وإصلاح نفوسكم، وهداية جمعكم.
ورابعها - أن فيه الرحمة بكم؛ لأن فيه الشريعة المحكمة وهي رحمة للعالمين، ولأنه هو نبي الرحمة، قد جاءكم القرآن بما تطلبون أو بما تتمنون، أو بما يكون فيه ادعاؤكم، فهل آمنتم؛ كلا، لم يؤمنوا، وكان كلامهم غرورا أو تغريرا، وهو ضلال في كل أحواله، بل كذبوا بآيات الله، وانصرفوا عنها، ودعوا الناس للانصراف عنها، فضلوا وأضلوا وأشاعوا فساد الفكر والاعتقاد بين الناس، وهم بهذا أشد الظالمين، ولذا قال تعالى:
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا) إنهم بعد أن جاءتهم الرسالة مع الكتاب الذي ادعوا أنه لو أنزل عليهم الكتاب لكانوا أهدى الأمم أي أكثرها هدًى، فلما جاءتهم كذبوا بها، وكذبوا بآيات الله التي أقامها عليهم في التصديق برسالة النبي - ﷺ -، كذبوا بالآيات الكونية الدالة على وحدانية الخالق فكذبوا بدلالتها على هذه الوحدانية، وكذبوا بآيات القرآن فلم يصدقوه، وهو آية كبرى، فكانوا ظالمين أشد الظلم، ولذا قال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا) (الفاء) للإفصاح عن شرط مقدر، أي أنهم إذا كانوا قد كذبوا الرسول الذي جاء ببينة من عند ربهم فقد ظلموا، والاستفهام هنا لإنكار الوقوع، أي النفي مع التوبيخ أي لَا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله تعالى، وصدف عنها فقد ارتكب ظلمين فاحشين:
أولهما - أنه كذب بآيات الله تعالى الدالة على كمال ربوبيته ووحدانيته وعاند الله تعالى في رسالة نبيه وتكذيبه له، وإن ذلك ظلم وكفر، وضلال.
ثانيهما - أنه صدف عنها، أي أعرض عنها إعراضا شديدا، فانصرف عنها، وعمل على أن يصرف غيره عنها، فالصدف الانصراف عنها، وصرف الناس عنها
(سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كانُوا يَصْدِفُونَ).
(السين) هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل، وعبر بالسين الدالة على قرب الوقوع المؤكد؛ للدلالة على قرب الوقوع، وتأكده، وكل آت قريب ما دام مؤكد الوقوع.
وأسند سبحانه الجزاء إلى ذاته العلية، لتأكد وقوعه، فإن الله لَا يخلف الميعاد عذابًا أو ثوابًا.
وعبر سبحانه وتعالى عن الظالمين بالاسم الوصول، وهو إشعار بأن الصلة هي السبب في هذا الجزاء الشديد الذي وصفه سبحانه بأسوأ العذاب، أي عذاب وقعه يسوءهم، ويؤلمهم وهو في ذاته سوء لَا يكون إلا لمن تكون عاقبته السوءى، ولمن كان يفعل ما يسوءا، ويكفر بالله تعالى، وذكر سبحانه السبب في هذا العذاب الذي هو سوء في ذاته، فقال: (بِمَا كانُوا يَصْدِفُونَ) أي بسبب استمرارهم على الصدف بإعراضهم، وحمل الناس على أن يعرضوا عن سبيل الله سبحانه وتعالى.
وهكذا نرى المشركين في ضلال مستمر، فهم يضلون في أقوالهم وأفعالهم، وشركهم، وقانا الله شر مآلهم.
* * *
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا
* * *
أتى الله تعالى بالبينات فكذبوها، وأرسل عليهم الرسل بمعجزات قاهرة فلم يصدقوها، وأرسل إليهم محمدا خاتم النبيين فكذبوه، فلم يبق إلا أن ينتظروا العذاب، وما يسبقه، والقيامة وما يتبعها من حساب وعقاب. منهم قد يئس الحق من أن يدركوه، ولذا قال تعالى:
أكثر المفسرين على أن ذلك عندما يحين حين هذه الدنيا، والاستفهام إنكاري توبيخي، لَا ينتظرون بعد هذا التكذيب إلا أن تأتيهم الملائكة تقبض أرواحهم، أو يأتيهم ربك أي أمر ربك، فهي من قبيل حذف المضاف والاكتفاء بذكر الله تعالى، وأمر الله شديد لَا قبل لكم باحتماله، إذ يتغير الكون، وينفخ في الصور (أَوْ يَأتِيَ بَعْضُ آيَاتِ)، من تغيير كل شيء في الكون إذ تقوم القيامة.
(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ)، ولم ينفعها خير لم تكن قد قدمته من قبل، وهذا قوله تعالى: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا).
(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ)، وهي ما يجيء يوم القيامة، وقد فسر النبي - ﷺ - بعض هذه الآيات، فقد روى أنه - ﷺ - قال: " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات، طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، ويأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، وخروج الدجال، وثلاثة خسوف، خسف بالمشرق وخسف
وإذا كان ذلك اليوم المشهود يكون انتهى العمل وبقي الجزاء، تكون الدنيا قد انتهت وابتدأت الآخرة، فلا ينفع إيمان لأنه قد جاء بعد إبانة، وفات أوانه، فلا ينفع نفسا إيمانها؛ إن آمنت، إذ الإيمان يكون والنفس في فسحة من مجيء هذا اليوم، أو إذا كانت كسبت خيرا في إيمانها لَا ينفع في ذلك اليوم، فهو ليس يوم الكسب بل هو يوم أزاء فلا إيمان يجدي، ولا ينفع كسب كسبه في إيمان في ذلك اليوم لأنه إذا كان الإيمان لَا يجدي، فما يكتسبه فيه لَا يجدي، (أو) في معنى الواو هنا، ولكن عبر بها لتنويع عدم النفع، إذ لَا ينفع إيمان، ولا ينفع كسب مع إيمان، إذ إن هذا هو يوم الجزاء.
هذا تفسير المفسرين، وقد خطر خاطر أذكره غير جازم به، ولكني أذكره على أنه احتمال وذلك أن قوله تعالى: (يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأتِي رَبُّكَ أَوْيَأتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) أنهم لم تجئهم بينات النبي - ﷺ - وقد طلبوا أن تنزل عليهم الملائكة، ولو جعله الله ملكا لجعله رجلا، وللبسنا عليهم ما يلبسون، وطلبوا أن يروا الله كما طلب بنو إسرائيل أن يروا ربهم، وقالوا أرنا الله جهرة.
وطلبوا هم بعض آيات كونية، ومن ذلك ما حكى القرآن الكريم عنهم، إذ يقول تعالى: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (٩٣) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (٩٤) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (٩٥).
________
(١) كما رواه مسلم: الفتن وأشراط الساعة - في الآيات التي تكون قبل الساعة (٢٩٠١).
قل يا محمد يا خير الخلق: ، انتظروا بعض آيات ربك التي تستقبلكم، فيكون الحساب والعقاب، وإنا منتظرون لنلقاكم فيكون الجزاء بعد الحساب وحينئذ ينزل العقاب بكم على كفركم، وينال المؤمنون الثواب لإيمانهم والله بكل شيء محيط، وإن ذلك جزاء المشركين. ومثل المشركين، الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعا وأحزابا في دينهم من غير المشركين ولذا قال تعالى:
* * *
* * *
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى المشركين وأحوالهم، وكفرهم بالآيات البينات أخذ يبين سبحانه وتعالى غير مشركي العرب من يهود ونصارى وصابئة، وقد تفرقوا فرقا مختلفة، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذينَ فَرَّقوا دينَهُمْ وَكانُوا شيَعًا لَّسْتَ منْهُمْ فِى شَىء).
وقراءة حفص بتشديد الراء (١)، وهناك قراءة بالمد (فارقوا دينهم) وتكتب في المصحف من غير ألف كشأن كثير من حروف المد في القرآن كالسماوات، ولقد قال على كرم الله وجهه: فَرَّقُوا حتى فارقوا.
وإن موضوع الآية الكريمة أهل الكتاب، فقد تفرقوا في دينهم فرقا مختلفة قبل الإسلام فكان في اليهود الأريسيون والصدوقيون، ومنهم من لَا يؤمن بالآخرة، وكان منهم الربانيون والقرارون، وكل فرع بما عنده يشايع فرعه، ويعادي
________
(١) (فَرَّقُوا) هي قراءة العشرة غير حمزة والكسائي، وأبي غالب عن الأعشى عن أبي بكر عن عاصم. فقراءتهم: (فارقوا). غاية الاختصار (٨٨٢).
والنصارى اختلفوا قبل الإسلام فيما بينهم فكان منهم الكاثوليك الذين يسمون في التاريخ العربي الملكانية، والأرثوذكس الذين كانوا على فرق مختلفة، ومن بعد الأرثوذكس الأقباط، وكانوا يسمون في التاريخ العربي اليعقوبيين وأرثوذكس اليونان والرومان، وغيرهم.
وكان منهم قبل الإسلام النسطوريون، وهكذا اختلفوا على غير جامع من الحقائق يجمعهم، وإن جمعهم اسم النصارى، ولذا قال تعالى: (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧).
فواضح من سياق القرآن الكريم وتاريخ النصارى واليهود أنهم اختلفوا وفرقوا دينهم شيعا، وقد أكد القرآن الكريم أن الاختلاف بعد أن جاء الحق بينا؛ ولذا قال تعالى: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ). ولقد قال بعض المفسرين: إن موضوع الآية هم المبتدعة من أمة محمد - ﷺ - الذين فرقوا دينهم من خوارج وشيعة، ونهجوا غير منهاج السنة.
ولقد اختار الحافظ ابن كثير أن الآية الكريمة شاملة كل من يختلفون في دينهم من أهل الكتاب الحاليين الذين فرقوا دينهم من بعدما أوتوه من علم جامع، والذين يفرقونه، ويحذون حذوهم من بعد ذلك في أمة محمد - ﷺ - الذين يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية.
وأقول: إن الآية موضوعها أهل الكتاب في مقابل الوثنيين الذين ضلوا مثل ضلال الوثنيين، ومظهر ذلك اختلافهم في أصل دينهم ومروقهم من حقيقة ما أمر
والتشيع - هنا معناه الفرق التي يشايع كل واحدة منها زعيما يكون على الضلال فيتبعونه عن غير بينة وهداية.
ولقد حكم الله تعالى على هذه الشيع ببراءة النبي - ﷺ -: فقال تعالى: (لَسْتَ مِنْهُمْ فِى شيءٍ) أي أنك بريء منهم، لأنك لست منهم في منازعهم ومفترقهم في شيء ومن الاتصال، فقوله تعالى: (فِى شَىْءٍ) تأكيد في نفي اتصاله بهم وتأكيد لمغايرته لهم في دعوته، ويترتب على ذلك أن تبعة هذا الافتراق لا تعود إليك؛ إنما أنت نذير، ولكل قوم هاد، ولذا قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّه ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
بين سبحانه وتعالى في هذا النص السامي أن أمرهم في مصيرهم ونهاية أمرهم هو لله وحده، فهو الذي يتولاهم بالحساب، ومن بعده العذاب، و (إنما) هنا دالة على القصر، أي أن أمرهم إلى الله وحده، وفي ذلك من الترهيب بأمر الله تعالى ما فيه من إنذار بالهول الشديد والعذاب العتيد، ولذا قال تعالى: (ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كانُوا يَفْعَلُونَ) الإنباء والتنبئ معناه الخبر الشديد الخطير، ومعنى إنبائهم بما كانوا يفعلون إنباؤهم بما ينتظرهم من العقاب بما كانوا يقولون، فينالون من بعد ذلك جزاؤه، ويصح أن يكون الإنباء بإنزال العذاب فعلا، فيكون الإبناء بالفعل لا بالقول، ويكون معناه أنه عذبهم بفعلهم لأن فعلهم هو الذي اقتضى العقاب، فهو سببه وملازمه لَا يفترق جزاء بما كسبوا.
وفى التعبير بـ (ثم) إشارة إلى افتراق حالهم في دنياهم عن حالهم في أخراهم افتراقا بينا؛ لأن بينهم مسافة بعيدة اقتضت التعبير بما يدل على التراخي، والله أعلم -
* * *
(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦٠) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤)
* * *
ذكر الله تعالى أحوال الكافرين بالرسالة المحمدية، وعناد المشركين الذين عاندوا وكفروا بالآيات كلها، وأعقبهم بالإشارة إلى المتنابذين الكفار من أهل الكتاب وضلالهم.
وكان لَا بد من بعد ذلك من أن يذكر النور بعد الظلام، فأخبر سبحانه وتعالى عن المهتدين، وأنه يضاعف الحسنات، ويعفو عن السيئات إذا صدق الإيمان، وكانت الهداية الغالبة في أعمالهم وامتلأت بها قلوبهم؛ ولذا قال تعالى:
وذلك لأن الصدقة تتضاعف آثارها، وتكثر ثمراتها فهي تشبع نفسا جائعة، وتمنع تفككا واضطرابا، وتلقي أمنا وسلاما، وتزيل أحقادا وتوجد تعاونا مستمرا، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، وسماه الله تعالى قرضا لله تعالى، فقال (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرضًا حَسَنًا...)، وإن من يقرض موجد الوجود يكون بدله أضعافا مضاعفة، كمن يعطي ذا مروءة عطاء، فإنه يزيد في بدله، فكيف بخالق الناس، ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض.
وجزاء سيئة مثلها لَا يزيد عنها، وقد يغفرها سبحانه، ولذا قال تعالى: (وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) وَحَذَ الله سبحانه وتعالى هنا الجزاء حدا لا يتجاوزه، فذكر أنه لَا يجزى إلا مثلها، فنفى وأثبت، وذلك قصد للجزاء لا يعدوه، أما ما ذكر من جزاء الحسنة فذكر أنه عشر أمثالها، ولم يذكره سبحانه وتعالى حتى لَا يعدوه بل هو حد أدنى يقبل الزيادة بحسب أحوال النفوس وبحسب موضوع الحسنة، وكلما كانت متصلة بالناس، لنفعهم تضاعف الجزاء كما جاء في آيات الصدقات، والتعبير في بعضها بأنها قرض لله سبحانه وتعالى، وهو
________
(١) (عشرٌ أمثالُها) هي قراءة يعقوب، وقرأ الباقون بالإضافة.
ولقد جاءت الآثار عن النبي - ﷺ - بما يفيد أن في معنى الآية من الحد بعشر أمثالها هو حد أدنى، فقد روى مسلم والإمام أحمد أن النبي - ﷺ - قال: " يقول الله عز وجل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتى يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بِقِرابِ الأرض (أي بما يقاربها في ملئها وحجمها) خطيئة لَا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة، (١).
والسيئة الأمر الذي يسوء في نفسه، ويسوء الناس، ويعصى به الله تعالى، وعبر عنه بالسيئة بأقبح ما يكون من معاصي، فإن أعلى المعاصي ما يكون إساءة للناس، وإيذاء.
وقد صرح الحديث بالنسبة لمن يهم بسيئة فلم يفعلها بأنه لَا يكتب له شيء ومن همَّ بحسنة فلم يفعلها كتبت له حسنة؛ لأن النية الطيبة حسنة في ذاتها، فالأعمال بالنيات.
ولقد تكلم ابن كثير في بيان أحوال من يهم بسيئة فلم يفعلها فقد قسمها إلى ثلاثة أقسام باعتبار حال التارك لها بعد أن يهم، فقال رضي الله عنه: (اعلم أن تارك السيئة الذي لَا يعملها على ثلاثة أقسام، تارك يتركها لله تعالى، فهذا تكتب له حسنة على كفِّه عنها لله تعالى، وهذا عمل ونية، ولذا جاء أنه يكتب له حسنة، كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح: " فإنه تركها من جرائي "؛ أي من أجلي (٢)، وتارة يتركها نسيانا وذهولا عنها، فهذا لَا عليه ولا له؛ لأنه لم ينو
________
(١) رواه مسلم: الذكر والدعاء والاستغفار - فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله (٢٦٨٧). عن أبي ذر رضي الله عنه.
(٢) كما في رواية مسلم: الإيمان - إذا هم العبد (١٢٩) عن أبي هُرَيْرَةَ: وَقَالَ رَسُولُ اللًهِ - ﷺ -: " قَالَتِ الْملَائِكَةُ: رَبِّ، ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ، فَقَالَ: ارْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ ".
وإن ذلك تقسيم حسن أخص ما فيه أنه يخرج ممن يهم بسيئة ولم يفعلها من هَمَّ وأخذ في الشروع في جريمة، ولكن حال بينه وبينها أمر لَا يستطيع مدافعته فهو لَا يكون قد هم فقط، بل نوى الفعل واعتزمه ولكن عجز لأمر خارج عن إرادته.
ولقد ختم العلي القدير كلماته في هذا الموضوع بقوله تعالى: (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) إن الآيات عطاء وعفو، فالعطاء من فضل الله تعالى، والعفو من رحمته، وهو الذي يعطي من يستحق، ويمنع عمن يستحق، وإن شاء غفر، وعلى ذلك لَا يظلم أحدا شيئا؛ لَا يمنع حقا، بل يعفو ويصفح عن أهل الإيمان الذين لا يشركون به شيئا، وهو السميع العليم.
* * *
* * *
أمر الله تعالى نبيه أن يبين أنه يسلك الخط المستقيم الذي هو الدين القيم، وأنه ملة إبراهيم (قُلْ) يا محمد أيها النبي الأُميّ العربي (إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّى إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيم).
كان ذلك الأمر للنبي - ﷺ - ليخاطب به العرب مخبرا عن نفسه الكريمة، وعمن اتبعه من المؤمنين - هداني ربي الذي خلقني، وربَّني وقام على كل ما أقوم عليه، فهو القوام على كل نفس، والقائم على كل شيء، فوصف الربوبية في هذا المقام للدلالة على أن الهداية منسوبة إلى الخالق المكوِّن، فهي هداية حق لَا ضلال فيها، ولا أوهام ولا أهواء عند الله سبحانه وتعالى، وقد أكد أن الهداية من رب الوجود بـ (إن)، والهداية كانت إلى دين اتصف بأمور ثلاثة.
أولها - أنه صراط مستقيم، أي طريق مستقيم موصل إلى الحق الذي لا ريب فيه من غير التواء ولا اعوجاج، فليس فيه تعقيد بل إنه الفطرة المستقيية، فطرة الله التي فطر الناس عليها.
الوصف الثالث - وهو شرف إضافي، فالوصفان الأولان ذاتيان؛ لأنهما وصفان حقيقيان لأنهما مشتقان من ذات الدين، وذلك الوصف هو قوله تعالى (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) وذكر هذا الوصف ليبين للعرب الذين كانوا يتفاخرون بنسبهم إلى إبراهيم، وبأنه أبو العرب، ويدعون أنهم على ملة إبراهيم مع عبادتهم الأوثان، فالنبي - ﷺ - يبين لهم بإنه هو الذي على ملة إبراهيم، وليسوا هم على ملته في شيء.
وهنا وصف ذاتي لهذا الدين جاء في ثنايا ذلك القول. وهو قوله تعالى:
(حَنِيفًا) أي غير منحرف إلى باطل بل هو مائل إلى الحق متجه إليه، فهو مستقيم متجه إلى الحق فحنيفا صفة للدين.
ثم بين سبحانه ردًّا على وثنية المشركين، فقال: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي ليس لكم أن تفاخروا باتباعكم إبراهيم، فما كان إبراهيم من المشركين، ما كان إبراهيم أبوكم وأبو الأنبياء ممن دخل في صفوف المشركين، بل أوَّابًا مؤمنا. وهذا كقوله تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفَا وَمَا كانَ مِنَ الْمُشْرِكينَ)، وقال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١).
________
(١) (قِيَمًا) بكسر القاف، وفتح الياء وتخفيفها، قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف، وقرأ الباقون (قَيِّمًا) بفتح القاف، وكسر الياء وتشديدها.
* * *
(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)
* * *
أمر الله تعالى نبيه بأن يقول قولة يكون بها كله لله تعالى ليس لأحد شيء في نفسه أو جارحته، أمره بأن يكون كله لله، وإنه لكذلك، وخاطب من معه من المؤمنين ليكونوا ربانيين، وأن يخاطب بذلك المشركين ليتخلفوا عن الشرك والأوهام والأهواء،
وفسر ابن كثير النسك هنا بالذبائح في الأضحى، والعمرة والحج، ذلك أن العرب كانوا يشركون ويدَّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ويهلون لغير الله، فبين لهم النبي - ﷺ - بأمر الله تعالى له بالبيان بأن يذكر أن ملة إبراهيم كانت دينا قيما يعبد الله وحده، ويذبح مهلا لله تعالى وحده، وروي ذكر اسم الله تعالى في ذبيحة النبي - ﷺ -، فروي عن ابنِ عباسٍ عن جابر أن رسول الله - ﷺ - ضحى بكبشين، وقال حين ذبحهما: (إِنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١).
________
(١) رواه ابن ماجه: الأضاحي - أضاحي رسول الله - ﷺ - (٣١٢١) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْد الله. كما رواه الترمذي وأبو داود وأحمد.
الأمر الأول - أن النبي - ﷺ - في حياته الدنيا، ومماته من بعدها، ثم حياته في الآخرة لله تعالى هو المتصرف فيها المالك لها، فهو رب الوجود، ومالك يوم الدين، وهذا هو الفناء في ذات الله تعالى على الوجه الإسلامي الحنيف المستقيم.
والأمر الثاني - أن (محيا) و (ممات) مصدران ميميان، بمعنى الإحياء المستمر، والممات من بعد، ثم الإحياء المستمر، والمعنى إحيائي في هذه الحياة الدنيا المستمدة منك ولك - وإماتتي لك أنت الذي تحييني وتميتني، وحياتي الباقية الخالدة منك ولك، يارب العالمين.
وقرن القول السامي برب العالمين لبيان أنه القائم على الحياة وهو الذي بيده الموت والحياة من بعده، وهو الحي القيوم لَا إله إلا هو العزيز الحكيم.
وأكد سبحانه وتعالى على لسان النبي - ﷺ - بقوله:
ثم يقول - ﷺ - بأمر ربه: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي أول من أخلص دينه لله ووجهه لله، فالإسلام استقامة النفس واتجاهها إلى الله وحده، من غير إشراك وثن، وأمر الله تعالى نبيه بأن يقول هذا لقومه من المؤمنين والمشركين تحريض لمن آمنوا على البقاء، وتحريض للمشركين على خلع عبادة الأوثان، فالأولية هي لمن يخاطبهم النبي - ﷺ - ليحتملهم على الاتباع والاقتداء به، كمن يقول لآخر: ادخل هذا الباب، وأنا أمامك أول من يدخل.
وقال بعض العلماء: إن أولية إسلام النبي - ﷺ - أولية مطلقة، فهو كما قال ذلك القائل، أول الأنبياء إسلاما وآخرهم مبعثا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
* * *
أمر الله تعالى نبيه أن يقول للمشركين في سياق الدليل على أنه لَا يعبد سواه، ولا رب سواه، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الوقوع لَا يمكن أن يقع مني أن أبغي غير الله ربًّا، ويكون تقديم غير الله على الفعل. في معنى القصر أي لا أبغي غير الله تعالى ربًّا أعبده، وعبر هنا بقوله (رَبًّا)، ولم يعبر بكلمة (إلها) مع أن المقصود هو العبادة، إذ المعنى أبغي غير الله إلها، وهو رب كل شيء، للإشارة إلى التلازم بين الربوبية والألوهية، إذ أنهم كانوا يعترفون بأن الله تعالى رب كل شيء وخالق كل شيء، ولكنهم يفرقون ذلك عن العبادة، فهم يعتقدون أن الله خالق كل شيء، ولكنهم يعبدون الأوثان، ويقولون: ما نعيدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فقوله تعالى (أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا) فيه إشارة إلى الربوبية والخلق والتكوين، والعبادة فالمعبود بحق هو الرب الخالق، لَا هذه الأوثان التي تتوهمون فيها سرا وتقريبا، وما هي بشيء.
وإن التعبير بقوله تعالى (أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا) في التعبير بـ (رب) عما أشرنا إليه من معنى التلازم بين الربوبية والعبودية فيه إشارة أخرى، وهو أنه لَا يعبد غيره، ولا يتوكل إلا عليه؛ لأن الربوبية تقتضي ألا يلجأ المؤمن إلا إليه سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى في معنى ذلك، (قلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا...)، وقال تعالى: (... فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ...). وإن كل امرئٍ بما كسب رهين، يحمل تبعات أعماله، ولا يحمل وزر غيره ولذا قال تعالى: (وَلا تَكْسِبُ كُلّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
قالوا إن المشركين كانوا يريدون من المؤمنين أن يرجعوا إلى دينهم الذي تركوه، وقالوا نتحمل وزركم ولا تتحملون آثاما، فالله رد قولهم بهذا، وما نحسب أن ذلك وقع، إن كان قد وقع، فالآية عامة لحقيقة رئيسة، و (الكسب) الفعل الذي يصدر عن شخص مؤمن بما يفعل، قد كسبته نفسه، وقام بها، ومعنى قوله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا) لَا تكسب أي نفس عملا إلا كانت مغبته ومآله عليها، تتحمل تبعته إن شرا، وتنال جزاءه إن كان خيرا وبذلك يكون النص محتملا الجزاء بنوعيه عقابا أو ثوابا.
ويصح أن الكسب هنا كسب الإثم، ويكون عليها بالعذاب، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، أي لَا تحمل نفس وازرة وزر أخرى فكل امرئٍ بما كسب رهين، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى.
وإن جزاء الآخرة ثوابا وعقابا مبني على ذلك، فلا يحاسب امرؤ بجريمة غيره، ولا يلقى عن شخص جرم ليلحق إلى غيره، والله تعالى علام الغيوب، وكل يحمل كتابه.
وروي أن أم المؤمنين زينب بنت جحش سألت رسول الله - ﷺ - قائلة: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون، فقال عليه السلام: " إذا عم الخَبَث " (١)، والخبث هنا هو المعاصي وأشدها الظلم والفاحشة وما يوعز بها وإن عموم الفساد يكون من إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيعم العذاب، كما قال عليه الصلاة والسلام: " لَتَأْمُرُن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذنَّ على يدي الظالم ولتأطُرُنَّه على الحق أطرا أو ليضربن قلوب بعضكم ببعض ثم تدعون فلا يستجاب لكم " (٢) وإن عذاب يوم الدين لاحق بكل نفس كسبت، أو قصدت، ولذا قال تعالى: (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتًلِفُونَ).
(ثم) هنا للتراخي والترتيب؛ لأن ذلك يوم الدين فيكون الجزاء العادل، ينال كل امرئٍ ما كسب أو قصد، فالله تعالى يجازي على التقصير في بيان حدود الله ومنع العصاة، كما يجازي على ذات المعصية؛ لأن ترك الواجب معصية كارتكابها.
وقدم الجار والمجرور، لبيان أن المرجع إليه وحده فهو الذي يملك يوم الدين وحده، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته عذابا أليما.
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: أحاديث الأنبياء - قصة يأجوج ومأجوج، ومسلم: الفتن وأشراط الساعة - اقتراب الفتن (٢٨٨٠).
(٢) سبق تخريجه.
* * *
* * *
بين سبحانه اختلاف المؤمنين، وما يجب أن يكونوا عليه متأسين بالنبي - ﷺ -، آخذين بهديه مخالفين ما عليه المشركين، وختم الآية التي قبلها بأن الله تعالى يحكم بين المختلفين يوم القيامة بعد ذلك بين سبحانه وتعالى أن الله تعالى هو الذي خلق الأجيال التعاقبة الذي يخلف بعضها بعضا - وهي متفاوتة فقال تعالت كلماته:
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ).
(الواو) هنا واو الفصل بيان الآيات، وهي تفيد أن الآيات مترابطة تبع بعضها بَعْضا في نسق محكم متناسب يرتبط بعضه بعجز بعض.
الخلائف جمع خليفة، أي طبقة تخلف طبقة، وجيلا يخلف جيلا، وكل واحد منها يعد خليفة في هذه الأرض، يسيطر سيطرة الإنسان عليها، إن ظالما،
وهنا بقوله سبحانه: (وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ) أي صيركم أجيالا تخلف بعضها بعضا، وكل جيل خليفة في الأرض يفسد بعضه، ويصلح بعضه، ويباح الفساد مع الصلاح، وينازعه حتى لَا يعم (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاس بعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
ولذا قال تعالى (وَرَفَعَ بَعْضَكمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ).
الدرجات كما جاء بها التعبير في القربات هي الدرجات العالية التي تكون سابقات كريمة، والمعنى رفع منكم درجات بالهداية والسمو، والرفعة إذا أطاعوا اتجهوا إلى الخير، وإعلاء منازل الإنسانية، ولو كانوا هم الفقراء أو العبيد، أو المستضعفين في الأرض، ولا يلزم أن يكون من الأقوياء أو الأغنياء وقد اختبر كلا، فاختبر الأغنياء ليشكروا واختبر الفقراء ليصبروا.
وقد وردت آيات كثيرة في هذا التفاوت في الدرجة، مع ملاحظة أن تفاوت الدرجات ليست بالغنى، فليس الغنى درجة، دونها حال الفقر، إنما الدرجات الرفعة عند الله تعالى بالعمل الصالح، ولو كان فقيرا أو ضعيفا تزدريه الأعين كما كانت حال المؤمنين الذين آمنوا بنوح - عليه السلام - والذي أمره الله - سبحانه وتعالى - أن يقول: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١).
إنما التفاوت في الدرجات بالقرب من الله والإيمان، ومثل هذا قوِله تعالِى: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً
فإن الدرجات في هذه الآية واضح أن المراد منها الدرجات في الرفعة، لا الدرجات في المال، فالتفاوت في المال لَا يكون درجات للأغنياء على الفقراء، وقوله تعالى (... لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا...)، أي ليكون الحال أن يسخر الأغنياء الكافرون من الفقراء المؤمنين.
ولو كان المراد التفاوت بالمال، لكان اعتراض الكافرين مسلما به؛ إذ قالوا (لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ منَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم)، أي في المال وكثرته.
وإن المقصود من ذلك السياق أن نقول إن قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) أن المراد برفعة الدرجات هو إيمان بعض المؤمنين ورفعتهم، وقد بين الله سبحانه وتعالى الحكمة من ذلك فقال: (ليَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكمْ) أي ليعاملكم معاملة من يختبركم فيما آتاكم من مال، أو رفعة معنوية دينية حيث يزدري الكافرون الأغنياء المؤمنين الفقراء، فيضيفون كفرا إلى كفرهم، ويضيف أهل الإيمان إيمانا إلى إيمانهم بصبرهم على الأذى وليختبر الغني في غناه فيشكر أم يكفر، ويختبر الفقير في فقره فيرضى ويصبر فيؤجر، أم يجزع ويكفر فيعاقب، فالغنى نعمة يختبر صاحبها، والفقر بأس يختبر صاحبه. والعاقبة إما عقاب وإما غفران ورحمة، ولذا قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
(إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ) أي أن عقابه نازل لَا محالة، ومؤكد أنه آت لَا ريب فيه، وكل آت قريب، ووصف سرعة العقاب لله تعالى يؤكد نزوله بالعاصي من غير تردد فيه، فهو العادل الذي لَا يبطئ في إقامة العدل، ويسارع بإنزاله فليس المراد بالسرعة سرعة الزمان إنما المراد سرعة الإيقاع.
اللهم اجعلنا أهلا لمغفرتك ورحمتك، وجنبنا سريع عقابك، واعف عنا وتجاوز عن سيئاتنا إنك أنت العفو الغفور.
* * *
هي سورة مدنية إلا ثماني آيات من الآية رقم ١٦٣ إلى الآية ١٧٠، وسنتكلم فيها في موضعها - إن شاء الله تعالى - وعدد آيات هذه السورة الكريمة ست ومائتان.
وقد ابتدأ الله تعالى هذه السورة بالحروف (المص)، وقد تكلمنا في هذه الحروف في فواتح سور القرآن، وذكرنا أنها من المتشابه الذي اختص علم الله تعالى، وذكرنا حكمة ذكرها، وعند الله غيب أمرها.
ابتدئت السورة بذكر القرآن، والأمر باتباعه، ثم أشارت إلى أن يوم القيامة يجيء بغتة، فالقُرى يجيئها أمر الله بغتة وهم نائمون، وعندئذ يحس الظالمون بظلمهم إذ ذهب طغيانهم، ويبين الله - تعالى - أن اليوم يوم سؤالهم عما ظلموا، وتوزن أعمالهم بخيرها وشرها، والوزن يومئذ الحق، وقد ذكر سبحانه أن السبب في طغيانهم أنه مكن لهم في الأرض، وتمكن الشيطان منهم.
ويذكر سبحانه كيف يتمكن الشيطان، وساق - سبحانه وتعالى - قصة الخلق الأول، ليبين لهم عداوة إبليس وكيف أغوى آدم على مخالفة ربه، هو وزوجه حواء، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور، وقد ذكر سبحانه عاقبة ذلك التدلي.
صرح بعد ذلك القصص الحكيم بالنهي عن الخضوع للشيطان إبليس ومن معه، فقال: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٧).
ويبين - سبحانه وتعالى - ما أحله الله من طيبات وما أراد الشيطان أن يحرمه عليهم.
ويبين - سبحانه وتعالى - أن مقاومة الشيطان إنما هي باتباع الهدى الذي يجيء على ألسنة الأنبياء (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ منكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
وبين - سبحانه وتعالى - أن الشيطان يغري أتباعه بمعاندة هؤلاء الرسل كما أغرى كبيرهم آدم وحواء بمخالفة أمر الله تعالى.
ثم يذكر - سبحانه وتعالى - مآل الطاغين على الرسل بإغواء الشيطان يوم القيامة وكيف يتطارحون الضلال بين الغاوين ومن أغووهم من شياطين الجن والإنس (... حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩).
وبين - سبحانه وتعالى - جزاء الذين استكبروا عن الحق بأهواء الشيطان، وفى مقابلهم جزاء الذين آمنوا وأطاعوا الله، ولم يغوهِم الشيطان، وأن لهم الجنة، (... وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤).
وكان بين أصحاب الجنة أصحاب الأعراف، وقد نادوا الظالمين الذين يعرفونهم (وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُم قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ
وأما أصحاب النار فقد ذكر الله - سبحانه - أنهم في عطش شديد، ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله.
بين الله تعالى من بعد ذلك أدت الذين عصوا واستكبروا قد جاءهم القرآن الكريم يهديهم، ويدعوهم إلى الحق، (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدَى وَرَحْمَةَ لِّقَوْمِ يُؤْمِنُونَ).
ولكنهم كفروا به، وطغوا، وطلبوا معرفة مآله، فبين - سبحانه - أنهم يعرفون مآل ما اشتمل عليه بقول الذين نسوه من قبل (... قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣).
بعد هذا البيان الحكيم في هذه السورة الكريمة وجه الله تعالى العقول إلى آياته في الكون، فقال: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥). وينهى رب الكون عن الفساد في الأرض، ويبين آياته - سبحانه - في إرسال الرياح بشرا بين يدي رحمته، وأنه - سبحانه - يرسل سحابا ثقالا، إلى الأرض الميتة ليحييها.
ويقص بعد ذلك قصص أنبيائه، ليُسِّري على محمد - ﷺ - بقصصهم، وليسوق العبر والمثلات للمشركين ليعتبروا ويستبصروا، فيذكر خبر نوح مع قومه، ويرمونه بالضلالة، كما رمى المشركون محمدا بها، ويعجبون من أن الله أرسل رسولا، كما تعجبت قريش من رسالته - ﷺ -، ويذكرهم بأن الله تعالى سينجي
ويذكر من بعد نوح في هذه السورة الكريمة خبر هود مع قومه عاد، وكيف رموه بالسفاهة كما رمت قريش محمدًا - ﷺ -، وقد كان فيهم الصادق الأمين، وكيف كان ينصح لهم، ويذكرهم بما آتاهم الله - تعالى - من نعمة، وقد عجبوا أن جاءهم رسول منهم، كما عجبت قريش (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ)، وقال لهم هود: (... أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ).
وذكر - سبحانه وتعالى - من بعد قصة هود قصة صالح مع قومه ثمود، إذ دعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده، وأتى لهم بمعجزة حسية هي الناقة، وقد ذكرهم بما نزل بعاد من قبلهم، وذكرهم بنعمة الله تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ولكنهم كفروا وعقروا الناقة، فأنزل الله تعالى عذابه الدنيوي، وتولى عنهم هود وقد أبلغهم رسالة ربه.
ومن بعده بعث الله لوطا إلى قومه، وذكر الله تعالى شذوذهم وأهلكهم الله تعالى: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مًطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِين).
وأرسل إلى مدين أخاهم شعيبا، وقص الله - تعالى - في السورة قصصه مع قومه إذ دعاهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وألا يفسدوا ولا يعتدوا ولا يصدوا عن سبيل الله، وقد آمنت طائفة، وطائفة منهم وهم الذين استكبروا، وحاولوا إخراج شعيب قائلين: (... لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا...)، ولكن الله نجاه منهم، وقال لن نعود في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها.
وقد بين - سبحانه وتعالى - في هذه السورة الكريمة سنته مع الذين يرسل إليهم النبيين أن يختبرهم بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون، ثم يختبرهم من بعد ذلك بالحسنة لعلهم يدركون، (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ...) فإذا كفروا، ولم تردعهم الضراء، ولم يشكروا السراء، أخذهم العذاب بغتة وهم لَا يشعرون.
ولقد ذكر - سبحانه وتعالى - أن أهل القرى، لو أنهم آمنوا لأتتهم النعم من حيث لَا يشعرون، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
ولقد ذكر سبحانه في هذه السورة المحكمة غفلة أهل القرى أي المدن العظيمة عن أن يأتيهم عذاب الله تعالى في آياته سبحانه وتعالى، وأن الذين يرثون أرضها لا يهتدون، ولا يعتبرون بما كان منهم، (وَمَا وَجَدْنَا لأَكثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ).
ذكر بعد هذه العبرة التي بينها - سبحانه وتعالى - في سنته في الهداية، وعقاب من لَا يهتدون قصة موسى وفرعون، ومعجزة موسى، بل معجزاته مع فرعون، طاغية الوجود الإنساني في مصر، بل لَا يزال مثلا يضرب لكل طاغية في الأرض.
تقدم موسى إلى فرعون يدعوه إلى الله تعالى، وتقدم بعصاه فحرض فرعون قومه أنه يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره.
عاقبهم فرعون وقال: (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (١٢٦).
وقد أخذت شيعة فرعون ترد على موسى كالشأن في كل طاغية لَا يطغى إلا بشيعة تحسن له الشر، وتفتح له الخير، قالوا لفرعون: (... أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (١٢٧) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨).
ولكن بني إسرائيل يتململون بموسى، ويقولون: (... أوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكمْ وَيَسْتَخْلِفَكمْ فِي الأَرْضِ...).
أخذ الله تعالى آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه، وأرسل الله عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات.
وإذا اشتد الأمر بهم (... قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَئا الرِّجْزَ لَنؤْمِنَنَّ لَكَ ولَنرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، فأغرقهم الله تعالى، وجاوز الله ببني إسرائيل البحر وأورثهم ملكا بعد أن كانوا مستضعفين في الأرض.
ولكن بني إسرائيل بعد أن جاوزوا البحر عادت إليهم وثنية الفراعنة (... قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)،
واعد الله تعالى موسى أربعينِ ليلة (... وَقَالَ مُوسَى لأَخيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين).
ذهب موسى لميقات ربه (... وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)، قبل الله توبة موسى وبين له اصطفاءه له (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ...) من أحكام شريعته عليه السلام، ويقول الله عن هذه الألواح: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا...)، وقد بين - سبحانه وتعالى جزاءهم في الآخرة.
وفى غيبة موسى الأربعين ليلة (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا خوَارٌ...)... وزين لهم الشيطان عبادة العجل التي تقبلها المصريون في نفوسهم.
وإن الناس يضلون فإذا رأوا داعية الهداية ذهب عنهم ضلالهم فلما رأوا موسى سقط في أيديهم (... وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكوننَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا، وقال: بئسما خلفتموني من بعدي، وأخذ يعتب على أخيه هارون (... وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ...).
أحس موسى بأنه تجاوز في غضبه فاتجه إلى ربه ضارعا (... رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وذكر الله ما سينال الذين اتخذوا العجل ولم يتوبوا، وقال سينالهم غضب من ربهم وذلة.
اتجه موسى وقومه ضارعينِ إلى الله تعالى، وقالوا: (... إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٦).
وذكر منهم ممن تتسع له رحمته: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧).
ويأمر الله - تعالى - في هذه السورة نبيه محمد - ﷺ - بعد أن ذكر البشارة به بأن يقول: إنه رسول الله تعالى إلى الناس جميعا ويدعوهم إلى اتباعه.
وتعود الآيات إلى قوم موسى - عليه السلام - فيذكر أن (وَمِن قَوْمِ مُوسَى أمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) ويذكر أنه - سبحانه وتعالى - قطعهم في الأرض (... اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا...)، ثم يذكر - سبحانه وتعالى - آياته منهم ونعمه عليهم، من ضرب الحجر بعصا (... فَانْبَجسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاس مَّشْرَبَهُمْ...)، وأنه أنزل عليهم المن والسلوى، وأنه ظلل عليهم الغمام وأنهم لم يشكروا النعمة، بل كفروا بها.
ويذكر حالهم يوم السبت إذ حرم عليهم الصيد فيه (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ...).
وإن بني إسرائيل قد مردوا على العصيان وقد أخذ الله - تعالى - الميثاق ورفع الجبل فوقهم كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع بهم وأخذ عليهم الميثاق، وهم تحت تأثير تلك الآية القاطعة، وقال خذوا ما أتيناكم بقوة، ولكنهم نقضوه ولم ينفذوه.
ولقد بين الله سبحانه أنه أخذ (... مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكمْ قَالُوا بَلَى...)، ودل ذلك على أن التوحيد دين الفطرة وبين سبحانه أن هذه الآية الفطرية التي أودعها الأخلاف والذرية من ينسلخ منها يتبعه الشيطان ويغويه وتكون كل أعماله في دائرة الشر، (... كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كذَّبُوا بِآيَاتِنَا...) وأسوأ الأمثال مثل الذين كذبوا بآيات الله (... وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ).
وإن من يهديه الله فهو المهتدي، ولقد خلق الله لجهنم كثيرا من الجن والإنس، وهؤلاء لهم قلوب لَا يفقهون بها، ولهم أعين لَا يبصرون بها، ولهم آذان لَا يسمعون بها أولئك هم الغافلون.
وأخذ - سبحانه وتعالى - في هذه السورة الكريمة يذكر الذين اهتدوا في مقابل الذين كفروا وظلموا، وقال في الذين كفروا: (... سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣).
وذكر الله تعالى الساعة وأنه وحده هو الذي يعلمها (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨).
بعد ذلك بين الله - سبحانه وتعالى - خلق الإنسان وزوجه ليسكن إليها، وصور سبحانه ضلال الإنسان بمن تحمل امرأته حملا خفيفا فمرت فلما ثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠).
وبين - سبحانه وتعالى - ضلال من يشركون وذكر أنهم يدعون في عبادتهم أوثانا لَا تضر ولا تنفع سواء أكانوا أحجارا أم غيرها وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (١٩٨).
ولقد دعا الله - تعالى - نبيه إلى ما يتجلى به في الدعوة فقال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا
ولقد أوصى الله المؤمنين من ضمن وصيته لنبيه (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦).
هذه إشارة موجزة إلى بيان ما اشتملت سورة الأعراف إجمالا، ثم نقدمها بين يدي ذكر معانيها، ولنبدأ من بعد ذكر ما يسعه إدراكنا من معانيها والله الهادي.
* * *
معاني السورة الكريمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المص (١) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (٤) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٥)* * *