ﰡ
(مَكِّيَّة)
ما خلا آيتين من آخرها مدنية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢)هذا خطاب للنبي عليه السلام، وقيل إنه نزل عليه هذا وعليه قطيفة.
والْمُزَّمِّلُ أصله المُتَزَمِّل، ولكن التاء تدغم في الزاي لقربها منها، يقال: تَزَمَّل
فُلان إذا تلفف بثيابه، وكل شيء لافف فَقَدْ زُمِّلَ.
قال امرؤ القيس:
كأَنّ أَبَاناً في أَفَانِينِ وَدْقِهِ... كبيرُ أُناسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّلِ
وقيل إنه كان مُتَزَمِّلًا في حال هيئة الصلاة.
* * *
قوله: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (٤)
فالمعنى - واللَّه أعلم - أن (نصفه) بدل من (الليل) كما تقول: ضربت زيداً
رَأْسَهُ فإنما ذكرت زيداً لتؤكد الكلام، وهو أوكد من قولك ضربت رأس زيداً فالمعنى قم نصف الليل إلا قليلاً أو انقص من النصف أو زد على النصف، وذكَر (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا) بمعنى إلا قليلاً ولكنه ذُكِرَ مَع الزِيادة، فالمعنى قم نصف الليل أو انقص من نصف الليل أو زد على نصف.
وهذا - واللَّه أعلم - قبل أن يقع فرض الصلوات الخمس (١).
ومعنى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (٤)
قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ﴾: للناس في هذا كلامٌ كثيرٌ، واستدلالٌ على جوازِ استثناءِ الأكثرِ والنصفِ، واعتراضاتٌ وأجوبةٌ عنها. وها أنا أذكرُ ذلك مُحَرِّراً له بعون اللهِ تعالى.
اعلم أنَّ في هذه الآيةِ ثمانيةَ أوجهٍ أحدُها: أنَّ «نصفَه» بدلٌ من «الليلَ» بدلُ بعضٍ من كلٍ. و «إلاَّ قليلاً» استثناءٌ من النصفِ كأنه قيل: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ. والضميرُ في «مِنْه» و «عليه» عائدٌ على النصفِ.
والمعنى: التخييرُ بين أمرَيْنِ: بينَ أَنْ يقومَ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ على البَتِّ، وبين أَنْ يَخْتارَ أحدَ الأمرَيْن، وهما: النُّقْصانُ من النصفِ والزيادةُ عليه، قاله الزمخشريُّ: وقد ناقَشَه الشيخ: بأنه يَلْزَمُه تكرارٌ في اللفظِ؛ إذ يَصير التقديرُ: قُم نِصفَ الليلِ إلاَّ قليلاً مِنْ نِصْفِ الليل، أو انقُصْ مِنْ نصفِ الليل. قال: «وهذا تركيبٌ يُنَزَّهُ القرآنُ عنه». قلت: الوجهُ فيه إشكالٌ، لا من هذه الحيثية فإنَّ الأمرَ فيها سهلٌ، بل لمعنىً آخرَ [سأَذْكرهُ قريباً إنْ شاء الله].
وقد جعل أبو البقاءِ هذا الوجهَ مرجوحاً فإنه قال: «والثاني هو بدلٌ مِنْ قليلاً يعني النصف قال:» وهو أَشبهُ بظاهرِ الآية لأنه قال: «أو انقُصْ منه أو زِدْ عليه»، والهاءُ فيهما للنِّصْفِ. فلو كان الاستثناءُ من النصف لصار التقديرُ: قُم نصفَ الليل إلاَّ قليلاً أو انقُصْ منه قليلاً، والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّر، فالنقصانُ منه لا يُعْقَلُ «. قلت: الجوابُ عنه: أنَّ بعضَهم قد عَيَّنَ هذا القليلَ: فعن الكلبيِّ ومقاتلٍ: هو الثلثُ، فلم يكن القليلُ غيرَ مقدَّرٍ. ثم إنَّ في قولِه تناقضاً لأنه قال:» والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّرٍ، فالنقصانُ منه [لا يُعْقَل «] فأعاد الضميرَ على القليل، وفي الأولِ أعادَه على النصفِ.
ولقائلٍ أن يقولَ: قد يَنْقَدحُ هذا الوجهُ بإشكالٍ قويٍّ: وهو أنَّه يَلْزَمُ منه تكرارُ المعنى الواحدِ: وذلك أنَّ قولَه:» قُمْ نِصْف الليلِ إلاَّ قليلاً «بمعنى: انقُصْ مِنْ الليل؛ لأنَّ ذلك القليل هو بمعنى النقصانِ، وأنت إذا قلت: قُمْ نصفَ الليلِ إلاَّ القليلَ مِن النصفِ، وقُمْ نصفَ الليل، أو انقُصْ من النصفِ، وجدتَهما بمعنىً. وفيه دقةٌ فتأمَّلْه، ولم يَذْكُرِ الحوفيُّ غيرَ هذا الوجهِ المتقدِّمِ، فقد عَرَفْتَ ما فيه.
ومِمَّنْ ذَهَبَ إليه أبو إسحاقَ فإنه قال:» نصفَه «بدلٌ من» الليل «و» إلاَّ قليلاً «استثناءٌ من النصفِ. والضميرُ في» منه «و» عليه «عائدٌ للنصف. المعنى: قُمْ نصفَ الليل أو انقُصْ من النصفِ قليلاً إلى الثلثِ، أو زِدْ عليه قليلاً إلى الثلثِ، أو زِد عليه قليلاً إلى الثلثَيْن، فكأنَّه قال: قُمْ ثلثَيْ الليلِ أو نصفَه أو ثلثَه».
قلت: والتقديراتُ التي يُبْرزونها ظاهرةٌ حسنةٌ، إلاَّ أنَّ التركيبَ لا يُساعِدُ عليها، لِما عَرَفْتَ من الإِشكال الذي ذكَرْتُه لك آنفاً.
الثاني: أَنْ يكونَ «نصفَه» بدلاً مِنْ «قليلاً»، وإليه ذهب الزمخشريُّ وأبو البقاء وابنُ عطية. قال الزمخشريُّ: «وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَ» نصفَه «بدلاً مِنْ» قليلاً «، وكان تخييراً بين ثلاثٍ: بين قيامِ النصفِ بتمامِه، وبين قيامِ الناقصِ منه، وبين قيامِ الزائدِ عليه، وإنما وَصَفَ النصفَ بالقِلَّةِ بالنسبة إلى الكلِّ». قلت: وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أَشْبَهَ مِنْ جَعْلِه بدلاً من «الليل» كما تقدَّمَ.
إلاَّ أنَّ الشيخ اعترض هذا فقال: «وإذا كان» نصفَه «بدلاً مِنْ» إلاَّ قليلاً «فالضميرُ في» نصفَه «: إمَّا أَنْ يعودَ على المبدلِ منه أو على المستثنى منه، وهو» الليلَ «، لا جائِزٌ أَنْ يعودَ على المبدلِ منه؛ لأنه يَصيرُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ؛ إذ التقديرُ: إلاَّ قليلاً نصفَ القليل، وهذا لا يَصِحُّ له معنىً ألبتَّةََ، وإن عاد الضميرُ على الليل فلا فائدةَ في الاستثناءِ من» الليل «، إذ كان يكونُ أَخْصَرَ وأوضحَ وأَبْعَدَ عن الإِلباس: قُمِ الليلَ نصفَه. وقد أَبْطَلْنا قولَ مَنْ قال:» إلاَّ قليلاً «استثناءٌ من البدلِ، وهو» نصفَه «، وأنَّ التقديرَ: قُم الليلَ نصفَه إلاَّ قليلاً منه، أي: من النصفِ. وأيضاً: ففي دَعْوى أنَّ» نصفَه «بدلٌ مِنْ» إلاَّ قليلاً «والضميرُ في» نِصفَه «عائدٌ على» الليل «، إطلاقُ القليلِ على النصفِ، ويَلْزَمُ أيضاً أَنْ يصيرَ التقديرُ: إلاَّ نصفَه فلا تَقُمْه/، أو انقُصْ من النصفِ الذي لا تقومه وهذا معنىً لا يَصِحُّ وليس المرادَ من الآيةِ قطعاً».
قلت: نقولُ بجواز عَوْدِه على كلٍ منهما، ولا يَلْزَمُ محذورٌ. أمَّا ما ذكره: مِنْ أنه يكونُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ فممنوعٌ، بل هو استثناءُ معلومٍ من معلومٍ، لأنَّا قد بَيَّنَّا أنَّ القليل قَدْرٌ معيَّنٌ وهو الثلثُ، والليل، فليس بمجهولٍ. وأيضاً فاستثناءُ المُبْهَمِ قد وَرَدَ. قال تعالى: ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٦]. وقال تعالى: ﴿فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ [البقرة: ٢٤٩] وكان حقُّه أَنْ يقولَ: لأنه بدلُ مجهولٍ مِن مجهولٍ. وأمَّا ما ذكره مِنْ أَنَّ أَخْصَرَ منه وأَوْضَحَ كيتَ وكيت: أمَّا الأخْصَرُ فمُسَلَّمٌ. وأمَّا أنه مُلْبِس فممنوعٌ، وإنما عَدَلَ عن اللفظِ الذي ذكَرَه لأنه أَبْلَغ.
وبهذا الوجهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قال بجوازِ استثناءِ النصفِ والأكثرِ. ووجهُ الدلالةِ على الأولِ: أنَّه جَعَلَ «قليلاً» مستثنى من «الليل»، ثم فَسَّر ذلك القليلَ بالنصفِ فكأنه قيل: قُمِ الليلَ إلاَّ نصفَه.
ووَجْهُ الدلالةِ على الثاني: أنَّه عَطَفَ «أو زِدْ عليه» على «انقُصْ منه» فيكونُ قد استثنى الزائدَ على النصفِ؛ لأنَّ الضميرَ في «مِنْه»، وفي «عليه» عائدٌ على النصفِ. وهو استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الكثرة إنما جاءَتْ بالعطفِ، وهو نظيرُ أَنْ تقول: «له عندي عشرةٌ إلاَّ خمسةً ودرهماً ودرهماً» فالزيادةُ على النصفِ بطريقِ العطفِ لا بطريقِ أن الاستثناءِ أخرجَ الأكثرَ بنفسِه.
الثالث: أنَّ «نصفَه» بدلٌ من «الليلَ» أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأولِ، إلاَّ أنَّ الضميرَ في «منه» و «عليه» عائدٌ على الأقلِّ من النصف. وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال: «وإنْ شِئْتَ قلت: لَمَّا كان معنى ﴿قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ﴾ إذا أَبْدَلْتَ النصفَ من» الليل «: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليل، رَجَعَ الضميرُ في» منه «و» عليه «إلى الأقلِّ من النصفِ، فكأنه قيل: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ أو قُمْ أنقصَ مِنْ ذلك الأقلِّ أو أزيدَ مِنْه قليلاً، فيكون التخييرُ فيما وراءَ النصفِ بينه وبينَ الثُّلُثِ».
الرابع: أَنْ يكونَ «نصفَه» بدلاً مِنْ «قليلاً» كما تقدَّمَ، إلاَّ أنَّك تجعلُ القليلَ الثاني رُبْعَ الليلِ. وقد أوضح الزمخشريُّ هذا أيضاً فقال: «ويجوز إذا أَبْدَلْتَ» نصفَه «مِنْ» قليلاً «وفَسَّرْتَه به أَنْ تجعلَ» قليلاً «الثاني بمعنى نصفِ النصفِ، بمعنى الربع، كأنه قيل: أو انقص منه قليلاً نصفَه، وتجعلَ المزيدَ على هذا القليل أعني الربعَ نصفَ الربع، كأنه قيل: أو زِدْ عليه قليلاً نصفَه. ويجوزُ أَنْ تجعلَ الزيادةَ لكونِها مُطْلَقَةً تتمَّةَ الثلثِ فيكون تخييراً بين النصفِ والثلثِ والرُّبُع» انتهى. وهذه الأوجهُ التي حَكَيْتُها عن أبي القاسم مِمَّا يَشْهدُ له باتِّساعِ عِلْمِه في كتاب الله. ولَمَّا اتسَعَتْ عبارتُه على الشيخ قال: «وما أوسعَ خيالَ هذا الرجلِ!! فإنه يُجَوِّزُ ما يَقْرُبُ وما يَبْعُدُ». قلت: وما ضَرَّ الشيخَ لو قال: وما أوسعَ عِلْمَ هذا الرجلِ!!.
الخامس: أَنْ يكونَ «إلاَّ قليلاً» استثناءً مِنْ القيامِ، فتجعلَ الليلَ اسم جنسٍ ثم قال: «إلاَّ قليلاً» أي: إلاَّ اللياليَ التي تترُكُ قيامَها عند العُذْرِ البيِّن ونحوِه: وهذا النَّظر يَحْسُنُ مع القولِ بالنَّدْبِ، قاله ابنُ عطية، احتمالاً مِنْ عندِه. وفي عبارته: «التي تُخِلُّ بقيامِها» فأَبْدَلْتُها: «التي تَتْرُكُ قيامَها». وفي الجملة فهذا خلافُ الظاهرِ، وتأويلٌ بعيدٌ.
السادس: قال الأخفش: «إنَّ الأصل: قُم الليلَ إلاَّ قليلاً أو نصفَه، قال:» كقولك: أَعْطِه درهماً درهَمْين ثلاثةً «.
أي: أو درهمَيْن أو ثلاثةً «. وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن فيه حَذْفَ حرفِ العطفِ، وهو ممنوعٌ لم يَرِدْ منه إلاَّ شَيْءٌ شاذٌّ يمكن تأويلُه كقولِهم:» أكلْتُ لحماً سَمَكاً تَمْراً «. وقول الآخر:
٤٣٦٤ كيف أَصْبَحْتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا... يَزْرَعُ الوُدَّ في فؤادِ الكريم
أي: لحماً وسمكاً وتمراً، وكذا كيف أصبَحْتَ وكيف أمسَيْتَ. وقد خَرَّجَ الناس هذا على بَدَلِ البَداء.
السابع: قال التبريزيُّ:» الأمرُ بالقيام والتخييرُ في الزيادةِ والنقصان، وقعَ على الثلثَيْن مِنْ آخرِ الليلِ؛ لأنَّ الثلثَ الأولَ وقتُ العَتَمَةِ، والاستثناءُ واردٌ على المأمورِ به، فكأنه قال: قُمْ ثُلُثي الليلِ إلاَّ قليلاً، أي: ما دونَ نصفِه، أو زِدْ عليه، أي: على الثلثَيْنِ، فكان التخيير في الزيادةِ والنقصانِ واقعاً على الثلثَيْن «وهو كلامٌ غريبٌ لا يَظْهَرُ من هذا التركيبِ.
الثامن: أنَّ» نصفَه «منصوبٌ على إضمارِ فِعْلٍ/، أي: قُمْ نصفَه، حكاه مكيٌّ عن غيرِه، فإنَّه قال:» نصفَه بدلٌ من «الليل» وقيل: انتصبَ على إضمارِ: قُمْ نصفَه «. قلت: وهذا في التحقيقِ هو وجهُ البدلِ الذي ذكرَه أولاً؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تَكْرارِ العاملِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
جميع الحروف وتوفي حَقَها في الإشباع.
* * *
قوله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (٥)
جاء في التفسير أنه يثقل العمل به، لأن الحلال والحرام والصلاةَ
والصيَامَ وجميع ما أمر اللَّه به أن يعمل، ونهى عنه، لا يؤديه أحد إلا بتكلف
ما يثقل عليه.
ويجوز على مذهب أهل اللغة أن يكون معناه أنه قول له وَزْن في صِحتِه
وبيانه ونفعه، كما تقول: هذا كلام رَصِينٌ، وهذا قول له وَزْن، إذا كنت
تستجيدُه وتعلم أنه قد وقع موقع الحكمة والبيانِ.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (٦)
(وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا)
وتقرأ: (وِطْاءً وَأَقْوَمُ قِيلًا).
(نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) ساعات الليل كلها، كلما نَشَأ منه، أي كل مأ حدث منه
فهو ناشئة، ومعنى هي أَشَدُّ وَطْئًا أي أشد مواطأة لتقلب السمع.
ومَنْ قَرَأَ (وَطْئًا) - بفتح الواو - فمعناه هي أبلغ في القيامِ وأبين في القول، ويجوز أن يكون أشد وطأ أغلظ على الإنسانِ من القيام بالنهار، لأن الليل جُعِلَ لِيُسْكنَ فيه.
وقيل أشد وَطئًا أي أبلغ في الثواب، لأن كل مجتهد فثوابه عَلَى قَدْرِ اجتهاده.
* * *
قوله: (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (٧)
معناه فراغاً طويلاً ومتصرفاً طويلاً.
* * *
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (٨)
أي إن فاتك شيء من الليل فلك في النهار فراغ.
(سبخاً) صحيح في اللغة، يقال للقطعة من القطن سبخة، ويقال سبخت
القطن بمعنى نفشته، ومعنى نَفشتُه وسَعتُه، فالمعنى على ذلك أن لك في
النهار توسُّعاً طويلا، وَمَعْناه قريب من معنى السبح (١).
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا)
المعنى واذكر اسم ربك بالنهار، ومعنى (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ) انقَطِعِ إليه في العِبَادَةِ
ومن هذا قيل لمريم عليها السلام البتول لأنها انقطعت إلى اللَه جل ثناؤه في
العبادة، وكذلك صدقة بتلة منقطعة من مال المصدق وخارجة إلى سُبُل اللَّه.
والأصل في المصدر في تبتل تَبتَّلْتُ تَبْتِيلًا، وبَتلْتُ تبتيلًا، فتبتيلاً محمول
على معنى تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا.
* * *
قوله: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (٩)
أي اتخذه كفيلاً بما وعدك.
* * *
وقوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (١٠)
هذا يدل - واللَّه أعلم - قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال.
* * *
(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (١١)
ومثله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١).
فإن قال قائل ما مجاز ذَرْني؟ واللَّه - عزَّ وجلَّ - يفعل ما يشاء، لا يحول
بينه وبينٍ إرادته حائل؟
فالجواب في ذلك أن العرب إذا أرادت أن تَأْمُرَ الإنسان بأَن له همة بأمْرٍ أو بإنْسَانٍ تقول: دعني وزيداً، ليس أنه حال بينه وبَيْنَ
زَيدٍ أَحَدٌ، ولكن تأويله لا تَهْتَمَّ بزيدٍ فإني أكفيكه.
* * *
وقوله: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (١٢)
الأنكال واحدها نِكْل.
وجاء في التفسير أنه ههنا قُيُودٌ مِنْ نَارٍ.
قوله: ﴿سَبْحَاً﴾: العامَّةُ على الحاء المهملة وهو مصدرُ سَبَحَ، وهو استعارةٌ، استعارَ للتصرُّفِ في الحوائجِ السِّباحةَ في الماءِ، وهي البُعْدُ فيه. وقرأ يحيى بن يعمر وعكرمة وابنُ أبي عبلة سَبْخاً «بالخاء المعجمةِ. واختلفوا في تفسيرِها، فقال الزمخشري:» استعارةً مِنْ سَبْخِ الصُّوفِ: وهو نَفْشُه ونَشْرُ أجزائِه لانتشارِ الهَمِّ وتفرُّقِ القلبِ بالشواغل. وقيل: التَّسبيخُ: التخفيفُ، حكى الأصمعيُّ: سَبَخَ الله عَنَك الحُمَّى، أي: خَفَّفَها عنك. قال الشاعر:
٤٣٦٦ فَسَبِّخْ عليكَ الهَمَّ واعلمْ بأنَّه... إذا قَدَّرَ الرحمنُ شيئاً فكائِنُ
أي: خَفِّفَ. ومنه «لا تُسَبِّخي بدُعائِك»، أي: لا تُخَفِّفي. وقيل: التَّسْبيخ: المَدُّ. يقال: سَبِّخي قُطْنَكِ، أي: مُدِّيه، والسَّبيخة: قطعة من القطن. والجمعُ سبائخُ. قال الأخطل يصف صائِداً وكلاباً:
٤٣٦٧ فأَرْسَلوهُنَّ يُذْرِيْنَ الترابَ كما... يُذْرِيْ سبائخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوتارِ
وقال أبو الفضل الرازي: «وقرأ ابن يعمرَ وعكرمة» سَبْخاً «بالخاء معجمةَ وقالا: معناه نَوْماً، أي: يَنامُ بالنهار ليَسْتعينَ به على قيام الليل. وقد تحتمِلُ هذه القراءةُ غيرَ هذا المعنى، لكنهما فَسَّراها فلا تَجاوُزَ عنه». قلت: في هذا نظرٌ؛ لأنهما غايةُ ما في البابِ أنَّهما نقلا هذه القراءةَ، وظَهَرَ لهما تفسيرُها بما ذكرا، ولا يَلْزَمُ مِنْ ذلك أنَّه لا يجوزُ غيرُ ما ذَكَرا مِنْ تفسيرِ اللفظة.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
طعامهم الضريع كما قال عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (٦).
وهو الشبْرَقُ، وهو شوك كالعَوْسَج.
* * *
وقوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (١٤)
(يَوْمَ) منصوب معلق بقوله (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا)، أي ينكل [بالكافرين]
ويُعَذَبهم (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ)، وترجف تزلزل وتحرك أغلظ حركة.
(وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا).
والكثيب جمعه الكثبان، وهي القِطَع العظام من الرمل.
ومعنى (مَهِيلًا) سَائِلا قد سيلَ، وَأَصْل مَهيل مَهْيُول، يقال تراب مهيل وتراب مهيول أي مَصْبُوب فسَئل، والأكثر مهيل، وإنما حذفت الواو لأن الياء تحذف منها الضمة في مَهْيُول فتسكن هي والواو وتحذف الواو لالتقاء السَّاكنين وقد شرحنا هذا في مثلَ هذا الموضع أكثر من هذا الشرح، واختصرنا على ما سلف لاختلاف النحويين فيه، وأنه يطولُ شرحُه في هذا الكتاب.
* * *
وقونه: (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (١٦)
الوبيل الثقيل الغليظ جدًّا، ومن هذا قيل للمطر الغليظ العظيم وابل.
* * *
وقوله: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (١٧)
المعنى فكيف تتقون يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا إن كفرتم، أي بأي شيء
[تتحصَّنون] من عذاب اللَّه في يومٍ مِنْ هَولِه يشيب فيه الصَّغَير من غير كِبَر.
وتذهل فيه كل مرضعة عمَّا أَرْضَعَت، وَتَرَى النَّاسَ سَكرَى وَما همْ بِسَكرَى
ولَكِنَ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، ثم وصف مِن هَوْل ذلك اليَوْمِ أن قَالَ:
* * *
(السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (١٨)
وقيل في التفسير: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) أي السماء مثقلة باللَّهِ عزَّ وجلَّ (١).
* * *
وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠)
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ).
فمن قرأ (نِصْفَهُ) بالنًصْبِ (وَثُلُثَهُ) فهو بيِّنٌ حَسَن.
وهو تفسير مقدار قيامه لأنه لمَّا قال (أدنى من ثلثي الليل) كان نصفه مبيناً لذلك الأدْنَى، وَمن قرأ و (نِصْفِهُ) و (ثُلُثِهُ)، فالمعنى وَتَقُوم أدنى من نصفه وَمِنْ ثُلُثِه.
* * *
وقوله: (مُنْفَطِرٌ بِهِ).
ولم يقل منفطرة، ومنفطرة جائز وعليه جاء: (إذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ).
ولا يجوز أن يقرأ في هذا الموضع السماء منفطرة؛ لخلاف المصحف.
والتذكير على ضربين:
أحدهما على معنى السماء معناه السقف، قال اللَّه عزَّ وجلَّ:
(وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا).
والوجه الثاني على قوله: امرأة مرضع، أي عَلَى جِهَةِ النَسَبِ.
المعنى السماء ذات انفطار، كما تقول امرأة مرضع أَيْ ذات رَضَاعٍ.
* * *
وقوله: (أُولِي النَّعْمَةِ).
النعمة التنعم، والنِّعْمَةِ اليَدُ الجميلة عِنْدَ الِإنسان والصنع من اللَّه
تعالى ولو قرئت أولي النِّعْمَةِ لكان وَجْهاً، لأن المنعم عليهم يكونون مؤمنين
وغير مؤمنين، قال اللَّه جل ثناؤه: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ).
قوله: ﴿السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ﴾: صفةٌ أخرى، أي: مُتَشَقِّقة بسبب هَوْلِه: وإنما لم تُؤَنَّثِ الصفةُ لأحدِ وجوهٍ منها: تأويلُها بمعنى السَّقْفِ. ومنها: أنها على النَّسَبِ أي: ذات انفطارٍ نحو: مُرْضِعٍ وحائضٍ. ومنها: أنها تُذَكَّر وتؤنَّثُ: أنشد الفراء:
٤٣٧٦ ولو رَفَعَ السَّماء إليه قوماً... لَحِقْنا بالسَّماءِ وبالسَّحابِ
ومنها: أنَّها اسمُ جنسٍ يُفْرَّقُ بينه وبين واحدِه بالتاءِ فيقال: سَماءة وقد تقدَّم أنَّ في اسم/ الجنسِ والتذكيرَ والتأنيثَ؛ ولهذا قال الفارسي: «هو كقولِه: ﴿جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾ [القمر: ٧] ﴿الشجر الأخضر﴾ [يس: ٨٠] و ﴿أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ [القمر: ٢٠] يعني فجاء على أحد الجائزَيْن. والباءُ فيه سببيَّةٌ كما تقدَّم. وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ تكونَ للاستعانةِ، فإنه قال:» والباءُ في «به» مِثْلُها في قولِك: «فَطَرْتُ العُوْدَ بالقَدُومِ فانْفَطر به».
قوله: ﴿وَعْدُهُ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ لله تعالى، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ للعِلْمِ به، فيكونُ المصدرُ مضافاً لفاعلِه. ويجوزُ أَنْ يكونَ لليومِ، فيكونَ مضافاً لمفعولِه. والفاعلُ وهو اللَّهُ تعالى مُقَدَّرٌ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
معناه خيراً لكم من متاع الدنيا.
و (خَيْرًا) منصوب مفعول ثانٍ لـ (تَجِدُوهُ)
ودخلت " هو " فصلاً.
وقد فسرنا ذلك فيما سلف من الكتاب، ولو كان في غير القرآن لجاز تجدوه هو خير. فكنت ترفع بـ هُوَ، ولكن النصب أجود في العربية.
ولا يجوز في القرآن غيره.