ﰡ
قوله تعالى: ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٥)...﴾ الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه النسائي بسنده عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٥)﴾ أشيءٌ قاله رسول الله - ﷺ - من قبل نفسه أم أمره الله به؟ قال: بل قاله رسول الله لأبي جهل من قبل نفسه، ثم أنزله الله عَزَّ وَجَلَّ. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: لما نزلت ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠)﴾ قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم يخبركم ابن أبي كبشة أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدهم، أفيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم؛ فأوحى الله تعالى إلى رسوله أن يأتي أبا جهل فيقول له: ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٥)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١)﴾ ﴿لا﴾ صلة (١) لتوكيد القسم، وما كان لتوكيد مدخوله لا يدل على النفي، وإن كان في الأصل للنفي، قال الشاعر:
تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِيْ صَبَابَةٌ | وَكَادَ ضَمِيْرُ الْقَلْبِ لا يَتَقَطَّعُ |
قال المغيرة بن شعبة: يقولون: القيامة القيامة، وإنما قيامة أحدهم موته. وشهد علقمة جنازة فلما دفن قال: أمّا هذا فقد قامت قيامته. ونظمه بعضهم:
خَرَجْتُ مِنَ الدُّنيا وقامَتْ قِيَامَتِي | غَداةً أَقَلَّ الحَامِلُونَ جِنَازَتِي |
٢ - ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢)﴾ ذهب قوم إلى أنه سبحانه أقسم بالنفس اللوامة، كما أقسم بيوم القيامة، فيكون الكلام في ﴿لا﴾ هذه كالكلام في الأولى، وهذا قول الجمهور. وقال الحسن: أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوّامة. قال الثعلبي: والصحيح أنه أقسم بهما جميعًا. وقال في "عين المعاني": القسم (٢) بالشيء تنبيه على تعظيمه، أو على ما فيه من لطف الصنع وعظم النعمة، وتكرير ذكر القسم تنبيه على أن كلا من المقسم به مقصود مستقل بالقسم. لما أن له نوع فضل يقتضي ذلك. واللوم: عذل الإنسان بنسبة ما فيه لوم، ومعنى ﴿النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ النفس التي تلوم صاحبها على تقصيره أو تلوم جميع النفس على تقصيرها.
قال الحسن (٣): هي والله نفس المؤمن، لا يُرى المؤمن إلا يلوم نفسه ما أردت بكذا ما أردت بكذا، والفاجر لا يعاتب نفسه. وقال مجاهد: هي التي تلوم على ما فات وتندم فتلوم نفسها على الشر لم فعلته وعلى الخير لم تركته. وقال الفرّاء: ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا، وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيرًا قالت: هلا ازددت، وإن كانت عملت سوءًا قالت: ليتني لم أفعل. وعلى هذا فالكلام خارج مخرج المدح للنفس، فيكون الإقسام بها حسنًا سائغًا. وقيل: اللوامة
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
قال الفاشاني (١): جمع بين القيامة والنفس اللوامة في القسم بهما تعظيمًا لشأنهما وتناسبًا بينهما؛ إذ النفس اللوامة هي المصدّقة بها المقرة بوقوعها المهيئة لأسبابها؛ لأنها تلوم نفسها أبدًا في التقصير والتقاعد عن الخيرات، وإن أحسنت لحرصها على الزيادة في الخير وأعمال البر تيقنا بالجزاء، فكيف بها إن أخطات وفرطت وبدرت من بادرة غفلة ونسيانًا نتهى. هذا، ودع عنك القيل والقال هنا.
٣ - وجواب القسم محذوف دل عليه قوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (٣)﴾ وهو ليبعثن.
والمعنى: أقسم لك يا محمد بقيام القيامة ولوم النفس اللوامة ليبعثن الخلائق للمجازاة على أعمالهم. والاستفهام في قوله: ﴿أَيَحْسَبُ﴾ لإنكار الحساب الواقع من الإنسان واستقباحه. والحسبان: الظن، والمراد بالإنسان الجنس، والإسناد إلى الكل بحسب البعض كثير. وقيل: الكافر. و ﴿أنّ﴾ مخففة من الثقيلة، وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف. والعظام: جمع عظم، وهو قصب الحيوان الذي عليه اللحم. وخص العظام بالذكر؛ لأنها قالب النفس لا يستوي الخلق إلا باستوائها.
والمعنى (٢): أيحسب الإنسان الذي ينكر البعث أن الشأن والحال لن نجمع عظامه البالية، فإن ذلك حسبان باطل، فإنّا نجمعها بعد تشتتها ورجوعها رميمًا ورفاتًا مختلطًا بالتراب، وبعدما نسفتها الرياح وطيرتها في أقطار الأرض وألقتها في البحار لمجازاته بما عمل في الدنيا. وقرأ الجمهور (٣) ﴿نَجْمَعَ﴾ بالنون، ﴿عِظَامَهُ﴾ بالنصب. وقرأ قتادة بالتاء مبنيًا للمفعول، و ﴿عظامه﴾ بالرفع.
٤ - وقوله: ﴿بَلَى﴾ إيجاب لما ذكر بعد النفي السابق بقوله: ﴿لن نجمع﴾ وهو الجمع؛ أي: نجمعها حال كوننا ﴿قَادِرِينَ﴾ فهو حال مؤكدة من الضمير المستكن في ﴿نَجْمَعَ﴾ المقدر بعد بلى. ﴿عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ﴾ ونركب ﴿بَنَانَهُ﴾؛ أي: أصابعه ومفاصله؛
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
وقرأ الجمهور: ﴿قَادِرِينَ﴾ بالنصب على الحال من الضمير المستكن في الفعل المقدر، أو على أنّه خبر كان المحذوفة؛ أي: بلى كنا قادرين. وقرأ ابن أبي عبلة، وابن السميفع ﴿قادرون﴾ بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: بلى نحن قادرون على أن نسوي بنانه.
ومعنى (١): ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (٤)﴾؛ أي: على أن نجمع بعضها إلى بعض، فنردها كما كانت مع لطافتها وصغرها، فكيف بكبار الأعضاء؟ فنبه سبحانه بالبنان، وهي الأصابع على بقية الأعضاء، وأن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما كانت أولى في القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظافر والعروق اللطاف والعظام الدقاق. فهذا وجه تخصيصها بالذكر، وبهذا قال الزجاج وابن قتيبة. وقال جمهور المفسرين: إن معنى الآية: أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئًا واحدًا كخف البعير وحافر الحمار صفيحة واحدة لا شقوق فيها، فلا يقدر على أن ينتفع بها في الأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة والحياكة ونحوها، ولكنا فرقنا أصابعه لينتفع بها. وقيل: المعنى بلى نقدر على أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها؟ والأول أولى.
٥ - وقوله: ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (٥)﴾ معطوف (٢) على قوله: ﴿أَيَحْسَبُ﴾، إمّا على أنه استفهام مثله وأضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا، أو على أنه إيجاب انتقل إليه من الاستفهام، وهذا أبلغ وأولى.
والمعنى: بل يريد الإنسان ليدوم على فجوره وذنبه فيما بين يديه من الأوقات، وفيما يستقبله من الزمان، لا يرعوي عنه. فالأمام هنا مستعار للزمان من المكان، فيقدم الذنب ويؤخر التربة. وقال ابن الأنباري: يريد أن يفجر ما امتد
(٢) روح البيان.
أَقْسَمَ بِاللهِ أَبُوْ حَفْصٍ عُمَرْ | مَا مَسَّهَا مِنْ نَقَبٍ وَلَا دَبَرْ |
وحاصل معنى قوله: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ...﴾ إلخ؛ أي: (١) أيظن ابن آدم أنه لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرّقها بلى نحن قادرون على ذلك، وأعظم منه، فنحن قادرون على أن نسوي بنانه وأطراف يديه ورجليه، ونجعلهما شيئًا واحدًا كخف البعير وحافر الحمار، فلا يستطيع أن يعمل بها شيئًا مما يعمله بأصابعه المفرّقة ذات المفاصل والأنامل من فنون الأعمال التي تحتاج إلى القبض والبسط والتأني في عمل ما يراد من الشؤون كالغزل والنسج والضرب على الأوتار والعيدان إلى نحو أولئك..
والخلاصة: إنا لقادرون على جمع العظام وتأليفها وإعادتها إلى مثل التركيب الأول بعد تفرقها وصيرورتها عظامًا ورفاتًا في بطون البحار وفسيح القفار، وحيثما كانت، وعلى أن نسوي أطراف يديه ورجليه ونجعلهما شيئًا واحدًا، فيكون كالجمل والحمار ونحوهما، فيأكل كما تأكل ويشرب كما تشرب. وفي ذلك خسران كبير له، وتشويه لخلقه، وإفساد لوظيفته التي أعد لها في الحياة. ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (٥)﴾؛ أي: لا يجهل ابن آدم أن ربه قادر على أن يجمع عظامه، لكنه يريد أن يمضي قدمًا في المعاصي لا يثنيه عنها شيء ولا يتوب منها، بل يسّوف بالتوبة، فيقول: أعمل ثم أتوب بعد ذلك.
والخلاصة: أنه انتقل من إنكار الحسبان إلى الإخبار عن حال الإنسان
٦ - ثم علل إرادته دوام الفجور بقوله: ﴿يَسْأَلُ﴾؛ أي: الإنسان سؤال استبعاد واستهزاء ﴿أَيَّانَ﴾ أصله؛ أي آن، وهو خبر مقدم لقوله: ﴿يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾؛ أي: متى يكون يوم القيامة؟ والجملة (١) استئناف تعليلي، كأنه قيل: ما يفعل حين يريد أن يفجر ويميل عن الحق؟ فقيل: يستهزىء ويقول: ﴿أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾. أو حال من الإنسان في قوله: ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ﴾؛ أي: ليس إنكاره للبعث لاشتباه الأمر وعدم قيام الدليل على صحة البعث بل يريد أن يستمر على فجوره في حال كونه سائلًا متى تكون القيامة؟. فدل هذا الإنكار على أن الإنسان يميل بطبعه إلى الشهوات، والفكرة في البعث تنغّصها عليه، فلا جرم ينكره ويأبى عن الإقرار به. فقوله: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ﴾ الخ، دل على الشبهة والجهل، وقوله: ﴿بَل يُرِيدُ﴾... إلخ، على الشهوة والتجاهل. فالآيتان بحسب الشخصين.
والمعنى: أي يسأل سؤال متعنت مستبعد متى يكون هذا اليوم؟. ومن أنكر البعث أشد الإنكار.. ارتكب أعظم الآثام، وخب فيها، ووضع غير عابىء بعاقبة ما يصنع ولا مقدر نتائج ما يكتسب. ونحو الآية قوله: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٨)﴾، وقوله: ﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧)﴾.
وقصارى ما سلف: أنهم أنكروا البعث لوجهين:
١ - شبهة تعترض لخاطر كقولهم: إن أجزاء الجسم إذا تفرقت واختلطت بالتراب، وصارت في مشارق الأرض ومغاربها كيف يمكن تمييزها وإعادتها على النحو الذي كانت عليه أوّلًا؟. ولهؤلاء جاء الرد بقوله: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (٣) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (٤)﴾.
٢ - حب الاسترسال في اللذات والاستكثار من الشهوات فلا يود أن يقر
٧ - وقد ذكر سبحانه من علامات يوم القيامة أمورًا ثلاثة:
١ - فقال ﴿فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧)﴾؛ أي: تحير واضطرب وجال فزعًا من أهوال يوم القيامة. من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش، ثم استعمل في كل حيرة وإن لم يكن هناك نظر إلى البرق، وهو واحد بروق السحاب ولمعانه. قال الفرّاء: تقول العرب للإنسان المتحير المبهوت: قد برق. وأنشد:
فَنَفْسَكَ فَانْعِ وَلَا تَنْعَنِيْ | وَدَاوِ الْكُلُومَ ولا تَبْرَقِ |
وقرأ الجمهور (١) ﴿بَرِقَ﴾ بكسر الراء. قال عمرو بن العلاء والزجاج وغيرهما: المعنى تحير فلم يطرف. وقال الخليل والفرّاء ﴿بَرِقَ﴾ بالكسر: فزع وبهت وتحير. وقرأ زيد بن ثابت، ونصر بن عاصم، وعبد الله بن أبي إسحاق، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، والزعفراني، وابن مقسم، ونافع، وزيد بن علي، وأبان عن عاصم، وهارون، ومحبوب كلاهما عن أبي عمرو، والحسن، والجحدري بخلاف عنهما بفتحها؛ أي: لمع بصره من شدة شخوصه للموت. وقال أبو عبيدة: فتح الراء وكسرها لغتان بمعنى. وقرأ أبو السمال ﴿بَلِقَ﴾ باللام بدل الراء؛ أي: انفتح وانفرج، يقال: بلق الباب وأبلقه إذا فتحه.
٢ - ٨ ﴿وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨)﴾؛ أي: ذهب ضوءه، فإن خسف يستعمل لازمًا ومتعديًّا، يقال: خسف القمر وخسفه الله، أو ذهب نفسه من خسف المكان؛ أي: ذهب في الأرض، ولكن هذا المعنى لا يناسب ما بعد الآية، أي: ذهب ضوءه كما نعقله من حاله في الدنيا إلا أن الخسوف في الدنيا إلى انجلاء، وفي الآخرة لا يعود ضوءه.
٣ - ٩ ﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩)﴾. أي: جمع بينهما في الطلوع من المغرب أو في الإلقاء في النار، ليكون حسرة على من يعبدهما. وجاز (٢) تكرار القمر، لأنه أخبر عنه بغير الخبر الأول، ولم يقل: وجمعت؛ لأنّ تأنيث الشمس مجازيّ قاله المبرد. وقال أبو عبيدة: هو لتغليب المذكر على المؤنث. وقال الكسائيّ: حمل على معنى جمع النيران. وقال الزجاج والفرّاء: ولم يقل: جمعت؛ لأنّ المعنى: جمع بينهما في ذهاب نورهما. وقيل: جمع بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكورين مظلمين على ما رويَ عن ابن مسعود، وقد كان هذا مستحيلًا في الدنيا، كما جاء في قوله سبحانه: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ﴾. وقال عطاء بن يسار: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار الله الكبرى. وقيل: تجمع الشمس والقمر فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار. وقرأ ابن مسعود ﴿وجمع بين الشمس والقمر﴾.
١٠ - ﴿يَقُولُ الْإِنْسَانُ﴾ المنكر للقيامة، وهو العامل في ﴿إذا﴾. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ تقع هذه الأمور قول الآيس من حيث إنه لا يرى شيئًا من علامات ممكنة للفرار، كما يقول من أيس من وجدان زيد: أين زيد حيث لم يجد علامة إصابته. ﴿أَيْنَ الْمَفَرُّ﴾؛ أي: أين الفرار، والمفر مصدر بمعنى الفرار. قال الفرّاء: يجوز أن يكون موضع الفرار. قال الماوردي: ﴿أَيْنَ الْمَفَرُّ﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: أين المفر من الله سبحانه استحياء منه.
والثاني: أين المفر من جهنم حذرًا منهما.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿أَيْنَ الْمَفَرُّ﴾ بفتح الميم والفاء مصدرًا؛ أي: أين الفرار. وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب، والحسن بن زيد، وابن عباس، والحسن،
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
مِكَرٍّ مِفِرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعَا | كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ |
والمعنى (١): أي يقول الإنسان حينئذٍ لدهشته وحيرته: أين المفر من جهنم؟ وهل من ملجأ منها؟.
١١ - فأجيبوا حينئذ ﴿كَلَّا﴾ ردع لهم من طلب المفر وتمنيه. ﴿لَا وَزَرَ﴾؛ أي: لا جبل ولا حصن ولا ملجأ من الله سبحانه. وقال ابن جبير: لا محيص ولا منعة. والظاهر: أنّ قوله: ﴿كَلَّا لَا وَزَرَ (١١)﴾ من قول الله تعالى. وجوّز (٢) أن يكون من قول الإنسان لنفسه، وهو بعيد. وخبر ﴿لا﴾ محذوف؛ أي: لا ملجأ ثمة أو في الوجود. والوزر في اللغة: ما يلجأ إليه الإنسان من جبل أو حصن أو غيرهما، ومنه قول طرفة:
وَلَقَدْ تَعْلَمُ بَكْرٌ أنَّنَا | فَاضِلُوا الرَّأْي وَفِي الرَّوْعِ وَزَرْ |
لَعَمْرِيَ مَا لِلَفَتَى مِنْ وَزَرْ | مِنَ المَوْتِ يُدْرِكُهُ وَالكِبَرْ |
(٢) روح البيان.
والخلاصة: أي إلى ربك مرجعك في جنة أو نار، وأمر ذلك مفوض إلى مشيئته فمن شاء أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار.
١٣ - ثم ذكر أن مآله رهن بما عمل، فقال: ﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ﴾ أي (٢): يخبر كل امرىء برًّا كان أو فاجرًا عند وزن الأعمال وحال العرض والمحاسبة. والمخبر هو الله سبحانه أو الملك بامره أو كتابه بنشره. ﴿بِمَا قَدَّمَ﴾؛ أي: بما عمل من عمل خيرًا كان أو شرًّا، فيثاب بالأول، ويعاقب بالثاني. ﴿وَ﴾ بما ﴿أَخَّرَ﴾؛ أي: وبما لم يعمل خيرًا كان أو شرًّا، فيعاقب بالأول ويثاب بالثاني. أو بما قدم من حسنة أو سيّئة، وبما أخر من حسنة أو سيئة، فعمل بها بعده. أو بما قدم من مال تصدق به في حياته، وبما أخر فخلفه، أو وقفه أو أوصى به أو بأوَّل عمله وآخره.
والمعنى: أي يخبر الإنسان حين العرض والحساب ووزن الأعمال بجميع أعماله قديمها وحديثها أولها وآخرها صغيرها وكبيرها، كما قال: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.
قال القشيّري: وهذا الإنباء يكون يوم القيامة عند وزن الأعمال. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "سَبْع يَجْرِي أجْرها للعبد بعد موته وهو في قبره:
(٢) روح البيان.
١٤ - ثم بين أن أعظم شاهد على المرء نفسه، فهي نعم الشاهد عليه، فقال: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤)﴾ ﴿الْإِنْسَانُ﴾ مبتدأ، و ﴿بَصِيرَةٌ﴾ خبره، و ﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾ متعلق بـ ﴿بَصِيرَةٌ﴾ بتقدير على أعمال نفسه، والموصوف محذوف؛ أي: بل هو حجّةٌ بصيرة وبيّنة واضحة على أعمال نفسه، شاهدة جوارحه وأعضاؤه بما صدر عنه من الأفعال السيئة، كما يعرب عنه كلمة ﴿عَلَى﴾، وما سيأتي من الجملة الحالية. ووصفت الجوارح بالبصارة والشهادة مجازًا في الإسناد، كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً﴾. أو عين بصيرة أو ذو بصيرة أو التاء للمبالغة كما في علّامة ونسّابة؛ أي: بصير شاهد على أعمال نفسه. ومعنى ﴿بَلِ﴾ (١) هنا الترقي؛ أي: ينّبأ الإنسان بأعماله بل هو لا يحتاج إلى أن يخبره غيره، فإنه يومئذٍ عالم بتفاصيل أعماله وأحواله، شاهد على نفسه؛ لأنَّ جوارحه تنطق بذلك.
١٥ - وقوله: ﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥)﴾ حال (٢) من المستكن في ﴿بَصِيرَةٌ﴾ أو من مرفوع ﴿يُنَبَّأُ﴾؛ أي: هو بصيرة على نفسه تشهد عليه جوارحه، وتقبل شهادتها ولو جاء بكلّ معذرة يمكن أن يعتذر بها عن نفسه ويجادل عنها بأن يقول مثلًا: لم أفعل أو فعلت لأجل كذا، أو لم أعمل، أو وجد مانع أو كنت فقيرًا ذا عيال أو خفت فلانًا أو طمعت في عطائه إلى غير ذلك من المعاذير غير النافعة. أو ينبأ بأعماله، ولو اعتذر بكلّ عذر في الذبّ عنها، فإنّ الذبَّ والدفع لا رواج له يومئذٍ، لأنّه يوم ظهور الحق بحقيقته. والمعاذير اسم جمع للمعذرة كالمناكير اسم جمع للمنكر. وقيل: جمع معذار، وهو الستر بلغة أهل اليمن؛ أي: ولو أرخى ستوره. يعني: أن احتجابه واستتاره عن المخلوقات في حال مباشرة المعصية في الدنيا لا يغني عنه شيئًا؛ لأنَّ عليه من نفسه بصيرةً، ومن الحفظة شهودًا. وفي "الكشاف": لأنه يمنع
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): بل الإنسان حجة بينة على نفسه، فلا يحتاج إلى أن ينبئه غيره؛ لأنّ نفسه شاهدة على ما فعل، فسمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه شاهدة عليه، وسيحاسب عليه مهما أتى بالمعاذير، وجادل عنها كما قال سبحانه: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (١٤)﴾. وقال الفراء في الآية: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤)﴾، وأنشد:
كَأَنَّ عَلَى ذِيْ العَقْلِ عَيْنًا بَصِيْرَة | بِمَجْلِسِهِ أَوْ مَنْظَرٍ هُوَ نَاظِرُهْ |
يُحَاذِرُ حَتَّى يَحْسَبُ النَّاسَ كُلَّهُمْ | مِنَ الْخَوْفِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سَرَائِرُهُ |
١ - أن يحفظه له.
٢ - أن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه.
٣ - أن يبينه ويفسره له. وقد أشار إلى الأول بقوله: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ﴾؛ أي: بالقرآن ﴿لِسَانَكَ﴾ ما دام جبريل يقرأ ويلقي عليك ﴿لِتَعْجَلَ بِهِ﴾؛ أي: بأخذه؛ أي: لتأخذه على عجلة مخافة أن يتفلت.
١٧ - ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ﴾ في صدرك بحكم الوعد، بحيث لا يخفى عليك شيء من معانيه. ﴿وَقُرْآنَهُ﴾ بتقدير المضاف؛ أي: إثبات قراءته بلسانك بحيث تقرأه متى شئت. فالقرآن هنا مصدر بمعنى القراءة كالغفران بمعنى المغفرة مضاف إلى مفعوله. والقراءة ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، وليس يقال ذلك لكل جمع، لا يقال: قرأت القوم إذا جمعتهم. قال الواسطي: جمعه في السر، وقرآنه في العلانية.
والمعنى: أي لا تحرك أيها الرسول الكريم بالقرآن لسانك وشفتيك لتأخذه على عجلة مخافة أن يتفلت منك، فإن علينا أن نجمعه لك حتى نثبته في قلبك. وقد كان النبي - ﷺ - إذا نزل عليه الوحي يحرك به لسانه وشفتيه، فيشتد عليه ويعرف ذلك
١٨ - وأشار إلى الثاني بقوله: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ﴾؛ أي: أتممنا قراءته بلسان جبريل. وإسناد القراءة إلى نون العظمة للمبالغة في إيجاب التأني. ﴿فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾؛ أي: فاشرع فيه بعد فراغ جبريل منه بلا مهلة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: فإذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به.
والمعنى: أي فإذا تلاه عليك الملك فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك. وقد يكون المراد فإذا تلي عليك فأعمل بما فيه من شرائع وأحكام.
١٩ - وأشار إلى الثالث بقوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩)﴾؛ أي: بيان ما أشكل عليك من معانيه وأحكامه. وسفي ما يشرح المجمل والمبهم من الكلام بيانًا لكشفه عن المعنى المقصود إظهاره. وفي (١) ﴿ثم﴾ دليل على أنه يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة إلى العمل؛ لأنّه تكليف بما لا يطاق.
والمعنى: أي ثم إنا بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونلهمك معناه على ما أردنا وشرحنا.
وفي كتاب ابن عطية: وقرأ أبو العالية ﴿إنّ علينا جَمْعَه وقرتَه. فإذا قرته فاتبع قرته﴾ بفتح القاف والراء والتاء من غير همز ولا ألف في الثلاثة، ولم يتكلم على توجيه هذه القراءة الشاذة. ووجه اللفظ الأول: إنّه مصدر؛ أي: إنّ علينا جمعه وقراءته، فنقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة وحذفها، فبقي ﴿قرته﴾، كما ترى.
وأما الثاني فإنّه فعل ماض، أصله: فإذا قرأته؛ أي: أردت قراءته، فسكن الهمزة فصار قرأته ثم حذف الألف على جهة الشذوذ كما حذفت في قول العرب: ولو تر ما الصبيان يريدون، ولو ترى ما الصبيان، و (ما) زائدة. وأما اللفظ الثالث فتوجيهه توجيه اللفظ الأول؛ أي: فإذا قرأته؛ أي: أردت قراءته فاتبع قراءته بالدرس أو بالعمل.
وذكر أبو عبد الله الرازي في "تفسيره": أن جماعةً من قدماء الروافض زعموا أنَّ القرآن قد غيّر، وبدل، وزيد فيه، ونقص منه، وأنهم احتجوا بأنه لا مناسبة بين
٢٠ - ولما فرغ من خطابه - ﷺ - رجع إلى حال الإنسان السابق ذكره المنكر للبعث، وأنَّ همه إنما هو في تحصيل حطام الدنيا الفاني لا في تحصيل ثواب الآخرة الباقي؛ إذ هو منكر لذلك. فقال: ﴿كَلَّا﴾ ردع للإنسان السابق عن الاغترار بالعاجل. ﴿بَلْ تُحِبُّونَ﴾ أيها الناس ﴿الْعَاجِلَةَ﴾؛ أي: تحصيل حطام الدنيا العاجلة، وترغبون في جمعها.
٢١ - ﴿وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١)﴾؛ أي: وتتركون الاستعداد لها بالإيمان بالله ورسوله وبالإكثار من العبادات.
قرأ الجمهور (١): ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١)﴾ بتاء الخطاب لكفار قريش المنكرين للبعث، و ﴿كلا﴾ رد عليهم وعلى أقوالهم، أي ليس الأمر كما زعمتم وإنما أنتم قوم غلبت عليكم محبة شهوات الدنيا حتى تتركوا معه الآخرة، والنظر في أمرها. وقرأ مجاهد والحسن وقتادة والجحدري وابن كثير وأبو عمرو بياء الغيبة فيهما.
والمعنى: أي (٢) ليس الأمر كما تقولون أيها المشركون من أنكم لا تبعثون بعد مماتكم ولا تجازون باعمالكم، ولكن الذي دعاكم إلى قيل ذلك محبتكم للدنيا العاجلة وإيثاركم شهواتها على آجل الآخرة ونعيمها، فأنتم تؤمنون بالعاجلة وتكذّبون بالآجلة. قال قتادة: اختار أكثر الناس العاجلة إلا من رحم الله وعصم.
والخلاصة: أنكم يا بني آدم خلقتم من عجل، وطبعتم عليه متعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون العاجلة وتذرون الآخرة.
(٢) المراغي.
٢٣ - وقوله: ﴿إِلَى رَبِّهَا﴾ متعلق بقوله: ﴿نَاظِرَةٌ﴾ وهو خبر ثان للمبتدأ. والنظر: نقليب البصر، أو البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، والمراد بنظر الوجوه نظر العيون التي فيها بطريق ذكر المحل وإرادة الحال؛ أي: فوجوه المؤمنين المخلصين حين تقوم القيامة مضيئة مشرقة تشاهد عليها نضرة النعيم إلى ربها، ومالك أمرها، وخالقها ﴿نَاظِرَةٌ﴾؛ أي: تنظر إلى ربها عيانًا بلا حجاب. قال جمهور أهل العلم: المراد بذلك ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أنَّ العباد ينظرون إلى ربهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر. قال ابن كثير: وهذا بحمد الله مجمع عليه من الصحابة والتابعين، وسلف هذه الأمّة كما هو متفق عليه بين أئمّة الإِسلام وهداة الأنام اهـ. وروى البخاري في "صحيحه": "إنّكم سترون ربكم عيانًا". وروى الشيخان عن أبي سعيد وأبي هريرة "أنّ ناسًا قالوا يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال: "هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنّكم سترون ربكم كذلك". وروى ابن جرير عن مجاهد أنّه قال: إنَّ النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب. قال الأزهري: قد أخطأ مجاهد، لأنّه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى انتظر، فإنّ قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلَّا رؤية عين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا: نظرته. وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جدًّا اهـ. قال الشاعر:
فَإِنَّكُمَا إِنْ تَنْظُرَانِيَ سَاعَةً | مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدُبِ |
نَظَرْتُ إِلَيْهَا وَالنُّجُومُ كَأَنَّها | مَصَابِيْحُ رُهْبَانٍ تَشُبُّ لِفِعَالِ |
إِنّيْ إلَيْكَ لِمَا وَعَدْتَ لِنَاظِرٌ | نَظَرَ الْفَقِيْرِ إلَى الغَنِيِّ المُوسِرِ |
٢٥ - ﴿تَظُنُّ﴾؛ أي: تتوقيم أربابها بحسب الأمارات، والجملة خبر بعد خبر. ﴿أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾؛ أي: داهيية عظيمة تقصم فقار الظهر، ومنه: سمي (١) الفقير، فإنَّ الفقر: كسر فقار ظهره، فجعله فقيرًا؛ أي: مفقورًا. وهو كناية عن غاية الشدّة وعدم القدرة على التحمل، فهي تتوقع ذلك كما تتوقع الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير بناء على أنَّ قضية المقابلة بين الآيتين تقتضي ذلك. والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر سادّ مسدَّ مفعول ظن، كما سيأتي.
ورجح أبو حيَّان، والطيبيّ، تفسير الظن بمعنى اليقين، ولا ينافيه أن المصدرية كما توهم، فإنها إنّما لا تقع بعد فعل لتحقق الصرف، أما بعد فعل الظن، أو ما يؤدي معنى العلم فتجيء المصدرية والمشدّدة والمخففة، نص عليه الرضيّ.
والمعنى: أي ووجوه الكفار. تكون يوم القيامة عابسةً كالحةً مستيقنةً أنها ستصاب بداهيةٍ عظيمة تقصم فقار ظهرها وتهلكها. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُو﴾، وقوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (٤١) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)﴾.
٢٦ - ﴿كَلَّا﴾ ردع وزجر عن إيثار العاجلة على الآخرة؛ أي: ارتدعوا وانزجروا عن ذلك، وتنبهوا لما بين أيديكم من الموت الذي ينقطع عنده ما بينكم وبين العاجلة من العلاقة، فاقلعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة، فستنقطع الصلة بينكم وبينها، وتنتقلون إلى الدار الآخرة التي ستكونون فيها مخلدين أبدًا.
ثم استأنف ببيان الحال التي تفارق فيها الروح الجسد، فقال: ﴿إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾؛ أي: إذا بلغت الروح أعالي الصدر، وأشرفت النفس على الموت. قال دريد بن الصقة:
وَرُبَّ عَظِيْمَةٍ دَافَعْتُ عَنْهَا | وَقَدْ بَلَغَتْ نُفُوْسُهُمُ التَّرَاقِيْ |
(٢) روح البيان.
أَماوِيُّ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى | إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ |
والمعنى: أي إذا بلغت النفس الناطقة، وهي الروح الإنساني أعالي الصدر، وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال، فإذا بلغت إليها يكون وقت الغرغرة. والتراقي؛ جمع ترقوة بفتح التاء، والواو وسكون الراء، وضمّ القاف. قال في "القاموس": الترقوه ولا تضم تاؤه: العظم بين ثغرة النحر والعاتق انتهى. والعاتق موضع الرداء من المنكب. قال بعضهم: لكل أحد ترقوتان، ولكن جمع التراقي باعتبار الأفراد. وبلوغ النفس التراقي كناية عن عدم الإشفاء. والعامل في ﴿إِذَا بَلَغَتِ﴾ معنى قوله: ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (٣٠)﴾؛ أي: إذا بلغت النفس الحلقوم رفعت وسيقت إلى الله؛ أي: إلى موضع أمر الله أن ترفع إليه.
٢٧ - وقوله: ﴿وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (٢٧)﴾ معطوف على ﴿بَلَغَتِ﴾؛ أي: وقال أهله: من يرقيه ليشفيه مما نزل به. قال قتادة: التمسوا له الأطباء، فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئًا. وقال أبو قلابة: ومنه قول الشاعر:
هَلْ لِلْفَتَى مِنْ بَنَاتِ الْمَوْتِ مِنْ وَاقِي | أَمْ هَلْ لَهُ مِنْ حِمامٍ الْمَوْتِ مِنْ رَاقِي |
أي: (١) وقال من حضر صاحبها: من يرقيه وينجيه مما هو فيه من الرقية؟ وهو التعويذ بما به يحصل الشفاء، كما يقال: بسم الله أرقيك. وفعله من باب
وإِذا المَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا | أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ |
وقيل: هو من كلام ملائكة الموت، يقولون: أيكم يرقى بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ من الرقي بمعنى الصعود، وفعله من باب علم، وقولنا: ملائكة الرحمة لا يمانعه قوله الآتي: ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (٣١)﴾ الآيات؛ لأنّ الضمير فيه لجنس الإنسان فلا يتعين كون المحتضر من أهل النار. وقال الكلبيّ: يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة الرحمة وسبعة من ملائكة العذاب مع ملك الموت، فإذا بلغت نفس العبد التراقي نظر بعضهم إلى بعض أيهم يرقى بروحه إلى السماء؟،. فهو قوله: ﴿مَنْ رَاقٍ﴾. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنّ الملائكة يكرهون القرب من الكافر، فيقول ملك الموت: من يرقى بروح هذا الكافر.
٢٨ - ﴿وَظَنَّ﴾ معطوف أيضًا على ﴿بَلَغَتِ﴾؛ أي: وأيقن المحتضر الذي بلغت روحه التراقي حين عاين ملائكة الموت ﴿أَنَّهُ الْفِرَاقُ﴾؛ أي: أن ما نزل به هو الفراق من الدنيا المحبوبة ونعيمها التي ضيع العمر النفيس في كسب متاعها الخسيس. وعبر عما حصل له من المعرفة حينئذٍ بالظن؛ لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه، فإنه يطمع في الحياة لشدّة حبه لهذه الحياة العاجلة، ولا ينقطع رجاؤه عنها، فلا يحصل له يقين الموت بل ظنه الغالب على رجاء الحياة.
قال الإمام: هذه الآية تدل على أن الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد موت المعدن؛ لأنَّ الله تعالى سمى الموت فراقًا، والفراق إنما يكون إذا كانت الروح باقيةً، فإن الفراق والوصال صفة، وهي تستدعي وجود الموصوف. قال المزنيّ:
ولمَّا قَسَا قَلبِيْ وَضَاقَتْ مَذَاهِبِيْ | جَعَلتُ رَجَائِي نَحْوَ عَفْوِك سُلَّمَا |
تعاظَمَنِيْ ذَنْبِي فَلمَّا قَرَنْتُهُ | بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا |
فِرَاقٌ لَيْسَ يُشْبِهُهُ فِرَاقُ | قَدْ تَقْطَّعَ الرَّجَاءَ عَنِ التَّلَاقِ |
أَخُو الحَرْبِ إنْ عَضَّتْ بِهِ الحَرْبُ عَضَّها | وإِنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِها الحَرْبُ شَمَّرا |
أي: إلى الله، وإلى حكمه يساق الإنسان يومئذٍ، لا إلى غيره؛ أي: يساق إلى حيث لا حكم هناك إلا الله. فالمساق مصدر ميميّ بمعنى السوق، والألف واللام عوض عن المضاف إليه؛ أي: إلى ربك سوق الإنسان للمجازاة على عمله.
٣١ - والفاء في قوله: ﴿فَلَا صَدَّقَ﴾ عطفت (١) هذه الجملة على جملة قوله: ﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (٦)﴾ تعجيبًا من حال الإنسان الكافر. يعني: يسأل عن يوم القيامة فلا صدق، ولا صلى ولكن كذّب وتولى؛ أي: يسأل وما استعد له إلا بما يوجب دماره وهلاكه. وأما قوله: ﴿فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧)﴾ فجواب عن السؤال. وقوله: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ﴾ تخلص إلى ما استطرد من أحوال النبي - ﷺ - أقحم الجواب بين المعطوف والمعطوف عليه لشدّة الاهتمام به.
أي: فلا صدق الإنسان المذكور ما يجب تصديقه من الرسول، والقرآن الذي نزل عليه؛ أي: لم يصدق، فـ ﴿لا﴾ هاهنا بمعنى ﴿لم﴾، وإنما (٢) دخلت على الماضي لقوّة التكرار. يعني: حسن دخول ﴿لا﴾ على الماضي تكراره كما تقول: لا قام زيد ولا قعد، وقلما تقول العرب: لا وحدها حتى تتبعها بأخرى، تقول: لا زيد في الدار ولا عمرو، أو فلا صدق ماله بمعنى لا زكاه، فحيئنذٍ يطلب وجه لترجيح الزكاة على الصلاة مع أن دأب القرآن تقديم الصلاة على الزكاة، ولعل وجهه ما كان كفّار مكة عليه من منع المساكين وعدم الحضّ على طعامهم في وقت الضرورة القوية، وأيضًا في تأخير ﴿وَلَا صَلَّى﴾ مراعاة الفواصل، كما لا يخفى.
﴿وَلَا صَلَّى﴾ ما فرض عليه. وفيه دلالة على أنَّ الكفار مخاطبون بالفروع في حقّ المؤاخذة. يعني: أنَّ الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة كما يستحقها بترك الإيمان، وإن لم يجب أداؤها عليه في الدنيا.
٣٢ - ولما كان عدم التصديق يصدق بالشك والسكوت والتكذيب استدرك على عمومه، وبين أن المراد منه خصوص التكذيب، فقال: ﴿وَلَكِنْ كَذَّبَ﴾ ما ذكر من الرسول والقرآن. والاستدراك لدفع احتمال الشك، فإن نفي التصديق لا يستلزم
(٢) روح البيان.
والمعنى: أي فما صدق بالله ووحدانيته بل اتخذ الشركاء والأنداد وجحد كتبه التي أنزلها على أنبيائه، وما صلى وأدى فرائضه التي أوجبها عليه بل أعرض، وتولى عن الطاعة.
٣٣ - ﴿ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ﴾؛ أي: أهل بيته أو إلى أصحابه حال كونه ﴿يَتَمَطَّى﴾، أي: يتبختر ويختال في مشيته افتخارًا بذلك من المطّ، وهو المد، فإن المتبختر يمد خطاه. يعني: أن التمدد في المشي من لوازم التبختر، فجعل كناية عنه، فيكون أصله: يتمطط بمعنى يتمدد، أبدلت الطاء الأخيرة ياء كراهة اجتماع الأمثال، أو من المطا مقصورًا، وهو الظهر، فإنه يلويه ويحركه في تبختره، فألفه مبدلة من واو. و ﴿يَتَمَطَّى﴾ جملة حالية من فاعل ﴿ذَهَبَ﴾. وفي الحديث: "إذا مشت أمتي المطيطاء، وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم" والمطيطاء كحميراء: التبختر ومد اليدين في المشي، والبأس شدّة الحرب.
والمعنى؛ أي (١) ليته اقتصر على الإعراض، والتولي عن الطاعة بل هو قد ذهب إلى أهله جذلان فرحًا يمشي الخيلاء متبخترًا.
والخلاصة: أنَّ هذا الكافر كان في الدنيا مكذّبًا للحق بقلبه متولّيًا عن العمل بجوارحه، معجبًا بما فعل، فلا خير فيه لا باطنًا ولا ظاهرًا.
٣٤ - ثم هدده وتوعده، فقال: ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤)﴾؛ أي: ويل لك مرّةً بعد أخرى، وأهلكك الله هلاكًا أقرب لك من كل شر وهلاك.
ففي الكلام التفات (٢) عن الغيبة إلى الخطاب، فالكلمة الأولى اسم فعل ماض مبنيّة على السكون، والفاعل ضمير مستتر يعود على ما يفهم من السياق، وهو كون هذه الكلمة تستعمل في الدعاء بالمكروه، واللام للتبيين؛ أي؛ لتبيين المفعول، وهي في المعنى زائدة على حدّ سقيًا لك؛ أي: سقاك الله، والكاف مفعول به.
والمعنى: وليك ما تكرهه وقرب إليك، والكلمة الثانية اسم تفضيل، وهي
(٢) الجلالين مع حاشية الجمل بتصرف.
٣٥ - ثم كرر هذا الوعيد مبالغة في التهديد والوعيد، فقال: ﴿ثُمَّ أَوْلَى لَكَ﴾؛ أي: ثمّ بعد المرة الأولى وليك المكروه مرة ثانيةً. ﴿فَأَوْلَى﴾؛ أي: فهو أحق وأحرى بك من غيرك، فهو تهديد بعد تهديد ووعيد بعد وعيد. فالكلمة الأولى من الأخيرتين تأكيد للأول من الأوليين، والثانية للثانية. وهذا ما سلكه شارح "الجلالين" في تقرير هذا المقام، وانفرد به عن غيره من المفسرين، وهو حسن جدًّا اهـ شيخنا. والخلاصة: يتكرر عليك هذا الدعاء مرةً بعد أخرى فأنت جدير بهذا.
قال الواحديّ (١): قال المفسرون: أخذ رسول الله - ﷺ - بيد أبي جهل ثم قال: ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤)﴾، فقال أبو جهل: بأيّ شيء تهددني؟ لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئًا، وإنّي لأعز أهل هذا الوادي، فنزلت هذه الآية. وقيل معنى تكرار هذا اللفظ أربع مرّات: الويل لك حيًّا، والويل لك ميتًا، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار. وقيل: إنّ المعنى: إن الذمّ لك أولى لك من تركه، وقيل: غير ذلك مما يطول الكلام بذكره.
٣٦ - ثم أقام الدليل على البعث من وجهين:
١ - فقال: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ﴾؛ أي: أيظن الكافر ﴿أَنْ يُتْرَكَ﴾ ويحيا في الدنيا والآخرة حال كونه ﴿سُدًى﴾؛ أي: مهملًا عن التكاليف والمجازاة، فلا يكلّف في الدنيا، ولا يجزى في الآخرة.
٢ - وقيل: أن يترك في قبره فلا يبعث. والسدى: المهمل، والاستفهام للإنكار.
والمعنى (٢): أي لا يترك الإنسان في الدنيا مهملًا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره مهملًا لا يحاسب بل هو مأمور منهي محشور إلى ربه، فخالق الخلق لا يساوي الصالح المزكّي نفسه بصالح الأعمال والطالح المدسي نفسه باجتراح
(٢) المراغي.
٣٧ - وقوله: ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (٣٧)﴾ استئناف (١) وارد لإبطال الحسبان المذكور، فإنّ مداره.. لما كان استبعادهم للإعادة استدل على تحققها ببدء الخلق. وقال ابن الشيخ: هو استدلال على صحة البعث بدليل ثان والاستفهام للتوبيخ والنطفة بالضم: الماء الصافي قلَّ أو كثر. والمني: ماء الرجل والمرأة؛ أي: ما خلق منه حيوان، فالحبل لا يكون إلا من الماءين. وقوله: ﴿يُمْنَى﴾ بالياء صفة ﴿مَنِيٍّ﴾، وبالتاء صفة ﴿نُطْفَةً﴾ بمعنى يصب ويراق في الرحم. سميت منى كإلى وهي قرية بمكة لما يمنى فيها من دماء القرابين.
والمعنى: ألم يكن ذلك الإنسان ماء قليلًا - كائنًا من ماء معروف بخسَّة القدر واستقذار الطبع، ولذا نكرَّهما - يمنى ويصب في الرحم، نبه سبحانه بهذا على خسة قدر الإنسان أوَّلًا وكمال قدرته ثانيًا، حيث صيَّر مثل هذا الشيء الدنيء بشرًا سويًّا. وقال بعضهم: فائدة قوله: ﴿يُمْنَى﴾ للإشارة إلى حقارة حاله، كأنّه قيل: إنّه مخلوق من المنيّ الذي يجري على مخرج النجاسة، فكيف يليق بمثل هذا أن يتمرد عن طاعة الله فيما أمر به ونهى؟ إلَّا أنه تعالى عبر عن هذا المعنى على سبيل الرمز، كما في قوله تعالى في عيسى ومريم عليهما السلام: ﴿كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾، والمراد منه قضاء الحاجة كنايةً.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أَلَمْ يَكُ﴾ بياء الغيبة، والحسن بتاء الخطاب على سبيل الالتفات. وقرأ الجمهور "تمنى" بالتاء؛ أي: النطفة يمنيها الرجل. وقرأ ابن محيصن، والجحدري، وسلام، ويعقوب، وحفص، وأبو عمرو بخلاف عنه ﴿يُمْنَى﴾ بالياء؛ أي: يمنى المني.
٣٨ - ﴿ثُمَّ كَانَ﴾ المنيُّ بعد أربعين يومًا ﴿عَلَقَةً﴾؛ أي: قطعة دم جامد غليظ أحمر بقدرة الله تعالى بعدما كان ماء أبيض، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ وهو
(٢) البحر المحيط.
﴿فَسَوَّى﴾؛ أي: فعدَّله وكمل نشأته. وقال بعضهم: معنى التسوية والتعديل: جعل كل عضو من أعضائه الزوج معادلًا لزوجه.
٣٩ - ﴿فَجَعَلَ مِنْهُ﴾؛ أي: من الإنسان باعتبار الجنس أو من المنيّ. وجعل بمعنى خلق، ولذا اكتفى بمفعول واحد، وهو قوله: ﴿الزَّوْجَيْنِ﴾؛ أي: الصنفين من نوع الإنسان، وقد يجتمعان تارةً، وينفرد كل منهما عن الآخر تارةً، لا خصوص الفردين وإلاّ فقد تحمل المرأة بذكرين وأنثى أو بالعكس اهـ شيخنا. ثم بين ذلك بقوله: ﴿الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ بدل من الزوجين، ويجوز أن يكونا منصوبين بإضمار أعني. ولا يخفى (٢) أنَّ الفاء تفيد التعقيب، فلا بدّ من مغايرةٍ بين المتعاقبين، فلعل قوله: ﴿فَخَلَقَ فَسَوَّى﴾ محمول على مقدار مقدر من الخلق يصلح به للتفرقة بين الزوجين، وقوله: ﴿فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ﴾ على التفرقة الواقعة.
والمعنى (٣): أي أما كان هذا المنكر قدرة الله على إحيائه بعد مماته وإيجاده بعد فنائه نطفة في صلب أبيه ثم كان علقة ثم سواه بشرًا ناطقًا سميعًا بصيرًا ثم جعل منه أولادًا ذكورًا وإناثًا بإذنه وتقديره.
٤٠ - ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ﴾ العظيم الشأن الذي أنشأ هذا الإنشاء البديع ﴿بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾؛ أي: على أن يعيد الأجسام بالبعث كما كانت عليه في الدنيا، فإنَّ الإعادة أهون من الابتداء وأيسر مؤنة منه في قياس العقل لوجود المادة، وهو عجيب الذنب والعناصر الأصلية. والاستفهام في ﴿أَلَيْسَ﴾ للتقرير المضمن للتوبيخ لمنكر البعث.
وفي قراءة زيد بن عليّ ﴿الزوجان﴾ بالألف، وكأنه على لغة بني الحارث بن كعب ومن وافقهم من العرب من كون المثنى بالألف في جميع أحواله. وقرأ
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
والخلاصة: أي ليس الذي أنشأ هذا الخلق السويّ من هذه النطفة المذرة بقادر على أن يعيده كما بدأه، فذلك أهون من البدء في قياس العقل كما قال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾.
وقد جاء من عدّة طرق: أنّ النبي - ﷺ - كان إذا قرأ هذه الآية قال: "سبحانك اللهم وبلى". وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن مردويه، والحاكم وصحّحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من قرأ منكم ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١)﴾ وانتهى إلى آخرها ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (٨)﴾ فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١)﴾ فانتهى إلى ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ فليقل: بلى، ومن قرأ المرسلات فبلغ ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ فليقل: آمنا بالله".
الإعراب
﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (٣) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (٥) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (٦)﴾.
﴿لَا﴾ زائدة زيدت لتأكيد معنى القسم، ﴿أُقْسِمُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر، تقديره: أنا يعود على الله سبحانه، ﴿بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ متعلق بـ ﴿أُقْسِمُ﴾، وجملة القسم مستأنفة استئنافًا نحويًا، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَلَا أُقْسِمُ﴾ معطوف على الجملة السابقة، فهو نظيرها في الإعراب، وكرّر فعل القسم تنبيهًا على أن كلا من
﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، متعلق بالجواب الآتي وهو ﴿يَقُولُ﴾، ﴿بَرِقَ الْبَصَرُ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجرّ مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾، على كونها فعل شرط لها. ﴿وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨)﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿بَرِقَ الْبَصَرُ﴾. ﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩)﴾ فعل مغيّر، ونائب فاعل، معطوف عليه، ﴿يَقُولُ الْإِنْسَانُ﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ظرف مضاف لمثله، متعلّق بـ ﴿يَقُولُ﴾، والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة؛ أي: يوم إذ برق البصر إلخ. ﴿أَيْنَ﴾ اسم استفهام في محل النصب على الظرفية المكانية، مبنيّ على الفتح، والظرف متعلق بواجب الحذف لوقوعه خبرًا مقدّمًا، ﴿الْمَفَرُّ﴾ مبتدأ مؤخّر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُ﴾. ﴿كَلَّا﴾ حرف ردع وزجر عن طلب الفرار، ﴿لَا﴾ نافية للجنس، ﴿وَزَرَ﴾ في محل النصب اسمها، وخبرها محذوف؛ أي: موجود. والجملة مستأنفة. ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾ خبر مقدم، و ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ظرف أضيف إلى مثله، متعلق بفعل محذوف، دل عليه ﴿الْمُسْتَقَرُّ﴾، تقديره: يستقر الأمر، ويرجع إلى ربك يوم إذ كانت هذه الأمور المذكورة، ولا يجوز أن يتعلق بـ ﴿الْمُسْتَقَرُّ﴾؛ لأنّه إن كان مصدرًا فلتقدّمه، وإن كان مكانًا فلا عمل له ألبتة كما مرّ. ﴿الْمُسْتَقَرُّ﴾ مبتدأ مؤخّر، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ﴾ فعل مضارع مغيّر الصيغة، ﴿الْإِنْسَانُ﴾ نائب فاعل، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ظرف أضيف إلى مثله، متعلق بـ ﴿يُنَبَّأُ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿يُنَبَّأُ﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له، وجملة ﴿قَدَّمَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿وَأَخَّرَ﴾ معطوف على ﴿قَدَّمَ﴾، ﴿بَلِ﴾ حرف عطف وإضراب انتقاليّ، ﴿الْإِنْسَانُ﴾ مبتدأ، ﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾ متعلق بـ ﴿بَصِيرَةٌ﴾، و ﴿بَصِيرَةٌ﴾؛ أي: شاهد خبر المبتدأ،. والتاء فيه للمبالغة لا للتأنيث، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُنَبَّأُ﴾، ﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾ حالية، ﴿لو﴾ حرف شرط، ﴿أَلْقَى﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، ﴿مَعَاذِيرَهُ﴾ مفعول به، وجواب الشرط محذوف تقديره: ما قبلت منه، والجملة الشرطية في محل النصب حال من الضمير المستكن في ﴿بَصِيرَةٌ﴾، والتقدير: بل الإنسان شاهد على نفسه
﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩)﴾.
﴿لَا﴾ ناهية جازمة، ﴿تُحَرِّكْ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿تُحَرِّكْ﴾، ﴿لِسَانَكَ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، ﴿لِتَعْجَلَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جرّ وتعليل، ﴿تعجل﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة بعد لام التعليل، وفاعله ضمير يعود على محمد، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿تعجل﴾، والجملة الفعلية مع ﴿أن﴾ المضمرة في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل؛ أي: لعجلتك بأخذه، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تُحَرِّكْ﴾. ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، ﴿عَلَيْنَا﴾ خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾ ﴿جَمْعَهُ﴾ اسم إن مؤخر ﴿وَقُرْآنَهُ﴾ ومعطوف على ﴿جَمْعَهُ﴾ جملة ﴿إن﴾ جملة تعليليلة لا محل لها من الإعراب، سيقت لتعليل النهي عن العجلة. ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت النهي عن العجلة وأردت بيان ما هو الأصلح لك فأقول لك: إذا قرأناه. ﴿إذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿قُرْآنَهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها. ﴿فَاتَّبِعْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة، ﴿اتبع﴾ فعل أمر وفاعل مستتر، ﴿قُرْآنَهُ﴾ مفعول به، ومضاف إليه والجملة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف مع تراخ، ﴿إنَّ﴾ حرف نصب، ﴿عَلَيْنَا﴾ خبر ﴿أنَّ﴾ مقدم، ﴿بَيَانَهُ﴾ اسم ﴿إنَّ﴾ مؤخّر، وجملة ﴿إنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿إذا﴾.
﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (٢٥)﴾.
﴿كَلَّا﴾ حرف ردع، ﴿بَلْ﴾ حرف إضراب للإضراب الانتقالي، ﴿تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الإضرابية معطوفة على محذوف، تقديره: ليس الأمر كما تزعمون أيها المشركون بل تحبّون العاجلة. ﴿وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١)﴾ فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿تُحِبُّونَ﴾، ﴿وُجُوهٌ﴾ مبتدأ، وسوّغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض التفصيل، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ظرف مضاف لمثله، والتنوين عوض عن
﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (٣٠)﴾.
﴿كَلَّا﴾ حرف ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة، ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿بَلَغَتِ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير مستتر يعود على الروح، ﴿التَّرَاقِيَ﴾ مفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾ على كونها فِعْلَ شرط لها. ﴿وَقِيلَ﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، معطوف على ﴿بَلَغَتِ﴾، ﴿مَنْ رَاقٍ﴾ نائب فاعل، محكي لـ ﴿قيل﴾، وان شئت قلت: ﴿مَنْ﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿رَاقٍ﴾ خبر مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، والجملة الاسمية في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قيل﴾. ﴿وَظَنَّ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر يعود على المحتضر، ﴿أَنَّهُ الْفِرَاقُ﴾ ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي ﴿ظَنَّ﴾، وجملة ﴿ظَنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿بَلَغَتِ﴾. ﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ﴾ فعل وفاعل، معطوف أيضًا على ﴿بَلَغَتِ﴾، ﴿بِالسَّاقِ﴾ متعلق بـ ﴿الْتَفَّتْ﴾، وجواب ﴿إذا﴾ محذوف دل عليه قوله: ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (٣٠)﴾ تقديره: تساق النفس إلى حكم ربك يومئذٍ، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة. ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾ خبر مقدم، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ظرف متعلق بـ ﴿الْمَسَاقُ﴾، وهو ظرف مضاف إلى مثله، والتنوين عوض عن الجمل الأربع، تقديره: إذا بلغت الروح الحلقوم، وقيل من ﴿رَاقٍ﴾ وظن أنه الفراق، والتفت الساق بالساق تساق إلى حكم ربها.
{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (٣١) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلَى لَكَ
﴿فَلَا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿لا﴾ نافية، ﴿صَدَّقَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿الْإِنْسَانُ﴾، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ﴾، وقيل: معطوف على جملة ﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾. ﴿وَلَا صَلَّى﴾ معطوف على ﴿لَا صَدَّقَ﴾. ﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لكن﴾ حرف استدراك، ﴿كَذَّبَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْإِنْسَانُ﴾، والجملة معطوفة على قوله: ﴿فَلَا صَدَّقَ﴾. ﴿وَتَوَلَّى﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، معطوف على ﴿كَذَّبَ﴾، ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب مع تراخ، ﴿ذَهَبَ﴾ معطوف على ﴿كَذَّبَ﴾، ﴿إِلَى أَهْلِهِ﴾ متعلق بـ ﴿ذَهَبَ﴾، وجملة ﴿يَتَمَطَّى﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿ذَهَبَ﴾، ﴿أَوْلَى﴾ اسم فعل ماض بمعنى وليك المكروه، مبنى على السكون لشبهه بالحرف شبهًا استعماليًا، وفاعله ضمير يعود على ما يفهم من السياق، تقديره: وليك المكروه لك. ﴿لَكَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جرّ زائد للتبيين؛ أي: لتبيين المفعول به، والكاف: ضمير متصل في محل النصب مفعول به لاسم الفعل، وجملة اسم الفعل جملة دعائية لا محل لها من الإعراب. ﴿فَأَوْلَى﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿فَأَوْلَى﴾ اسم تفضيل من الولي بمعنى القرب خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهو؛ أي: المكروه أولى وأحرى، وأحقّ بك. والجملة الاسمية معطوفة على جملة اسم الفعل، ﴿ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٥)﴾ معطوف على قوله: ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤)﴾، والتكرير للتأكيد.
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (٣٧) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨)﴾.
﴿أَيَحْسَبُ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، ﴿يَحْسَبُ الْإِنْسَانُ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر، ﴿يُتْرَكَ﴾ فعل مضارع مغيّر الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿الْإِنْسَانُ﴾، ﴿سُدًى﴾ حال من الضمير في ﴿يُتْرَكَ﴾، وجملة ﴿أن﴾ المصدرية مع ما في حيّزها في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي ﴿يحسب﴾. ﴿أَلَمْ﴾ الهمزة للاستفهام التقريريّ، ﴿لم﴾ حرف جزم، ﴿يَكُ﴾ فعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿لم﴾، وعلامة جزمه السكون الظاهر على النون المحذوفة للتخفيف، واسم ﴿يكن﴾ ضمير يعود على ﴿الْإِنْسَانُ﴾. ﴿نُطْفَةً﴾ خبرها، ﴿مِنْ مَنِيٍّ﴾
﴿فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣٩) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (٤٠)﴾.
﴿فَجَعَلَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿جَعَلَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿مِنْهُ﴾ في موضع المفعول الثاني، ﴿الزَّوْجَيْنِ﴾ مفعول أوّل، ﴿الذَّكَرَ﴾ بدل من الزوجين، ﴿وَالْأُنْثَى﴾ معطوف على ﴿الذَّكَرَ﴾، وجملة ﴿جعل﴾ معطوف على جملة ﴿سوى﴾. ﴿أَلَيْسَ﴾ الهمزة للاستفهام التقريري، ﴿ليسَ﴾ فعل ماض ناقص، ﴿ذَلِكَ﴾ اسمها؛ أي: أليس ذلك الفعّال ما ذكر، ﴿بِقَادِرٍ﴾ خبرها، والباء زائدة في خبر ﴿لَيْسَ﴾، ﴿عَلَى أَنْ يُحْيِيَ﴾ متعلق ﴿بِقَادِرٍ﴾، وجملة ﴿ليس﴾ جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر، ﴿يُحْيِيَ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿الْمَوْتَى﴾ مفعول به، وجملة ﴿أن﴾ المصدرية مع ما في حيّزها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿عَلَى﴾، تقديره: على إحيائِهِ الموتى.
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١)﴾ والإقسام لغة: مطلق الحلف سواء كان بالخالق أو بالمخلوق أيًّا كان، وشرعًا: الحلف بالله تعالى سواء كان بالذات أو باسم من أسمائه أو صفة من صفات ذاته، يقال: أقسم بالله من باب أفعل، ولا يقال: قسم بالله من باب فعل. ﴿بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ القيامة فيه إعلال بالقلب، أصله: القوامة، قلبت الواو ياء لوقوعها إثر كسرة وقبل ألف. ﴿أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ﴾ والعظام: جمع عظم، وهو قصب الحيوان الذي عليه اللحم، ويجيء جمع عظيم أيضًا ككرام، وكريم وككبار وكبير، ومنه: الموالي العظام. ﴿بَلَى﴾ كلمة يجاب بها إذا كان الكلام منفيًّا، فالمراد بها هنا نعم نجمعها بعد تفرّقها. ﴿بَنَانَهُ﴾ والبنان مفرد اللفظ مجموع المعنى كالثمر،
﴿لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ الفجر: شق الشيء شقًّا واسعًا، والفجور: شق ستر الديانة. وقال بعضهم: الفجور الميل، فالكاذب والمكذّب والفاسق فاجر؛ أي: مائل عن الحق، كما مرّ. ﴿أَمَامَهُ﴾ الأمام في الأصل ظرف مكان استعير هنا للزمان فالمعنى: بل يريد الإنسان ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا يرعوي عنه. ﴿أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ أيّان ظرف زمان بمعنى متى، مركب من أيٍّ وآن؛ أي: أيّ آنٍ يوم القيامة. ﴿فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧)﴾ يقال: برق بكسر الراء: إذا فزع ودهش، وأصله من برِق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، ومنه قول ذي الرمة:
وَلَوْ أَنَّ لُقْمَانَ الحَكِيْمَ تَعرَّضَتْ | لِعَيْنَيْهِ ميٌّ سَافِرًا كاد يَبْرَقُ |
وَكُنْتُ أَرَى فِي وَجْهِ مَيَّةً لُمْحَةً | فَأَبْرَقُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ مَكانِيَا |
لَعَمْرُكَ مَا لِلفَتَى مِنْ وَزَرْ | مِنَ الْمَوْتِ يُدْرِكُهُ وَالْكِبَرْ |
وَرَتْ بِكَ عِيْدَانُ الْمَكَارِمِ كُلِّهَا | وَأَوْرَقَ عُوْدِيْ فِي ثَرَاكَ وَأَنْضَرَا |
﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩)﴾ الألف فيه منقلبة عن واو لظهورها في التصغير سويق، وجمعه على سيقان لا ينافي ذلك، فالياء منقلبة عن واو لسكونها إثر كسرة. ﴿وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (٢٧)﴾ اسم فاعل إما من رقي بالفتح في الماضي والكسر في المضارع من الرقية، وهو كلام معد للاستشفاء يرقى به المريض ليشفى. وفي الحديث: "وما أدراك أنها رقية" يعني: الفاتحة، وهي من أسمائها. وإما من رقي بالكسر في
﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى﴾ وأصل منيّ منيءٌ بوزن فعيل، أدغمت ياء فعيل في لام الكلمة. ﴿يُمْنَى﴾ أصله: يمني بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركا بعد فتح. ﴿فَسَوَّى﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: فسوي بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. والنطفة: الماء الصافي قل أو كثر، والمني: ماء الرجل والمرأة المختلط. فالحبل لا يكون إلا من الماءين، يمنى أي: يصب ويراق في الرحم، كما مرّ. والعلقة: قطعة دم جامد غليظ أحمر، سميت لتعلقه بما أصابه.
وقد تضمنت هذه السورة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع.
فمنها: فنّ التقسيم في قوله: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢)﴾، وسمّاه صاحب "المثل السائر" التناسب بين المعاني، لتناسب الأمرين المقسم بهما، فقد أقسم بيوم البعث أوّلًا ثمّ بالنفوس المجزية فيه على حقيّة البعث والجزاء، فسبحان المتكلم بهذا الكلام.
ومنها: الطباق بين ﴿قَدَّمَ﴾ و ﴿أَخَّرَ﴾ وبين ﴿صَدَّقَ﴾ و ﴿كَذَّبَ﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري لغرض التوبيخ في قوله: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (٣)﴾ ومثل قوله: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦)﴾؛ لأنَّ غايته التوبيخ والتقريع.
ومنها: زيادة اللام للتأكيد مثل قوله: ﴿وَأنصَحُ لَكُم﴾ في أنصحكم.
ومنها: استبعاد تحقق الأمر في قوله: ﴿يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (٦)﴾؛ لأن الغرض من الاستفهام الاستبعاد والإنكار.
ومنها: الجناس غير التام بين قوله: ﴿بَنَانَهُ﴾ وقوله: ﴿بَيَانَهُ﴾ لاختلاف بعض الحروف.
ومنها: المقابلة اللطيفة بين نضارة وجوه المؤمنين في قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢)﴾، وبين عبوسة وجوه المجرمين في قوله: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (٢٤)﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣)﴾، لأنّ المراد بنظر الوجوه نظر العيون التي فيها بطريق ذكر المحلّ وإرادة الحال.
ومنها: الطباق بين ﴿الْعَاجِلَةَ﴾، و ﴿الْآخِرَةَ﴾ في قوله: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١)﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (٢٥)﴾؛ أي: داهية عظيمة؛ لأنه كناية عن غاية الشدّة وعدم القدرة على التحمل، فهي تتوقّع ذلك كما تتوقّع الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير بناء على أنّ قضيّة المقابلة بين الآيتين تقتضي ذلك.
ومنها: الجناس الناقص بين لفظي ﴿السَّاقُ﴾ و ﴿الْمَسَاقُ﴾ ويسمّى أيضًا جناس التبديل، وهو الذي يوجد في إحدى كلمتيه حرف لا يوجد في الأخرى، وجميع حروف الأخرى يوجد في أختها على استقامتها، وهو ثلاثة أقسام: قسم تقع الزيادة منه أوّل الكلمة كزيادة الميم في ﴿الْمَسَاقُ﴾، وقسم تقع الزيادة وسط الكلمة كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨)﴾، وقسم تقع الزيادة منه في آخر الكلمة كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤)﴾؛ لأنّ فيه التفاتًا من الغيبة إلى الخطاب تقبيحًا له وتشنيعًا.
ومنها: التكرير للتأكيد في قوله: ﴿ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٥)﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه أعلم
* * *
١ - إقسامه سبحانه بأمرين: القيامة والنفس اللوامة.
٢ - ذكر القيامة وأهوالها وأحوالها.
٣ - اهتمام النبي - ﷺ - بضبط القرآن عند تلاوة جبريل عليه.
٤ - انقسام الناس في الآخرة إلى فريقين: سعداء وأشقياء. فالسعداء وجوههم ناضرة، والأشقياء وجوههم باسرة.
٥ - ذكر حال المرء عند الاحتضار، وما يلقاه في ذلك الوقت من الشدائد والدواهي.
٦ - إثبات الحشر والمعاد بالأدلّة والبراهين العقلية حيث قال: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (٣٧)...﴾ إلى آخر السورة (١).
والله أعلم
* * *
سورة الإنسان وتسمى (١) سورة هل أتى، وسورة الأمشاج، وسورة الدهر. نزلت بعد سورة الرحمن. وقال مقاتل والكلبي: وهي مكية. وأخرج النحاس عن ابن عباس أنها نزلت بمكة، وأخرج ابن مروديه عن ابن الزبير مثله. وقيل: فيها مكيّ من قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (٢٣)﴾ إلى آخر السورة، وما قبله مدنيٌ.
وآيها: إحدى وثلاثون آية. وكلماتها: مئتان وأربعون كلمة. وحروفها: ألف وأربعة وخمسون حرفًا.
ومناسبتها لما قبلها: أنه ذكر في السابقة الأهوال التي يلقاها الفجّار يوم القيامة، وذكر في هذه ما يلقاه الأبرار من النعيم المقيم في تلك الدار.
وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها (٢) ظاهرة جدًّا لا تحتاج إلى شرح انتهى.
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال محمد بن حزم في "الناسخ والمنسوخ": سورة الإنسان كلّها محكم إلّا آيتين:
إحداهما: قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (٢٤)﴾ نسخت بآية السيف.
والآية الثانية: قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (٢٩)﴾ نسخ التخيير بآية السيف.
سبب نزول هذه السورة: ما أخرجه الطبراني، وابن مردويه، وابن عساكر عن ابن عمر قال: جاء رجل من الحيشة إلى رسول الله - ﷺ - فقال له رسول الله - ﷺ -: "سل واستفهم، فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالألوان والصور والنبوة، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به، وعملت بما عملت به أني كائن معك في الجنة؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام، ثم قال:
(٢) المراغي.
وأخرج أحمد في الزهد عن محمد بن مطرف قال: حدثني الثقة: أن رجلًا أسود كان يسأل رسول الله - ﷺ - عن التسبيح والتهليل، فقال له عمر بن الخطاب: أكثرت على رسول الله - ﷺ -، فقال: مه يا عمر، وأنزلت على النبي - ﷺ - ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ حتى أتى على ذكر الجنة زفر الأسود زفرةً فخرجت نفسه، فقال النبي - ﷺ -: "مات شوقًا إلى الجنة". وأخرج نحوه ابن وهب عن ابن زيد مرفوعًا مرسلًا.
وأخرج أحمد، والترمذي وحسّنه، وابن ماجه وابن منيع، وأبو الشيخ في العظمة والحاكم، وصحّحه، والضياء عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ﴾ حتى ختمها، ثم قال: "إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفراش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عزّ وجل".
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (٣) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (٤) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (٥) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (٨) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (٩) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (١٠) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (١١) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (١٣) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (١٤) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (١٥) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (١٧) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (١٩) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (٢٠) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (٢١) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (٢٢) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (٢٦) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (٢٧) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (٢٨) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (٢٩) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٣١)﴾.المناسبة
أخبر سبحانه وتعالى أنّه قد جاء على الإنسان حين من الزمان لم يكن شيئًا يذكر، ويعرف، ثم ذكر أن أبناء آدم كانوا نطفًا في الأصلاب، ثم علقا، ثم مضغًا في الأرحام، ثم أوضح لهم السبيل، وبيّن لهم طريق الخير والشر، فمنهم الشاكر ومنهم الكفور.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآيات لما
قوله تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر طعام أهل الجنة ولباسهم أردفه بوصف مساكنهم ثم وصف شرابهم وأوانيه وسقاته، ثم أعاد الكلام مرّةً أخرى بذكر ما تفضل به عليهم من فاخر اللباس والحليّ، ثم ألمع إلى أن هذا كان جزاء لهم على ما عملوا، وما زكوا به أنفسهم من جميل الخصال وبديع الخلال.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (٢٣)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها، أنَّ الله سبحانه لمّا ذكر أحوال الآخرة، وبين عذاب الكفار على سبيل الاختصار، وثواب المطيعين على سبيل الاستقصاء إرشادًا لنا إلى أن جانب الرحمة مقدم على جانب العقاب.. أردف ذلك بذكر أحوال الدنيا، وقدم أحوال المطيعين وهم: الرسول - ﷺ - وأمته على أحوال المتمردين والمشركين. وقبل الخوض فيما يتعلق بالرسول من الأمر والنهي أمره بالصبر على ما يناله من أذى قومه إزالةً لوحشته وتقويةً لقلبه حتى يتم فراغ قلبه، ويشتغل بطاعة ربّه، وهو على أتمّ ما يكون سرورًا ونشاطًا.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (٨)﴾ سبب نزول هذه