تفسير سورة الكوثر

الدر المصون
تفسير سورة سورة الكوثر من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿أَعْطَيْنَاكَ﴾ : قرأ الحسن وابنُ محيصن وطلحة والزعفراني «اَنْطَيْناك» قال الرازيُّ والتبريزيُ: «أبدلَ من العين نوناً، فإنْ عَنَيا البدلَ الصناعيَّ فليس بمُسَلَّمٍ؛ لأنَّ كلاً من المادتَيْنِ مستقلةٌ بنفسِها بدليلِ كمال تَصْريفِهما، وإنْ عَنَيا بالبدلِ أنَّ هذه وقعَتْ موقعَ هذه لغةً فقريبٌ، ولا شك أنها لغةٌ ثابتةٌ. قال التبريزي:» هي لغةُ العربِ العاربةِ مِنْ أُوْلي قُرَيْشٍ «وفي الحديث عنه صلَّى الله عليه وسلَّم:» اليدُ العليا المُنْطِيَةُ، واليدُ السفلى المُنْطاة «وقال الشاعر - هو الأعشى-:
125
٤٦٥٨ - جِيادُك خيرُ جيادِ الملُوك تُصان الجِلالَ وتُنْطِي الشَّعيرا
والكَوْثر: فَوْعَل من الكَثْرَةِ، وصفُ مبالغةٍ في المُفْرِطِ الكثرةِ. قال الشاعر:
٤٦٥٩ - وأنت كثيرُ با بنَ مروانَ طَيِّبٌ وكان ابوكَ ابنَ العَقائلِ كَوْثَرا
وسُئِلَتْ أعرابيَّةٌ عن ابنها: بمَ آبَ ابْنُكِ؟ فقالت:» آب بكَوْثَرٍ «أي: بخيرٍ كثيرٍ.
126
قوله: ﴿وانحر﴾ : أمرٌ من النَّحْر وهو الإِبِلِ بمنزلة الذَّبْحِ في البقر والغنم. وقيل: اجعَلْ يديك عند نَحْرِك أو تحت نَحْرِك في الصلاة والشانِئُ: المُبْغِضُ. يُقال: شَنَأه يَشْنَؤُه، أي: أَبْغَضَه. وقد تقدَّم في المائدة.
قوله: ﴿هُوَ الأبتر﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ «هو» مبتدأً، و «الأبترُ» خبرُه والجملةُ خبرُ «إنَّ»، وأَنْ يكون فصلاً وقال أبو البقاء: «أو توكيدٌ» وهو غَلَطٌ منه لأنَّ المُظْهَرَ لا يُؤَكِّدُ بالمضمر. والأبترُ: الذي لا عَقِبَ له، وهو في الأصلِ الشيءُ المقطوع، مِنْ بَتَرَه،
126
أي: قطعه. وحمارٌ ابترُ: لا ذَنَبَ له. ورجلٌ أُباتِرٌ بضم الهمزة: قاطعُ رَحِمِه قال:
٤٦٦٠ - لَئيمٌ نَزَتْ في أَنْفِه خُنْزُوانَةٌ على قَطْعِ ذي القربى أَحَدُّ أُباتِرُ
وبَتِر هو بالكسرِ: انقطعَ ذَنَبُه.
وقرأ العامة «شانِئَك» بالألفِ اسمُ فاعل بمعنى الحالِ أو الاستقبالِ أو الماضي. وقرأ ابن عباس «شَنِئَك» بغيرِ ألفٍ. فقيل: يجوزُ أَنْ يكونَ بناءَ مبالغةٍ كفَعَّال ومِفْعال. وقد أثبته سيبويهِ، وأنشد:
٤٦٦١ - حَذِرٌ أُموراً لا تَضِيرُ وآمِنُ ما ليسَ مُنْجِيَه من الأقْدارِ
وقال زيد الخيل:
٤٦٦٢ - أتاني أنهم مَزِقون عِرْضي جِحاشٌ الكِرْمَلَيْنِ لها فَديدُ
فإنْ كانَ بمعنى الحالِ أو الاستقبالِ فإضافتُه لمفعولِه مِنْ نصبٍ.
127
وإن كان بمعنى المُضِيِّ فهي لا مِنْ نصبٍ. وقيل: يجوزُ أن يكونَ مقصوراً مِنْ فاعِل كقولِهم: «بَرُّ وبارٌّ، وبَرِدٌ وبارِدٌ.
قوله: ﴿فَصَلِّ﴾ الفاء للتعقيب والتسبيبِ، أي: تَسَبَّبَ عن هذه المِنَّةِ العظيمة وعَقَبها أَمْرُك بالتخَلِّي لعبادةِ المُنْعِمِ عليكَ وقَصْدِك إليه بالنَّحْرِ، لا كما تفعلُ قُرَيْشٌ مِنْ صَلاتِها ونَحْرِها لأصنامِها.
وقال أهل العلم: قد احتوَتْ هذه السورةُ، على كونِها أَقْصَرَ سورةٍ في القرآن، على معانٍ بليغةٍ وأساليبَ بديعةٍ وهي اثنان وعشرون. الأول: دلالةُ استهلالِ السورةِ على أنه إعطاءٌ كثيرٌ من كثير. الثاني: إسنادُ الفعل للمتكلم المعظِّم نفسَه. الثالث: إيرادُه بصيغةِ الماضي تحقيقاً لوقوعِه ك ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ [النحل: ١]. الرابع: تأكيدُ الجملةِ ب إنَّ. الخامس: بناءُ الفعلِ على الاسمِ ليُفيدَ الإِسنادَ مرتين. السادس: الإِتيانُ بصيغةٍ تَدُلُّ على مبالغةِ الكثرةِ. السابع: حَذْفُ الموصوفِ بالكَوْثَر؛ لأنَّ في حَذْفِه مِنْ فَرْطِ الشِّياعِ والإِبهامِ ما ليس في إثباتِه. الثامن: تعريفُه بأل الجنسيةِ الدالَّةِ على الاستغراق. التاسع: فاءُ التَّعْقيب، فإنَّها كما تقدَّم دالَّةٌ على التَّسْبيب، فإنَّ الإِنعامَ سببٌ للشُّكر والعبادةِ. العاشر: التَّعْريضُ بمَنْ كانَتْ صلاتُه ونَحْرُه لغيرِ اللَّهِ تعالى. الحادي عشر: أنَّ الأمرَ بالصَّلاةِ إشارةٌ إلى الأعمالِ الدينية التي الصلاةُ قِوامُها وأفضلُها، والأمرُ بالنَّحْرِ إشارةٌ إلى الأعمالِ البدنيةِ التي النَّحْرُ أَسْناها. الثاني عشر: حَذْفُ متعلَّقِ»
انحَرْ «إذ التقديرُ:
128
فَصَلِّ لربِّك وانْحَرْ له. الثالثَ عشرَ: مراعاةُ السَّجْعِ فإنَّه من صناعةِ البديعِ العاري عن التَّكلُّفِ. الرابعَ عشرَ قوله: ﴿رَبِّك﴾ في الإِتْيان بهذه الصفةِ دونَ سائرِ صفاتِه الحسنى دلالةُ على أنَّه هو المُصْلحُ له المُرَبِّي لنِعَمِه فلا تلتمِسْ كلَّ خيرٍ إلاَّ منه. الخامسَ عشرَ: الالتفاتُ من ضميرِ المتكلمِ إلى الغائب في قولِه:» لربِّك «السادسَ عشرَ: جَعْلُ الأمْرِ بتَرْكِ الاهتبالِ بشانِئيه للاستئناف، وجَعْلُه خاتمةً للإِعراضِ عن الشانىءِ، ولم يُسَمِّه ليشملَ كلَّ مَنْ اتَّصَفَ - والعياذُ بالله - بهذه الصفةِ القبيحة، وإن كان المرادُ به شخصاً مَعْنِيَّاً.
السابعَ عشرَ: التنبيُه بذِكْرِ هذه الصفةِ القبيحةِ على أنه لم يَتَّصِفْ إلاَّ بمجرَّدِ قيامِ الصفةِ به، مِنْ غير أَنْ يُؤَثِّرَ في مَنْ يَشْنَؤُه شيئاً البتةَ؛ لأنَّ مَنْ يَشْنَأُ شخصاً قد يُؤَثِّر فيه شَنَآنُه شيئاً. الثامنَ عشرَ: تأكيدُ الجملةِ ب «إنَّ»
المُؤْذِنَةِ بتأكيدِ الخبرِ، ولذلك يتلقى بها القسمُ، وتقديرُ القسمِ يَصْلُح هنا، التاسعَ عشرَ: الإِتيانُ بضميرِ الفَصْلِ المؤْذِنِ بالاختصاصِ والتأكيدِ إنْ جَعَلْنا «هو» فصلاً، وإنْ جَعَلْناه مبتدأً فكذلك يُفيد التأكيدَ إذ يصيرُ الإِسنادُ مَرَّتَيْن العشرون: تعريفُ الأبترِ ب أل المُؤْذِنَةِ بالخصوصيَّةِ بهذه الصفةِ، كأنه قيل: الكامِلُ في هذه الصفةِ الحادي والعشرون: الإِتيانُ بصيغة أَفْعَل الدالَّةِ على التناهي في هذه الصفةِ. الثاني والعشرون: إقبالُه على رسولِه عليه السلام بالخطاب مِنْ أول السورةِ إلى آخرها.
129
Icon