تفسير سورة هود

الصحيح المسبور
تفسير سورة سورة هود من كتاب الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور المعروف بـالصحيح المسبور .
لمؤلفه حكمت بشير ياسين .

سورة هود
قوله تعالى (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)، أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بعلمه، فبين حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (ثم فصلت) قال: فسرت.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (من لدن حكيم خبير) يقول: من عند حكيم خبير.
قوله تعالى (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ)
قال ابن كثير: (ألا تعبدوا إلا الله) أي نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له كقوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) وقال (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) وقوله (إنني لكم منه نذير وبشير) أي إني لكم نذير من العذاب إن خالفتموه، وبشر بالثواب إن أطعتموه كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صعد الصفا فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب فاجتمعوا فقال: "يا معشر قريش أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تصبحكم ألستم مصدقي؟ " فقالوا: ما جربنا عليك كذبا قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". ا. هـ.
(صحيح البخاري- ك الإيمان، ب ما جاء إن الأعمال بالنيات)، (وصحيح مسلم- ك الوصية، ب الوصية بالثلث).
قال الشيخ الشنقيطي: هذه الآية فيها الدلالة الواضحة على أن الحكمة العظمى التي أنزل القرآن من أجلها هي: أن يعبد الله جل وعلا وحده، ولا يشرك به في عبادته شئ، لأن قوله جل وعلا: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله) الآية- صريح في أن آيات هذا الكتاب فصلت من عند الحكيم الخبير لأجل أن يعبد الله وحده، سواء قلنا إن (أن) هي المفسرة أو أن المصدر المنسبك منها ومن صلتها مفعول من أجله، لأن ضابط (أن) المفسرة أن يكون ما قبلها متضمنا معنى القول، ولا يكون فيه حروف القول.
قوله تعالى (النبي لكم منه نذير وبشير)
انظر حديث ابن عباس الآتي عند الآية (٢١٤) من سورة الشعراء.
قوله تعالى (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير)
قال الشيخ الشنقيطي: هذه الآية الكريمة تدل على أن الأستغفار والتوبة إلى الله تعالى من الذنوب سبب لأن يمتع الله من فعل ذلك متاعا حسنا إلى أجل مسمى؛ لأنه رتب ذلك على الأستغفار والتوبة ترتيب الجزاء على شرطه. والظاهر أن المراد بالمتاع الحسن، سعة الرزق، ورغد العيش، والعافية في الدنيا، وأن المراد بالأجل المسمى: الموت، ويدل لذلك قوله تعالى في هذه السورة الكريمة عن نبيه هود عليه الصلاة والسلام: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم) وقوله تعالى عن نوح: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا).
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا غندر عن شعبة، عن عمرو ابن مرة، عن أبي بردة. قال: سمعت الأغرّ، وكان من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
يُحدث ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "يا أيها الناس! توبوا إلى الله. فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة".
(صحيح مسلم ٤/٢٠٧٥-٢٠٧٦- ك الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، ب استحباب الاستغفار والاستكثار منه).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى)، فأنتم في ذلك المتاع، فخذوا بطاعة الله ومعرفة حقه، فإن الله منعم يحب الشاكرين، وأهل الشكر في مزيد من الله. وذلك قضاؤه الذي قضى.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (إلى أجل مسمى) قال: الموت.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (ويؤت كل ذي فضل فضله)، قال: ما احتسب به من ماله أو عمل بيده أو رجله أو كلمة، أو ما تطوع به من أمره كله.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ويؤت كل ذي فضل فضله) أي: في الآخرة.
قوله تعالى (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور)
قال الشيخ الشنقيطي: يبين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يخفى عليه شئ، وأن السر كالعلانية عنده، فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر وما يعلن وما يسر، والآيات المبينة لهذا كثيرة جدا، كقوله: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وقوله جل وعلا: (واعلموا أن يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) وقوله: (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين)، وقوله: (وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء) الآية.
قال البخاري: حدثنا الحسنُ بن محمد بن صباح حدثنا حجّاج قال: قال ابن جريج: أخبرني محمد بن عباد بن جعفر أنه سمعَ ابن عباس يَقرأ (ألا إنهم تثنوني صدورُهم) قال سألته عنها فقال: أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضون إلى السماء، فنزل ذلك فيهم.
(صحيح البخاري ٨/٣٤٩- ك التفسير- سورة هود، ب (الآية) ح ٤٦٨١).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ألا حين يستغشون ثيابهم) يقول: يغطون رؤوسهم.
قوله تعالى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ويعلم مستقرها) يقول: حيث تأوي (ومستودعها) يقول: إذا مات.
قوله تعالى (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)
قال الشيخ الشنقيطي: صرح في هذه الآية الكريمة أنه خلق السماوات والأرض لحكمة ابتلاء الخلق، ولم يخلقهما عبثا ولا باطلا. ونزه نفسه تعالى عن ذلك، وصرح بأن من ظن ذلك فهو من الذين كفروا وهددهم بالنار، قال تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للكافرين من النار) وقال تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم) وقال: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون)، وقال: (الذي خلق الموت والحياة ليلوكم أيكم أحسن عملاً) إلى غير ذلك من الآيات. وانظر سورة فصلت آية (١٢) لبيان الستة أيام.
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدَّثَنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "قال الله عز وجل: أنفِق أنفق عليك.
وقال: يدُ الله مَلأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار. وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفِض ويرفع".
(صحيح البخاري ٨/٢٠٢- ك التفسير- سورة هود، ب (الآية) ح ٤٦٨٤)، وأخرجه مسلم في (صحيحه ٢/٦٩١ ح ٣٧- ك الزكاة، ب الحث على النفقة).
قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا جامع بن شداد عن صفوان بن محرز أنه حدثه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: دخلت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعقلت ناقتي بالباب. فأتاه ناس من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا: قد بشرتنا فأعطنا (مرتين). ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن أن لم يقبلها بنو تميم.
قالوا: قد قبلنا يا رسول الله. قالوا: جئنا نسألك عن هذا الأمر. قال: كان الله ولم يكن شيء غيره. وكان عرشه على الماء. وكتب في الذكر كل شيء.
وخلق السموات والأرض. فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا ابن الحصين. فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب. فوالله لوددت أني كنت تركتها.
(الصحيح ٦/٣٣٠-٣٣١ ح ٣١٩١- ك بدء الخلق، ب ما جاء في قوله تعالى (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده... )).
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (وكان عرشه على الماء) قبل أن يخلق شيئاً.
قوله تعالى (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)
قال الطبري حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا الثوري عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) قال: إلى أجل محدود.
وسنده حسن.
وانظر سورة الأنعام آية (١٠) قول السدي، فحاق: وقع..
قوله تعالى (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ)
انظر سورة فصلت آية (٥٠)، وسورة الشورى آية (٤٨)، وانظر سورة البقرة آية (١٧٧) لبيان: ضراء.
قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)
انظر سورة العصر آية (٢-٣).
قوله تعالى (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)
قال ابن كثير: يقول تعالى مسليا لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عما كان يتعنت به المشركون فيما كانوا يقولونه عن الرسول كما أخبر تعالى عنهم في قوله: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) فأمر الله تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه وأرشده إلى أن لا يضيق بذلك منهم صدره ولا يهيدنه ذلك ولا يثنية عن دعائهم إلى الله عز وجل آناء الليل وأطراف النهار كما قال تعالى (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) الآية.
انظر حديث ابن عباس الآتي عند الآية (٢١٤) من سورة الشعراء وهو حديث: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد".
قوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
انظر سورة البقرة آية (٢٣) وسورة يونس آية (٣٨).
قوله تعالى (فهل أنتم مسلمون)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (فهل أنتم مسلمون) قال: لأصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
هذه الآية مطلقة وقد قيدتها آية أخرى كما في قوله تعالى (من كان يريد العاجلة عجلنا فيها ما نشاء لمن نريد) الإسراء آية: ١٨، فقيد الأمر في هذه الآية تقييدين:
أحدهما: تقييد المعجل بمشيئته تعالى.
والثاني: تقييد المعجل له. بإرادته تعالى.
قال الدارمي: أخبرنا عصمة بن الفضل، ثنا حرمي بن عمارة، عن شعبة، عن عَمْرو بن سليمان، عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان، عن أبيه قال: خرج زيد بن ثابت من عند مروان بن الحكم بنصف النهار، قال: فقلت ما خرج هذه الساعة من عند مروان إلا وقد سأله عن شيء فأتيته فسألته، قال: نعم سألني عن حديث سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "نضّر الله امرا سمع منا حديثا فحفظه، فأداه إلى من هو أحفظ منه، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. لا يعتقد قلب مسلم على ثلاث خصال إلا دخل الجنة". قال: قلت: ما هي؟ قال: "إخلاص العمل، والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم. ومن كانت الآخرة نيته جعل الله غناه في قلبه،
وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا نيته فرق الله عليه شمله، وجعل فَرَقَهُ بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له".
(السنن ١/٧٥- المقدمة، ب الاقتداء بالعلماء ح ٢٣٣)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان ٢/٤٥٤-٤٥٥) من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة به. وقال محققه: إسناده صحيح.
وانظر تفسير سورة طه آية (١٣٢) في حديث عثمان بن عفان ففيه المزيد من تصحيح النقاد لهذا الحديث.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس بن مالك في قوله (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) قال: نزلت في اليهود والنصارى.
(التفسير- سورة هود/١٥ ح ١٥٦)، وأخرجه الطبري (التفسير ١٥/٢٦٥ ح ٢٣-١٨) من طريق همام عن قتادة به. وصحح إسناده محقق ابن أبي حاتم).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون)، أي: لا يظلمون.
يقول: من كانت الدنيا همه وسدمه، وطلبته ونيته، جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضى إلى الآخرة، وليس له حسنة يعطى بها جزاء. وأما المؤمن، فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة (وهم فيها لا يبخسون)، أي في الآخرة لا يظلمون.
قوله تعالى (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (أفمن كان على بينة من ربه) وهو محمد، كان على بينة من ربه.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، عن الحسن البصري قوله: (ويتلوه شاهد منه)، قال: لسانه.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (ويتلوه شاهد منه)، قال: معه حافظ من الله ملك.
قال الطبري: وأولى هذه الأقوال في تأويل قوله (ويتلوه شاهد منه) قول من قال: "هو جبريل"، لدلالة قوله (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة) على صحة ذلك. وذلك أن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتل قبل القرآن كتاب موسى، فيكون ذلك دليلا على صحة قول من قال: "عنى به لسان محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو: محمد نفسه، أو: "علي"، على قول من قال: "عنى به علي" ولا يعلم أن أحدا كان تلا ذلك قبل القرآن أو جاء به.
قوله تعالى (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده)
قال الشيخ الشنقيطي: صرح تعالى في هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن لا يكفر به أحد كائنا من كان إلا دخل النار. وهو صريح في عموم رسالة نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى جميع الخلق، والآيات الدالة على ذلك كثيرة، كقوله تعالى: (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) وقوله: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا)، وقوله: (وما أرسلناك إلا كافة للناس) الآية. وقوله (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) الآية.
قال الحاكم: أخبرني محمد بن علي الصنعاني بمكة ثنا علي بن المبارك الصنعاني ثنا زيد بن المبارك الصنعاني عن عبد الرزاق عن معمر عن أبي عَمْرو البصري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ولا يؤمن بي إلا دخل النار فجعلت أقول أين تصديقها في كتاب الله؟ حتى وجدت هذه الآية (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) قال: الأحزاب الملل كلها.
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (المستدرك ٢/٣٤٢- ك التفسير- سورة هود. صححه الذهبي)، وأخرجه مسلم بدون ذكر الآية بنحوه (الصحيح- الإيمان، ب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ١/١٣٤ ح ٢٤٠).
47
قوله تعالى (فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك)
قال الشيخ الشنقيطي: نهى الله وعلا في هذه الآية الكريمة عن الشك عن هذا القرآن العظيم وصرح أنه الحق من الله. والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة جدا كقوله (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه) الآية وقوله: (الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) وغير ذلك من الآيات. والمرية: الشك.
قوله تعالى (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)
قال الشيخ الشنقيطي: صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن أكثر الناس لا يؤمنون، وبين ذلك أيضاً في مواضع كثيرة، كقوله (وما أكثر الناس لو حرصت بمؤمنين) وقوله (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك)، وقوله (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين) وقوله (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم..)
قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يزيد بن زُريع، حدثنا سعيد وهشام قالا: حدثنا قتادة عن صفوان بن محرز قال "بينا ابن عمر يطوف إذ عرض رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن -أو قال يا ابن عمر- هل سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النجوى؟ فقال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "يُدنى المؤمن من ربه". وقال هشام: يدنو المؤمن حتى يضع عليه كنفه فيُقرره بذنوبه: تعرف ذنب كذا؟ يقول: أعرف، يقول ربِّ أعرف (مرتين) فيقول سترتها في الدنيا، وأغفرها لك اليوم. ثم تطوى صحيفة حَسناته. وأما الآخرون -أو الكفار- فينادى على رءوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم". وقال شيبان عن قتادة: حدثنا صفوان.
(صحيح البخاري ٨/٢٠٤- ك التفسير- سورة هود- ب (الآية) ح ٤٦٨٥). وأخرجه مسلم في (صحيحه- ك التوبة، ب قبول توبة القاتل ٤/٢١٢٠ ح ٢٧٦٩).
وانظر حديث مسلم الآتي عند الآية (٢٣) من سورة سبأ.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قال: (الأشهاد) الملائكة.
48
قوله تعالى (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون)
أنظر سورة الأعراف آية (٨٦) وانظر قول الشيخ الشنقيطي في الآية التالية.
قوله تعالى (أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ)
قال ابن كثير: (أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء) أي بل كانوا تحت قهره وغلبته وفي قبضته وسلطانه وهو قادر على الانتقام منهم في الدار الدنيا قبل الآخرة لكن يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار وفي الصحيحين: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخده لم يفلته".
قوله تعالى (يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ)
قال الشيخ الشنقيطي: بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الكفار الذين يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجا، يضاعف لهم العذاب يوم القيامة، لأنهم يعذبون على ضلالهم، ويعذبون أيضاً على إضلالهم غيرهم، كما أوضحه تعالى بقوله: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون). وبين في موضع آخر أن العذاب يضاعف للأتباع والمتبوعين، وهو قوله: (حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفا من النار قال لكل ضعف) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون)، صم عن الحق فما يسمعونه، بُكم فما ينطقون، عمي فلا يبصرونه ولا ينتفعون به.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك، وبين طاعته في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا، فإنه قال: (ما كانوا يستطيعون السمع)، وهي طاعته (وما كانوا يبصرون) وأما في الآخرة، فإنه قال: (فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم) سورة القلم: ٤٢-٤٣.
قوله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)
قال ابن كثير: أي خسروا أنفسهم لأنهم أدخلوا ناراً حامية فهم معذبون فيها لا يفتر عنهم من عذابها طرفة عين كما قال تعالى (كلما خبت زدناهم سعيرا) (وضلّ عنهم) أي ذهب عنهم (ما كانوا يفترون) من دون الله من الأنداد والأصنام فلم تجد عنهم شيئاً بل ضرتهم كل الضرر كما قال تعالى: (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين).
قوله تعالى (لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون)
انظر سورة النحل آية (٦٢) لبيان (لا جرم) أي: بلى.
قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (وأخبتوا إلى ربهم) يقول: خافوا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وأخبتوا إلى ربهم) الإخبات: التخشع والتواضع.
قوله تعالى (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع)
قال الشيخ الشنقيطي: ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة المثل للكافر بالأعمى والأصم، وضرب المثل للمؤمن بالسميع والبصير، وبين أنهما لا يستويان ولا يستوي الأعمى والبصير، ولا يستوي الأصم والسميع، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة: قوله: (وما يستوي الأعمي ولا البصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع) الآية، هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن. فأما الكافر فصم عن الحق فلا يسمعه، وعمي عنه فلا يبصره. وأما المؤمن فسمع الحق فانتفع به، وأبصره فوعاه وحفظه وعمل به.
قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (٢٧) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (٢٨) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ)
في هذه الآيات قصة نوح مع قومه وقد تقدم طرف منها في سورة الأعراف آية (٥٩-٦٤) وانظر سورة الشعراء آية (١٠٥-١١٧).
انظر حديث مسلم عن أنس المتقدم تحت الآية (٥٩) من سورة الأعراف وهو حديث الشفاعة الطويل، وفيه: "ولكن ائتوا نوحاً أول رسول بعثه الله... ".
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الملأ من قوم نوح قالوا له: ما نراك اتبعك منا إلا الأسافل والأراذل. وذكر في سورة الشعراء، أن اتباع الأراذل له في زعمهم مانع لهم من اتباعه بقوله: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون). وبين في هذه السورة الكريمة: أن نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أبى أن يطرد أولئك المؤمنين الذين اتبعوه بقوله: (وما أنا بطارد الذين
51
آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله أن طردتهم) الآية. وذكر تعالى عنه ذلك في الشعراء أيضاً بقوله: (إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون. وما أنا بطارد المؤمنين).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (أرأيتم إن كنت على بينة من ربي)، الآية، أما والله لو استطاع نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لألزمها قومه، ولكن لم يستطع ذلك ولم يملكه.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (جادلتنا) قال: ماريتنا.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (فلا تبتئس) قال: لا تحزن.
قوله تعالى (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ... )
في هذه الآيات قصة نوح والسفينة وابنه وقد وردت في سورة الشعراء آية (١١٨-١٢٠)، وسورة القمر آية (٩-١٧).
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه أوحى إلى نوح لما استعجل قومه نقمة الله بهم وعذابه لهم فدعا عليهم نوح دعوته التي قال الله تعالى مخبراً عنه أنه قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر) فعند ذلك أوحى الله تعالى إليه (أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) فلا تحزن عليهم ولا يهمنك أمرهم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (الفلك)، السفينة.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (ووحينا)، قال: كما نأمرك.
52
قوله تعالى (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)
قال ابن كثير: هذه مواعدة من الله تعالى لنوح عليه السلام إذا جاء أمر الله من الأمطار المتتابعة والهتان الذي لا يقلع ولا يفتر، بل هو كما قال تعالى: (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر).
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وفار التنور)، قال: انبجس الماء منه، آية، أن يركب بأهله ومن معه في السفينة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وفار التنور)، قال: نبع.
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أمر نبيه نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: أن يحمل في سفينته من كل زوجين اثنين، وبين في سورة قد أفلح المؤمنون: أنه أمره أن يسلكهم فيها أي يدخلهم فيها.
فدل ذلك على أن فيها بيوتا يدخل فيها الراكبون، وذلك في قوله: (فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين) ومعنى (اسلك) أدخل فيها من كل زوجين اثنين؛ تقول العرب: سلكت الشئ في الشئ: أدخلته فيه.
وفيه لغة أخرى أسلكته فيه، رباعيا بوزن أفعل، والثلاثية لغة القرآن؛ كقوله: (فاسلك فيها من كل زوجين) الآية. وقوله: (اسلك يدك في جيبك) الآية. وقوله: (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) الآية. وقوله: (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) وقوله (ما سلككم في سقر) الآية.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (من كل زوجين اثنين)، قال: ذكر وأنثى، من كل صنف.
53
قوله تعالى (وأهلك إلا من سبق عليه القول)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه أمر نوحاً أن يحمل في السفينة أهله إلا من سبق عليه القول، أي سبق عليه من الله القول بأنه شقى، وأنه هالك مع الكافرين. ولم يبين هنا من سبق عليه القول منهم، ولكنه بين بعد هذا أن الذي سبق عليه القول من أهله هو ابنه وامرأته. قال في ابنه الذي سبق عليه القول: (ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) -إلى قوله- (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) وقال فيه أيضاً: (قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) الآية. وقال في امرأته: (وضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح -إلى قوله- مع الداخلين).
قوله تعالى (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (٤٢) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: بسم الله حين يركبون ويجرون ويرسون.
قال ابن كثير: يقول تعالى إخباراً عن نوح عليه السلام أنه قال للذين أمر بحملهم معه في السفينة (اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها) أي بسم الله يكون جريها على وجه الماء، وبسم الله يكون منتهى سرها وهو رسوّها... وقال الله تعالى: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنزلني منزلاً مباركا وأنت خير المنزلين) ولهذا تستحب التسمية في ابتداء الأمور عند الركوب على السفينة وعلى الدابة كما قال تعالى: (والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره) الآية، وجاءت السنة بالحث على ذلك والندب إليه كما سيأتي في سورة الزخرف.
54
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة: أن السفينة تجري بنوح ومن معه في ماء عظيم، أمواجه كالجبال، وبين جريانها هذا في ذلك الماء الهائل في مواضع أخر كقوله: (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية) وقوله: (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر).
قوله تعالى (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يا سماء أقعلي) يقول أمسكي (وغيض الماء)، يقول: ذهب الماء.
قوله تعالى (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (٤٥) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: كنت عند الحسن فقال (ونادى نوح ابنه) لعمر الله ما هو ابنه قال قلت: يا أبا سعيد، يقول: (ونادى نوح ابنه) وتقول: ليس بابنه قال: أفرأيت قوله: (إنه ليس من أهلك) ؟ قال: قلت إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك، ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه. قال: إن أهل الكتاب يكذبون.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (قال يا نوح إنه ليس من أهلك) يقول: ليس ممن وعدناه النجاة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إنه عمل غير صالح) يقول: سؤالك عما ليس لك به علم.
قوله تعالى (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)
قال الطبري حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، أخبرنا عبد الله بن شوذب قال سمعت داود بن أبي هند يحدث، عن الحسن: أنه أتي على هذه الآية: (اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) قال. فكان ذلك حين بعث الله عادا، فأرسل إليهم هودا، فصدقه مصدقون، وكذبه مكذبون، حتى جاء أمر الله. فلما جاء أمر الله، نجى الله هودا والذين آمنوا معه وأهلك الله المتمتعين. ثم بعث الله ثمود، فبعث إليهم صالحاً، فصدقه مصدقون، وكذبه مكذبون، حتى جاء أمر الله. فلما جاء أمر الله نجى الله صالحاً والذين آمنوا معه، وأهلك الله المتمتعين. ثم استقرأ الأنبياء نبيا نبيا، على نحو من هذا.
وسنده حسن.
قوله تعالى (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) القرآن، وما كان علم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقومه ما صنع نوح وقومه، لولا ما بين الله له في كتابه.
قوله تعالى (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (٥٠) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ)
في هذه الآيات قصة عاد مع قومه هود وقد تقدم طرف منها في سورة الأعراف آية (٦٥-٧٢).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إن أجري إلا على الذي فطرني) أي: خلقني.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (مدرارا)، يقول: يتبع بعضها بعضاً.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (ويزدكم قوة إلى قوتكم)، قال: شدة إلى شدتكم.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (اعتراك بعض آلهتنا بسوء) قال: أصابك الأوثان بجنون.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (إن ربي على صراط مستقيم)، الحق.
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا أمره الذي جاء الذي نجا منه هودا والذين آمنوا معه عند مجيئه. ولكه بين في مواضع أخر: أنه الإهلاك المستأصل بالريح العقيم. التي أهلكهم الله بها فقطع دابرهم؛ كقوله: (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شئ إلا جعلته كالرميم). وقوله: (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما) الآية، وقوله (إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر).
وانظر للمزيد عن عاد وقومه هود في سورة الأعراف (٦٥-٧١).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (واتبعوا أمر كل جبار عنيد) المشرك.
قوله تعالى (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صالحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ)
في هذه الآيات قصة صالح عليه السلام مع قومه ثمود وقد تقدم طرف منها في سورة الأعراف آية (٧٣-٧٩).
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله (واستعمركم فيها) قال: أعمركم فيها.
انظر حديث أحمد عن جابر المتقدم عند الآية (٧٣) من سورة الأعراف. لبيان آية (٦٤-٦٥) المذكورتين آنفاً.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) قال: بقية آجالهم.
قال الشيخ الشنقيطي: بين هذا الأمر الذي جاء بقوله: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة لأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) ونحوها من الآيات.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (برحمة منا ومن خزي يومئذ)، قال: نجاه الله برحمة منه، ونجاه من خزي يومئذ.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (كأن لم يغنوا فيها)، كان لم يعيشوا فيها.
قوله تعالى (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ)
وفي هذه الآيات قصة إبراهيم وامرأته والملائكة المرسلة إلى لوط وقومه وقد تقدم طرف من قصة لوط وقومه في سورة الأعراف آية (٨٠-٨٤)، وسيأتي تفسيرها مفصلا في سورة الحجر من الآية (٥١-٧٥).
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا ما المراد بهذه البشرى التي جاءت بها رسل الملائكة إبراهيم ولكنه أشار بعد هذا إلى أنها البشارة بإسحاق ويعقوب: (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) لأن البشارة بالذرية الطيبة شاملة للأم والأب، كما يدل لذلك قوله: (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين)، وقوله: (قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم) وقوله (قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم) وقيل: البشرى هي إخبارهم له بأنهم أرسلوا لإهلاك قوم لوط، وعليه فالآيات المبينة لها كقوله هنا في هذه السورة (قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) الآية.
59
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن إبراهيم لما سلم على رسل الملائكة وكان يظنهم ضيوفا من الآدميين، أسرع إليهم بالأتيان بالقرى وهو لحم عجل حنيذ -أي منضج بالنار- وأنهم لما لم يأكلوا أوجس منهم خيفة فقالوا لا تخف وأخبروه بخبرهم. وبين في الذاريات: أنه راغ إلى أهله -أي مال إليهم- فجاء بذلك العجل وبين أنه سمين، وأنه قربه إليهم وعرض عليهم الأكل برفق فقال لهم (ألا تأكلون)، وأنه أوجس منهم خيفة وذلك في قوله: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين، فقربه إليهم قال ألا تأكلون، فأوجس منهم خيفة) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (بعجل حنيذ)، يقول: نضيج.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة)، وكانت العرب إذا نزل بهم ضيف، فلم يطعم من طعامهم، ظنوا أنه لم يجئ بخير، وأنه يحدث نفسه بشر.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: لما أوجس إبراهيم خيفة في نفسه، حدثوه عند ذلك مما جاءوا فيه، فضحكت امرأته، وعجبت من أن قوما أتاهم العذاب، وهم في غفلة. فضحكت من ذلك وعجبت (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب).
قال ابن كثير: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) أي بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل فإن يعقوب ولد إسحاق كما قال في آية البقرة (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسحاق إلهاً واحدا ونحن له مسلمون).
60
قال الطبري حدثنا عمرو بن علي، ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا محمد بن أبي عدي قال: حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) قال: ولد الولد هو الوراء.
وسنده صحيح.
قال الشيخ الشنقيطي: بين الله جل وعلا في هذه السورة الكريمة ما قالته امرأة إبراهيم لما بشرت بالولد وهي عجوز، ولم يبين هنا ما فعلت عند ذلك، ولكنه بين ما فعلت في الذاريات بقوله: (فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم) وقوله: "في صرة" أي ضجة وصيحة. وقوله (فصكت وجهها) أي: لطمته.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (فلما ذهب عن إبراهيم الروع)
يقول: ذهب عنه الخوف (وجاءته البشرى) بإسحاق.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (الروع) الفرق.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) قال: ذهب عنه الخوف.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وجاءته البشرى) قال: حين أخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط، وأنهم ليسوا إياه يريدون.
قوله تعالى (وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا ما جادل به إبراهيم الملائكة في قوم لوط، ولكنه أشار إليه في العنكبوت بقوله: (قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته) الآية. فحاصل جداله لهم أنه يقول: إن أهلكتم القرية وفيها أحدا من المؤمنين أهلكتم ذلك المؤمن بغير ذنب، فأجابوه عن هذا بقولهم: (نحن أعلم بمن فيها) الآية. ونظير ذلك قوله: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين)
61
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (يجادلنا) يخاصمنا.
قال الشيخ الشنقيطي: هذا العذاب الذي صرح هنا بأنه آت قوم لوط، لا محالة وأنه لا مرد له بينه في مواضع متعددة، كقوله في هذه السورة الكريمة: (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد) وقوله في الحجر: (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين).
وقوله: (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء) الآية.
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن لوطا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاءته رسل ربه من الملائكة حصلت له بسبب مجيئهم مساءة عظيمة ضاق صدره بها، وأشار في مواضع متعددة إلى أن سبب مساءته وكونه ضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب أنه ظن أنهم ضيوف من بني آدم كما ظنه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. وظن أن قومه ينتهكون حرمة ضيوفه فيفعلون بهم فاحشة اللواط، لأنهم إن علموا بقدوم ضيف فرحوا واستبشروا ليفعلوا به الفاحشة المذكورة - فمن ذلك قوله هنا (وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد) وقوله في الحجر: (وجاء أهل المدينة يتبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا) يقول: ساء ظنا بقومه، وضاق ذرعا بأضيافه.
62
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وقال هذا يوم عصيب) أي: يوم شديد.
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن نبيه لوطا وعظ قومه ونهاهم أن يفضحوه في ضيفه، وعرض عليهم النساء وترك الرجال، فلم يلتفتوا إلى قوله، وتمادوا فيما هم فيه من إرادة الفاحشة فقال لوط: (لو أن لي بكم قوة) الآية. فأخبرته الملائكة بأنهم رسل ربه، وأن الكفار الخبثاء لا يصلون إليه بسوء. وبين في القمر أنه تعالى طمس أعينهم، وذلك في قوله: (ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وجاءه قوم يهرعون إليه)، يقول: مسرعين.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) قال: أمرهم لوط تزويج النساء، وقال: (هن أطهر لكم).
قال ابن كثير: وقوله: (قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) يرشدهم إلى نسائهم فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة كما قال لهم في الآية الأخرى: (أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: (وإنك لتعلم ما نريد) إنا نريد الرجال.
قوله تعالى (قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء ابن أخي جويرية، حدثنا جويرية بن أسماء عن مالك عن الزهري أن سعيد بن المسيب وأبا عبيد أخبراه عن
أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثتُ في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته".
(صحيح البخاري ٦/٤٨١-٤٨٢- ك أحاديث الأنبياء، ب قول الله تعالى (لقد كان في يوسف وأخوته آيات للسائلين) ح/٣٣٨٧)، وأخرجه مسلم في (صحيحه- ك الأنبياء، ب زيادة طمأنينة القلب ١/١٣٣ ح ١٥١).
وانظر سورة يوسف آية (٥٠) حديث الترمذي عن أبي هريرة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن السدي: قال لوط: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) يقول: إلى جند شديد، لقاتلتكم.
قوله تعالى (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه أمر نبيه لوطا يسري بأهله بقطع من الليل، ولم يبين هنا هل هو من آخر الليل، أو وسطه أو أوله، ولكنه بين في القمر أن ذلك من آخر الليل وقت السحر، وذلك في قوله: (إلا آل لوط نجيناهم بسحر). ولم يبين هنا أنه أمره أن يكون من ورائهم وهم أمامه، ولكنه بين ذلك في الحجر: (فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تأمرون).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (بقطع من الليل)، قال: بطائفة من الليل.
قوله تعالى (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن موعد إهلاك قوم لوط وقت الصبح من تلك الليلة، وكذلك قال في الحجر: (وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين) وزاد في الحجر أن صيحة العذاب وقعت عليهم وقت الإشراق وهو وقت طلوع الشمس بقوله: (فأخذتهم الصيحة مشرقين).
قوله تعالى (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)
قال الشيخ الشنقيطي: اختلف العلماء في المراد بحجارة السجيل اختلافا كثيرا، والظاهر أنها حجارة من طين في غاية الشدة والقوة. والدليل على أن المراد بالسجيل: الطين. قوله تعالى في الذاريات في القصة بعينها: (لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين) وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
وانظر سورة الحجر من الآية (٥١) إلى الآية (٧٧) في قصة قوم لوط.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (من سجيل) بالفارسية، أولها حجر، وآخرها طين.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (منضود)، يقول: مصفوفة.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (مسوّمة) قال: معلمة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وما هي من الظالمين ببعيد)، قال: يرهب بها من يشاء.
قوله تعالى (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قَالُوا
65
يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (٩١) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ)
في هذه الآيات قصة شعيب مع قوم مدين وقد تقدم طرف منها في سورة الأعراف آية (٨٥-٩٣).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (إني أراكم بخير)، قال: يعني خير الدنيا وزينتها.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)، يقول: لا تظلموا الناس أشياءهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) قال: لا تسيروا في الأرض.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (بقيت الله)، قال: طاعة الله.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) حظكم من ربكم خير لكم.
قوله (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن نبيه شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أنه أخبر قومه: أنه إذا نهاهم عن شئ انتهى هو عنه وأن فعله لا يخالف قوله. ويفهم من هذه الآية الكريمة أن الإنسان يجب عليه أن يكون منتهيا عما ينهى عنه غيره، مؤتمرا بما يأمر به غيره. وقد بين تعالى ذلك في مواضع أخر؛ كقوله: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) الآية.
وقوله (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) يقول: لم أكن لأنهاكم عن أمر أركبه أو آتيه.
66
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (وإليه أنيب) قال: أرجع.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (لا يجرمنكم شقاقي) يقول: لا يحملنكم فراقي (أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة في قوله: (وما قوم لوط منكم ببعيد) قال: إنما كانوا حديثي عهد قريب، بعد نوح وثمود.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، في قوله: (أرهطي أعز عليكم من الله)، قال: أعززتم قومكم، واغتررتم بربكم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (واتخذتموه وراءكم ظهريا)، قال: قفا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (واتخذتموه وراءكم ظهريا)، قال: هم رهط شعيب، بتركهم ما جاء به وراء ظهورهم، ظهريا.
قوله تعالى (وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ)
انظر سورة الأنعام آية (١٣٥) تفسير ابن عباس.
قوله تعالى (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ)
قال ابن كثير: قال الله تعالى (ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين) وقوله جاثمين أي هامدين لا حراك بهم. وذكر ههنا أنه أتتهم صيحة، وفي الأعراف رجفة وفي الشعراء عذاب يوم الظلة وهم أمة واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلها، وإِنما ذكر في كل سياق ما يناسبه ففي الأعراف لما قالوا (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا) ناسب أن يذكر الرجفة
67
فرجفت بهم الأرض التي ظلموا بها وأرادوا إخراج نبيهم منها، وههنا لما أساءوا الأدب في ضالتهم على نبيهم ذكر الصيحة التي اسكتتهم وأخمدتهم، وفي الشعراء لما قالوا (فأسقط علينا كسفا من السماء إِن كنت من الصادقين) قال (فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (كأن لم يغنوا فيها)، قال يقول: كأن لم يعيشوا فيها.
قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)
انظر سورة الأعراف آية (١٣٠-١٣٣) لبيان الآيات التي أيد الله تعالى بها موسى عليه الصلاة والسلام.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (يقدم قومه يوم القيامة)، قال: فرعون، يقدم قومه يوم القيامة، يمضي بين أيديهم، حتى يهجم بهم على النار.
قوله تعالى (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة) قال: زيدوا بلعنته لعنة أخرى، فتلك لعنتان.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (بئس الرفد المرفود) قال: لعنة الدنيا والآخرة.
قوله تعالى (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (منها قائم)، يرى مكانه (وحصيد)، لا يرى له أْثر.
قوله تعالى (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (غير تبيب) قال: تخسير.
قال مسلم: حدثنا محمد بن عبد الله بن نصر، حدثنا أبو معاوية، حدثنا بريد ابن أبي بردة عن أبيه، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله عز وجل يُملى للظالم، فإذا أخذه لم يُفلته". ثم قرأ: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد).
(صحيح مسلم ٤/١٩٩٧-١٩٩٨- ك البر والصلة والآداب، ب تحريم الظلم ح/٢٥٨٣)،
وأخرجه البخاري في (صحيحه في- ك التفسير- سورة هود (وكذلك أخذ ربك) ح ٤٦٨٦).
قوله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)
قال ابن كثير: يقول تعالى إن في إِهلاكنا الكافرين ونصرة الأنبياء وإنجائنا المؤمنين (لآية) أي عظة واعتبارا على صدق موعودنا في الآخرة (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) وقال تعالى (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين) الآية، وقوله: (ذلك يوم مجموع له الناس) فلا يبقى منهم أحد أي أولهم وآخرهم كقوله: (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا)... (يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه) أي يوم يأتي يوم القيامة لا يتكلم أحد إلا بإذن الله كقوله: (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) وقال:
قال الترمذي: حدثنا بُندار، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا سليمان ابن سُفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب قال: لمّا نزلت هذه الآية: (فمنهم شقي وسعيد) سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت، يا نبي الله فعلى ما نعمل؟ على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يُفرغ منه؟ قال: "بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام ياعمر، ولكن كل مُيسر لما خلق له".
هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن عمر. (السنن ٥/٢٨٩ ح/٣١١١- ك التفسير، في سورة هود)، وصححه الألباني (صحيح سنن الترمذي).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لهم فيها زفير وشهيق)، يقول: صوت شديد، وصوت ضعيف.
قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)
قال الشيخ الشنقيطي: قيد تعالى خلود أهل الجنة وأهل النار بالمشيئة. فقال في كل منهما: (إلا ما شاء ربك) ثم بين عدم الانقطاع في كل منهما، فقال في خلود أهل الجنة: (عطاء غير مجذوذ) وقال (إن هذا لرزقنا ما له من نفاذ) وقال في خلود أهل النار: (كلما خبت زدناهم سعيرا)، ومعلوم أن (كلما) تقتضي التكرار بتكرر الفعل الذي بعدها.
قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يُوتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي منادٍ: يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه. ثم ينادي يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه فيذبح. ثم يقول يا أهل الجنة: خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة) وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا وهم لا يؤمنون".
(الصحيح- التفسير، ب وأنذرهم يوم الحسرة ح ٤٧٣٠).
قوله تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (عطاء غير مجذوذ) يقول: عطاء غير مقطوع.
قوله تعالى (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) يعني الركون إلى الشرك.
قوله تعالى (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين)
قال البخاري: حدثنا مسدّد، حدثنا يزيد بن زُريع، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن رجلاً أصاب من امرأة قُبلة، فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك له، فأنزلت عليه (وأقم الصلاة طرفي النهار وزُلفا من الليل إن الحسنات يُذهبن السيئآت ذلك ذِكرى للذاكرين)، قال الرجل: أَلِيَ هذه؟ قال: "لمن عملَ بها من أمتي".
(صحيح البخاري ٨/٢٠٦- ك التفسير- سورة هود، ب (الآية) ح/٤٦٨٧)، (وصحيح مسلم ٤/٢١١٥-٢١١٦- ك التوبة، ب قوله تعالى (الآية).
وقال: حدثنا إبراهيم بن حمزة قال: حدثني ابن أبي حازم والدراوردي عن يزيد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول ذلك يُبقي من درنه؟ قالوا: لا يبقي من درنه شيئاً. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا".
(صحيح البخاري ٢/١٤-١٥- ك مواقيت الصلاة، ب الصلوات الخمس كفارة ح/٥٢٨)، (وصحيح مسلم ٤/٢١١٥-٢١١٦ ح ٢٧٦٣- ك التوبة، في قوله تعالى (الآية).
قال البخاري: حدثنا هدبة بن خالد قال: حدثنا همام، حدثني أبو جمرة، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من صلّى البردين دخل الجنة".
(صحيح البخاري ٢/٦٣- ك مواقيت الصلاة، ب فضل صلاة الفجر ح ٥٧٤)، وأخرجه مسلم في (صحيحه ١/٤٤٠- ك المساجد، ب فضل صلاتي الصبح والعصر... ح ٦٣٥) من طريق البخاري نفسه، ولكن عنده: هداب بن خالد بدل: هدبة).
قال مسلم: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حُجر. كلهم عن إسماعيل. قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الصلاة الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن، ما لم تغْش الكبائر".
(الصحيح ١/٢٠٩ ح ٢٣٣ ك الطهارة- في الصلوات الخمس.. مكفرات لما بينهن... )
قال مسلم: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! أصبتُ حداً فأقمه عليّ. قال: وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما قضى الصلاة قال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فأقم فيَّ كتاب الله. قال: "هل حضرتَ الصلاة معنا؟ ". قال: نعم. قال: "قد غفر لك".
(الصحيح ٤/٢١١٧ ح ٢٧٦٤- ك التوبة، ب قوله تعالى (إن الحسنات يذهبن السيئات)).
قال أحمد: ثنا علي بن إسحاق قال: أنا عبد الله -يعني ابن المبارك- قال: أنا ابن لهيعة قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب قال: ثنا أبو الخير أنه سمع عقبة بن عامر يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة أخرى فانفكت حلقة أخرى حتى يخرج إلى الأرض".
(المسند ٤/١٤٥). وعزاه الهيثمي إلى أحمد والطبراني وقال: وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد ١٠/٢٠١-٢٠٢). وقال الألباني: حسن (صحيح الجامع ح ٢١٨٨).
72
قال أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، حدثنا حيوة أنبأنا أبو عقيل أنه سمع الحارث مولى عثمان يقول: جلس عثمان يوماً وجلسنا معه، فجاء المؤذن، فدعا بماء في إناء، أظنه سيكون فيه مُدّ، فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ وضوئي هذا ثم قال: "ومن توضأ وضوئي ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين صلاة الظهر، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين صلاة العصر، ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين صلاة المغرب، ثم لعله أن يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلى الصبح غُفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهن الحسنات يُذهبن السيئات، قالوا: هذه الحسنات، فما الباقيات يا عثمان؟ قال: هن لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله".
(المسند ١/٣٨٢ ح ٥١٣) قال محققه: إسناده صحيح، وأخرجه ابن جرير (التفسير ١٥/٥١١-٥١٢ ح ١٨٦٦٢). وذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد ١/٢٩٧) وقال: رجاله رجال الصحيح غير الحارث مولى عثمان، وهو ثقة. وصحح السيوطي إسناده في (الدر ٤/٣٥٣)، وقال الشيخ محمود شاكر في حاشية الطبري: صحيح الإسناد، وحسنه محققو المسند بإشراف أ. د. عبد الله التركي ١/٥٣٧ ح ٥١٣).
قال ابن ماجة: حدثنا محمد بن رمح، أنبأنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن سفيان بن عبد الله، (أظنه) عن عاصم بن سفيان الثقفي، أنهم غزوا غزوة السلاسل، ففاتهم الغزو. فرابطوا. ثم رجعوا إلى معاوية وعنده أبو أيوب وعقبة ابن عامر. فقال عاصم: يا أبا أيوب! فاتنا الغزو العام. وقد أخبرنا أنه من صلّى في المساجد الأربعة، غفر له ذنبه. فقال: يا ابن أخي! أدُلّك على أيسر من ذلك. إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من توضأ كما أُمر، وصلى كما أمر، غُفر له ما تقدم من عمل". أكذلك يا عقبة؟ قال: نعم.
(السنن ١/٤٤٧- إقامة الصلاة والسنة فيها، ب ما جاء أن الصلاة كفارة ح ١٣٩٦)، أخرجه أحمد (المسند ٥/٤٢٣)، والنسائي (السنن ١/٩٠-٩٩)، وابن حبان في صحيحه (الإحسان ٣/٣١٧ ح ١٠٤٢) والدارمي. وقال الألباني: حسن، وانظر (تحفة الأشراف ٣/٩٠، ١٩) وانظر (صحيح الترغيب ١/٨٥).
73
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار)، يقول: صلاة الغداة، وصلاة المغرب.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (وزلفا من الليل)، قال: الساعات من الليل، صلاة العتمة.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (وزلفا من الليل)، قال: يعني صلاة المغرب وصلاة العشاء.
قال الطبري: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، قول من قال في ذلك: "هن الصلوات الخمس"، لصحة الأخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتواترها عنه أنه قال: "مثل الصلوات الخمس مثل نهر جار على باب أحدكم، ينغمس فيه كل يوم خمس مرات، فماذا يبقين من درنه"، وأن ذلك في سياق أمر الله بإقامة الصلوات، والوعد على إقامتها الجزيل من الثواب عقيبها، وأولى من الوعد على ما لم يجر له ذكر من صالحات سائر الأعمال، إذا خص بالقصد بذلك بعض دون بعض.
قوله تعالى (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قليلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)
قال ابن كثير: ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها ولم يأت قرية مصلحة بأسه وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين كما قال تعالى: (وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم) وقال: (وما ربك بظلام للعبيد).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم)، أي: لم يكن من قبلكم من ينهى عن الفساد في الأرض (إلا قليلاً ممن أنجينا منهم).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة، (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) من دنياهم.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) قال: في ملكهم وتجبرهم، وتركوا الحق.
قوله تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) يقول: لجعلهم مسلمين كلهم.
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة من إيمان أو كفران كما قال تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً).
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (ولا يزالون مختلفين)، قال: أهل الباطل (إلا من رحم ربك)، قال: أهل الحق.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك)، فأهل رحمة الله أهل جماعة، وإن تفرقت دورهم وأبدانهم. وأهل معصيته أهل فرقة، وإن اجتمعت دورهم وأبدانهم.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولذلك خلقهم) قال: خلقهم فريقين، فريقا يرحم فلا يختلف، وفريقا لا يرحم يختلف، وذلك قوله: (فمنهم شقي وسعيد) سورة هود: ١٠٥.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (ولذلك خلقهم)، قال: للرحمة خلقهم.
قوله تعالى (وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)
قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح بن كيسان، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"اختصمتِ الجنة والنار إلى ربهما، فقالت الجنة: يا رب مالها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار يعني: أوثرت بالمتكبرين، فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتي، وقال للنار: أنتِ عذابي، أصيبُ بكِ من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها، قال فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدا وإنه ينشئ للنار من يشاء فيلقون فيها فتقول: هل من مزيد. ثلاثا، حتى يضع فيها قدمه فتمتليء، ويرد بعضها إلى بعض وتقول: قط قط قط".
(الصحيح ١٣/٤٤٣-٤٤٤ ح ٧٤٤٩- ك التوحيد، ب ما جاء في قول الله تعالى (إن رحمة الله قريب من المحسنين))، وأخرجه مسلم (الصحيح- ك الجنة، ب النار يدخلها الجبارون... ).
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: قوله (وجاءك في هذه الحق) وجاءك في هذه السورة.
وانظر سورة الفرقان آية (٣٢).
قوله تعالى (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون) انظر سورة الأنعام آية (١٣٥).
قوله تعالى (وانتظروا إنا منتظرون)
انظر قول ابن كثير في تفسير سورة يونس آية (٢٠).
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
(وخشعت الأصوات للرحمن) الآية. وفي الصحيحين من حديث الشفاعة "ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم" وقوله (فمنهم شقي وسعيد) أي فمن أهل الجمع شقي ومنهم سعيد كما قال (فريق في الجنة وفريق في السعير).