ورسم الحرفان بصورتهما لا بما ينطق به الناطق من اسميهما تبعا لرسم المصحف كما تقدم في سورة الأعراف. وكذلك وردت تسميتها في كتب السنة في حديث إسلام عمر بن الخطاب كما سيأتي قريبا.
وفي تفسير القرطبي عن مسند الدرامي عن هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن الله تبارك وتعالى قرأ ﴿ طاها ﴾ ﴿ باسمين ﴾ قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا : طوبى لأمة ينزل هذا عليها الحديث. قال ابن فورك : معناه أن الله أظهر كلامه وأسمعه من أراد أن يسمعه من الملائكة، فتكون هذه التسمية مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر في الإتقان عن السخاوي أنها تسمى أيضا ﴿ سورة الكليم ﴾، وفيه عن الهذلي في كامله أنها تسمى ﴿ سورة موسى ﴾.
وهي مكية كلها على قول الجمهور. واقتصر عليه ابن عطية وكثير من المفسرين. وفي الإتقان أنه استثني منها آية ﴿ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ﴾ الآية. واستظهر في الإتقان أن يستثنى منها قوله تعالى ﴿ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا ﴾ الآية. لما أخرج أبو يعلى والزار عن أبي رافع قال : أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيفا فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقا إلى هلال رجب فقال : لا، إلا برهن، فأتيت النبي فأخبرته فقال : أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض. فلم أخرج من عنده حتى نزلت ﴿ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا ﴾ الآية اهـ.
وعندي أنه إن صح حديث أبي رافع فهو من اشتباه التلاوة بالنزول. فالعل النبي صلى الله عليه وسلم قرأها متذكرا فظنها أبو رافع نازلة ساعتئذ ولم يكن سمعها قبل، أو أطلق النزول على التلاوة. ولهذا نظائر كثيرة في المرويات في أسباب النزول كما علمته غير مرة.
وهذه السورة هي الخامسة والأربعون في ترتيب النزول نزلت بعد سورة مريم وقبل سورة الواقعة. ونزلت قبل إسلام عمر بن الخطاب لما روى الدارقطني عن أنس بن مالك، وابن إسحاق في سيرته عنه قال : خرج عمر متقلدا بسيف. فقيل له : إن ختنك وأختك قد صبوا، فأتاهما عمر وعندهما خباب بن الأرت يقرئهما سورة ﴿ طاها ﴾، فقال : أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرأه؟ فقالت له أخته : إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ. فقام عمر وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ طه. فلما قرأ صدرا منها قال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه إلى آخر القصة. وذكر الفخر عن بعض المفسرين أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة.
وكان إسلام عمر في سنة خمس من البعثة قبيل الهجرة الأولى إلى الحبشة فتكون هذه السورة قد نزلت في سنة خمس أو أواخر سنة أربع من البعثة.
وعدت آيها في عدد أهل المدينة ومكة مائة وأربعا وثلاثين وفي عدد أهل الشام مائة وأربعين، وفي عدد أهل البصرة مائة واثنتين وثلاثين. وفي عدد أهل الكوفة مائة وخمسا وثلاثين.
أغراضها
احتوت من الأغراض على : التحدي بالقرآن بذكر الحروف المقطعة في مفتتحها والتنويه بأنه تنزيل من الله لهدي القابلين للهداية ؛ فأكثرها في هذا الشأن.
والتنويه بعظمة الله تعالى. وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بأنها تماثل رسالة أعظم رسول قبله شاع ذكره في الناس. فضرب المثل لنزول القران على محمد صلى الله عليه وسلم بكلام الله موسى عليه السلام
وبسط نشأة موسى وتأييد الله إياه ونصره على فرعون بالحجة والمعجزات وبصرف كيد فرعون عنه وعن أتباعه.
وإنجاء الله موسى وقومه، وغرق فرعون، وما أكرم الله به بني إسرائيل في خروجهم من بلد القبط.
وقصة السامري وصنعه العجل الذي عبده بنو إسرائيل في مغيب موسى عليه السلام وكل ذلك تعويض بأن مآل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم صائر إلى ما صارت إليه بعثة موسى عليه السلام من النصر على معانديه. فلذلك انتقل من ذلك إلى وعيد من أعرضوا عن القرآن ولم تنفعهم أمثاله ومواعظه.
ورتب على ذلك سوء الجزاء في الآخرة لمن جعلوا مقادتهم بيد الشيطان وإنذارهم بسوء العقاب في الدنيا.
وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما يقولونه وتثبيته على الدين.
وتخلل ذلك إثبات البعث. وتهويل يوم القيامة وما يتقدمه من الحوادث والأهوال.
ﰡ
- وتذكير النَّاس بعداوة الشَّيْطَان للْإنْسَان بِمَا تضمنته قصَّة خلق آدم.
- وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ سُوءَ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ لِمَنْ جَعَلُوا مَقَادَتَهُمْ بِيَدِ الشَّيْطَانِ وَإِنْذَارَهُمْ بِسُوءِ الْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا.
- وَتَسْلِيَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَقُولُونَهُ وَتَثْبِيتَهُ عَلَى الدِّينِ.
وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ، وَتَهْوِيلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا يَتَقَدَّمُهُ مِنَ الْحَوَادِث والأهوال.
[١]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (١)وَهَذَانِ الْحَرْفَانِ مِنْ حُرُوفِ فَوَاتِحِ بَعْضِ السُّوَرِ مِثْلُ الم، وَيس. وَرُسِمَا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ بِصُورَةِ حُرُوفِ التَّهَجِّي الَّتِي هِيَ مُسَمَّى (طا) وَ (هَا) كَمَا رُسِمَ جَمِيعُ الْفَوَاتِحِ الَّتِي بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ. وَقُرِئَا لِجَمِيعِ الْقُرَّاء كَمَا قُرِئت بَقِيَّةُ فَوَاتِحِ السُّوَرِ. فَالْقَوْلُ فِيهِمَا كَالْقَوْلِ الْمُخْتَارِ فِي فَوَاتِحِ تِلْكَ السُّوَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَقِيلَ هُمَا حَرْفَانِ مُقْتَضَبَانِ مِنْ كَلِمَتَيْ (طَاهِرٍ) وَ (هَادٍ) وَأَنَّهُمَا عَلَى مَعْنَى النِّدَاءِ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ.
وَقِيلَ (طَاهَا) كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّ أَصْلَهَا مِنَ الْحَبَشِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا إِنْسَانٌ، وَتَكَلَّمَتْ بِهَا
قَبِيلَةُ (عَكَّ) أَوْ (عُكْلٍ) وَأَنْشَدُوا لِيَزِيدَ بْنِ مُهَلْهَلٍ:
إِنَّ السَّفَاهَةَ طَاهَا مِنْ شَمَائِلِكُمْ | لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي الْقَوْمِ الْمَلَاعِينِ |
وَقِيلَ: هِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى الْقَسَمِ.
وَرُوِيَتْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ وَأَخْبَارٌ ذَكَرَ بَعْضَهَا عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ». وَيَجْرِي فِيهَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ جَمِيعَ هَذِهِ الْحُرُوفِ مُتَّحِدَةً فِي الْمَقْصُودِ مِنْهَا. كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: هِيَ أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ الْوَاقِعَةِ فِيهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَإِنَّمَا غَرَّهُمْ بِذَلِكَ تَشَابُهٌ فِي النُّطْقِ فَلَا نُطِيلُ بِرَدِّهَا. وَكَذَلِكَ لَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمُوا أَنَّهُ مِنْ أَسمَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٢ إِلَى ٦]
مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦)افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِمُلَاطَفَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنْ إِرْسَالِهِ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ أَنْ يَشْقَى بِذَلِكَ، أَيْ تُصِيبَهُ الْمَشَقَّةُ وَيَشُدُّهُ التَّعَبُ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُذَكِّرَ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدَهُ. وَفِي هَذَا تَنْوِيهٌ أَيْضًا بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الَخَشْيَةِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ادَّكَرُوا بِالْقُرْآنِ.
وَفِي هَذِهِ الْفَاتِحَةِ تَمْهِيدٌ لِمَا يَرِدُ مِنْ أَمْرِ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالِاضْطِلَاعِ بِأَمْرِ التَّبْلِيغِ، وَبِكَوْنِهِ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِثْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنْ لَا يَكُونَ مُفَرِّطًا فِي الْعَزْمِ كَمَا كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ تَنْوِيهًا بِمَنْ أُنْزَلَ عَلَيْهِ وَجَاءَ بِهِ.
وَالشَّقَاءُ: فَرْطُ التَّعَبِ بِعَمَلٍ أَوْ غَمٍّ فِي النَّفْسِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
إِلَّا مَقَالَةَ أَقْوَامٍ شَقِيتُ بِهِمْ | كَانَتْ مَقَالَتُهُمْ قَرْعًا عَلَى كَبِدِي |
وَوُقُوعُ فِعْلِ أَنْزَلْنا فِي سِيَاقِ النَّفْي يَقْتَضِي عُمُومَ مَدْلُولِهِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِهِ، وَعُمُومُ الْفِعْلِ يسْتَلْزم عُمُوم متعلقانه مِنْ مَفْعُولٍ وَمَجْرُورٍ.
فَيَعُمَّ نَفْيَ جَمِيعِ كُلِّ
وَأَوَّلُ مَا يُرَادُ مِنْهُ هُنَا أَسَفُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِعْرَاضِ قَوْمِهِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْف: ٦].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: مَا أَرْسَلْنَاكَ لِتَخِيبَ بَلْ لِنُؤَيِّدَكَ وَتَكُونَ لَكَ الْعَاقِبَةُ.
وَقَوْلُهُ إِلَّا تَذْكِرَةً اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَحْوَالٍ لِلْقُرْآنِ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ مَا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالٍ إِلَّا حَالَ تَذْكِرَةٍ فَصَارَ الْمَعْنَى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى وَمَا أَنْزَلْنَاهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا تَذْكِرَةً. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ الَّذِي هُوَ حَالٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَا مَحَالَةَ، فَفِعْلُ أَنْزَلْنا عَامِلٌ فِي لِتَشْقى بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَعَامِلٌ فِي تَذْكِرَةً بِوَاسِطَةِ صَاحِبِ الْحَالِ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْعِلَّةِ الْمَنْفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: لِتَشْقى حَتَّى تَتَحَيَّرَ فِي تَقْوِيمِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فَتَفْزَعَ إِلَى جَعْلِهِ مُنْقَطِعًا وَتَقَعَ فِي كَلَفٍ لِتَصْحِيحِ النَّظْمِ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» :«قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَالنَّضِرُ بْنُ الْحَارِثِ (وَزَادَ غَيْرُ الْوَاحِدِيِّ: الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةَ، وَالْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ) لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ لِتَشْقَى بِتَرْكِ دِينِنَا، لَمَّا رَأَوْا مِنْ طُولِ عِبَادَتِهِ وَاجْتِهَادِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى الْآيَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ سَنَدٌ.
وَالتَّذْكِرَةُ: خُطُورُ الْمَنْسِيِّ بِالذِّهْنِ فَإِنَّ التَّوْحِيدَ مُسْتَقِرُّ فِي الْفِطْرَةِ وَالْإِشْرَاكُ مُنَافٍ لَهَا، فَالدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ تَذْكِيرٌ لِمَا فِي الْفِطْرَةِ أَوْ تَذْكِيرٌ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وتَنْزِيلًا حَالٌ مِنَ الْقُرْآنَ ثَانِيَةٌ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ وَالْعِنَايَةُ بِهِ لِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْكِنَايَةِ بِأَنَّ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْكَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لَا يَتْرُكُ نَصْرَكَ وَتَأْيِيدَكَ.
وَالْعُدُولُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ أَوْ عَنْ ضَمِيرِهِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ تَحَتُّمِ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، لِأَنَّهُ خَالِقُ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَلِذَلِكَ وَصَفَ والسّماوات بِالْعُلَى صِفَةً كَاشِفَةً زِيَادَةً فِي تَقْرِيرِ مَعْنَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ ذَلِكَ شَأْنَ مُنَزِّلِ الْقُرْآنِ لَا جَرَمَ كَانَ الْقُرْآنُ شَيْئًا عَظِيمًا، كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا | بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ |
وَجُمْلَةُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى حَالٌ مِنَ الرَّحْمنُ. أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ.
وَالْعَرْشُ: عَالَمٌ عَظِيمٌ مِنَ الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا، فَقِيلَ هُوَ أَعْلَى سَمَاءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَأَعْظَمُهَا. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَيُسَمَّى: الْكُرْسِيُّ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: الْكُرْسِيُّ غَيْرُ الْعَرْشِ.
وَأَيًّا مَا كَانَ فَذِكْرُ الِاسْتِوَاءِ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ فِي تَصْوِيرِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَعَةِ سُلْطَانِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى.
وَأَمَّا ذِكْرُ الِاسْتِوَاءِ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ تَمْثِيلٌ لِشَأْنِ عَظَمَةِ اللَّهِ بِعَظَمَةِ أَعْظَمِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَجْلِسُونَ عَلَى الْعُرُوشِ. وَقَدْ عَرَفَ الْعَرَبُ مِنْ أُولَئِكَ مُلُوكَ الْفُرْسِ وَمُلُوكَ الرُّومِ وَكَانَ هَؤُلَاءِ مَضْرِبَ الْأَمْثَالِ عِنْدَهُمْ فِي الْعَظَمَةِ.
وَحَسَّنَ التَّعْبِيرَ بِالِاسْتِوَاءِ مُقَارَنَتُهُ بِالْعَرْشِ الَّذِي هُوَ مِمَّا يُسْتَوَى عَلَيْهِ فِي الْمُتَعَارَفِ، فَكَانَ ذِكْرُ الِاسْتِوَاءِ كَالتَّرْشِيحِ لِإِطْلَاقِ الْعَرْشِ عَلَى السَّمَاءِ الْعُظْمَى، فَالْآيَةُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ
الْبَيِّنِ تَأْوِيلُهُ بِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَبِمَا تَقَرَّرَ فِي الْعَقِيدَةِ: أَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
وَقِيلَ: الِاسْتِوَاءُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ. وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الْأَخْطَلِ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ | بِغَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ |
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤]. وَإِنَّمَا أَعَدْنَا بَعْضَهُ هُنَا لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الْمُشْتَهِرَةُ بَيْنَ أَصْحَابِنَا الْأَشْعَرِيَّةِ.
وَأَتْبَعَ مَا دَلَّ عَلَى عَظَمَةِ سُلْطَانِهِ تَعَالَى بِمَا يَزِيدُهُ تَقْرِيرًا وَهُوَ جُمْلَةُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ إِلَخْ. فَهِيَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى. وَالْجُمْلَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ سَعَةِ السُّلْطَانِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ لِلْقَصْرِ، رَدًّا عَلَى زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ لِآلِهَتِهِمْ تَصَرُّفَاتٌ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ لِلْجِنِّ اطِّلَاعًا عَلَى الْغَيْبِ، وَلِتَقْرِيرِ الرَّدِّ ذُكِرَتْ أَنْحَاءُ الْكَائِنَاتِ، وَهِيَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى.
وَالثَّرَى: التُّرَابُ. وَمَا تَحْتَهُ: هُوَ بَاطِنُ الْأَرْضِ كُلُّهُ.
وَجُمْلَةُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى.
[٧]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ٧]
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [طه: ٦] لِدَلَالَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى سَعَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى كَمَا دَلَّتِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا عَلَى عَظِيمِ سُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَأَصْلُ النَّظْمِ: وَيَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى إِنْ تَجْهَرْ
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى مِنَ السِّرِّ فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي يَجْهَرُ فِيهَا الْقَائِلُ بِالْقَوْلِ لِإِسْمَاعِ مُخَاطِبَهُ، أَيْ فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْجَهْرِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى. وَهَذَا أُسْلُوبٌ مُتَّبَعٌ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ بِأَسَالِيبَ كَثِيرَةٍ. وَذَلِكَ فِي كُلِّ شَرْطٍ لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّعْلِيقُ بَلْ يُقْصَدُ التَّحْقِيقُ كَقَوْلِ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَيْلِيِّ:
فَأَتَتْ بِهِ حُوشَ الْفُؤَادِ مُبَطَّنًا | سُهُدًا إِذَا مَا نَامَ لَيْلُ الْهَوْجَلِ |
إِذَا الْكُمَاةُ تَنَحَّوْا أَنْ يُصِيبَهُمُ | حَدُّ الظُّبَاتِ وَصَلْنَاهَا بِأَيْدِينَا |
فَإِنْ تَكُنِ الْأَيَّامُ جَالَتْ صُرُوفُهَا | بِبُؤْسَى وَنُعْمَى وَالْحَوَادِثُ تَفْعَلُ |
فَمَا لَيَّنَتْ مِنَّا قَنَاةً صَلِيبَةً | وَمَا ذَلَّلَتْنَا لِلَّتِي لَيْسَ تَجْمُلُ |
فَمَنْ تَكُنِ الْحَضَارَةُ أَعْجَبَتْهُ | فَأَيَّ رِجَالِ بَادِيَةٍ تَرَانَا |
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ.
الصُّدُورِ
[هود: ٥].
يَبْقَى النَّظَرُ فِي تَوْجِيهِ الْإِتْيَانِ بِهَذَا الشَّرْطِ بِطَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ، وَتَوْجِيهِ اخْتِيَارِ فَرْضِ الشَّرْطِ بِحَالَةِ الْجَهْرِ دُونَ حَالَةِ السِّرِّ مَعَ أَنَّ الَّذِي يَتَرَاءَى لِلنَّاظِرِ أَنَّ حَالَةَ السِّرِّ أَجْدَرُ بِالذِّكْرِ فِي مَقَامِ الْإِعْلَامِ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُ النَّاسِ، كَمَا ذُكِرَ فِي الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ الْآنِفَةِ الذِّكْرِ.
وَأَحْسَبُ لِفَرْضِ الشَّرْطِ بِحَالَةِ الْجَهْرِ بِالْقَوْلِ خُصُوصِيَّةً بِهَذَا السِّيَاقِ اقْتَضَاهَا اجْتِهَادُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا، فَيَكُونُ مَوْرِدُ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَوْرِدِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الْأَعْرَاف: ٢٠٥]
وَالْقَوْلُ: مَصْدَرٌ، وَهُوَ تَلَفُّظُ الْإِنْسَانِ بِالْكَلَامِ، فَيَشْمَلُ الْقِرَاءَةَ وَالدُّعَاءَ وَالْمُحَاوَرَةَ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا مَا لَهُ مَزِيدُ مُنَاسِبَةٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: ٢] الْآيَاتِ.
وَجَوَابُ شَرْطِ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا تَشُقَّ عَلَى نَفْسِكَ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، أَيْ فَلَا مَزِيَّةَ لِلْجَهْرِ بِهِ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ مَسَاقُ الْآيَةِ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ كَيْفِيَّةَ الدُّعَاءِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَةِ الْجَهْرُ بِالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ، فَلَيْسَ مِنَ الصَّوَابِ فَرْضُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ هُنَا إِلَّا عَلَى مَعْنَى الْإِشَارَةِ.
وأَخْفى اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَحُذِفَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ وَأَخْفَى مِنَ السِّرِّ. وَالْمُرَادُ بِأَخْفَى مِنْهُ: مَا يَتَكَلَّمُ اللِّسَانُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَصْوَاتِ الَّتِي هِيَ أَخْفَى مِنْ كَلَام السِّرّ.
[٨]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ٨]
اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨)
تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ تَضَّمَنَ صِفَاتٍ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ خَلْقِهِ وَمِنْ عَظَمَتِهِ فَجَاءَ هَذَا التَّذْيِيلُ بِمَا يَجْمَعُ صِفَاتِهِ.
وَاسْمُ الْجَلَالَةِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ اللَّهُ، جَرْيًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ
تَعَالَى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥].
وَالْأَسْمَاءُ: الْكَلِمَاتُ الدَّالَةُ عَلَى الِاتِّصَافِ بِحَقَائِقَ. وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ: إِمَّا عَلَمٌ وَهُوَ اسْمُ الْجَلَالَةِ خَاصَّةً. وَإِمَّا وصف مثل الرحمان وَالْجَبَّارِ وَبَقِيَّةِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ مُجَرَّدًا مِنَ الْمَعَانِي الْمَدْلُولَةِ لِلْأَسْمَاءِ مِثْلَ الْأَصْنَامِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حَقَائِقُهَا فِيهِ غَيْرُ بَالِغَةٍ مُنْتَهَى كَمَالِ حَقِيقَتِهَا كَاتِّصَافِ الْبَشَرِ بِالرَّحْمَةِ وَالْمُلْكِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاتِّصَافُ بِهَا كَذِبًا لَا حَقِيقَةً، كَاتِّصَافِ الْبَشَرِ بِالْكِبْرِ، إِذْ لَيْسَ أَهْلًا لِلْكِبْرِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْعِزَّةِ.
وَوصف الْأَسْمَاء بِالْحُسْنَى لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى حَقَائِقَ كَامِلَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسَمَّى بِهَا تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي غَيْرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَأَمَّا فِي اسْمِ الْجَلَالَةِ الَّذِي هُوَ الِاسْمُ الْعَلَمُ فَلِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأَعْلَامِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ دَالٌّ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الْإِلَهِ، وَعُرِّفَ بِاللَّامِ الدَّالَةِ عَلَى انْحِصَارِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُ، فَكَانَ جَامِعًا لِمَعْنَى وُجُوبِ الْوُجُودِ، وَاسْتَحَقَّ الْعِبَادَةَ لِوُجُودِ أَسْبَابِ اسْتِحْقَاقِهَا عِنْدَهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها فِي سُورَة الْأَعْرَاف [١٨٠].
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٩ إِلَى ١٠]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى نَارًا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠)أَعْقَبَ تَثْبِيتَ الرَّسُولِ عَلَى التَّبْلِيغِ وَالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَتَأَسَّى بِهِ فِي الصَّبْرِ عَلَى تَحَمُّلِ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ وَمُقَاسَاةِ الْمَصَاعِبِ، وَتَسْلِيَةً لَهُ بِأَنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ سَيَكُونُ جَزَاؤُهُمْ جَزَاءَ مَنْ سَلَفَهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي عَقِبِ قِصَّةِ مُوسَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ [طه: ٩٩- ١٠١]. وَجَاءَ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ آدَمَ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْمٌ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [طه: ١٣٠] الْآيَاتِ.
فَجُمْلَةُ وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: ٢]. الْغَرَضُ هُوَ مُنَاسِبَةُ الْعَطْفِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ يُونُسَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشْوِيقِ إِلَى الْخَبَرِ مَجَازًا وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ قَدْ قُصَّتْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْلُ أَمْ كَانَ هَذَا أَوَّلَ قَصَصِهَا عَلَيْهِ. وُفِي قَوْلِهِ: إِذْ رَأى نَارًا زِيَادَةٌ فِي التَّشْوِيقِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.
وَأُوثِرَ حَرْفُ (هَلْ) فِي هَذَا الْمَقَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّحْقِيقِ لِأَنَّ (هَلْ) فِي الِاسْتِفْهَامِ مِثْلُ (قَدْ) فِي الْإِخْبَارِ.
وَالْحَدِيثُ: الْخَبَرُ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْكَلَامِ الَّذِي يُحْكَى بِهِ أَمْرٌ حَدَثَ فِي الْخَارِجِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَحَادِيثَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: «وَاحِدُ
وإِذْ ظَرْفٌ لِلْحَدِيثِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ، وَخُصَّ هَذَا الظَّرْف بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ يَزِيدُ تَشْوِيقًا إِلَى اسْتِعْلَامِ كُنْهِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ النَّارِ تَحْتَمِلُ أَحْوَالًا كَثِيرَةً.
وَرُؤْيَةُ النَّارِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِلَيْلٍ، وَأَنَّهُ كَانَ بِحَاجَةٍ إِلَى النَّارِ وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ: فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا... إِلَخْ.
وَالْأَهْلُ: الزَّوْجُ وَالْأَوْلَادُ. وَكَانُوا مَعَهُ بِقَرِينَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ امْكُثُوا. وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنَ التَّوْرَاةِ «فَأَخَذَ مُوسَى امْرَأَتَهُ وَبَنِيهِ وَأَرْكَبَهُمْ عَلَى الْحَمِيرِ وَرَجَعَ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ».
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ هَاء ضمير لِأَهْلِهِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ: بِضَمِّ الْهَاءِ، تَبَعًا لِضَمَّةِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فِي امْكُثُوا.
وَالْإِينَاسُ: الْإِبْصَارُ الْبَيِّنُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ.
وتأكيد الْخَبَر بإن لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِهِ بِشَارَةً لِأَهْلِهِ إِذْ كَانُوا فِي الظُّلْمَةِ.
وَالْقَبَسُ: مَا يُؤْخَذُ اشْتِعَالُهُ مِنِ اشْتِعَالِ شَيْءٍ وَيُقْبَسُ، كَالْجَمْرَةِ مِنْ مَجْمُوعِ الْجَمْرِ وَالْفَتِيلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ فِي ظُلْمَةٍ وَلَمْ يَجِدْ مَا يَقْتَدِحُ بِهِ. وَقِيلَ: اقْتَدَحَ
زَنْدَهُ فَصَلُدَ، أَيْ لَمْ يَقْدَحْ.
وَمَعْنَى أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً: أَوْ أَلْقَى عَارِفًا بِالطَّرِيقِ قَاصِدًا السَّيْرَ فِيمَا أَسِيرُ فِيهِ فَيَهْدِينِي إِلَى السَّبِيلِ. قِيلَ: كَانَ مُوسَى قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ مِنْ شِدَّةِ الظُّلْمَةِ وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَسِيرَ لَيْلًا.
وَحَرْفُ عَلَى فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ شِدَّةُ الْقُرْبِ مِنَ النَّارِ قُرْبًا أَشْبَهَ الِاسْتِعْلَاءَ، وَذَلِكَ أَنَّ مُشْعِلَ النَّارِ يَسْتَدْنِي مِنْهَا لِلِاسْتِنَارَةِ بِضَوْئِهَا أَوْ لِلِاصْطِلَاءِ بِهَا. قَالَ الْأَعْشَى:
وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالْمُحَلِّقُ وَأَرَادَ بِالْهُدَى صَاحِبَ الْهُدَى.
وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ مُوسَى مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ إِلْهَامًا إِيَّاهُ أَنَّهُ سَيَجِدُ عِنْدَ تِلْكَ النَّارِ هُدًى عَظِيمًا، وَيُبَلِّغُ قَوْمَهُ مِنْهُ مَا فِيهِ نَفْعُهُمْ.
وَإِظْهَارُ النَّارِ لِمُوسَى رَمْزٌ رَبَّانِيٌّ لَطِيفٌ إِذْ جَعَلَ اجْتِلَابَهُ لِتَلَقِّي الْوَحْيِ بِاسْتِدْعَاءٍ بِنُورٍ فِي ظُلْمَةٍ رَمْزًا عَلَى أَنَّهُ سَيَتَلَقَّى مَا بِهِ إِنَارَةُ نَاسٍ بِدِينٍ صَحِيحٍ بَعْدَ ظُلْمَةِ الضَّلَالِ وَسُوء الِاعْتِقَاد.
[١١- ١٣]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ١١ إِلَى ١٣]
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يَا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣)
بُنِيَ فِعْلُ النِّدَاءِ لِلْمَجْهُولِ زِيَادَةً فِي التَّشْوِيقِ إِلَى اسْتِطْلَاعِ الْقِصَّةِ، فَإِبْهَامُ الْمُنَادِي يُشَوِّقُ سَامِعَ الْآيَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فَإِذَا فَاجَأَهُ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ عَلِمَ أَنَّ الْمُنَادِيَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَتَمَكَّنَ فِي النَّفْسِ كَمَالَ التَّمَكُّنِ. وَلِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي تَصْوِيرِ تِلْكَ الْحَالَةِ بِأَنَّ مُوسَى نَادَاهُ مُنَادٍ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَهُ، فَحُكِيَ نِدَاؤُهُ بِالْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ.
مُعْتَادٍ غَيْرَ صَادِرَةٍ عَنْ شَخْصٍ مُشَاهَدٍ، وَلَا مُوَجَّهَةٍ لَهُ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ يَتَوَلَّى هُوَ تَبْلِيغَ الْكَلَامِ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْ إِلَيْهِ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النِّسَاء: ١٦٤]، إِذْ عَلِمَ مُوسَى أَنَّ تِلْكَ الْأَصْوَاتِ دَالَّةٌ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَصْوَاتُ الْخَارِقَةُ لِلْعَادَةِ هُوَ مَا نُسَمِّيهِ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ. وَلَيْسَ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ هُوَ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى لِأَنَّ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَسْمَاعِ.
وَالْإِخْبَارُ عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّهُ رَبُّ الْمُخَاطَبِ لِتَسْكِينِ رَوْعَةِ نَفْسِهِ مِنْ خِطَابٍ لَا يُرَى مُخَاطِبُهُ فَإِنَّ شَأْنَ الرَّبِّ الرِّفْقُ بِالْمَرْبُوبِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِهِ لِأَجْلِ غَرَابَتِهِ دَفْعًا لِتَطَرُّقِ الشَّكِّ عَنْ مُوسَى فِي مَصْدَرِ هَذَا الْكَلَامِ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ «أَنِّيَ» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى حَذْفِ بَاءِ الْجَرِّ. وَالتَّقْدِيرُ: نُودِيَ بَأَنِيَ أَنَا رَبِّكَ. وَالتَّأْكِيدُ حَاصِلٌ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ.
وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِخَلْعِ النَّعْلَيْنِ عَلَى الْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ رَبُّهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَكَانَ قَدْ حَلَّهُ التَّقْدِيسُ بِإِيجَادِ كَلَامٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِيهِ.
وَالْخَلْعُ: فَصَلُ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ.
وَإِنَّمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ تَعْظِيمًا مِنْهُ لِذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي سَيَسْمَعُ فِيهِ الْكَلَامَ الْإِلَهِيَّ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ (١) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَتْ نَعْلَاهُ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ»
. أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا زِيَادَةُ خُشُوعٍ. وَقَدِ اقْتَضَى كِلَا الْمَعْنِيِّينِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ فَحَرْفُ التَّوْكِيدِ مُفِيدٌ هُنَا التَّعْلِيلَ كَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِي كُلِّ مَقَامٍ لَا يَقْتَضِي التَّأْكِيدَ.
وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ مِنْ جِهَاتٍ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا حُكْمٌ يَقْتَضِي نَزْعَ النَّعْلِ عِنْدَ الصَّلَاةِ.
وَالْوَادِ: الْمَفْرَجُ بَيْنَ الْجِبَالِ وَالتِّلَالِ. وَأَصْلُهُ بِيَاءٍ فِي آخِرِهِ. وَكَثُرَ تَخْفِيفُهُ بِحَذْفِ الْيَاءِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِذَا ثُنِّيَ لَزِمَتْهُ الْيَاءُ يُقَالُ: وَادِيَانِ وَلَا يُقَالُ وَادَانِ. وَكَذَلِكَ إِذَا
أُضِيفَ يُقَالُ: بِوَادِيكَ وَلَا يُقَالُ بِوَادِكَ.
وَالْمُقَدَّسُ: الْمُطَهَّرُ الْمُنَزَّهُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَدِّسُ لَكَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ [٣٠]. وَتَقْدِيسُ الْأَمْكِنَةِ يَكُونُ بِمَا يَحِلُّ فِيهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُعَظَّمَةِ وَهُوَ هُنَا حُلُولُ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى طُوىً وَهُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ وَبِكَسْرِهَا، وَلَمْ يُقْرَأْ فِي الْمَشْهُورِ إِلَّا بِضَمِّ الطَّاءِ، فَقِيلَ: اسْمٌ لِذَلِكَ الْمَكَانِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ مِثْلُ هُدًى، وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ طَوَاهُ مُوسَى بِالسَّيْرِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ:
إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ الَّذِي طَوَيْتَهُ سَيْرًا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى تَعْيِينُ أَنَّهُ هُوَ ذَلِكَ الْوَادِ.
_________
(١) فِي لبس الصُّوف من كتاب اللبَاس.
وَالظَّاهِرُ عِنْدِي: أَنَّ طُوىً اسْمٌ لِصِنْفٍ مِنَ الْأَوْدِيَةِ يَكُونُ ضَيِّقًا بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ الْمَطْوِيِّ أَوْ غَائِرًا كَالْبِئْرِ الْمَطْوِيَّةِ، وَالْبِئْرُ تُسَمَّى طَوِيًّا. وَسُمِّيَ وَادٍ بِظَاهِرِ مَكَّةَ (ذَا طُوًى) بِتَثْلِيثِ الطَّاءِ، وَهُوَ مَكَانٌ يُسَنُّ لِلْحَاجِّ أَوِ الْمُعْتَمِرِ الْقَادِمِ إِلَى مَكَّةَ أَنْ يَغْتَسِلَ عِنْدَهُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي (طُوَى) هَلْ يَنْصَرِفُ أَوْ يُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ أَوْ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنْ طَاوٍ، مِثْلُ عُمَرَ عَنْ عَامِرٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ طُوىً بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ الصَّرْفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ مُنَوَّنًا، لِأَنَّهُ اسْمُ وَادٍ مُذَكَّرٌ.
وَقَوْلُهُ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ أَخْبَرَ عَنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى مُوسَى بِطَرِيقِ الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ الْمُفِيدِ تَقْوِيَةَ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْمَقَامَ لَيْسَ مَقَامَ إِفَادَةِ التَّخْصِيصِ، أَيِ الْحَصْرِ نَحْوَ: أَنَا سَعَيْتُ فِي حَاجَتِكَ، وَهُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ. وَمُوجِبُ التَّقَوِّي هُوَ غَرَابَةُ الْخَبَرِ وَمُفَاجَأَتُهُ بِهِ دَفْعًا لِتَطَرُّقِ الشَّكِّ فِي نَفْسِهِ.
وَالِاخْتِيَارُ: تَكَلَّفَ طَلَبِ مَا هُوَ خَيْرٌ. وَاسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ التَّكَلُّفِ فِي مَعْنَى إِجَادَةِ طَلَبِ الْخَيْرِ.
وَالْمُرَادُ: مَا يُوحَى إِلَيْهِ حِينَئِذٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَأَمَّا مَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَيَّامِ فَكَوْنُهُ مَأْمُورًا بِاسْتِمَاعِهِ مَعْلُومٌ بِالْأَحْرَى.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ بِضَمِيرَيِ التَّعْظِيمِ.
وَاللَّامُ فِي لِما يُوحى لِلتَّقْوِيَةِ فِي تَعْدِيَةِ فِعْلِ «اسْتَمِعْ» إِلَى مَفْعُولِهِ، فَيَجُوزُ أَن تتَعَلَّق باخترتك، أَيِ اخْتَرْتُكَ لِلْوَحْيِ فَاسْتَمِعْ، مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمُتَعَلِّقِ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ اسْتَمِعْ معنى أصغ.
[١٤- ١٦]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ١٤ إِلَى ١٦]
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦)
هَذَا مَا يُوحَى الْمَأْمُورُ بِاسْتِمَاعِهِ، فَالْجُمْلَةُ بدل من لِما يُوحى [طه: ١٣] بَدَلا مُطلقًا.
وَوَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ الدَّالِّ عَلَى الذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ. وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا يَجِبُ علمه من شؤون الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ الِاسْمَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَمًا عَلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ لِجَمِيعِ مَا سَيُخَاطَبُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُبَلَّغَةِ عَنْ رَبِّهِمْ.
وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يَتَعَارَفُ بِهِ الْمُتَلَاقُونَ أَنْ يَعْرِفُوا أَسْمَاءَهُمْ، فَأَشَارَ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بَاسِمِ كَلِيمِهِ وَعَلَّمَ كَلِيمَهُ اسْمَهُ، وَهُوَ اللَّهُ.
وَلَفْظُ (أَهْيَهْ) أَوْ (يَهْوَهْ) قَرِيبُ الْحُرُوفِ مِنْ كَلِمَةِ إِلَهٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ.
وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ «لَاهُمْ». وَلَعَلَّ الْمِيمَ فِي آخِرِهِ هِيَ أَصْلُ التَّنْوِينِ فِي إِلَهٍ.
وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِدَفْعِ الشَّكِّ عَنْ مُوسَى نَزَلَ مَنْزِلَةَ الشَّاكِّ لِأَنَّ غَرَابَةَ الْخَبَرِ تُعَرِّضُ السَّامِعَ لِلشَّكِّ فِيهِ.
وَتَوْسِيطُ ضَمِيرَ الْفَصْلِ بِقَوْلِهِ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لِزِيَادَةِ تَقْوِيَةِ الْخَبَرِ، وَلَيْسَ بِمُفِيدٍ لِلْقَصْرِ، إِذْ لَا مُقْتَضَى لَهُ هُنَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ الْمُسَمَّى اللَّهُ، فَالْحَمْلُ حَمْلُ مُوَاطَاةٍ لَا حَمْلُ اشْتِقَاقٍ. وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [الْمَائِدَة: ٧٢].
وَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ (إِنَّ). وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ حُصُولُ الْعِلْمِ لِمُوسَى بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ بِعِبَادَتِهِ. وَالْعِبَادَةُ تَجْمَعُ مَعْنَى الْعَمَلِ الدَّالِّ عَلَى التَّعْظِيمِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَإِخْلَاصٍ بِالْقَلْبِ. وَوَجْهُ التَّفْرِيعِ أَنَّ انْفِرَادَهُ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَهُ أَنْ يُعْبَدَ.
وَخُصَّ مِنَ الْعِبَادَاتِ بِالذِّكْرِ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَجْمَعُ أَحْوَالَ الْعِبَادَةِ. وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ: إِدَامَتُهَا، أَيْ عَدَمُ الْغَفْلَةِ عَنْهَا.
وَاللَّامُ فِي لِذِكْرِي لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ أَنْ تَذْكُرَنِي، لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُذَكِّرُ الْعَبْدَ بِخَالِقِهِ. إِذْ يَسْتَشْعِرُ أَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لِمُنَاجَاتِهِ. فَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِيمَاءٌ إِلَى حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ وَبِضَمِيمَتِهِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: ٤٥] يَظْهَرُ أَنَّ التَّقْوَى مِنْ حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا ذَكَرَ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ وَاجْتَنَبَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ وَاللَّهُ عَرَّفَ مُوسَى حِكْمَةَ الصَّلَاةِ مُجْمَلَةً وَعَرَّفَهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَصَّلَةً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ أَيْضًا لِلتَّوْقِيتِ، أَيْ أَقِمِ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْوَقْتِ الَّذِي جَعَلْتُهُ لِذِكْرِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ الذِّكْرَ اللِّسَانِيَّ لِأَنَّ ذِكْرَ اللِّسَانِ يُحَرِّكُ ذِكْرَ الْقَلْبِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالِاعْتِرَافِ بِمَا لَهُ مِنَ الْحَقِّ، أَيِ الَّذِي عَيَّنْتُهُ لَكَ. فَفِي الْكَلَامِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِابْتِدَاءِ إِعْلَامٍ بِأَصْلٍ ثَانٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ بَعْدَ أَصْلِ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْجَزَاءِ.
وَالسَّاعَةُ: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى سَاعَةِ الْقِيَامَةِ أَوْ سَاعَةِ الْحِسَابِ.
وَجُمْلَةُ أَكادُ أُخْفِيها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ السَّاعَةِ، أَوْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةٍ وَعِلَّتِهَا.
وَالْإِخْفَاءُ: السَّتْرُ وَعَدَمُ الْإِظْهَارِ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا الْمَجَازُ عَنْ عَدَمِ الْإِعْلَامِ.
وَالْمَشْهُورُ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنَّ «كَادَ» تَدُّلُ عَلَى مُقَارَبَةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنْهَا، فَالْفِعْلُ بَعْدَهَا فِي حَيِّزِ الِانْتِفَاءِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ مَخْفِيَّةَ الْوُقُوعِ، أَيْ مَخْفِيَّةَ الْوَقْتِ، كَانَ قَوْلُهُ أَكادُ أُخْفِيها غَيْرَ وَاضِحِ الْمَقْصُودِ، فَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَمْثَلُهَا ثَلَاثَةٌ.
فَقِيلَ: الْمُرَادُ إِخْفَاءُ الْحَدِيثِ عَنْهَا، أَيْ مِنْ شِدَّةِ إِرَادَةِ إِخْفَاءِ وَقْتِهَا، أَيْ يُرَادُ تَرْكُ ذِكْرِهَا وَلَعَلَّ تَوْجِيهَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِالسَّاعَةِ لَمْ يَزِدْهُمْ تَكَرُّرُ ذِكْرِهَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا عِنَادًا عَلَى إِنْكَارِهَا.
وَقِيلَ: وَقَعَتْ أَكادُ زَائِدَةً هُنَا بِمَنْزِلَةِ زِيَادَةِ كَانَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَأْكِيدًا لِلْإِخْفَاءِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَا أُخْفِيهَا فَلَا تَأْتِي إِلَّا بَغْتَةً.
وَتَأَوَّلَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ مَعْنَى أُخْفِيها بِمَعْنَى أُظْهِرُهَا، وَقَالَ: هَمْزَةُ أُخْفِيها لِلْإِزَالَةِ مِثْلُ هَمْزَةِ أَعْجَمَ الْكِتَابَ، وَأَشْكَى زَيْدًا، أَيْ أُزِيلُ خَفَاءَهَا. وَالْخَفَاءُ: ثَوْبٌ تُلَفُّ فِيهِ الْقِرْبَةُ مُسْتَعَارٌ لِلسِّتْرِ.
فَالْمَعْنَى: أَكَادُ أُظْهِرُهَا، أَيْ أُظْهِرُ وُقُوعَهَا، أَيْ وُقُوعُهَا قَرِيبٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ غَرَائِبِ اسْتِعْمَالِ (كَادَ) فَيُضَمُّ إِلَى اسْتِعْمَالِ نَفْيِهَا فِي قَوْلِهِ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧١].
وَقَوْلُهُ لِتُجْزى يتعلّق بآتية وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَهَذَا تَعْلِيمٌ بِحِكْمَةِ جَعْلِ يَوْمٍ لِلْجَزَاءِ.
وَاللَّامُ فِي لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ متعلّق بآتية.
وَمَعْنَى بِما تَسْعى بِمَا تَعْمَلُ، فَإِطْلَاقُ السَّعْيِ عَلَى الْعَمَلِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ
وَصِيغَ نَهْيُ مُوسَى عَنِ الصَّدِّ عَنْهَا فِي صِيغَةِ نَهْيِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالسَّاعَةِ عَنْ أَنْ يُصَدَّ مُوسَى عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، مُبَالَغَةً فِي نَهْيِ مُوسَى عَنْ أَدْنَى شَيْءٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَّهَ الْكَلَامَ إِلَيْهِ وَكَانَ النَّهْيُ نَهْيَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ عَنْ أَنْ يَصُدَّ مُوسَى، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ نَهْيُ مُوسَى عَنْ مُلَابَسَةِ صَدِّ الْكَافِرِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ، أَيْ لَا تَكُنْ لَيِّنَ الشَّكِيمَةِ لِمَنْ يَصُدَّكَ وَلَا تُصْغِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ لِينُكَ لَهُ مُجَرِّئًا إِيَّاهُ عَلَى أَنْ يَصُدَّكَ، فَوَقَعَ النَّهْيُ عَنِ الْمُسَبَّبِ. وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ السَّبَبِ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا وَلَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا.
وَزِيَادَةُ وَاتَّبَعَ هَواهُ لِلْإِيمَاءِ بِالصِّلَةِ إِلَى تَعْلِيلِ الصَّدِّ، أَيْ لَا دَاعِيَ لَهُمْ لِلصَّدِّ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَى دُونَ دَلِيلٍ وَلَا شُبْهَةٍ، بَلِ الدَّلِيلُ يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِالسَّاعَةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى.
وَفُرِّعَ عَلَى النَّهْيِ أَنَّهُ إِنْ صُدَّ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ رَدِيَ، أَيْ هَلَكَ. وَالْهَلَاكُ مُسْتَعَارٌ لِأَسْوَأِ الْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَة [٤٢].
والتفريع ناشىء عَن ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ لَا عَلَى النَّهْيِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالتَّفْرِيعِ بِالْفَاءِ وَلَمْ يَقَعْ بِالْجَزَاءِ الْمَجْزُومِ، فَلَمْ يَقُلْ: تَرْدَ، لِعَدَمِ صِحَّةِ
وَقَدْ جَاءَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كُلِّ حُكْمٍ، وَأَمْرٍ أَو نهي، فابتدئ بِالْإِعْلَامِ بِأَنَّ الَّذِي يُكَلِّمُهُ هُوَ اللَّهُ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي، ثُمَّ عَقَّبَ بِإِثْبَاتِ السَّاعَةِ، وَعَلَّلَ بِأَنَّهَا
لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهِ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَصُدَّهُ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا. ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى النَّهْيِ أَنَّهُ إِنِ ارْتَكَبَ مَا نُهِيَ عَنْهُ هلك وخسر.
[١٧- ٢١]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ١٧ إِلَى ٢١]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يَا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١)
بَقِيَّةُ مَا نُودِيَ بِهِ مُوسَى. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ قَبْلَهَا انْتِقَالًا إِلَى مُحَاوَرَةٍ أَرَادَ اللَّهُ مِنْهَا أَنْ يُرِيَ مُوسَى كَيْفِيَّةَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ بِالْمُعْجِزَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهِيَ انْقِلَابُ الْعَصَا حَيَّةً تَأْكُلُ الْحَيَّاتِ الَّتِي يُظْهِرُونَهَا.
وَإِبْرَازُ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً فِي خِلَالِ الْمُحَاوَرَةِ لِقَصْدِ تَثْبِيتِ مُوسَى، وَدَفْعِ الشَّكِّ عَنْ أَنْ يَتَطَرَّقَهُ لَوْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ دُونَ تَجْرِبَةٍ لِأَنَّ مَشَاهِدَ الْخَوَارِقِ تسارع بِالنَّفسِ بادىء ذِي بَدْءٍ إِلَى تَأْوِيلِهَا وَتُدْخِلُ
وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ زِيَادَةُ اطْمِئْنَانِ قَلْبِهِ بِأَنَّهُ فِي مَقَامِ الِاصْطِفَاءِ، وَأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي سَمِعَهُ كَلَامٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ بِدُونِ وَاسِطَةِ مُتَكَلِّمٍ مُعْتَادٍ وَلَا فِي صُورَةِ الْمُعْتَادِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى [طه: ٢٣].
فَظَاهِرُ الِاسْتِفْهَامِ أَنَّهُ سُؤَالٌ عَنْ شَيْءٍ أُشير إِلَيْهِ. وبنيت الْإِشَارَةُ بِالظَّرْفِ الْمُسْتَقِرِّ وَهُوَ قَوْلُهُ بِيَمِينِكَ، وَوَقَعَ الظَّرْفُ حَالًا مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ مَا تِلْكَ حَالُ كَوْنِهَا بِيَمِينِكَ؟.
فَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ أَمْرٍ غَرِيبٍ فِي شَأْنِهَا، وَلِذَلِكَ أَجَابَ مُوسَى عَنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ بِبَيَانِ مَاهِيَّةِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ جَرْيًا عَلَى الظَّاهِرِ، وَبِبَيَانِ بَعْضِ مَنَافِعِهَا اسْتِقْصَاءً لِمُرَادِ السَّائِلِ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَأَلَ عَنْ وَجْهِ اتِّخَاذِهِ الْعَصَا بِيَدِهِ لِأَنَّ شَأْنَ الْوَاضِحَاتِ أَنْ لَا يُسْأَلَ عَنْهَا إِلَّا وَالسَّائِلُ يُرِيدُ مِنْ سُؤَالِهِ أَمْرًا غَيْرَ ظَاهِرٍ، وَلِذَلِكَ لَمَّا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» سَكَتَ النَّاسُ وَظَنُّوا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: «اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؟
... » إِلَى آخِرِهِ.
فَابْتَدَأَ مُوسَى بِبَيَانِ الْمَاهِيَةِ بِأُسْلُوبٍ يُؤْذِنُ بِانْكِشَافِ حَقِيقَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، وَتَوَقَّعَ أَنَّ
السُّؤَالَ عَنْهُ تَوَسُّلٌ لِتَطَلُّبِ بَيَانٍ وَرَاءَهُ. فَقَالَ: هِيَ عَصايَ، بِذِكْرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، مَعَ أَنَّ غَالِبَ الِاسْتِعْمَالِ حَذْفُهُ فِي مَقَامِ السُّؤَالِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذِكْرِهِ فِي الْجَواب بِوُقُوعِهِ مسؤولا
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِيَمِينِكَ لِلظَّرْفِيَّةِ أَوِ الْمُلَابَسَةِ.
وَالتَّوَكُّؤُ: الِاعْتِمَادُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَتَاعِ، وَالِاتِّكَاءُ كَذَلِكَ، فَلَا يُقَالُ: تَوَكَّأَ عَلَى الْحَائِطِ وَلَكِنْ يُقَالُ: تَوَكَّأَ عَلَى وِسَادَةٍ، وَتَوَكَّأَ عَلَى عَصًا.
وَالْهَشُّ: الْخَبْطُ، وَهُوَ ضَرْبُ الشَّجَرَةِ بِعَصًا لِيَتَسَاقَطَ وَرَقُهَا، وَأَصْلُهُ مُتَعَدٍّ إِلَى الشَّجَرَةِ فَلِذَلِكَ ضُمَّتْ عَيْنُهُ فِي الْمُضَارِعِ، ثُمَّ كَثُرَ حَذْفُ مَفْعُولِهِ وَعُدِّيَ إِلَى مَا لِأَجْلِهِ يُوقع الهش بعلى لِتَضْمِينِ (أَهُشُّ) مَعْنَى أُسْقِطُ عَلَى غَنَمِي الْوَرَقَ فَتَأْكُلُهُ، أَوِ اسْتُعْمِلَتْ (عَلَى) بِمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ كَقَوْلِهِمْ: هُوَ وَكِيلٌ عَلَى فُلَانٍ.
وَمَآرِبُ: جَمَعُ مَأْرَبَةٍ، مُثَلَّثُ الرَّاءِ: الْحَاجَةُ، أَيْ أُمُورٌ أَحْتَاجُ إِلَيْهَا. وَفِي الْعَصَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ رُوِيَ بَعْضُهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ أَفْرَدَ الْجَاحِظُ مِنْ كِتَابِ «الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ» بَابًا لِمَنَافِعِ الْعَصَا. وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ: «هُوَ خَيْرُ مَنْ تُفَارِقُ الْعَصَا». وَمِنْ لَطَائِفِ مَعْنَى الْآيَةِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ مِنْ أَنَّ مُوسَى أَطْنَبَ فِي جَوَابِهِ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا فِي السُّؤَالِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَشْرِيفٍ يَنْبَغِي فِيهِ طُولُ الْحَدِيثِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ مَآرِبُ أُخْرى حِكَايَةٌ لِقَوْلِ مُوسَى بِمُمَاثِلِهِ، فَيَكُونُ إِيجَازًا بَعْدَ الْإِطْنَابِ، وَكَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَزِيدَ مِنْ ذِكْرِ فَوَائِدِ
وَالضَّمِيرُ الْمُشْتَرَكُ فِي قالَ أَلْقِها عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ التَّكَلُّمِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ دَعَا إِلَى الِالْتِفَاتِ وُقُوعُ هَذَا الْكَلَامِ حِوَارًا مَعَ قَوْلِ
مُوسَى: هِيَ عَصايَ... إِلَخْ.
وَقَوْلُهُ أَلْقِها يَتَّضِحُ بِهِ أَنَّ السُّؤَالَ كَانَ ذَرِيعَةً إِلَى غَرَضٍ سَيَأْتِي، وَهُوَ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي قَوْلِهِ وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ إِلَى أَهَمِّيَّةِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ كَالَّذِي يَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى [طه: ٨٣].
وَالْحَيَّةُ: اسْمٌ لِصِنْفٍ مِنَ الْحَنَشِ مَسْمُومٍ إِذَا عَضَّ بِنَابَيْهِ قَتَلَ الْمَعْضُوضَ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ.
وَوصف الحيّة بتسعى لِإِظْهَارِ أَنَّ الْحَيَاةَ فِيهَا كَانَتْ كَامِلَةً بِالْمَشْيِ الشَّدِيدِ. وَالسَّعْيُ:
الْمَشْيُ الَّذِي فِيهِ شِدَّةٌ، وَلِذَلِكَ خُصَّ غَالِبًا بِمَشْيِ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ.
وَأُعِيدَ فِعْلُ قالَ خُذْها بِدُونِ عَطْفٍ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ.
وَالسِّيرَةُ فِي الْأَصْلِ: هَيْئَةُ السَّيْرِ، وَأُطْلِقَتْ عَلَى الْعَادَةِ وَالطَّبِيعَةِ، وَانْتَصَبَ سِيرَتَهَا بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ سَنُعِيدُهَا إِلَى سِيرَتِهَا الْأُولَى الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ أَنْ تَنْقَلِبَ حَيَّةً، أَيْ سَنُعِيدُهَا عَصًا كَمَا كَانَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
وَالْغَرَضُ مِنْ إِظْهَارِ ذَلِكَ لِمُوسَى أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْعَصَا تَطَبَّعَتْ بِالِانْقِلَابِ حَيَّةً، فَيَتَذَكَّرَ ذَلِكَ عِنْدَ مُنَاظَرَةِ السَّحَرَةِ لِئَلَّا يَحْتَاجَ حِينَئِذٍ إِلَى وَحي.
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٢٢ إِلَى ٢٣]
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣)هَذِهِ مُعْجِزَةٌ أُخْرَى عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا حَتَّى إِذَا تَحَدَّى فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ عَمِلَ مِثْلَ ذَلِكَ أَمَامَ السَّحَرَةِ. فَهَذَا تَمْرِينٌ عَلَى مُعْجِزَةٍ ثَانِيَةٍ مُتَّحِدُ الْغَرَضِ مَعَ إِلْقَاءِ الْعَصَا.
وَالْجَنَاحُ: الْعَضُدُ وَمَا تَحْتَهُ إِلَى الْإِبِطِ. أُطْلِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِجَنَاحِ الطَّائِرِ.
وَالضَّمُّ: الْإِلْصَاقُ، أَيْ أَلْصِقْ يَدَكَ الْيُمْنَى الَّتِي كُنْتَ مُمْسِكًا بِهَا الْعَصَا. وَكَيْفِيَّةُ إِلْصَاقِهَا بِجَنَاحِهِ أَنْ تُبَاشِرَ جِلْدَ جَنَاحِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهَا فِي جَيْبِ قَمِيصِهِ حَتَّى تَمَاسَّ بَشَرَةَ جَنْبِهِ، كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ سُلَيْمَانَ: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النّمل:
١٢]. جَعَلَ اللَّهُ تَغَيُّرَ لَوْنِ جِلْدِ يَدِهِ مُمَاسَّتِهَا جَنَاحَهُ تَشْرِيفًا لِأَكْثَرِ مَا يُنَاسِبُ مِنْ أَجْزَاءِ جِسْمِهِ بِالْفِعْلِ وَالِانْفِعَالِ.
وبَيْضاءَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَخْرُجْ، ومِنْ غَيْرِ سُوءٍ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ بَيْضاءَ.
وَمَعْنَى مِنْ غَيْرِ سُوءٍ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ مِثْلِ الْبَرَصِ وَالْبَهَقِ بِأَنْ تَصِيرَ بَيْضَاءَ ثُمَّ تَعُودَ إِلَى لَوْنِهَا الْمُمَاثِلِ لَوْنَ بَقِيَّةِ بَشَرَتِهِ. وَانْتَصَبَ آيَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تَخْرُجْ.
وَالتَّعْلِيلُ فِي قَوْلِهِ لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ تَخْرُجْ بَيْضاءَ، فَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِ تَخْرُجْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نَجْعَلُهَا بَيْضَاءَ فَتَخْرُجُ بَيْضَاءَ أَوْ نُخْرِجُهَا لَكَ بَيْضَاءَ.
وَهَذَا التَّعْلِيلُ رَاجِعٌ إِلَى تَكْرِيرِ
ومِنْ آياتِنَا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُول الثَّانِي لنريك، فَتكون (من) فِيهِ اسْمًا بِمَعْنَى بَعْضٍ عَلَى رَأْيِ الْتَفْتَازَانِيِّ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٨]، وَيُشِير إِلَيْهِ كَلَامُ «الْكَشَّافِ» هُنَا.
والْكُبْرى صِفَةٌ لِ آياتِنَا. وَالْكِبَرُ: مُسْتَعَارٌ لِقُوَّةِ الْمَاهِيَّةِ. أَيْ آيَاتِنَا الْقَوِيَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِنَا أَوْ عَلَى أَنا أَرْسَلْنَاك.
[٢٤- ٣٦]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٢٤ إِلَى ٣٦]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى (٣٦)
لَمَّا أَظْهَرَ اللَّهُ لَهُ الْآيَتَيْنِ فَعَلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُدْخِلَ الرَّوْعَ فِي نَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ مُوَاجَهَةُ أَعْظَمِ مُلُوكِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ بِالْمَوْعِظَةِ وَمُكَاشَفَتُهُ بِفَسَادِ حَالِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْآيَاتِ الْآتِيَةِ:
وَالذَّهَابُ الْمَأْمُورُ بِهِ ذَهَابٌ خَاصٌّ، قَدْ فَهِمَهُ مُوسَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْإِخْبَارِ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ لَهُ، أَوْ صَرَّحَ لَهُ بِهِ وَطَوَى ذِكْرَهُ هُنَا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِيجَازِ، عَلَى أَنَّ التّعليل الْوَاقِع بعده ينبىء بِهِ.
فَجُمْلَةُ إِنَّهُ طَغى تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالذَّهَابِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا صَلُحَتْ لِلتَّعْلِيلِ لِأَنَّ الْمُرَادَ ذَهَابٌ خَاصٌّ، وَهُوَ إِبْلَاغُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِإِبْلَاغِهِ إِلَيْهِ من تَغْيِيره عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ.
وَلَمَّا عَلِمَ مُوسَى ذَلِكَ لَمْ يُبَادِرْ بِالْمُرَاجَعَةِ فِي الْخَوْفِ مِنْ ظُلْمِ فِرْعَوْنَ، بَلْ تَلَقَّى الْأَمْرَ وَسَأَلَ اللَّهَ الْإِعَانَةَ عَلَيْهِ، بِمَا يؤول إِلَى رَبَاطَةِ جَأْشِهِ وَخَلْقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُعِينُهُ عَلَى تَبْلِيغِهِ، وَإِعْطَائِهِ فَصَاحَةَ الْقَوْلِ لِلْإِسْرَاعِ بِالْإِقْنَاعِ بِالْحُجَّةِ.
وَحُكِيَ جَوَابُ مُوسَى عَنْ كَلَامِ الرَّبِّ بِفِعْلِ الْقَوْلِ غَيْرِ مَعْطُوفٍ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ.
وَرَتَّبَ مُوسَى الْأَشْيَاءَ الْمَسْئُولَةَ فِي كَلَامِهِ عَلَى حَسْبِ تَرْتِيبِهَا فِي الْوَاقِعِ عَلَى الْأَصْلِ فِي تَرْتِيبِ الْكَلَامِ مَا لَمْ يَكُنْ مُقْتَضٍ لِلْعَدْلِ عَنْهُ.
فَالشَّرْحُ، حَقِيقَتُهُ: تَقْطِيعُ ظَاهِرِ شَيْءٍ لَيِّنٍ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِإِزَالَةِ مَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ مِنْ خَوَاطِرَ تُكَدِّرُهُ أَوْ تُوجِبُ تَرَدُّدَهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى عَمَلٍ مَا تَشْبِيهًا بِتَشْرِيحِ اللَّحْمِ بِجَامِعِ التَّوْسِعَةِ.
وَالْقَلْبُ: يُرَادُ بِهِ فِي كَلَامِهِمُ وَالْعقل. فَالْمَعْنَى: أَزِلْ عَنْ فِكْرِي الْخَوْفَ وَنَحْوَهُ، مِمَّا يَعْتَرِضُ الْإِنْسَانَ مِنْ عَقَبَاتٍ تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِإِقْدَامِهِ وَعَزَامَتِهِ، وَذَلِكَ مِنَ الْعُسْرِ، فَسَأَلَ تَيْسِيرَ أَمْرِهِ، أَيْ إِزَالَةَ الْمَوَانِعِ الْحَافَّةِ بِمَا كُلِّفَ بِهِ.
وَالتَّيْسِيرُ: جَعْلُ الشَّيْءِ يَسِيرًا، أَيْ ذَا يُسْرٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ فِي سُورَة الْبَقَرَةِ [١٨٥].
ثُمَّ سَأَلَ سَلَامَةَ آلَةِ التَّبْلِيغِ وَهُوَ اللِّسَانُ بِأَنْ يَرْزُقَهُ فَصَاحَةَ التَّعْبِيرِ وَالْمَقْدِرَةَ عَلَى أَدَاءِ مُرَادِهِ بِأَوْضَحِ عِبَارَةً، فَشَبَّهَ حُبْسَةَ اللِّسَانِ بِالْعُقْدَةِ فِي الْحَبْلِ أَوِ الْخَيْطِ وَنَحْوِهِمَا لِأَنَّهَا تَمْنَعُ سُرْعَةَ اسْتِعْمَالِهِ.
وَالْعُقْدَةُ: مَوْضِعُ رَبْطِ بَعْضِ الْخَيْطِ أَوِ الْحَبْلِ بِبَعْضٍ آخَرَ مِنْهُ، وَهِيَ بِزِنَةِ فُعْلَةٍ بِمَعْنى مفعول كقضة وَغَرْفَةٍ أُطْلِقَتْ عَلَى عُسْرِ النُّطْقِ بِالْكَلَامِ أَوْ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِعَدَمِ تَصَرُّفِ اللِّسَانِ عِنْدَ النُّطْقِ بِالْكَلِمَةِ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ، وَيُقَالُ لَهَا حُبْسَةٌ.
يُقَالُ: عَقِدَ اللِّسَانُ كَفَرِحَ، فَهُوَ أَعْقَدُ إِذَا كَانَ لَا يُبِينُ الْكَلَامَ. وَاسْتَعَارَ لِإِزَالَتِهَا فِعْلَ الْحِلِّ الْمُنَاسِبِ الْعُقْدَةَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ.
وَزِيَادَةُ لِي بَعْدَ اشْرَحْ وَبَعْدَ يَسِّرْ إِطْنَابٌ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» لِأَنَّ الْكَلَامَ مُفِيدٌ بِدُونِهِ. وَلَكِنْ سُلِكَ الْإِطْنَابُ لِمَا تُفِيدُهُ اللَّامُ مِنْ مَعْنَى الْعِلَّةِ، أَيِ اشْرَحْ صَدْرِي لِأَجْلِي وَيَسِّرْ أَمْرِي لِأَجْلِي، وَهِيَ اللَّامُ الْمُلَقَّبَةُ لَامَ التَّبْيِينِ الَّتِي تُفِيدُ تَقْوِيَةَ الْبَيَانِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ صَدْرِي وأَمْرِي وَاضِحٌ أَنَّ الشَّرْحَ وَالتَّيْسِيرَ مُتَعَلِّقَانِ بِهِ فَكَانَ قَوْله لِي فيهمَا زِيَادَةَ بَيَانٍ كَقَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: ١] وَهُوَ هُنَا ضَرْبٌ مِنَ الْإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ.
وَأَمَّا تَقْدِيمُ هَذَا الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ فَلِيَحْصُلَ الْإِجْمَالُ ثُمَّ التَّفْصِيلُ فَيُفِيدُ مَفَادَ التَّأْكِيدِ مِنْ أَجْلِ تَكَرُّرِ الْإِسْنَادِ.
وَتَنْكِيرُ عُقْدَةً لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ عُقْدَةً شَدِيدَةً.
ومِنْ لِسانِي صفة لعقدة. وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: عُقْدَةَ لِسَانِي، بِالْإِضَافَةِ لِيَتَأَتَّى التَّنْكِيرُ الْمُشْعِرُ بِأَنَّهَا عُقْدَةٌ شَدِيدَةٌ.
وَفِعْلُ يَفْقَهُوا مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُتَّبَعَةِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ جَعْلِ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاصِلِ عَقِبَ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ [النُّور: ٣٠] أَيْ أَنْ نَقُلْ لَهُمْ غُضُّوا يَغُضُّوا، أَيْ شَأْنُهُمُ الِامْتِثَالُ. وَالْفِقْهُ: الْفَهْمُ.
وَالْوَزِيرُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعل، من وزار عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، مِثْلُ حَكِيمٍ مِنْ أَحْكَمَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَزْرِ، وَهُوَ الْمَعُونَةُ، وَالْمُؤَازَرَةُ كَذَلِكَ، وَالْكُلُّ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَزْرِ، أَيِ الْظَّهْرِ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، فَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ أَزِيرًا بِالْهَمْزَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ قَلَبُوا هَمْزَتَهُ وَاوًا حَمْلًا عَلَى مُوَازِرٍ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَاهُ الَّذِي قُلِبَتْ هَمْزَتُهُ وَاوًا لِانْضِمَامِ مَا قَبْلَهَا. فَلَمَّا كَثُرَ فِي الْكَلَامِ قَوْلُهُمْ:
مُوَازِرٌ وَيُوَازِرُ بِالْوَاوِ نَطَقُوا بِنَظِيرِهِ فِي الْمَعْنَى بِالْوَاوِ بِدُونِ مُوجِبٍ لِلْقَلْبِ إِلَّا الْحَمْلُ عَلَى النَّظِيرِ فِي النُّطْقِ، أَيِ اعْتِيَادِ النُّطْقِ بِهَمْزَتِهِ وَاوًا، أَيِ اجْعَلْ مُعِينًا مِنْ أَهْلِي.
وَخَصَّ هَارُونَ لِفَرْطِ ثِقَتِهِ بِهِ وَلِأَنَّهُ كَانَ فَصِيحَ اللِّسَانِ مِقْوَالًا، فَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِهِ مَظِنَّةُ
النُّصْحِ لَهُ، وَكَوْنُهُ أَخَاهُ أَقْوَى فِي الْمُنَاصَحَةِ، وَكَوْنُهُ الْأَخَ الْخَاصَّ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ بِأَصَالَةِ الرَّأْيِ.
وَجُمْلَةُ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ فِي فعلي اشْدُدْ، وأَشْرِكْهُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ اجْعَلْ لِي وَزِيراً. سَأَلَ اللَّهَ
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ الْمَقْطُوعَةِ- فِي «أَشْدُدْ» - وَبِضَمِّ هَمْزَةِ- «أُشْرِكْهُ»، فَالْفِعْلَانِ إِذَنْ مَجْزُومَانِ فِي جَوَابِ الدُّعَاءِ كَمَا جَزَمَ يَفْقَهُوا قَوْلِي.
وهارُونَ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِفِعْلِ اجْعَلْ، قُدِّمَ عَلَيْهِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِلِاهْتِمَامِ.
وَالشَّدُّ: الْإِمْسَاكُ بِقُوَّةٍ.
وَالْأَزْرُ: أَصْلُهُ الظَّهْرُ. وَلَمَّا كَانَ الظَّهْرُ مَجْمَعَ حَرَكَةِ الْجِسْمِ وَقِوَامَ اسْتِقَامَتِهِ أُطْلِقَ اسْمُهُ عَلَى الْقُوَّةِ إِطْلَاقًا شَائِعًا يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ فَقِيلَ الْأَزْرُ لِلْقُوَّةِ.
وَقِيلَ: آزَرَهُ إِذَا أَعَانَهُ وَقَوَّاهُ. وَسُمِّيَ الْإِزَارُ إِزَارًا لِأَنَّهُ يُشَدُّ بِهِ الظَّهْرُ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ مُرَادٌ بِهِ الظَّهْرُ لِيُنَاسِبَ الشَّدَّ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ الْمُعِينِ وَالْمُعَانِ بِهَيْئَةِ مَشْدُودِ الظَّهْرِ بِحِزَامٍ وَنَحْوِهِ وَشَادِّهِ.
وَعَلَّلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سُؤَالَهُ تَحْصِيلَ مَا سَأَلَهُ لِنَفْسِهِ وَلِأَخِيهِ، بِأَنْ يُسَبِّحَا اللَّهَ كَثِيرًا وَيَذْكُرَا اللَّهَ كَثِيرًا. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ فِيمَا سَأَلَهُ لِنَفْسِهِ تَسْهِيلًا لِأَدَاءِ الدَّعْوَةِ بِتَوَفُّرِ آلَاتِهَا وَوُجُودِ الْعَوْنِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ مَظِنَّةُ تَكْثِيرِهَا.
وَأَيْضًا فِيمَا سَأَلَهُ لِأَخِيهِ تَشْرِيكَهُ فِي الدَّعْوَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِأَخِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَذَلِكَ يَجْعَلُ مِنْ أَخِيهِ مُضَاعَفَةً لِدَعْوَتِهِ، وَذَلِكَ يَبْعَثُ أَخَاهُ أَيْضًا عَلَى الدَّعْوَةِ. وَدَعْوَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا تَشْتَمِلُ عَلَى التَّعْرِيفِ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ فَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّسْبِيحِ، وَفِي الدَّعْوَةِ حَثٌّ عَلَى الْعَمَلِ بِوَصَايَا
وَأَيْضًا فِي التَّعَاوُنِ عَلَى آدَاءِ الرِّسَالَةِ تَقْلِيلٌ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِضَرُورَاتِ الْحَيَاةِ، إِذْ يُمْكِنُ
أَنْ يَقْتَسِمَا الْعَمَلَ الضَّرُورِيَّ لِحَيَاتِهِمَا فَيَقِلُّ زَمَنُ اشْتِغَالِهِمَا بِالضَّرُورِيَّاتِ وَتَتَوَفَّرُ الْأَوْقَاتُ لِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ. وَتِلْكَ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ لِكِلَيْهِمَا فِي التَّبْلِيغِ.
وَالَّذِي أَلْجَأَ مُوسَى إِلَى سُؤَالِ ذَلِكَ عِلْمُهُ بِشِدَّةِ فِرْعَوْنَ وَطُغْيَانِهِ وَمَنْعِهِ الْأُمَّةَ مِنْ مُفَارَقَةِ ضَلَالِهِمْ، فَعُلِمَ أَنَّ فِي دَعْوَتِهِ فِتْنَةً لِلدَّاعِي فَسَأَلَ الْإِعَانَةَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ تِلْكَ الْفِتْنَة ليتوفّرا لِلتَّسْبِيحِ وَالذِّكْرِ كَثِيرًا.
وَجُمْلَةُ إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً تَعْلِيلٌ لِسُؤَالِهِ شَرْحَ صَدْرِهِ وَمَا بَعْدَهُ، أَيْ لِأَنَّكَ تَعْلَمُ حَالِي وَحَالَ أَخِي، وَإِنِّي مَا دَعَوْتُكَ بِمَا دَعَوْتُ إِلَّا لِأَنَّنَا مُحْتَاجَانِ لِذَلِكَ، وَفِيهِ تَفْوِيضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ، وَأَنَّهُ مَا سَأَلَ سُؤَالَهُ إِلَّا بِحَسَبِ مَا بَلَغَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ.
وَقَوْلُهُ قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى وَعْدٌ لَهُ بِالْإِجَابَةِ، وَتَصْدِيقٌ لَهُ فِيمَا تَوَسَّمَهُ مِنَ الْمَصَالِحِ فِيمَا سَأَلَهُ لِنَفْسِهِ وَلِأَخِيهِ.
وَالسُّؤْلُ بِمَعْنَى الْمَسْئُولِ. وَهُوَ وَزْنُ فِعْلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْخُبْزِ بِمَعْنَى الْمَخْبُوزِ، وَالْأَكْلِ بِمَعْنَى الْمَأْكُولِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُقْدَةَ زَالَتْ عَنْ لِسَانِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُحْكَ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ أَقَامَ هَارُونَ بِمُجَادَلَةِ فِرْعَوْنَ. وَوَقَعَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ السَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ: «فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى أَنْتَ تَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا آمُرُكَ بِهِ وَهَارُونُ أَخُوكَ يُكَلِّمُ فِرْعَوْنَ
[٣٧- ٤١]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٣٧ الى ٤١]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)
جُمْلَةُ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ [طه: ٣٦] لِأَنَّ جُمْلَةَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ تَتَضَمَّنُ مِنَّةً عَلَيْهِ، فَعُطِفَ عَلَيْهَا تَذْكِيرٌ بِمِنَّةٍ عَلَيْهِ أُخْرَى فِي وَقْتِ ازْدِيَادِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِمَحَلِّ الْعِنَايَةِ مِنْ رَبِّهِ مِنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ وُجُودِهِ فَابْتَدَأَهُ بِعِنَايَتِهِ قَبْلَ سُؤَالِهِ فَعِنَايَتُهُ بِهِ بَعْدَ سُؤَالِهِ أَحْرَى، وَلِأَنَّ تِلْكَ الْعِنَايَةَ الْأُولَى تَمْهِيدٌ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الِاصْطِفَاءِ وَالرِّسَالَةِ، فَالْكَرَمُ يَقْتَضِي أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْإِحْسَانِ يَسْتَدْعِي الِاسْتِمْرَارَ عَلَيْهِ. فَهَذَا
طَمْأَنَةٌ لِفُؤَادِهِ وَشَرْحٌ لِصَدْرِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ مُؤَيَّدًا فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضُّحَى: ٥- ٨].
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بلام الْقسم و (قد) لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ، فَتَحْقِيقُ الْخَبَرِ لَهُ تَحْقِيقٌ لَلَازِمِهِ الْمُرَادِ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ عِنَايَةَ اللَّهِ بِهِ دَائِمَةٌ لَا تَنْقَطِعُ عَنْهُ زِيَادَةٌ فِي تَطْمِينِ خَاطِرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ [طه: ٣٦].
وَالْمَرَّةُ: فَعْلَةٌ مِنَ الْمُرُورِ، غَلَبَتْ عَلَى مَعْنَى الْفِعْلَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ عَمَلٍ معيّن يعرف بِالْإِضَافَة أَوْ بِدَلَالَةِ الْمَقَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [١٣]. وَانْتِصَابُ مَرَّةً هُنَا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِفِعْلِ مَنَنَّا، أَيْ مَرَّةً مِنَ المنّ. ووصفها بِأُخْرَى هُنَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا غَيْرُ هَذِهِ الْمِنَّةِ.
وَالْوَحْيُ، هُنَا: وَحْيُ الْإِلْهَامِ الصَّادِقِ. وَهُوَ إِيقَاعُ مَعْنًى فِي النَّفْسِ يَنْثَلِجُ لَهُ نَفْسُ الْمُلْقَى إِلَيْهِ بِحَيْثُ يَجْزِمُ بِنَجَاحِهِ فِيهِ وَذَلِكَ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ الَّتِي يُقْذَفُ فِي نَفْسِ الرَّائِي أَنَّهَا صِدْقٌ.
وَمَا يُوحى مَوْصُولٌ مُفِيدٌ أَهَمِّيَّةَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهَا. وَمُفِيدٌ تَأْكِيدَ كَوْنِهِ إِلْهَامًا مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ.
وأَنِ تَفْسِيرٌ لِفِعْلِ أَوْحَيْنا لِأَنَّهُ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ أَو تَفْسِير ليوحى.
وَالْقَذْفُ: أَصْلُهُ الرَّمْيِ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْوَضْعِ فِي التَّابُوتِ، تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ الْمُخْفِي عَمَلَهُ، فَهُوَ يُسْرِعُ وَضْعَهُ مِنْ يَدِهِ كَهَيْئَةِ مَنْ يَقْذِفُ حَجَرًا وَنَحْوَهُ.
وَالتَّابُوتُ: الصُّنْدُوقُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٨].
وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ، وَالْمُرَادُ بِهِ نَهْرُ النِّيلِ.
وَالسَّاحِلُ: الشَّاطِئُ، وَلَامُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيُلْقِهِ دَالَّةٌ عَلَى أَمْرِ التَّكْوِينِ، أَيْ سَخَّرْنَا الْيَمَّ لِأَنْ يُلْقِيَهُ بِالسَّاحِلِ، وَلَا يَبْتَعِدَ بِهِ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَالْمُرَادُ سَاحِلٌ مَعْهُودٌ، وَهُوَ
الَّذِي يَقْصُدُهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِلسِّبَاحَةِ.
وَالضَّمَائِرُ الثَّلَاثَةُ الْمَنْصُوبَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى مُوسَى لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ حَاضِرٌ فِي ذِهْنِ أُمِّهِ الْمُوحَى إِلَيْهَا، وَقَذْفُهُ فِي التَّابُوتِ وَفِي الْيَمِّ وَإِلْقَاؤُهُ فِي السَّاحِلِ كُلُّهَا أَفْعَالٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِضَمِيرِهِ،
وَجَزْمُ يَأْخُذْهُ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ عَلَى طَرِيقَةِ جَزْمِ قَوْلِهِ يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه: ٢٨] الْمُتَقَدَّمِ آنِفًا.
وَالْعَدُوُّ: فِرْعَوْنُ، فَهُوَ عَدُوُّ اللَّهِ لِأَنَّهُ انْتَحَلَ لِنَفْسِهِ الْإِلَهِيَّةِ، وَعَدُوُ مُوسَى تَقْدِيرًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ عَدْوُهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ غِلْمَانِ إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ اعْتَزَمَ عَلَى قَتْلِ أَبْنَائِهِمْ.
وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوْحَيْنا أَيْ حِينَ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا كَانَ بِهِ سَلَامَتُكَ مِنَ الْمَوْتِ، وَحِينَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ محبّة لتحصل الرقّة لِوَاجِدِهِ فِي الْيَمِّ، فَيَحْرِصُ عَلَى حَيَاتِهِ وَنَمَائِهِ وَيَتَّخِذُهُ وَلَدًا كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ [الْقَصَص: ٩] لِأَنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ غِلْمَانِ إِسْرَائِيلَ وَلَيْسَ مِنْ أَبْنَاءِ الْقِبْطِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَخْطُرُ بِبَالِهِ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ.
وَإِلْقَاءُ الْمَحَبَّةِ مَجَازٌ فِي تَعَلُّقِ الْمُحِبَّةِ بِهِ، أَيْ خَلْقُ الْمَحَبَّةِ فِي قَلْبِ الْمُحِبِّ بِدُونِ سَبَبٍ عَادِيٍّ حَتَّى كَأَنَّهُ وُضِعَ بِالْيَدِ لَا مُقْتَضًى لَهُ فِي الْعَادَةِ.
وَوَصْفُ الْمَحَبَّةِ بِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا مَحَبَّةٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ لِعَدَمِ ابْتِدَاءِ أَسْبَابِ الْمَحَبَّةِ الْعُرْفِيَّةِ مِنَ الْإِلْفِ وَالِانْتِفَاعِ، أَلَا تَرَى قَوْلَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [الْقَصَص: ٩] مَعَ قَوْلهَا: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [الْقَصَص: ٩]، فَكَانَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهَا قَبْلَ أَنْ يَنْفَعَهَا وَقَبْلَ اتِّخَاذِهِ وَلَدًا.
الْأَمْرَانِ إِتْمَامًا لِمِنَّةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ إِنْجَاءَهُ مِنَ الْقَتْلِ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ إِلَّا إِذَا أَنْجَاهُ مِنَ الْمَوْتِ بِالذُّبُولِ لِتَرْكِ الرَّضَاعَةِ، وَمِنَ الْإِهْمَالِ الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ أَوِ الْوَهْنِ إِذَا وَلِيَ تَرْبِيَتَهُ مَنْ لَا يُشْفِقُ عَلَيْهِ الشَّفَقَةَ الْجَبِلِّيَّةَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ لِأَجْلِ أَنْ تُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي.
وَالصُّنْعُ: مُسْتَعَارٌ لِلتَّرْبِيَةِ وَالتَّنْمِيَةِ، تَشْبِيهًا لِذَلِكَ بِصُنْعِ شَيْءٍ مَصْنُوعٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ نِعْمَةً عَظِيمَةً: هُوَ صَنِيعَةُ فُلَانٍ.
وَأُخْتُ مُوسَى: مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ. وَفِي التَّوْرَاةِ: أَنَّهَا كَانَتْ نَبِيئَةً كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ. وَتُوُفِّيَتْ مَرْيَمُ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنْ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ فِي بَرِّيَّةِ صِينَ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ. وَذَلِكَ سَنَةَ ١٤١٧ قَبْلَ الْمَسِيحِ.
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِكَسْرِ اللَّامِ- عَلَى أَنَّهَا لَامُ كَيْ وبنصب فعل لِتُصْنَعَ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ- بِسُكُونِ اللَّامِ- عَلَى أَنَّهَا لَامُ الْأَمْرِ وَبِجَزْمِ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ تَكْوِينِيٌّ، أَيْ وَقُلْنَا:
لِتُصْنَعَ.
وَقَوْلُهُ عَلى عَيْنِي (على) مِنْهُ للاستعلاء الْمَجَازِيِّ، أَيِ المصاحبة المتمكنة، فعلى هُنَا بِمَعْنَى بَاءِ الْمُصَاحَبَةِ قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨].
٣٧]، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
عَهِدْتُكَ تَرْعَانِيَ بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ | وَتَبْعَثُ حُرَّاسًا عَلَيَّ وَنَاظِرًا |
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَلْ أَدُلُّكُمْ لِلْعَرْضِ. وَأَرَادَتْ بِ مَنْ يَكْفُلُهُ أُمَّهُ. فَلِذَلِكَ قَالَ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ.
وَهَذِهِ مِنَّةٌ عَلَيْهِ لِإِكْمَالِ نَمَائِهِ، وَعَلَى أُمِّهِ بِنَجَاتِهِ فَلَمْ تُفَارِقِ ابْنَهَا إِلَّا سَاعَاتٍ قَلَائِلَ، أَكْرَمَهَا اللَّهُ بِسَبَبِ ابْنِهَا.
وَعَطْفُ نَفْيِ الْحُزْنِ عَلَى قُرَّةِ الْعَيْنِ لِتَوْزِيعِ الْمِنَّةِ، لِأَنَّ قُرَّةَ عَيْنِهَا بِرُجُوعِهِ إِلَيْهَا.
وَانْتِفَاء حزنها بتحقق سَلَامَتِهِ مِنَ الْهَلَاكِ وَمِنَ الْغَرَقِ وَبِوُصُولِهِ إِلَى أَحْسَنِ مَأْوًى. وَتَقْدِيمُ
قُرَّةِ الْعَيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُزْنِ مَعَ أَنَّهَا أَخَصُّ فَيُغْنِي ذِكْرُهَا عَنْ ذِكْرِ انْتِفَاءِ الْحُزْنِ رُوعِيَ فِيهِ مُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ، ثُمَّ أُكْمِلَ بِذِكْرِ الْحِكْمَةِ فِي مَشْيِ أُخْتِهِ فَتَقُولُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فِي بَيْتِهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ الْمَرَاضِعِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ حَلِيمَةَ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي التَّوْرَاةِ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ.
وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) جملَة وَقَتَلْتَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي جُمْلَةِ وَقَتَلْتَ نَفْساً مِنَّةٌ أُخْرَى ثَالِثَةٌ.
وَهَذِهِ النَّفْسُ هِيَ نَفْسُ الْقِبْطِيِّ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ الَّذِي اخْتَصَمَ مَعَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْمَدِينَةِ فَاسْتَغَاثَ الْإِسْرَائِيلِيُّ بِمُوسَى لِيَنْصُرَهُ فَوَكَزَ مُوسَى الْقِبْطِيَّ فَقَضَى عَلَيْهِ كَمَا قُصَّ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ.
وَالْغَمُّ: الْحُزْنُ. وَالْمَعْنِيُّ بِهِ مَا خَامَرَ مُوسَى مِنْ خَوْفِ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ أَضْمَرَ الِاقْتِصَاصَ مِنْ مُوسَى لِلْقِبْطِيِّ إِذْ كَانَ الْقِبْطُ سَادَةَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، فَلَيْسَ اعْتِدَاءُ إِسْرَائِيلِيٍّ عَلَى قِبْطِيٍّ بِهَيِّنٍ بَيْنَهُمْ. وَيَظْهَرُ أَنَّ فِرْعَوْنَ الَّذِي تَبَنَّى مُوسَى كَانَ قَدْ هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَالْفُتُونُ: مَصْدَرُ فَتَنَ، كَالْخُرُوجِ، وَالثُّبُورِ، وَالشُّكُورِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِتَأْكِيدِ عَامَلِهِ وَهُوَ فَتَنَّاكَ، وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ فُتُونًا قَوِيًّا عَظِيمًا.
وَالْفُتُونُ كَالْفِتْنَةِ: هُوَ اضْطِرَابُ حَالِ الْمَرْءِ فِي مُدَّةٍ مِنْ حَيَاتِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩١]. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْفُتُونَ أَصْلُ مَصْدَرِ فَتَنَ بِمَعْنَى اخْتَبَرَ، فَيَكُونُ فِي الشَّرِّ وَفِي الْخَيْرِ. وَأَمَّا الْفِتْنَةُ فَلَعَلَّهَا خَاصَّةٌ بِاخْتِبَارِ الْمُضِرِّ. وَيَظْهَرُ أَنَّ التَّنْوِينَ فِي فُتُوناً لِلتَّقْلِيلِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً كَالِاسْتِدْرَاكِ عَلَى قَوْلِهِ فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ، أَيْ نَجَّيْنَاكَ وَحَصَلَ لَكَ خَوْفٌ، كَقَوْلِهِ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ [الْقَصَص: ١٨] فَذَلِكَ الْفُتُونُ.
وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْفُتُونِ خَوْفُ مُوسَى مِنْ عِقَابِ فِرْعَوْنَ وَخُرُوجُهُ مِنَ الْبَلَدِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ
وَذِكْرُ الْفُتُونِ بَيْنَ تِعْدَادِ الْمِنَنِ إِدْمَاجٌ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْمِلْ دَمَ الْقِبْطِيِّ الَّذِي قَتَلَهُ مُوسَى، فَإِنَّهُ نَفْسٌ مَعْصُومَةُ الدَّمِ إِذْ لَمْ يَحْصُلْ مَا يُوجِبُ قَتْلَهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ تَرِدْ إِلَيْهِمْ دَعْوَةٌ إِلَهِيَّةٌ حِينَئِذٍ. فَحِينَ أَنْجَى اللَّهُ مُوسَى مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِدَمِهِ فِي شَرْعِ فِرْعَوْنَ ابتلى مُوسَى بالخوف وَالْغُرْبَةِ عِتَابًا لَهُ عَلَى إِقْدَامِهِ عَلَى قَتْلِ النَّفْسِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [الْقَصَص: ١٥- ١٦]. وَعِبَادُ اللَّهِ الَّذِينَ أَرَادَ بِهِمْ خَيْرًا وَرَعَاهُمْ بِعِنَايَتِهِ يَجْعَلُ لَهُمْ مِنْ كُلِّ حَالَةٍ كَمَالًا يَكْسِبُونَهُ، وَيُسَمَّى مِثْلُ ذَلِكَ بِالِابْتِلَاءِ، فَكَانَ مِنْ فُتُونِ مُوسَى بِقَضِيَّةِ الْقِبْطِيِّ أَنْ قَدَّرَ لَهُ الْخُرُوجَ إِلَى أَرْضِ مَدْيَنَ لِيَكْتَسِبَ رِيَاضَةَ نَفْسٍ وَتَهْيِئَةَ ضَمِيرٍ لِتَحَمُّلِ الْمَصَاعِبَ، وَيَتَلَقَّى التَّهْذِيبَ مِنْ صِهْرِهِ الرَّسُولِ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَلِهَذَا الْمَعْنَى عَقَّبَ ذِكْرَ الْفُتُونِ بِالتَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى فَبَيَّنَ لَهُ كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الْفُتُونِ.
أَوْ يَكُونُ الْفُتُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَحْمُودِ الْعَاقِبَةِ وَضِدِّهِ مِثْلَ الِابْتِلَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ [الْأَعْرَاف: ١٦٨]، أَيْ وَاخْتَبَرْنَاكَ اخْتِبَارًا، وَالِاخْتِبَارُ: تَمْثِيلٌ لِحَالِ تَكْلِيفِهِ بِأَمْرِ التَّبْلِيغِ بِحَالِ مَنْ يُخْتَبَرُ، وَلِهَذَا اخْتِيرَ هُنَا دُونَ الْفِتْنَةِ.
وَأَهْلُ مَدْيَنَ: قَوْمُ شُعَيْبٍ. وَمَدِينُ: اسْمُ أَحَدِ أَبْنَاءِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَكَنَتْ ذُريَّته فِي مَوَاطِن تسمى الأيكة على شاطىء الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ جَنُوبَ عَقَبَةِ أَيْلَةَ، وَغَلَبَ اسْمُ الْقَبِيلَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَصَارَ عَلَمًا لِلْمَكَانِ فَمِنْ ثَمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِ (أَهْلُ). وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ جَعَلَ مَجِيئَهُ فِي الْوَقْتِ الصَّالِحِ لِلْخَيْرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَعْلِي عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُتَمَكِّنِ مِنْهُ.
وَالْقَدَرُ: تَقْدِيرُ الشَّيْءِ عَلَى مِقْدَارٍ مُنَاسِبٍ لِمَا يُرِيدُ الْمُقَدِّرُ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ
الْمُصَادَفَةِ، فَيَكُونُ غَيْرَ مُلَائِمٍ أَوْ فِي مُلَاءَمَتِهِ خَلَلٌ، قَالَ النَّابِغَةُ:
فَرِيعَ قَلْبِي وَكَانَتْ نَظْرَةً عَرَضَتْ | يَوْمًا وَتَوْفِيقَ أَقْدَارٍ لِأَقْدَارِ |
فَقَوْلُهُ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى يُفِيدُ أَنَّ مَا حَصَلَ لِمُوسَى مِنَ الْأَحْوَالِ كَانَ مُقَدَّرًا مِنَ اللَّهِ تَقْدِيرًا مُنَاسِبًا مُتَدَرِّجًا، بِحَيْثُ تَكُونُ أَعْمَالُهُ وَأَحْوَالُهُ قَدْ قَدَّرَهَا اللَّهُ وَحَدَّدَهَا تَحْدِيدًا مُنَظَّمًا لِأَجْلِ اصْطِفَائِهِ وَمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ إِرْسَالِهِ، فَالْقَدَرُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْعِنَايَةِ بِتَدْبِيرِ إِجْرَاءِ أَحْوَالِهِ عَلَى مَا يُسْفِرُ عَنْ عَاقِبَةِ الْخَيْرِ.
فَهَذَا تَقْدِيرٌ خَاصٌّ، وَهُوَ الْعِنَايَةُ بِتَدَرُّجِ أَحْوَالِهِ إِلَى أَنْ بَلَغَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْهُ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْقَدَرُ الْعَامُّ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لِتَكْوِينِ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُشْعِرُ بِمَزِيَّةٍ لِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَقَدِ انْتَبَهَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى جَرِيرٌ بِذَوْقِهِ السَّلِيمِ فَقَالَ فِي مَدْحِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ:
أَتَى الْخلَافَة إِذْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا | كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ |
وَالِاصْطِنَاعُ: صُنْعُ الشَّيْءِ بِاعْتِنَاءٍ. وَاللَّامُ لِلْأَجْلِ، أَيْ لِأَجْلِ نَفْسِي. وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ الِاصْطِفَاءِ لِتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ بِهَيْئَةِ مَنْ يَصْطَنِعُ شَيْئًا لِفَائِدَةِ نَفْسِهِ فَيَصْرِفُ فِيهِ غَايَةَ إتقان صنعه.
[٤٢]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ٤٢]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢)
رُجُوعٌ إِلَى الْمَقْصِدِ بَعْدَ الْمُحَاوَرَةِ، فَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، أَوْ هِيَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: ٤١] يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ اخْتَارَهُ وَأَعَدَّهُ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، لِأَنَّ الْحَكِيمَ لَا يَتَّخِذُ شَيْئًا لِنَفْسِهِ إِلَّا مُرِيدًا جَعْلَهُ مُظْهِرًا لِحِكْمَتِهِ، فَيَتَرَقَّبُ الْمُخَاطَبُ تَعْيِينَهَا، وَقَدْ أَمَرَهُ هُنَا بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَأَنْ يَذْهَبَ أَخُوهُ مَعَهُ. وَمَعْنَى
ذَلِكَ أَنَّهُ يُبَلِّغُ أَخَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِمُرَافَقَتِهِ، لِأَنَّ هَارُونَ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا حِينَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْوَقْتُ وَقْتَ الشُّرُوعِ فِي الذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ، فَتَعِيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ لِطَلَبِ حُصُولِ الذَّهَابِ الْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَى مِصْرَ بَلَدِ فِرْعَوْنَ وَعِنْدَ لِقَائِهِ أَخَاهُ هَارُونَ وَإِبْلَاغِهِ أَمْرَ اللَّهِ إِيَّاهُ، فَقَرِينَةُ عَدَمِ إِرَادَةِ الْفَوْرِ هُنَا قَائِمَةٌ.
وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ لِقَصْدِ تَطْمِينِ مُوسَى بِأَنَّهُ سَيَكُونُ مُصَاحِبًا لِآيَاتِ اللَّهِ، أَيِ الدَّلَائِلِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى صَدَقِهِ لَدَى فِرْعَوْنَ.
وَمَعْنَى وَلا تَنِيا لَا تَضْعُفَا. يُقَالُ: وَنَى يَنِي وَنًى، أَيْ ضَعُفَ فِي الْعَمَلِ، أَيْ لَا تَنِ أَنْتَ وَأَبْلِغْ هَارُونَ أَنْ لَا يَنِيَ، فَصِيغَةُ النَّهْيِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي حَقِيقَتهَا ومجازها.
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٤٣ إِلَى ٤٤]
اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤)يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالٌ إِلَى خِطَابِ مُوسَى وَهَارُونَ. فَيَقْتَضِي أَنَّ هَارُونَ كَانَ حَاضِرًا لِهَذَا الْخِطَابِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ بَعْدَهُ قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ [طه: ٤٥]، وَكَانَ حُضُورُ هَارُونَ عِنْدَ مُوسَى بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ أَوْحَاهُ إِلَى هَارُونَ فِي أَرْضِ «جَاسَانَ» حَيْثُ مَنَازِلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضٍ قُرْبَ (طِيبَةَ). قَالَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ «وَقَالَ (أَي الله) هَا هُوَ هَارُونُ خَارِجًا لِاسْتِقْبَالِكَ فَتُكَلِّمُهُ أَيْضًا». وَفِيهِ أَيْضًا «وَقَالَ الرَّبُّ لِهَارُونَ اذْهَبْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِاسْتِقْبَالِ مُوسَى فَذَهَبَ وَالْتَقَيَا فِي جَبَلِ اللَّهِ» أَيْ جَبَلِ حُورِيبَ، فَيَكُونُ قَدْ طُوِيَ مَا حَدَثَ بَيْنَ تَكْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى مُوسَى فِي الْوَادِي عِنْدَ النَّارِ وَمَا بَيْنَ وُصُولِ مُوسَى مَعَ أَهْلِهِ إِلَى جَبَلِ (حُورِيبَ) فِي طَرِيقِهِ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ إِلَخْ، جَوَابًا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهما: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِلَخْ. وَيَكُونُ فَصْلُ جُمْلَةِ قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ إِلَخْ لِوُقُوعِهَا فِي أُسْلُوبِ الْمُحَاوَرَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ [طه: ٤٢]، فَيَكُونُ قَوْلُهُ اذْهَبا أَمَرًا لِمُوسَى بِأَنْ يَذْهَبَ وَأَنْ يَأْمُرَ أَخَاهُ بِالذَّهَابِ مَعَهُ وَهَارُونُ غَائِبٌ، وَهَذَا أَنْسَبُ لِسِيَاقِ الْجُمَلِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، وَقَدْ طُوِيَ مَا بَيْنَ خِطَابِ اللَّهِ مُوسَى وَمَا بَيْنَ حِكَايَةِ قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ إِلَخْ.
وَالتَّقْدِيرُ: فَذَهَبَ مُوسَى وَلَقِيَ أَخَاهُ هَارُونَ، وَأَبْلَغَهُ أَمْرَ اللَّهِ لَهُ بِمَا أَمَرَهُ، فَقَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ إِلَخْ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ طَغى تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِأَنْ يَذْهَبَا إِلَيْهِ. فَعُلِمَ أَنَّهُ لِقَصْدِ كفِّهِ عَنْ طُغْيَانِهِ.
وَالْقَوْلُ اللَّيِّنُ: الْكَلَامُ الدَّالُّ عَلَى مَعَانِي التَّرْغِيبِ وَالْعَرْضِ وَاسْتِدْعَاءِ الِامْتِثَالِ، بِأَنْ يُظْهِرَ الْمُتَكَلِّمُ لِلْمُخَاطَبِ أَنَّ لَهُ مِنْ سَدَادِ الرَّأْيِ مَا يَتَقَبَّلُ بِهِ الْحَقَّ وَيُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مَعَ تَجَنُّبِ أَنْ يَشْتَمِلَ الْكَلَامُ عَلَى تَسْفِيهِ رَأْيِ الْمُخَاطَبِ أَوْ تَجْهِيلِهِ.
فَشَبَّهَ الْكَلَامَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْمَعَانِي الْحَسَنَةِ بِالشَّيْءِ اللَّيِنِ.
وَاللِّينُ، حَقِيقَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَهُوَ: رُطُوبَةُ مَلْمَسِ الْجِسْمِ وَسُهُولَةُ لَيِّهِ، وَضِدُّ اللِّينِ الْخُشُونَةُ. وَيُسْتَعَارُ اللِّينُ لِسُهُولَةِ الْمُعَامَلَةِ وَالصَّفْحِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
فَإِنَّ قَنَاتَنَا يَا عَمْرُو أَعْيَتْ | عَلَى الْأَعْدَاءِ قَبْلَكَ أَنْ تَلِينَا |
وَالتَّرَجِّي الْمُسْتَفَادُ مِنْ (لَعَلَّ) إِمَّا تَمْثِيلٌ لِشَأْنِ اللَّهِ فِي دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ بِشَأْنِ الرَّاجِي، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِعْلَامًا لِمُوسَى وَفرْعَوْن بِأَن يرجوا ذَلِكَ،
وَالتَّذَكُّرُ: مِنَ الذُّكْرِ- بِضَمِّ الذَّالِ- أَيِ النَّظَرِ، أَيْ لَعَلَّهُ يَنْظُرُ نَظَرَ الْمُتَبَصِّرِ فَيَعْرِفُ الْحَقَّ أَوْ يَخْشَى حُلُولَ الْعِقَابِ بِهِ فَيُطِيعُ عَنْ خَشْيَةٍ لَا عَنْ تَبَصُّرٍ. وَكَانَ فِرْعَوْنُ مِنْ أَهْلِ الطُّغْيَانِ وَاعْتِقَادِ أَنَّهُ على الْحق، فالتذكر: أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَالْخَشْيَةُ: أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ فَيَخْشَى أَنْ يَكُونَ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ بِالْأَخْذِ بِمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مُوسَى.
وَهُنَا انْتَهَى تَكْلِيمُ اللَّهِ تَعَالَى مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَام-.
[٤٥- ٤٨]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٤٥ إِلَى ٤٨]
قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨)
فُصِلْتِ الْجُمْلَتَانِ لِوُقُوعِهِمَا مَوْقِعَ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ مُوسَى مَعَ أَخِيهِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا آنِفًا، أَيْ جَمَعَا أَمَرَهُمَا وَعَزَمَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ فَنَاجِيَا رَبَّهُمَا
ويَفْرُطَ مَعْنَاهُ يُعَجِّلُ وَيَسْبِقُ، يُقَال: فَرَطَ يَفْرُطُ مِنْ بَابِ نَصَرَ. وَالْفَارِطُ: الَّذِي يسْبق الْوَارِدَة إِلَى الْحَوْضِ لِلشُّرْبِ. وَالْمَعْنَى: نَخَافُ أَنْ يُعَجِّلَ بِعِقَابِنَا بِالْقَتْلِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ قَبْلَ أَنْ نُبَلِّغَهُ وَنُحِجَّهُ.
وَالطُّغْيَانُ: التَّظَاهُرُ بِالتَّكَبُّرِ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه:
٢٤]، أَيْ نَخَافُ أَنْ يُخَامِرَهُ كِبْرُهُ فَيَعُدَّ ذِكْرَنَا إِلَهًا دُونَهُ تَنْقِيصًا لَهُ وَطَعْنًا فِي دَعْوَاهُ الْإِلَهِيَّةِ فَيَطْغَى، أَيْ يَصْدُرَ مِنْهُ مَا هُوَ أَثَرُ الْكِبَرِ مِنَ التَّحْقِيرِ وَالْإِهَانَةِ. فَذَكَرَ الطُّغْيَانَ بَعْدَ الْفَرْطِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمَا لَا يُطِيقَانِ ذَلِكَ، فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْأَشَدِّ إِلَى الْأَضْعَفِ لِأَن نَخَاف يؤول إِلَى مَعْنَى النَّفِيِ. وَفِي النَّفْي يُذْكَرُ الْأَضْعَفُ بَعْدَ الْأَقْوَى بِعَكْسِ الْإِثْبَاتِ مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَقْتَضِي عَكْسَ ذَلِكَ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَطْغى فَيُحْتَمَلُ أَنَّ حَذْفَهُ لِدَلَالَةِ نَظِيرِهِ عَلَيْهِ، وَأُوثِرَ بِالْحَذْفِ لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ أَنْ يَطْغَى عَلَيْنَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ لَيْسَ نَظِيرُ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ آخَرُ لِكَوْنِ التَّقْسِيمِ التَّقْدِيرِيِّ دَلِيلًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا ذَكَرَ مُتَعَلِّقُ يَفْرُطَ عَلَيْنا وَكَانَ الْفَرْطُ شَامِلًا لِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ حَتَّى الْإِهَانَةَ بِالشَّتْمِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ التَّقْسِيمُ بِ «أَوْ» مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى وَهِيَ طُغْيَانُهُ عَلَى مَنْ لَا يَنَالُهُ عِقَابُهُ، أَيْ أَنْ يَطْغَى عَلَى اللَّهِ بِالتَّنْقِيصِ كَقَوْلِهِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَص: ٣٨] وَقَوْلِهِ: لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى [الْقَصَص: ٣٨]، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَطْغى حِينَئِذٍ لتنزيهه عَن التَّصْرِيحِ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ أَنْ يَطْغَى عَلَيْكَ فَيَتَصَلَّبَ فِي كُفْرِهِ وَيَعْسُرُ صَرْفُهُ
غَيْرَةٌ عَلَى جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ أَيْضًا تَحَرُّزٌ مِنْ رُسُوخِ عَقِيدَةِ الْكُفْرِ فِي نَفْسِ الطَّاغِي فَيَصِيرُ الرَّجَاءُ فِي إِيمَانِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَضْعَفَ مِنْهُ فِيمَا قَبْلُ، وَتِلْكَ مَفْسَدَةٌ فِي نَظَرِ الدِّينِ.
وَحَصَلَتْ مَعَ ذَلِكَ رِعَايَةُ الْفَاصِلَةِ.
قَالَ اللَّهُ لَا تَخافا، أَيْ لَا تَخَافَا حُصُولَ شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ نَهْيٌ مُكَنًّى بِهِ عَنْ نَفْيِ وُقُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّنِي مَعَكُما تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى النَّفِي، وَالْمَعِيَّةُ مَعِيَّةُ حِفْظٍ.
وأَسْمَعُ وَأَرى حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، أَيْ أَنَا حَافِظُكُمَا مِنْ كُلِّ مَا تَخَافَانِهِ، وَأَنَا أَعْلَمُ الْأَقْوَالَ وَالْأَعْمَالَ فَلَا أَدَعُ عَمَلًا أَوْ قَوْلًا تَخَافَانِهِ.
وَنُزِّلَ فِعْلَا أَسْمَعُ وَأَرى مَنْزِلَةَ اللَّازِمَيْنِ إِذْ لَا غَرَضَ لِبَيَانِ مَفْعُولِهِمَا بَلِ الْمَقْصُودُ:
أَنِّي لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ.
وَالْإِتْيَانُ: الْوُصُولُ وَالْحُلُولُ، أَيْ فَحُلَّا عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ أَثَرُ الذَّهَابِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْخِطَابِ السَّابِقِ، وَكَانَا قَدِ اقْتَرَبَا مِنْ مَكَانِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُمَا فِي مَدِينَتِهِ، فَلِذَا أُمِرَا بِإِتْيَانِهِ وَدَعْوَتِهِ.
وَجَاءَتْ تَثْنِيَةُ رَسُولٍ عَلَى الْأَصْلِ فِي مُطَابَقَةِ الْوَصْفِ الَّذِي يُجْرَى عَلَيْهِ فِي الْإِفْرَادِ وَغَيْرِهِ.
وَفَعُولٌ الَّذِي بِمَعْنَى مَفْعُولٍ تَجُوزُ فِيهِ الْمُطَابَقَةُ، كَقَوْلِهِمْ نَاقَةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ كَقَوْلِهِمْ: وَحْشِيَّةٌ خَلُوجٌ، أَيِ اخْتُلِجَ وَلَدُهَا. وَجَاءَ الْوَجْهَانِ فِي نَحْوِ (رَسُولُ) وَهُمَا وَجْهَانِ مُسْتَوِيَانِ.
وَسَيَجِيءُ تَحْقِيقُ ذَلِكَ هُنَالِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَدْخَلَ فَاءَ التَّفْرِيعِ عَلَى طَلَبِ إِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ جَعَلَ طَلَبَ إِطْلَاقِهِمْ كَالْمُسْتَقَرِّ الْمَعْلُومِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ إِمَّا لِأَنَّهُ سَبَقَتْ إِشَاعَةُ عَزْمِهِمَا عَلَى الْحُضُورِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ لِذَلِكَ الْمَطْلَبِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ جَعَلَهُ لِأَهَمِّيَّتِهِ كَالْمُقَرَّرِ. وَتَفْرِيعُ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِمَا مُرْسَلَيْنِ من الله ظَاهر، لِأَنَّ الْمُرْسَلَ مِنَ اللَّهِ تَجِبُ طَاعَتُهُ.
وَخَصَّا الرَّبَّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ فِرْعَوْنَ قَصْدًا لِأَقْصَى الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ كَوْنَ اللَّهِ رَبَّهُمَا
مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِمَا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ وَكَوْنَهُ رَبَّ النَّاسِ مَعْلُومٌ بِالْأَحْرَى لِأَنَّ فِرْعَوْنَ عَلَّمَهُمْ أَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ.
وَالتَّعْذِيبُ الَّذِي سَأَلَاهُ الْكَفَّ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَ فِرْعَوْنُ يُسَخِّرُ لَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ فِي الْخِدْمَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَعُدُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْعَبِيدِ وَالْخَوَلِ جَزَاءَ إِحْلَالِهِمْ بِأَرْضِهِ.
وَجُمْلَةُ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فِيهَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَكَانَتِ الْأُولَى إِجْمَالًا وَالثَّانِيَةُ بَيَانًا. وَفِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِتَحْقِيقِ كَوْنِهِمَا مُرْسَلَيْنِ مِنَ اللَّهِ بِمَا يُظْهِرُهُ اللَّهُ عَلَى يَدِ أَحَدِهِمَا مِنْ دَلَائِلَ الصِّدْقِ. وَكِلَا الْغَرَضَيْنِ يُوجِبُ فَصْلَ الْجُمْلَةِ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَاقْتَصَرَ عَلَى أَنَّهُمَا مُصَاحِبَانِ لِآيَةٍ إِظْهَارًا لِكَوْنِهِمَا مُسْتَعِدَّيْنِ لِإِظْهَارِ الْآيَةِ إِذَا أَرَادَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ. فَأَمَّا إِنْ آمَنَ بِدُونِ احْتِيَاجٍ إِلَى إِظْهَارِ الْآيَةِ يَكُنْ إِيمَانُهُ أَكْمَلَ، وَلِذَلِكَ حُكِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٦] قَوْلُ فِرْعَوْنَ: قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ انْقِلَابُ الْعَصَا حيّة، وَقد تبعتها آيَاتٌ أُخْرَى.
وَأَيْضًا لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى إِجَابَتِهِ طَلَبَ إِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَهَذَا يُؤْخَذُ مِمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ النَّازِعَاتِ وَالْآيَاتِ الْأُخْرَى.
وَالسَّلَامُ: السَّلَامَةُ وَالْإِكْرَامُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا التَّحِيَّةُ، إِذْ لَيْسَ ثَمَّ مُعَيَّنٌ يُقْصَدُ بِالتَّحِيَّةَ. وَلَا يُرَادُ تَحِيَّةُ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ فِي ابْتِدَاءِ الْمُوَاجَهَةِ لَا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، وَهَذَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي كِتَابِهِ إِلَى هِرَقْلَ وَغَيْرِهِ: «أَسْلِمْ تَسْلَمْ»
. وَ (عَلَى) لِلتَّمَكُّنِ، أَيْ سَلَامَةُ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ثَابِتَةٌ لَهُمْ دُونَ رَيْبٍ. وَهَذَا احْتِرَاسٌ وَمُقَدِّمَةٌ لِلْإِنْذَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، فَقَوْلُهُ: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: ٤٧] تَعْرِيضٌ بِأَنْ يَطْلُبَ فِرْعَوْنُ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَقَوْلُهُ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا تَعْرِيضٌ لِإِنْذَارِهِ عَلَى التَّكْذِيبِ قَبْلَ حُصُوله مِنْهُ ليبلغ
الرِّسَالَةِ عَلَى أَتَمِّ وَجْهٍ قَبْلَ ظُهُورِ رَأْيِ فِرْعَوْنَ فِي ذَلِكَ حَتَّى لَا يُجَابِهَهُ بَعْدَ ظُهُورِ رَأْيِهِ بِتَصْرِيحِ تَوْجِيهِ الْإِنْذَارِ إِلَيْهِ. وَهَذَا من أُسْلُوبُ الْقَوْلِ اللَّيِّنِ الَّذِي أَمَرَهُمَا اللَّهُ بِهِ.
وَتَعْرِيفُ الْعَذَابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، فَالْمُعَرَّفُ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ عَذَابًا عَلَى مَنْ كَذَّبَ.
وَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَهُمَا بِتَبْلِيغِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ، كَمَا يَدُلُّ لِذَلِكَ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى [طه: ٤٩] عَلَى أُسْلُوبِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَوَّلِ الْقِصَّةِ إِلَى هُنَا لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي السُّور الْمَاضِيَة.
[٤٩- ٥٠]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٤٩ إِلَى ٥٠]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠)
هَذَا حِكَايَةُ جَوَابِ فِرْعَوْنَ عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى وَهَارُونَ بِإِبْلَاغِهِ فِرْعَوْنَ، فَفِي الْآيَةِ حَذْفُ جُمَلٍ دَلَّ عَلَيْهَا السِّيَاقُ قَصْدًا لِلْإِيجَازِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَأَتَيَاهُ فَقَالَا لَهُ مَا أُمِرَا بِهِ، فَقَالَ: فَمَنْ رَبُّكُمَا؟.
وَلِذَلِكَ جَاءَتْ حِكَايَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ بِجُمْلَةٍ مَفْصُولَةٍ عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ الَّتِي اسْتَقْرَيْنَاهَا مِنْ أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ وَبَيَّنَّاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا.
وَوَجَّهَ فِرْعَوْنُ الْخِطَابَ إِلَيْهِمَا بِالضَّمِيرِ الْمُشْتَرَكِ، ثُمَّ خَصَّ مُوسَى بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالنِّدَاءِ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مُوسَى هُوَ الْأَصْلُ بِالرِّسَالَةِ وَأَنَّ هَارُونَ تَابِعٌ لَهُ، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَحْتَوِ عَلَيْهِ كَلَامُهُمَا فَقَدْ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ عَلِمَهُ مِنْ كَيْفِيَّةِ دُخُولِهِمَا عَلَيْهِ وَمُخَاطَبَتِهِ، وَلِأَنَّ مُوسَى كَانَ مَعْرُوفًا فِي بَلَاطِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُ رَبِيُّهُ أَوْ رَبِيُّ أَبِيهِ فَلَهُ سَابِقَةُ اتِّصَالٍ
وَإِضَافَتُهُ الرَّبَّ إِلَى ضَمِيرِهِمَا لِأَنَّهُمَا قَالَا لَهُ إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [طه: ٤٧].
وَأَعْرَضَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: فَمَنْ رَبِّي؟ إِلَى قَوْلِهِ فَمَنْ رَبُّكُما إِعْرَاضًا عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالْمَرْبُوبِيَّةِ وَلَوْ بِحِكَايَةِ قَوْلِهِمَا، لِئَلَّا يَقَعُ ذَلِكَ فِي سَمْعِ أَتْبَاعِهِ وَقَوْمِهِ فَيَحْسَبُوا أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ فِي مَعْرِفَةِ رَبِّهِ، أَوْ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّ لَهُ رَبًّا. وَتَوَلَّى مُوسَى الْجَوَابَ لِأَنَّهُ خُصَّ بِالسُّؤَالِ بِسَبَبِ النِّدَاءِ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَأَجَابَ مُوسَى بِإِثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ لِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ جَرْيًا عَلَى قَاعِدَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى الْجُزْئِيَّةِ بِحَيْثُ يَنْتَظِمُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا قِيَاسٌ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ كُلَّ شَيْءٍ.
وكُلَّ شَيْءٍ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ لِ أَعْطى. وخَلْقَهُ مَفْعُولُهُ الثَّانِي.
وَالْخَلْقُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ. وَجِيءَ بِفِعْلِ الْإِعْطَاءِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ وَالتَّكْوِينَ نِعْمَةٌ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ وَتَذْكِيرٌ بِالنِّعْمَةِ مَعًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ، وَهُوَ الْخَلْقُ عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْجَعْلِ، أَيِ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ شَكْلَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ، فَكُوِّنَتْ بِذَلِكَ الْأَجْنَاسُ وَالْأَنْوَاعُ وَالْأَصْنَافُ وَالْأَشْخَاصُ مِنْ آثَارِ ذَلِكَ الْخَلْقِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلَّ شَيْءٍ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ أَعْطى وَمَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ خَلْقَهُ، أَيْ أَعْطَى خَلْقَهُ مَا يَحْتَاجُونَهُ، كَقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩٩]. فَتَرْكِيبُ الْجُمْلَةِ صَالِحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ.
رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ.
وَالْمَعْنَى: تَأَمَّلْ وَانْظُرْ هَلْ أَنْتَ أَعْطَيْتَ الْخَلْقَ أَوْ لَا؟ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يعلم أَنه يَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، فَإِذَا تَأَمَّلَ عَلِمَ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الَّذِي أَفَاضَ الْوُجُودَ وَالنِّعَمَ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا، فَآمَنَ بِهِ بِعُنْوَانِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَتِلْكَ الْمَعْرِفَةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ.
وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ بِمَعْنَيَيْهِ الزَّمَنِيِّ والْرُتْبِيِّ، أَيْ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ ثُمَّ هَدَى إِلَى مَا خَلَقَهُمْ لِأَجْلِهِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُمْ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَد: ٨- ١٠] أَيْ طَرِيقَيِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، أَيْ فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا بِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» :«وَلِلَّهِ دَرُّ هَذَا الْجَوَابِ مَا أَخْصَرَهُ وَمَا أَجْمَعَهُ وَمَا أَبَيَنَهُ لِمَنْ أَلْقَى الذِّهْنَ وَنَظَرَ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ وَكَانَ طَالبا للحق».
[٥١- ٥٢]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٥١ إِلَى ٥٢]
قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢)
وَالْبَالُ: كَلِمَةٌ دَقِيقَةُ الْمَعْنَى، تُطْلَقُ عَلَى الْحَالِ الْمُهِمِّ، وَمَصْدَرُهُ الْبَالَهُ بِتَخْفِيفِ اللَّامِ، قَالَ تَعَالَى: كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ [مُحَمَّد: ٢]، أَيْ حَالَهُمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ
... » إِلَخْ، وَتُطْلَقُ عَلَى الرَّأْيِ يُقَالُ: خَطَرَ كَذَا بِبَالِيَ. وَيَقُولُونَ: مَا أَلْقَى لَهُ بَالًا، وَإِيثَارُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ هُنَا مِنْ دَقِيقِ الْخَصَائِصِ الْبَلَاغِيَّةِ.
٧٨].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ فِرْعَوْنَ أَرَادَ التَّشْغِيبَ عَلَى مُوسَى حِينَ نَهَضَتْ حُجَّتُهُ بِأَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى الْحَدِيثِ عَنْ حَالِ الْقُرُونِ الْأُولَى: هَلْ هُمْ فِي عَذَابٍ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِ مُوسَى: أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: ٤٨]، فَإِذَا قَالَ: إِنَّهُمْ فِي عَذَابٍ، ثَارَتْ ثَائِرَةُ أَبْنَائِهِمْ فَصَارُوا أَعْدَاءً لِمُوسَى، وَإِذَا قَالَ: هُمْ فِي سَلَامٍ، نَهَضَتْ حُجَّةُ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُ مُتَابِعٌ لِدِينِهِمْ، وَلِأَنَّ مُوسَى لَمَّا أَعْلَمَهُ بِرَبِّهِ وَكَانَ ذَلِك مشعرا بالخلق الْأَوَّلِ خَطَرَ بِبَالِ فِرْعَوْنَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنِ الِاعْتِقَادِ فِي مَصِيرِ النَّاسِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، فَسَأَلَ: مَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى؟ مَا شَأْنُهُمْ وَمَا الْخَبَرُ عَنْهُمْ؟ وَهُوَ سُؤَالُ تَعْجِيزٍ وَتَشْغِيبٍ.
وَقَوْلُ مُوسَى فِي جَوَابِهِ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ صَالِحٌ لِلِاحْتِمَالَيْنِ، فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مُوسَى صَرَفَهُ عَنِ الْخَوْضِ فِيمَا لَا يُجْدِي فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ الَّذِي هُوَ الْمُتَمَحِّضُ لِدَعْوَةِ الْأَحْيَاءِ لَا الْبَحْث عَن أَحْوَال الْأَمْوَاتِ الَّذِينَ أَفْضَوْا إِلَى عَالَمِ الْجَزَاءِ، وَهَذَا نَظِيرُ
قَوْلِ النَّبِيءِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»
. وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي يَكُونُ مُوسَى قَدْ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ حَالِهِمْ خَيْبَةً لِمُرَادِ فِرْعَوْنَ وَعُدُولًا عَنِ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِ الْغَرَضِ الَّذِي جَاءَ لِأَجْلِهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مُوسَى تَجَنَّبَ التَّصَدِّيَ لِلْمُجَادَلَةِ وَالْمُنَاقَضَةِ فِي غَيْرِ مَا جَاءَ لِأَجْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ بِذَلِكَ. وَفِي هَذَا الْإِعْرَاضِ فَوَائِدٌ كَثِيرَةٌ
وَإِضَافَةُ عِلْمُها مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَضَمِيرُ عِلْمُها عَائِدٌ إِلَى الْقُرُونِ الْأُولى لِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ يَجُوزُ أَنْ يُؤَنَّثَ ضَمِيرُهُ.
وَقَوْلُهُ فِي كِتابٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مَجَازًا فِي تَفْصِيلِ الْعِلْمِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْأُمُورِ الْمَكْتُوبَةِ، وَأَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ تَحْقِيقِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَكْتُوبَةَ تَكُونُ مُحَقَّقَةً كَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ:
وَهَلْ يَنْقُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى.
وَالضَّلَالُ: الْخَطَأُ فِي الْعِلْمِ، شُبِّهَ بِخَطَأِ الطَّرِيقِ. وَالنِّسْيَانُ: عَدَمُ تَذَكُّرِ الْأَمْرِ الْمَعْلُومِ فِي ذهن الْعَالم.
[٥٣- ٥٤]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٥٣ إِلَى ٥٤]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤)
هَذِهِ جُمَلٌ ثَلَاثٌ مُعْتَرِضَةٌ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ مُوسَى.
فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى مِنْهَا مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ من تفنّن الْأَغْرَاض لِتَجْدِيدِ نَشَاطِ الْأَذْهَانِ. وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى إِذْ لَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ تَفْرِيعَ قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً. فَقَوْلُهُ
وَتَعْرِيفُ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيِ الْجَاعِلُ الْأَرْضَ مِهَادًا فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ.
وَهَذَا قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنَّهُ تَذْكِيرٌ بِالنِّعْمَةِ وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ حَقِيقًا بِالْإِلَهِيَّةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِهاداً- بِكَسْر الْمِيم وَألف بعد الْهَاء- وَهُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَمْهُودِ مِثْلُ الْفِرَاشِ وَاللِّبَاسِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ مَهْدٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُمَهَّدُ لِلصَّبِيِّ، أَيْ يُوضَعُ عَلَيْهِ وَيُحْمَلُ فِيهِ، فَيَكُونُ بِوَزْنِ كِعَابٍ جَمْعًا لِكَعْبٍ. وَمَعْنَى الْجَمْعِ عَلَى اعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْبِقَاعِ.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ مَهْداً- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ-، أَيْ كَالْمَهْدِ الَّذِي يُمَهَّدُ لِلصَّبِيِّ، وَهُوَ اسْمٌ بِمَصْدَرِ مَهَدَهُ، عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ بِمَعْنى الْمَفْعُول كالخلق بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ فَصَارَ اسْمًا لِمَا يُمَهَّدُ.
وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، أَيْ جَعَلَ الْأَرْضَ مَمْهُودَةً مُسَهَّلَةً لِلسَّيْرِ وَالْجُلُوسِ وَالِاضْطِجَاعِ بِحَيْثُ لَا نُتُوءَ فِيهَا إِلَّا نَادِرًا يُمْكِنُ تَجَنُّبُهُ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نوح: ١٩، ٢٠].
وَسَلَكَ فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّلُوكِ وَالسَّلْكُ الَّذِي هُوَ الدُّخُولُ مُجْتَازًا وَقَاطِعًا. يُقَالُ: سَلَكَ طَرِيقًا، أَي دخله مجتازا. وَيسْتَعْمل مجَازًا فِي السّير فِي الطَّرِيق تَشْبِيها للسائر بالشَّيْء الدَّاخِل فِي شَيْء آخر. يُقَال: سلك طَرِيقا. فَحَقُّ هَذَا الْفِعْلِ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَدْخُولُ فِيهِ، وَيُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى أَسْلَكَ. وَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ تَعَدِّيهِ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ فَيُقَالُ: أَسْلَكَ الْمِسْمَارَ فِي اللَّوْحِ، أَيْ جَعَلَهُ سَالِكًا
وَقَالَ الْأَعْشَى:
كَمَا سَلَكَ السَّكِّيَّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ أَيْ أَدْخَلَ الْمِسْمَارَ فِي الْبَابِ نَجَّارٌ، فَصَارَ فِعْلُ سَلَكَ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا.
فَأَمَّا قَوْلُهُ هُنَا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا فَهُوَ سَلَكَ الْمُتَعَدِّي، أَيْ أَسْلَكَ فِيهَا سُبُلًا، أَيْ جَعَلَ سُبُلًا سَالِكَةً فِي الْأَرْضِ، أَيْ دَاخِلَةً فِيهَا، أَيْ مُتَخَلِّلَةً. وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَتِهَا فِي جِهَاتِ الْأَرْضِ.
وَالْمُرَادُ بِالسُّبُلِ: كُلُّ سَبِيلٍ يُمْكِنُ السَّيْرُ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَةِ الْأَرْضِ كَالسُّهُولِ وَالرِّمَالِ، أَوْ كَانَ مِنْ أَثَرِ فِعْلِ النَّاسِ مِثْلَ الثَّنَايَا الَّتِي تَكَرَّرَ السَّيْرُ فِيهَا فَتَعَبَّدَتْ وَصَارَتْ طُرُقًا يُتَابِعُ النَّاسُ السَّيْرَ فِيهَا.
وَلَمَّا ذَكَرَ مِنَّةَ خَلْقِ الْأَرْضِ شَفَعَهَا بِمِنَّةِ إِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنْهَا بِمَا يَنْزِلُ عَلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ. وَتلك منّة تنبىء عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ حَيْثُ أَجْرَى ذِكْرِهَا لِقَصْدِ ذَلِكَ التَّذْكِيرِ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ: وَصَبَبْنَا الْمَاءَ عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا فِي آيَةِ: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [عبس: ٢٥، ٢٦]. وَهَذَا إِدْمَاجٌ بَلِيغٌ.
وَالْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا الْتِفَاتٌ. وَحُسْنُهُ هُنَا أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ حَجَّ الْمُشْرِكِينَ بِحُجَّةِ انْفِرَادِهِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ وَتَسْخِيرِ السَّمَاءِ مِمَّا لَا سَبِيلَ بِهِمْ إِلَى نُكْرَانِهِ ارْتَقَى
وَلِمُلَاحَظَةِ هَذِهِ النُّكْتَةِ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ هَذَا الِالْتِفَاتِ عِنْدَ ذِكْرِ الْإِنْبَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩٩]، وَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها [فاطر:
٣٥]، وَقَوْلُهُ: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ [النَّمْل: ٦٠] وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [١١] : وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً. وَقَدْ نَبَّهَ إِلَى ذَلِكَ فِي «الْكَشَّافِ»، وَلِلَّهِ دَرُّهُ. وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ. وَحَقِيقَةُ الزَّوْجِ أَنَّهُ اسْمٌ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنَ اثْنَيْنِ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ.
فَكُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمَا هُوَ زَوْجٌ بِاعْتِبَارِ الْآخَرِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِسَبْقِ الْفَرْدِ الْأَوَّلِ إِيَّاهُ زَوْجًا. ثُمَّ غَلَبَ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى الْمُقْتَرِنَيْنِ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ أَوْ مِنَ الْحَيَوَانِ، قَالَ تَعَالَى: فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٧]، وَقَالَ: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الْقِيَامَة:
٣٩] وَقَالَ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [الْبَقَرَة: ٣٥]. وَلَمَّا شَاعَتْ فِيهِ مُلَاحَظَةُ مَعْنَى اتِّحَادِ النَّوْعِ تَطَرَّقُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَى اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الزَّوْجِ فِي مَعْنَى النَّوْعِ بِغَيْرِ قَيْدِ كَوْنِهِ ثَانِيًا لِآخَرَ، عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس: ٣٦]، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [لُقْمَان: ١٠].
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ابْتَدَرَتْهُ حَجَبَةُ الْجَنَّةِ
... » الْحَدِيثَ، أَيْ مَنْ أَنْفَقَ نَوْعَيْنِ مِثْلَ الطَّعَامِ
وَالنَّبَاتُ: مَصْدَرٌ سمي بِهِ النَّبَات، فَلِكَوْنِهِ مَصْدَرًا فِي الْأَصْلِ اسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ.
وَشَتَّى: جَمْعُ شَتِيتٍ بِوَزْنِ فَعْلَى، مِثْلُ: مَرِيضٍ وَمَرْضَى.
وَالشَّتِيتُ: الْمُشَتَّتُ، أَيِ الْمُبْعَدُ. وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا التَّبَاعُدُ فِي الصِّفَاتِ مِنَ الشَّكْلِ وَاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ، وَبَعْضُهَا صَالِحٌ لِلْإِنْسَانِ وَبَعْضُهَا لِلْحَيَوَانِ.
وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فَأَخْرَجْنا. وَالتَّقْدِيرُ: قَائِلِينَ: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ. وَالْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ مُرَادٌ بِهِ الْمِنَّةِ.
وَالتَّقْدِيرُ: كُلُوا مِنْهَا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ مِنْهَا. وَهَذَا مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ لِقَصْدِ التَّوْزِيعِ.
وَفِعْلُ (رَعَى) يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا. يُقَالُ: رَعَتِ الدَّابَّةُ وَرَعَاهَا صَاحِبُهَا. وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَصْدَرِ فَمَصْدَرُ الْقَاصِرِ: الرَّعْيُ، وَمَصْدَرُ الْمُتَعَدِّي: الرِّعَايَةُ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
رَأَيْتُكَ تَرْعَانِي بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ وَالْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مُعْتَرِضَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلِاسْتِدْلَالِ فَبَعْدَ أَنْ أُشِيرَ إِلَى مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَالْمِنَّةِ بِهَا عَلَى الْإِنْسَانِ لِمَنْ تَأَمَّلَ، جُمِعَتْ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَصُرِّحَ بِمَا فِي جَمِيعِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ. وَكُلٌّ مِنَ الِاعْتِرَاضِ وَالتَّوْكِيدِ مُقْتَضٍ لِفَصْلِ الْجُمْلَةِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِينَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا فِي دَلَالَةِ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ
وَالنُّهَى: اسْمٌ جَمْعُ نُهْيَةٍ- بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ-، أَيِ الْعَقْلِ، سُمِّيَ نُهْيَةً لِأَنَّهُ سَبَبُ انْتِهَاءِ الْمُتَحَلِّي بِهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُفْسِدَةِ وَالْمُهْلِكَةِ، وَلِذَلِكَ أَيْضًا سُمِّيَ بِالْعَقْلِ وَسمي بِالْحجرِ.
[٥٥]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ٥٥]
مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥)
مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَهَذَا إدماج للتذكير بالخلق الْأَوَّلِ لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلَى إِمْكَانِ الْخَلْقِ الثَّانِي بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالْمُنَاسَبَةُ مُتَمَكِّنَةٌ فَإِنَّ ذِكْرَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَنَافِعِهَا يَسْتَدْعِي إِكْمَالَ ذِكْرِ الْمُهِمِّ لِلنَّاسِ مِنْ أَحْوَالِهَا، فَكَانَ خَلْقُ أَصْلِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَرْضِ شَبِيهًا بِخُرُوجِ النَّبَاتِ مِنْهَا. وَإِخْرَاجُ النَّاسِ إِلَى الْحَشْرِ شَبِيهٌ بِإِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ تَعَالَى:
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً [نوح: ١٧، ١٨].
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى مُتَعَلَّقَاتِهَا فَأَمَّا الْمَجْرُورُ الْأَوَّلُ وَالْمَجْرُورُ الثَّالِثُ فَلِلِاهْتِمَامِ بِكَوْنِ الْأَرْضِ مَبْدَأَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَالْخَلْقِ الثَّانِي. وَأَمَّا تَقْدِيمُ وَفِيها نُعِيدُكُمْ فَلِلْمُزَاوَجَةِ مَعَ نَظِيرَيْهِ.
وَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِيها نُعِيدُكُمْ عَلَى أَنَّ دَفْنَ الْأَمْوَاتِ فِي الْأَرْضِ هُوَ الطَّرِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ لِمُوَارَاةِ الْمَوْتَى سَوَاءٌ كَانَ شَقًّا فِي الْأَرْضِ أَوْ لَحْدًا، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا إِعَادَةٌ فِي الْأَرْضِ فَمَا يَأْتِيهِ بَعْضُ الْأُمَمِ غَيْرِ
وَالتَّارَةُ: الْمَرَّةُ، وَجَمْعُهَا تَارَاتٌ. وَأَصْلُ أَلِفِهَا الْوَاوُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَصْلُ أَلِفِهَا هَمْزَةٌ فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ لَهَا تَرَكُوا الْهَمْزَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ظَهَرَ الْهَمْزُ فِي جَمْعِهَا عَلَى فِعَلٍ فَقَالُوا: تِئَرٌ بِالْهَمْزِ. وَيَظْهَرُ أَنَّهَا اسْمٌ جَامِدٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ مُشْتَقٌّ مِنْهُ.
وَالْإِخْرَاجُ: هُوَ إِخْرَاجُهَا إِلَى الْحَشْرِ بَعْدَ إِعَادَةِ هَيَاكِلِ الْأَجْسَامِ فِي دَاخِلِ الْأَرْضِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ الْإِخْرَاجُ تَارَةً ثَانِيَةً لِلْخَلْقِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَرْضِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الْأَجْسَادِ مِنَ الْأَرْضِ بِإِعَادَةِ خَلْقِهَا كَمَا خُلِقَتْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، قَالَ تَعَالَى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٤].
[٥٦]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ٥٦]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦)
رُجُوعٌ إِلَى قَصَصِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ فِرْعَوْنَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي حَكَتْ مُحَاوَرَةَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَقَعَتْ هَذِهِ كَالْمُقَدِّمَةِ لِإِعَادَةِ سَوْقِ مَا جَرَى بَيْنَ مُوسَى
وَفِرْعَوْنَ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى [طه: ٤٩] بِاعْتِبَارِ
فَأَتَيَاهُ فَقَالَا مَا أَمَرْنَاهُمَا أَنْ يَقُولَاهُ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا إِلَخْ. الْمَعْنَى: فَأَتَيَاهُ وَقَالَا مَا أَمَرْنَاهُمَا وَأَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا عَلَى يَدِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةُ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ.
وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَ (قَدْ) مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ تَصَلُّبِ فِرْعَوْنَ فِي عِنَادِهِ، وَقُصِدَ مِنْهَا بَيَانُ شِدَّتِهِ فِي كُفْرِهِ وَبَيَانُ أَنَّ لِمُوسَى آيَاتٌ كَثِيرَةٌ أَظْهَرَهَا اللَّهُ لِفِرْعَوْنَ فَلَمْ تُجْدِ فِي إِيمَانِهِ.
وَأُجْمِلَتْ وَعُمِّمَتْ فَلَمْ تُفَصَّلْ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ شِدَّةِ تَصَلُّبِهِ فِي كُفْرِهِ بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي قُصِدَ مِنْهَا بَيَانُ تَعَاقُبِ الْآيَاتِ وَنُصْرَتِهَا.
وَإِرَاءَةُ اللَّهِ إِيَّاهُ الْآيَاتِ: إِظْهَارُهَا لَهُ بِحَيْثُ شَاهَدَهَا.
وَإِضَافَةُ (آيَاتٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ هُنَا يُفِيدُ تَعْرِيفًا لِآيَاتٍ مَعْهُودَةٍ، فَإِنَّ تَعْرِيفَ الْجَمْعِ بِالْإِضَافَةِ- يَأْتِي لِمَا يَأْتِي لَهُ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ- يَكُونُ لِلْعَهْدِ وَيَكُونُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْأَوَّلُ، أَيْ أَرَيْنَا فِرْعَوْنَ آيَاتِنَا الَّتِي جَرَتْ عَلَى يَدِ مُوسَى، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ [النَّمْل: ١٢]. وَهِيَ انْقِلَابُ الْعَصَا حَيَّةً، وَتَبَدُّلُ لَوْنِ الْيَدِ بَيْضَاءَ، وَسِنُوُّ الْقَحْطِ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالطُّوفَانُ، وَانْفِلَاقُ الْبَحْرِ. وَقَدِ اسْتَمَرَّ تَكْذِيبُهُ بَعْدَ جَمِيعِهَا حَتَّى لَمَّا رَأَى انْفِلَاقَ الْبَحْرِ اقْتَحَمَهُ طَمَعًا لِلظَّفَرِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَتَأْكِيدُ الْآيَاتِ بِأَدَاةِ التَّوْكِيدِ كُلَّها لِزِيَادَةِ التَّعْجِيبِ مِنْ عِنَادِهِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فِي سُورَةِ الْقَمَرِ
سِنِيِّ الْقَحْطِ، وَالدَّمِ، وَانْفِلَاقِ الْبَحْرِ. وَهَذَا الْحَمْلُ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يَقْتَضِي ترتيبا.
[٥٧- ٥٩]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٥٧ إِلَى ٥٩]
قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [طه: ٥١] وَجَوَابُ مُوسَى عَنْهَا. وَافْتِتَاحُهَا بِفِعْلِ قالَ وَعَدَمُ عَطْفِهِ لَا يَتْرُكُ شَكًّا فِي أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْمُحَاوَرَةِ.
وَقَوْلُهُ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَرَاهُ آيَةَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً، وَانْقِلَابِ يَدِهِ بَيْضَاءَ. وَذَلِكَ مَا سَمَّاهُ فِرْعَوْنُ سِحْرًا. وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمُقْتَضَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمَا: قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ...
وَإِضَافَتُهُ السِّحْرَ إِلَى ضَمِيرِ مُوسَى قُصِدَ مِنْهَا تَحْقِيرُ شَأْنِ هَذَا الَّذِي سَمَّاهُ سِحْرًا.
وَأَسْنَدَ الْإِتْيَانَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ إِلَى ضَمِيرِ نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ. وَمَعْنَى إِتْيَانِهِ بِالسِّحْرِ:
إِحْضَارُ السَّحَرَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَيْ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِمَّنْ شَأْنُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِالسِّحْرِ، إِذِ السِّحْرُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَاحِرٍ.
وَالْمُمَاثَلَةُ فِي قَوْلِهِ مِثْلِهِ مُمَاثَلَةٌ فِي جِنْسِ السِّحْرِ لَا فِي قُوَّتِهِ.
وَإِنَّمَا جَعَلَ فِرْعَوْنُ الْعِلَّةَ فِي مَجِيءِ مُوسَى إِلَيْهِ: أَنَّهَا قَصْدُهُ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ قِيَاسًا مِنْهُ عَلَى الَّذِينَ يَقُومُونَ بِدَعْوَةٍ ضِدَّ الْمُلُوكِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَبْغُونَ بِذَلِكَ إِزَالَتَهُمْ عَنِ الْمُلْكِ وَحُلُولَهُمْ مَحَلَّهُمْ، يَعْنِي أَنَّ مُوسَى غَرَّتْهُ نَفْسُهُ فَحَسِبَ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ اقْتِلَاعَ فِرْعَوْنَ مِنْ مُلْكِهِ، أَيْ حَسِبْتَ أَنَّ إِظْهَارَ الْخَوَارِقِ يُطَوِّعُ لَكَ الْأُمَّةَ فَيَجْعَلُونَكَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ وَتُخْرِجَنِي مِنْ أَرْضِي. فَضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْظِيمِ لَا فِي الْمُشَارَكَةِ، لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ مَا يُشَمُّ مِنْهُ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْجَمَاعَةِ تَغْلِيبًا، وَنَزَّلَ فِرْعَوْنُ
نَفْسَهُ وَاحِدًا مِنْهَا. وَأَرَادَ بِالْجَمَاعَةِ جَمَاعَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَيْثُ قَالَ لَهُ مُوسَى فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ [طه: ٤٧]، أَيْ جِئْتَ لِتُخْرِجَ بَعْضَ الْأُمَّةِ مِنْ أَرْضِنَا وَتَطْمَعُ أَنْ يَتَّبِعَكَ جَمِيعُ الْأُمَّةِ بِمَا تُظْهِرُ لَهُمْ مِنْ سَحْرِكَ.
وَاللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ، وَالنُّونُ لِتَوْكِيدِهِ. وَقَصَدَ فِرْعَوْنُ مِنْ مُقَابَلَةِ عَمَلِ مُوسَى بِمِثْلِهِ أَنْ يُزِيلَ مَا يُخَالِجُ نُفُوسَ النَّاسِ مِنْ تَصْدِيقِ مُوسَى وَكَوْنِهِ عَلَى الْحَقِّ، لَعَلَّ ذَلِكَ يُفْضِي بِهِمْ إِلَى الثَّوْرَةِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَإِزَالَتِهِ مِنْ مُلْكِ مِصْرَ.
وَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ طَلَبَ تَعْيِينِ مَوْعِدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى لِيُحْضِرَ لَهُ فِيهِ الْقَائِمِينَ بِسِحْرٍ مِثْلِ سِحْرِهِ.
وَالْمَوْعِدُ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَصْدَرُ الْمِيمِيِّ، أَيِ الْوَعْدُ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ مَكَانُ الْوَعْدِ، وَهَذَا إِيجَازٌ فِي الْكَلَامِ.
وَقَوْلُهُ مَكاناً بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَوْعِداً بِأَحَدِ مَعْنَيَيْهِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يَقْتَضِي مَكَانًا وَزَمَانًا فَأُبْدِلَ مِنْهُ مَكَانَهُ.
وَقَوْلُهُ لَا نُخْلِفُهُ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِرَفْعِ الْفِعْلِ صِفَةً لِ مَوْعِداً بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْمَصْدَرِيِّ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِجَزْمِ الْفَاءِ مِنْ (نَخْلِفْهُ) عَلَى أَنَّ (لَا) نَاهِيَةً. وَالنَّهْيُ تَحْذِيرٌ مِنْ إِخْلَافِهِ.
وسُوىً قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيِّ- بِكَسْرِ السِّينِ-. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ- بِضَمِّ السِّينِ- وَهُمَا لُغَتَانِ، فَالْكَسْرُ بِوَزْنِ فِعَلْ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَزْنُ فِعَلْ يَقِلُّ فِي الصِّفَاتِ، نَحْوَ: قَوْمٌ عِدًى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَالنَّحَّاسُ: كَسْرُ السِّينِ هُوَ اللُّغَةُ الْعَالِيَةُ الْفَصِيحَةُ، وَهُوَ اسْمُ وَصْفٍ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْتِوَاءِ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِوَاءُ اسْتِوَاءَ التَّوَسُّطِ بَيْنَ جِهَتَيْنِ. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِمُوسَى ابْن جَابِرٍ الْحَنَفِيِّ:
وَالْمَعْنَى: قَالَ مُجَاهِدُ: إِنَّهُ مَكَانٌ نَصِفٌ، وَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ نِصْفٌ مِنَ الْمَدِينَةِ لِئَلَّا يَشُقَّ الْحُضُورُ فِيهِ عَلَى أَهْلِ أَطْرَافِ الْمَدِينَةِ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: الْمَعْنَى مَكَانًا مُسْتَوِيًا، أَيْ لَيْسَ فِيهِ مُرْتَفَعَاتٌ تَحْجُبُ الْعَيْنَ، أَرَادَ مَكَانًا مُنْكَشِفًا لِلنَّاظِرِينَ لِيَشْهَدُوا أَعْمَالَ مُوسَى وَأَعْمَالَ السَّحَرَةِ.
ثُمَّ تَعْيِينُ الْمَوْعِدِ غَيْرُ المخلف يَقْتَضِي تعْيين زَمَانَهُ لَا مَحَالَةَ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِخْلَافُ إِلَّا إِذَا كَانَ لِلْوَعْدِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ وَمَكَانٌ مُعَيَّنٌ، فَمِنْ ثَمَّ طَابَقَهُ جَوَابُ مُوسَى بقوله قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى.
فَيَقْتَضِي أَنَّ مَحْشَرَ النَّاسِ فِي يَوْمِ الزِّينَةِ كَانَ مَكَانًا مَعْرُوفًا. وَلَعَلَّهُ كَانَ بِسَاحَةِ قَصْرِ فِرْعَوْنَ، لِأَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ بِزِينَتِهِمْ وَلَهْوِهِمْ بِمَرْأًى مِنْهُ وَمِنْ أَهْلِهِ عَلَى عَادَةِ الْمُلُوكِ فِي الْمَوَاسِمِ.
فَقَوْلُهُ يَوْمُ الزِّينَةِ تَعْيِينٌ لِلْوَقْتِ، وَقَوْلُهُ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ تَعْيِينٌ لِلْمَكَانِ، وَقَوْلُهُ ضُحًى تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقِ الْوَقْتِ.
وَالضُّحَى: وَقْتُ ابْتِدَاءِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ بَعْدَ طُلُوعِهَا.
وَيَوْمُ الزِّينَةِ كَانَ يَوْمُ عِيدٍ عَظِيمٍ عِنْدَ الْقِبْطِ، وَهُوَ يَوْمُ كَسْرِ الْخَلِيجِ أَوِ الْخُلْجَانِ، وَهِيَ الْمَنَافِذُ وَالتُّرَعُ الْمَجْعُولَةُ عَلَى النَّيْلِ لِإِرْسَالِ الزَّائِدِ مِنْ مِيَاهِهِ إِلَى الْأَرَضِينَ الْبَعِيدَةِ عَنْ مَجْرَاهُ لِلسَّقْيِ، فَتَنْطَلِقُ الْمِيَاهُ فِي جَمِيعِ النَّوَاحِي الَّتِي يُمْكِنُ وُصُولُهَا إِلَيْهَا وَيَزْرَعُونَ عَلَيْهَا.
وَزِيَادَةُ الْمِيَاهِ فِي النِّيلِ هُوَ تَوْقِيتُ السَّنَةِ الْقِبْطِيَّةِ، وَذَلِكَ هُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ (تُوتَ) الْقِبْطِيِّ، وَهُوَ (أَيْلُولُ) بِحَسْبِ التَّارِيخِ الِإسْكَنْدَرِيِّ، وَذَلِكَ قَبْلَ
وَاخْتَارَ مُوسَى هَذَا الْوَقْتَ وَهَذَا الْمَكَانَ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنْ سَيَكُونُ الْفَلَجُ لَهُ، فَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ أَكْثَرَ مُشَاهِدًا وأوضح رُؤْيَة.
[٦٠- ٦١]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٦٠ إِلَى ٦١]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١)
تَفْرِيعُ التَّوَلِّي وَجَمْعُ الْكَيْدِ عَلَى تَعْيِينِ مُوسَى لِلْمَوْعِدِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ بَادَرَ بِالِاسْتِعْدَادِ لِهَذَا الْمَوْعِدِ وَلَمْ يُضِعِ الْوَقْتَ لِلتَّهْيِئَةِ لَهُ.
وَالتَّوَلِّي: الِانْصِرَافُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمل فِي حَقِيقَته، أَيِ انْصَرَفَ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ إِلَى حَيْثُ يُرْسِلُ الرُّسُلَ إِلَى الْمَدَائِنِ لِجَمْعِ مَنْ عُرِفُوا بِعِلْمِ السِّحْرِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [٢٢، ٢٣] ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى.
وَمَعْنَى جَمْعُ الْكَيْدِ: تَدْبِيرُ أُسْلُوبِ مُنَاظَرَةِ مُوسَى، وَإِعْدَادُ الْحِيَلِ لِإِظْهَارِ غَلَبَةِ السَّحَرَةِ عَلَيْهِ، وَإِقْنَاعِ الْحَاضِرِينَ بِأَنَّ مُوسَى لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ.
وَهَذَا أُسْلُوبٌ قَدِيمٌ فِي الْمُنَاظَرَاتِ: أَنْ يَسْعَى الْمُنَاظِرُ جُهْدَهُ لِلتَّشْهِيرِ بِبُطْلَانِ حُجَّةِ خَصْمِهِ بِكُلِّ وَسَائِلِ التَّلْبِيسِ وَالتَّشْنِيعِ وَالتَّشْهِيرِ، وَمُبَادَأَتِهِ بِمَا يَفُتُّ فِي عَضُدِهِ وَيُشَوِّشُ رَأْيَهُ حَتَّى يَذْهَبَ مِنْهُ تَدْبِيرُهُ.
وَالْكَيْدُ: إِخْفَاءُ مَا بِهِ الضُّرُّ إِلَى وَقْتِ فِعْلِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨٣].
وَمَعْنَى ثُمَّ أَتى ثُمَّ حَضَرَ الْمَوْعِدَ، وَثمّ لِلْمُهْلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ والْرُتْبِيَّةِ مَعًا، لِأَنَّ حُضُورَهُ لِلْمَوْعِدِ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ مُهْلَةِ الِاسْتِعْدَادِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ الْحُضُورَ بَعْدَ جَمْعِ كَيْدِهِ أَهَمُّ مِنْ جَمْعِ الْكَيْدِ، لِأَنَّ فِيهِ ظُهُورَ أَثَرِ مَا أَعَدَّهُ.
وَجُمْلَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ أَتى يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: فَمَاذَا حَصَلَ حِينَ أَتَى فِرْعَوْنُ مِيقَاتَ الْمَوْعِدِ. وَأَرَادَ مُوسَى مُفَاتَحَةَ السَّحَرَةِ بِالْمَوْعِظَةِ.
وَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ قَوْلِهِ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أَيْ بِأَهْلِ سِحْرٍ، أَوْ يَكُونُ الْخِطَابُ لِلْجَمِيعِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَحْضَرَ كَانَ بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَحَاشِيَتِهِ، فَيَكُونُ مَعَادُ الضَّمِيرِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى، أَيْ جَمَعَ رِجَالَ كَيْدِهِ.
وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ وَيْلَكُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ حَقِيقَةَ الدُّعَاءِ، فَيَكُونُ غَيْرَ جَارٍ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ إِلَانَةِ الْقَوْلِ لِفِرْعَوْنَ: إِمَّا لِأَنَّ الْخِطَابَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُوَاجِهًا بِهِ فِرْعَوْنَ بَلْ وَاجَهَ بِهِ السَّحَرَةَ خَاصَّةً الَّذِينَ اقْتَضَاهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَمَعَ كَيْدَهُ، أَيْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِ كَيْدِ فِرْعَوْنَ وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ إِلَانَةَ الْقَوْلِ لَهُ غَيْرُ نَافِعَةٍ، إِذْ لَمْ يَزَلْ عَلَى تَصْمِيمِهِ عَلَى الْكُفْرِ، أَغْلَظَ الْقَوْلَ زَجْرًا لَهُ بِأَمْرٍ خَاصٍّ مِنَ اللَّهِ فِي تِلْكَ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ وَيْلَكُمْ مُسْتَعْمَلَةً فِي التَّعَجُّبِ مِنْ حَالٍ غَرِيبَةٍ، أَيْ أَعْجَبُ مِنْكُمْ وَأُحَذِّرُكُمْ،
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَصِيرٍ: «وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ»
فَحُكِيَ تَعَجُّبُ مُوسَى بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ الدَّالِّ عَلَى الْعَجَبِ الشَّدِيدِ.
وَالْوَيْلُ: اسْمٌ لِلْعَذَابِ وَالشَّرِّ، وَلَيْسَ لَهُ فِعْلٌ.
وَانْتَصَبَ وَيْلَكُمْ إِمَّا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ عَلَى التَّحْذِيرِ أَوِ الْإِغْرَاءِ، أَيِ الْزَمُوا وَيْلَكُمْ، أَوِ احْذَرُوا وَيْلَكُمْ وَإِمَّا عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ النِّدَاءِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: يَا وَيْلَنَا، وَيَا وَيَلَتَنَا. وَتَقَدَّمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٩].
وَالِافْتِرَاءُ: اخْتِلَاقُ الْكَذِبِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَذِباً لِلتَّأْكِيدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَة الْمَائِدَة [١٠٣].
وَالِافْتِرَاءُ الَّذِي عَنَاهُ مُوسَى هُوَ مَا يُخَيِّلُونَهُ لِلنَّاسِ مِنَ الشَّعْوَذَةِ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: انْظُرُوا كَيْفَ تَحَرَّكَ الْحَبْلُ فَصَارَ ثُعْبَانًا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ تَوْجِيهِ التَّخَيُّلَاتِ بِتَمْوِيهِ أَنَّهَا حَقَائِقُ، أَوْ قَوْلُهُمْ: مَا نَفْعَلُهُ تَأْيِيدٌ مِنَ اللَّهِ لَنَا، أَوْ قَوْلُهُمْ: أَنَّ مُوسَى كَاذِبٌ وَسَاحِرٌ، أَوْ قَوْلُهُمْ: إِنَّ فِرْعَوْنَ إِلَهَهُمْ، أَوْ آلِهَةُ فِرْعَوْنَ آلِهَةٌ. وَقَدْ كَانَتْ مَقَالَاتُ كُفْرِهِمْ أَشْتَاتًا.
وَجُمْلَةُ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَا تَفْتَرُوا وَهِيَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ، أَيِ اجْتَنِبُوا الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ فَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ. بَعْدَ أَنْ وَعَظَهُمْ فَنَهَاهُمْ عَنِ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَأَنْذَرَهُمْ عَذَابَهُ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ الَّذِينَ افْتَرَوُا الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ فَلَمْ يَنْجَحُوا فِيمَا افْتَرَوْا لِأَجْلِهِ.
ومَنِ الْمَوْصُولَةُ لِلْعُمُومِ.
وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا كَمَوْقِعِ الْقَضِيَّةِ الْكُبْرَى مِنَ الْقِيَاسِ الِاقْتِرَانِيِّ.
وَفِي كَلَامِ مُوسَى إِعْلَانٌ بِأَنَّهُ لَا يَتَقَوَّلُ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَأْصِلُهُ بِعَذَابٍ وَيَعْلَمُ خَيْبَةَ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ وَمَنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ لَا يقدم عَلَيْهِ.
[٦٢- ٦٤]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٦٢ إِلَى ٦٤]
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤)
أَيْ تَفَرَّعَ عَلَى مَوْعِظَةِ مُوسَى تَنَازُعُهُمُ الْأَمْرَ بَيْنَهُمْ، وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَرَكَتْ فِيهِ الْمَوْعِظَةُ بَعْضَ الْأَثَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَشِيَ الِانْخِذَالَ، فَلِذَلِكَ دَعَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِلتَّشَاوُرِ فِي مَاذَا يَصْنَعُونَ.
وَالنَّجْوَى: الْحَدِيثُ السِّرِّيُّ، أَيِ اخْتَلَوْا وَتَحَادَثُوا سِرًّا لِيَصْدُرُوا عَنْ رَأْيٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، فَجَعَلَ النَّجْوَى مَعْمُولًا لِ أَسَرُّوا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْكِتْمَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
أَسَرُّوا سِرَّهُمْ، كَمَا يُقَالُ: شِعْرُ شَاعِرٍ.
وَزَادَهُ مُبَالَغَةً قَوْلُهُ بَيْنَهُمْ الْمُقْتَضِي أَنَّ النَّجْوَى بَيْنَ طَائِفَةٍ خَاصَّةٍ لَا يَشْتَرِكُ مَعَهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ.
وَجُمْلَةُ قالُوا إِنْ هذانِ لسحران بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَأَسَرُّوا النَّجْوى، لِأَنَّ إِسْرَارَ النَّجْوَى يَشْتَمِلُ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ ذُكِرَ مِنْهَا هَذَا الْقَوْلُ، لِأَنَّهُ الْقَوْلُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمْ وَالرَّأْيُ الَّذِي أَرْسَوْا عَلَيْهِ، فَهُوَ زُبْدَةُ مَخِيضِ النَّجْوَى. وَذَلِكَ شَأْنُ التَّشَاوُرِ وَتَنَازُعِ الْآرَاءِ أَنْ
يُسْفِرَ عَنْ رَأْيٍ يَصْدُرُ الْجَمِيعُ عَنْهُ.
وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعِهِمْ عَلَى مَعْنَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَانِ لَسَاحِرَانِ، فَقَالَ جَمِيعُهُمْ: نَعَمْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ، فَأُسْنِدَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى جَمِيعِهِمْ، أَيْ مَقَالَةً تَدَاوَلُوا الْخَوْضَ فِي شَأْنِهَا فَأَرْسَوْا عَلَيْهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ، وَنَطَقُوا بِالْكَلَامِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُهُمْ، وَهُوَ تَحَقُّقُهُمْ أَنَّ مُوسَى وَأَخَاهُ سَاحِرَانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرَّاء المعتبرين قرأوا بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ من قَوْله «هاذان» مَا عَدَا أَبَا عَمْرٍو مِنَ الْعَشَرَةِ وَمَا عَدَا الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِنَ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ. وَذَلِكَ يُوجِبُ الْيَقِينَ بِأَنَّ إِثْبَاتَ الْأَلِفِ فِي لَفْظِ (هَذَانِ) أَكْثَرُ تَوَاتُرًا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِكَلِمَةِ (إِنَّ)
وَإِنَّ الْمُصْحَفَ الْإِمَامَ مَا رَسَمُوهُ إِلَّا اتِّبَاعًا لِأَشْهَرِ الْقِرَاءَاتِ الْمَسْمُوعَةِ الْمَرْوِيَّةِ مِنْ زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُرَّاءِ أَصْحَابِهِ، فَإِنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ فِي صُدُورِ الْقُرَّاءِ أَقْدَمُ مِنْ كِتَابَتِهِ فِي الْمَصَاحِفِ، وَمَا كُتِبَ فِي أُصُولِ الْمَصَاحِفِ إِلَّا مِنْ حِفْظِ الْكَاتِبِينَ، وَمَا كُتِبَ الْمُصْحَفُ الْإِمَامُ إِلَّا مِنْ مَجْمُوعِ مَحْفُوظِ الْحُفَّاظِ وَمَا كَتَبَهُ كُتَّابُ الْوَحْيِ فِي مُدَّةِ نُزُولِ الْوَحْيِ.
فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ إِنْ هذانِ لَساحِرانِ- بِتَشْدِيدِ نُونِ- (إِنَّ) وَبِالْأَلِفِ فِي هذانِ وَكَذَلِكَ فِي لَساحِرانِ، فَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَوْجِيهِهَا آرَاءٌ بَلَغَتِ السِّتَّةَ. وَأَظْهَرُهَا أَنْ تَكُونَ (إِنَّ) حَرْفُ جَوَابٍ مِثْلَ: نَعَمْ وَأَجَلْ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مِنِ اسْتِعْمَالَاتِ (إِنَّ)، أَيِ اتَّبَعُوا لَمَّا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ بَعْدَ النَّجْوَى كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ:
وَإِنَّ أَبَانَا كَانَ حَلَّ بِبَلْدَةٍ | سِوًى بَيْنَ قَيْسٍ قَيْسِ عَيْلَانَ وَالْفِزْرِِِ |
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلَا | كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهُ |
وَقُلْتُ: لَقَدْ صَدَقَا وَحَقَّقَا، وَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ عَلَيْهِ مِنَ الرَّدِّ فِيهِ نَظَرٌ.
وَعَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ حِكَايَةً لِمَقَالِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُتَنَازِعِينَ، وَهُوَ الْفَرِيقُ الَّذِي قَبِلَ هَذَا الرَّأْيَ لِأَنَّ حَرْفَ الْجَوَابِ يَقْتَضِي كَلَامًا سَبَقَهُ.
وَدَخَلَتِ اللَّامُ عَلَى الْخَبَرِ: إِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْخَبَرِ جُمْلَةً حُذِفَ مُبْتَدَأُهَا وَهُوَ مَدْخُولُ اللَّامِ فِي التَّقْدِيرِ، وَوُجُود اللّام ينبىء بِأَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي وَقَعَتْ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ جُمْلَةٌ قَسَمِيَّةٌ وَإِمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجِيزُ دُخُولَ اللَّامِ عَلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ.
وَوُجِّهَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَيْضًا بِجَعْلِ (إِنَّ) حَرْفَ تَوْكِيدٍ وَإِعْرَابُ اسْمِهَا الْمُثَنَّى جَرَى عَلَى لُغَةِ كِنَانَةَ وَبِلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ عَلَامَةَ إِعْرَابِ الْمُثَنَّى الْأَلِفَ فِي أَحْوَالِ الْإِعْرَابِ كُلِّهَا، وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ وَلَهَا شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ:
فَأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجَاعِ وَلَوْ دَرَى | مَسَاغًا لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا |
وَتَكُونُ اللَّامُ فِي لَساحِرانِ اللَّامَ الْفَارِقَةَ بَيْنَ (إِنِ) الْمُخَفَّفَةِ وَبَيْنَ (إِنِ) النَّافِيَةِ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَحْدَهُ إِنَّ هَذَيْنِ- بِتَشْدِيدِ نُونِ (إِنَّ) وَبِالْيَاءِ بَعْدَ ذَالِ «هَذَيْنِ».
فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ مُخَالفَة للمصحف. وَأَقل: ذَلِكَ لَا يَطْعَنُ فِيهَا لِأَنَّهَا رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ وَوَافَقَتْ وَجْهًا مَقْبُولًا فِي الْعَرَبِيَّةِ.
وَنُزُولُ الْقُرْآنِ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْفَصِيحَةِ فِي الِاسْتِعْمَالِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِهِ لِتَجْرِيَ تَرَاكِيبُهُ عَلَى أَفَانِينَ مُخْتَلِفَةِ الْمَعَانِي مُتَّحِدَةِ الْمَقْصُودِ. فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا رُوِيَ مِنِ ادِّعَاءِ أَنَّ كِتَابَةَ «إِنَّ هَاذَانِ» خَطَأٌ مِنْ كَاتِبِ الْمُصْحَفِ، وَرِوَايَتِهِمْ ذَلِكَ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ سَنَدٌ صَحِيحٌ. حَسِبُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخَذُوا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَهَذَا تَغَفُّلٌ، فَإِنَّ الْمُصْحَفَ مَا كُتِبَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ قَرَأَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ، وَمَا كُتِبَتِ الْمَصَاحِفُ إِلَّا مِنْ حِفْظِ الْحُفَّاظِ، وَمَا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ إِلَّا مِنْ أَفْوَاهِ حُفَّاظِهِ قَبْلَ أَنْ تُكْتَبَ الْمَصَاحِفُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ فَلَوْ كَانَ فِي بَعْضِهَا خَطَأٌ فِي الْخَطِّ لَمَا تَبِعَهُ الْقُرَّاءُ، وَلَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا تُرِكَ مِنَ الْأَلِفَاتِ فِي كَلِمَاتٍ كَثِيرَةٍ وَبِمَنْزِلَةِ كِتَابَةِ أَلِفِ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَيَاةِ، وَالرِّبَا- بِالْوَاوِ- فِي مَوْضِعِ الْألف وَمَا قرأوها إِلَّا بِأَلِفَاتِهَا.
وَتَأْكِيدُ السَّحَرَةِ كَوْنَ مُوسَى وَهَارُونَ سَاحِرَيْنِ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يُخَامِرُهُ الشَّكُّ فِي صِحَّةِ دَعْوَتِهِمَا.
وَجَعَلَ مَا أَظْهَرَهُ مُوسَى مِنَ الْمُعْجِزَةِ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ سِحْرًا لِأَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ السِّحْرَ عِنْدَهُمْ عَلَى خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، كَمَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي
وَالْقَائِلُونَ: قَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ مِمَّنْ شَاهَدَ مَا أَتَى بِهِ مُوسَى فِي مَجْلِسِ فِرْعَوْنَ، أَوْ مِمَّنْ بَلَغَهُمْ ذَلِكَ بِالتَّسَامُعِ وَالِاسْتِفَاضَةِ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ لِمَلَئِهِمْ. وَوَجْهُ اتِّهَامِهِمَا بِذَلِكَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى [طه: ٥٧]. وَنَزِيدُ هُنَا أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ النَّجْوَى بَيْنَ السَّحَرَةِ، أَيْ يُرِيدَانِ الِاسْتِئْثَارَ بِصِنَاعَةِ السِّحْرِ فِي أَرْضِكُمْ فَتَخْرُجُوا مِنَ الْأَرْضِ بِإِهْمَالِ النَّاسِ لَكُمْ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى سِحْرِ مُوسَى وَهَارُونَ.
وَالطَّرِيقَةُ: السُّنَّةُ وَالْعَادَةُ شُبِّهَتْ بِالطَّرِيقِ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ السائر، بِجَامِع الْمُلَازَمَةِ.
وَالْمُثْلَى: مُؤَنَّثُ الْأَمْثَلِ. وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَثَالَةِ، وَهِيَ حُسْنُ الْحَالَةِ يُقَالُ: فُلَانٌ أمْثَلُ قَوْمِهِ، أَيْ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَأَحْسَنُهُمْ حَالًا.
وَأَرَادُوا مِنْ هَذَا إِثَارَةَ حَمِيَّةِ بَعْضِهِمْ غَيْرَةً عَلَى عَوَائِدِهِمْ، فَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ غَيْرَةً عَلَى عَوَائِدِهَا وَشَرَائِعِهَا وَأَخْلَاقِهَا. وَلِذَا فَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ أَمْرَهُمْ بِأَنْ يَجْمَعُوا حِيَلَهُمْ وَكُلَّ مَا فِي وُسْعِهِمْ أَنْ يَغْلِبُوا بِهِ مُوسَى.
وَالْبَاءُ فِي بِطَرِيقَتِكُمُ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ يَذْهَبا. وَالْمَعْنَى: يُذْهِبَانِهَا، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي تَعَلُّقِ
الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ مِنْ نَصْبِ الْمَفْعُولِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَأَجْمِعُوا بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَمْرًا مِنْ: أَجْمَعَ أَمْرَهُ، إِذَا جَعَلَهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ.
وَسَمَّوْا عَمَلَهُمْ كَيْدًا لِأَنَّهُمْ تَوَاطَئُوا عَلَى أَنْ يُظْهِرُوا لِلْعَامَّةِ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيْسَ بِعَجِيبٍ، فَهُمْ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أَوْ أَشَدَّ مِنْهُ لِيَصْرِفُوا النَّاسَ عَنْ سَمَاعِ دَعْوَتِهِ فَيَكِيدُوا لَهُ بِإِبْطَالِ خِصِّيصِيَّةِ مَا أَتَى بِهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ تَسَامَعُوا بِدَعْوَةِ مُوسَى، وَمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَةِ، وَأَصْبَحُوا مُتَحَيِّرِينَ فِي شَأْنِهِ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اهْتَمَّ السَّحَرَةُ بِالْكَيْدِ لَهُ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي آيَةِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٣٨- ٤٠] : فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ.
وَدَبَّرُوا لِإِرْهَابِ النَّاسِ وَإِرْهَابِ مُوسَى وَهَارُونَ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنْ يَأْتُوا حِينَ يَتَقَدَّمُونَ لِإِلْقَاءِ سِحْرِهِمْ مُصْطَفِّينَ لِأَنَّ ذَلِكَ أَهْيَبُ لَهُمْ.
وَلَمْ يَزَلِ الَّذِينَ يَرُومُونَ إِقْنَاعَ الْعُمُومِ بِأَنْفُسِهِمْ يَتَخَيَّرُونَ لذَلِك بهاء الهيبة وَحُسْنَ السَّمْتِ وَجَلَالَ الْمَظْهَرِ. فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ جُلُوسُ الْمُلُوكِ عَلَى جُلُودِ الْأسود، وَرُبمَا لَيْسَ الْأَبْطَالُ جُلُودَ النُّمُورِ فِي الْحَرْبِ. وَقَدْ فُسِّرَ بِهِ فِعْلَ «تَنَمَّرُوا» فِي قَول ابْن معد يكرب:
قَوْمٌ إِذَا لَبِسُوا الْحَدِيدَ | تَنَمَّرُوا حِلَقًا وَقَدَّا |
وَثَبَتَ فِي التَّارِيخِ الْمُسْتَنِدِ لِلْآثَارِ أَنَّ كَهَنَةَ الْقِبْطِ فِي مِصْرَ كَانُوا يَلْبِسُونَ جُلُودَ النُّمُورِ.
فَكَانُوا عَدَدًا كَثِيرًا. فَالصَّفُّ هُنَا مُرَادٌ بِهِ الْجِنْس لَا الْوَاحِدَة، أَيْ ثُمَّ ائْتُوا صُفُوفًا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النبأ: ٣٨] وَقَالَ: وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الْفجْر: ٢٢].
وَانْتَصَبَ صَفًّا عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ ائْتُوا وَالْمَقْصُودُ الْإِتْيَانُ إِلَى مَوْضِعِ إِلْقَاءِ سِحْرِهِمْ وَشَعْوَذَتِهِمْ، لِأَنَّ التَّنَاجِيَ وَالتَّآمُرَ كَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى.
وَجُمْلَةُ وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ يَجْمَعُ مَا قَصَدُوهُ مِنْ تَآمُرِهِمْ بِأَنَّ الْفَلَاحَ يَكُونُ لِمَنْ غَلَبَ وَظَهَرَ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ. فَ اسْتَعْلى مُبَالَغَةٌ فِي عَلَا، أَيْ عَلَا صَاحِبَهُ وَقَهَرَهُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ اسْتَأْخَرَ.
وَأَرَادُوا الْفَلَاحَ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ مِمَّا يُؤَثِّرُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْحَيَاةِ الثَّانِيَة.
[٦٥- ٦٦]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٦٥ إِلَى ٦٦]
قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦)
تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَمَعَانِيهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ سِوَى أَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ هُنَا مُصَرَّحٌ بِهَا فِي أَحَدِ الشِّقَّيْنِ. فَكَانَتْ صَرِيحَةً فِي أَنَّ التَّخْيِيرَ يَتَسَلَّطُ عَلَى
وَالْمُفَاجَأَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ (إِذَا) دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُمْ أَعَدُّوهَا لِلْإِلْقَاءِ وَكَانُوا يَخْشَوْنَ أَنْ يَمُرَّ زَمَانٌ تَزُولُ بِهِ خَاصِّيَّاتُهَا فَلِذَلِكَ أَسْرَعُوا بِإِلْقَائِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُخَيَّلُ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ الْمَصْدَرُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّها تَسْعى. وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ «تُخَيَّلُ» بِفَوْقِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ رَافِعٌ لِضَمِيرِ حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ، أَيْ هِيَ تُخَيَّلُ إِلَيْهِ.
وأَنَّها تَسْعى بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ.
وَهَذَا التَّخْيِيلُ الَّذِي وَجَدَهُ مُوسَى مِنْ سِحْرِ السَّحَرَةِ هُوَ أَثَرُ عَقَاقِيرَ يُشْرِبُونَهَا تِلْكَ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ، وَتَكُونُ الْحِبَالُ مِنْ صِنْفٍ خَاصٍّ، وَالْعِصِيُّ مِنْ أَعْوَادٍ خَاصَّةٍ فِيهَا فَاعِلِيَّةٌ
لِتِلْكَ الْعَقَاقِيرِ، فَإِذَا لَاقَتْ شُعَاعَ الشَّمْسِ اضْطَرَبَتْ تِلْكَ الْعَقَاقِيرُ فَتَحَرَّكَتِ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ.
قِيلَ: وَضَعُوا فِيهَا طِلَاءَ الزِّئْبَقِ. وَلَيْسَ التَّخْيِيلُ لِمُوسَى مِنْ تَأْثِيرِ السِّحْرِ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ نَفْسَ الرَّسُولِ لَا تَتَأَثَّرُ بِالْأَوْهَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَأَثَّرَ بِالْمُؤَثِّرَاتِ الَّتِي يَتَأَثَّرُ مِنْهَا الْجَسَدُ كَالْمَرَضِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ تَأْوِيلُ ظَاهِرَ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي سِحْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَارُ الْآحَادِ لَا تَنْقُضُ الْقَوَاطِعَ. وَلَيْسَ هَذَا مَحَلٌّ ذَكْرِهِ وَقَدْ حَقَّقْتُهُ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى «النَّظَرُ الْفَسِيحُ» عَلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ سِحْرِهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا [نوح: ٢٥].
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٦٧ إِلَى ٦٩]
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩)أَوْجَسَ: أَضْمَرَ وَاسْتَشْعَرَ. وَانْتِصَابُ خِيفَةً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَيْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً فِي سُورَةِ هُودٍ [٧٠].
وخِيفَةً اسْمُ هَيْئَةٍ مِنَ الْخَوفِ، أُرِيدَ بِهِ مُطْلَقُ الْمَصْدَرِ، وَأَصْلُهُ خِوْفَةٌ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِوُقُوعِهَا إِثْرَ كَسْرَةٍ.
وَزِيَادَةُ فِي نَفْسِهِ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهَا خِيفَةُ تَفَكُّرٍ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهَا عَلَى مَلَامِحِهِ.
وَإِنَّمَا خَافَ مُوسَى مِنْ أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُ السَّحَرَةِ فَيُسَاوِي مَا يَظْهَرُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ انْقِلَابِ عَصَاهُ ثُعْبَانًا، لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ سَاوَاهُمْ فِي عَمَلِهِمْ وَيَكُونُونَ قَدْ فَاقُوهُ بِالْكَثْرَةِ، أَوْ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرَادَ اسْتِدْرَاجَ السَّحَرَةِ مُدَّةً فَيُمْلِي لَهُمْ بِظُهُورِ غَلَبِهِمْ عَلَيْهِ وَمَدِّهِ لِمَا تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فَخَشِيَ ذَلِكَ. وَهَذَا مَقَامُ الْخَوْفِ، وَهُوَ مَقَامٌ جَلِيلٌ مِثْلُهُ مَقَامُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نَصْرَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ».
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى فَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ وَتَقْوِيَةُ تَأْكِيدِهَا بِضَمِيرِ الْفَصْلِ وَبِالتَّعْرِيفِ فِي الْأَعْلى دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا خَامَرَهُ مِنَ الْخَوْفِ إِنَّمَا هُوَ خَوْفُ ظُهُورِ السَّحَرَةِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَلَوْ فِي وَقْتٍ مَا. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُوقِنًا
وَعَبَّرَ عَنِ الْعَصَا بِ مَا الْمَوْصُولَةِ تَذْكِيرًا لَهُ بِيَوْمِ التَّكْلِيمِ إِذْ قَالَ لَهُ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى [طه: ١٧] لِيَحْصُلَ لَهُ الِاطْمِئْنَانُ بِأَنَّهَا صَائِرَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي صَارَتْ إِلَيْهَا يَوْمَئِذٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ لَهُ: وَأَلْقِ عَصَاكَ.
وَالتَّلَقُّفُ: الِابْتِلَاعُ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِجَزْمِ تَلْقَفْ فِي جَوَابِ قَوْلِهِ وَأَلْقِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ بِرَفْعِ تَلْقَفْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَلْقَفْ- بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ-.
وَقَرَأَهُ حَفْصٌ- بِسُكُونِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ- مِنْ لَقِفَ كَفَرِحَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّما صَنَعُوا كيد سحر مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (إِنَّ) وَ (مَا) الموصولة. وَكيد سحر خَبَرُ (إِنَّ). وَالْكَلَامُ إِخْبَارٌ بَسِيطٌ لَا قَصْرَ فِيهِ. وَكُتِبَ (إِنَّمَا) فِي الْمُصْحَفِ مَوْصُولَةً (إِنَّ) بِ (مَا) الْمَوْصُولَةِ كَمَا تُوصَلُ بِ (مَا) الْكَافَّةِ فِي نَحْوِ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [الْبَقَرَة: ١٧٣] وَلَمْ يَكُنِ الْمُتَقَدِّمُونَ يَتَوَخَّوْنَ الْفُرُوقَ فِي رَسْمِ الْخَطِّ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَيْدُ ساحِرٍ بِأَلْفٍ بَعْدَ السِّينِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ كَيْدُ سِحْرٍ- بِكَسْرِ السِّينِ-.
وَجُمْلَةُ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى مِنْ تَمَامِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا وَحَالٌ مِنْ ضَمِيرِ إِنَّما صَنَعُوا، أَيْ لَا يَنْجَحُ السَّاحِرُ حَيْثُ كَانَ، لِأَنَّ صَنْعَتَهُ تَنْكَشِفُ بِالتَّأَمُّلِ وَثَبَاتِ النَّفْسِ
وَاخْتِيرَ فِعْلُ أَتى دُونَ نَحْوِ: حَيْثُ كَانَ، أَوْ حَيْثُ حَلَّ، لِمُرَاعَاةِ كَوْنِ مُعْظَمِ أُولَئِكَ السَّحَرَة مجلوبون مِنْ جِهَاتِ مِصْرَ، وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى فَوَاصِلِ الْآيَاتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى حَرْفِ الْأَلِفِ الْمَقْصُورَةِ.
وَتَعْمِيمُ حَيْثُ أَتى لِعُمُومِ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي يَحْضُرُهَا، أَيْ بِسِحْرِهِ.
وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِوَصْفِ السَّاحِرِ يَقْتَضِي أَنَّ نَفْيَ الْفَلَاحِ عَنِ السَّاحِرِ فِي أُمُورِ السِّحْرِ لَا فِي تِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وُقُوعِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، لِأَنَّ عُمُومَ الْأَشْيَاءِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي تقع فِيهَا.
[٧٠- ٧١]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٧٠ إِلَى ٧١]
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١)
الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ [طه: ٦٩]. وَالتَّقْدِيرُ:
فَأَلْقَى فَتَلَقَّفَتْ مَا صَنَعُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء: ٦٣].
وَالْإِلْقَاءُ: الطَّرْحُ عَلَى الْأَرْضِ. وَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّهُمْ لَا مُلْقِيَ لَهُمْ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ سُجَّدًا، فَإِنَّ سُجُودَهُمْ كَانَ إِعْلَانًا بِاعْتِرَافِهِمْ أَنَّ مُوسَى مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُجُودُهُمْ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ تَعْظِيمَ فِرْعَوْنَ، جَعَلُوهُ مُقَدِّمَةً لِقَوْلِهِمْ آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى حَذَرًا مِنْ بَطْشِهِ.
وَسُجَّدٌ: جَمْعُ سَاجِدٍ.
وَجُمْلَةُ قالُوا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ أُلْقُوا قَائِلِينَ. وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً فَإِنَّ سُجُودَهُمُ اشْتَمَلَ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَأَن تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً ابْتِدَائِيَّةً لِافْتِتَاحِ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فِرْعَوْنَ.
وَإِنَّمَا آمَنُوا بِاللَّهِ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا أَنَّ مَا جَرَى عَلَى يَدِ مُوسَى لَيْسَ مَنْ جِنْسِ السِّحْرِ لِأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ السِّحْرُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ آيَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَتَعْبِيرُهُمْ عَنِ الرَّبِّ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ إِلَى هَارُونَ وَمُوسَى لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ إِلَّا بِهَذِهِ النِّسْبَةِ لِأَنَّ لَهُمْ أَرْبَابًا يَعْبُدُونَهَا وَيَعْبُدُهَا فِرْعَوْنُ.
وَتَقْدِيمُ هَارُونَ عَلَى مُوسَى هُنَا وَتَقْدِيمُ مُوسَى عَلَى هَارُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٢١، ١٢٢] : قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَفْضِيلٍ وَلَا غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ لَا تُفِيدُ أَكْثَرَ مِنْ مُطْلَقِ الْجَمْعِ فِي الْحُكْمِ الْمَعْطُوفِ فِيهِ، فَهُمْ عَرَفُوا اللَّهَ بِأَنَّهُ رَبُّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَحُكِيَ كَلَامُهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ حُكِيَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٢١] قَوْلُ السَّحَرَةِ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ، وَلَمْ يُحْكَ ذَلِكَ هُنَا، لِأَنَّ حِكَايَةَ الْأَخْبَارِ لَا تَقْتَضِي الْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِ الْمَحْكِيِّ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَوْضِعُ الْعِبْرَةِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ.
وَيُقَالُ: آمَنَ لَهُ، أَيْ حَصَلَ عِنْدَهُ الْإِيمَانُ لِأَجْلِهِ. كَمَا يُقَالُ: آمَنَ بِهِ، أَيْ حَصَلَ الْإِيمَانُ عِنْدَهُ بِسَبَبِهِ. وَأَصْلُ الْفِعْلِ أَنْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ لِأَنَّ آمَنَهُ بِمَعْنَى صَدَّقَهُ، وَلَكِنَّهُ كَادَ أَنْ لَا يُسْتَعْمَلَ فِي مَعْنَى التَّصْدِيقِ إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ.
وَقَرَأَ قَالُونُ وَوَرْشٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَزَرْقِ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وأَبُو جَعْفَرٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ آمَنْتُمْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَهَا مَدَّةٌ وَهِيَ الْمَدَّةُ النَّاشِئَةُ عَنْ تَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الْأَصْلِيَّةِ فِي فِعْلِ آمَنَ، عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ اسْتِفْهَامٌ.
وقرأه ورش من طَرِيقِ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَرُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ- بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ خَبَرٌ، فَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِهَمْزَتَيْنِ- عَلَى الِاسْتِفْهَامِ أَيْضًا.
وَلَمَّا رَأَى فِرْعَوْنُ إِيمَانَ السَّحَرَةِ تَغَيَّظَ وَرَامَ عِقَابَهُمْ وَلَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْعِقَابَ عَلَى الْإِيمَانِ بِمُوسَى بَعْدَ أَنْ فَتَحَ بَابَ الْمُنَاظَرَةِ مَعَهُ نَكْثٌ لِأُصُولِ الْمُنَاظَرَةِ فَاخْتَلَقَ لِلتَّشَفِّي مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا عِلَّةَ إِعْلَانِهِمُ الْإِيمَانَ قَبْلَ اسْتِئْذَانِ فِرْعَوْنَ، فَعَدَّ ذَلِكَ جرْأَةً عَلَيْهِ، وَأَوْهَمَ أَنَّهُمْ لَوِ اسْتَأْذَنُوهُ
وَضَمِيرُ لَهُ عَائِدٌ إِلَى مُوسَى مِثْلُ ضَمِيرِ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ.
وَمَعْنَى قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ أُسَوِّغَ لَكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ. يُقَالُ: أذن لَهُ، إِذْ أَبَاحَ لَهُ شَيْئًا.
وَالتَّقْطِيعُ: شِدَّةُ الْقَطْعِ. وَمَرْجِعُ الْمُبَالَغَةِ إِلَى الْكَيْفِيَّةِ، وَهِيَ مَا وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ مِنْ خِلافٍ أَيْ مُخْتَلِفَةٍ بِأَنْ لَا تُقْطَعُ عَلَى جَانِبٍ وَاحِدٍ بَلْ مِنْ جَانِبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَيْ تَقْطَعُ الْيَدُ ثُمَّ الرِّجْلُ مِنَ الْجِهَةِ الْمُخَالِفَةِ لِجِهَةِ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ ثُمَّ الْيَدُ الْأُخْرَى ثُمَّ الرِّجْلُ الْأُخْرَى. وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الْقَطْعَ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ كَانَ شِعَارًا لِقَطْعِ الْمُجْرِمِينَ، فَيَكُونُ ذِكْرُ هَذِهِ الصِّفَةِ حِكَايَةً لِلْوَاقِعِ لَا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ قَطْعٍ بِشَكْلٍ آخَرَ، إِذْ لَا أَثَرَ لِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي تَفْظِيعٍ وَلَا فِي شِدَّةِ إِيلَامٍ إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَقَعُ مُتَتَابِعًا.
وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي الْإِسْلَامِ فِي عُقُوبَةِ الْمُحَارِبِ فَإِنَّمَا هُوَ قَطْعُ عُضْوٍ وَاحِدٍ عِنْدَ كُلِّ حِرَابَةٍ فَهُوَ مِنَ الرَّحْمَةِ فِي الْعُقُوبَةِ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ انْتِفَاعُ الْمَقْطُوعِ بِبَاقِي أَعْضَائِهِ مِنْ جَرَّاءِ قَطْعِ يَدٍ ثُمَّ رِجْلٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ قَطْعِ يَدٍ بَعْدَ يَدٍ وَبَقَاءِ الرِّجْلَيْنِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ خِلافٍ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ يَبْدَأُ الْقَطْعُ مِنْ مَبْدَأِ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْمَقْطُوعِ. وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.
وَالْمُبَالَغَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْكَيْفِيَّةِ أَيْضًا بِشِدَّةِ الدَّقِّ عَلَى الْأَعْوَادِ.
وَلِذَلِكَ عدلَ عَنْ حَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ إِلَى حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ تَشْبِيهًا لِشِدَّةِ تَمَكُّنِ الْمَصْلُوبِ مِنَ الْجِذْعِ بِتَمَكُّنِ الشَّيْءِ الْوَاقِعِ فِي وِعَائِهِ.
وَالْجُذُوعُ: جَمْعُ جِذْعٍ- بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الذَّالِ- وَهُوَ عُودُ النَّخْلَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مَرْيَم: ٢٥]. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ بِحَرْفِ (فِي) مَعَ أَنَّ الصَّلْبَ يَكُونُ فَوْقَ الْجِذْعِ لَا دَاخِلَهُ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ صَلْبٌ مُتَمَكِّنٌ يُشْبِهُ حُصُولَ الْمَظْرُوفِ فِي الظَّرْفِ، فَحَرْفُ (فِي) اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ تَابِعَةٌ لِاسْتِعَارَةِ مُتَعَلِّقِ مَعْنَى (فِي) لِمُتَعَلِّقِ مَعْنَى (عَلَى).
وَأَيُّنَا: اسْتِفْهَامٌ عَنْ مُشْتَرِكِينَ فِي شِدَّةِ التَّعْذِيبِ. وَفِعْلُ لَتَعْلَمُنَّ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ لِوِقُوعِ الِاسْتِفْهَامِ فِي آخِرِهِ. وَأَرَادَ بِالْمُشْتَرِكِينَ نَفْسَهُ وَرَبَّ مُوسَى سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْ قَوْلِهِمْ آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى [الشُّعَرَاء: ٤٧] أَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ مَا قَدَّمَ لَهُمْ
مُوسَى مِنَ الْمَوْعِظَةِ حِينَ قَالَ لَهُمْ بِمَسْمَعٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [طه: ٦١]، أَيْ وَسَتَجِدُونَ عَذَابِيَ أَشَدَّ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي حُذِّرْتُمُوهُ. وَهَذَا مِنْ غُرُورِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُ فِرْعَوْنَ مَا قَابَلَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ قَوْلَهُ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى بِقَوْلِهِمْ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه: ٧٣]، أَيْ خَيْرٌ مِنْكَ وَأَبْقَى عَمَلًا مِنْ عَمَلِكَ، فَثَوَابُهُ خَيْرٌ مِنْ رِضَاكَ وَعَذَابُهُ أَشَدُّ من عذابك.
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٧٢ إِلَى ٧٣]
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣)أَظْهَرُوا اسْتِخْفَافَهُمْ بِوَعِيدِهِ وَبِتَعْذِيبِهِ، إِذْ أَصْبَحُوا أَهْلَ إِيمَانٍ وَيَقِينٍ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ بالرسل إِذا أشرقت عَلَيْهِمْ أَنْوَارُ الرِّسَالَةِ فَسُرْعَانَ مَا يَكُونُ انْقِلَابُهُمْ عَنْ جَهَالَةِ الْكُفْرِ وَقَسَاوَتِهِ إِلَى حِكْمَةِ الْإِيمَانِ وَثَبَاتِهِ. وَلَنَا فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلُ صِدْقٍ.
وَالْإِيثَارُ: التَّفْضِيلُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٩١]. وَالتَّفْضِيلُ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْبَيِّنَاتِ مُقْتَضٍ حَذْفَ مُضَافٍ يُنَاسِبُ الْمُقَابَلَةَ بِالْبَيِّنَاتِ، أَيْ لَنْ نُؤْثِرَ طَاعَتَكَ أَوْ دِينَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِذَلِكَ يَلْتَئِمُ عَطْفُ وَالَّذِي فَطَرَنا، أَيْ لَا نُؤْثِرُكَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى الَّذِي فَطَرَنَا.
وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى التَّعْلِيلِ، لِأَنَّ الْفَاطِرَ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ بِالْإِيثَارِ.
وَأُخِّرَ الَّذِي فَطَرَنا عَنْ مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَهُمْ أَرَادَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ بِمُوسَى وَنَبْذَ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا بِدَعْوَةِ فِرْعَوْنَ لِلْإِيمَانِ بِاللَّهِ.
وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّسْوِيَةِ، لِأَنَّ مَا أَنْتَ قاضٍ مَا صدقه مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ مِنْ تَقْطِيعِ
وَانْتَصَبَ هذِهِ الْحَياةَ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَيَاةِ مُدَّتُهَا.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (إِنَّمَا) قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ، أَيْ إِنَّكَ مَقْصُورٌ عَلَى الْقَضَاءِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَا يَتَجَاوَزْهُ إِلَى الْقَضَاءِ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ.
وَجُمْلَةُ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا فِي مَحَلِّ الْعِلَّةِ لِمَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُمْ.
وَمَعْنَى وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ أَنَّهُ أَكْرَهَهُمْ عَلَى تَحَدِّيهِمْ مُوسَى بِسِحْرِهِمْ فَعَلِمُوا أَنَّ فِعْلَهُمْ بَاطِلٌ وَخَطِيئَةٌ لِأَنَّهُ اسْتُعْمِلَ لِإِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ اللَّهِ، فَبِذَلِكَ كَانَ مُسْتَوْجِبًا طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرَ الْكَلَامِ لِلتَّذْيِيلِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ خَيْرٌ لَنَا بِأَنْ نُؤْثِرَهُ مِنْكَ، وَالْمُرَادُ: رِضَى اللَّهِ، وَهُوَ أَبْقَى مِنْكَ، أَيْ جَزَاؤُهُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَبْقَى مِنْ جَزَائِكَ فَلَا يَهُولُنَا قَوْلُكَ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى [طه:
٧١]، فَذَلِكَ مُقَابَلَةٌ لِوَعِيدِهِ مُقَابلَة تَامَّة.
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٧٤ إِلَى ٧٦]
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)هَذِهِ الْجُمَلُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ حِكَايَةِ قِصَّةِ السَّحَرَةِ وَبَيْنَ ذِكْرِ قِصَّةِ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سَاقَهَا اللَّهُ مَوْعِظَةً وَتَأْيِيدًا لِمَقَالَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: هِيَ مِنْ كَلَامِ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ. وَيُبْعِدُهُ أَنَّهُ لَمْ يَحْكِ نَظِيرَهُ عَنْهُمْ فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَالْمُجْرِمُ: فَاعِلُ الْجَرِيمَةِ، وَهِيَ الْمَعْصِيَةُ وَالْفِعْلُ الْخَبِيثُ. وَالْمُجْرِمُ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ هُوَ الْكَافِرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين: ٢٩].
وَاللَّامُ فِي لَهُ جَهَنَّمَ لَامُ الِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهَا لَا مَحَالَةَ، وَيَكُونُ عَذَابُهُ مُتَجَدِّدًا فِيهَا فَلَا هُوَ مَيِّتٌ لِأَنَّهُ يُحِسُّ بِالْعَذَابِ وَلَا هُوَ حَيٌّ لِأَنَّهُ فِي حَالَةِ الْمَوْتِ أَهْوَنُ مِنْهَا، فَالْحَيَاةُ الْمَنْفِيَّةُ حَيَاةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ الْحَيَاةُ الْخَالِصَةُ مِنَ الْعَذَابِ وَالْآلَامِ. وَبِذَلِكَ لَمْ يَتَنَاقَضْ نَفْيُهَا مَعَ نَفْيِ الْمَوْتِ، وَهُوَ كَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَأٍ | فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ |
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ مَا سَبَقَ اسْمَ الْإِشَارَةِ.
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى عَدْنٍ وَتَفْسِيرُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٧٢].
وَالتَّزَكِّي: التَّطَهُّرُ من الْمعاصِي.
[٧٧]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ٧٧]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧)
افْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْقِصَّةِ لِيُلْقِيَ السَّامِعُونَ إِلَيْهَا أَذْهَانَهُمْ. وَتَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ فِي ابْتِدَاءِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ قَصَصًا طُوِيَتْ بَيْنَ ذِكْرِ الْقِصَّتَيْنِ، فَلَوِ اقْتُصِرَ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ لَتُوُهِّمَ أَنَّ حِكَايَةَ الْقِصَّةِ الْأُولَى لَمْ تَزَلْ مُتَّصِلَةً فَتُوُهِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْخُرُوجِ وَقَعَ مُوَالِيًا لِانْتِهَاءِ مَحْضَرِ السَّحَرَةِ، مَعَ أَنَّ بَيْنَ ذَلِكَ قَصَصًا كَثِيرَةً ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ الْخُرُوجَ وَقَعَ بَعْدَ ظُهُورِ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ لِإِرْهَابِ فِرْعَوْنَ كُلَّمَا هَمَّ بِإِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْخُرُوجِ. ثُمَّ نَكَلَ إِلَى أَنْ أَذِنَ لَهُمْ بِأَخَرَةٍ فَخَرَجُوا ثُمَّ نَدِمَ عَلَى ذَلِكَ فَأَتْبَعَهُمْ.
وأَسْرِ أَمْرٌ مِنَ السُّرَى- بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الرَّاءِ- وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ يُقَالُ: سَرَى وَأَسْرَى. وَإِنَّمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ تَجَنُّبًا لِنُكُولِ فِرْعَوْنَ عَلَيْهِمْ. وَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ بِعِبادِي لِتَشْرِيفِهِمْ وَتَقْرِيبِهِمْ وَالْإِيمَاءِ إِلَى تَخْلِيصِهِمْ مِنِ اسْتِعْبَادِ الْقِبْطِ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَبِيدًا لِفِرْعَوْنَ.
وَالضَّرْبُ: هُنَا بِمَعْنَى الْجَعْلِ كَقَوْلِهِمْ: ضُرِبَ الذَّهَبُ دَنَانِيرَ. وَفِي الْحَدِيثِ:
«وَاضْرِبُوا إِلَيَّ مَعَكُمْ بِسَهْمٍ»، وَلَيْسَ هُوَ كَقَوْلِهِ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ [الشُّعَرَاء: ٦٣] لأنّ الضَّرْب هُنَالك مُتَعَدٍّ إِلَى الْبَحْرِ وَهُنَا نُصِبَ طَرِيقًا.
وَالْيَبَسُ- بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ وَالْمُوَحَّدَةِ-. وَيُقَالُ:- بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ-: وَصْفٌ بِمَعْنَى الْيَابِسِ. وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ كَالْعَدَمِ وَالْعُدْمِ، وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَلِذَلِكَ لَا يُؤَنَّثُ فَقَالُوا: نَاقَةٌ يَبَسٌ إِذَا جَفَّ لَبَنُهَا.
وَلَا تَخافُ مَرْفُوعٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَعْدٌ لِمُوسَى اقْتُصِرَ عَلَى وَعْدِهِ دُونَ بَقِيَّةِ قَوْمِهِ لِأَنَّهُ قُدْوَتُهُمْ فَإِذَا لَمْ يَخَفْ هُوَ تَشَجَّعُوا وَقَوِيَ يَقِينُهُمْ، فَهُوَ خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ الْبُشْرَى.
وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ لَا تَخَفْ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ فَاضْرِبْ، وَكَلِمَةُ تَخَفْ مَكْتُوبَةٌ فِي الْمَصَاحِفِ بِدُونِ أَلْفٍ لِتَكَونَ قِرَاءَتُهَا بِالْوَجْهَيْنِ لِكَثْرَةِ نَظَائِرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ ذَاتِ الْأَلِفِ فِي وَسَطِهَا فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ وَيُسَمِّيهِ الْمُؤَدِّبُونَ «الْمَحْذُوفَ».
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلا تَخْشى فَالْإِجْمَاعُ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِأَلْفٍ فِي آخِرِهِ. فَوَجْهُ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ فِيهَا مَعَ أَنَّهُ قَرَأَ بِجَزْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ
والدَّرْكِ- بِفَتْحَتَيْنِ- اسْمُ مَصْدَرِ الْإِدْرَاكِ، أَيْ لَا تَخَافُ أَنْ يُدْرِكَكَ فِرْعَوْنُ.
والخشية: شِدَّةُ الَخَوْفِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُهُ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، أَيْ لَا تَخْشَى شَيْئًا، وَهُوَ عَامٌّ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصِ، أَيْ لَا تَخْشَى شَيْئًا مِمَّا يُخْشَى مِنَ الْعَدْوِ وَلَا من الْغَرق.
[٧٨- ٧٩]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٧٨ إِلَى ٧٩]
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩)
الْفَاءُ فَصِيحَةٌ عَاطِفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، أَيْ فَسَرَى بِهِمْ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ بَعْدَ أَنْ رَأَى آيَاتِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْمِهِ وَأَيْقَنَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَأْيِيدٌ لِمُوسَى أَذِنَ لِمُوسَى وَهَارُونَ أَنْ يُخْرِجَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ إِذْنُ فِرْعَوْنَ قَدْ حَصَلَ لَيْلًا لِحُدُوثِ مَوَتَانٍ عَظِيمٍ فِي الْقِبْطِ فِي لَيْلَةِ الشَّهْرِ السَّابِعِ مِنْ أَشْهُرِ الْقِبْطِ وَهُوَ شَهْرُ (بَرَمْهَاتَ)
وَهُوَ الَّذِي اتَّخَذَهُ الْيَهُودُ رَأَسَ سَنَتِهِمْ بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَسَمَّوْهُ (تِسَّرِي) فَخَرَجُوا مِنْ مَدِينَةِ (رعمسيس) قَاصِدين شاطىء الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ. وَنَدِمَ فِرْعَوْنُ عَلَى إِطْلَاقِهِمْ فَأَرَادَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ لِيُرْجِعَهُمْ إِلَى مَدِينَتِهِ، وَخَرَجَ فِي مَرْكَبَتِهِ وَمَعَهُ سِتُّمِائَةِ مَرْكَبَةٍ مُخْتَارَةٍ وَمَرْكَبَاتٍ أُخْرَى تَحْمِلُ جَيْشه.
وأتبع: مرادفع تَبِعَ. وَالْبَاءُ فِي بِجُنُودِهِ لِلْمُصَاحَبَةِ.
وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ. وَغِشْيَانُهُ إِيَّاهُمْ: تَغْطِيَتُهُ جُثَثَهُمْ، أَيْ فَغَرِقُوا.
وَجُمْلَةُ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي غَشِيَهُمْ.
وَالْإِضْلَالُ: الْإِيقَاعُ فِي الضَّلَالِ، وَهُوَ خَطَأُ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ. وَيُسْتَعْمَلُ بِكَثْرَةٍ فِي مَعْنَى الْجَهَالَةِ وَعَمَلِ مَا فِيهِ ضُرٌّ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِرْعَوْنَ أَوْقَعَ قَوْمَهُ فِي الْجَهَالَةِ وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ بِمَا بَثَّ فِيهِمْ مِنْ قَلْبِ الْحَقَائِقِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ، فَلَمْ يُصَادِفُوا السَّدَادَ فِي أَعْمَالِهِمْ حَتَّى كَانَتْ خَاتِمَتُهَا وُقُوعُهُمْ غَرْقَى فِي الْبَحْرِ بِعِنَادِهِ فِي تَكْذِيبِ دَعْوَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَعَطْفُ وَما هَدى عَلَى أَضَلَّ: إِمَّا مِنْ عَطْفِ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ لِأَنَّ عَدَمَ الْهُدَى يَصْدُقُ بِتَرْكِ الْإِرْشَادِ مِنْ دُونِ إِضْلَالٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا بِالْمُرَادِفِ مُؤَكِّدًا لِنَفْيِ الْهُدَى عَنْ فِرْعَوْنَ لِقَوْمِهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَما هَدى تَأْكِيدًا لِ أَضَلَّ بِالْمُرَادِفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ [النَّحْل: ٢١] وَقَوْلِ الْأَعْشَى: حُفَاةً لَا نِعَالَ لَنَا» مِنْ قَوْلِهِ:
إِمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً لَا نِعَالَ لَنَا | إِنَّا كَذَلِكَ مَا نَحْفَى وَنَنْتَعِلُ |
لَوْ كُشِفَ الْمَقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ | فَخُبِّرَ بِالذَّنَائِبِ أَيُّ زِيرِ |
[٨٠- ٨٢]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٨٠ إِلَى ٨٢]
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)
هَذِهِ الْجُمَلُ مُعْتَرِضَةٌ فِي أَثْنَاءِ الْقِصَّةِ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً الْآيَةَ. وَهَذَا خِطَابٌ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِنِعَمٍ أُخْرَى.
وَقُدِّمَتْ عَلَيْهَا النِّعْمَةُ الْعَظِيمَةُ، وَهِيَ خَلَاصُهُمْ مِنِ اسْتِعْبَادِ الْكَفَرَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ- وواعَدْناكُمْ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهُمَا حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ قَدْ أَنْجَيْتُكُمْ- وَوَعَدْتُكُمْ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَذَكَّرَهُمْ بِنِعْمَةِ نُزُولِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ. وَالْمُوَاعَدَةُ: اتِّعَادٌ مِنْ جَانِبَيْنِ، أَيْ أَمَرْنَا مُوسَىِِ
وَيَظْهَرُ أَنَّ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى مَا جَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ ١٩ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ: «فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ بَعْدَ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ جَاءُوا إِلَى بَرِّيَّةِ سَيْنَاءَ هُنَالِكَ نَزَلَ إِسْرَائِيلُ مُقَابِلَ الْجَبَلِ. وَأَمَّا مُوسَى فَصَعِدَ إِلَى اللَّهِ فَنَادَاهُ الرَّبُّ مِنَ الْجَبَلِ قَائِلًا: هَكَذَا نَقُولُ لِبَيْتِ يَعْقُوبَ أَنْتُمْ رَأَيْتُمْ مَا صَنَعْتُ بِالْمِصْرِيِّينَ وَأَنَا حَمَلْتُكُمْ عَلَى أَجْنِحَةِ النُّسُورِ، أَنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً... » إِلَخْ.
وَذِكْرُ الطُّورِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَجَانِبُ الطَّوْرِ: سَفْحُهُ. وَوَصَفُهُ بِالْأَيْمَنِ بِاعْتِبَارِ جِهَةِ الشَّخْصِ الْمُسْتَقْبِلِ مَشْرِقَ الشَّمْسِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لِلْجَبَلِ يَمِينٌ وَشِمَالٌ مُعَيَّنَانِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِمَعْرِفَةِ أَصْلِ الْجِهَاتِ وَهُوَ مَطْلَعُ الشَّمْسِ، فَهُوَ الْجَانِبُ الْقِبْلِيُّ بِاصْطِلَاحِنَا. وَجُعِلَ مَحَلُّ الْمُوَاعَدَةِ الْجَانِبَ الْقِبْلِيَّ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ الَّذِي فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٣٠] : فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَقَالَ فِيهَا وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ
إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ
[الْقَصَص: ٤٤] فَهُوَ جَانِبٌ غَرْبِيٌّ، أَيْ مِنْ جِهَةِ مَغْرِبِ الشَّمْسِ مِنَ الْجَبَلِ، وَهُوَ الَّذِي آنَسَ مُوسَى مِنْهُ نَارًا.
وَانْتَصَبَ جانِبَ الطُّورِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ المكانية لأنّه لَا تساعه بِمَنْزِلَةِ الْمَكَانِ الْمُبْهَمِ.
وَمَفْعُولُ الْمُوَاعَدَةِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: الْمُنَاجَاةُ.
وَتَعْدِيَةُ واعَدْناكُمْ إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِنْ كَانَتْ مُوَاعَدَةً لِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مِنْ قَومِهِ بِاعْتِبَارِ
وَقَرَأَ الْجَمِيعُ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ إِلَخْ فَبِاعْتِبَارِ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، وَخَلَفٍ قَدْ أَنْجَيْتُكُمْ- وَوَاعَدْتُكُمْ بِتَاءِ الْمُفْرَدِ تكون قِرَاءَة وأنزلنا- بِنُونِ الْعَظَمَةِ- قَرِيبًا مِنَ الِالْتِفَاتِ وَلَيْسَ عَيْنُهُ، لِأَنَّ نُونَ الْعَظَمَةِ تُسَاوِي تَاءَ الْمُتَكَلِّمِ.
وَالسَّلْوَى تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي نِصْفِ الشَّهْرِ الثَّانِي مِنْ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ ١٦ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ.
وَجُمْلَةُ كُلُوا مَقُولٌ مَحْذُوفٌ. تَقْدِيرُهُ: وَقُلْنَا أَوْ قَائِلِينَ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا رَزَقْناكُمْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفُ مَا رَزَقَتُكُمْ بِتَاءِ الْمُفْرَدِ.
وَالطُّغْيَانُ: أَشَدُّ الْكِبْرِ. وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ فِي الرِّزْقِ: النَّهْيُ عَنْ تَرْكِ الشُّكْرِ عَلَيْهِ وَقِلَّةُ الِاكْتِرَاثِ بِعِبَادَةِ الْمُنْعِمِ.
وَحَرْفُ (فِي) الظَّرْفِيَّةُ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ شَبَّهَ مُلَابَسَةَ الطُّغْيَانِ لِلنِّعْمَةِ بِحُلُولِ الطُّغْيَانِ فِيهَا تَشْبِيهًا لِلنِّعْمَةِ الْكَثِيرَةِ بِالْوِعَاءِ الْمُحِيطِ بِالْمُنْعَمِ عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَحَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ قَرِينَتُهَا.
وَالْحُلُولُ: النُّزُولُ وَالْإِقَامَةُ بِالْمَكَانِ شُبِّهَتْ إِصَابَةُ آثَارِ الْغَضَبِ إِيَّاهُمْ بِحُلُولِ الْجَيْشِ وَنَحْوِهِ بِدِيَارِ قَوْمٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ- بِكَسْرِ الْحَاءِ- وَقَرَأُوا وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي- بِكَسْرِ اللَّامِ الْأُولَى عَلَى أَنَّهُمَا فِعْلَا- حَلَّ
وَلَمْ يَتَعَقَّبُوهُ.
وَهَذَا مِمَّا أَهْمَلَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي «لَامِيَّةِ الْأَفْعَالِ»، وَلَمْ يَسْتَدْرِكْهُ شَارِحُهَا بَحْرَقٌ الْيَمَنِيُّ فِي «الشَّرْحِ الْكَبِيرِ». وَوَقَعَ فِي «الْمِصْبَاحِ» مَا يُخَالِفُهُ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ «الْقَامُوسِ» أَنَّ حَلَّ بِمَعْنَى نَزَلَ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا، وَلَمْ أَقِفْ لَهُمْ عَلَى شَاهِدٍ فِي ذَلِكَ.
وَهَوَى: سَقَطَ مِنْ عُلْوٍ، وَقَدِ اسْتُعِيرَ هُنَا لِلْهَلَاكِ الَّذِي لَا نُهُوضَ بَعْدَهُ، كَمَا قَالُوا:
هَوَتْ أُمُّهُ، دُعَاءً عَلَيْهِ، وَكَمَا يُقَالُ: وَيْلَ أُمِّهِ، وَمِنْهُ: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ [القارعة: ٩]، فَأُرِيدَ هُوِيٌّ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ الْهُوِيُّ مِنْ جَبَلٍ أَوْ سَطْحٍ بِقَرِينَةِ التَّهْدِيدِ.
وَجُمْلَةُ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ إِلَى آخِرِهَا اسْتِطْرَادٌ بَعْدَ التَّحْذِيرِ مِنَ الطُّغْيَانِ فِي النِّعْمَةِ بِالْإِرْشَادِ إِلَى مَا يُتَدَارَكُ بِهِ الطُّغْيَانُ إِنْ وَقَعَ بِالتَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَمَعْنَى تابَ: نَدِمَ عَلَى كُفْرِهِ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا.
وَقَوْلُهُ ثُمَّ اهْتَدى (ثُمَّ) فِيهِ لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ اسْتُعِيرَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّبَايُنِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فِي الْمَنْزِلَةِ كَمَا كَانَتْ لِلتَّبَايُنِ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ فِي الْحُدُوثِ. وَمَعْنَى اهْتَدى: اسْتَمَرَّ عَلَى الْهُدَى وَثَبَتَ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الْأَحْقَاف: ١٣].
وَالْآيَاتُ تُشِيرُ إِلَى مَا جَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ «الرَّبُّ إِلَهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الْإِحْسَانِ غَافِرُ الْإِثْمِ وَالْخَطِيئَةِ ولكنّه لن يبرىء إِبْرَاء».
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٨٣ إِلَى ٨٥]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥)عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَسْرِ بِعِبادِي [طه: ٧٧] الْوَاقِعَةِ تَفْسِيرًا لِفِعْلِ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى [طه: ٧٧]، فَقَوْلُهُ وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ هُوَ مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى مُوسَى. وَالتَّقْدِيرُ:
وَأَنْ: مَا أَعْجَلَكَ إِلَخْ. وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَقَعَ لَهُمْ أَيَّامَ مُنَاجَاةِ مُوسَى فِي الطَّوْرِ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ. وَهَذَا الْجُزْءُ مِنَ الْقِصَّةِ لَمْ يُذْكَرْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَالْإِعْجَالُ: جَعْلُ الشَّيْءِ عَاجِلًا.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي اللَّوْمِ. وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ وَتُشِيرُ إِلَيْهِ الْآيَةُ: أَنَّ مُوسَى تَعَجَّلَ مُفَارَقَةَ قَوْمِهِ لِيَحْضُرَ إِلَى الْمُنَاجَاةِ قَبْلَ الْإِبَّانِ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ لَهُ، اجْتِهَادًا مِنْهُ
وَرَغْبَةً فِي تَلَقِّي الشَّرِيعَةِ حَسْبَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يُحِيطَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِجَبَلِ الطُّورِ، وَلَمْ يُرَاعِ فِي ذَلِكَ إِلَّا السَّبْقَ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ لِنَفْسِهِ وَلِقَوْمِهِ، فَلَامَهُ اللَّهُ عَلَى أَنْ غَفَلَ عَنْ مُرَاعَاةِ مَا يَحُفُّ بِذَلِكَ مِنِ ابْتِعَادِهِ عَنْ قَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُوصِيَهُمُ اللَّهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعَهْدِ وَيُحَذِّرَهُمْ مَكْرَ مَنْ يَتَوَسَّمُ فِيهِ مَكَرًا، فَكَانَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِعًا فَرَكَعَ وَدَبَّ إِلَى الصَّفِّ
فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ»
. وَقَرِيبٌ مِنْ تَصَرُّفِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَخْذُ الْمُجْتَهِدِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي لَهُ مَعَارِضٌ دُونَ عِلْمٍ بِمُعَارَضَةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ افْتِتَانِ قَوْمِهِ بِصُنْعِ صَنَمٍ يَعْبُدُونَهُ.
وَقَوْلُهُ هُنَا هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا سَائِرِينَ خَلْفَهُ وَأَنَّهُ سَبَقَهُمْ إِلَى الْمُنَاجَاةِ.
وَاعْتَذَرَ عَنْ تَعَجُّلِهِ بِأَنَّهُ عَجِلَ إِلَى اسْتِجَابَةِ أَمْرِ اللَّهِ مُبَالَغَةً فِي إِرْضَائِهِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ فِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الْمَلَامِ عَلَى التَّعَجُّلِ بِأَنَّهُ تَسَبَّبَ عَلَيْهِ حُدُوثُ فِتْنَةٍ فِي قَوْمِهِ لِيُعْلِمَهُ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ مَا وُقِّتَ لَهُ وَلَوْ كَانَ لِرَغْبَةٍ فِي ازْدِيَادٍ مِنَ الْخَيْرِ.
وَالْأَثَرُ- بِفُتْحَتَيْنِ-: مَا يَتْرُكْهُ الْمَاشِي عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَلَامَاتِ قَدَمٍ أَوْ حَافِرٍ أَوْ خُفٍّ. وَيُقَالُ: إِثْرٌ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ- وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ كَمَا ذَكَرَ ثَعْلَبُ.
فَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: جَاءَ عَلَى إِثْرِهِ، جَاءَ مُوَالِيًا لَهُ بِقُرْبِ مَجِيئِهِ، شَبَّهَ الْجَائِيَ الْمُوَالِيَ بِالَّذِي يَمْشِي عَلَى عَلَامَاتِ أَقْدَامِ من مَشى قبله قَبْلَ أَنْ يَتَغَيَّرَ ذَلِكَ الْأَثَرُ بِأَقْدَامٍ أُخْرَى، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ مُوَالَاتُهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ غَيْرُهُ.
وَالْمَعْنَى: هُمْ أُولَاءِ سَائِرُونَ عَلَى مَوَاقِعِ أَقْدَامِي، أَيْ مُوَالُونَ لِي فِي الْوُصُولِ. وَمِنْهُ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي»
، تَقْدِيرُهُ: يُحْشَرُونَ سَائِرِينَ عَلَى آثَارِ قَدَمِي.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلى أَثَرِي بِفَتْحَتَيْنِ. وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ-.
وَاسْتُعْمِلَ تَرْكِيبُ هُمْ أُولاءِ مُجَرَّدًا عَنْ حَرْفِ التَّنْبِيهِ فِي أَوَّلِ اسْمِ الْإِشَارَةِ خِلَافًا
لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٩] : هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ
هَا أَنَا دُونَ الْحَبِيبِ يَا وَجَعُ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١١٩].
وَإِسْنَادُ الْفِتَنِ إِلَى اللَّهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُقَدِّرُهُ وَخَالِقُ أَسْبَابِهِ الْبَعِيدَةِ. وَأَمَّا إِسْنَادُهُ الْحَقِيقِيُّ فَهُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ لِأَنَّهُ السَّبَبُ الْمُبَاشِرُ لِضَلَالِهِمُ الْمُسَبِّبِ لِفِتْنَتِهِمْ.
والسَّامِرِيُّ يَظْهَرُ أَنَّ يَاءَهُ يَاءُ نِسْبَةٍ، وَأَنَّ تَعْرِيفَهُ بِاللَّامِ لِلْعَهْدِ. فَأَمَّا النِّسْبَةُ فَأَصْلُهَا فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ أَنْ تَكُونَ إِلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ فَالسَّامِرِيُّ نُسِبَ إِلَى اسْمِ أَبِي قَبِيلَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ غَيْرِهِمْ يُقَارِبُ اسْمُهُ لَفْظَ سَامِرَ، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْقَدِيمَةِ (شُومَرَ) وَ (شَامِرَ) وَهُمَا يُقَارِبَانِ اسْمَ سَامِرَ لَا سِيَّمَا مَعَ التَّعْرِيبِ. وَفِي «أَنْوَارِ التَّنْزِيلِ» :«السَّامِرِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى قَبِيلَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهَا: السَّامِرَةُ» اه. أَخَذْنَا مِنْ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ أَنَّ السَّامِرِيَّ مَنْسُوبٌ إِلَى قَبِيلَةٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ «مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. لِأَنَّ السَّامِرَةَ أُمَّةٌ مِنْ سُكَّانِ فِلَسْطِينَ فِي جِهَةِ نَابُلُسَ فِي عَهْدِ الدَّوْلَةِ الرُّومِيَّةِ (الْبِيزَنْطِيَّةِ) وَكَانُوا فِي فِلَسْطِينَ قَبْلَ مَصِيرِ فِلَسْطِينَ بِيَدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ امْتَزَجُوا بِالْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَاتَّبَعُوا شَرِيعَةَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ تَخَالُفٍ فِي طَرِيقَتِهِمْ عَنْ طَرِيقَةِ الْيَهُودِ. فَلَيْسَ هُوَ مَنْسُوبًا إِلَى مَدِينَةِ السَّامِرَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ نَابُلُسَ لِأَنَّ مَدِينَةَ السَّامِرَةِ بَنَاهَا الْمَلِكُ (عَمْرِي) مَلِكُ مَمْلَكَةِ إِسْرَائِيلَ سَنَةَ ٩٢٥ قَبْلَ الْمَسِيحِ. وَجَعَلَهَا قَصَبَةَ مَمْلَكَتِهِ، وَسَمَّاهَا (شُومِيرُونَ) لِأَنَّهُ بَنَاهَا عَلَى جَبَلٍ اشْتَرَاهُ مِنْ رَجُلٍ اسْمُهُ (شَامِرَ) بِوَزْنَتَيْنِ مِنَ الْفِضَّةِ، فَعُرِّبَتْ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّامِرِيُّ نَسَبًا إِلَى قَرْيَةٍ اسْمُهَا السَّامِرَةُ مِنْ قُرَى مِصْرَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، فَيَكُونُ فَتًى قِبْطِيًّا انْدَسَّ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لِتَعَلُّقِهِ بِهِمْ فِي مِصْرَ أَوْ لِصِنَاعَةٍ يَصْنَعُهَا لَهُمْ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: كَانَ السَّامِرِيُّ مِنْ أَهْلِ (كِرْمَانَ)، وَهَذَا يَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ السَّامِرِيُّ تَعْرِيبَ كِرْمَانِيٍّ بِتَبْدِيلِ بَعْضِ الْحُرُوفِ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي التَّعْرِيبِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْيَاءُ مِنَ السَّامِرِيِّ غَيْرَ يَاءِ نَسَبٍ بَلْ حَرْفًا مِنِ اسْمٍ مِثْلَ: يَاءُ عَلِيٍّ وَكُرْسِيٍّ، فَيَكُونُ اسْمًا أَصْلِيًّا أَوْ مَنْقُولًا فِي الْعَبْرَانِيَّةِ، وَتَكُونُ اللَّامُ فِي أَوَّلِهِ زَائِدَةً.
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ خَلِيطًا مِنَ الْقِصَّةِ: أَنَّ السَّامِرِيَّ اسْمُهُ مُوسَى بْنُ ظَفَرٍ- بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ- وَأَنَّهُ ابْنُ خَالَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوِ ابْنُ خَالِهِ، وَأَنَّهُ كَفَرَ بِدِينِ مُوسَى بَعْدَ أَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ على بعض تفاصيل تَشْمَئِزُّ النَّفْسُ مِنْهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّامِرِيِّينَ لَقَبٌ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُمْ أَيْضًا السَّامِرَةُ، لَهُمْ مَذْهَبٌ خَاصٌّ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ جَمَاعَةِ الْيَهُودِيَّةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ، فَهُمْ لَا يُعَظِّمُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَيُنْكِرُونَ نُبُوءَةَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَدَا مُوسَى وَهَارُونَ وَيُوشَعَ، وَمَا كَانَتْ هَذِهِ الشُّذُوذَاتِ فِيهِمْ إِلَّا مِنْ بَقَايَا تَعَالِيمِ الْإِلْحَادِ الَّتِي كَانُوا يَتَلَقَّوْنَهَا فِي مَدِينَةِ السَّامِرَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّسَاهُلِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِأُصُولِ الدِّينِ وَالتَّرَخُّصِ فِي تَعْظِيمِ آلِهَةِ
وَوَقَعَتْ فِي كِتَابِ الْخُرُوجِ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالثَلَاثِينَ زَلَّةٌ كُبْرَى، إِذْ زَعَمُوا أَنَّ هَارُونَ صَنَعَ الْعِجْلَ لَهُمْ لَمَّا قَالُوا لَهُ: «اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَ مُوسَى فِي الْجَبَلِ فَصَنَعَ لَهُمْ عِجْلًا مِنْ ذَهَبٍ». وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا مِنْ آثَارِ تَلَاشِي التَّوْرَاةِ الْأَصْلِيَّةِ بَعْدَ الْأَسْرِ الْبَابِلِيِّ، وَأَنَّ الَّذِي أَعَادَ كَتْبُهَا لَمْ يُحْسِنْ تَحْرِيرَ هَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَمِمَّا نَقْطَعُ بِهِ أَنَّ هَارُونَ مَعْصُومٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَسُول.
[٨٦]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ٨٦]
فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦)
الْغَضَبُ: انْفِعَالٌ لِلنَّفْسِ وَهَيَجَانٌ يَنْشَأُ عَنْ إِدْرَاك مَا يسوؤها وَيُسْخِطُهَا دُونَ خَوْفٍ، وَالْوَصْفُ مِنْهُ غَضْبَانٌ.
وَالْأَسَفُ: انْفِعَالٌ لِلنَّفْسِ يَنْشَأُ مِنْ إِدْرَاكِ مَا يُحْزِنُهَا وَمَا تَكْرَهُهُ مَعَ انْكِسَارِ الْخَاطِرِ.
وَالْوَصْفُ مِنْهُ أَسِفَ. وَقَدِ اجْتَمَعَ الِانْفِعَالَانِ فِي نَفْسِ مُوسَى لِأَنَّهُ يسوؤه وُقُوعُ ذَلِكَ فِي أُمَّتِهِ وَهُوَ لَا يَخَافُهُمْ، فَانْفِعَالُهُ الْمُتَعَلِّقُ بِحَالِهِمْ غَضَبٌ، وَهُوَ أَيْضًا يَحْزُنُهُ وُقُوعُ ذَلِكَ وَهُوَ فِي
مُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي كَانَ
وَهَذَا ابْتِدَاءُ وَصْفِ قِيَامِ مُوسَى فِي جَمَاعَةِ قَوْمِهِ وَفِيهِمْ هَارُونَ وَفِيهِمُ السَّامِرِيُّ، وَهُوَ يَقْرَعُ أَسْمَاعَهُمْ بِزَوَاجِرِ وَعْظِهِ، فَابْتَدَأَ بِخِطَابِ قَوْمِهِ كُلِّهِمْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ هَارُونَ لَا يَكُونُ مُشَايِعًا لَهُمْ، فَلِذَلِكَ ابْتَدَأَ بِخِطَابِ قَوْمِهِ ثُمَّ وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَى هَارُونَ بِقَوْلِهِ قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ [طه: ٩٢].
وَجُمْلَةُ قالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانِيَّةٌ.
وَافْتِتَاحُ الْخِطَابِ بِ يَا قَوْمِ تَمْهِيدٌ لِلَّوْمِ لِأَنَّ انْجِرَارَ الْأَذَى لِلرَّجُلِ مِنْ قَوْمِهِ أَحَقُّ فِي تَوْجِيهِ الْمَلَامِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ إِنْكَارِيُّ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَعِدْهُمْ وَعْدًا حَسَنًا لِأَنَّهُمْ أَجْرُوا أَعْمَالَهُمْ عَلَى حَالِ مَنْ يَزْعُمُ ذَلِكَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ زَعْمَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرِيًّا، وَشَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى فَرْضِ النَّفْيِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالْوَعْدُ الْحَسَنُ هُوَ: وَعْدُهُ مُوسَى بِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ، وَمُوَاعَدَتُهُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً لِلْمُنَاجَاةِ، وَقَدْ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ، فَهُوَ وَعْدٌ لِقَوْمِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لِصَلَاحِهِمْ، وَلِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِأَنْ يَكُونَ نَاصِرًا لَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ وَهَادِيًا لَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ فِي قَوْلِهِ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [طه: ٨٠].
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِهِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَيْسَ الْعَهْدُ بِوَعْدِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ بَعِيدًا. وَالْمُرَادُ بِطُولِ الْعَهْدِ طُولُ الْمُدَّةِ، أَيْ بُعْدُهَا، أَيْ لَمْ يَبْعُدْ زَمَنُ وَعْدِ رَبِّكَمْ إِيَّاكُمْ حَتَّى يَكُونَ لَكُمْ يَأْسٌ مِنَ الْوَفَاءِ فَتَكْفُرُوا وَتُكَذِّبُوا مَنْ بَلَّغَكُمُ الْوَعْدَ وَتَعْبُدُوا رَبًّا غَيْرَ الَّذِي دَعَاكُمْ إِلَيْهِ مَنْ بَلَّغَكُمُ الْوَعْدَ فَتَكُونُ لَكُمْ شُبْهَةُ عُذْرٍ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَنِسْيَانِ عَهْدِهِ.
وأَمْ إِضْرَابٌ إِبْطَالِيٌّ. وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ فِي قَوْلِهِ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ [طه: ٨٦] إِنْكَارِيٌّ أَيْضًا، إِذِ التَّقْدِيرُ: بَلْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ، فَلَا يَكُونُ كُفْرُكُمْ إِذَنْ إِلَّا إِلْقَاءً بِأَنْفُسِكُمْ فِي غَضَبِ اللَّهِ كَحَالِ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْهِ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ.
فَفِي قَوْلِهِ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، إِذْ شَبَّهَ حَالَهُمْ فِي ارْتِكَابِهِمْ أَسْبَابَ حُلُولِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِدُونِ دَاعٍ إِلَى ذَلِكَ بِحَالِ مَنْ يُحِبُّ حُلُولَ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ إِذِ الْحُبُّ لَا سَبَبَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي تَفْرِيعٌ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الثَّانِي. وَمَعْنَى مَوْعِدِي هُوَ وَعْدُ اللَّهِ عَلَى لِسَانِهِ، فَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِهِ لِأَنَّهُ الْوَاسِطَةُ فِيهِ.
[٨٧- ٨٨]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٨٧ الى ٨٨]
قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨)
قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها وَقَعَتْ جُمْلَةُ قالُوا غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ لِأَنَّهَا جَرَتْ فِي الْمُحَاوَرَةِ جَوَابًا عَنْ كَلَامِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَضَمِيرُ قالُوا عَائِدٌ إِلَى الْقَوْمِ
وَقَوْلُهُ بِمَلْكِنا قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِضَمِّ الْمِيمِ-. وَهِيَ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَمَعْنَاهَا: بِإِرَادَتِنَا وَاخْتِيَارِنَا، أَيْ لِإِخْلَافِ مَوْعِدِكَ، أَيْ مَا تَجَرَّأْنَا وَلَكِنْ غَرَّهُمُ السَّامِرِيُّ وَغَلَبَهُمْ دَهْمَاءُ الْقَوْمِ. وَهَذَا إِقْرَارٌ مِنَ الْمُجِيبِينَ بِمَا فَعَلَهُ دَهْمَاؤُهُمْ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ رَاجِعٌ إِلَى مَا أَفَادَهُ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ إِخْلَافُهُمُ الْعَهْدَ عَنْ قَصْدٍ لِلضَّلَالِ وَالْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَهُ وَقَعَتْ بِإِيجَازٍ عَنْ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنَ التَّنَصُّلِ مِنْ تَبِعَةِ نَكْثِ الْعَهْدِ.
وَمَحَلُّ الِاسْتِدْرَاكِ هُوَ قَوْلُهُ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ، فَعُطِفَتِ الْجُمَلُ قَبْلَهُ بِحَرْفِ الْفَاءِ وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهُمْ غُلِبُوا عَلَى رَأْيِهِمْ بِتَضْلِيلِ السَّامِرِيِّ.
فَأُدْمِجَتْ فِي هَذَا الِاعْتِذَارِ الْإِشَارَةُ إِلَى قَضِيَّةِ صَوْغِ الْعِجْلِ الَّذِي عَبَدُوهُ وَاغْتَرُّوا بِمَا مُوِّهَ لَهُمْ مِنْ أَنَّهُ إِلَهُهُمُ الْمَنْشُودُ مِنْ كَثْرَةِ مَا سَمِعُوا مِنْ رَسُولِهِمْ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُمْ أَوْ أَمَامَهُمْ، وَمِمَّا جَاشَ فِي خَوَاطِرِهِمْ مِنَ الطَّمَعِ فِي رُؤْيَتِهِ تَعَالَى.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ حُمِّلْنا- بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَكْسُورَةٍ، أَيْ حَمَّلَنَا مَنْ حَمَّلَنَا، أَوْ حَمَّلْنَا أَنْفُسَنَا.
وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِفَتْحِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مُخَفَّفَةً-.
وَالْقَذْفُ: الْإِلْقَاءُ. وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا الْإِلْقَاءُ فِي نَارِ السَّامِرِيِّ للصوغ، كَمَا يومىء إِلَيْهِ الْإِصْحَاحُ ٣٢ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ. فَهَذَا حِكَايَةُ جَوَابِهِمْ لِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُجْمَلًا مُخْتَصَرًا شَأْنَ الْمُعْتَذِرِ بِعُذْرٍ وَاهٍ أَنْ يَكُونَ خَجْلَانَ مِنْ عُذْرِهِ فَيَخْتَصِرُ الْكَلَامَ.
فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) ظَاهِرُ حَالِ الْفَاءِ التَّفْرِيعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا صَادِرًا مِنْ قَائِلِ الْكَلَامِ الْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ.
وَالْمَعْنَى: فَمِثْلُ قَذْفِنَا زِينَةَ الْقَوْمِ، أَيْ فِي النَّارِ، أَلْقَى السَّامِرِيُّ شَيْئًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ التَّخَلُّصُ إِلَى قِصَّةِ صَوْغِ الْعِجْلِ الَّذِي عَبَدُوهُ.
وَضَمِيرَا الْغِيبَةِ فِي قَوْلِهِ فَأَخْرَجَ لَهُمْ وَقَوْلُهُ: فَقالُوا عَائِدَانِ إِلَى غَيْرِ الْمُتَكَلِّمِينَ.
عَلَّقَ الْمُتَكَلِّمُونَ الْإِخْرَاجَ وَالْقَوْلَ بِالْغَائِبِينَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ مَعَ مُوسَى لَمْ يَكُونُوا مِمَّنِ اعْتَقَدَ إِلَهِيَّةَ الْعِجْلِ وَلَكِنَّهُمْ صَانَعُوا دَهْمَاءَ الْقَوْمِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الْقَوْمِ لِمُوسَى. وَعَلَى هَذَا دَرَجَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، فَيَكُونُ مِنْ
وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَذَا الْكَلَامَ كُلَّهُ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ،
فَيَكُونُ اعْتِرَاضًا وَإِخْبَارًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْأُمَّةِ. وموقع الْفَاء يناكد هَذَا لِأَنَّ الْفَاءَ لَا تَرِدُ لِلِاسْتِئْنَافِ عَلَى التَّحْقِيقِ، فَتَكُونُ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ تَفْرِيعَ أَخْبَارٍ عَلَى أَخْبَارٍ.
وَالْمَعْنَى: فَمِثْلُ ذَلِكَ الْقَذْفِ الَّذِي قَذَفْنَا مَا بِأَيْدِينَا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ أَلْقَى السَّامِرِيُّ مَا بِيَدِهِ مِنَ النَّارِ لِيَذُوبَ وَيَصُوغَهَا فَأَخْرَجَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ عِجْلًا جَسَدًا. فَإِنَّ فِعْلَ (أَلْقَى) يَحْكِي حَالَةً مُشَبَّهَةً بِحَالَةِ قَذْفِهِمْ مَصُوغَ الْقِبْطِ. وَالْقَذْفُ وَالْإِلْقَاءُ مُتَرَادِفَانِ، شُبِّهَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ.
وَالْجَسَدُ: الْجِسْمُ ذُو الْأَعْضَاءِ سَوَاءٌ كَانَ حَيًّا أَمْ لَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً [ص: ٣٤]. قِيلَ: هُوَ شِقُّ طِفْلٍ وَلَّدَتْهُ إِحْدَى نِسَائِهِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.
قَالَ الزَّجَاجُ: الْجَسَدُ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا يُمَيِّزُ إِنَّمَا هُوَ الْجُثَّةُ، أَيْ أَخْرَجَ لَهُمْ صُورَةَ عِجْلٍ مُجَسَّدَةً بِشَكْلِهِ وَقَوَائِمِهِ وَجَوَانِبِهِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ صُورَةٍ مَنْقُوشَةٍ عَلَى طَبَقٍ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ. وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ.
وَالْإِخْرَاجُ: إِظْهَارُ مَا كَانَ مَحْجُوبًا. وَالتَّعْبِيرُ بِالْإِخْرَاجِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ صَنَعَهُ بِحِيلَةٍ مَسْتُورَةٍ عَنْهُمْ حَتَّى أَتَمَّهُ.
وَالْخُوَارُ: صَوْتُ الْبَقَرِ. وَكَانَ الَّذِي صَنَعَ لَهُمُ الْعِجْلَ عَارِفًا بِصِنَاعَةِ الْحِيَلِ الَّتِي كَانُوا يَصْنَعُونَ بِهَا الْأَصْنَامَ وَيَجْعَلُونَ فِي أَجْوَافِهَا وَأَعْنَاقِهَا مَنَافِذَ كَالزَّمَّارَاتِ تَخْرُجُ مِنْهَا أَصْوَاتٌ إِذَا أُطْلِقَتْ عِنْدَهَا رِيَاحٌ بِالْكِيرِ وَنَحْوِهِ.
وَقِصَّةُ اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ فِي كِتَابِ التَّوْرَاةِ غَيْرُ مُلَائِمَةٍ لِلنَّظَرِ السَّلِيمِ.
وَتَفْرِيعُ فَنَسِيَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ تَفْرِيعَ عِلَّةٍ عَلَى مَعْلُولٍ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى السَّامِرِيِّ، أَيْ قَالَ السَّامِرِيُّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَسِيَ مَا كَانَ تَلَقَّاهُ مِنْ هَدْيٍ أَوْ تَفْرِيعَ مَعْلُولٍ عَلَى عِلَّةٍ، أَيْ قَالَ ذَلِكَ، فَكَانَ قَوْلُهُ سَبَبًا فِي نِسْيَانِهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ هَدْيٍ إِذْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ فَحَرَمَهُ التَّوْفِيقَ مِنْ بَعْدُ.
وَالنِّسْيَانُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِضَاعَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها [طه: ١٢٦] وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون: ٥].
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ فَنَسِيَ مِنَ الْحِكَايَةِ لَا مِنَ الْمَحْكِيِّ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى السَّامِرِيِّ فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يَتَّصِلَ بِقَوْلِهِ أَفَلا يَرَوْنَ [طه: ٨٩] وَيَكُونَ اعْتِرَاضًا. وَجَعَلَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَائِدًا إِلَى مُوسَى، أَيْ فَنَسِيَ مُوسَى إِلَهَكُمْ وَإِلَهَهُ، أَيْ غَفَلَ عَنْهُ، وَذَهَبَ إِلَى الطُّورِ يُفَتِّشُ عَلَيْهِ وَهُوَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، وَمَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ يُبْعِدُ هَذَا التَّفْسِيرَ.
وَالنِّسْيَانُ: يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا فِي الْغَفْلَة.
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ٨٩]
أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩)يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا وَلَيْسَ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ الْقَوْمِ، فَهُوَ مُعْتَرَضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ [طه: ٨٧] وَجُمْلَةِ قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ [طه: ٩٢، ٩٣] إِلَخْ، فَتَكُونُ الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ عَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ، أَيْ لِتَفْرِيعٍ الْإِخْبَارٍ لَا لِتَفْرِيعِ الْمُخْبِرِ بِهِ، وَالْمُخْبِرُ مُتَعَدِّدٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِخِطَابِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ وَهُمْ كُبَرَاؤُهُمْ وَصُلَحَاؤُهُمْ لِيُعْلَمَ أَنَّهُمْ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنَ التَّوْحِيدِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ: إِنْكَارِيٌّ، نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَرَى الْعِجْلَ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجَبِ الْبَصَرِ، فَأُنْكِرَ عَلَيْهِمْ عَدَمُ رُؤْيَتِهِمْ ذَلِكَ مَعَ ظُهُورِهِ، أَيْ كَيْفَ يَدَّعُونَ الْإِلَهِيَّةَ لِلْعِجْلِ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَسْتَطِيعُ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا.
وَالرُّؤْيَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ مُكَنًّى بِهَا أَوْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مُطْلَقِ الْإِدْرَاكِ فَآلَتْ إِلَى مَعْنَى الِاعْتِقَادِ وَالْعِلْمِ، وَلَا سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ لِجُمْلَةِ وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُرَى بالبصر بِخِلَاف أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا. وَرُؤْيَةُ انْتِفَاءِ الْأَمْرَيْنِ مُرَادٌ بِهَا رُؤْيَةُ أَثَرِ انْتِفَائِهِمَا بِدَوَامِ عَدَمِ التَّكَلُّمِ وَانْتِفَاءِ عَدَمِ نَفْعِهِمْ وَضَرِّهِمْ، لِأَنَّ الْإِنْكَارَ مُسَلَّطٌ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ إِلَهُهُمْ فَيَقْتَضِي أَنْ يَمْلِكَ لَهُمْ ضَرًّا وَنَفْعًا.
وَمَعْنَى يَرْجِعُ يَرُدُّ، أَيْ يُجِيبُ الْقَوْلَ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَحَلَّ الْعِبْرَةِ مِنْ فُقْدَانِهِ صِفَاتَ الْعَاقِلِ لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَهُ وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ وَيُمَجِّدُونَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَشْكُرُ لَهُمْ وَلَا يَعِدُهُمْ بِاسْتِجَابَةٍ، وَشَأْنُ الْكَامِلِ إِذَا سَمِعَ ثَنَاءً أَوْ تَلَقَّى طِلْبَةً أَنْ يُجِيبَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ مَنْ هُوَ بِحَاجَةٍ إِلَى جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، وَأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَجِدُوا مَا
فِيهِ نَفْعُهُمْ
وَلَامُ لَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَمْلِكُ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى يَسْتَطِيعُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ. [٧٦].
وَقَدَّمَ الضَّرَّ عَلَى النَّفْعِ قَطْعًا لِعُذْرِهِمْ فِي اعْتِقَادِ إِلَهِيَّتِهِ، لِأَنَّ عُذْرَ الْخَائِفِ مِنَ الضُّرِّ أَقْوَى مِنْ عُذْرِ الرَّاغِبِ فِي النَّفْعِ.
وَ (أَنْ) فِي قَوْلِهِ أَلَّا يَرْجِعُ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهَا هِيَ الْخَبَرُ، فَ يَرْجِعُ مَرْفُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْقِرَاءَاتِ مَا عَدَا قِرَاءَاتٍ شَاذَّةٍ. وَلَيْسَتْ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةً لِأَنَّ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةَ لَا تَقَعُ بَعْدَ أَفْعَالِ الْعِلْمِ وَلَا بَعْدَ أَفعَال الْإِدْرَاك.
[٩٠- ٩١]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٩٠ إِلَى ٩١]
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١)
الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أَفَلا يَرَوْنَ [طه: ٨٩] عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ، أَيْ كَيْفَ لَا يَسْتَدِلُّونَ عَلَى عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْعِجْلِ الْإِلَهِيَّةَ، بِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَيُقْلِعُونَ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ،
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ وَلَامِ الْقَسَمِ لِتَحْقِيقِ إِبْطَالِ مَا فِي كِتَابِ الْيَهُودِ مِنْ أَنَّ هَارُونَ هُوَ الَّذِي صَنَعَ لَهُمُ الْعَجَلَ، وَأَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ عِبَادَتَهُ. وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنه كَانَ يستهزىء بِهِمْ فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ إِفْكٌ عَظِيمٌ فِي كِتَابِهِمْ.
وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ (قَبْلُ) مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ مُوسَى وَيُنْكِرَ عَلَيْهِمْ.
وَافْتِتَاحُ خِطَابِهِ بِ يَا قَوْمِ تَمْهِيدٌ لِمَقَامِ النَّصِيحَةِ.
وَمَعْنَى إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ: مَا هُوَ إِلَّا فِتْنَةٌ لَكُمْ وَلَيْسَ رَبًّا، وَإِن ربّكم الرحمان الَّذِي يَرْحَمُكُمْ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، فَأَجَابُوهُ بِأَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ عَاكِفِينَ عَلَى عِبَادَتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ مُوسَى فَيُصَرِّحُ لَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ الْعِجْلَ لَيْسَ هُوَ رَبَّهُمْ.
وَرَتَّبَ هَارُونُ خِطَابَهُ عَلَى حَسَبِ التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ لِأَنَّهُ ابْتَدَأَهُ بِزَجْرِهِمْ عَنِ الْبَاطِلِ وَعَنْ عِبَادَةِ مَا لَيْسَ بِرَبٍّ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ الرَّبِّ الْحَقِّ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ الرَّسُولِ إِذْ كَانَ رَسُولًا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى الْعَمَلِ بِالشَّرَائِعِ، فَمَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَّا التَّصْمِيمُ عَلَى اسْتِمْرَارِ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ فَأَجَابُوا هَارُونَ جَوَابًا جَازِمًا.
وعَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِ عاكِفِينَ قُدِّمَ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِتَقْوِيَةِ الْحُكْمِ، أَوْ أَرَادُوا: لَنْ نَبْرَحَ نَخُصُّهُ بِالْعُكُوفِ لَا نَعْكُفُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَالْعُكُوفُ: الْمُلَازَمَةُ بِقَصْدِ الْقُرْبَةِ وَالتَّعَبُّدِ، وَكَانَ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ يَلْزَمُونَهَا ويطوفون بهَا.
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٩٢ إِلَى ٩٤]
قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)انْتَقَلَ مُوسَى مِنْ مُحَاوَرَةِ قَوْمِهِ إِلَى مُحَاوَرَةِ أَخِيهِ، فَجُمْلَةُ قالَ يَا هارُونُ تَابِعَةٌ لِجُمْلَةِ قالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً [طه: ٨٦]، وَلِجُمْلَةِ قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا [طه: ٨٧] وَقَدْ وُجِدَتْ مُنَاسِبَةٌ لِحِكَايَةِ خِطَابِهِ هَارُونَ بَعْدَ أَنْ وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْحِكَايَةِ بِالْجُمَلِ الْمُعْتَرِضَةِ الَّتِي مِنْهَا جُمْلَةُ وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ [طه: ٩٠] إِلَخْ فَهُوَ اسْتِطْرَادٌ فِي خِلَالِ الْحِكَايَةِ لِلْإِشْعَارِ بِعُذْرِ هَارُونَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ إِلَخْ عَلَى احْتِمَالِ كَوْنِ تِلْكَ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ قَوْمِ مُوسَى.
عَلِمَ مُوسَى أَنَّ هَارُونَ مَخْصُوصٌ مِنْ قَوْمِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْبُدِ الْعِجْلَ، إِذْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ تَقْتَضِي الْعِصْمَةَ، فَلِذَلِكَ خَصَّهُ بِخِطَابٍ يُنَاسِبُ حَالَهُ بَعْدَ أَنْ خَاطَبَ عُمُومَ الْأُمَّةِ بِالْخِطَابِ الْمَاضِي. وَهَذَا خِطَابُ التَّوْبِيخِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَى بَقَائِهِ بَيْنَ عَبَدَةِ الصَّنَمِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ مَا مَنَعَكَ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا مَانِعَ لَكَ مِنَ اللِّحَاقِ بِي، لِأَنَّهُ أَقَامَهُ خَلِيفَةً عَنْهُ فِيهِمْ فَلَمَّا لَمْ يَمْتَثِلُوا أَمْرَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْخِلَافَةَ إِلَى مَنِ اسْتَخْلَفَهُ.
وإِذْ رَأَيْتَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ مَنَعَكَ. وَ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةٌ، وَ (لَا) حَرْفُ نَفْيٍ. وَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُنَاسِبُ مَعْنَى النَّفْيِ. وَالْمَصْدَرُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ
وَالتَّقْدِيرُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَتَّبِعَنِي وَاضْطَرَّكَ إِلَى أَنْ لَا تَتَّبِعَنِي، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ شِبْهُ احْتِبَاكٍ. وَالْمَقْصُودُ تَأْكِيدُ وَتَشْدِيدُ التَّوْبِيخِ بِإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ لِهَارُونَ مَانِعٌ حِينَئِذٍ مِنَ اللَّحَاقِ بِمُوسَى وَمُقْتَضٍ لِعَدَمِ اللَّحَاقِ بِمُوسَى، كَمَا يُقَالُ: وُجِدَ السَّبَبُ وَانْتَفَى الْمَانِعُ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٢] فَارْجِعْ إِلَيْهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي مُفَرَّعٌ عَلَى الْإِنْكَارِ، فَهُوَ إِنْكَارٌ ثَانٍ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، مَشُوبٌ بِتَقْرِيرٍ لِلتَّهْدِيدِ.
وَقَوْلُهُ فِي الْجَوَابِ ابْنَ أُمَ
نِدَاءٌ لِقَصْدِ التَّرْقِيقِ وَالِاسْتِشْفَاعِ. وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ مُوسَى حِينَ وَبَّخَهُ أَخَذَ بِشَعْرِ لِحْيَةِ هَارُونَ، وَيُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَجْذِبُهُ إِلَيْهِ لِيَلْطِمَهُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَعْرَافِ [٥٠] بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ.
وَقَرَأَ الجمهورا بْنَ أُمَ
- بِفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٍ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- وَأَصْلُهُ: يَا ابْنَ أُمِّي، فَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا، وَهُوَ حَذْفٌ مَخْصُوصٌ بِالنِّدَاءِ. وَالْقِرَاءَتَانِ وَجْهَانِ فِي حَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا لَفْظُ أُمَّ وَلَفْظُ (عَمِّ) فِي النِّدَاءِ.
وَعُطِفَ الرَّأْسُ عَلَى اللِّحْيَةِ لِأَنَّ أَخْذَهُ مِنْ لِحْيَتِهِ أَشَدُّ أَلَمًا وَأَنْكَى فِي الْإِذْلَالِ.
وَابْنُ الْأُمِّ: الْأَخُ. وَعَدَلَ عَنْ (يَا أَخِي) إِلَى (ابْنَ أُمَّ) لِأَنَّ ذِكْرَ الْأُمِّ تَذْكِيرٌ بِأَقْوَى أَوَاصِرِ الْأُخُوَّةِ، وَهِيَ آصِرَةُ الْوِلَادَةِ مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ وَالرِّضَاعِ مِنْ لِبَانٍ وَاحِدٍ.
وَاعْتَذَرَ هَارُونُ عَنْ بَقَائِهِ بَيْنَ الْقَوْم بقوله نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ
، أَيْ أَنْ تَظُنَّ ذَلِكَ بِي فَتَقَوْلَهَ لَوْمًا وَتَحْمِيلًا لِتَبِعَةِ الْفُرْقَةِ الَّتِي ظَنَّ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ لَا مَحَالَةَ إِذَا أَظْهَرَ هَارُونُ غَضَبَهُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ يَسْتَتْبِعُهُ طَائِفَةٌ مِنَ الثَّابِتِينَ عَلَى الْإِيمَانِ وَيُخَالِفُهُمُ الْجُمْهُورُ فَيَقَعُ انْشِقَاقٌ
بَيْنَ الْقَوْمِ وَرُبَّمَا اقْتَتَلُوا فَرَأَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنْ يُظْهِرَ الرِّضَى عَنْ فِعْلِهِمْ لِيَهْدَأَ الْجُمْهُورُ وَيَصْبِرَ الْمُؤْمِنُونَ اقْتِدَاءً بِهَارُونَ، وَرَأَى فِي سُلُوكِ هَذِهِ السِّيَاسَةِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِ مُوسَى لَهُ وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٢]. وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هُنَا بِقَوْلِهِ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ حِكَايَةِ قَوْلِ مُوسَى الَّذِي قَدَّرَهُ هَارُونُ فِي ظَنِّهِ.
وَهَذَا اجْتِهَادٌ مِنْهُ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ إِذْ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ مَصْلَحَتَانِ مَصْلَحَةُ حِفْظِ الْعَقِيدَةِ وَمَصْلَحَةُ حِفْظِ الْجَامِعَةِ مِنَ الْهَرَجِ. وَفِي أَثْنَائِهَا حِفْظُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَرَجَّحَ الثَّانِيَةَ، وَإِنَّمَا رَجَّحَهَا لِأَنَّهُ رَآهَا أَدْوَمَ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ حِفْظِ الْعَقِيدَةِ يُسْتَدْرَكُ فَوَاتُهَا الْوَقْتِيُّ بِرُجُوعِ مُوسَى وَإِبْطَالِهِ عِبَادَةَ الْعِجْلِ حَيْثُ غَيَّوْا عُكُوفَهَمْ عَلَى الْعِجْلِ بِرُجُوعِ مُوسَى، بِخِلَافِ مَصْلَحَةِ حِفْظِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ إِذَا انْثَلَمَتْ عَسُرَ تَدَارُكُهَا.
وَتَضَمَّنَ هَذَا قَوْله نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
، وَكَانَ اجْتِهَادُهُ ذَلِكَ مَرْجُوحًا لِأَنَّ حِفْظَ الْأَصْلِ الْأَصِيلِ لِلشَّرِيعَةِ أَهَمُّ مِنْ حِفْظِ الْأُصُولِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَصْلَحَةَ صَلَاحِ الِاعْتِقَادِ هِيَ أُمُّ الْمَصَالِحِ الَّتِي بِهَا صَلَاحُ الِاجْتِمَاعِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ «أُصُولِ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْإِسْلَامِيِّ». وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُوسَى خَافِيًا عَلَيْهِ أَنَّ هَارُونَ كَانَ مِنْ
وَفِي قَوْله تَعَالَى: يْنَ بَنِي
جِنَاسٌ، وَطَرْدٌ وَعَكْسٌ.
وَهَذَا بَعْضُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ هَارُونُ، وَحُكِيَ عَنْهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٥٠] أَنَّهُ اعْتَذَرَ بِقَوْلِهِ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي.
[٩٥- ٩٦]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٩٥ إِلَى ٩٦]
قالَ فَما خَطْبُكَ يَا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦)
الْتَفَتَ مُوسَى بِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى السَّامِرِيِّ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي إِضْلَالِ الْقَوْمِ، فَالْجُمْلَةُ نَاشِئَةٌ عَنْ قَوْلِ الْقَوْمِ فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا [طه: ٨٨] إِلَخْ، فَهِيَ ابْتِدَاءُ خِطَابٍ. وَلَعَلَّ مُوسَى لَمْ يُغْلِظْ لَهُ الْقَوْلَ كَمَا أَغْلَظَ لِهَارُونَ لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِالدِّينِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ضَلَالِهِ عَجَبٌ. وَلَعَلَّ هَذَا يُؤَيِّدُ مَا قِيلَ: إِنَّ السَّامِرِيَّ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَكِنَّهُ كَانَ مِنَ الْقِبْطِ أَوْ مِنْ كِرْمَانَ فَانْدَسَّ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَمَّا كَانَ مُوسَى
مَبْعُوثًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ خَاصَّةً وَلِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ لِأَجْلِ إِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ اتِّبَاعُ غَيْرِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ لِشَرِيعَةِ مُوسَى أَمْرًا غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَى غَيْرِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَلَكِنَّهُ مُرَغَّبٌ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُعَنِّفْهُ مُوسَى لِأَنَّ الْأَجْدَرَ بِالتَّعْنِيفِ هُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَى الشَّرِيعَة.
وَمعنى فَما خَطْبُكَ مَا طَلَبُكَ، أَيْ مَاذَا تَخْطُبُ، أَيْ تَطْلُبُ، فَهُوَ مَصْدَرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَهِيَ كَلِمَةٌ أَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْمَكَارِهِ،
وَقَوْلُهُ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ إِلَى قَوْلِهِ فَنَبَذْتُها إِنْ حُمِلَتْ كَلِمَاتُ (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ. وقبضت قَبْضَةً، وَأثر، ونبذتها) عَلَى حَقَائِقِ مَدْلُولَاتِهَا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ كَانَ الْمَعْنَى أَبْصَرْتُ مَا لَمْ يُبْصِرُوهُ، أَيْ نَظَرْتُ مَا لَمْ يَنْظُرُوهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَصُرْتُ، وأبصرت كِلَاهُمَا مِنْ أَفْعَالِ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ، إِلَّا أَنَّ بَصُرَ بِالشَّيْءِ حَقِيقَتُهُ صَارَ بَصِيرًا بِهِ أَوْ بَصِيرًا بِسَبَبِهِ، أَيْ شَدِيدَ الْإِبْصَارِ، فَهُوَ أَقْوَى مِنْ أَبْصَرْتُ، لِأَنَّهُ صِيغَ مِنْ فِعْلٍ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- الَّذِي تُشْتَقُّ مِنْهُ الصِّفَاتُ الْمُشَبَّهَةُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ سَجِيَّةً، قَالَ تَعَالَى:
فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [١١].
وَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى هُنَا جَلِيًّا عَن أَمر مرثيّ تَعَيَّنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ بِاسْتِعَارَةِ بَصُرَ الدَّالِّ عَلَى قُوَّةِ الْإِبْصَارِ إِلَى مَعْنَى الْعِلْمِ الْقَوِيِّ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ عَنِ التَّقْيِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: ٢٢]، وَكَمَا سُمِّيَتِ الْمَعْرِفَةُ الرَّاسِخَةُ بَصِيرَةً فِي قَوْله أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ [يُوسُف: ١٠٨]. وَحُكِيَ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» عَنِ اللِّحْيَانِيِّ: إِنَّهُ لَبَصِيرٌ بِالْأَشْيَاءِ، أَيْ عَالِمٌ بِهَا، وَبَصُرْتُ بِالشَّيْءِ: عَلِمْتُهُ. وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهَا الْأَخْفَشُ فِي نَقْلِ «لِسَانِ الْعَرَبِ» وَأَثْبَتَهُ الزَّجَّاجُ.
فَالْمَعْنَى: عَلِمْتُ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ وَفَطِنْتُ لِمَا لَمْ يَفْطِنُوا لَهُ، كَمَا جَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» أَوَّلَ وَجْهَيْنِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَلِذَلِكَ طَرِيقَتَانِ: إِمَّا جَعْلُ بَصُرْتُ مَجَازًا، وَإِمَّا جَعْلُهُ حَقِيقَةً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَبْصُرُوا بِتَحْتِيَّةٍ عَلَى أَنَّهُ رَافِعٌ لِضَمِيرِ الْغَائِبِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ- بِفَوْقِيَّةٍ- عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ.
وَالْقَبْضَةُ:- بِفَتْحِ الْقَافِ- الْوَاحِدَةُ: مِنَ الْقَبْضِ، وَهُوَ غَلْقُ الرَّاحَةِ عَلَى شَيْءٍ، فَالْقَبْضَةُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَضِدُّ الْقَبْضِ: الْبَسْطُ.
وَالْأَثَرُ: حَقِيقَتُهُ: مَا يَتْرُكُهُ الْمَاشِي مِنْ صُورَةِ قَدَمِهِ فِي الرَّمْلِ أَوِ التُّرَابِ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي [طه: ٨٤].
وعَلى حمل هَذِه الْكَلِمَاتِ عَلَى حَقَائِقِهَا يَتَعَيَّنُ صَرْفُ الرَّسُولِ عَنِ الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى جِبْرِيلَ فَإِنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ. فَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ جِبْرِيلُ، وَرَوَوْا قِصَّةٌ قَالُوا: إِنَّ السَّامِرِيَّ فَتَنَهُ اللَّهُ، فَأَرَاهُ اللَّهُ جِبْرِيلَ رَاكِبًا فَرَسًا فَوَطِئَ حَافِرُ الْفَرَسِ مَكَانًا فَإِذَا هُوَ مُخْضَرٌّ بِالنَّبَاتِ. فَعَلِمَ السَّامِرِيُّ أَنَّ أَثَرَ جِبْرِيلَ إِذَا أُلْقِيَ فِي جَمَادٍ صَارَ حَيًّا، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ وَصَنَعَ عجلا وَألقى القبضة عَلَيْهِ فَصَارَ جَسَدًا، أَيْ حَيًّا، لَهُ خُوَارٌ كَخُوَارِ الْعِجْلِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْإِلْقَاءِ بِالنَّبْذِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَلَا وَرَدَ بِهِ أَثَرٌ مِنَ السُّنَّةِ وَإِنَّمَا هِيَ أَقْوَالٌ لِبَعْضِ السَّلَفِ وَلَعَلَّهَا تَسَرَّبَتْ لِلنَّاسِ مِنْ رِوَايَاتِ الْقَصَّاصِينَ.
فَإِذَا صُرِفَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ السِّتُّ إِلَى مَعَانٍ مَجَازِيَّةٍ كَانَ بَصُرْتُ بِمَعْنَى عَلِمْتُ وَاهْتَدَيْتُ، أَيِ اهْتَدَيْتُ إِلَى عِلْمِ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ، وَهُوَ عِلْمُ صِنَاعَةِ التَّمَاثِيلِ وَالصُّوَرِ الَّذِي بِهِ صُنِعَ الْعِجْلُ، وَعِلْمُ الْحِيَلِ الَّذِي أَوْجَدَ بِهِ خُوَارَ الْعِجْلِ، وَكَانَتِ الْقَبْضَةُ بِمَعْنَى النَّصِيبِ الْقَلِيلِ، وَكَانَ الْأَثَرُ بِمَعْنَى التَّعْلِيمِ، أَيِ الشَّرِيعَةِ، وَكَانَ نَبَذْتُ بِمَعْنَى أَهْمَلْتُ وَنَقَضْتُ، أَيْ كُنْتُ ذَا مَعْرِفَةٍ إِجْمَالِيَّةٍ مِنْ هَدْيِ الشَّرِيعَةِ فَانْخَلَعْتُ عَنْهَا بِالْكُفْرُ. وَبِذَلِكَ يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ الرَّسُولِ عَلَى الْمَعْنَى الشَّائِعِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ مِنَ اللَّهِ وُأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ.
وَكَانَ الْمَعْنَى: إِنِّي بِعَمَلِيَ الْعِجْلَ لِلْعِبَادَةِ نَقَضْتُ اتِّبَاعَ شَرِيعَةِ مُوسَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ اعْتَرَفَ أَمَامَ مُوسَى بِصُنْعِهِ الْعِجْلَ وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ جَهِلَ فَضَلَّ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ سَوَّلَتْهُ لَهُ نَفْسُهُ.
وَالتَّسْوِيلُ: تَزْيِينُ مَا لَيْسَ بِزَيْنٍ.
وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي تَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: ١٤٣]، أَيْ كَذَلِكَ التَّسْوِيلُ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، أَيْ تَسْوِيلًا لَا يَقْبَلُ التَّعْرِيفَ بِأَكْثَرَ من ذَلِك.
[٩٧]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ٩٧]
قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧)
لَمْ يَزِدْ مُوسَى فِي عِقَابِ السَّامِرِيِّ عَلَى أَنْ خَلَعَهُ مِنَ الْأُمَّةِ، إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ بِالَّذِي تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ مُوسَى أَعْلَمُ بِأَنَّ السَّامِرِيَّ لَا يُرْجَى صَلَاحُهُ، فَيَكُونُ مِمَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، مِثْلَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ:
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يُونُس: ٩٦، ٩٧]، وَيَكُونُ قَدْ أَطْلَعَ اللَّهُ مُوسَى عَلَى ذَلِكَ بِوَحْيٍ أَوْ إِلْهَامٍ، مِثْلَ الَّذِي قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا مَعَ الْمُسْلِمِينَ،
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ»
، وَمِثْلَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَعْلَمَ اللَّهُ بِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ بِبَعْضِهِمْ.
فَقَوْلُهُ فَاذْهَبْ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَمْرٌ لَهُ بِالِانْصِرَافِ وَالْخُرُوجِ مِنْ وَسَطِ الْأُمَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلِمَةَ زَجْرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ
٦٣]، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ مِمَّا أَنْشَدَهَ سِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ» وَلَمْ يَعْزُهُ:
فَالْيَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتَشْتِمُنَا | فَاذْهَبْ فَمَا وَبِك لأيام مِنْ عَجَبِ |
فَإِنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا | وَإِنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخَلْ |
وَمِسَاسَ- بِكَسْرِ الْمِيمِ- فِي قِرَاءَةِ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ وَهُوَ مَصْدَرُ مَاسَّهُ بِمَعْنَى مَسَّهُ، وَ (لَا) نَافِيَةٌ لِلْجِنْسِ، ومِساسَ اسْمُهَا مَبْنَيٌّ عَلَى الْفَتْحِ.
وَقَوْلُهُ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً اللَّامُ فِي لَكَ اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاء: ٧] أَيْ فَعَلَيْهَا. وَتَوَعَّدَهُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ فَجَعَلَهُ مَوْعِدًا لَهُ، أَيْ مَوْعِدَ الْحَشْرِ وَالْعَذَابِ، فَالْمَوْعِدُ مَصْدَرٌ، أَيْ وَعْدٌ لَا يُخْلَفُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ [الرّوم: ٦]. وَهُنَا تَوَعُّدٌ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَنْ تُخْلَفَهُ- بِفَتْحِ اللَّامِ- مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ لِلْعِلْمِ بِفَاعِلِهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ لَا يُؤَخِّرُهُ اللَّهُ عَنْكَ، فَاسْتُعِيرَ الْإِخْلَافُ لِلتَّأْخِيرِ لِمُنَاسَبَةِ الْمَوْعِدِ.
وَبَعْدَ أَنْ أَوْعَدَ مُوسَى السَّامِرِيَّ بَيَّنَ لَهُ وَلِلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ضَلَالَهُمْ بِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الإلهيّة لأنّه معرّض لِلِامْتِهَانِ وَالْعَجْزِ، فَقَالَ: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً. فَجُعِلَ الِاسْتِدْلَالُ بِالنَّظَرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ بَيِّنٌ لَا يَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ بِهِ إِلَى أَكْثَرَ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ فَإِنَّ دَلَالَةَ الْمَحْسُوسَاتِ أَوْضَحُ مِنْ دَلَالَةِ الْمَعْقُولَاتِ.
وَأَضَافَ الْإِلَهَ إِلَى ضَمِيرِ السَّامِرِيِّ تَهَكُّمًا بِالسَّامِرِيِّ وَتَحْقِيرًا لَهُ، وَوَصَفَ ذَلِكَ الْإِلَهَ الْمَزْعُومَ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الصِّلَةُ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى الضَّلَالِ وَالْخَطَأِ، أَيِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْكَفَ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ ظَلْتَ- بِفَتْحِ الظَّاءِ- فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَأَصْلُهُ: ظَلَلْتَ: حُذِفَتْ مِنْهُ اللَّامُ الْأُولَى تَخْفِيفًا مِنْ تَوَالِي اللَّامَيْنِ وَهُوَ حَذْفٌ نَادِرٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَعِنْدَ غَيْرِهِ هُوَ قِيَاسٌ.
وَفِعْلُ (ظَلَّ) مِنْ أَخَوَاتِ (كَانَ). وَأَصْلُهُ الدَّلَالَةُ عَلَى اتِّصَافِ اسْمِهِ بِخَبَرِهِ فِي وَقْتِ النَّهَارِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي مَعْنَى (دَامَ) بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ غَالِبَ الْأَعْمَالِ يَكُونُ فِي النَّهَارِ.
وَالْعُكُوفُ: مُلَازَمَةُ الْعِبَادَةِ وَتَقَدَّمَ آنِفًا. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ عاكِفاً لِلتَّخْصِيصِ، أَيِ الَّذِي اخْتَرْتَهُ لِلْعِبَادَةِ دُونَ غَيْرِهِ، أَيْ دُونَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالتَّحْرِيقُ: الْإِحْرَاقُ الشَّدِيدُ، أَيْ لَنُحَرِّقَنَّهُ إِحْرَاقًا لَا يَدَعُ لَهُ شَكْلًا. وَأَرَادَ بِهِ أَنْ يُذِيبَهُ بِالنَّارِ
حَتَّى يَفْسُدَ شَكْلُهُ وَيَصِيرَ قِطَعًا.
وَقَرَأَ ابْنُ جَمَّازٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ لَنُحَرِّقَنَّهُ- بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى وَبِإِسْكَانِ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ وَرْدَانَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ- بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى وَإِسْكَانِ الْحَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ- لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَحْرَقَهُ وَحَرَّقَهُ.
وَالنَّسْفُ: تَفْرِيقٌ وَإِذْرَاءٌ لِأَجْزَاءِ شَيْءٍ صَلْبٍ كَالْبِنَاءِ وَالتُّرَابِ.
وَأَرَادَ بِالْيَمِّ الْبَحْرَ الْأَحْمَرَ الْمُسَمَّى بَحْرَ الْقُلْزُمِ، وَالْمُسَمَّى فِي التَّوْرَاةِ: بَحْرَ سُوفٍ، وَكَانُوا نَازِلِينَ حِينَئِذٍ عَلَى سَاحِلِهِ فِي سَفْحِ الطُّورِ.
وَ (ثُمَّ) لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ نَسْفَ الْعِجْلِ أَشَدُّ فِي إِعْدَامِهِ مِنْ تَحْرِيقِهِ وَأَذَلُّ لَهُ.
وَأَكَّدَ «نَنْسِفَنَّهُ» بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَخْشَى غَضَبَهُ كَمَا يَزْعُمُونَ أنّه إِلَه.
[٩٨]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ٩٨]
إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَمَوْقِعُهَا مَوْقِعُ التَّذْيِيلِ لِوَعْظِهِ، وَقَدِ الْتَفَتَ مِنْ خِطَابِ السَّامِرِيِّ إِلَى خِطَابِ الْأُمَّةِ إِعْرَاضًا عَنْ خِطَابِهِ تَحْقِيرًا لَهُ، وَقَصْدًا لِتَنْبِيهِهِمْ عَلَى خَطَئِهِمْ، وَتَعْلِيمِهِمْ صِفَاتَ الْإِلَهِ الْحَقِّ، وَاقْتَصَرَ مِنْهَا عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَعُمُومِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْوَحْدَانِيَّةَ تَجْمَعُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ، كَمَا قُرِّرَ فِي دَلَالَةِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ عَلَيْهَا فِي كُتُبِ عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَاسْتُعِيرَ فِعْلُ وَسِعَ لِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ التَّامَّةِ، لِأَنَّ الْإِنَاءَ الْوَاسِعَ يُحِيطُ بِأَكْثَرِ أَشْيَاءَ مِمَّا هُوَ دُونَهُ.
وَانْتَصَبَ عِلْماً عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزُ نِسْبَةِ السَّعَةِ إِلَى الله تَعَالَى، فيؤول الْمَعْنَى: وَسِعَ عِلْمُهُ كل شَيْء بِحَيْثُ لَا يضيق علمه عَن شَيْءٍ، أَي لَا يقصر عَنِ الِاطِّلَاعِ عَلَى أَخْفَى الْأَشْيَاء، كَمَا أَفَادَهُ لَفْظُ (كُلِّ) الْمُفِيدُ لِلْعُمُومِ. وَتَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٢٥٥].
[٩٩- ١٠١]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٩٩ إِلَى ١٠١]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١)
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ تَذْيِيلِيَّةٌ أَفَادَتِ التَّنْوِيهَ بِقِصَّةِ رِسَالَةِ مُوسَى وَمَا عَقَّبَهَا مِنَ الْأَعْمَال الَّتِي جرت مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى نَارا [طه: ٩، ١٠]، أَيْ مِثْلُ هَذَا الْقِصَصِ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ. وَالْإِشَارَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ نَقُصُّ قَصَصَنَا، وَإِنَّمَا صِيغَ الْمُضَارِعُ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْحَسَنَةِ فِي ذَلِكَ الْقَصَصِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ تَبْعِيضِيَّةٌ، هِيَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ:
قَصَصًا مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (مِنْ) اسْمًا بِمَعْنَى بَعْضٍ، فَتَكُونُ مَفْعُولَ نَقُصُّ.
وَالْأَنْبَاءُ: الْأَخْبَارُ. وَ (مَا) الموصولة مَا صدقهَا الْأَزْمَانُ، لِأَنَّ الْأَخْبَارَ تُضَافُ إِلَى أَزْمَانِهَا، كَقَوْلِهِمْ: أَخْبَارُ أَيَّامِ الْعَرَبِ، وَالْقُرُونِ الْوُسْطَى. وَهِيَ كُلُّهَا مِنْ حَقِّهَا فِي الْمَوْصُولِيَّةِ أَنْ تُعَرَّفَ بِ (مَا) الْغَالِبَةِ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهَا مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، فَلَوْ عُرِّفَتْ بِ (مَنْ) الْغَالِبَةِ فِي الْعُقَلَاءِ لَصَحَّ ذَلِكَ وكل ذَلِكَ وَاسِعٌ.
وَقَوْلُهُ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَا يُقَصُّ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ قَطْعُ حِصَّةِ الزَّمَانِ وَلَا إِينَاسُ السَّامِعِينَ بِالْحَدِيثِ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْعِبْرَةُ وَالتَّذْكِرَةُ وَإِيقَاظٌ لِبَصَائِرِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى مَوْضِعِ الِاعْتِبَارِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَهُوَ إِعْرَاضُ الْأُمَّةِ عَنْ هَدْيِ رَسُولِهَا وَانْصِيَاعِهَا إِلَى تَضْلِيلِ الْمُضَلِّلِينَ مِنْ بَيْنِهَا. فَلِلْإِيمَاءِ إِلَى هَذَا قَالَ تَعَالَى: وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ.
وَتَنْكِيرُ ذِكْراً لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ آتَيْنَاكَ كِتَابًا عَظِيمًا. وَقَوْلُهُ مِنْ لَدُنَّا تَوْكِيدٌ لِمَعْنَى آتَيْناكَ وَتَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ عَطِيَّةٌ كَانَتْ مَخْزُونَةً عِنْدَ اللَّهِ فَخَصَّ بِهَا خَيْرَ عِبَادِهِ.
وَجُمْلَةُ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا حَالٌ ثَانِيَةٌ، أَيْ وَمَسُوئِينَ بِهِ. وَ (سَاءَ) هُنَا هُوَ أَحَدُ أَفْعَالِ الذَّمِّ مِثْلَ (بِئْسَ). وَفَاعِلُ ساءَ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ التَّمْيِيزُ الَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ حِمْلًا. وَالْحِمْلُ- بِكَسْرِ الْحَاءِ- اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَحْمُولِ كَالذِّبْحِ بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ.
وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ لَفْظِ وِزْراً عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَسَاءَ لَهُمْ حِمْلًا وِزْرُهُمْ، وَحَذْفُ الْمَخْصُوصِ فِي أَفْعَالِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ شَائِعٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: ٣٠] أَيْ سُلَيْمَانُ هُوَ الْأَوَّابُ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ وَساءَ لَهُمْ لَامُ التَّبْيِينِ. وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لِلْمَفْعُولِ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ: سَاءَهُمُ الْحِمْلُ، فَجِيءَ بِاللَّامِ لِزِيَادَةِ تَبْيِينِ تَعَلُّقِ الذَّمِّ بِحِمْلِهِ، فَاللَّامُ لِبَيَانِ الَّذِينَ تَعَلَّقَ بِهِمْ سُوءُ الْحِمْلِ.
وَالْحِمْلُ- بِكَسْرِ الْحَاءِ- الْمَحْمُولُ مثل الذّبْح.
[١٠٢- ١٠٤]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ١٠٢ إِلَى ١٠٤]
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [طه: ١٠١] فِي قَوْلِهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا [طه: ١٠١]، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ
وَالصُّورُ: قَرْنٌ عَظِيمٌ يُجْعَلُ فِي دَاخِلِهِ سِدَادٌ لِبَعْضِ فَضَائِهِ فَإِذَا نَفَخَ فِيهِ النَّافِخُ بِقُوَّةٍ
خَرَجَ مِنْهُ صَوْتٌ قَوِيٌّ، وَقَدِ اتُّخِذَ لِلْإِعْلَامِ بِالِاجْتِمَاعِ لِلْحَرْبِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٣].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنْفَخُ بِيَاءِ الْغِيبَةِ مَبْنِيًّا للْمَجْهُول، أَي ينْفخ نَافِخٍ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِذَلِكَ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ نَنْفُخُ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَضَمِّ الْفَاءِ- وَإِسْنَادُ النَّفْخِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الْآمِرُ بِهِ، مِثْلَ: بَنَى الْأَمِيرُ الْقَلْعَةَ.
وَالْمُجْرِمُونَ: الْمُشْرِكُونَ وَالْكَفَرَةُ.
وَالزُّرْقُ: جَمْعُ أَزْرَقٍ، وَهُوَ الَّذِي لَوْنُهُ الزُّرْقَةُ. وَالزُّرْقَةُ: لَوْنٌ كَلَوْنِ السَّمَاءِ إِثْرَ الْغُرُوبِ، وَهُوَ فِي جَلْدِ الْإِنْسَانِ قَبِيحُ الْمَنْظَرِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ لَوْنَ مَا أَصَابَهُ حَرْقُ نَارٍ. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الزُّرْقَةَ لَوْنُ أَجْسَادِهِمْ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمرَان: ١٠٦]، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَوْنُ عُيُونِهِمْ، فَقِيلَ: لِأَنَّ زُرْقَةَ الْعَيْنِ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ.
وَالْأَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُرَادَ شِدَّةُ زُرْقَةِ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ لَوْنٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ بِشَارٍ:
وَلِلْبَخِيلِ عَلَى أَمْوَالِهِ عِلَلٌ | زُرْقُ الْعُيُونِ عَلَيْهَا أَوْجُهٌ سُودُ |
وَالتَّخَافُتُ: الْكَلَامُ الْخَفِيُّ مِنْ خَوْفٍ وَنَحْوِهُ. وَتَخَافُتُهُمْ لِأَجْلِ مَا يَمْلَأُ صُدُورَهُمْ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه:
١٠٨].
وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا الِاعْتِذَارَ لِخَطَئِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ انْقِرَاضِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ مُبَالَغَةً فِي الْمُكَابَرَةِ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مَا لَبِثُوا فِي الْقُبُورِ إِلَّا عَشْرَ لَيَالٍ فَلَمْ يَصِيرُوا رُفَاتًا، وَذَلِكَ لِمَا بَقِيَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنِ اسْتِحَالَةِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ تَفَرُّقِ الْأَوْصَالِ، فَزَعَمُوا أَنَّ إِحْيَاءَهُمْ مَا كَانَ إِلَّا بِرَدِّ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ. فَالْمُرَادُ بِاللَّبْثِ: الْمُكْثُ فِي الْقُبُورِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [١١٢، ١١٣]، وَقَوْلُهُ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ فِي سُورَةِ الرّوم [٥٥].
و (إِذْ) ظَرْفٌ، أَيْ يَتَخَافَتُونَ فِي وَقْتٍ يَقُولُ فِيهِ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً. وَالْأَمْثَلُ: الْأَرْجَحُ
الْأَفْضَلُ. وَالْمَثَالَةُ: الْفَضْلُ، أَيْ صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى لِأَنَّ النِّسْبَةَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلتَّمْيِيزِ.
وَالطَّرِيقَةُ: الْحَالَةُ وَالسُّنَّةُ وَالرَّأْيُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الرَّأْيُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى [طه: ٦٣] فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَلَمْ يَأْتِ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى وَصْفِ الْقَائِلِ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً
بِأَنَّهُ أَمْثَلُ طَرِيقَةٍ بِوَجْهٍ تَطْمَئِنُّ لَهُ النَّفْسُ.
وَالَّذِي أَرَاهُ: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ فَإِنْ سَلَكْنَا بِهِ مَسْلَكَ الْحَمْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَقْرَبُهُمْ إِلَى اخْتِلَاقِ الِاعْتِذَارِ عَنْ خَطَئِهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ بِأَنَّهُمْ ظَنُّوا الْبَعْثَ وَاقِعًا بَعْدَ طُولِ الْمُكْثِ فِي الْأَرْضِ طُولًا تَتَلَاشَى فِيهِ أَجْزَاءُ الْأَجْسَامِ، فَلَمَّا وَجَدُوا أَجْسَادَهُمْ كَامِلَةً مِثْلَ مَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً، فَكَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ عُذْرًا لِأَنَّ عَشْرَ اللَّيَالِيَ تَتَغَيَّرُ فِي مِثْلِهَا الْأَجْسَامُ. فَكَانَ الَّذِي قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا
وَإِنْ سَلَكْنَا بِهِ مَسْلَكَ الْمَجَازِ فَهُوَ تَهَكُّمٌ بِالْقَائِلِ فِي سُوءِ تَقْدِيرِهِ مِنْ لَبْثِهِمْ فِي الْقُبُورِ، فَلَمَّا كَانَ كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ متوغّلا فِي الغلظ مُؤْذِنًا بِجَهْلِ الْمُقَدِّرِينَ وَاسْتِبْهَامُ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ دَالًّا عَلَى الْجَهْلِ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي قَضَّى الْأَزْمَانَ الطَّوِيلَةَ وَالْأُمَمَ الْعَظِيمَةَ وَأَعَادَهُمْ بَعْدَ الْقُرُونِ الْغَابِرَةِ، فَكَانَ الَّذِي قُدَّرَ زَمَنَ الْمُكْثِ فِي الْقُبُورِ بِأَقَلِّ قَدْرٍ أَوْغَلَ فِي الْغَلَطِ فَعُبِّرَ عَنْهُ بِ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً تَهَكُّمًا بِهِ وَبِهِمْ مَعًا إِذِ اسْتَوَى الْجَمِيعُ فِي الْخَطَأِ.
وَجُمْلَةُ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ فِعْلِ يَتَخافَتُونَ وَظَرْفِيَّةِ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ، أَيْ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ سِرًّا وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ وَإِنَّنَا نُخْبِرُ عَنْ قَوْلِهِمْ يَوْمَئِذٍ خَبَرَ الْعَلِيم الصَّادِق.
[١٠٥- ١٠٧]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ١٠٥ إِلَى ١٠٧]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً (١٠٦) لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧)
لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْبَعْثِ وَوُصِفَ مَا سَيَنْكَشِفُ لِلَّذِينَ أَنْكَرُوهُ مِنْ خَطَئِهِمْ فِي شُبْهَتِهِمْ بِتَعَذُّرِ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ بَعْدَ تَفَرُّقِ أَجْزَائِهَا ذُكِرَتْ أَيْضًا شُبْهَةٌ مِنْ شُبُهَاتِهِمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ بِهَا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُؤَالَ تَعَنُّتٍ لَا سُؤَالَ اسْتِهْدَاءٍ، فَكَانُوا يُحِيلُونَ انْقِضَاءَ هَذَا الْعَالَمِ وَيَقُولُونَ:
فَأَيْنَ تَكُونُ هَذِهِ الْجِبَالُ الَّتِي نَرَاهَا. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ سَأَلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَهُمْ أَهْلُ جِبَالٍ لِأَنَّ مَوْطِنَهُمُ الطَّائِفُ وَفِيهِ جَبَلُ كَرَى. وَسَوَاءٌ كَانَ سُؤَالُهُمُ اسْتِهْزَاءً أَمِ
اسْتِرْشَادًا، فَقَدْ أَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِمَصِيرِ
«جَاءَ هُنَا (أَيْ قَوْلُهُ فَقُلْ يَنْسِفُها بِفَاءٍ وَكُلُّ سُؤَالٍ فِي الْقُرْآنِ «قُلْ» (أَيْ كُلُّ جَوَابٍ فِي لَفْظٍ مِنْهُ مَادَّةُ سُؤَالٍ) بِغَيْرِ فَاءٍ إِلَّا هَذَا، لِأَنَّ الْمَعْنَى إِنْ سَأَلُوكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ، فَتَضَمَّنَ الْكَلَامُ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ عَنْهَا فَأَجَابَهُمْ قَبْلَ السُّؤَالِ. وَتِلْكَ أَسْئِلَةٌ تَقَدَّمَتْ سَأَلُوا عَنْهَا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ الْجَوَابُ عقب السُّؤَال ا. هـ».
وَأَكَّدَ يَنْسِفُهَا نَسْفًا لِإِثْبَاتِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ لَا اسْتِعَارَةٌ. فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا... إِلَى آخِرِهِ، وَنَنْسِفُ الْجِبَالَ نَسْفًا، فَقُلْ ذَلِكَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ.
وَالنَّسْفُ: تَفْرِيقٌ وَإِذْرَاءٌ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا.
وَالْقَاعُ: الْأَرْضُ السَّهْلَةُ.
وَالصَّفْصَفُ: الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الَّتِي لَا نُتُوءَ فِيهَا.
وَمعنى فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً أَنَّهَا تَنْدَكُّ فِي مَوَاضِعِهَا وَتُسَوَّى مَعَ الْأَرْضِ حَتَّى تَصِيرَ فِي مُسْتَوَى أَرْضِهَا، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِزِلْزَالٍ أَوْ نَحْوِهُ، قَالَ تَعَالَى: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الْوَاقِعَة: ٤- ٦].
وَجُمْلَةُ لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى قَاعًا صَفْصَفاً لِزِيَادَةِ تَصْوِيرِ حَالَةٍ فَيَزِيدُ تَهْوِيلُهَا. وَالْخِطَابُ فِي لَا تَرى فِيها عِوَجاً لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ يُخَاطِبُ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَائِلِيهِ.
وَالْعِوَجُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْوَاوِ-: ضِدُّ الِاسْتِقَامَةِ، وَيُقَالُ:- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْوَاوِ- كَذَلِكَ فَهُمَا مُتَرَادِفَانِ عَلَى الصَّحِيحِ من أَقْوَال أيمة اللُّغَةِ. وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ عَمْرٌو وَاخْتَارَهُ الْمَرْزُوقِيُّ فِي «شَرْحِ الْفَصِيحِ». وَقَالَ جَمَاعَةٌ:- مَكْسُورُ الْعَيْنِ- يَجْرِي عَلَى الْأَجْسَامِ غَيْرِ الْمُنْتَصِبَةِ كَالْأَرْضِ
لِظَاهِرِهَا. وَهُوَ يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ إِطْلَاقِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. وَتَقَدَّمَ هَذَا اللَّفْظُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ فَانْظُرْهُ.
وَالْأَمْتُ: النُّتُوءُ الْيَسِيرُ، أَيْ لَا تَرَى فِيهَا وَهْدَةً وَلَا نُتُوءًا مَا.
وَالْمَعْنَى: لَا تَرَى فِي مَكَان فسقها عِوَجًا وَلَا أمتا.
[١٠٨- ١١٢]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ١٠٨ إِلَى ١١٢]
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢)
جُمْلَةُ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ فِي مَعْنَى الْمُفَرَّعَةِ عَلَى جملَة يَنْسِفُها [طه: ١٠٥]. ويَوْمَئِذٍ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ. وَقُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى عَامِلِهِ
وَالدَّاعِي، قِيلَ: هُوَ الْمَلِكُ إِسْرَافِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَدْعُو بِنِدَاءِ التَّسْخِيرِ وَالتَّكْوِينِ، فَتَعُودُ الْأَجْسَادُ وَالْأَرْوَاحُ فِيهَا وَتَهْطَعُ إِلَى الْمَكَانِ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الدَّاعِي الرَّسُولُ، أَيْ يَتَّبِعُ كُلُّ قَوْمٍ رَسُولَهُمْ.
وعِوَجَ لَهُ حَالٌ مِنَ الدَّاعِيَ. وَاللَّامُ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الدَّاعِي لِلْأَجْلِ، أَيْ لَا عِوَجَ لِأَجْلِ الدَّاعِي، أَيْ لَا يَرُوغُ الْمَدْعُوُّونَ فِي سَيْرِهِمْ لِأَجْلِ الدَّاعِي بَلْ يَقْصِدُونَ مُتَّجِهِينَ إِلَى صَوْبِهِ. وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْمُرَادَ بِالدَّاعِيَ الرَّسُولَ أَنْ يُرَادَ بِالْعِوَجِ الْبَاطِلَ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ نَسَبُوا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِوَجَ كَقَوْلِهِمْ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفرْقَان: ٨]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَكَاذِيبِهِمْ، كَمَا عَرَّضَ بِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً [الْكَهْف: ١].
فَالْمَصْدَرُ الْمَنْفِيُّ أُرِيدَ مِنْهُ نَفْيُ جِنْسِ الْعِوَجِ فِي اتِّبَاعِ الدَّاعِي، بِحَيْثُ لَا يَسْلُكُونَ غَيْرَ الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ، أَوْ لَا يُسْلَكُ بِهِمْ غَيْرُ الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ، أَوْ بِحَيْثُ يَعْلَمُونَ بَرَاءَةَ رَسُولِهِمْ مِنَ الْعِوَجِ.
وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَا تَرى فِيها عِوَجاً [طه: ١٠٧] وَقَوْلِهِ لَا عِوَجَ لَهُ مُرَاعَاةُ النَّظِيرِ، فَكَمَا جَعَلَ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَئِذٍ غَيْرَ مُعْوَجَّةٍ وَلَا نَاتِئَةٍ كَمَا قَالَ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: ١٤] كَذَلِكَ جَعَلَ سَيْرَ النَّاسِ عَلَيْهَا لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا مُرَاوَغَةً.
وَالْخُشُوعُ: الْخُضُوعُ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ مَظْهَرٌ مِنَ الْخُشُوعِ فَمَظْهَرُ الْخُشُوعِ فِي الصَّوْتِ: الْإِسْرَارُ بِهِ، فَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً.
وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَقَوْلِهِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً خِطَابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ لَا يَرَى الرَّائِي وَلَا يَسْمَعُ السَّامِعُ.
وَجُمْلَةُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَتَّبِعُونَ وَإِسْنَادُ الْخُشُوعِ إِلَى الْأَصْوَاتِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، فَإِنَّ الْخُشُوعَ لِأَصْحَابِ الْأَصْوَاتِ أَوِ اسْتُعِيرَ الْخُشُوعُ لِانْخِفَاضِ الصَّوْتِ وَإِسْرَارِهِ، وَهَذَا الْخُشُوعُ مِنْ هَوْلِ الْمَقَامِ.
وَجُمْلَةُ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ كَجُمْلَةِ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ فِي مَعْنَى التَّفْرِيعِ عَلَى وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ، أَيْ لَا يَتَكَلَّمُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ إِلَّا همسا وَلَا يجرؤون عَلَى الشَّفَاعَةِ لِمَنْ يَهُمُّهُمْ نَفْعُهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّ جَلَالَ اللَّهِ وَالْخَشْيَةَ مِنْهُ يَصُدَّانِ عَنِ التَّوَسُّطِ عِنْدَهُ لِنَفْعِ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَفِيهِ تَأْيِيسٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يَجِدُوا شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.
وَاسْتِثْنَاءُ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ مِنْ عُمُومِ الشَّفَاعَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشَّفَاعَةَ تَقْتَضِي شَافِعًا، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلِ فَيَقْتَضِي فَاعِلًا، أَيْ إِلَّا أَنْ يَشْفَعَ مَنْ أذن لَهُ الرحمان فِي أَنْ يَشْفَعَ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ تَامٌّ وَلَيْسَ بِمُفَرَّغٍ.
وَاللَّامُ فِي أَذِنَ لَهُ لَامُ تَعْدِيَةِ فِعْلِ أَذِنَ، مِثْلَ قَوْلِهِ قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [الْأَعْرَاف: ١٢٣]. وَتَفْسِيرُ هَذَا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ مِنْ
قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيُقَالُ لِي: سَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ»
. وَقَوْلُهُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا عَائِدٌ إِلَى مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَهُوَ الشَّافِعُ. وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَي رَضِي الرحمان قَوْلَ الشَّافِعِ لِأَجْلِ الشَّافِعِ، أَيْ إِكْرَامًا لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: ١]
وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ رَضِيَ. وَانْتُصِبَ قَوْلًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ «رَضِيَ» لِأَنَّ رَضِيَ هَذَا يَتَعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الْمَرْضِيِّ بِهِ بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ.
وَجُمْلَةُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ بَيَانِيَّةٌ لِجَوَابِ سُؤَالِ مِنْ قَدْ يَسْأَلُ بَيَانَ مَا يُوجِبُ رِضَى اللَّهِ عَنِ الْعَبْدِ الَّذِي يَأْذَنُ بِالشَّفَاعَةِ فِيهِ. فَبُيِّنَ بَيَانًا إِجْمَالِيًّا بِأَنَّ الْإِذْنَ بِذَلِكَ يَجْرِي عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ عِلْمُ اللَّهِ بِسَائِرِ الْعَبِيدِ وَبِأَعْمَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لِأَنَّ شَأْنَ مَا بَيْنَ الْأَيْدِي أَنْ يَكُونَ وَاضِحًا، وَعَبَّرَ عَنِ السَّرَائِرِ بِمَا خَلْفَهُمْ لِأَنَّ شَأْنَ مَا يُجْعَلُ خَلْفَ الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ مَحْجُوبًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الظَّاهِرَاتِ وَالْخَفِيَّاتِ، أَيْ فَيَأْذَنُ لِمَنْ أَرَادَ تَشْرِيفَهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ بِأَنْ يُشَفَّعَ فِي طَوَائِفَ مِثْلَ مَا وَرَدَ
فِي الْحَدِيثِ «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ»
، أَوْ بِأَنْ يُشَفَّعَ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى فِي الْمَوْقِفِ لِجَمِيعِ النَّاسِ بِتَعْجِيلِ حِسَابِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً تَذْيِيلٌ لِلتَّعْلِيمِ بِعَظَمَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَضَآلَةِ عِلْمِ الْبَشَرِ، نَظِيرُ مَا وَقَعَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ.
وَجُمْلَةُ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ، أَيْ ظَهَرَ الْخُضُوعُ فِي الْأَصْوَاتِ وَالْعَنَاءُ فِي الْوُجُوهِ.
وَالْعَنَاءُ: الذِّلَّةُ، وَأَصْلُهُ الْأَسْرُ، وَالْعَانِي: الْأَسِيرُ. وَلَمَّا كَانَ الْأَسِيرُ تَرْهَقُهُ ذِلَّةٌ فِي وَجْهِهِ أُسْنِدَ الْعَنَاءُ إِلَى الْوُجُوهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَالْجُمْلَةُ كُلُّهَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه: ١٠٢]، فَاللَّامُ فِي الْوُجُوهُ عِوَضٌ عَنْ
وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ التَّعْرِيفُ فِي الْوُجُوهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَيُرَادُ بِ عَنَتِ خَضَعَتْ، أَيْ خَضَعَ جَمِيعُ النَّاسِ إِجْلَالًا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالْحَيُّ: الَّذِي ثَبُتَ لَهُ وَصَفُ الْحَيَاةِ، وَهِيَ كَيْفِيَّةٌ حَاصِلَةٌ لِأَرْقَى الْمَوْجُودَاتِ، وَهِيَ قُوَّةٌ لِلْمَوْجُودِ بِهَا بَقَاءُ ذَاتِهِ وَحُصُولُ إِدْرَاكِهِ أَبَدًا أَوْ إِلَى أَمَدٍ مَا. وَالْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ حَيَاةُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا ذَاتِيَّةٌ غَيْرُ مَسْبُوقَةٍ بِضِدِّهَا وَلَا مُنْتَهِيَةٍ.
وَالْقَيُّومُ: الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ النَّاسِ، مُبَالَغَةً فِي الْقَيِّمِ، أَيِ الَّذِي لَا يَفُوتُهُ تَدْبِيرُ شَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ. وَتَقَدَّمَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٥].
وَجُمْلَةُ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً إِمَّا مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ تُفِيدُ التَّعْلِيلَ أَنْ جُعِلَ التَّعْرِيفُ فِي الْوُجُوهُ عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ وُجُوهُ الْمُجْرِمِينَ. وَالْمَعْنَى: إِذْ قَدْ خَابَ كُلُّ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا وَإِمَّا احْتِرَاسٌ لِبَيَانِ اخْتِلَافِ عَاقِبَةِ عَنَاءِ الْوُجُوهِ، فَمَنْ حَمَلَ ظُلْمًا فَقَدْ خَابَ يَوْمَئِذٍ وَاسْتَمَرَّ عَنَاؤُهُ، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا عَادَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْخَوْفُ بِالْأَمْنِ وَالْفَرَحِ. وَالظُّلْمُ: ظُلْمُ النَّفْسِ.
وَجُمْلَةُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ إِلَخْ: شَرْطِيَّةٌ مُفِيدَةُ قَسِيمَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً. وَصِيغَ هَذَا الْقَسِيمُ فِي صِيغَةِ الشَّرْطِ تَحْقِيقًا لِلْوَعْدِ، وفَلا يَخافُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَاقْتِرَانُهُ بِالْفَاءِ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِمُوَالَاةِ أَدَاةِ الشَّرْطِ، فَتَعَيَّنَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ (لَا) الَّتِي فِيهَا نَاهِيَةً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى نِيَّةِ الِاسْتِئْنَافِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ لَا يَخَافُ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ بِحَذْفِ الْأَلِفِ بَعْدَ الْخَاءِ، عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ نَهْيٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِانْتِفَاءِ. وَكُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ أَلِفٍ فَاحْتَمَلَتِ الْقِرَاءَتَيْنِ. وَأَشَارَ الطِّيبِيُّ إِلَى أَن الْجُمْهُور توَافق قَوْلَهُ تَعَالَى: وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً فِي أَنَّ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ خَبَرِيَّةٌ.
وَقِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ تُفِيدُ عَدَمَ التَّرَدُّدِ فِي حُصُولِ أَمْنِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْهَضْمِ، أَيْ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ خُصُوصِيَّةٌ لَفْظِيَّةٌ وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ خُصُوصِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ.
وَمَعْنَى فَلا يَخافُ ظُلْماً لَا يَخَافُ جَزَاءَ الظَّالِمِينَ لِأَنَّهُ آمِنٌ مِنْهُ بِإِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحَاتِ.
وَالْهَضْمُ: النَّقْصُ، أَيْ لَا يُنْقَصُونَ مِنْ جَزَائِهِمُ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ شَيْئًا كَقَوْلِهِ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود: ١٠٩].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظُّلْمُ بِمَعْنَى النَّقْصِ الشَّدِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الْكَهْف: ٣٣]، أَيْ لَا يَخَافُ إِحْبَاطَ عَمَلِهِ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْهَضْمُ بِمَعْنَى النَّقْصِ الْخَفِيفِ، وَعَطْفُهُ عَلَى الظُّلْمِ عَلَى هَذَا التَّفْسِير احتراس.
[١١٣- ١١٤]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ١١٣ إِلَى ١١٤]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ [طه: ٩٩]، وَالْغَرَضُ وَاحِدٌ، وَهُوَ التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ. فَابْتُدِئَ بِالتَّنْوِيهِ بِهِ جُزْئِيًّا
وَالْإِشَارَةُ بِ كَذلِكَ نَحْوَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ، أَيْ كَمَا سَمِعْتَهُ لَا يُبَيَّنُ بِأَوْضَحَ مِنْ ذَلِكَ.
وقُرْآناً حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي أَنْزَلْناهُ. وَقُرْآنٌ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ.
وَالْمُرَادُ الْمَقْرُوءُ، أَيِ الْمَتْلُوُّ، وَصَارَ الْقُرْآنُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفَاظٍ مُعَيَّنَةٍ مُتَعَبَّدًا بِتِلَاوَتِهَا يَعْجِزُ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْهَا. وَسُمِّيَ قُرْآنًا لِأَنَّهُ نُظِمَ عَلَى أُسْلُوبٍ تَسْهُلُ تِلَاوَتُهُ. وَلُوحِظَ هُنَا الْمَعْنَى الِاشْتِقَاقِيُّ قَبْلَ الْغَلَبَةِ وَهُوَ مَا تُفِيدُهُ مَادَّةُ قَرَأَ مِنْ يُسْرِ تِلَاوَتِهِ وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِفَصَاحَةِ تَأْلِيفِهِ وَتَنَاسُبِ حُرُوفِهِ. وَالتَّنْكِيرُ يُفِيدُ الْكَمَالَ، أَيْ أَكْمَلَ مَا يَقْرَأُ.
وعَرَبِيًّا صِفَةُ قُرْآناً. وَهَذَا وَصْفٌ يُفِيدُ الْمَدْحَ، لِأَنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ أَبْلَغُ اللُّغَاتِ وَأَحْسَنُهَا فَصَاحَةً وَانْسِجَامًا. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالِامْتِنَانِ عَلَى الْعَرَبِ، وَتَحْمِيقٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ حَيْثُ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَكَذَّبُوا بِهِ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠].
وَالتَّصْرِيفُ: التَّنْوِيعُ وَالتَّفْنِينُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٦]، وَقَوْلِهِ وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٤١].
وَذِكْرُ الْوَعِيدِ هُنَا لِلتَّهْدِيدِ، وَلِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً [طه:
١١١].
وَالتَّقْوَى: الْخَوْفُ. وَهِيَ تُسْتَعْمَلُ كِنَايَةً عَنِ الطَّاعَةِ لِلَّهِ، أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يُؤْمِنُوا وَيُطِيعُوا. وَالذِّكْرُ هُنَا بِمَعْنَى التَّذَكُّرِ، أَيْ يُحَدِثُ لَهُمُ الْقُرْآنُ تَذَكُّرًا وَنَظًرَا فِيمَا يَحِقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ.
وَلَمَّا جَرَتْ فِي الْجَزْلِ جَرْيًا كَأَنَّهُ | سَنَا الْفَجْرِ أَحْدَثْنَا لِخَالِقِهَا شُكْرًا |
فَحَرْفُ (لَعَلَّ) اسْتِعَارَة تَبَعِيَّة تنبىء عَنْ تَمْثِيلِيَّةٍ مَكْنِيَّةٍ، وَقَدْ مَضَى مَعْنَى (لَعَلَّ) فِي الْقُرْآنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١].
وَجُمْلَةُ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ. وَهَذَا إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ مُنَزِّلِ الْقُرْآنِ وَعَلَى مِنَّةِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَتَلْقِينٌ لِشُكْرِهِ عَلَى مَا بَيَّنَ لِعِبَادِهِ مِنْ وَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ وَحَمْلِهِمْ عَلَيْهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَتَوْجِيهِهِ إِلَيْهِمْ بِأَبْلَغِ كَلَامٍ وَأَحْسَنِ أُسْلُوبٍ فَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا إِلَى آخِرِهَا...
وَالتَّفْرِيعُ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ ذَلِكَ الْإِنْزَالَ وَالتَّصْرِيفَ وَوَسَائِلَ الْإِصْلَاحِ كلّ ذَلِك ناشىء عَنْ جَمِيلِ آثَارٍ يَشْعُرُ جَمِيعُهَا بِعُلُوِّهِ وَعَظَمَتِهِ وَأَنَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِ مَمْلُوكَاتِهِ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِ الْكَمَالِ وَأَنْفَذِ طُرُقِ السِّيَاسَةِ.
وَفِي وَصْفِهِ بِالْحَقِّ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مُلْكَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُتَسَمَّيْنَ بِالْمُلُوكِ لَا يَخْلُو مِنْ نَقْصٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الْفرْقَان: ٢٦].
وَفِي الْحَدِيثِ: «فَيَقُولُ اللَّهُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ»
، أَيْ أَحْضِرُوهُمْ هَلْ تَجِدُونَ مِنْهُمْ مَنْ يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِ الْخَلِيفَةِ مُعَاوِيَةَ حِينَ خَطَبَ فِي الْمَدِينَةِ «يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ».
ثُمَّ أُتْبِعَ بِ (الْحَقُّ) لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ وَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مُلْكَهُ مُلْكُ حَقٍّ لَا تَصَرُّفَ فِيهِ إِلَّا بِمَا هُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ.
وَالْحَقُّ: الَّذِي لَيْسَ فِي مُلْكِهِ شَائِبَةُ عَجْزٍ وَلَا خُضُوعٍ لِغَيْرِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مُلْكَ غَيْرِهِ زَائِفٌ.
وَفِي تَفْرِيعِ ذَلِكَ عَلَى إِنْزَالِ الْقُرْآنِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ قَانُونُ ذَلِكَ الْمَلِكِ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ السِّيَاسَةُ الْكَامِلَةُ الضَّامِنَةُ صَلَاحَ أَحْوَالِ مُتَّبِعِيهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَجُمْلَةُ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ نَاشِئَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ تَصَارِيفِ إِصْلَاحِ النَّاسِ. فَلَمَّا كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرِيصًا عَلَى صَلَاحِ الْأُمَّةِ شَدِيدَ الِاهْتِمَامِ بِنَجَاتِهِمْ لَا جَرَمَ خَطَرَتْ بِقَلْبِهِ الشَّرِيفِ عَقِبَ سَمَاعِ تِلْكَ الْآيَاتِ رَغْبَةٌ أَوْ طِلْبَةٌ فِي الْإِكْثَارِ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَفِي التَّعْجِيلِ بِهِ إِسْرَاعًا بِعِظَةِ النَّاسِ وَصَلَاحِهِمْ، فَعَلَّمَهُ اللَّهُ أَنْ يَكِلَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِحَيْثُ يُنَاسِبُ حَالَ الْأُمَّةِ الْعَامَّ.
وَمَعْنَى مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتِمَّ وَحْيُ مَا قُضِيَ وَحْيُهُ إِلَيْكَ، أَيْ مَا نُفِّذَ إِنْزَالُهُ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُنَاسِبُ. فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ سُؤَالُ التَّعْجِيلِ أَوِ الرَّغْبَةُ الشَّدِيدَةُ فِي النَّفْسِ الَّتِي تُشْبِهُ الِاسْتِبْطَاءَ لَا مُطْلَقُ مَوَدَّةِ الِازْدِيَادِ، فَقَدْ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخضر- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- «وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا أَوْ مِنْ خَبَرِهِمَا»
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
[الْقِيَامَة: ١٦] كَمَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ». وَعَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَضَاءِ وحيه إِتْمَامه وانتهاؤه، أَيِ انْتِهَاءَ الْمِقْدَارِ الَّذِي هُوَ بِصَدَدِ النُّزُولِ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا تَعْجَلْ بِقِرَاءَةِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِأَصْحَابِكَ وَلَا تُمْلِهِ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَتَبَيَّنَ لَكَ مَعَانِيهِ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ قَضَاءُ الْوَحْيِ تَمَامَ مَعَانِيهِ. وَعَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ يَجْرِي اعْتِبَارُ مَوْقِعِ قَوْلِهِ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُقْضى بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، وَرَفْعِ وَحْيُهُ عَلَى أَنَّهُ نَائِب الْفَاعِل. وقرأه يَعْقُوبُ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَكَسْرِ الضَّادِ وَبِفَتْحَةٍ عَلَى آخِرَ نَقْضِي وَبِنَصْبِ وَحْيَهُ.
وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ اسْتِعْجَالٌ مَخْصُوصٌ وَأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى الِاسْتِعْجَالِ مَحْمُودٌ. وَفِيهِ تَلَطُّفٌ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتْبَعَ نَهْيَهُ عَنِ التَّعَجُّلِ
الَّذِي يَرْغَبُهُ بِالْإِذْنِ لَهُ بِسُؤَالِ الزِّيَادَةِ مِنَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَجْمَعُ كُلِّ زِيَادَةٍ سَوَاءً كَانَتْ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ أَمْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْوَحْيِ وَالْإِلْهَامِ إِلَى الِاجْتِهَادِ تَشْرِيعًا وَفَهْمًا، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ رَغْبَتَهُ فِي التَّعَجُّلِ رَغْبَةٌ صَالِحَةٌ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ النَّبِيءَ رَاكِعًا فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ بَلْ رَكَعَ وَدَبَّ إِلَى الصَّفِّ رَاكِعًا فَقَالَ لَهُ: «زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تعد»
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١١٥]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥)لَمَّا كَانَتْ قِصَّةُ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَعَ قَوْمِهِ ذَاتَ عِبْرَةٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَالْمُعَانِدِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَانَدُوهُ، وَذَلِكَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَصَصِهَا كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً [طه: ٩٩، ١٠٠] فَكَأَنَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحَبَّ الزِّيَادَةَ مِنْ هَذِهِ الْقَصَصِ ذَاتِ الْعِبْرَةِ رَجَاءَ أَنَّ قَوْمَهُ يَفِيقُونَ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: ١١٤] أُعْقِبَتْ تِلْكَ الْقِصَّةُ بِقِصَّةِ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا عَرَّضَ لَهُ بِهِ الشَّيْطَانُ، تَحْقِيقًا لِفَائِدَةِ قَوْلِهِ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤]. فَالْجُمْلَةُ عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ وَالْمُنَاسَبَةُ مَا سَمِعْتَ.
وَالْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ. وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ وَلَامِ الْقَسَمِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْقِصَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى قَصْدِ التَّنْظِيرِ بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ فِي التَّفْرِيطِ فِي الْعَهْدِ، لِأَنَّ فِي الْقِصَّةِ الْأُولَى تَفْرِيطُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عَهْدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ فِيهَا أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ [طه: ٨٦]، وَفِي قِصَّةِ آدَمَ تَفْرِيطًا فِي الْعَهْدِ أَيْضًا. وَفِي كَوْنِ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ فِي الْقِصَّةِ الْأُولَى وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [طه: ٩٦] وَقَالَ فِي هَذِهِ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ [طه: ١٢٠].
وَفِي أَنَّ فِي الْقِصَّتَيْنِ نِسْيَانًا لِمَا يَجِبُ الْحِفَاظُ عَلَيْهِ وَتَذَكُّرُهُ فَقَالَ فِي الْقِصَّةِ الأولى فَنَسِيَ [طه: ١٦] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً.
وَالَّذِي ذُكِرَ: إِمَّا عَهْدُ مُوسَى الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه:
١٣] وَقَوْلِهِ فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى [طه: ١٦] وَإِمَّا عَهْدُ اللَّهِ
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي ذَكَّرَهُمْ بِهِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا رَجِعَ إِلَيْهِمْ غَضْبَانَ أَسِفًا، وَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ [طه: ٨٦] الْآيَةَ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَهْدِ إِلَى آدَمَ: الْعَهْدُ إِلَيْهِ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي أُنْسِيَ فِيهَا.
وَالنِّسْيَانُ: أُطْلِقَ هُنَا عَلَى إِهْمَالِ الْعَمَلِ بِالْعَهْدِ عَمْدًا، كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ السَّامِرِيِّ فَنَسِيَ، فَيَكُونُ عِصْيَانًا، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ الْآيَةَ، وَقَدْ مَضَتْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٠، ٢١]. وَهَذَا الْعَهْدُ هُوَ الْمُبَيَّنُ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه: ١١٧] الْآيَةَ.
وَالْعَزْمُ: الْجَزْمُ بِالْفِعْلِ وَعَدَمُ التَّرَدُّدِ فِيهِ، وَهُوَ مُغَالَبَةُ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْخَاطِرُ مِنَ الِانْكِفَافِ عَنْهُ لِعُسْرِ عَمَلِهِ أَوْ إِيثَارِ ضِدِّهِ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٧]. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْعَزْمُ عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَإِلْغَاءُ مَا يُحَسِّنُ إِلَيْهِ عَدَمَ الِامْتِثَالِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمرَان: ١٥٩]، وَقَالَ فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: ٣٥]، وَهُمْ نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَيَعْقُوبُ، وَيُوسُفُ، وَأَيوب، ومُوسَى، وداوود، وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَاسْتُعْمِلَ نَفْيُ وِجْدَانِ الْعَزْمِ عِنْدَ آدَمَ فِي مَعْنَى عَدَمِ وُجُودِ الْعَزْمِ مِنْ صِفَتِهِ فِيمَا عُهِدَ إِلَيْهِ تَمْثِيلًا لِحَالِ طَلَبِ حُصُولِهِ عِنْدَهُ بِحَالِ الْبَاحِثِ عَلَى عَزْمِهِ فَلَمْ يَجِدْهُ عِنْدَهُ بعد الْبَحْث.
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١١٦]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦)هَذَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ [طه: ١١٥] إِلَى آخِرِهَا، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ بَلْ أَنْ يَكُونَ مَفْصُولًا، فَوُقُوعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْطُوفَةً اهْتِمَامٌ بِهَا لِتَكُونَ قِصَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَتَلْفِتَ إِلَيْهَا أَذْهَانَ السَّامِعِينَ. فَتَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً قِصَّةَ آدَمَ عَلَى قِصَّةِ مُوسَى عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى نَارا [طه: ١٠]، وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، وَتَكُونَ جُمْلَةُ وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ تَذْيِيلًا لِقِصَّةِ هَارُونَ مَعَ السَّامِرِيِّ وَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ هَارُونَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَارُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْمٌ فِي الْحِفَاظِ عَلَى مَا عَهِدَ إِلَيْهِ مُوسَى. وَانْتَهَتِ الْقِصَّةُ بِذَلِكَ التَّذْيِيلِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قِصَّةِ مُوسَى قِصَّةَ آدَمَ تَبَعًا لِقَوْلِهِ كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ [طه: ٩٩].
[١١٧- ١١٩]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ١١٧ الى ١١٩]
فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
قِصَّةُ خَلْقِ آدَمَ وَسُجُودِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَإِبَاءِ الشَّيْطَانِ مِنَ السُّجُودِ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى بَيَانِ مَا اخْتُصَّتْ بِهِ هَاتِهِ السُّورَةُ مِنَ الْأَفَانِينِ وَالتَّرَاكِيبِ.
فَقَوْلُهُ إِنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الشَّيْطَانِ إِشَارَةً مُرَادًا مِنْهَا التَّحْقِيرُ، كَمَا حَكَى اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٣٦] مِنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ، وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٢] إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِهِ.
وَقَوْلُهُ عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ هُوَ كَقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ [٢٢] : وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ. فَذُكِرَتْ عَدَاوَتُهُ لَهُمَا جُمْلَةً هُنَالِكَ
فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) قَوْلُهُ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ تَفْرِيعٌ عَلَى الْإِخْبَارِ بِعَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لَهُ وَلِزَوْجِهِ: بِأَنْ نُهِيَا نَهْيَ تَحْذِيرٍ عَنْ أَنْ يَتَسَبَّبَ إِبْلِيسُ فِي خُرُوجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ الْعَدُوَّ لَا يَرُوقُهُ صَلَاحُ حَالِ عَدُّوِهُ. وَوَقَعَ النَّهْيُ فِي صُورَةِ نَهْيٍ عَنْ عَمَلٍ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ الشَّيْطَانِ لَا مِنْ أَعْمَالِ آدَمَ كِنَايَةً عَنْ نَهْيِ آدَمَ عَنِ التَّأَثُّرِ بِوَسَائِلِ إِخْرَاجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ، كَمَا يُقَالُ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، كِنَايَةً عَنْ: لَا تَفْعَلْ، أَيْ لَا تَفْعَلْ كَذَا حَتَّى أَعْرِفَهُ مِنْكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ خَبَرَ فِعْلِ الْمُخَاطَبِ.
وَأُسْنِدَ تَرَتُّبُ الشَّقَاءِ إِلَى آدَمَ خَاصَّةً دُونَ زَوْجِهِ إِيجَازًا، لِأَنَّ فِي شَقَاءِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ
شَقَاءَ الْآخَرِ لِتَلَازُمِهِمَا فِي الْكَوْنِ مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ شَقَاءَ الذَّكَرِ أَصْلُ شَقَاءِ الْمَرْأَةِ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ.
وتَضْحى مُضَارِعُ ضَحِيَ: كَرَضِيَ، إِذَا أَصَابَهُ حَرُّ الشَّمْسِ فِي وَقْتِ الضُّحَى، وَمَصْدَرُهُ الضَّحْوُ، وَحَرُّ الشَّمْسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هُوَ مَبْدَأُ شِدَّتِهِ، وَالْمَعْنَى: لَا يُصِيبُكَ مَا يُنَافِرُ مِزَاجَكَ، فَالِاقْتِصَارَ عَلَى انْتِفَاءِ الضَّحْوِ هُنَا اكْتِفَاءٌ، أَيْ وَلَا تَصْرَدَ، وَآدَمُ لَمْ يَعْرَفِ الْجُوعَ وَالْعُرْيَ وَالظَّمَأَ وَالضَّحْوَ بِالْوِجْدَانِ، وَإِنَّمَا عَرَفَهَا بِحَقَائِقِهَا ضِمْنَ تَعْلِيمِهِ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَجُمِعَ لَهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَصُولُ كَفَافِ الْإِنْسَانِ فِي مَعِيشَتِهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الِاسْتِكْفَاءَ مِنْهَا سَيَكُونُ غَايَةَ سَعْيِ الْإِنْسَانِ فِي حَيَاته الْمُسْتَقْبلَة، لِأَنَّ الْأَحْوَالَ الَّتِي تُصَاحِبُ التَّكْوِينَ تَكُونُ إِشْعَارًا بِخَصَائِصِ الْمُكَوِّنِ فِي مُقَوِّمَاتِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ تَوْفِيقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِاخْتِيَارِ اللَّبَنِ عَلَى الْخَمْرِ فَقِيلَ لَهُ: لَوِ اخْتَرْتَ الْخَمْرَ لَغَوَتْ أُمَّتُكَ.
وَقَدْ قَرَنَ بَيْنَ انْتِفَاءِ الْجُوعِ وَاللِّبَاسِ فِي قَوْله أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى، وَقَرَنَ بَيْنَ انْتِفَاءِ الظَّمَأِ وَأَلَمِ الْجِسْمِ فِي قَوْله لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ، فِي أَنَّ الْجُوعَ خُلُوُّ بَاطِنِ الْجِسْمِ عَمَّا يَقِيهِ تَأَلُّمَهُ وَذَلِكَ هُوَ الطَّعَامُ، وَأَنَّ الْعُرْيَ خُلُوُّ ظَاهِرِ الْجِسْمِ عَمَّا يَقِيهِ تَأَلُّمَهُ وَهُوَ لَفْحُ الْحَرِّ وقرص الْبرد ولمناسبة بَيْنَ الظَّمَأِ وَبَيْنَ حَرَارَةِ الشَّمْسِ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ أَلَمُ حَرَارَةِ الْبَاطِنِ وَالثَّانِي أَلَمُ حَرَارَةِ الظَّاهِرِ. فَهَذَا اقْتَضَى عَدَمَ اقْتِرَانِ ذِكْرِ الظَّمَأِ وَالْجُوعِ، وَعَدَمِ اقْتِرَانِ ذِكْرِ الْعُرْيِ بِأَلَمِ
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي تَفْرِيقِ النَّظَائِرِ قِصَّةٌ أَدَبِيَّةٌ طَرِيفَةٌ جَرَتْ بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ أَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي ذَكَرَهَا الْمَعَرِّي فِي «مُعْجِزِ أَحْمَدَ» شَرَحِهِ عَلَى «دِيوَانِ أَبِي الطَّيِّبِ» إِجْمَالًا، وَبَسَطَهَا الْوَاحِدِيُّ فِي «شَرْحِهِ عَلَى الدِّيوَانِ». وَهِيَ: أَنَّ أَبَا الطَّيِّبِ لَمَّا أَنْشَدَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ قَصِيدَتَهُ الَّتِي طَالِعُهَا:
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ قَالَ فِي أَثْنَائِهَا يَصِفُ مَوْقِعَةً بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَالرُّومِ فِي ثَغْرِ الْحَدَثِ:
وَقَفْتَ مَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ | كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهُوَ نَائِم |
تمرّ بك الْأَبْطَال كلمى هزيمَة | ووجهك وضّاح وثغرك باسم |
إِنَّ صَدْرَيِ الْبَيْتَيْنِ لَا يُلَائِمَانِ عَجُزَيْهِمَا وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ:
وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ | وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ |
تَمُرُّ بِكَ الْأَبْطَالُ كَلْمَى هَزِيمَةً | كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهْوَ نَائِمُ |
كَأَنِّي لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ | وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ |
وَلَمْ أَسْبَأَ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ أَقُلْ | لِخَيْلِيَ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ |
وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ لِأَجْمَعَ بَيْنَ الْأَضْدَادِ فِي الْمَعْنَى.
وَمَعْنَى هَذَا أَن امْرُؤ الْقَيْسِ خَالَفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي جَمْعِ شَيْئَيْنِ مُشْتَهِرَيِ الْمُنَاسَبَةِ فَجَمَعَ شَيْئَيْنِ مُتَنَاسِبَيْنِ مُنَاسَبَةً دَقِيقَةً، وَأَنَّ أَبَا الطَّيِّبِ خَالَفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مِنْ جَمْعِ النَّظِيرَيْنِ فَفَرَّقَهُمَا لِسُلُوكِ طَرِيقَةٍ أَبْدَعَ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الطِّبَاقِ بِالتَّضَادِّ وَهُوَ أَعْرَقُ فِي صِنَاعَةِ الْبَدِيعِ.
وَجُعِلَتِ الْمِنَّةُ عَلَى آدَمَ بِهَذِهِ النِّعَمِ مَسُوقَةً فِي سِيَاقِ انْتِفَاءِ أَضَدَادِهَا لِيُطْرَقَ سَمْعُهُ بِأَسَامِي أَصْنَافِ الشَّقْوَةِ تَحْذِيرًا مِنْهَا لِكَيْ يَتَحَامَى مَنْ يَسْعَى إِلَى إِرْزَائِهِ مِنْهَا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَإنَّك لَا تظمؤا- بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) - عَطْفًا لِلْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وَأَنَّكَ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- عَطْفًا عَلَى أَلَّا تَجُوعَ عَطْفَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ، أَيْ إِنَّ لَكَ نَفْيَ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ وَنَفْيَ الظَّمَأِ وَالضَّحْوِ.
وَقَدْ حَصَلَ تَأْكِيدُ الْجَمِيعِ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِ (إِنْ) وَبِأُخْتِهَا، وَبَيْنَ الأسلوبين تفنّن.
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١٢٠]
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى (١٢٠)قَوْلُهُ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ. وَالْفَاءُ لِتَعْقِيبِ مَضْمُونِ جُمْلَتِهَا عَلَى مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ تَعْقِيبٌ نِسْبِيٌّ بِمَا يُنَاسِبُ مُدَّةً تَقَلُّبٍ فِي خِلَالِهَا بِخَيْرَاتِ الْجَنَّةِ حَتَّى حَسَدَهُ الشَّيْطَانُ وَاشْتَدَّ حَسَدُهُ.
وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (وَسْوَسَ) هُنَا بِحَرْفِ (إِلَى) وَبِاللَّامِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٠] فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ بِاعْتِبَارِ كَيْفِيَّةِ تَعْلِيقِ الْمَجْرُورِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ فِي قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ، فَإِنَّهُ فِعْلٌ قَاصِرٌ لَا غِنًى لَهُ عَنِ التَّعْدِيَةِ بِالْحَرْفِ، فَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ (إِلَى) هُنَا بِاعْتِبَارِ انْتِهَاءِ الْوَسْوَسَةِ إِلَى آدَمَ وَبُلُوغِهَا إِيَّاهُ، وَتَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ فِي الْأَعْرَافِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَسْوَسَةَ كَانَتْ لِأَجْلِهِمَا.
وَجُمْلَةُ قالَ يَا آدَمُ [طه: ١١٧] بَيَانٌ لجملة فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِثَالٌ لِلْجُمْلَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِغَيْرِهَا فِي عِلْمِ الْمَعَانِي.
وَهَذَا الْقَوْلُ خَاطِرٌ أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ فِي نَفْسِ آدَمَ بِطَرِيقِ الْوَسْوَسَةِ وَهِيَ الْكَلَامُ الْخَفِيُّ إِمَّا بِأَلْفَاظٍ نَطَقَ بِهَا الشَّيْطَانُ سِرًّا لِآدَمَ لِئَلَّا يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ فَيُحَذِّرُوا آدَمَ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ، فَيَكُونَ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَإِمَّا بِمُجَرَّدِ تَوَجُّهٍ أَرَادَهُ الشَّيْطَانُ كَمَا يُوَسْوِسُ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهِ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ الْمُشَابَهَةِ.
وهَلْ أَدُلُّكَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ، وَهُوَ انْسَبُ الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ لِلِاسْتِفْهَامِ لِقُرْبِهِ مِنْ حَقِيقَتِهِ.
وَالِافْتِتَاحُ بِالنِّدَاءِ لِيَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ.
وَالشَّجَرَةُ هِيَ الَّتِي نَهَاهُ اللَّهُ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا دُونَ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ، وَلَمْ يُذْكَرِ النَّهْيُ
عَنْهَا هُنَا وَذُكِرَ فِي قِصَّةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَهَذَا الْعَرْضُ مُتَقَدِّمٌ
وَالدَّلَالَةُ: الْإِرْشَادُ إِلَى شَيْءٍ مَطْلُوبٍ غَيْرِ ظَاهِرٍ لِطَالِبِهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الشَّجَرَةِ لِقَصْدِ الْأَكْلِ مِنْ ثَمَرَتِهَا.
وَسَمَّاهَا هُنَا شَجَرَةِ الْخُلْدِ بِالْإِجْمَالِ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى تَعْيِينِهَا حَتَّى يُقْبِلَ عَلَيْهَا، ثُمَّ عَيَّنَهَا لَهُ عَقِبَ ذَلِكَ بِمَا أَنْبَأَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَكَلا مِنْها [طه: ١٢١].
وَقَدْ أَفْصَحَ هَذَا عَنِ اسْتِقْرَارِ مَحَبَّةِ الْحَيَاةِ فِي جِبِلَّةِ الْبَشَرِ.
وَالْمُلْكُ: التَّحَرُّرُ مِنْ حُكْمِ الْغَيْرِ، وَهُوَ يُوهِمُ آدَمَ أَنَّهُ يَصِيرُ هُوَ الْمَالِكُ لِلْجَنَّةِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا غَيْرَ مَأْمُورٍ لِآمِرٍ.
وَاسْتُعْمِلَ الْبِلَى مَجَازًا فِي الِانْتِهَاءِ، لِأَنَّ الثَّوْبَ إِذَا بَلِيَ فَقَدِ انْتهى لبسه.
[١٢١- ١٢٢]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ١٢١ إِلَى ١٢٢]
فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢)
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا الْعَرْضُ، أَيْ فَعَمِلَ آدَمُ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فَأَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَأَكَلَتْ حَوَّاءُ مَعَهُ.
وَقَوْلُهُ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ عَطَفٌ عَلَى فَأَكَلا مِنْها، أَيْ أَكَلَا مَعًا، وَتَعَمَّدَ آدَمُ مُخَالَفَةَ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَنِ الْأَكْلِ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ. وَإِثْبَاتُ الْعِصْيَانِ لِآدَمَ دُونَ زَوْجِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ كَانَ قُدْوَةً لِزَوْجِهِ فَلَمَّا أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ تَبِعَتْهُ زَوْجُهُ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا [التَّحْرِيم: ٦].
وَالْغِوَايَةُ: ضِدُّ الرُّشْدِ، فَهِيَ عَمَلٌ فَاسِدٌ أَوِ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ، وَإِثْبَاتُ الْعِصْيَانِ لِآدَمَ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمئِذٍ نبيئا، ولأنّه كَانَ فِي عَالَمٍ غَيْرِ عَالَمِ التَّكْلِيفِ وَكَانَتِ الْغَوَايَةُ كَذَلِكَ، فَالْعِصْيَانُ وَالْغِوَايَةُ يَوْمَئِذٍ: الْخُرُوجُ عَنِ الِامْتِثَالِ فِي التَّرْبِيَةُ كَعِصْيَانِ بَعْضِ الْعَائِلَةِ أَمْرَ كَبِيرِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ شَنِيعًا لِأَنَّهُ عِصْيَانُ أَمْرِ اللَّهِ.
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُسْتَنَدٌ لِتَجْوِيزِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَلَا لِمَنْعِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَالَمَ لَمْ يَكُنْ عَالَمَ تَكْلِيفٍ.
وَجُمْلَةُ ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَعَصى آدَمُ وَجُمْلَةِ قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً، لِأَنَّ الِاجْتِبَاءَ وَالتَّوْبَةَ عَلَيْهِ كَانَا بَعْدَ أَنْ عُوقِبَ آدَمُ وَزَوْجُهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَرَتُّبِ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْجَنَّةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ دُونَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى التَّوْبَةِ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ التَّعْجِيلُ بِبَيَانِ مَآلِ آدَمَ إِلَى صَلَاحٍ.
وَالْهِدَايَةُ: الْإِرْشَادُ إِلَى النَّفْعِ. وَالْمُرَادُ بِهَا إِذَا ذُكِرَتْ مَعَ الِاجْتِبَاءِ فِي الْقُرْآنِ النُّبُوءَةُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ.
[١٢٣- ١٢٧]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ١٢٣ الى ١٢٧]
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧)
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ آدَمَ بِالْعِصْيَانِ وَالْغِوَايَةِ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ سُؤَالًا عَنْ جَزَاءِ ذَلِكَ. وَضَمِيرُ قالَ عَائِدٌ إِلَى رَبَّهُ [طه: ١٢١] مِنْ قَوْلِهِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ وَالْخِطَابُ لِآدَمَ وَإِبْلِيسَ.
وَالْأَمْرُ فِي اهْبِطا أَمْرُ تَكْوِينٍ، لِأَنَّهُمَا عَاجِزَانِ عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الأَرْض إلّا بِتَكْوِينٍ مِنَ اللَّهِ إِذْ كَانَ قَرَارُهُمَا فِي عَالَمِ الْجَنَّةِ بِتَكْوِينِهِ تَعَالَى.
وجَمِيعاً يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْمٌ لِمَعْنَى كُلِّ أَفْرَادِ مَا يُوصَفُ بِجَمِيعٍ، وَكَأَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ يَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ مِثْلَ: فَرِيقٍ، وَلِذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَغَيْرُهُ وَالْوَاحِدُ وَغَيْرُهُ، قَالَ تَعَالَى:
فَكِيدُونِي جَمِيعاً [هود: ٥٥] وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ هُنَا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ اهْبِطا.
وَجُمْلَةُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنْ ضَمِيرِ اهْبِطا. فَالْمَأْمُورُ بِالْهُبُوطِ مِنَ الْجَنَّةِ آدَمُ وَإِبْلِيسُ وَأَمَّا حَوَّاءُ فَتَبَعٌ لِزَوْجِهَا.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ بَعْضُكُمْ خُطَّابٌ لِآدَمَ وَإِبْلِيسَ. وَخُوطِبَا بِضَمِيرِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ عَدَاوَةُ نَسْلَيْهِمَا، فَإِنَّهُمَا أَصْلَانِ لِنَوْعَيْنِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَنَوْعِ الشَّيْطَانِ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ يَأْتِيَنَّكُمْ لِآدَمَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَصْلٌ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ إِشْعَارًا لَهُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْهُ جَمَاعَةٌ، وَلَا يَشْمَلُ هَذَا الْخِطَابُ إِبْلِيسَ لِأَنَّهُ مَفْطُورٌ عَلَى الشَّرِّ وَالضَّلَالِ إِذْ قَدْ أَنْبَأَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ عِنْدَ إِبَايَتِهِ السُّجُودَ لِآدَمَ، فَلَا يُكَلِّفُهُ اللَّهُ بِاتِّبَاعِ الْهُدَى، لِأَنَّ طَلَبَ الِاهْتِدَاءِ مِمَّنْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ لَا يَزَالُ فِي ضَلَالٍ يُعَدُّ عَبَثًا يُنَزَّهُ عَنْهُ فِعْلُ الْحَكِيمِ تَعَالَى. وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ أَمْرِ أَبِي جَهْلٍ وَأَضْرَابِهِ بِالْإِسْلَامِ إِذْ أَمْثَالُ أَبِي جَهْلٍ لَا يُوقَنُ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، قَالُوا:
وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِيَّايَ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي فَأَسْلَمَ»
. فَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ دَعَاهُ لِلْإِسْلَامِ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ قَرِينَهُ إِلَى أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْخَيْرِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَرِينِ: شَيْطَانٌ قَرِينٌ، وَالْمُرَادُ بِالْهُدَى: الْإِرْشَادُ إِلَى الْخَيْرِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وِصَايَةُ اللَّهِ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ بِاتِّبَاعِ رُسُلِ اللَّهِ وَالْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ طَلَبَ الْهُدَى مَرْكُوزٌ فِي الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ: إِنَّ مَعْرِفَةَ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ كَائِنَةٌ فِي الْعُقُولِ أَوْ شَائِعَةٌ فِي الْأَجْيَالِ وَالْعُصُورِ. وَإِنَّهُ لِذَلِكَ لَمْ يُعْذَرْ أَهْلُ الشِّرْكِ فِي مُدَدِ الْفِتَرِ الَّتِي لم تجىء فِيهَا رُسُلٌ لِلْأُمَمِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ وَقَدِ اسْتَوْعَبَهَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ، وَحَرَّرْنَاهَا فِي «رِسَالَةِ النَّسَبِ النَّبَوِيِّ».
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ الْجُمْلَتَيْنِ الْأَوَّلَيْنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فَلا يَضِلُّ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا اتَّبَعَ الْهُدَى الْوَارِدَ مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ سَلِمَ مِنْ أَنْ يَعْتَرِيَهُ شَيْءٌ مِنْ ضَلَالٍ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ دَلَالَةِ الْفِعْلِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ عَلَى الْعُمُومِ كَعُمُومِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَيْ فَلَا يَعْتَرِيَهُ ضَلَالٌ فِي الدُّنْيَا، بِخِلَافِ مَنِ اتَّبَعَ مَا فِيهِ هُدًى وَارِدٌ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ وَإِنِ اسْتَفَادَ هُدًى فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَا يَسْلَمُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الضَّلَالِ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى. وَهَذَا حَالُ مُتَّبِعِي الشَّرَائِعِ غَيْرِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ الشَّرَائِعُ الْوَضْعِيَّةُ فَإِنَّ وَاضِعِيهَا وَإِنْ أَفْرَغُوا جُهُودَهُمْ فِي تَطَلُّبِ الْحَقِّ لَا يَسْلَمُونَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي ضَلَالَاتٍ بِسَبَبِ غَفَلَاتٍ، أَوْ تَعَارُضِ أَدِلَّةٍ، أَوِ انْفِعَالٍ بِعَادَاتٍ مُسْتَقِرَّةٍ، أَوْ مُصَانَعَةٍ لِرُؤَسَاءٍ أَوْ أُمَمٍ رَأَوْا أَنَّ مِنَ الْمَصْلَحَةِ طَلَبَ مَرْضَاتِهِمْ. وَهَذَا سُقْرَاطُ وَهُوَ سَيِّدُ حُكَمَاءِ الْيُونَانِ قَدْ كَانَ يَتَذَرَّعُ لِإِلْقَاءِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي أَثِينَا بِأَنْ يُفْرِغَهُ فِي قَوَالِبِ حِكَايَاتٍ عَلَى أَلْسِنَةِ الْحَيَوَانِ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنَ الْخُنُوعِ لِمُصَانَعَةِ اللَّفِيفِ فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَرَى تَأْلِيهَ آلِهَتِهِمْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ
وَالشَّقَاءُ الْمَنْفِيُّ فِي قَوْلِهِ وَلا يَشْقى هُوَ شَقَاءُ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ إِذَا سَلِمَ مِنَ الضَّلَالِ فِي الدُّنْيَا سَلِمَ مِنَ الشَّقَاءِ فِي الْآخِرَةِ.
وَيَدُلُ لِهَذَا مُقَابَلَةُ ضِدِّهِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى، إِذْ رَتَّبَ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ هَدْيِ اللَّهِ اخْتِلَالَ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالْمَعِيشَةُ مُرَادٌ بِهَا مُدَّةُ الْمَعِيشَةِ، أَيْ مُدَّةُ الْحَيَاةِ.
وَالضَّنْكُ: مَصْدَرُ ضَنُكَ، مِنْ بَابِ كَرُمَ ضَنَاكَةً وَضَنْكًا، وَلِكَوْنِهِ مَصْدَرًا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَفْظُهُ
بِاخْتِلَافِ مَوْصُوفِهِ، فَوَصَفَ بِهِ هُنَا مَعِيشَةً وَهِيَ مُؤَنَّثٌ. وَالضَّنْكُ: الضِّيقُ، يُقَالُ: مَكَانٌ ضَنْكٌ، أَيْ ضَيِّقٌ. وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي عُسْرِ الْأُمُورِ فِي الْحَيَاةِ، قَالَ عَنْتَرَةُ:
إِنْ يَلْحَقُوا أَكْرُرْ وَإِنْ يَسْتَلْحِمُوا | أَشْدُدْ وَإِنْ نَزَلُوا بِضَنْكٍ أَنْزِلِ |
وَجُمْلَةُ قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا.
وَجُمْلَةُ قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ إِلَخْ وَاقِعَةٌ فِي طَرِيقِ الْمُحَاوَرَةِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَبْلَغَ الْإِنْسَانَ مِنْ يَوْمِ نَشْأَتِهِ التَّحْذِيرَ مِنَ الضَّلَالِ وَالشِّرْكِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا فِي الْفِطْرَةِ حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ: بِأَنَّ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ مِنَ الْأُمَم الَّتِي يكون فِي الفتر بَيْنَ الشَّرَائِعِ مُسْتَحِقٌّ صَاحِبُهُ الْعِقَابَ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ قَاطِبَةً: إِنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ بِالْعَقْلِ (١)، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِهَا فِي الْقُرْآنِ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ إِلَى الْحَذَرِ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِنْذَارٌ لَهُمْ بِعَاقِبَةٍ مِثْلِ حَالِهِمْ.
وَالْإِشَارَةُ فِي كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَمَى الْمُضَمَّنِ فِي قَوْلِهِ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى، أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْحَالِ الَّتِي تَسَاءَلْتَ عَنْ سَبَبِهَا كُنْتَ نَسِيتَ آيَاتِنَا حِينَ أَتَتْكَ، وَكُنْتَ تُعْرِضُ عَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ حِينَ تُدْعَى إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْحَالُ كَانَ عِقَابُكَ عَلَيْهِ جَزَاءً وِفَاقًا.
وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ نَظْمِ الْآيَةِ أَنَّ فِيهَا ثَلَاثَةُ احْتِبَاكَاتٍ، وَأَنَّ تَقْدِيرَ الْأَوَّلِ: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى وَنَنْسَاهُ، أَيْ نُقْصِيهِ مِنْ رَحْمَتِنَا. وَتَقْدِيرُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا
فَنَسِيتَهَا وَعَمِيتَ عَنْهَا فَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَتُحْشَرُ أَعْمَى.
_________
(١) فِي المطبوعة (بِالْفِعْلِ).
وَجُمْلَةُ وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ إِلَخْ تَذْيِيلٌ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ حِكَايَةِ مَا يُخَاطِبُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قُصِدَ مِنْهَا التَّوْبِيخُ لَهُ وَالتَّنْكِيلُ، فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ الْجُمْلَةَ عَلَى الَّتِي قَبْلِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَذْيِيلًا لِلْقِصَّةِ وَلَيْسَتْ مِنَ الْخِطَابِ الْمُخَاطَبِ بِهِ مَنْ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قُصِدَ مِنْهَا مَوْعِظَةُ السَّامِعِينَ لِيَحْذَرُوا مِنْ أَنْ يَصِيرُوا إِلَى مَثَلِ ذَلِكَ الْمَصِيرِ. فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِأَنَّ التَّذْيِيلَ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَالْوَاوُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ إِلَّا أَنَّهَا عَاطِفَةٌ مَجْمُوعَ كَلَامٍ عَلَى مَجْمُوعِ كَلَامٍ آخَرَ لَا عَلَى بَعْضِ الْكَلَامِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَالْمَعْنَى: وَمِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ، أَيْ كَفَرَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ.
فَالْإِسْرَافُ: الِاعْتِقَادُ الضَّالُّ وَعَدَمُ الْإِيمَانِ بِالْآيَاتِ ومكابرتها وتكذيبهما.
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَكَذلِكَ هُوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، أَيْ وَكَذَلِكَ نَجْزِي فِي الدُّنْيَا الَّذِينَ أَسْرَفُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِالْآيَاتِ.
وَأَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى، وَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَذْيِيلًا لِلْقِصَّةِ وَلَيْسَ مِنْ حِكَايَةِ خِطَابِ اللَّهِ لِلَّذِي حَشَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. فَالْمُرَادُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ مُقَابِلُ عَذَابِ الدُّنْيَا الْمُفَادِ مِنْ قَوْلِهِ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً الْآيَةَ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مِنْ حِكَايَةِ خِطَابِ اللَّهِ لِلَّذِي يَحْشُرُهُ أَعْمَى، فَالْمُرَادُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ الْعَذَابُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْمُخَاطَبُ، أَيْ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَأَبْقَى مِنْهُ لِأَنَّهُ أطول مُدَّة.
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١٢٨]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨)تَفْرِيعٌ عَلَى الْوَعِيدِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ [طه: ١٢٧]. جَعَلَ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ التَّعْجِيبِيَّ مُفَرَّعًا عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْجَزَاءِ بِالْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، تَعْجِيبًا مَنْ حَالِ غَفْلَةِ الْمُخَاطَبِينَ الْمُشْرِكِينَ عَمَّا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُمَاثِلَةِ لَهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ كُتُبِ
اللَّهِ وَآيَاتِ الرُّسُلِ.
فَضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ عَائِدَةٌ إِلَى مَعْرُوفٍ مِنْ مَقَامِ التَّعْرِيضِ بِالتَّحْذِيرِ وَالْإِنْذَارِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَالًا لِقَوْمٍ أَحْيَاءٍ يَوْمَئِذٍ.
وَالْهِدَايَةُ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِلْإِرْشَادِ إِلَى الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ بِتَنْزِيلِ الْعَقْلِيِّ منزلَة الحسيّ، فيؤول مَعْنَاهَا إِلَى مَعْنَى التَّبْيِينِ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَ فِعْلُهَا بِاللَّامِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٠٠].
وَجُمْلَةُ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ مُعَلِّقَةُ فِعْلِ يَهْدِ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولِ لِوُجُودِ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهَا، أَيْ أَلَمْ يُرْشِدْهُمْ إِلَى جَوَابٍ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أَيْ كَثْرَةُ إِهْلَاكِنَا الْقُرُونَ. وَفَاعِلُ يَهْدِ ضَمِيرٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَهُوَ ضَمِيرُ الْجَلَالَةِ، وَالْمَعْنَى: أَفَلَمْ يَهْدِ اللَّهُ لَهُمْ جَوَابَ كَمْ أَهْلَكْنا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ مَضْمُونُ جُمْلَةِ كَمْ أَهْلَكْنا.
وَالْمَعْنَى: أَفَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ هَذَا السُّؤَالَ، عَلَى أَنَّ مَفْعُولَ يَهْدِ مَحْذُوفٌ تَنْزِيلًا لِلْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ يَحْصُلُ لَهُمُ التَّبْيِينُ.
وَجُمْلَةُ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ، لِأَنَّ عَدَمَ التَّبْيِينِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَشَدُّ غَرَابَةً وَأَحْرَى بِالتَّعْجِيبِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ هَلَاكِ تِلْكَ الْقُرُونِ. فَحَرْفُ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَلِلْإِيذَانِ بِالتَّعْلِيلِ.
والنهى- بِضَمِّ النُّونِ- وَالْقَصْرِ جَمْعُ نُهْيَةٍ- بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ-: اسْمُ الْعَقْلِ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ النُّهَى مُفْرَدًا بِمَعْنَى الْعَقْلِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِتِلْكَ الْآيَاتِ بِأَنَّهُمْ عَدِيمُو الْعُقُولِ، كَقَوْلِهِ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الْفرْقَان:
٤٤].
[١٢٩- ١٣٠]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ١٢٩ إِلَى ١٣٠]
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠)
جُمْلَةُ وَلَوْلا كَلِمَةٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ [طه: ١٢٨] بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنَ التَّحْذِيرِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْعِبْرَةِ بِالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، وبأنهم جَدِيرُونَ بِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ. فَلَمَّا كَانُوا قَدْ غَرَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ بِتَكْذِيبِ الْوَعِيدِ لِمَا رَأَوْا مِنْ تَأَخُّرِ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ فَكَانُوا يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سبأ: ٢٩] عَقَّبَ وَعِيدَهُمْ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا يُزِيلُ غُرُورَهُمْ بِأَنَّ سَبَبَ التَّأْخِيرِ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ لِحِكَمٍ يَعْلَمُهَا. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ
وَالْكَلِمَةُ: مُسْتَعْمَلَةٌ هُنَا فِيمَا شَأْنُهُ أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ الْكَلِمَاتُ اللَّفْظِيَّةُ مِنَ الْمَعَانِي، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ الرَّاجِعِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا سَيُبْرِزُهُ لِلنَّاسِ مِنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ أَوْ أَمْرِ التَّشْرِيعِ، أَوِ الْوَعْظِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ [١١٠].
فَالْكَلِمَةُ هَنَا مُرَادٌ بِهَا: مَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنْ تَأْجِيلِ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، فَاللَّهُ تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ أَنْظَرَ قُرَيْشًا فَلَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ الْعَذَابَ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُنْشَرَ الْإِسْلَامَ بِمَنْ يُؤْمِنُ مِنْهُمْ وَبِذُرِّيَّاتِهِمْ. وَفِي ذَلِكَ كَرَامَةٌ لِلنَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَيْسِيرِ أَسْبَابِ بَقَاءِ شَرْعِهِ وَانْتِشَارِهِ لِأَنَّهُ الشَّرِيعَةُ الْخَاتِمَةُ. وَخَصَّ اللَّهُ مِنْهُمْ بِعَذَابِ السَّيْفِ وَالْأَسَرِ مَنْ كَانُوا أَشِدَّاءَ فِي التَّكْذِيبِ وَالْإِعْرَاضِ حِكْمَةً مِنْهُ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْأَنْفَال: ٣٣- ٣٤].
وَاللزَام- بِكَسْرِ اللَّامِ-: مَصْدَرُ لَازَمَ: كَالْخِصَامِ، اسْتُعْمِلَ مَصْدَرَا لِفِعْلِ لَزِمَ الثَّانِي لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ حَاصِلٌ مِنْ عِدَّةِ نَاسٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَزْنُ فِعَالٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، مِثْلَ لِزَازٍ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ:
مِنَّا لِزَازٌ كَرِيهَةٌ جُذَّامُهَا وَسِدَادٍ فِي قَوْلِ الْعَرَجِيِّ:
أَضَاعُونِي وَأَيُّ فَتًى أَضَاعُوا | لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ |
وَأَجَلٌ مُسَمًّى عَطْفٌ عَلَى كَلِمَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ وَأَجَلٌ مُسَمًّى يَقَعُ عِنْدَهُ الْهَلَاكُ لَكَانَ إِهْلَاكُهُمْ لِزَامًا. وَالْمُرَادُ بِالْأَجَلِ: مَا سَيُكْشَفُ لَهُمْ مِنْ حُلُولِ الْعَذَابِ: إِمَّا فِي الدُّنْيَا بِأَنْ حَلَّ بِرِجَالٍ مِنْهُم وَهُوَ عَذَابُ الْبَطْشَةِ الْكُبْرَى يَوْمَ بَدْرٍ وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ مَا سَيَحِلُّ بِمَنْ مَاتُوا كُفَّارًا مِنْهُمْ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً [الْفرْقَان: ٧٧].
وَيَظْهَرُ أَنَّهُ شَاعَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ تَأْوِيلُ اسْمِ اللِّزَامِ أَنَّهُ عَذَابٌ تَوَعَّدَ اللَّهُ بِهِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: هُوَ عَذَابُ يَوْمَ بَدْرٍ. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَانُ، وَالْقَمَرُ، وَالرُّومُ، وَالْبَطْشَةُ، وَاللِّزَامُ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً». يُرِيدُ بِذَلِكَ إِبْطَالَ أَنْ يَكُونَ اللِّزَامُ مُتَرَقَّبًا فِي آخِرِ الدُّنْيَا. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُحْوِجُ إِلَى تَأْوِيلِ اللِّزَامِ بِهَذَا كَمَا عَلِمْتَ.
وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُونَ مِنَ التَّكْذِيبِ وَبِالْوَعِيدِ لِتَأْخِيرِ نُزُولِهِ بِهِمْ. وَالْمَعْنَى: فَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمُ الْعَذَابَ وَاصْبِرْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَنَحْوُهُ الشَّامِلُ لَهُ الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ مَا يَقُولُونَ.
وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُقْبِلَ عَلَى مُزَاوَلَةِ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ وَتَزْكِيَةِ أَهْلِهِ بِالصَّلَاةِ، والإعراض عَمَّا متع اللَّهُ الْكُفَّارَ بِرَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ، وَوَعَدَهُ بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
فَالتَّسْبِيحُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الصَّلَاةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى تَسْبِيحِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِحَمْدِ رَبِّكَ لِلْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ مُلَابَسَةُ الْفَاعِلِ لِفِعْلِهِ، أَيْ سَبِّحْ حَامِدًا رَبَّكَ، فَمَوْقِعُ الْمَجْرُورِ مَوْقِعُ الْحَالِ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ (فَسَبِّحْ). وَذَلِكَ وَقْتَا الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ.
وَأُدْخِلَتِ الْفَاءُ عَلَى فَسَبِّحْ لِأَنَّهُ لَمَّا قُدِّمَ عَلَيْهِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ لِلِاهْتِمَامِ شَابَهَ تَقْدِيمَ أَسْمَاءِ الشَّرْطِ الْمُفِيدَةِ مَعْنَى الزَّمَانِ، فَعُومِلَ الْفِعْلُ مُعَامَلَةَ جَوَابِ الشَّرْطِ
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»
، أَيِ الْأَبَوَيْنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٧٩].
وَوَجْهُ الِاهْتِمَامِ بِآنَاءِ اللَّيْلِ أَنَّ اللَّيْلَ وَقْتٌ تَمِيلُ فِيهِ النُّفُوسُ إِلَى الدَّعَةِ فَيُخْشَى أَنْ تَتَسَاهَلَ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِيهِ.
وَآنَاءِ اللَّيْلِ: سَاعَاتُهُ. وَهُوَ جَمْعُ إِنْيٌ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَيَاءٍ فِي آخِرِهِ.
وَيُقَالُ: إِنْوٌ- بِوَاوٍ فِي آخِرِهِ. وَيُقَالُ: إِنًى- بِأَلْفٍ فِي آخِرِهِ مَقْصُورًا- وَيُقَالُ: أَنَاءٌ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي أَوَّلِهِ وَبِمَدٍّ فِي آخِرِهِ- وَجَمْعُ ذَلِكَ عَلَى آنَاءٍ بِوَزْنِ أَفْعَالٍ.
وَقَوْلُهُ وَأَطْرافَ النَّهارِ بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَطَرَفُ الشَّيْءِ مُنْتَهَاهُ. قِيلَ: الْمُرَادُ أَوَّلُ النَّهَارِ وَآخِرُهُ، وَهُمَا وَقْتَا الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْبَعْضِ، كَقَوْلِهِ حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [الْبَقَرَة: ٢٣٨]. وَقِيلَ: الْمُرَادُ طَرَفُ سَيْرِ الشَّمْسِ فِي قَوْسِ الْأُفُقِ، وَهُوَ بُلُوغُ سَيْرِهَا وَسَطَ الْأُفُقِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالزَّوَالِ، وَهُمَا طَرَفَانِ طَرَفُ النِّهَايَةِ وَطَرَفُ الزَّوَالِ، وَهُوَ
وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ فَلِلنَّهَارِ طَرَفَانِ لَا أَطْرَافٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ فَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ وَأَطْرافَ النَّهارِ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْجَمْعِ عَلَى الْمُثَنَّى، وَهُوَ مُتَّسَعٌ فِيهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: ٤].
وَالَّذِي حَسَّنَهُ هُنَا مُشَاكَلَةُ الْجَمْعِ لِلْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَعَلَّكَ تَرْضى - بِفَتْحِ التَّاءِ- بِصِيغَةِ الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ رَجَاءً لَكَ أَنْ تَنَالَ مِنَ الثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ مَا تَرْضَى بِهِ نَفْسُكَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَعَلَّ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنَ الصَّلَوَاتِ مَا تَرْضَى بِهِ نَفْسُكَ دُونَ زِيَادَةٍ فِي الْوَاجِبِ رِفْقًا بِكَ وَبِأُمَّتِكَ. وَيُبَيِّنُهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ».
وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ تَرْضى - بِضَمِّ التَّاءِ- أَيْ يُرْضِيكَ رَبُّكَ، وَهُوَ مُحْتَمل للمعنيين.
[١٣١]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١٣١]
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١)
أُعْقِبَ أَمْرُهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُونَهُ بِنَهْيِهِ عَنِ الْإِعْجَابِ بِمَا يَنْعَمُ بِهِ مِنْ تَنَعَّمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ فِي حِينِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ بِأَنَّ
وَذِكْرُ الْأَزْوَاجُ هُنَا لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْعَائِلَاتِ وَالْبُيُوتِ، أَيْ إِلَى مَا مَتَّعْنَاهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُتَعِ فَكُلُّ زَوْجٍ مُمَتَّعٌ بِمُتْعَةٍ فِي زَوْجِهِ مِمَّا يَحْسُنُ فِي نَظَرِ كُلٍّ مِنْ مَحَاسِنِ قَرِينِهِ وَمَا يُقَارِنُ ذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنَ مُشْتَرِكَةٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَالْبَنِينَ وَالرِّيَاشِ وَالْمَنَازِلِ وَالْخَدَمِ.
وَمَدُّ الْعَيْنَيْنِ: مُسْتَعْمَلٌ فِي إِطَالَةِ النَّظَرِ لِلتَّعْجِيبِ لَا لِلْإِعْجَابِ، شُبِّهَ ذَلِكَ بِمَدِّ الْيَدِ لِتَنَاوُلِ شَيْءٍ مُشْتَهًى. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ.
وَالزَّهْرَةُ- بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْهَاءِ-: وَاحِدَةُ الزَّهْرِ، وَهُوَ نَوْرُ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ.
وَتُسْتَعَارُ لِلزِّينَةِ الْمُعْجِبَةِ الْمُبْهِتَةِ، لِأَنَّ مَنْظَرَ الزَّهْرَةِ يُزَيِّنُ النَّبَاتَ وَيُعْجِبُ النَّاظِرَ، فَزَهْرَةُ الْحَيَاةِ: زِينَةُ الْحَيَاةِ، أَيْ زِينَةُ أُمُورِ الْحَيَاةِ مِنَ اللِّبَاسِ وَالْأَنْعَامِ وَالْجَنَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْبَنِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها [الْقَصَص: ٦٠].
وَانْتُصِبَ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا عَلَى الْحَالِ مِنَ اسْمِ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ زَهْرَةَ- بِسُكُونِ الْهَاءِ-. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِفَتْحِ الْهَاءِ- وَهِيَ لُغَةٌ.
لِنَفْتِنَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ مَتَّعْنا. وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ لِيَحْصُلَ فِتْنَتُهُمْ فِي خِلَالِهِ، فَفِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَتَاعِ فِتْنَةٌ مُنَاسِبَةٌ لَهُ. وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ الْمَجَازِيَّةِ الَّتِي هِيَ عَاقِبَةُ الشَّيْءِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٦٨].
وَالْفِتْنَةُ: اضْطِرَابُ النَّفْسِ وَتَبَلْبُلِ الْبَالِ مِنْ خَوْفٍ أَوْ تَوَقُّعٍ أَوِ الْتِوَاءِ الْأُمُورِ، وَكَانُوا لَا يَخْلُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَلِشِرْكِهِمْ يَقْذِفُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الْغَمَّ وَالتَّوَقُّعَ، وَفِتْنَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ظَاهِرَةٌ. فَالظَّرْفِيَّةُ هُنَا كَالَّتِي فِي قَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ:
نُحَابِي بِهَا أَكْفَاءَنَا وُنُهِينُهَا | وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ |
وَجُمْلَةُ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى تَذْيِيلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى آخِرِهِ يُفِيدُ أَنَّ مَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ حُسْنِ شَارَتِهِمْ مَشُوبٌ وَمُبَطَّنٌ بِفِتْنَةٍ فِي النَّفْسِ وَشَقَاءٍ فِي الْعَيْشِ وَعِقَابٍ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَذُيِّلَ بِأَنَّ الرِّزْقَ الْمُيَسَّرَ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَبْقَى فِي الدُّنْيَا وَمَنْفَعَتُهُ بَاقِيَةٌ فِي الْآخِرَةِ لِمَا يُقَارِنُهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشُّكْرِ.
فَإِضَافَةُ رِزْقُ رَبِّكَ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، وَإِلَّا فَإِنَّ الرِّزْقَ كُلَّهُ مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنَّ رِزْقَ الْكَافِرِينَ لَمَّا خَالَطَهُ وَحَفَّ بِهِ حَالُ أَصْحَابِهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّبِعَةِ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِكُفْرَانِهِمُ النِّعْمَةَ جُعِلَ كَالْمَنْكُورِ انْتِسَابُهُ إِلَى اللَّهِ، وَجُعِلَ رِزْقُ اللَّهِ هُوَ السَّالِمُ مِنْ مُلَابَسَةِ الْكُفْرَانِ وَمِنْ تَبِعَاتِ ذَلِكَ.
وخَيْرٌ تَفْضِيلٌ، وَالْخَيْرِيَّةٌ حَقِيقَةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَوَاحِيهَا. فَمِنْهَا: خَيْرٌ لِصَاحِبِهِ فِي الْعَاجِلِ شَرٌّ عَلَيْهِ فِي الْآجِلِ، وَمِنْهَا خَيْرٌ مَشُوبٌ بِشُرُورٍ وَفِتَنٍ، وَخَيْرٌ صَافٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهَا مُلَائِمٌ مُلَاءَمَةً قَوِيَّةً، وَخَيْرٌ مُلَائِمٌ مُلَاءَمَةً ضَعِيفَةً، فَالتَّفْضِيلُ بِاعْتِبَارِ تُوَفُّرِ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَوَاقِبِ
وَأَبْقى تَفْضِيلٌ عَلَى مَا مُتِّعَ بِهِ الْكَافِرُونَ لِأَنَّ فِي رِزْقِ الْكَافِرِينَ بَقَاءً، وَهُوَ أَيْضًا يَظْهَرُ بَقَاؤُهُ بِالتَّدَبُّرِ فِيمَا يَحِفُّ بِهِ وعواقبه.
[١٣٢]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١٣٢]
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لَا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢)
ذِكْرُ الْأَهْلِ هُنَا مُقَابِلٌ لِذِكْرِ الْأَزْوَاجِ فِي قَوْلِهِ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ [طه:
١٣١] فَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الرَّجُلِ أَزْوَاجَهُ، أَيْ مِتْعَتُكَ وَمِتْعَةُ أَهْلِكَ الصَّلَاةُ فَلَا تُلَفَّتُوا إِلَى زَخَارِفِ الدُّنْيَا. وَأَهْلُ الرَّجُلِ يَكُونُونَ أَمْثَلَ مَنْ يَنْتَمُونَ إِلَيْهِ.
وَمِنْ آثَارِ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي السُّنَّةِ مَا
فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : أَنَّ فَاطِمَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- بَلَغَهَا أَنَّ سَبْيًا جِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْ تَشْتَكِي إِلَيْهِ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى تَسْأَلُهُ خَادِمًا مِنَ السَّبْيِ فَلَمْ تَجِدْهُ. فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَخَذَتْ وَعَلِيٌّ مُضَّجَعَهُمَا فَجَلَسَ فِي جَانِبِ الْفِرَاشِ وَقَالَ لَهَا وَلِعَلِيٍّ: أَلَا أُخْبِرُكُمَا بِخَيْرٍ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَا تُسَبِّحَانِ وَتَحْمَدَانِ وَتُكَبِّرَانِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ»
. وَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ أَهْلَهُ وَهُوَ أَنْ يَصْطَبِرَ عَلَى الصَّلَاةِ.
وَالِاصْطِبَارُ: الِانْحِبَاسُ، مُطَاوِعٌ صَبْرَهُ، إِذَا حَبَسَهُ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي إِكْثَارِهِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي النَّوَافِلِ. قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا
وَجُمْلَة لَا نَسْئَلُكَ رِزْقاً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الَّتِي قَبْلَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ نَحْنُ نَرْزُقُكَ جُعِلَتْ تَمْهِيدًا لِهَاتِهِ الْأَخِيرَةِ.
وَالسُّؤَالُ: الطَّلَبُ التَّكْلِيفِيُّ، أَيْ مَا كَلَّفْنَاكَ إِلَّا بِالْعِبَادَةِ، لِأَنَّ الْعِبَادَة شكر لله عَلَى مَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى الْخَلْقِ وَلَا يَطْلُبُ اللَّهُ مِنْهُمْ جَزَاءً آخَرَ. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِمَا تَعَوَّدَهُ النَّاسُ مِنْ دَفْعِ الْجِبَايَاتِ وَالْخَرَاجِ لِلْمُلُوكِ وَقَادَةِ الْقَبَائِلِ وَالْجُيُوشِ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: ٥٦- ٥٨]، فَجُمْلَةُ نَحْنُ نَرْزُقُكَ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه: ١٣١]. وَالْمَعْنَى: أَنَّ رِزْقَ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ مَسُوقٌ إِلَيْكَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ ابْتِدَاءً هُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَشْمَلُ أَهْلَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْمُعَلَّلَ بِهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُشْتَرِكٌ فِي حُكْمِهِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ.
وَجُمْلَةُ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى عَطْفٌ عَلَى جملَة لَا نَسْئَلُكَ رِزْقاً الْمُعَلَّلُ بِهَا أَمْرُهُ بِالِاصْطِبَارِ لِلصَّلَاةِ، أَيْ إِنَّا سَأَلْنَاكَ التَّقْوَى وَالْعَاقِبَةَ.
وَحَقِيقَةُ الْعَاقِبَةِ: أَنَّهَا كُلُّ مَا يَعْقُبُ أَمْرًا وَيَقَعُ فِي آخِرِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، إِلَّا أَنَّهَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي أُمُورِ الْخَيْرِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ التَّقْوَى تَجِيءُ فِي نِهَايَتِهَا عَوَاقِبُ خَيْرٍ.
وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ تَحْقِيقًا لِإِرَادَةِ الْخَيْرِ مِنَ الْعَاقِبَةِ لِأَنَّ شَأْنَ لَامِ الْمِلْكِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى نَوَالِ
الْأَمْرِ الْمَرْغُوبِ، وَإِنَّمَا يَطَّرِدُ ذَلِكَ فِي عَاقِبَةِ خَيْرِ الْآخِرَةِ. وَقَدْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ فِي خَيْرِ الدُّنْيَا أَيْضًا لِلتَّقْوَى.
[١٣٣]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١٣٣]
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣)
رُجُوعٌ إِلَى التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ، وَبِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ. وَهُوَ الْغَرَضُ الَّذِي انْتُقِلَ مِنْهُ إِلَى أَغْرَاضٍ مُنَاسِبَةٍ مِنْ قَوْلِهِ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً [طه: ١١٣].
وَالْمُنَاسَبَةُ فِي الِانْتِقَالِ هُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [طه: ١٣٠] فَجِيءَ هُنَا بِشِنَعٍ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يَصْبِرَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ. فَمِنْ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي يَقْصِدُونَ مِنْهَا التَّعَنُّتَ وَالْمُكَابَرَةَ أَنْ قَالُوا: لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ فَنُؤْمِنُ بِرِسَالَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥].
وَلَوْلَا حَرْفُ تَحْضِيضٍ. وَجُمْلَةُ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ فِي حَالِ أَنَّهُمْ أَتَتْهُمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى. فَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، أُنْكِرَ بِهِ نَفْيُ إِتْيَانِ آيَةٍ لَهُمُ الَّذِي اقْتَضَاهُ تَحْضِيضُهُمْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِآيَةٍ.
وَالْبَيِّنَةُ: الْحُجَّةُ.
والصُّحُفِ الْأُولى: كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: ١٨- ١٩].
وَوَجْهُ اخْتِيَارِ الصُّحُفِ هُنَا عَلَى الْكُتُبِ أَنَّ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ مِنَ الْكُتُبِ عِلْمًا، وَأَنَّ جَمِيعَهُ حَوَاهُ الْقُرْآنُ، فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ آيَةً وَدَلِيلًا.
وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ هِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتَابُهُ الْقُرْآنُ، لِأَنَّ الرَّسُولَ مَوْعُودٌ بِهِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ، وَلِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ تَصْدِيقًا لِمَا فِي تِلْكَ الْكُتُبِ مِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنَ الْمَوَاعِظِ وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ. وَقَدْ جَاءَ بِهِ رَسُولٌ أُمِّيٌّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا نَشَأْ فِي قَوْمٍ أَهْلِ عِلْمٍ وَمُزَاوَلَةٍ لِلتَّارِيخِ مَعَ مَجِيئِهِ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ مِنْ أَخْبَارِهِمُ الَّتِي لَمْ يَسْتَطِعْ أَهْلُ الْكِتَابِ إِنْكَارَهَا، قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ١٤٦]، وَكَانُوا لَا يُحَقِّقُونَ كَثِيرًا مِنْهَا بِمَا طَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّفَرُّقِ وَتَلَاشِي أُصُولِ كُتُبِهِمْ وَإِعَادَةِ كِتَابَةِ كَثِيرٍ مِنْهَا بِالْمَعْنَى عَلَى حَسَبِ تَأْوِيلَاتٍ سَقِيمَةٍ.
وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَمَا حَوَاهُ مِنْ دَلَائِلِ الصِّدْقِ وَالرَّشَادِ، وَمَا امْتَازَ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْكُتُبِ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ الْبَالِغَتَيْنِ حَدَّ الْإِعْجَازِ، وَهُوَ مَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْعَرَبِ مُبَاشَرَةً وَعَلَى غَيْرِهِمُ اسْتِدْلَالًا. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [الْبَيِّنَة: ١- ٢].
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَفَصٌ، وَابْنُ جَمَّازٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ تَأْتِهِمْ- بِتَاءِ الْمُضَارِعِ لِلْمُؤَنَّثِ-.
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِتَحْتِيَّةِ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ بَيِّنَةُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَأَصْلُ الْإِسْنَادِ التَّذْكِيرُ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ لَيْسَ عَلَامَةً وَلَكِنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْكَلَام.
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١٣٤]
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤)الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ جُمْلَةَ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طه: ١٣٣]، وَأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الِارْتِقَاءِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ حِينَ أَخَّرُوا الْإِيمَانَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلُوهُ مُتَوَقِّفًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ، لِأَنَّ مَا هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهِ مِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ ضَلَالٌ بَيِّنٌ قَدْ حَجَبَتْ عَنْ إِدْرَاكِ فَسَادِهُ الْعَادَاتُ واشتغال البال بشؤون دِينِ الشِّرْكِ، فَالْإِشْرَاكُ وَحْدُهُ كَافٍ فِي اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَحِمَهُمْ فَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا يُوقِظُ عُقُولَهُمْ. فَمَجِيءُ الرَّسُولِ بِذَلِكَ كَافٍ فِي اسْتِدْلَالِ الْعُقُولِ عَلَى فَسَادِ مَا هُمْ فِيهِ، فَكَيْفَ يَسْأَلُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِتْيَانَ الرَّسُولِ لَهُمْ بِآيَةٍ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مَنْ نَبْذِ الشِّرْكِ لَوْ سَلَّمَ لَهُمْ جَدَلًا أَنَّ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ هُوَ بِآيَةٍ، فَقَدْ بَطَلَ عُذْرُهُمْ مِنْ أَصْلِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ
مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ
[الْأَنْعَام: ١٥٦]. فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مِنْ قَبْلِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الَّذِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى الرَّسُولِ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ بَيِّنَةٌ، أَوْ عَلَى إِتْيَانِ الْبَيِّنَةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طه: ١٣٣].
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِوَحْدَانِيَّةِ خَالِقِ الْخَلْقِ يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ لَوْلَا حَجْبُ الضَّلَالَاتِ وَالْهَوَى، وَأَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ لِإِيقَاظِ
وَمَعْنَى لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ يَوْمَ الْحِسَابِ بَعْدَ أَنْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ الْإِهْلَاكَ الْمَفْرُوضَ، لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ.
وَ (لَوْلَا) حَرْفُ تَحْضِيضٍ، مُسْتَعْمَلٌ فِي اللَّوْمِ أَوِ الِاحْتِجَاجِ لِأَنَّهُ قَدْ فَاتَ وَقْتُ الْإِرْسَالِ، فَالتَّقْدِيرُ: هَلَّا كُنْتَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا وَانْتَصَبَ فَنَتَّبِعَ عَلَى جَوَابِ التَّحْضِيضِ بِاعْتِبَارِ تَقْدِيرِ حُصُولِهِ فِيمَا مَضَى.
وَالذُّلُّ: الْهَوَانُ. وَالْخِزْيُ: الِافْتِضَاحُ، أَيِ الذُّلُّ بِالْعَذَابِ. وَالْخِزْيُ فِي حَشْرِهِمْ مَعَ الْجُنَاةِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشُّعَرَاء: ٨٧].
[١٣٥]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١٣٥]
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)
جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ [طه: ١٣٣] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ.
وَالْمَعْنَى: كُلُّ فَرِيقٍ مُتَرَبِّصٌ فَأَنْتُمْ تَتَرَبَّصُونَ بِالْإِيمَانِ، أَيْ تُؤَخِّرُونَ الْإِيمَانَ إِلَى أَنْ تَأْتِيَكُمْ آيَةٌ مِنْ رَبِّي، وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ أَنْ يَأْتِيَكُمْ عَذَابُ الدُّنْيَا أَوْ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَتُفَرَّعُ عَلَيْهِ جُمْلَةُ فَتَرَبَّصُوا. وَمَادَّةُ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الدَّوَامِ بِالْقَرِينَةِ، نَحْوَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: ١٣٦]، أَي فداوموا عَلَى تَرَبُّصِكُمْ.
مُؤْمِنُونَ بِسُوءِ مَصِيرِكُمْ. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [السَّجْدَة: ٣٠]. وَفِي مَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا جَاءَ قَوْلُهُ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التَّوْبَة: ٥٢].
وَتَنْوِينُ كُلٌّ تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ، كَقَوْلِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ اللَّهَبِيِّ:
كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ فِي بُغْضِ صَاحِبِهِ | بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا |
وَفُرِّعَ عَلَى الْمُتَارَكَةِ إِعْلَامُهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَنْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَمِنْ هُمُ الْمُهْتَدُونَ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُهْتَدُونَ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَقُولُهُ فِي مَقَامِ الْمُحَاجَّةِ وَالْمُتَارَكَةِ إِلَّا الْمُوقِنُ بِأَنَّهُ الْمُحِقُّ. وَفِعْلُ (تَعْلَمُونَ) مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ لِوُجُودِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَالصِّرَاطُ: الطَّرِيقُ. وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ، كَقَوْلِهِ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الْفَاتِحَة: ٦].
والسوي: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيِ الصِّرَاطِ الْمُسَوَّى، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّسْوِيَةِ.
وَالْمَعْنَى: يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا عِنْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَانْتِصَارِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مَنْ يَبْقَى مِنَ الْكُفَّارِ الْمُخَاطَبِينَ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ سَوَاءٌ مِمَّنْ لَمْ يُسْلِمُوا مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ،
وَقَدْ جَاءَتْ خَاتِمَةُ هَذِهِ السُّورَةِ كَأَبْلَغِ خَوَاتِمِ الْكَلَامِ لِإِيذَانِهَا بِانْتِهَاءِ الْمَحَاجَّةِ وَانْطِوَاءِ بِسَاطِ الْمُقَارَعَةِ.
وَمِنْ مَحَاسِنِهَا: أَنَّ فِيهَا شَبِيهَ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ لِأَنَّهَا تُنَظِّرُ إِلَى فَاتِحَةِ السُّورَةِ.
وَهِيَ قَوْلُهُ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى [طه: ٢]، لِأَنَّ الْخَاتِمَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ كُلَّ مَا بُعِثَ بِهِ مِنَ الْإِرْشَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَإِذَا لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فكفاه انثلاج صَدره أَنَّهُ أَدَّى الرِّسَالَةَ وَالتَّذْكِرَةَ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ فَتَرْكَهُمْ وَضَلَالَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
٢١- سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِسَمَّاهَا السَّلَفُ «سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ»، فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
«بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَالْكَهْفُ، وَمَرْيَمُ، وَطَهَ، وَالْأَنْبِيَاءُ، هُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي».
وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ غَيْرُ هَذَا.
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا أَسْمَاءُ سِتَّةَ عَشَرَ نَبِيئًا وَمَرْيَمَ وَلَمْ يَأْتِ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ مِثْلُ هَذَا الْعَدَدِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةٍ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ عَدَا مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. فَقَدْ ذُكِرَ فِيهَا أَسْمَاءُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نَبِيئًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَيُونُسَ وَلُوطاً [الْأَنْعَام: ٨٣- ٨٦] فَإِنْ كَانَتْ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ هَذِهِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَقَدْ سَبَقَتْ بِالتَّسْمِيَةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَإِلَّا فَاخْتِصَاصُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِذِكْرِ أَحْكَامِ الْأَنْعَامِ أَوْجَبَ تَسْمِيَتَهَا بِذَلِكَ الِاسْمِ فَكَانَتْ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ أَجْدَرَ مِنْ بَقِيَّةِ سُوَرِ الْقُرْآنِ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ، عَلَى أَنَّ مِنَ الْحَقَائِقِ الْمُسَلَّمَةِ أَنَّ وَجْهَ التَّسْمِيَةِ لَا يُوجِبُهَا.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ، الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَنَقَلَ السُّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» اسْتِثْنَاءَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَهِيَ السُّورَةُ الْحَادِيَةُ وَالسَّبْعُونَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ نَزَلَتْ بَعْدَ حم السَّجْدَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ النَّحْلِ، فَتَكُونُ مِنْ أَوَاخِرِ السُّوَرِ النَّازِلَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ إِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٣]، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، غَيْرَ أَنَّ مَا رَوَاهُ ابْن إِسْحَق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [٥٧] وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، أَنَّ الْمُرَادَ بِضَرْبِ الْمَثَلِ هُوَ الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ ابْنُ الزِّبَعْرَى لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: ٩٨] كَمَا يَأْتِي يَقْتَضِي أَنَّ سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الزُّخْرُفِ. وَقَدْ عُدَّتِ الزُّخْرُفُ ثَانِيَةً وَسِتِّينَ فِي النُّزُولِ.
وَعَدَدُ آيِهَا فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ مِائَةٌ وَإِحْدَى عشرَة وَفِي عَدِّ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِائَةٌ واثنتا عشرَة.
أغراض السُّورَة:
وَالْأَغْرَاضُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذِه السُّورَة هِيَ:
- الْإِنْذَارُ بِالْبَعْثِ، وَتَحْقِيقُ وُقُوعِهِ وَإِنَّهُ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَانَ قَرِيبًا.
- وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَنْ عَدَمٍ وَخَلْقِ الموجودات من المَاء.
- وَالتَّذْكِيرُ بِأَنَّ هَذَا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ إِلَّا كَأَمْثَالِهِ مِنَ الرُّسُلِ وَمَا جَاءَ إِلَّا بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِهِ.
- وَذِكْرُ كَثِيرٍ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
- وَالتَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ وَشَأْنِ رَسُولِ الْإِسْلَامِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ.
- وَالتَّذْكِيرُ بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ مِنْ جَرَّاءِ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ وَأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ لِلَّذِينَ كَذَّبُوا وَاقِعٌ لَا يَغُرُّهُمْ تَأْخِيرُهُ فَهُوَ جَاءٍ لَا مَحَالَةَ.
- وَحَذَّرَهُمْ مِنْ أَنْ يَغْتَرُّوا بِتَأْخِيرِهِ كَمَا اغْتَرَّ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى أَصَابَهُمْ بَغْتَةً، وَذَكَرَ
مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَتْحَ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ.
- وَذَكَّرَهُمْ بِمَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَالِقِ.
- وَمِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَيَاةً أُخْرَى أَتْقَنَ وَأَحْكَمَ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَيَنْتَصِرُ الْحَقُّ عَلَى الْبَاطِلِ.
- ثُمَّ مَا فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الْخَالِقِ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا النِّظَامُ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ.
- وَتَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الشُّرَكَاءِ وَعَنِ الْأَوْلَادِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
- وَمَا يُكْرِهُهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَا يُرِيدُ.
- وَأَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ صَائِرُونَ إِلَى الْفَنَاءِ.