ﰡ
ظاهر هذه الآية الكريمة : أن كل زانية وكل زان : يجب جلد كل واحد منهما مائة جلدة، لأنّ الألف واللام في قوله :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ﴾، إن قلنا : إنهما موصول وصلتهما الوصف الذي هو اسم الفاعل الذي هو الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، فالموصولات من صيغ العموم.
وإن قلنا : إنهما للتعريف لتناسي الوصفية، وأن مرتكب تلك الفاحشة يطلق عليه اسم الزاني، كإطلاق أسماء الأجناس، فإن ذلك يفيد الاستغراق، فالعموم الشامل لكل زانية وكل زان، هو ظاهر الآية، على جميع الاحتمالات.
وظاهر هذا العموم شموله للعبد، والحر، والأَمَة، والحرّة، والبكر، والمحصن من الرجال والنساء.
وظاهره أيضًا : أنه لا تغرّب الزانية، ولا الزاني عامًا مع الجلد، ولكن بعض الآيات القرآنية دلّ على أن عموم الزانية يخصّص مرتين.
إحداهما : تخصيص حكم جلدها مائة بكونها حرّة، أمّا إن كانت أمة، فإنها تجلد نصف المائة وهو خمسون، وذلك في قوله تعالى في الإماء :﴿ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ [ النساء : ٢٥ ]، والمراد بالمحصنات هنا : الحرائر والعذاب الجلد، وهو بالنسبة إلى الحرة الزانية : مائة جلدة والأَمة عليها نصفه بنص آية «النساء » هذه، وهو خمسون. فآية ﴿ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ [ النساء : ٢٥ ] مخصّصة لعموم قوله :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ﴾، بالنسبة إلى الزانية الأنثى.
وأمّا التخصيص المرة الثانية لعموم الزانية في آية «النور » هذه فهو بآية منسوخة التلاوة، باقية الحكم، تقتضي أن عموم الزانية هنا مخصّص بكونها بكرًا.
أما إن كانت محصنة، بمعنى أنها قد تزوّجت من قبل الزنى، وجامعها زوجها في نكاح صحيح فإنها ترجم.
والآية التي خصصتها بهذا الحكم الذي ذكرنا أنها منسوخة التلاوة باقية الحكم، هي قوله تعالى :( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالاً من اللَّه، واللَّه عزيز حكيم ).
وهذا التخصيص إنما هو على قول من يقول : لا يجمع للزاني المحصن، بين الجلد والرجم، وإنما يرجم فقط بدون جلد.
أمّا على قول من يرى الجمع بينهما فلا تخصيص، وإنما في آية الرجم زيادته على الجلد، فكلتا الآيتين أثبتت حكمًا لم تثبته الأخرى، وسيأتي إيضاح هذا إن شاء اللَّه غير بعيد وأقوال أهل العلم فيه ومناقشة أدلّتهم.
أمّا الزاني الذكر فقد دلّت الآية التي ذكرنا، أنها منسوخة التلاوة، باقية الحكم على تخصيص عمومه، وأن الذي يجلد المائة من الذكور، إنما هو الزاني البكر، وأمّا المحصن فإنه يرجم، وهذا التخصيص في الذكر أيضًا إنّما هو على قول من لا يرى الجمع بين الجلد والرجم، كما أوضحناه قريبًا في الأنثى.
وأمّا على قول من يرى الجمع بينهما فلا تخصيص، بل كل واحدة من الآيتين أثبتت حكمًا لم تثبته الأخرى.
وعموم الزاني في آية «النور » هذه، مخصّص عند الجمهور أيضًا مرة أخرى، بكون جلد المائة خاصًّا بالزاني الحرّ، أمّا الزاني الذكر العبد فإنه يجلد نصف المائة، وهو الخمسون.
ووجه هذا التخصيص : إلحاق العبد بالأَمة في تشطير حدّ الزنى بالرقّ، لأن مناط التشطير الرق بلا شكّ، لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى الحدود وصفان طرديّان، لا يترتّب عليهما حكم، فدلّ قوله تعالى في آية «النساء » في الإماء :﴿ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ أن الرقّ مناط تشطير حدّ الزنى، إذ لا فرق بين الذكر والأنثى في الحدود، فالمخصّص لعموم الزاني في الحقيقة، هو ما أفادته آية :﴿ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ [ النساء : ٢٥ ]. وإن سمّاه الأصوليّون تخصيصًا بالقياس، فهو في الحقيقة تخصيص آية بما فهم من آية أخرى.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى : اعلم أن رجم الزانيين المحصنين دلّت عليه آيتان من كتاب اللَّه، إحداهما نسخت تلاوتها، وبقي حكمها، والثانية : باقية التلاوة والحكم، أمّا التي نسخت تلاوتها، وبقي حكمها فهي قوله تعالى :( الشيخ والشيخة ) إلى آخرها كما سيأتي. وكون الرجم ثابتًا بالقرآن ثابت في الصحيح.
قال البخاري رحمه اللَّه في صحيحه : في باب رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت :
حدثنا عبد العزيز بن عبد اللَّه، حدّثني إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس قال : كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين منهم : عبد الرحمان بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجّة حجّها، إذ رجع إلى عبد الرحمان، فقال : لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال : يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان يقول : لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً فواللَّه ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت، فغضب عمر ثمّ قال : إني إن شاء اللَّه لقائم العشية في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم، الحديث بطوله.
وفيه : إن اللَّه بعث محمّدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل اللَّه آية الر جم، فقرأناها، وعقلناها، ووعيناها : " رجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : واللَّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللَّه فيضلّوا بترك فريضة أنزلها اللَّه، والرجم في كتاب اللَّه حقّ على من زنى، إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البيّنة أو كان الحبل أو الاعتراف " انتهى محل الغرض من صحيح البخاري.
وفيه : أن الرجم نزل في القرآن في آية من كتاب اللَّه، وكونها لم تقرأ في الصحف، يدلّ على نسخ تلاوتها، مع بقاء حكمها ؛ كما هو ثابت في الحديث المذكور.
وفي رواية في البخاري من حديث عمر رضي اللَّه عنه : " لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل : لا نجد الرجم في كتاب اللَّه فيضلّوا بترك فريضة أنزلها اللَّه، ألا وإن الرجم حقّ على من زنى، وقد أحصن إذا قامت البيّنة، أو كان الحمل، أو الاعتراف ".
قال سفيان : كذا حفظت : " ألا وقد رجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ".
وقال ابن حجر في «فتح الباري »، في شرحه لهذه الرواية الأخيرة، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية جعفر الفريابي، عن عليّ بن عبد اللَّه شيخ البخاري فيه، فقال بعد قوله : أو الاعتراف، وقد قرأناها :( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة )، وقد رجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده، فسقط من رواية البخاري من قوله : وقد قرأناها إلى قوله : البتّة، ولعلّ البخاري هو الذي حذف ذلك عمدًا، فقد أخرجه النسائي عن محمّد بن منصور، عن سفيان كرواية جعفر، ثم قال : لا أعلم أحدًا ذكر في هذا الحديث :( الشيخ والشيخةَ... ) غير سفيان، وينبغي أن يكون وهم في ذلك.
قلت : وقد أخرج الأئمة هذا الحديث من رواية مالك، ويونس، ومعمر، وصالح بن كيسان، وعقيل، وغيرهم من الحفاظ عن الزهري.
وقد وقعت هذه الزيادة في هذا الحديث من رواية الموطأ عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب قال : لما صدر عمر من الحجّ، وقدم المدينة خطب الناس فقال : أيّها الناس، قد سنّت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة، ثم قال : إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرجم، أن يقول قائل : لا نجد حدّين في كتاب اللَّه، فقد رجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورجمنا، والذي نفسي بيده، لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب اللَّه لكتبتها بيدي :( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة ). قال مالك : الشيخ والشيخة : الثيّب والثيّبة.
ووقع في الحلية في ترجمة داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيّب، عن عمر : لكتبتها في آخر القرآن.
ووقعت أيضًا في هذا الحديث في رواية أبي معشر الآتي التنبيه عليها، في الباب الذي يليه فقال متّصلاً بقوله : " قد رجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، ولولا أن يقولوا : كتب عمر ما ليس في كتاب اللَّه، لكتبته قد قرأنا :( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة، نكالاً من اللَّه واللَّه عزيز حكيم ).
وأخرج هذه الجملة النسائي وصححه الحاكم، من حديث أُبيّ بن كعب قال : ولقد كان فيها أي سورة «الأحزاب »، آية الرجم : الشيخ فذكر مثله.
ومن حديث زيد بن ثابت : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول :«الشيخ والشيخة » مثله إلى قوله :«البتّة ».
ومن رواية أُسامة بن سهل أن خالته أخبرته قالت : لقد أقرأنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم آية الرجم، فذكره إلى قوله :«ألبتة »، وزاد «بما قضيا من اللذّة ».
وأخرج النسائي أيضاً أن مروان بن الحكم قال لزيد : ألا تكتبها في المصحف ؟ قال : لا ألا ترى أن الشابين الثيّبين يرجمان ولقد ذكرنا ذلك فقال عمر : أنا أكفيكم، فقال : يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اكتبني آية الرجم فقال : لا أستطيع.
وروينا في فضائل القرآن لابن الضريس من طريق يعلى وهو ابن حكيم، عن زيد بن أسلم أن عمر خطب الناس، فقال : لا تشكوا في الرجم فإنه حقّ، ولقد هممت أن أكتبه في المصحف، فسألت أُبيّ بن كعب، فقال : أليس أتيتني، وأنا أستقرئها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فدفعت في صدري وقلت : استقرئه آية الرجم، وهم يتسافدون تسافد الحمر، ورجاله ثقات وفيه : إشارة إلى بيان السبب في رفع تلاوتها، وهو الاختلاف.
وأخرج الحاكم من طريق كثير بن الصلت قال : كان زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص يكتبان في المصحف، فمرّا على هذه الآية فقال زيد : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول :«الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتّة »، فقال عمر : لمّا نزلت أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت : أكتبها فكأنه كره ذلك فقال عمر : ألا ترى أن الشيخ إذا زنى، ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم.
فيستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها لكون العمل على غير الظاهر من عمومها. انتهى بطوله من فتح الباري.
وفيه الدلالة الظاهرة على ما ذكرنا من أن آية الرجم منسوخة التلاوة، باقية الحكم، وأنها مخصّصة لآية الجلد، على القول بعدم الجمع بين الرجم والجلد، كما تقدّم.
ولكن ما أشار إليه ابن حجر من استفادة سبب نسخ تلاوتها من بعض الأحاديث المذكورة غير ظاهر، لأن كثيرًا من الآيات يبيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم تخصيص عمومه، ويوضح المقصود به وإن كان خلاف الظاهر المتبادر منه، ولم يؤد شيء من ذلك إلى نسخ تلاوته كما هو معلوم، والآية القرآنيّة عند نزولها تكون لها أحكام متعدّدة، كالتعبد بتلاوتها، وكالعمل بما تضمّنته من الأحكام الشرعيّة، والقراءة بها في الصّلاة، ونحو ذلك من الأحكام. وإذا أراد اللَّه أن ينسخها بحكمته فتارة ينسخ جميع أحكامها من تلاوة، وتعبّد، وعمل بما فيها من الأحكام كآية عشر رضعات معلومات يحرمن، وتارة ينسخ بعض أحكامها دون بعض، كنسخ حكم تلاوتها، والتعبّد بها مع بقاء ما ت
قد قدّمنا مرارًا أن من أنواع البيان التي تضمّنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في نفس الآية قرينة دالَّة على عدم صحة ذلك القول، ذكرنا هذا في ترجمة الكتاب وذكرنا فيما مضى من الكتاب أمثلة كثيرة لذلك، ومن أمثلة ذلك هذه الآية الكريمة.
وإيضاح ذلك : أن العلماء اختلفوا في المراد بالنكاح في هذه الآية، فقال جماعة : المراد بالنكاح في هذه الآية : الوطء الذي هو نفس الزنى، وقالت جماعة أخرى من أهل العلم : إن المراد بالنكاح في هذه الآية هو عقد النكاح. قالوا : فلا يجوز لعفيف أن يتزوّج زانية كعكسه، وهذا القول الذي هو أن المراد بالنكاح في الآية : التزويج لا الوطء في نفس الآية قرينة تدلّ على عدم صحّته، وتلك القرينة هي ذكر المشرك والمشركة في الآية ؛ لأن الزاني المسلم لا يحلّ له نكاح مشركة، لقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ]، وقوله تعالى :﴿ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ [ الممتحنة : ١٠ ] قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ﴾[ الممتحنة : ١٠ ]، وكذلك الزانية المسلمة لا يحلّ لها نكاح المشرك ؛ لقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ ﴾[ البقرة : ٢٢١ ]، فنكاح المشركة والمشرك لا يحلّ بحال. وذلك قرينة على أن المراد بالنكاح في الآية التي نحن بصددها الوطء، الذي هو الزنى، لا عقد النكاح ؛ لعدم ملاءمة عقد النكاح لذكر المشرك والمشركة، والقول بأن نكاح الزاني للمشركة والزانية للمشرك، منسوخ ظاهر السقوط ؛ لأن سورة «النور » مدنية، ولا دليل على أن ذلك أُحلّ بالمدينة، ثم نسخ. والنسخ لا بدّ له من دليل يجب الرجوع إليه.
مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة
اعلم أن العلماء اختلفوا في جواز نكاح العفيف الزانية، ونكاح العفيفة الزاني، فذهب جماعة من أهل العلم منهم الأئمّة الثلاثة إلى جواز نكاح الزانية مع الكراهة التنزيهية عند مالك وأصحابه، ومن وافقهم، واحتجّ أهل هذا القول بأدلّة :
منها عموم قوله تعالى :﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٤ ]، وهو شامل بعمومه الزانية والعفيفة، وعموم قوله تعالى :﴿ وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ ﴾ [ النور : ٣٢ ] الآية ؛ وهو شامل بعمومه الزانية أيضًا والعفيفة.
ومن أدلّتهم على ذلك : حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما : أن رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال : إن امرأتي لا تردّ يد لامس، قال :«غرّبها »، قال : أخاف أن تتبعها نفسي ؟ قال :«فاستمتع بها ». قال ابن حجر في «بلوغ المرام » في هذا الحديث، بعد أن ساقه باللفظ الذي ذكرنا : رواه أبو داود، والترمذي، والبزار ورجاله ثقات، وأخرجه النسائي من وجه آخر، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما، بلفظ قال :«طلّقها »، قال : لا أصبر عنها، قال :«فأمسكها »، اه من «بلوغ المرام ». وفيه تصريح ابن حجر بأن رجاله ثقات، وبه تعلم أن ذكر ابن الجوزي لهذا الحديث في الموضوعات فيه نظر، وقد ذكره في الموضوعات مرسلاً عن أبي الزبير، قال : " أتى رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال : إن امرأتي... " الحديث، ورواه أيضًا مرسلاً عن عبيد بن عمير، وحسان بن عطية كلاهما عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم قال : وقد حمله أبو بكر الخلال على الفجور، ولا يجوز هذا ؛ وإنما يحمل على تفريطها في المال لو صحّ الحديث.
قال أحمد بن حنبل : " هذا الحديث لا يثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ليس له أصل. انتهى من موضوعات ابن الجوزي، وكثرة اختلاف العلماء في تصحيح الحديث المذكور وتضعيفه معروفة ".
وقال الشوكاني في «نيل الأوطار » : ولا ريب أن العرب تكني بمثل هذه العبارة، عن عدم العفة عن الزنى، يعني بالعبارة المذكورة قول الرجل : إن امرأتي لا تردّ يد لامس، اه. وما قاله الشوكاني وغيره هو الظاهر ؛ لأن لفظ : لا تردّ يد لامس، أظهر في عدم الامتناع ممن أراد منها ما لا يحلّ كما لا يخفى، فحمله على تفريطها في المال غير ظاهر ؛ لأن إطلاق لفظ اللامس على أخذ المال ليس بظاهر، كما ترى.
قال مقيّده عفا اللَّه عنه وغفر له : الحديث المذكور في المرأة التي ظهر عدم عفتها، وهي تحت زوج، وكلامنا الآن في ابتداء النكاح لا في الدوام عليه، وبين المسألتين فرق، كما سترى إيضاحه إن شاء اللَّه تعالى.
ثم اعلم أن الذين قالوا بجواز تزويج الزانية والزاني أجابوا عن الاستدلال بالآية التي نحن بصددها، وهي قوله تعالى :﴿ الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ﴾، من وجهين :
الأول : أن المراد بالنكاح في الآية هو الوطء الذي هو الزنى بعينه، قالوا : والمراد بالآية تقبيح الزنى وشدّة التنفير منه ؛ لأن الزاني لا يطاوعه في زناه من النساء إلا التي هي في غاية الخسّة لكونها مشركة لا ترى حرمة الزنى أو زانية فاجرة خبيثة.
وعلى هذا القول فالإشارة في قوله تعالى :﴿ وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾، راجعة إلى الوطء الذي هو الزنى، أعاذنا اللَّه وإخواننا المسلمين منه كعكسه، وعلى هذا القول فلا إشكال في ذكر المشركة والمشرك.
الوجه الثاني : هو قولهم : إن المراد بالنكاح في الآية التزويج، إلا أن هذه الآية التي هي قوله تعالى :﴿ الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً ﴾ الآية، منسوخة بقوله تعالى :﴿ وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ ﴾ [ النور : ٣٢ ] الآية، وممن ذهب إلى نسخها بها : سعيد بن المسيّب، والشافعي. وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية، ما نصّه : هذا خبر من اللَّه تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية، أو مشركة، أي : لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك، وكذلك الزانية لا ينكحها إلا زان، أي : عاص بزناه، أو مشرك لا يعتقد تحريمه.
قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما :﴿ الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ﴾، قال : " ليس هذا بالنكاح إنما هو الجماع لا يزني بها، إلا زان أو مشرك "، وهذا إسناد صحيح عنه، وقد روي عنه من غير وجه أيضًا، وقد روي عن مجاهد وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، والضحاك، ومكحول، ومقاتل بن حيان، وغير واحد نحو ذلك، انتهى محل الغرض منه بلفظه.
فتراه صدر بأن المراد بالنكاح في الآية : الجماع، لا التزويج. وذكر صحته عن ابن عباس الذي دعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم اللَّه أن يعلّمه تأويل القرآن. وعزاه لمن ذكر معه من أجلاّء المفسّرين، وابن عباس رضي اللَّه عنهما من أعلم الصحابة بتفسير القرآن العظيم، ولا شكّ في علمه باللغة العربية.
فقوله في هذه الآية الكريمة بأن النكاح فيها هو الجماع لا العقد يدلّ على أن ذلك جار على الأسلوب العربي الفصيح، فدعوى أن هذا التفسير لا يصحّ في العربية، وأنه قبيح، يردّه قول البحر ابن عباس كما ترى.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : وقد روي عن ابن عباس وأصحابه، أن النكاح في هذه الآية : الوطء.
واعلم أن إنكار الزجاج لهذا القول في هذه الآية، أعني القول بأن النكاح فيها الجماع، وقوله : إن النكاح لا يعرف في القرآن، إلا بمعنى التزويج، مردود من وجهين :
الأول : أن القرآن جاء فيه النكاح بمعنى الوطء، وذلك في قوله تعالى :﴿ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾ [ البقرة : ٢٣٠ ]، وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فسر قوله :﴿ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾، بأن معنى نكاحها له مجامعته لها، حيث قال :«لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك »، ومراده بذوق العسيلة : الجماع، كما هو معلوم.
الوجه الثاني : أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، يطلقون النكاح على الوطء، والتحقيق : أن النكاح في لغتهم الوطء. قال الجوهري في صحاحه : النكاح الوطء، وقد يكون العقد، اه. وإنما سموا عقد التزويج نكاحًا ؛ لأنه سبب النكاح أي الوطء، وإطلاق المسبب، وإرادة سببه معروف في القرآن، وفي كلام العرب، وهو مما يسمّيه القائلون بالمجاز، المجاز المرسل كما هو معلوم عندهم في محله، ومن إطلاق العرب النكاح على الوطء، قول الفرزدق :
وذات حليل أنكحتها رماحنا | حلال لمن يبني بها لم تطلق |
وبنت كريم قد نكحنا ولم يكن | لها خاطب إلا السنان وعامله |
وقوله :
إذا سقى اللَّه قومًا صوب غادية | فلا سقى اللَّه أهل الكوفة المطرا |
التاركين على طهر نساءهم | والناكحين بشطي دجلة البقرا |
قالوا : ومما يدلّ على أن النكاح في الآية غير التزويج، أنه لو كان معنى النكاح فيها التزويج لوجب حدّ المتزوّج بزانية ؛ لأن زان، والزاني يجب حدّه. وقد أجمع العلماء على أن من تزوّج زانية لا يحدّ حدّ الزنى، ولو كان زانيًا لحدّ حدّ الزنى. فافهم، هذا هو حاصل حجج من قالوا إن النكاح في الآية الوطء، وأن تزويج العفيف الزانية ليس بحرام، كعكسه.
وقالت جماعة أخرى من أهل العلم : لا يجوز تزويج الزاني لعفيفة ولا عكسه، وهو مذهب الإمام أحمد، وقد روي عن الحسن وقتادة، واستدلّ أهل هذا القول بآيات وأحاديث.
فمن الآيات التي استدلّوا بها هذه الآية التي نحن بصددها، وهي قوله تعالى :﴿ الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾، قالوا : المراد بالنكاح في هذه الآية : التزويج، وقد نصّ اللَّه على تحريمه في قوله :﴿ وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾، قالوا : والإشارة بقوله :﴿ ذالِكَ ﴾، راجعة إلى تزويج الزاني بغير الزانية أو المشركة وهو نصّ قرآني في تحريم نكاح الزاني العفيفة، كعكسه.
ومن الآيات التي استدلّوا بها قوله تعالى :﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ﴾ [ المائدة : ٥ ]، قالوا : فقوله ﴿ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾، أي : أعفاء غير زناة. ويفهم من مفهوم مخالفة الآية أنه لا يجوز نكاح المسافح الذي هو الزاني لمحصنة مؤمنة، ولا محصنة عفيفة من أهل الكتاب، وقوله تعالى :{ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْم
قوله تعالى في هذه الآية :﴿ يَرْمُونَ ﴾، معناه : يقذفون المحصنات بالزنا صريحًا أو ما يستلزم الزنا كنفي نسب ولد المحصنة عن أبيه ؛ لأنه إن كان من غير أبيه كان من زنى، وهذا القذف هو الذي أوجب اللَّه تعالى فيه ثلاثة أحكام :
الأول : جلد القاذف ثمانين جلدة.
والثاني : عدم قبول شهادته.
والثالث : الحكم عليه بالفسق.
فإن قيل : أين الدليل من القرآن على أن معنى ﴿ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ﴾ في هذه الآية : هو القذف بصريح الزنى، أو بما يستلزمه كنفي النسب ؟
فالجواب : أنه دلّت عليه قرينتان من القرآن :
الأولى : قوله تعالى :﴿ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء ﴾ بعد قوله :﴿ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ﴾، ومعلوم أنه ليس شيء من القذف يتوقف إثباته على أربعة شهداء إلا الزنى، ومن قال : إن اللواط حكمه حكم الزنى أجرى أحكام هذه الآية على اللائط.
وقد قدّمنا أحكام اللائط مستوفاة في سورة «هود »، كما أشرنا له غير بعيد.
القرينة الثانية : هي ذكر المحصنات بعد ذكر الزواني، في قوله تعالى :﴿ الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً ﴾ [ النور : ٣ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ ﴾ [ النور : ٢ ]، فذكر المحصنات بعد ذكر الزواني، يدلّ على إحصانهن، أي : عفتهن عن الزنى، وأن الذين يرمونهن إنما يرمونهن بالزنى، وقد قدمنا جميع المعاني التي تراد بالمحصنات في القرآن، ومثّلنا لها كلها من القرآن في سورة «النساء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٤ ]، فذكرنا أن من المعاني التي تراد بالمحصنات كونهن عفائف غير زانيات ؛ كقوله :﴿ مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ﴾ [ النساء : ٢٥ ]، أي : عفائف غير زانيات، ومن هذا المعنى قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ﴾، أي : العفائف، وإطلاق المحصنات على العفائف معروف في كلام العرب. ومنه قول جرير :
فلا تأمننّ الحيّ قيسًا فإنَّهم | بنو محصنات لم تدنس حجورها |
رماني بأمر كنت منه ووالدي | بريئًا ومن أجل الطوى رماني |
وجرح اللسان كجرح اليد
واعلم أن هذه الآية الكريمة مبيّنة في الجملة من ثلاث جهات :
الجهة الأولى : هي القرينتان القرآنيّتان الدالّتان على أن المراد بالرمي في قوله :﴿ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ﴾، هو الرمي بالزنى، أو ما يستلزمه كنفي النسب ؛ كما أوضحناه قريبًا.
الجهة الثانية : هي أن عموم هذه الآية ظاهر في شموله لزوج المرأة إذا رماها بالزنى، ولكن اللَّه جلَّ وعلا بيّن أن زوج المرأة إذا قذفها بالزنى خارج من عموم هذه الآية، وأنه إن لم يأت الشهداء، تلاعنا، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ ﴾[ النور : ٦ ] الآية.
ومضمونها : أن الزوج إذا قذف زوجته بالزنى ولم يكن له شاهد غير نفسه، والمعنى أنه لم يقدر على الإتيان ببيّنة تشهد له على الزنى الذي رماها به، فإنه يشهد أربع شهادات يقول في كل واحدة منها : أشهد باللَّه إني لصادق فيما رميتها به من الزنى، ثم يقول في الخامسة : عليَّ لعنة اللَّه إن كنت كاذبًا عليها فيما رميتها به، ويرتفع عنه الجلد وعدم قبول الشهادة والفسق بهذه الشهادات. وتشهد هي أربع شهادات باللَّه، تقول في كل واحدة منها : أشهد باللَّه إنه لكاذب فيما رماني به من الزنى، ثم تقول في الخامسة : غضب اللَّه عليّ إن كان صادقًا فيما رماني به من الزنى ؛ كما هو واضح من نصّ الآية.
الجهة الثالثة : أن اللَّه بيَّن هنا حكم عقوبة من رمى المحصنات في الدنيا، ولم يبيّن ما أعدّ له في الآخرة، ولكنّه بيّن في هذه السورة الكريمة ما أعدّ له في الدنيا والآخرة من عذاب اللَّه، وذلك في قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ في الدُّنْيَا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ [ النور : ٢٣-٢٤-٢٥ ]، وقد زاد في هذه الآية الأخيرة كونهنّ مؤمنات غافلات لإيضاح صفاتهنّ الكريمة.
ووصفه تعالى للمحصنات في هذه الآية بكونهنّ غافلان ثناء عليهن بأنهنّ سليمات الصدور نقيّات القلوب لا تخطر الريبة في قلوبهن لحسن سرائرهن، ليس فيهن دهاء ولا مكر ؛ لأنهن لم يجربن الأمر وفلا يفطن لما تفطن له المجربات ذوات المكر والدهاء، وهذا النوع من سلامة الصدور وصفائها من الريبة من أحسن الثناء، وتطلق العرب على المتّصفات به اسم البله مدحًا لها لا ذمًّا، ومنه قول حسّان رضي اللَّه عنه :
نفج الحقيبة بوصها متنضد | بلهاء غير وشيكة الإقسام |
ولقد لهوت بطفلة ميالة | بلهاء تطلعني على أسرارها |
عهدت بها هندًا وهند غريرة | عن الفحش بلهاء العشاء نؤم |
رداح الضحى ميالة بحترية | لها منطق بصبى الحليم رخيم |
وعمومات نصوص الكتاب والسنّة دالّة على أن من تاب إلى اللَّه من ذنبه توبة نصوحًا تقبلها منه، وكفر عنه ذنبه ولو من الكبائر، وبه تعلم أن قول جماعة من أجلاّء المفسرين أن آية :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء ﴾، التي جعل اللَّه فيها التوبة بقوله :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ﴾ عامّة، وأن آية :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ في الدُّنْيَا والآخرة ﴾ [ النور : ٢٣ ] الآية، خاصة بالذين رموا عائشة رضي اللَّه عنها أو غيرها من خصوص أزواجه صلى الله عليه وسلم، وأن من رماهن لا توبة له خلاف التحقيق، والعلم عند اللَّه تعالى.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى : لا يخفى أن الآية إنما نصّت على قذف الذكور للإناث خاصّة ؛ لأن ذلك هو صريح قوله :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ﴾، وقد أجمع جميع المسلمين على أن قذف الذكور للذكور، أو الإناث للإناث، أو الإناث للذكور لا فرق بينه وبين ما نصّت عليه الآية، من قذف الذكور للإناث ؛ للجزم بنفي الفارق بين الجميع.
وقد قدّمنا إيضاح هذا وإبطال قول الظاهرية فيه، مع إيضاح كثير من نظائره في سورة «الأنبياء »، في كلامنا الطويل على آية :﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ في الْحَرْثِ ﴾ [ الأنبياء : ٧٨ ].
المسألة الثانية : اعلم أن المقرّر في أصول المالكية، والشافعية والحنابلة أن الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات، أو مفردات متعاطفات، أنه يرجع لجميعها إلا لدليل من نقل أو عقل يخصّصه ببعضها، خلافًا لأبي حنيفة القائل برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط، وإلى هذه المسألة أشار في «مراقي السعود »، بقوله :
وكل ما يكون فيه العطف | من قبل الاستثنا فكلا يقفو |
دون دليل العقل أو ذي السمع | والحق الافتراق دون الجمع |
وممن قال كقول أبي حنيفة من أهل العلم : القاضي شريح، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، ومكحول، وعبد الرحمان بن زيد بن جابر، وقال الشعبي والضحاك : لا تقبل شهادته إلا إذا اعترف على نفسه بالكذب، قاله ابن كثير.
وقال جمهور أهل العلم، منهم الأئمة الثلاثة : إن الاستثناء في الآية راجع أيضًا لقوله :﴿ وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً ﴾، وأن القاذف إذا تاب وأصلح قبلت شهادته. أمّا قوله :﴿ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾، فلا يرجع له الاستثناء ؛ لأن القاذف إذا تاب وأصلح، لا يسقط عنه حدّ القذف بالتوبة.
فتحصّل أن الجملة الأخيرة التي هي قوله :﴿ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾، يرجع لها الاستثناء بلا خلاف. وأن الجملة الأولى التي هي :﴿ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾، لا يرجع لها الاستثناء في قول عامّة أهل العلم، ولم يخالف إلاّ من شذّ، وأن الجملة الوسطى، وهي قوله :﴿ وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً ﴾، يرجع لها الاستثناء في قول جمهور أهل العلم، منهم الأئمّة الثلاثة خلافًا لأبي حنيفة، وقد ذكرنا في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، أن الذي يظهر لنا في مسألة الاستثناء بعد جمل متعاطفات أو مفردات متعاطفات هو ما ذكره بعض المتأخّرين، كابن الحاجب من المالكية، والغزالي من الشافعية، والآمدي من الحنابلة من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف، ولا يحكم برجوعه إلى الجميع، ولا إلى الأخيرة إلا بدليل.
وإنما قلنا : إن هذا هو الأظهر ؛ لأن اللَّه تعالى يقول :﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شيء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾[ النساء : ٥٩ ] الآية.
وإذا رددنا النزاع في هذه المسألة إلى اللَّه وجدنا القرآن دالاً على ما ذكرنا أنه الأظهر عندنا، وهو الوقف. وذلك لأن بعض الآيات لم يرجع فيها الاستثناء للأولى، وبعضها لم يرجع فيه الاستثناء للأخيرة، فدلّ ذلك على أن رجوعه لما قبله ليس شيئًا مط
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَيَدْرَؤُواْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ﴾ الآية، معنى :﴿ يَدْرَؤُواْ ﴾ : يدفعوا، والمراد بالعذاب هنا : الحدّ، والمصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله :﴿ أَن تَشْهَدَ ﴾ فاعل يدرأ، أي : يدفع عنها الحدّ شهادتها ﴿ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ ﴾ الآية.
والدليل على أن المراد بالعذاب في قوله :﴿ وَيَدْرَؤوُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ ﴾، الحدّ من أوجه :
الأول : منها سياق الآية، فهو يدلّ على أن العذاب الذي تدرؤه عنها شهاداتها هو الحدّ.
والثاني : أنه أطلق اسم العذاب في مواضع أُخر، على الحدّ مع دلالة السياق فيها على أن المراد بالعذاب فيها الحدّ ؛ كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ النور : ٢ ]، فقوله :﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا ﴾، أي : حدّهما بلا نزاع. وذلك قوله تعالى في الإماء :﴿ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ [ النساء : ٢٥ ]، أي : نصف ما على الحرائر من الجلد.
وهذه الآية تدلّ على أن الزوج إذا رمى زوجته وشهد شهاداته الخمس المبينة في الآية أن المرأة يتوجّه عليها الحدّ بشهاداته، وأن ذلك الحدّ المتوجّه إليها بشهادات الزوج تدفعه عنها شهاداتها هي الموضحة في الآية.
ومفهوم مخالفة الآية يدلّ على أنها لو نكلت عن شهاداتها، لزمها الحدّ بسبب نكولها مع شهادات الزوج، وهذا هو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه، فشهادات الزوج القاذف تدرأ عنه هو حدّ القذف، وتوجّه إليها هي حدّ الزنى، وتدفعه عنه شهاداتها.
وظاهر القرآن أيضًا أنه لو قذف زوجته وامتنع من اللعان أنه يحدّ حدّ القذف، فكل من امتنع من الزوجين من الشهادات الخمس وجب عليه الحد، وهذا هو الظاهر من الآيات القرآنية ؛ لأن الزوج القاذف داخل في عموم قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾ [ النور : ٤ ] ؛ ولكن اللَّه بيّن خروج الزوج من هذا العموم بشهاداته، حيث قال :﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ * لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [ النور : ٦-٧ ]، فلم يجعل له مخرجًا من جلد ثمانين، وعدم قبول الشهادة، والحكم بالفسق إلا بشهاداته التي قامت له مقام البيّنة المبرئة له من الحدّ، فإن نكل عن شهاداته فالظاهر وجوب الحدّ عليه ؛ لأنه لم تدرأ عنه أربعة عدول يشهدون بصدقه، ولا شهادات تنوب عن الشهود. فتعيّن أنه يحدّ لأنه قاذف، ولم يأتِ بما يدفع عنه حدّ القذف، وكذلك الزوجة إذا نكلت عن أيمانها فعليها الحدّ ؛ لأن اللَّه نصَّ على أن الذي يدرأ عنها الحدّ هو شهاداتها في قوله تعالى :﴿ وَيَدْرَؤُواْ عَنْهَا الْعَذَابَ ﴾ الآية، وممّن قال إن الزوج يلزمه الحدّ إن نكل عن الشهادات الأئمّة الثلاثة، خلافًا لأبي حنيفة القائل بأنه يحبس حتى يلاعن، أو يكذب نفسه، فيقام عليه حدّ القذف. ومّن قال بأنها إن شهد هو، ونكلت هي أنها تحدّ بشهاداته ونكولها : مالك، والشافعي، والشعبي، ومكحول، وأبو عبيد، وأبو ثور ؛ كما نقله عنهم صاحب «المغني ».
وهذا القول أصوب عندنا، لأنه ظاهر قوله :﴿ وَيَدْرَؤُواْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ﴾ الآية، ولا ينبغي العدول عن ظاهر القرآن إلاّ لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنّة. وقال أبو حنيفة وأحمد : لا حدّ عليها بنكولها عن الشهادات، وتحبس أيضًا حتى تلاعن أو تقرّ فيقام عليها الحدّ.
قال في «المغني » : وبهذا قال الحسن، والأوزاعي، وأصحاب الرأي. وروي ذلك عن الحارث العكلي، وعطاء الخراساني، واحتجّ أهل هذا القول بحجج يرجع جميعها إلى أن المانع من حدّها أن زناها لم يتحقّق ثبوته ؛ لأن شهادات الزوج ونكولها هي لا يتحقّق بواحد منهما، ولا بهما مجتمعين ثبوت الزنى عليها.
وقول الشافعي ومالك ومن وافقهما في هذه المسألة أظهر عندنا ؛ لأن مسألة اللعان أصل مستقل لا يدخله القياس على غيره، فلا يعدل فيه عن ظاهر النصّ إلى القياس على مسألة أخرى، والعلم عند اللَّه تعالى.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى : اعلم أن اللعان لا يلزم بين الزوجين، إلاّ بقذف الرجل زوجته قذفًا يوجب عليه الحدّ لو قاله لغير زوجة كرميها بالزنى، ونفي ولدها عنه، وقول الجمهور هنا : إنه يكفي في وجوب اللعان قذفها بالزنى من غير اشتراط أن يقول : رأيت بعيني، أظهر عندي مما روي عن مالك، من أنه لا يلزم اللعان، حتى يصرح برؤية العين ؛ لأن القذف بالزنى كاف دون التصريح برؤية العين.
وقول الملاعن في زمنه صلى الله عليه وسلم : رأت عيني وسمعت أذني، لا يدلّ على أنه لو اقتصر على أنها زنت، أن ذلك لا يكفي، دون اشتراط رؤية العين، وسماع الأذن كما لا يخفى، والعلم عند اللَّه تعالى.
المسألة الثانية : اعلم أن العلماء اختلفوا في شهادات اللّعان المذكورة في قوله :﴿ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ﴾ [ النور : ٦ ] إلى آخر الآيات، هل هي شهادات أو أيمان على أربعة أقوال :
الأول : أنها شهادات ؛ لأن اللَّه سمّاها في الآية شهادات.
والثاني : أنها أيمان.
والثالث : أنها أيمان مؤكّدة بلفط الشهادة.
والرابع : عكسه، وينبني على الخلاف في ذلك أنّ من قال : إنها شهادات لا يصح عنده اللّعان، إلاّ ممن تجوز شهادته، فيشترط في الملاعن والملاعنة العدالة وغيرها من شروط قبول الشهادة، ومن قال : إنها أيمان صحّ عنده اللّعان من كل زوجين، ولو كانا لا تصحّ شهادتهما لفسق أو غيره من مسقطات قبول الشهادة، وينبني على الخلاف المذكور ما لو شهد مع الزوج ثلاثة عدول، فعلى أنها شهادة يكون الزوج رابع الشهود، فيجب عليها حدّ الزنى، وعلى أنها أيمان يحدّ الثلاثة ويلاعن الزوج. وقيل : لا يحدّون. وممن قال : بأنها شهادات وأن اللعان لا يصحّ إلا ممن تقبل شهادته، وأنها تحدّ بشهادة الثلاثة مع الزوج أبو حنيفة رحمه اللَّه ومن تبعه، والأكثرون على أنها أيمان مؤكّدة بلفظ الشهادة.
قال مقيّده عفا اللَّه عنه وغفر له : أظهر الأقوال عندي : أنها أيمان مؤكّدة بالشهادة، وأن لفظ الشهادة ربما أُطلق في القرآن، مرادًا بها اليمين، مع دلالة القرائن على ذلك، وإنما استظهرنا أنها أيمان لأمور :
الأول : التصريح في الآية بصيغة اليمين في قوله :﴿ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ﴾ [ النور : ٦ ] ؛ لأن لفظة باللَّه يمين فدلّ قوله :﴿ بِاللَّهِ ﴾ على أن المراد بالشهادة اليمين للتصريح بنصّ اليمين، فقوله : أشهد باللَّه في معنى : أقسم باللَّه.
الثاني : أن القرآن جاء فيه إطلاق الشهادة وإرادة اليمين في قوله :﴿ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا ﴾ [ المائدة : ١٠٧ ]، ثم بيّن أن المراد بتلك الشهادة اليمين في قوله :﴿ ذالِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾[ المائدة : ١٠٨ ]، فقوله :﴿ أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾[ المائدة : ١٠٨ ]، دليل على أن المراد بلفظ الشهادة في الآية اليمين، وهو واضح كما ترى.
وقال القرطبي : ومنه قوله تعالى :﴿ إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ﴾ [ المنافقون : ١ ] الآية ؛ لأن قوله تعالى :﴿ اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ﴾ [ المنافقون : ٢ ]، يدلّ على أن المراد بشهادتهم الأيمان، هكذا قال، ولا يتعيّن عندي ما ذكره من الاستدلال بهذه الآية، والعلم عند اللَّه تعالى.
الثالث : ما قاله ابن العربي، قال : والفيصل أنها يمين لا شهادة، أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب، وكيف يجوز لأحد أن يدّعي في الشريعة أن شاهدًا يشهد لنفسه بما يوجب حكمًا على غيره هذا بعيد في الأصل، معدوم في النظر، اه منه بواسطة نقل القرطبي.
وحاصل استدلاله هذا : أن استقراء الشريعة استقراء تامًّا، يدلّ على أنه لم يوجد فيها شهادة إنسان لنفسه بما يوجب حكمًا على غيره، وهو استدلال قوي ؛ لأن المقرّر في الأصول أن الاستقراء التامّ حجّة ؛ كما أوضحناه مرارًا، ودعوى الحنفية ومن وافقهم أن الزوج غير متّهم لا يسوغ شهادته لنفسه ؛ لإطلاق ظواهر النصوص في عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه مطلقًا.
الرابع : ما جاء في بعض روايات حديث اللعان أنه صلى الله عليه وسلم قال لما جاءت الملاعنة بالولد شبيهًا بالذي رميت به :«لولا الأيمان لكان لي ولها شأن »، عند أحمد وأبي داود، وقد سمّى صلى الله عليه وسلم في هذه الرواية شهادات اللّعان أيمانًا، وفي إسناد الرواية المذكور عبّاد بن منصور، تكلّم فيه غير واحد، ويقال : إنه كان قدريًّا إلى غير ذلك من أدلّتهم.
وأمّا الذين قالوا : إنها شهادات لا أيمان، فاحتجّوا بأن اللَّه سمّاها شهادات في قوله :﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ ﴾ [ النور : ٦ ]، وفي قوله :﴿ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ ﴾ [ النور : ٦ ] الآية، وقوله :﴿ وَيَدْرَؤُواْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ ﴾[ النور : ٨ ] الآية. واستدلّوا أيضًا بحديث :«أربعة لا لعان بينهم وبين أزواجهم : اليهودية والنصرانية تحت المسلم، والمملوكة تحت الحرّ، والحرّة تحت المملوك »، اه.
قالوا : إنما منع لعان اليهودية والنصرانية والعبد والأَمة، لأنهم ليسوا ممن تقبل شهادتهم، ولو كانت شهادات اللعان أيمانًا لصح لعانهم ؛ لأنهم ممن تقبل يمينه. وقال الزيلعي في «نصب الراية »، في الحديث المذكور : قلت : أخرجه ابن ماجه في سننه عن ابن عطاء، عن أبيه عطاء الخراساني، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه : أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال :«أربع من النساء لا ملاعنة بينهن وبين أزواجهنّ : النصرانيّة تحت المسلم، واليهودية تحت المسلم، والمملوكة تحت الحرّ، والحرة تحت المملوك »، انتهى.
وأخرجه الدارقطني في سننه، عن عثمان بن عبد الرحمان الوقاصي، عن عمرو بن شعيب به، وقال : عن جدّه عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا :«أربعة ليس بينهم لعان : ليس بين الحر والأمة لعان، وليس بين العبد والحرة لعان، وليس بين المسلم واليهودية لعان، وليس بين المسلم والنصرانية
بين جل وعلا في هذه الآية، أنه لولا فضله ورحمته، ما زكا أحد من خلقه ولكنه بفضله ورحمته يزكي من يشاء تزكيته من خلقه.
ويفهم من الآية أنه لا يمكن أحداً أن يزكي نفسه بحال من الأحوال، وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبيناً في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكّى مَن يَشَاء ﴾ [ النساء : ٤٩ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى ﴾ [ النجم : ٣٢ ].
والزكاة في هذه الآية : هي الطهارة من أنحاس الشرك، والمعاصي.
وقوله :﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكّى مَن يَشَاء ﴾ أي يطهره من أدناس الكفر والمعاصي بتوفيقه وهدايته إلى الإيمان والتوبة النصوح والأعمال الصالحة.
وهذا الذي دلت عليه هذه الآيات المذكورة لا يعارضه قوله تعالى :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴾ [ الشمس : ٩ ] ولا قوله :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴾ [ الأعلى : ١٤ ] على القول بأن معنى تزكى تطهر من أدناس الكفر والمعاصي، لا على أن المراد بها خصوص زكاة الفطر، ووجه ذلك في قوله : من زكاها أنه لا يزكيها إلا بتوفيق الله وهدايته إياه للعمل الصالح، وقبوله منه.
وكذلك الأمر في قوله :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴾ [ الأعلى : ١٤ ] كما لا يخفى.
والأظهر أن قوله :﴿ مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ ﴾ الآية : جواب لولا التي تليه، خلافاً لمن زعم أنه جواب لولا في قوله :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ * رَءوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ وقد تكرر في الآيات التي قبل هذه الآية حذف جواب لولا، لدلالة القرائن عليه.
نزلت هذه الآية الكريمة في أبي بكر رضي الله عنه، ومسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، وكان مسطح المذكور من المهاجرين وهو فقير، وكانت أمه ابنة خالة أبي بكر رضي الله عنه، وكان أبو بكر ينفق عليه لفقره وقرباته وهجرته، وكان ممن تكلم في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالإفك المذكور في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ ﴾ [ النور : ١١ ] الآية، وهو ما رموها به من أنها فجرت مع صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه.
وقصة الإفك معروفة مشهورة ثابتة في عشر آيات من هذه السورة الكريمة، وفي الأحاديث الصحاح، فلما نزلت براءة عائشة رضي الله عنها في الآيات المذكورة، حلف أبو بكر ألا ينفق على مسطح، ولا ينفعه بنافعة بعد ما رمى عائشة بالإفك ظلماً وافتراء، فأنزل الله في ذلك :﴿ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ * في سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ الآية. وقوله :﴿ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ ﴾ أي لا يحلف فقوله : يأتل وزنه يفتعل من الألية وهي اليمين، تقول العرب آلى يؤلى وائتلي يأتلي إذا حلف، ومنه قوله تعالى :﴿ لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢٦ ] أي يحلفون مضارع آلى يؤلى إذا حلف. ومنه قول امرئ القيس.
ويوما على ظهر الكثيب تعذرت | على وآلت حلفة لم تحلل |
فآليت لا تنفك عيني حزينة | عليك ولا ينفك جلدي أغبرا |
قليل الألابا حافظ ليمينه | وإن سبقت منه الألية برت |
وقال بعض أهل العلم قوله : ولا يأتل : أي لا يقصر أصحاب الفضل، والسعة كأبي بكر في إيتاء أولى القربى كمسطح، وعلى هذا فقوله يأتل يفتعل من ألا يألوا في الأمر إذا قصر فيه وأبطأ.
ومنه قوله تعالى :﴿ يَظْلِمُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ﴾ [ آل عمران : ١١٨ ] أي لا يقصورن في مضرتكم، ومنه بهذا المعنى قول الجعدي :
وأشمط عريان يشد كتافه | بلام على جهد القتال وما ائتلا |
وإن كنائني لنساء صدق | فما آلى بني ولا أساءوا |
وقد قدمنا دلالة هاتين الآيتين على المعنى المذكور، وذكرنا ما يوضحه من الأحاديث الصحيحة في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى :﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ ﴾ [ المائدة : ٨٩ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ ﴾ فيه الأمر من الله للمؤمنين إذا أساء إليهم بعض إخوانهم المسلمين أن يعفوا عن إساءتهم ويصفحوا وأصل العفو : من عفت الريح الأثر إذا طمسته.
والمعنى : فليطمسوا آثار الإساءة بحلمهم وتجاوزهم، والصفح، قال بعض أهل العلم مشتق من صفحة العنق أي أعرضوا عن مكافأة إساءتهم حتى كأنكم تولونها بصفحة العنق، معرضين عنها. وما تضمنته هذه الآية من العفو والصفح جاء مبيناً في مواضع أخر كقوله تعالى :﴿ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاواتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ في السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٣٣-١٣٤ ] وقد دلت هذه الآية على أن كظم الغيط والعفو عن الناس، من صفات أهل الجنة، وكفى بذلك حثاً على ذلك. ودلت أيضاً : على أن ذلك من الإحسان الذي يجب الله المتصفين به وكقوله تعالى :﴿ إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ﴾ [ النساء : ١٤٨ ] وقد بين تعالى في هذا الآية أن العفو مع القدرة من صفاته تعالى، وكفى بذلك حثاً عليه، وكقوله تعالى :﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ [ الحجر : ٨٥ ] وكقوله :﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ ﴾ [ الشورى : ٤٣ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ ألا تحبون أن يغفر الله لكم ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ دليل على أن العفو والصفح على المسيء المسلم من موجبات غفران الذنوب، والجزاء من جنس العمل، ولذا لما نزلت قال أبو بكر : بلى والله نحب أن يغفر لنا ربنا، ورجع للإنفاق في مسطح، ومفعول أن يغفر الله محذوف للعلم به : أي يغفر لكم ذنوبكم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ أُوْلِى الْقُرْبَى ﴾ أي أصحاب القرابة، ولفظة أولى اسم جمع لا واحد له من لفظه يعرب إعراب الجمع المذكر السالم.
فائدة
في هذه الآية الكريمة، دليل على أن كبائر الذنوب لا تحبط العمل الصالح، لأن هجرة مسطح بن أثاثة من عمله الصالح، وقذفه لعائشة من الكبائر ولم يبطل هجرته لأن الله قال فيه بعد قذفه لها ﴿ وَالْمُهَاجِرِينَ في سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ فدل ذلك على أن هجرته في سبيل الله، لم يحبطها قذفه لعائشة رضي الله عنها.
قال القرطبي في هذه الآية : دليل على أن القذف وإن كان كبيراً لا يحبط الأعمال، لأن الله تعالى وصف مسطحاً بعد قوله بالهجرة والإيمان، وكذلك سائر الكبائر، ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال تعالى :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [ الزمر : ٦٥ ] اه.
وما ذكر من أن في الآية وصف مسطح بالإيمان لم يظهر من الآية، وإن كان معلوماً.
وقال القرطبي أيضاً : قال عبد الله بن المبارك : هذه أرجى آية في كتاب الله. ثم قال بعد هذا : قال بعض العلماء، هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ. وقيل : أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله تعالى :﴿ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ اللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً ﴾ [ الأحزاب : ٤٧ ] وقد قال تعالى في آية أخرى ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ في رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾[ الشورى : ٢٢ ] فشرح الفضل الكبير في هذه الآية، وبشر به المؤمنين في تلك.
ومن آيات الرجاء قوله تعالى :﴿ قُلْ يا أَهْلَ عبادي الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ﴾ [ الزمر : ٣٥ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ﴾ [ الشورى : ١٩ ] وقال بعضهم : أرجى آية في كتاب الله عز وجل ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [ الضحى : ٥ ] وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار. انتهى كلام القرطبي.
وقال بعض أهل العلم : أرجى آية في كتاب الله عز وجل، آية الدين : وهي أطول آية في القرآن العظيم، وقد أوضح الله تبارك وتعالى فيها الطرق الكفيلة بصيانة الدين من الضياع، ولو كان الدين حقيراً كما يدل عليه قوله تعالى فيها :﴿ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ]، قالوا : هذا من المحافظة في آية الدين على صيانة مال المسلم، وعدم ضياعه، ولو قليلاً يدل على العناية التامة بمصالح المسلم، وذلك يدل على أن اللطيف الخبير لا يضيعه يوم القيامة عند اشتداد الهول، وشدة حاجته إلى ربه.
قال مقيده عفا الله وغفر له : من أرجى آيات القرآن العظيم قوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ [ فاطر : ٣٢-٣٥ ].
فقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن إيراث هذه الأمة لهذا الكتاب، دليل على أن الله اصطفاها في قوله :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ﴾[ فاطر : ٣٢ ] وبين أنهم ثلاثة أقسام :
الأول : الظالم لنفسه وهو الذي يطيع الله، ولكنه يعصيه أيضاً فهو الذي قال الله فيه ﴿ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٠٢ ].
والثاني : المقتصد وهو الذي يطيع الله، ولا يعصيه، ولكنه لا يتقرب بالنوافل من الطاعات.
والثالث : السابق بالخيرات : وهو الذي يأتي بالواجبات ويجتنب المحرمات ويتقرب إلى الله بالطاعات والقربات التي هي غير واجبة، وهذا على أصح الأقوال في تفسير الظالم لنفسه، والمقتصد والسابق، ثم إنه تعالى بين أن إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير منه عليهم، ثم وعد الجميع بجنات عدن وهو لا يخلف الميعاد في قوله :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ﴾ إلى قوله :{ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيه
المراد بالدين هنا الجزاء، ويدل على ذلك قوله : يوفيهم، لأن التوفية تدل على الجزاء كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأوْفَى ﴾ [ النجم : ٤١ ] وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ آل عمران : ١٨٥ ] وقوله ﴿ وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ﴾ [ آل عمران : ١٦١ ] و [ البقرة : ٢٨١ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله : دينهم، أي جزاءهم الذي هو في غاية العدل والإنصاف، وقال الزمخشري : دينهم الحق : أي جزاءهم الواجب الذي هم أهله والأول أصح، لأن الله يجازي عباده بإنصاف تام، وعدل كامل، والآيات القرآنية في ذلك كثيرة كقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ﴾ [ النساء : ٤٠ ] وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [ يونس : ٤٤ ] وقوله :﴿ وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حاسبين ﴾ [ الأنبياء : ٤٧ ] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه. ومن إتيان الدين بمعنى الجزاء في القرآن قوله تعالى :﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ﴾ [ الفاتحة : ٤ ].
اعلم أن هذه الآية الكريمة أشكلت على كثير من أهل العلم، وذلك من أجل التعبير عن الاستئذان بالاستئناس، مع أنهما مختلفان في المادّ والمعنى. وقال ابن حجر في الفتح : وحكى الطحاوي : أن الاستئناس في لغة ليمن : الاستئذان. وفي تفسير هذه الآية الكريمة بما يناسب لفظها وجهان، ولكل منهما شاهد من كتاب الله تعالى.
الوجه الأول : أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو ضد الاستيحاش، لأن الذي يقرع باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له استأنس وزال عنه الاستيحاش، ولما كان الاستئناس لازماً للإذن أطلق اللازم، وأريد ملزومه الذي هو الإذن، وإطلاق اللازم، وإرادة الملزوم أسلوب عربي معروف، والقائلون بالمجاز يقولون : إن ذلك من المجاز المرسل، وعلى أن هذه الآية أطلق فيها اللازم الذي هو الاستئناس وأريد ملزومه الذي هو الإذن يصير المعنى : حتى تستأذنوا، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى :﴿ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِىّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ﴾ [ الأحزاب : ٥٣ ]، وقوله تعالى بعده :﴿ فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ ﴾ [ النور : ٢٨ ]، وقال الزمخشري في هذا الوجه بعد أن ذكره : وهذا من قبيل الكناية، والإرداف، لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الأذن.
الوجه الثاني في الآية : هو أن يكون الاستئناس بمعنى الاستعلام، والاستكشاف. فهو استفعال من آنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً أو علمه.
والمعنى : حتى تستعملوا وتستكشفوا الحال، هل يؤذن لكم أو لا ؟ وتقول العرب : استئنس هل ترى أحداً، واستأنست فلم أر أحداً، أي تعرفت واستعلمت، ومن هذا المعنى قوله تعالى :﴿ فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ﴾ [ النساء : ٦ ] أي علمتم رشدهم وظهر لكم. وقوله تعالى عن موسى :﴿ إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس ﴾ [ طه : ١٠ ] وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً ﴾ [ القصص : ٢٩ ] الآية فمعنى آنس ناراً : رآها مكشوفة. ومن هذا المعنى قول نابغة ذبيان :
كأن رحلي وقد زال النهار بنا | بذي الجليل على مستأنس وحد |
من وحش وجرة موشى أكارعه | طاوى المصير كيف الصيقل الفرد |
آنست نبأة وأفزعها القنا | ص عصراً وقد دنا الإمساء |
وبما ذكرنا تعلم أنما يروى عن ابن عباس وغيره من أن أصل الآية : حتى تستأذنوا وأن الكاتبين غلطوا في كتابتهم، فكتبوا تستأنسوا غلطاً بدل تستأذنوا لا يعول عليه، ولا يمكن أن يصح عن ابن عباس، وإن صحح سنده عنه بعض أهل العلم. ولو فرضنا صحته فهو من القراءات التي نسخت وتركت، ولعل القارئ بها لم يطلع على ذلك، لأن جميع الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على كتابة تستأنسوا في جميع نسخ المصحف العثماني، وعلى تلاوتها بلفظ : تستأنسوا، ومضى على ذلك إجماع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في مصاحفهم وتلاوتهم من غير نكير. والقرآن العظيم تولى الله تعالى حفظه من التبديل والتغيير، كما قال تعالى :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ الحجر : ٩ ] وقال فيه ﴿ لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [ فصلت : ٤٢ ] وقال تعالى :﴿ لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ [ القيامة : ١٦-١٧ ] الآية.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى : اعلم أن هذه الآية الكريمة دلت بظاهرها على أن دخول الإنسان بيت غيره بدون الاستئذان والسلام لا يجوز لأن قوله :﴿ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ﴾ الآية. نهي صريح، والنهي المتجرد عن القرائن يفيد التحريم على الأصح، كما تقرر في الأصول.
المسألة الثانية : اعلم أن الاستئذان ثلاث مرات، يقول المستأذن في كل واحدة منها : السلام عليكم أأدخل ؟ فإن لم يؤذن له عند الثالثة، فليرجع، ولا يزد على الثلاث، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه، لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا مطعن فيه.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا يزيد بن خصيفة، عن بسر بن سعيد، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور فقال : استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي، فرجعت قال : ما منعك ؟ قلت : استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع » فقال : والله لتقيمن عليه بينة أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أُبي بن كعب : والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك.
وقال ابن المبارك : أخبرني ابن عيينة : حدثني يزيد بن خصيفة عن بسر سمعت أبا سعيد بهذا ا ه بلفظه من صحيح البخاري، وهو نص صحيح صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستئذان ثلاث مرات، فإن لم يؤذن له بعد الثالثة رجع. وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد، حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا والله يزيد بن حصفية، عن بسر بن سعيد قال : سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول : كنت جالساً بالمدينة في مجلس الأنصار فأتاه أبو موسى فزعاً أو مذعوراً قلنا : ما شأنك ؟ قال : إن عمر أرسل إلي أن آتيه فأتيت بابه، فسلمت ثلاثاً فلم يرد علي فرجعت فقال : ما منعك أن تأتينا ؟ فقلت : إنني أتيتك، فسلمت على بابك ثلاثاً، فلم يردوا علي فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع » فقال عمر : أقم عليها البينة، وإلا أوجعتك. فقال أبي بن كعب : لا يقوم معه إلا أصغر القوم : قال أبو سعيد : قلت : أنا أصغر القوم، قال : فادهب به. حدثنا قتيبة بن سعيد وابن أبي عمر قالا : حدثنا سفيان، عن يزيد بن خصيفة بهذا الإسناد، وزاد ابن أبي عمر في حديثه : قال أبو سعيد : فقمت معه فذهبت إلى عمر فشهدت. ا ه بلفظه من صحيح مسلم. وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي سعيد قال : فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا فقال أبيّ بن كعب : فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سناً، قم يا أبا سعيد فقمت حتى أتيت عمر فقلت : قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا.
وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي سعيد فقال : إن كان هذا شيئاً حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فها، وإلا فلأجعلنك عظة. قال أبو سعيد : فأتانا فقال : ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الاستئذان ثلاث. قال فجعلوا يضحكون، قال فقلت : أتاكم أخوكم المسلم قد أفزع، تضحكون انطلق فأنا شريكك في هذه العقوبة فأتاه، فقال هذا أبو سعيد.
وفي لفظ عند مسلم من حديث عبيد بن عمير أن أبا موسى استأذن على عمر ثلاثاً إلى قوله : قال لتقيمن على هذا بينة، أو لأفعلن فخرج فانطلق إلى مجلس من الأنصار، فقالوا : لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا، فقام أبو سعيد، فقال : وكنا نؤمر بهذا، فقال عمر : خفي عليّ هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني عنه الصفق في الأسواق. وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : لتأتيني على هذا ببينة وإلا فعلت وفعلت، فذهب أبو موسى قال عمر : إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية، وإن لم يجد بينة فلم تجدوه، فلما أن جاء العشي وجدوه قال يا أبا موسى : ما تقول ؟ أقد وجدت ؟ قال : نعم أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال عدل يا أبا الطفيل ما يقول هذا ؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك يا بن الخطاب، فلا تكونن عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سبحان الله : إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت. وفي لفظ لمسلم : أن عمر قال لأبي : يا ابا المنذر آنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : نعم، فلا تكن يا بن الخطاب عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس في هذه الرواية قول عن سبحان الله، وما بعده.
فهذه الروايات الصحيحة عن أبي سعيد وأبي موسى، وأبيّ بن كعب رضي الله عنهم تدل دلالة صحيحة صريحة على أن الإستئذان ثلاث. وقال النووي في شرح مسلم : وأما قوله لا يقوم معه إلا أصغر القوم، فمعناه أن هذا حديث مشهور بيننا معروف لكبارنا، وصغارنا. حتى إن أصغرنا يحفظه وسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا ه منه. والظاهر منه كما قال وهذه الروايات الصحيحة الصريحة تبين أن هذا الاستئذان المعبر عنه في الآية بالاستئناس والسلام المذكور فيها لا يزاد فيه على ثلاث مرات، وأن الاستئناس المذكور في الآية، هو الاستئذان المكرر ثلاثاً، لأن خير ما يفسر به كتاب الله بعد كتاب الله سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه. وبذلك تعلم أنما قاله ابن حجر في فتح الباري : من أن المراد بالاستئناس في قوله تعالى : حتى تستأنسوا : الاستئذان بتنحنح، ونحوه عند الجمهور خلاف التحقيق، وما استدل به لذلك من رواية الطبري من طريق مجاهد تفسير الآية بما ذكر إلى آخر ما ذكر من الأدلة لا يعول عليه، وأن الحق هو ما جاءت به الروايات الصحيحة من الاستئذان والتسليم ثلاثاً كما رأيت.
وأن الصواب في ذلك هو ما نقله ابن حجر عن الطبري من طريق قتادة، قال الاستئناس : هو الاستئذان ثلاثاً إلى آخره. والرواية الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الاستئذان ثلاث " يؤيدها أنه صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل.
قال ابن حجر في الفتح : وفي رواية عبيد بن حنين، التي أشرت إليها في الأدب المفرد، زيادة مفيدة، وهي أن أبا سعيد أو أبا مسعود قال لعمر : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد سعد بن عبادة، حتى أتاه فسلم، فلم يؤذن له، ثم سلم الثانية فلم يؤذن له، ثم سلم الثالثة، فلم يؤذن له. فقال قضينا ما علينا، ثم رجع فأذن له سعد الحديث. فثبت ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم ومن فعله وقصة سعد بن عبادة هذه أخرجها أبو داود من حديث قيس بن سعد بن عبادة مطولة بمعناه، وأحمد من طريق ثابت، عن أنس أو غيره كذا فيه، وأخرجه البزار عن أنس بغير تردد، وأخرجه الطبراني من حديث أم طارق مولاة سعد. اه محل الغرض من
أمر اللَّه جلّ وعلا المؤمنين والمؤمنات بغضّ البصر، وحفظ الفرج، ويدخل في حفظ الفرج : حفظه من الزنى، واللواط، والمساحقة، وحفظه من الإبداء للناس والانكشاف لهم، وقد دلّت آيات أُخر على أن حفظه من المباشرة المدلول عليه بهذه الآية يلزم عن كل شيء إلا الزوجة والسرية، وذلك في قوله تعالى في سورة «المؤمنون » و«سأل سائل »، ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾ [ المؤمنون : ٥-٦ ].
فقد بيّنت هذه الآية أن حفظ الفرج من الزنى، واللواط لازم، وأنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والموطوءة بالملك.
وقد بيّنا في سورة «البقرة » أن الرجل يجب عليه حفظ فرجه عن وطء زوجته في الدبر، وذكرنا لذلك أدلّة كثيرة، وقد أوضحنا الكلام على آية :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون ﴾ [ المؤمنون : ٥ ]، في سورة ﴿ قد أفلح المؤمنون ﴾، وقد وعد اللَّه تعالى من امتثل أمره في هذه الآية من الرجال والنساء بالمغفرة والأجر العظيم، إذا عمل معها الخصال المذكورة معها في سورة «الأحزاب »، وذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ﴾، إلى قوله تعالى :﴿ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ [ الأحزاب : ٣٥ ]، وأوضح تأكيد حفظ الفرج عن الزنى في آيات أُخر ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٣٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يلق أثاما*يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مُهانا*إلا من تاب ﴾ [ الفرقان : ٦٨-٦٩-٧٠ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وأوضح لزوم حفظ الفرج عن اللّواط، وبيّن أنه عدوان في آيات متعدّدة في قصّة قوم لوط ؛ كقوله :﴿ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾ [ الشعراء : ١٦٥-١٦٦ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ في نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ﴾ [ العنكبوت : ٢٨-٢٩ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أوضحنا كلام أهل العلم وأدلّتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللّواط في سورة «هود »، وعقوبة الزاني في أول هذه السورة الكريمة.
واعلم أن الأمر بحفظ الفرج يتناول حفظه من انكشافه للناس. وقال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية : وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنى ؛ كما قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥ ] الآية، وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن :«احفظ عورتك إلاّ من زوجتك أو ما ملكت يمينك »، اه منه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ [ النور : ٣٠ ]، قال الزمخشري في الكشاف : من للتبعيض والمراد غضّ البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحلّ، وجوّز الأخفش أن تكون مزيدة، وأباه سيبويه، فإن قلت : كيف دخلت في غضّ البصر دون حفظ الفرج ؟ قلت : دلالة على أن أمر النظر أوسع، إلا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن، وصدورهن، وثديهن، وأعضادهن، وأسوقهن، وأقدامهن، وكذلك الجواري المستعرضات، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين، وأمّا أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقًا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه، وحظر الجماع إلا ما استنثي منه، ويجوز أن يراد مع حفظها من الإفضاء إلى ما لا يحلّ حفظها عن الإبداء.
وعن ابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنى إلا هذا فإنه أراد به الاستتار، اه كلام الزمخشري.
وما نقل عن ابن زيد من أن المراد بحفظ الفرج في هذه الآية الاستتار فيه نظر. بل يدخل فيه دخولاً أوّليًّا حفظه من الزنى واللّواط، ومن الأدلّة على ذلك تقديمه الأمر بغضُّ البصر على الأمر بحفظ الفرج ؛ لأن النظر بريد الزنى، كما سيأتي إيضاحه قريبًا إن شاء اللَّه تعالى. وما ذكر جواز النظر إليه من المحارم لا يخلو بعضه من نظر، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء اللَّه تعالى وتفصيله في سورة «الأحزاب »، كما وعدنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أنا نوضح مسألة الحجاب في سورة «الأحزاب ».
وقول الزمخشري : إن ﴿ مِنْ ﴾ في قوله :﴿ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ [ النور : ٣٠ ] للتبعيض، قاله غيره، وقوّاه القرطبي بالأحاديث الواردة في أن نظرة الفجاءة لا حرج فيها وعليه أن يغضّ بصره بعدها، ولا ينظر نظرًا عمدًا إلى ما لا يحلّ، وما ذكره الزمخشري عن الأخفش، وذكره القرطبي وغيرهما من أن ﴿ مِنْ ﴾ زائدة، لا يعوّل عليه. وقال القرطبي : وقيل الغضّ : النقصان. يقال : غضّ فلان من فلان، أي : وضع منه، فالبصر إذا لم يمكن من عمله، فهو موضوع منه ومنقوص، ف﴿ مِنْ ﴾ صلة للغض، وليست للتبعيض، ولا للزيادة، اه منه.
والأظهر عندنا أن مادّة الغضّ تتعدّى إلى المفعول بنفسها وتتعدّى إليه أيضًا بالحرف الذي هو ﴿ مِنْ ﴾، ومثل ذلك كثير في كلام العرب، ومن أمثله تعدّي الغض للمعقول بنفسه قول جرير :
فغضّ الطّرف إنك من نُمير | فلا كعبًا بلغت ولا كلابا |
وأغضُّ طرفي ما بدت لي جارتي | حتى يواري جارتي مأواها |
وما كان غضّ الطرف مناسجية | ولكننا في مذحج غربان |
ومن أمثلة تعدّي الغضّ ب﴿ مِنْ ﴾ قوله تعالى :﴿ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ [ النور : ٣٠ ] و ﴿ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ﴾ [ النور : ٣١ ]، وما ذكره هنا من الأمر بغضُّ البصر قد جاء في آية أخرى تهديد من لم يمتثله، ولم يغضّ بصره عن الحرام، وهي قوله تعالى :﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ ﴾ [ غافر : ١٩ ].
وقد قال البخاري رحمه اللَّه : وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن : إن نساء العجم يكشفن صدرهن ورءُوسهن، قال : اصرف بصرك عنهن، يقول اللَّه عزّ وجلّ :﴿ قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ﴾ [ النور : ٣٠ ]، قال قتادة : عمّا لا يحلّ لهم، ﴿ وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [ النور : ٣١ ]، خائنة الأعين النظر إلى ما نُهي عنه، اه محل الغرض منه بلفظه.
وبه تعلم أن قوله تعالى :﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ ﴾ [ غافر : ١٩ ] فيه الوعيد لمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحلّ له، وهذا الذي دلّت عليه الآيتان من الزجر عن النظر إلى ما لا يحلّ جاء موضحًا في أحاديث كثيرة.
منها : ما ثبت في الصحيح، عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«إياكم والجلوس بالطرقات »، قالوا : يا رسول اللَّه ما لنا من مجالسنا بدّ نتحدث فيها، قال :«فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقّه »، قالوا : وما حقّ الطريق يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال :«غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر »، انتهى. هذا لفظ البخاري في «صحيحه ».
ومنها ما ثبت في الصحيح عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما، قال :«أردف النبيّ صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلاً وضيئًا فوقف النبيّ صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها، فالتفت النبيّ صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده، فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها، الحديث.
ومحل الشاهد منه : أنه صلى الله عليه وسلم صرف وجه الفضل عن النظر إليها، فدلّ ذلك على أن نظره إليها لا يجوز، واستدلال من يرى أن للمرأة الكشف عن وجهها بحضرة الرجال الأجانب بكشف الخثعمية وجهها في هذا الحديث، سيأتي إن شاء اللَّه الجواب عنه في الكلام على مسألة الحجاب في سورة «الأحزاب ».
ومنها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما : من أن نظر العين إلى ما لا يحلّ لها تكون به زانية، فقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس، أنّه قال : ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم :«إن اللَّه كتب على ابن آدم حظّه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين : النظر، وزنى اللسان : المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كلّه ويكذبه »، اه. هذا لفظ البخاري، والحديث متفق عليه، وفي بعض رواياته زيادة على ما ذكرنا هنا.
ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم :«فزنى العين النظر »، فإطلاق اسم الزنى على نظر العين إلى ما لا يحلّ دليل واضح على تحريمه والتحذير منه، والأحاديث بمثل هذا كثيرة معلومة.
ومعلوم أن النظر سبب الزنى فإن من أكثر من النظر إلى جمال امرأة مثلاً قد يتمكن بسببه حبّها من قلبه تمكّنًا يكون سبب هلاكه، والعياذ باللَّه، فالنظر بريد الزنى. وقال مسلم بن الوليد الأنصاري :
كسبت لقلبي نظرة لتسرّه | عيني فكانت شقوة ووبالا |
ما مرّ بي شيء أشدّ من الهوى | سبحان من خلق الهوى وتعالى |
ألم ترَى أن العين للقلب رائد | فما تألف العينان فالقلب آلف |
وأنت إذا أرسلت طرفك رائدًا | لقلبك يومًا أتعبتك المناظر |
رأيت الذي لا كلّه أنت قادر | عليه ولا عن بعضه أنت صابر |
وأنا الذي اجتلب المنيّة طرفه | فمن المطالب والقتيل القاتل |
اعلم أولاً أن كلام العلماء في هذه الآية يرجع جميعه إلى ثلاثة أقوال :
الأول : أن الزينة هنا نفس شيء من بدن المرأة ؛ كوجهها وكفيها.
الثاني : أن الزينة هي ما يتزيّن به خارجًا عن بدنها.
وعلى هذا القول ففي الزينة المذكورة الخارجة عن بدن المرأة قولان :
أحدهما : أنها الزينة التي لا يتضمّن إبداؤها رؤية شيء من البدن ؛ كالملاءة التي تلبسها المرأة فوق القميص والخمار والإزار.
والثا
أمر اللَّه جلّ وعلا المؤمنين والمؤمنات بغضّ البصر، وحفظ الفرج، ويدخل في حفظ الفرج : حفظه من الزنى، واللواط، والمساحقة، وحفظه من الإبداء للناس والانكشاف لهم، وقد دلّت آيات أُخر على أن حفظه من المباشرة المدلول عليه بهذه الآية يلزم عن كل شيء إلا الزوجة والسرية، وذلك في قوله تعالى في سورة «المؤمنون » و«سأل سائل »، ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾ [ المؤمنون : ٥-٦ ].
فقد بيّنت هذه الآية أن حفظ الفرج من الزنى، واللواط لازم، وأنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والموطوءة بالملك.
وقد بيّنا في سورة «البقرة » أن الرجل يجب عليه حفظ فرجه عن وطء زوجته في الدبر، وذكرنا لذلك أدلّة كثيرة، وقد أوضحنا الكلام على آية :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون ﴾ [ المؤمنون : ٥ ]، في سورة ﴿ قد أفلح المؤمنون ﴾، وقد وعد اللَّه تعالى من امتثل أمره في هذه الآية من الرجال والنساء بالمغفرة والأجر العظيم، إذا عمل معها الخصال المذكورة معها في سورة «الأحزاب »، وذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ﴾، إلى قوله تعالى :﴿ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ [ الأحزاب : ٣٥ ]، وأوضح تأكيد حفظ الفرج عن الزنى في آيات أُخر ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٣٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يلق أثاما*يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مُهانا*إلا من تاب ﴾ [ الفرقان : ٦٨-٦٩-٧٠ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وأوضح لزوم حفظ الفرج عن اللّواط، وبيّن أنه عدوان في آيات متعدّدة في قصّة قوم لوط ؛ كقوله :﴿ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾ [ الشعراء : ١٦٥-١٦٦ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ في نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ﴾ [ العنكبوت : ٢٨-٢٩ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد أوضحنا كلام أهل العلم وأدلّتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللّواط في سورة «هود »، وعقوبة الزاني في أول هذه السورة الكريمة.
واعلم أن الأمر بحفظ الفرج يتناول حفظه من انكشافه للناس. وقال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية : وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنى ؛ كما قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥ ] الآية، وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن :«احفظ عورتك إلاّ من زوجتك أو ما ملكت يمينك »، اه منه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ [ النور : ٣٠ ]، قال الزمخشري في الكشاف : من للتبعيض والمراد غضّ البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحلّ، وجوّز الأخفش أن تكون مزيدة، وأباه سيبويه، فإن قلت : كيف دخلت في غضّ البصر دون حفظ الفرج ؟ قلت : دلالة على أن أمر النظر أوسع، إلا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن، وصدورهن، وثديهن، وأعضادهن، وأسوقهن، وأقدامهن، وكذلك الجواري المستعرضات، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين، وأمّا أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقًا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه، وحظر الجماع إلا ما استنثي منه، ويجوز أن يراد مع حفظها من الإفضاء إلى ما لا يحلّ حفظها عن الإبداء.
وعن ابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنى إلا هذا فإنه أراد به الاستتار، اه كلام الزمخشري.
وما نقل عن ابن زيد من أن المراد بحفظ الفرج في هذه الآية الاستتار فيه نظر. بل يدخل فيه دخولاً أوّليًّا حفظه من الزنى واللّواط، ومن الأدلّة على ذلك تقديمه الأمر بغضُّ البصر على الأمر بحفظ الفرج ؛ لأن النظر بريد الزنى، كما سيأتي إيضاحه قريبًا إن شاء اللَّه تعالى. وما ذكر جواز النظر إليه من المحارم لا يخلو بعضه من نظر، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء اللَّه تعالى وتفصيله في سورة «الأحزاب »، كما وعدنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أنا نوضح مسألة الحجاب في سورة «الأحزاب ».
وقول الزمخشري : إن ﴿ مِنْ ﴾ في قوله :﴿ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ [ النور : ٣٠ ] للتبعيض، قاله غيره، وقوّاه القرطبي بالأحاديث الواردة في أن نظرة الفجاءة لا حرج فيها وعليه أن يغضّ بصره بعدها، ولا ينظر نظرًا عمدًا إلى ما لا يحلّ، وما ذكره الزمخشري عن الأخفش، وذكره القرطبي وغيرهما من أن ﴿ مِنْ ﴾ زائدة، لا يعوّل عليه. وقال القرطبي : وقيل الغضّ : النقصان. يقال : غضّ فلان من فلان، أي : وضع منه، فالبصر إذا لم يمكن من عمله، فهو موضوع منه ومنقوص، ف﴿ مِنْ ﴾ صلة للغض، وليست للتبعيض، ولا للزيادة، اه منه.
والأظهر عندنا أن مادّة الغضّ تتعدّى إلى المفعول بنفسها وتتعدّى إليه أيضًا بالحرف الذي هو ﴿ مِنْ ﴾، ومثل ذلك كثير في كلام العرب، ومن أمثله تعدّي الغض للمعقول بنفسه قول جرير :
فغضّ الطّرف إنك من نُمير | فلا كعبًا بلغت ولا كلابا |
وقول عنترة :
وأغضُّ طرفي ما بدت لي جارتي | حتى يواري جارتي مأواها |
وقول الآخر :
وما كان غضّ الطرف مناسجية | ولكننا في مذحج غربان |
ومن أمثلة تعدّي الغضّ ب﴿ مِنْ ﴾ قوله تعالى :﴿ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾ [ النور : ٣٠ ] و ﴿ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ﴾ [ النور : ٣١ ]، وما ذكره هنا من الأمر بغضُّ البصر قد جاء في آية أخرى تهديد من لم يمتثله، ولم يغضّ بصره عن الحرام، وهي قوله تعالى :﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ ﴾ [ غافر : ١٩ ].
وقد قال البخاري رحمه اللَّه : وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن : إن نساء العجم يكشفن صدرهن ورءُوسهن، قال : اصرف بصرك عنهن، يقول اللَّه عزّ وجلّ :﴿ قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ﴾ [ النور : ٣٠ ]، قال قتادة : عمّا لا يحلّ لهم، ﴿ وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [ النور : ٣١ ]، خائنة الأعين النظر إلى ما نُهي عنه، اه محل الغرض منه بلفظه.
وبه تعلم أن قوله تعالى :﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ ﴾ [ غافر : ١٩ ] فيه الوعيد لمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحلّ له، وهذا الذي دلّت عليه الآيتان من الزجر عن النظر إلى ما لا يحلّ جاء موضحًا في أحاديث كثيرة.
منها : ما ثبت في الصحيح، عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«إياكم والجلوس بالطرقات »، قالوا : يا رسول اللَّه ما لنا من مجالسنا بدّ نتحدث فيها، قال :«فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقّه »، قالوا : وما حقّ الطريق يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال :«غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر »، انتهى. هذا لفظ البخاري في «صحيحه ».
ومنها ما ثبت في الصحيح عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما، قال :«أردف النبيّ صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلاً وضيئًا فوقف النبيّ صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها، فالتفت النبيّ صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده، فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها، الحديث.
ومحل الشاهد منه : أنه صلى الله عليه وسلم صرف وجه الفضل عن النظر إليها، فدلّ ذلك على أن نظره إليها لا يجوز، واستدلال من يرى أن للمرأة الكشف عن وجهها بحضرة الرجال الأجانب بكشف الخثعمية وجهها في هذا الحديث، سيأتي إن شاء اللَّه الجواب عنه في الكلام على مسألة الحجاب في سورة «الأحزاب ».
ومنها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما : من أن نظر العين إلى ما لا يحلّ لها تكون به زانية، فقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس، أنّه قال : ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم :«إن اللَّه كتب على ابن آدم حظّه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين : النظر، وزنى اللسان : المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كلّه ويكذبه »، اه. هذا لفظ البخاري، والحديث متفق عليه، وفي بعض رواياته زيادة على ما ذكرنا هنا.
ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم :«فزنى العين النظر »، فإطلاق اسم الزنى على نظر العين إلى ما لا يحلّ دليل واضح على تحريمه والتحذير منه، والأحاديث بمثل هذا كثيرة معلومة.
ومعلوم أن النظر سبب الزنى فإن من أكثر من النظر إلى جمال امرأة مثلاً قد يتمكن بسببه حبّها من قلبه تمكّنًا يكون سبب هلاكه، والعياذ باللَّه، فالنظر بريد الزنى. وقال مسلم بن الوليد الأنصاري :
كسبت لقلبي نظرة لتسرّه | عيني فكانت شقوة ووبالا |
ما مرّ بي شيء أشدّ من الهوى | سبحان من خلق الهوى وتعالى |
وقال آخر :
ألم ترَى أن العين للقلب رائد | فما تألف العينان فالقلب آلف |
وقال آخر :
وأنت إذا أرسلت طرفك رائدًا | لقلبك يومًا أتعبتك المناظر |
رأيت الذي لا كلّه أنت قادر | عليه ولا عن بعضه أنت صابر |
وقال أبو الطيب المتنبي :
وأنا الذي اجتلب المنيّة طرفه | فمن المطالب والقتيل القاتل |
اعلم أولاً أن كلام العلماء في هذه الآية يرجع جميعه إلى ثلاثة أقوال :
الأول : أن الزينة هنا نفس شيء من بدن المرأة ؛ كوجهها وكفيها.
الثاني : أن الزينة هي ما يتزيّن به خارجًا عن بدنها.
وعلى هذا القول ففي الزينة المذكورة الخارجة عن بدن المرأة قولان :
أحدهما : أنها الزينة التي لا يتضمّن إبداؤها رؤية شيء من البدن ؛ كالملاءة التي تلبسها المرأة فوق القميص والخمار والإزار.
والثا
الإنكاح هنا معناه : التزويج، ﴿ وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى ﴾، أي : زوّجوهم، والأيامى : جمع أَيِّم بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة، والأيّم : هو من لا زوج له من الرجال والنساء، سواء كان قد تزوّج قبل ذلك، أو لم يتزوّج قطّ، يقال : رجل أيّم، وامرأة أيّم. وقد فسّر الشماخ بن ضرار في شعره : الأيم الأنثى بأنها التي لم تتزوج في حالتها الراهنة، وذلك في قوله :
يقرّ بعيني أن أنبأ أنها *** وإن لم أنلها أيم لم تزوّج
فقوله : لم تزوّج تفسير لقوله : أنها أيم، ومن إطلاق الأيم على الذكر الذي لا زوج له قول أُميّة بن أبي الصلت الثقفيّ :
للَّه دربني على *** أيّم منهم وناكح
ومن إطلاقه على الأنثى قول الشاعر :
أحبّ الأيامى إذ بثينة أيّم *** وأحببت لما أن غنيت الغوانيا
والعرب تقول : آم الرجل يئيم، وآمت المرأة تئيم، إذا صار الواحد منهما أيّمًا. وكذلك تقول : تأيّم إذا كان أيّمًا.
ومثاله في الأول قول الشاعر :
لقد إمت حتى لامني كل صاحب *** رجاء بسلمى أن تئيم كما إمت
ومن الثاني قوله :
فإن تنكحي أنكح وأن تتأيّمي *** وإن كنت أفتى منكم أتأيّم
ومن الأول أيضًا، قول يزيد بن الحكم الثقفيّ :
كل امرئ ستئيم منه *** العرس أو منها يئيم
وقول الآخر :
نجوت بقوف نفسك غير أني *** إخال بأن سييتم أو تئيم
يعني : ييتم ابنك وتئيم امرأتك.
فإذا علمت هذا، فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية :﴿ وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى ﴾ شامل للذكور والإناث، وقوله في هذه الآية :﴿ مّنكُمْ ﴾، أي : من المسلمين، ويفهم من دليل الخطاب أي مفهوم المخالفة في قوله :﴿ مّنكُمْ ﴾، أن الأيامى من غيركم، أي : من غير المسلمين، وهم الكفّار ليسوا كذلك.
وهذا المفهوم الذي فهم من هذه الآية جاء مصرّحًا به في آيات أُخر ؛ كقوله تعالى في أيامى الكفّار الذكور :﴿ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ]، وقوله في أياماهم الإناث :﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ]، وقوله فيهما جميعًا :﴿ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ [ الممتحنة : ١٠ ].
وبهذه النصوص القرآنية الصريحة الموضحة لمفهوم هذه الآية، تعلم أنه لا يجوز تزويج المسلمة للكافر مطلقًا وأنه لا يجوز تزويج المسلم للكافرة إلاّ أن عموم هذه الآيات خصّصته آية «المائدة »، فأبانت أن المسلم يجوز له تزوج المحصنة الكتابية خاصة ؛ وذلك في قوله تعالى :﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ [ المائدة : ٥ ]، فقوله تعالى عاطفًا على ما يحلّ للمسلمين :﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ﴾ [ المائدة : ٥ ]، صريح في إباحة تزويج المسلم للمحصنة الكتابية، والظاهر أنها الحرّة العفيفة.
فالحاصل أن التزويج بين الكفّار والمسلمين ممنوع في جميع الصور، إلاّ صورة واحدة، وهي تزوّج الرجل المسلم بالمرأة المحصنة الكتابية، والنصوص الدالّة على ذلك قرآنية، كما رأيت.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ﴾، يدلّ على لزوم تزويج الأيامى من المملوكين الصالحين، والإماء المملوكات، وظاهر هذا الأمر الوجوب ؛ لما تقرّر في الأصول.
وقد بيّناه مرارًا من أن صيغة الأمر المجرّدة عن القرائن تقتضي الوجوب، وبذلك تعلم أن الخالية من زوج إذا خطبها كفء ورضيته، وجب على وليّها تزويجها إياه، وأن ما يقوله بعض أهل العلم من المالكية ومن وافقهم، من أن السيّد له منع عبده وأَمته من التزويج مطلقًا غير صواب لمخالفته لنصّ القرآن في هذه الآية الكريمة.
واعلم أن قوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَإِمائِكُمْ ﴾، بيّنت آية «النساء » أن الأَمة لا تزوّج للحرّ إلا بالشروط التي أشارت إليها الآية، فآية «النساء » المذكورة مخصّصة بعموم آية «النور » هذه بالنسبة إلى الإيماء، وآية «النساء » المذكورة هي قوله تعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِي الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٥ ]، فدلّت آية «النساء » هذه على أن الحرّ لا يجوز له أن يتزوّج المملوكة المؤمنة، إلا إذا كان غير مستطيع تزويج حرّة لعدم الطول عنده، وقد خاف الزنى فله حينئذ تزوّج الأَمة بإذن أهلها المالكين لها، ويلزمه دفع مهرها، وهي مؤمنة عفيفة ليست من الزانيات ولا متّخذات الأخدان، ومع هذا كلّه فصبره عن تزويجها خير له، وإذا كان الصبر عن تزويجها مع ما ذكرنا من الاضطرار خيرًا له فمع عدمه أولى بالمنع. وبما ذكرنا تعلم أن الصواب قول الجمهور من منع تزويج الحر الأَمَة، إلا بالشروط المذكورة في القرآن ؛ كقوله تعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً ﴾ [ النساء : ٢٥ ]، وقوله :﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٥ ]، أي : الزنى إلى آخر ما ذكر في الآية خلافًا لأبي حنيفة القائل بجواز نكاحها مطلقًا، إلاّ إذا تزوّجها على حرة.
والحاصل أن قوله تعالى في آية «النور » هذه :﴿ وَإِمائِكُمْ ﴾ خصّصت عمومه آية «النساء » كما أوضحناه آنفًا، والعلماء يقولون : إن علّة منع تزويج الحر الأمة، أنها إن ولدت منه كان ولدها مملوكًا ؛ لأن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها، فيلزمه ألاّ يتسبّب في رقّ أولاده ما استطاع، ووجهه ظاهر كما ترى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾، فيه وعد من اللَّه للمتزوّج الفقير من الأحرار، والعبيد بأن اللَّه يغنيه، واللَّه لا يخلف الميعاد، وقد وعد اللَّه أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الفقراء باليسر بعد ذلك العسر، وأنجز لهم ذلك، وذلكم في قوله تعالى :﴿ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ﴾ [ الطلاق : ٧ ]، أي : ضيق عليه رزقه إلى قوله تعالى :﴿ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ﴾ [ الطلاق : ٧ ]، وهذا الوعد منه جلّ وعلا وعد به من اتّقاه في قوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ [ الطلاق : ٢-٣ ] الآية، ووعد بالرزق أيضًا من يأمر أهله بالصلاة ويصطبر عليها، وذلك في قوله :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [ طه : ١٣٢ ]، وقد وعد المستغفرين بالرزق الكثير على لسان نبيّه نوح في قوله تعالى عنه :﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً ﴾ [ نوح : ١٠-١٢ ]، وعلى لسان نبيّه هود في قوله تعالى عنه :﴿ وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾ [ هود : ٢٥ ] الآية، وعلى لسان نبيّنا صلّى اللَّه عليه وعليهما جميعًا وسلّم :﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ [ هود : ٣ ].
ومن الآيات الدالّة على أن طاعة اللَّه تعالى سبب للرزق، قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ ﴾ [ الأعراف : ٩٦ ] الآية، ومن بركات السماء المطر، ومن بركات الأرض النبات مما يأكل الناس والأنعام. وقوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾ [ المائدة : ٦٦ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواةً طَيّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ]، أي : في الدنيا ؛ كما قدمنا إيضاحه في سورة «النحل »، وكما يدلّ عليه قوله بعده في جزائه في الآخرة :﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ النحل : ٩٧ ]، وقد قدّمنا أنه جلَّ وعلا وعد بالغنى عند التزويج وعند الطلاق.
أمّا التزويج، ففي قوله هنا :﴿ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ [ النور : ٣٢ ].
وأمّا الطلاق ففي قوله تعالى :﴿ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ ﴾ [ النساء : ١٣٠ ] الآية، والظاهر أن المتزوّج الذي وعده اللَّه بالغنى، هو الذي يريد بتزويجه الإعانة على طاعة اللَّه بغضّ البصر، وحفظ الفرج ؛ كما بيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :«يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج » الحديث، وإذا كان قصده بالتزويج طاعة اللَّه بغضّ البصر وحفظ الفرج، فالوعد بالغنى إنما هو على طاعة اللَّه بذلك.
وقد رأيت ما ذكرنا من الآيات الدالَّة على وعد اللَّه بالرزق من أطاعه سبحانه جلَّ وعلا ما أكرمه، فإنه يجزي بالعمل بالصالح في الدنيا والآخرة، وما قاله أهل الظاهر من أن هذه الآية الكريمة تدلّ على أن العبد يملك ماله ؛ لأن قوله :﴿ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ [ النور : ٣٢ ] بعد قوله :﴿ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ﴾[ النور : ٣٢ ]، يدلّ على وصف العبيد بالفقر والغنى، ولا يطلق الغنى إلاّ على من يملك المال الذي به صار غنيًّا، ووجهه قوي ولا ينافي أن لسيّده أَن ينتزع منهم ذلك المال الذي ملك له، والعلم عند اللَّه تعالى.
هذا الاستعفاف المأمور به في هذه الآية الكريمة، هو المذكور في قوله :﴿ قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذالِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [ النور : ٣٠ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٣٢ ]، ونحو ذلك من الآيات.
قوله تعالى﴿ وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ ٣٣ ].
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، قيل : غفور لهن، وقيل : غفور لهم، وقيل : غفور لهنّ ولهم.
وأظهرها أن المعنى غفور لهنّ لأن المكره لا يؤاخذ بما أُكره عليه، بل يغفره اللَّه له لعذره بالإكراه ؛ كما يوضحه قوله تعالى :﴿ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ﴾ [ النحل : ١٠٦ ] الآية، ويؤيّده قراءة ابن مسعود، وجابر بن عبد اللَّه، وابن جبير، " فإن اللَّه من بعد إكراههنّ لهنّ غفور رحيم ". ذكره عنه القرطبي، وذكره الزمخشري عن ابن عباس رضي اللَّه عنهم جميعًا.
وقد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أنّا لا نبيّن القرآن بقراءة شاذّة، وربما ذكرنا القراءة الشاذّة استشهادًا بها لقراءة سبعية كما هنا، فزيادة لفظة لهنّ في قراءة من ذكرنا استشهاد بقراءة شاذّة لبيان بقراءة غير شاذّة أن الموعود بالمغفرة والرحمة، هو المعذور بالإكراه دون المكره ؛ لأنه غير معذور في فعله القبيح، وذلك بيان المذكور بقوله :﴿ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ﴾[ النحل : ١٠٦ ].
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن ؛ لأن المكرهة على الزنى، بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة.
قلت : لعلّ الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل، أو بما يخاف منه التلف، أو ذهاب العضو من ضرب عنيف أو غيره، حتى يسلم من الإثم، وربما قصرت عن الحدّ الذي تعذّر فيه فتكون آثمة، انتهى منه.
والذي يظهر أنه لا حاجة إليه، لأن إسقاط المؤاخذة بالإكراه يصدق عليه أنه غفران ورحمة من اللَّه بعبده، والعلم عند اللَّه تعالى.
ذكر الله جلا وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أنزل إلينا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم آيات مبينات، ويدخل فيها دخولاً أولياً الآيات التي بينت في هذه السورة الكريمة، وأوضحت في معاني الأحكام والحدود، ودليل ما ذكر من القرآن قوله تعالى :﴿ سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون ﴾ [ النور : ١ ]، ولا شك أن هذه الآيات المبينات المصرح بنزولها في هذه السورة الكريمة، داخلة في قوله تعالى هنا ﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيّنَاتٍ ﴾ الآية.
وبذلك تعلم أن قوله تعالى هنا ﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيّنَاتٍ ﴾ معناه : أنزلناها إليكم لعلكم تذكرون : أي تتعظون بما فيها من الأوامر والنواهي، والمواعظ، ويدل لذلك قوله تعالى :﴿ وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذّكرون ﴾ [ النور : ١ ]. فقد صرح في هذه الآية الكريمة بأن من حكم إنزالها، أن يتذكر الناس، ويتعظوا بما فيها، ويدل لذلك عموم قوله تعالى :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألْبَابِ ﴾ [ ص : ٢٩ ] وقوله تعالى :﴿ المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأعراف : ١-٢ ] إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَمَثَلاً مّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ معطوف على آيات : أي أنزلنا إليكم آيات، وأنزلنا إليكم مثلاً من الذين خلوا من قبلكم.
قال أبو حيان في البحر المحيط : ومثلاً معطوف على آيات، فيحتمل أن يكون المعنى ومثلاً من أمثال الذين من قبلكم : أي قصة غريبة من قصصهم كقصة يوسف، ومريم في براءتهما.
وقال الزمخشري : ومثلاً من أمثال من قبلكم أي قصة عجيبة من قصصهم كقصة يوسف، ومريم يعني قصة عائشة رضي الله عنها، وما ذكرنا عن أبي حيان والزمخشري ذكره غيرهما.
وإيضاحه : أن المعنى : وأنزلنا إليكم مثلاً أي قصة عجيبة غريبة في هذه السورة الكريمة، وتلك القصة العجيبة من أمثال الذين خلوا من قبلكم : أي من جنس قصصهم العجيبة، وعلى هذا الذي ذكرنا فالمراد بالقصة العجيبة التي أنزل إلينا، وعبر عنها بقوله : ومثلاً هي براءة عائشة رضي الله عنها مما رماها به أهل الإفك، وذلك مذكور في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ ﴾ [ النور : ١١-٢٦ ] الآية. فقد بين في الآيات العشر المشار إليها أن أهل الإفك رموا عائشة، وأن الله برأها في كتابه مما رموها به، وعلى هذا :
فمن الآيات المبينة لبعض أمثال من قبلنا قوله تعالى في رمي امرأة العزيز يوسف بأنه أراد بها سوءاً تعني الفاحشة قالت :﴿ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ يوسف : ٢٥ ] وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ [ يوسف : ٣٥ ] لأنهم سجنوه بضع سنين، بدعوى أنه كان أراد الفاحشة من امرأة العزيز، وقد برأه الله من تلك الفرية التي افتريت عليه بإقرار النسوة وامرأة العزيز نفسها وذلك في قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النّسْوَةِ الَّلاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [ يوسف : ٥٠-٥١ ] وقال تعالى عن امرأة العزيز في كلامها مع النسوة اللاتي قطعن أيديهن ﴿ قَالَتْ فَذالِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ﴾ [ يوسف : ٣٢ ] الآية.
فقصة يوسف هذه مثل من أمثال من قبلنا، لأنه رمى بإرادة الفاحشة وبرأه الله من ذلك، والمثل الذي أنزله إلينا في هذه السورة، شبيه بقصة يوسف، لأنه هو وعائشة كلاهما رُمي بما لا يليق، وكلاهما برأه الله تعالى، وبراءة كل منهما نزل بها هذا القرآن العظيم، وإن كانت براءة يوسف وقعت قبل نزول القرآن بإقرار امرأة العزيز، والنسوة كما تقدم قريباً بشهادة الشاهد من أهلها. ﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ ﴾ إلى قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ﴾ [ يوسف : ٢٦-٢٨ ].
ومن الآيات المبينة لبعض أمثال الذين من قبلنا ما ذكرنا تعالى عن قوم مريم من أنهم رموها بالفاحشة، لما ولدت عيسى من غير زوج كقوله تعالى :﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً ﴾ [ النساء : ١٥٦ ] يعني فاحشة الزنى. وقوله تعالى :﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ﴾ [ مريم : ٢٧ ] يعنون الفاحشة، ثم بين الله تعالى براءتها مما رموها به في مواضع من كتاب كقوله تعالى :﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ في الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً ﴾ إلى قوله :﴿ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ﴾ [ مريم : ٢٩-٣٣ ] فكلام عيسى، وهو رضيع ببراءتها، يدل على أنها بريئة. وقد أوضح الله براءتها مع بيان سبب حملها بعيسى، من غير زوج، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لأهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ * لّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً ﴾ [ مريم : ١٦-٢٢ ] إلى آخر الآيات.
ومن الآيات التي بين الله فيها براءتها قوله تعالى في الأنبياء :﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لّلْعَالَمِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٩١ ] وقوله تعالى في التحريم :﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾[ التحريم : ١٢ ] وقوله تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ].
فهذه الآيات التي ذكرنا التي دلت على قذف يوسف وبراءته وقذف مريم وبراءتها من أمثال من قبلنا فهي ما يبين بعض ما دل عليه قوله :﴿ وَمَثَلاً مّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ ﴾.
والآيات التي دلت على قذف عائشة وبراءتها بينت المثل الذي أنزل إلينا وكونه من نوع أمثال من قبلنا واضح، لأن كلام من عائشة، ومريم، ويوسف رُمي بما لا يليق، وكل منهم برأه الله، وقصة كل منهم عجيبة، ولذا أطلق عليها اسم المثل في قوله :﴿ وَمَثَلاً مّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ ﴾. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ ﴾.
قال الزمخشري : وموعظة ما وعظ به في الآيات والمثل من نحو قوله تعالى ﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ ﴾ [ النور : ٢ ] لولا إذ سمعتموه، ولولا إذ سمعتموه. يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً. ا ه كلام الزمخشري. والظاهر أن وجه خصوص الموعظة بالمتقين دون غيرهم أنهم هم المنتفعون بها.
ونظيره في القرآن قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ﴾ [ فاطر : ١٨ ] وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ﴾ [ النازعات : ٤٥ ] فخص الأنذار بمن ذكر في الآيات، لأنهم هم المنتفعون به مع أنه صلى الله عليه وسلم في الحقيقة منذر لجميع الناس كما قال تعالى :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ١ ] ونظيره أيضاً قوله تعالى :﴿ فَذَكّرْ بِالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ ق : ٤٥ ] ونحوها من الآيات. وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايَاتٍ مُّبَيّنَاتٍ ﴾ قرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وشعبة بن عاصم : مبينات بفتح الياء المثناة التحتية المشددة بصيغة اسم المفعول، وقرأه ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم :﴿ مبينات ﴾ بكسر الياء المشددة بصيغة اسم الفاعل : فعلى قراءة من قرأ بفتح الياء فلا إشكال في الآية، لأن الله بينها، وأوضحها، وعلى قراءة من قرأ مبينات بكسر الياء بصيغة اسم الفاعل، ففي معنى الآية وجهان معروفاً.
أحدهما : أن قوله : مبينات اسم فاعل بين المتعدية وعليه فالمفعول محذوف أي مبينات الأحكام والحدود.
والثاني : أن قوله : مبينات وصف من بين اللازمة، وهو صفة مشبهة، وعليه فالمعنى آيات مبينات أي بينات واضحات، ويدل لهذا الوجه الأخير قوله تعالى :﴿ وأنزلنا فيها آيات بينات ﴾ [ النور : ١ ]. وذكر الوجهين المذكورين الزمخشري، وأبو حيان وغيرهما ومثلوا لبين اللازمة بالمثل المعروف، وهو قول العرب : قد بين الصبح لذي عينين.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : من المعروف في العربية أن بين مضعفا، وأبان كلتاهما تأتي متعدية للمفعول ولازمة، فتعدى بين للمفعول مشهور واضح كقوله تعالى :﴿ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ ﴾ [ آل عمران : ١١٨ ] و [ الحديد : ١٧ ] وتعدى أبان للمفعول مشهود واضح أيضاً كقولهم : أبان له الطريق : أي بينها له، وأوضحها، وأما ورود بين لازمة بمعنى تبين ووضح فمنه المثل المذكور : قد بين الصبح لذي عينين. أي تبين وظهر ومنه قول جرير :
وجوه مجاشع طليت بلؤم | يبين في المقلد والعذار |
رأى الناس البصيرة فاستقاموا | وبينت المراض من الصحاح |
وللحب آيات تبين بالفتى | شحوب وتعرى من يديه الأشاجع |
والمعنى : للحب علامات تبين بالكسر أي تظهر وتتضح بالفتى، وهي شحوب إلخ، وأنشد ثعلب هذا البيت فقال : شحوباً بالنصب، وعليه فلا شاهد في البيت، لأن شحوباً على هذا مفعول، تبين فهو على هذا من بين المتعدية، وأما ورود أبان لازمه بمعنى
قرأ هذا الحرف جميع السبعة غير ابن عامر، وشعبة، عن عاصم :﴿ يسبح له فيها ﴾ بكسر الباء الموحدة المشددة، مبنياً للفاعل، وفاعله رجال والمعنى واضح على هذه القراءة. وقرأه ابن عامر، وشعبة، عن عاصم :﴿ يسبح له فيها ﴾ بفتح الباء الموحدة المشددة، مبنياً للمفعول، وعلى هذه القراءة فالفاعل المحذوف قد دلت القراءة الأولى على أن تقديره : رجال فكأنه لما قال يسبح له فيها، قيل : ومن يسبح له فيها ؟ قال رجال : أي يسبح له فيها رجال.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ما لفظه، وقد التزمنا أنا لا نبين القرآن إلا بقراءة سبعية، سواء كانت قراءة أخرى في الآية المبينة نفسها، أو آية أخرى غيرها إلى آخره، وإنما ذكرنا أن الآية يبين بعض القراءات فيها معنى بعض، لأن المقرر عند العلماء أن القراءتين في الآية الواحدة كالآيتين.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة الجمهور : يسبح بكسر الباء وفاعله رجال، مبينة أن الفاعل المحذوف في قراءة ابن عامر، وشعبة، عن عاصم : يسبح بفتح الباء مبنياً للمفعول لحذف الفاعل هو رجال كما لا يخفى. والآية على هذه القراءة حذف فيها الفاعل ليسبح، وحذف أيضاً الفعل الرافع للفاعل الذي هو رجال على حد قوله في الخلاصة :
ويرفع الفاعل فعل أضمرا | كمثل زيد في جواب من قرا |
ليبك يزيد ضارع لخصومة | ومختبط مما تطيح الطوائح |
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى : اعلم أنه على قراءة ابن عامر، وشعبة : يسبح بفتح الباء يحسن الوقف على قوله : بالآصال، وأما على قراءة الجمهور يسبح بالكسر، فلا ينبغي الوقف على قوله : بالآصال، لأن فاعل يسبح رجال، والوقف دون الفاعل لا ينبغي كما لا يخفى.
المسألة الثانية : اعلم أن الضمير المؤنث في قوله :﴿ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا ﴾ راجع إلى المساجد المعبّر عنها بالبيوت في قوله :﴿ في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾[ النور : ٣٦ ] والتحقيق : أن البيوت المذكورة، هي المساجد.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن تخصيصه من يسبح له فيها بالرجال في قوله ﴿ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالآصَالِ رِجَالٌ ﴾ يدل بمفهومه على أن النساء يسبحن له في بيوتهن لا في المساجد، وقد يظهر للناظر أن مفهوم قوله : رجال مفهوم لقب، والتحقيق عند الأصوليين أنه لا يحتج به.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : لا شك أن مفهوم لفظ الرجال، مفهوم لقب بالنظر إلى مجرد لفظه، وأن مفهوم اللقب ليس بحجة على التحقيق، كما أوضحناه في غير هذا الموضع. ولكن مفهوم الرجال هنا معتبر، وليس مفهوم لقب على التحقيق، وذلك لأن لفظ الرجال، وإن كان بالنظر إلى مجرده اسم جنس جامد وهو لقب بلا نزاع، فإنه يستلزم من صفات الذكورة ما هو مناسب لإناطة الحكم به، والفرق بينه وبين النساء، لأن الرجال لا تخشى منهم الفتنة، وليسوا بعورة بخلاف النساء، ومعلوم أن وصف الذكورة وصف صالح لإناطة الحكم به الذي هو التسبيح في المساجد، والخروج إليها دون وصف الأنوثة.
والحاصل : أن لفظ الرجال في الآية، وإن كان في الاصطلاح لقباً فإنما يشتمل عليه من أوصاف الذكورة المناسبة للفرق بين الذكور والإناث، يقتضي اعتبار مفهوم المخالفة في لفظ رجال، فهو في الحقيقة مفهوم صفة لا مفهوم لقب، لأن لفظ الرجال مستلزم لأوصاف صالحة لإناطة الحكم به، والفرق في ذلك بين الرجال والنساء كما لا يخفى.
المسألة الثالثة : إذا علمت أن التحقيق أن مفهوم قوله : رجال مفهوم صفة باعتبار ما يستلزمه من صفات الذكورة المناسبة للفرق بين الذكور والإناث، في حكم الخروج إلى المساجد لا مفهوم لقب، وأن مفهوم الصفة معتبر عند الجمهور خلافاً لأبي حنيفة.
فاعلم أن مفهوم قوله هنا : رجال فيه إجمال، لأن غاية ما يفهم منه أن النساء لسن كالرجال في الخروج للمساجد، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان القرآني إذا كان غير واف بالمقصود من تمام البيان. فإنا نتمم البيان من السنة من حيث إنها تفسير للمبين باسم الفاعل، وتقدمت أمثلة لذلك.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن السنة النبوية بينت مفهوم المخالفة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : رجال، فبينت أن المفهوم المذكور معتبر، وأن النساء لسن كالرجال في حكم الخروج إلى المساجد، وأوضحت أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لهن من الخروج إلى المساجد والصلاة فيها في الجماعة، بخلاف الرجال، وبينت أيضاً أنهن يجوز لهن الخروج إلى المساجد بشروط سيأتي إيضاحها إن شاء الله تعالى، وأنهن إذا استأذن أزواجهن في الخروج إلى المساجد فهم مأمورون شرعاً بالإذن لهن في ذلك مع التزام الشروط المذكورة.
أما أمر أزواجهن بالإذن لهن في الخروج إلى المساجد إذا طلبن ذلك فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب النكاح : حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها » وقال البخاري أيضاً في صحيحه في كتاب الصلاة : باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد : حدثنا مسدد، حدثنا يزيد بن زريع، عن معمر عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم :«إذا استأذنت امرأة أحدكم فلا يمنعها » وقال البخاري رحمه الله في صحيحه أيضاً، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن حنظلة، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن » تابعه شعبة عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثني عمرو الناقد، وزهير بن حرب جميعاً عن ابن عيينة قال زهير : حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري سمع سالماً يحدث عن أبيه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها » وفي لفظ عند مسلم، عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها » وفي لفظ عند مسلم أيضاً، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«لا تمنعوا إماء الله مساجد الله » وفي لفظ له عنه أيضاً : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إذا استأذنكم نساؤكم إلى المسجد فأذنوا لهن » وفي لفظ عنه أيضاً، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل » وفي رواية له عنه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد » وفي لفظ له عنه أيضاً، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم » وفي رواية «إذا استأذنوكم ». قال النووي في شرح مسلم : وهو صحيح وعوملن معاملة الذكور لطلبهن الخروج إلى مجلس الذكور، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا الذي ذكرناه عن الشيخين بروايات متعددة، أخرجه أيضاً غيرهما وهو صريح في أن أزواج النساء مأمورون على لسانه صلى الله عليه وسلم بالإذن لهن في الخروج إلى المساجد، إذا طلبن ذلك، ومنهيون عن منعهن من الخروج إليها.
وذكر بعض أهل العلم أن أمر الأزواج بالإذن لهن في الروايات المذكورة ليس للإيجاب، وإنما هو للندب، وكذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن منعهن. قالوا : هو لكراهة التنزيه لا للتحريم.
قال ابن حجر في فتح الباري : وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب، لأنه لو كان واجباً لانتفى معنى الاستئذان، لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذن مخيراً في الإجابة أو الرد.
وقال النووي في شرح المذهب : فإن منعها لم يحرم عليه هذا مذهبنا، قال البيهقي : وبه قال عامة العلماء. ويجاب عن حديث «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله » بأنه نهى تنزيه، لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب، فلا تتركه لفضيلة ا ه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي في هذه المسألة : أن الزوج إذا استأذنته امرأته في الخروج إلى المسجد، وكانت غير متطيبة، ولا متلبسة بشيء يستوجب الفتنة مما سيأتي إيضاحه إن شاء الله، أنه يجب عليه الإذن لها، ويحرم عليه منعها للنهي الصريح منه صلى الله عليه وسلم عن منعها من ذلك، وللأمر الصريح بالإذن لها وصيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب، كما أوضحناه في مواضع من هذا الكتاب المبارك، وصيغة النهي كذلك تقتضي التحريم، وقد قال تعالى :﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ النور : ٣٦ ] وقال صلى الله عليه وسلم :«إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه » إلى غير ذلك من الأدلة، كما قدمنا. وقول ابن حجر : إن الإذن لا يتحقق إلا إذا كان المستأذن مخيراً في الإجابة، والرد غير مسلم، إذ لا مانع عقلاً، ولا شرعاً ولا عادة من أن يوجب الله عليه الإذن لامرأته في الخروج إلى المسجد من غير تخيير، فإيجاب الإذن لا مانع منه. وكذلك تحريم المنع، وقد دل النص الصحيح على إيجابه فلا وجه لم لرده بأمر محتمل كما ترى. وقول النووي : لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب، فلا تتركه للفضيلة لا يصلح، لأن يرد به النص الصريح منه صلى الله عليه وسلم، فأمره صلى الله عليه وسلم الزوج بالإذن لها يلزمه ذلك، ويوجبه عليه، فلا يعارض بما ذكره النووي كما ترى. وما ذكره النووي عن البيهقي : من أن عدم الوجوب قال به عامة العلماء غير مسلم أيضاً، فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه لما حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الذي ذكرنا عنه في أمر الأزواج بالإذن للنساء في الخروج إلى المساجد، وقال ابنه : لا ندعهن يخرجن، غضب وشتمه ودفع في صدره منكراً عليه، مخالفته لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك دليل واضح على اعتقاده وجوب امتثال ذلك الأمر بالإذن لهن.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثني حرملة بن يحيى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال : أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها » فقال بلال بن عبد الله : والله لنمنعهن، فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً سيئاً ما سمعته سبه مثله قط، وقال : أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول : والله لنمنعهن، وفي لفظ عند مسلم : فزبره ابن عمر وقال : أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : لا ندعهن. وفي لفظ لمسلم أيضاً : فضرب في صدره.
واعلم أن ابن عبد الله بن عمر الذي زعم أنه لم يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإذن للنساء إلى المساجد جاء في صحيح مسلم أنه بلال بن عبد الله بن عمر.
وفي رواية عند مسلم : أنه واقد بن عبد الله بن عمر. والحق تعدد ذلك فقد قاله كل من بلال، وواقد ابني عبد الله بن عمر، وقد أنكر ابن عمر على كل منهما. كما جاءت به الروايات الصحيحة عند مسلم وغيره، فكون ابن عمر رضي الله عنهما أقبل على ابنه بلال وسبه سباً سيئاً وقال منكراً عليه، أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : لنمنعهن فيه دليل واضح أن ابن عمر يرى لزوم الإذن لهن، وأن منعهن لا يجوز، ولو كان يراه جائزاً ما شدد النكير على ابنيه كما لا يخفى.
وقال النووي في شرح مسلم : قوله : فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً سيئاً. وفي رواية فزبره. وفي رواية : فضرب في صدره، فيه تعزير المعترض على السنة والم
الظاهر أن اللام في قوله :﴿ ليجزيهم ﴾، متعلقة بقوله :﴿ يسبّح ﴾ : أي يسبحون له، ويخافون يوماً ليجزيهم الله أحسن ما عملوا. وقوله في هذه الآية الكريمة : ويزيدهم من فضله، الظاهر أن هذه الزيادة من فضله تعالى، هي مضاعفة الحسنات، كما دل عليه قوله تعالى :﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ﴾ [ النساء : ٤٠ ]، وقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء ﴾ [ البقرة : ٢٦١ ].
وقال بعض أهل العلم : الزيادة هنا كالزيادة في قوله :﴿ لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [ يونس : ٢٦ ] والأصح : أن الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم، وذلك هو أحد القولين في قوله تعالى :﴿ لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ ق : ٣٥ ].
وقد قدمنا قول بعض أهل العلم : أن قوله تعالى :﴿ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ ﴾ ونحوها من الآيات يدل على أن المباح حسن، لأن قوله : أحسن ما عملوا صيغة تفضيل، وأحسن ما عملوا هو ما تقرّبوا به إلى الله من الواجبات والمستحبات، وصيغة التفضيل المذكورة تدل على أن من أعمالهم حسناً لم يجزوه وهو المباح. قال في مراقي السعود :
ما ربنا لم ينه عنه حسن | وغيره القبيح والمستهجن |
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن أعمال الكفار باطلة، وأنَّها لا شيء ؛ لأنه قال في السراب الذي مثّلها به :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾، وما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من بطلان أعمال الكفار، جاء موضحًا في آيات أُخر ؛ كقوله تعالى :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيء ﴾ [ إبراهيم : ١٨ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ﴾ [ الفرقان : ٢٣ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا أن عمل الكافر إذا كان على الوجه الصحيح أنه يجزى به في الدنيا ؛ كما أوضحناه في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية.
وقد دلَّت آيات من كتاب اللَّه على انتفاع الكافر بعمله في الدنيا، دون الآخرة ؛ كقوله تعالى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ في الآخرة من نصيب ﴾ [ الشورىك ٢٠ ]، وقوله تعالى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ في الآخرة إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ هود : ١٥-١٦ ]، وهذا الذي دلّت عليه هذه الآيات من انتفاع الكافر بعمله الصالح في الدنيا، دون الآخرة ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أنس رضي اللَّه عنه كما أوضحناه في الكلام على آية «النحل » المذكورة، وهو أحد التفسيرين في قوله تعالى :﴿ وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ﴾ الآية، أي : وفّاه حسابه في الدنيا على هذا القول، وقد بيَّن اللَّه جلَّ وعلا في سورة «بني إسرائيل » أن ما دلّت عليه الآيات من انتفاع الكافر بعمله الصالح في الدنيا، أنه مقيّد بمشيئة اللَّه تعالى، وذلك في قوله تعالى :﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ﴾ [ الإسراء : ١٨ ].
تنبيه
في هذه الآية الكريمة سؤال معروف ذكرناه وذكرنا الجواب عنه في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب »، وذلك في قولنا فيه : لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أن الضمير في قوله :﴿ جَاءهُ ﴾، يدلّ على شيء موجود واقع عليه المجيء ؛ لأن وقوع المجيء على العدم لا يعقل، ومعلوم أن الصفة الإضافية لا تتقوم إلا بين متضائفين، فلا تدرك إلا بإدراكهما، فلا يعقل وقوع المجيء بالفعل، إلا بإدراك فاعل واقع منه المجيء، ومفعول به واقع عليه المجيء. وقوله تعالى :﴿ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾ يدلّ على عدم وجود شيء يقع عليه المجيء في قوله تعالى :﴿ جَاءهُ ﴾.
والجواب عن هذا من وجهين، ذكرهما ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة.
قال : فإن قال قائل كيف قيل :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾، فإن لم يكن السراب شيئًا فعلام دخلت الهاء في قوله :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءهُ ﴾ ؟ قيل : إنه شيء يرى من بعيد كالضباب الذي يرى كثيفًا من بعيد، فإذا قرب منه رقّ وصار كالهواء، وقد يحتمل أن يكون معناه حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئًا، فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه، انتهى منه.
والوجه الأول أظهر عندي، وعنده، بدليل قوله : وقد يحتمل أن يكون معناه، إلخ. انتهى كلامنا في «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب »، وقد رأيت فيه جواب ابن جرير الطبري عن السؤال المذكور، وقوله تعالى في هذه الآية :﴿ بِقِيعَةٍ ﴾، قيل : جمع قاع، كجار وجيرة. وقيل : القيعة والقاع بمعنى، وهو المنبسط المستوي المتّسع من الأرض، وعلى هذا فالقاع واحد القيعان، كجار وجيران.
اعلم أن الضمير المحذوف الذي هو فاعل ﴿ عِلْمٍ ﴾، قال بعض أهل العلم : إنه راجع إلى اللَّه في قوله :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَن في السَّمَاواتِ ﴾ الآية، وعلى هذا فالمعنى كل من المسبحين والمصلين، قد علم اللَّه صلاته وتسبيحه. وقال بعض أهل العلم : إن الضمير المذكور راجع إلى قوله :﴿ كُلٌّ ﴾، أي : كل من المصلين والمسبحين، قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه، وقد قدّمنا في سورة «النحل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية، كلام الأصوليين في أن اللفظ إن احتمل التوكيد والتأسيس حُمل على التأسيس، وبيّنا أمثلة متعدّدة لذلك من القرآن العظيم.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن الأظهر على مقتضى ما ذكرنا عن الأصوليين، أن يكون ضمير الفاعل المحذوف في قوله :﴿ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ﴾، راجعًا إلى قوله :﴿ كُلٌّ ﴾، أي : كل من المصلّين قد علم صلاة نفسه، وكل من المسبحين قد علم تسبيح نفسه، وعلى هذا القول فقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾، تأسيس لا تأكيد، أمّا على القول بأن الضمير راجع إلى ﴿ اللَّهِ ﴾، أي : قد علم اللَّه صلاته يكون قوله :﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ كالتكرار مع ذلك، فيكون من قبيل التوكيد اللفظي.
وقد علمت أن المقرّر في الأصول أن الحمل على التأسيس أرجح من الحمل على التوكيد ؛ كما تقدّم إيضاحه. والظاهر أن الطير تسبّح وتصلّي صلاة وتسبيحًا يعلمهما اللَّه، ونحن لا نعلمهما ؛ كما قال تعالى :﴿ وَإِن مّن شيء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ].
ومن الآيات الدالَّة على أن غير العقلاء من المخلوقات لها إدراك يعلمه اللَّه ونحن لا نعلمه، قوله تعالى في الحجارة :﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٧٤ ]، فأثبت خشيته للحجارة، والخشية تكون بإدراك. وقوله تعالى :﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [ الحشر : ٢١ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ والأرض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ﴾ [ الأحزاب : ٧٢ ] الآية، والإباء والإشفاق إنما يكونان بإدراك، والآيات والأحاديث واردة بذلك، وهو الحقّ. وظاهر الآية أن للطير صلاة وتسبيحًا، ولا مانع من الحمل على الظاهر، ونقل القرطبي عن سفيان : أن للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود، اه.
ومعلوم أن الصلاة في اللغة الدعاء، ومنه قول الأعشى :
تقول بنتي وقد غربت مرتحلا | يا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا |
عليك مثل الَّذي صلّيت فاغتبطي | نومًا فإن لجنب المرء مضجعا |
وقوله :﴿ صَافَّاتٍ ﴾، أي : صافّات أجنحتها في الهواء. وقد بيَّن تعالى في غير هذا الموضع أن إمساكه الطير صافّات أجنحتها في الهواء وقابضات لها من آيات قدرته، واستحقاقه العبادة وحده، وذلك في قوله تعالى :﴿ أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ ﴾ [ الملك : ١٩ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ في جَوّ السَّمَآء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ في ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ النحل : ٧٩ ].
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذه الأُمّة :﴿ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض ﴾، أي : ليجعلنهم خلفاء الأرض، الذين لهم السيطرة فيها، ونفوذ الكلمة، والآيات تدلّ على أن طاعة اللَّه بالإيمان به، والعلم الصالح سبب للقوّة والاستخلاف في الأرض ونفوذ الكلمة ؛ كقوله تعالى :﴿ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ في الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ ﴾ [ الأنفال : ٢٦ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ في الأرض أَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَاتَوُاْ الزَّكَواةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ ﴾ [ الحج : ٤٠-٤١ ]، وقوله تعالى :﴿ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [ محمد : ٧ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾، أي : كبني إسْرائيل.
ومن الآيات الموضحة لذلك، قوله تعالى :﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ في الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ في الأرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ ﴾ [ القصص : ٥-٦ ]، وقوله تعالى عن موسى عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام :﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ في الأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٢٩ ]، وقوله تعالى :﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى :﴿ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف، أي : وعدهم اللَّه، وأقسم في وعده ليستخلفنهم.
قوله تعالى :﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ﴾.
هذا الدّين الذي ارتضاه لهم هو دين الإسلام بدليل قوله تعالى :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ﴾ [ آل عمران : ١٩ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الآخرة مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ]، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ﴾، قال الزمخشري : تمكينه هو تثبيته وتوطيده.
هذه الآية الكريمة تدلّ على أن إقامة الصّلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لرحمة اللَّه تعالى، سواء قلنا إن لعلّ في قوله :﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾، حرف تعليل أو ترج ؛ لأنها إن قلنا : إنها حرف تعليل فإقامة الصلاة وما عطف عليه سبب لرحمة اللَّه ؛ لأن العلل أسباب شرعية، وإن قلنا : إن لعلّ للترجي، أي : أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة على رجائكم أن اللَّه يرحمكم بذلك، لأن اللَّه ما أطمعهم بتلك الرحمة عند عملهم بموجبها إلا ليرحمهم لما هو معلوم من فضله وكرمه، وكون لعل هنا للترجي، إنما هو بحسب علم المخلوقين ؛ كما أوضحناه في غير هذا الموضع. وهذا الذي دلّت عليه هذه الآية من أنهم إن أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأطاعوا الرسول رحمهم اللَّه بذلك جاء موضحًا في آية أخرى، وهي قوله تعالى :﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ﴾[ التوبة : ٧١ ]، وقوله تعالى في هذه الآية :﴿ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ﴾، بعد قوله :﴿ وأقيموا الصلاة ﴾ من عطف العام على الخاص ؛ لأن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، داخلان في عموم قوله :﴿ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ﴾، وقد قدّمنا مرارًا أن عطف العام على الخاص وعكسه كلاهما من الإطناب المقبول إذا كان في الخاص مزية ليست في غيره من أفراد العام.
نهى اللَّه نبيّه محمّدًا صلى الله عليه وسلم أن يحسب، أي : يظنّ الذين كفروا معجزين في الأرض، ومفعول ﴿ مُعجِزِينَ ﴾ محذوف، أي : لا يظنّهم معجزين ربّهم، بل قادر على عذابهم لا يعجز عن فعل ما أراد بهم ؛ لأنه قادر على كل شيء.
وما دلّت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبيّنًا في آيات أُخر ؛ كقوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ﴾ [ التوبة : ٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ التوبة : ٣ ]، وقوله تعالى :﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٤ ]، وقوله تعالى :﴿ قُلْ إِي وَرَبّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [ يونس : ٥٣ ]، وقوله تعالى :﴿ يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ في الأرض وَلاَ في السَّمَاء ﴾ [ العنكبوت : ٢١-٢ ] الآية، وقوله في «الشورى » :﴿ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ في الأرض وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ [ الشورى : ٣١ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، قرأه ابن عامر وحمزة :﴿ لا يَحْسَبَنَّ ﴾، بالياء المثناة التحتية على الغيبة، وقرأه باقي السبعة :﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ ﴾، بالتاء الفوقية. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة بفتح السين، وباقي السبعة بكسرها.
والحاصل أن قراءة ابن عامر وحمزة بالياء التحتية وفتح السين، وقراءة عاصم بالتاء الفوقية وفتح السين، وقراءة الباقين من السبعة بالتاء الفوقية وكسر السين، وعلى قراءة من قرأ بالتاء الفوقية فلا أشكال في الآية مع فتح السين وكسرها ؛ لأن الخطاب بقوله :﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ ﴾ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله :﴿ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ هو المفعول الأول، وقوله :﴿ مُعَجِزِينَ ﴾ هو المفعول الثاني ل :﴿ تَحْسَبَنَّ ﴾، وأمّا على قراءة :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ﴾ بالياء التحتية، ففي الآية إشكال معروف، وذكر القرطبي الجواب عنه من ثلاثة أوجه :
الأول : أن قوله ﴿ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ في محل رفع فاعل ﴿ يَحْسَبَنَّ ﴾، والمفعول الأول محذوف، تقديره : أنفسهم. و ﴿ مُعجِزِينَ ﴾ : مفعول ثان، أي : لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين اللَّه في الأرض، وعزا هذا القول للزجاج، والمفعول المحذوف قد تدلّ عليه قراءة من قرأ بالتاء الفوقية كما لا يخفى. ومفعولا الفعل القلبي يجوز حذفهما أو حذف أحدهما إن قام عليه دليل ؛ كما أشار له ابن مالك في «الخلاصة »، بقوله :
ولا تجز هنا بلا دليل | سقوط مفعولين أو مفعول |
بأي كتاب أم بأية سنّة | ترى حبّهم عارًا عليّ وتحسب |
ولقد نزلت فلا تظنّي غيره | مني بمنزلة المحب المكرم |
الجواب الثاني : أَن فاعل ﴿ يَحْسَبَنَّ ﴾ النبيّ صلى الله عليه وسلم، لأنه مذكور في قوله قبله :﴿ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ﴾ [ النور : ٥٤ ]، أي : لا يحسبن محمّد صلى الله عليه وسلم الذين كفروا معجزين، وعلى هذا ف :﴿ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ مفعول أوّل، و﴿ مُعجِزِينَ ﴾ مفعول ثان، وعزا هذا القول للفراء، وأبي علي.
الجواب الثالث : أن المعني : لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض وعزا هذا القول لعليّ بن سليمان، وهو كالذي قبله، إلا أن الفاعل في الأوّل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي الثاني الكافر. وقال الزمخشري : وقرئ ﴿ لا يَحْسَبَنَّ ﴾ بالياء، وفيه أوجه أن يكون ﴿ مُعْجِزِينَ في الأرض ﴾ هما المفعولان.
والمعنى : لا يحسبن الذين كفروا أحدًا يعجز اللَّه في الأرض، حتى يطمعوا هم في مثل ذلك، وهذا معنى قوي جيّد، وأن يكون فيه ضمير الرسول لتقدم ذكره في قوله :﴿ قُلْ أَطِيعُواْ لِلَّهِ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ﴾، وأن يكون الأصل : لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأَوّل، وكأن الذي سوّغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد، اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث، اه.
وما ذكره النحاس وأبو حاتم وغيرهما من أن قراءة من قرأ :﴿ لا يَحْسَبَنَّ ﴾ بالياء التحتيّة خطأ أو لحن، كلام ساقط لا يلتفت إليه ؛ لأنها قراءة سبعية ثابتة ثبوتًا لا يمكن الطعن فيه، وقرأ بها من السبعة : ابن عامر، وحمزة ؛ كما تقدّم.
وأظهر الأجوبة عندي : أن ﴿ مُعْجِزِينَ في الأرض ﴾ هما المفعولان، فالمفعول الأول ﴿ مُعجِزِينَ ﴾، والمفعول الثاني دلّ عليه قوله :﴿ في الأرض ﴾، أي : لا تحسبن معجزين اللَّه موجودين أو كائنين في الأرض، والعلم عند اللَّه تعالى.
لأهل العلم في هذه الآية أقوال، راجعة إلى قولين :
أحدهما : أن المصدر الذي هو :﴿ دُعَاء ﴾ مضاف إلى مفعوله، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالرسول مدعو.
الثاني : أن المصدر المذكور مضاف إلى فاعله، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا : فالرسول داع.
وإيضاح معنى قول من قال : إن المصدر مضاف إلى مفعوله، أن المعنى : لا تجعلوا دعاءكم إلى الرسول إذا دعوتموه كدعاء بعضكم بعضًا، فلا تقولوا له : يا محمّد مصرّحين باسمه، ولا ترفعوا أصواتكم عنده كما يفعل بعضكم مع بعض، بل قولوا له : يا نبيّ اللَّه، يا رسول اللَّه، مع خفض الصوت احترامًا له صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول هو الذي تشهد له آيات من كتاب اللَّه تعالى ؛ كقوله :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ﴾ [ الحجرات : ٢-٣ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ [ الحجرات : ٤-٥ ]، وقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ راعِنَا ﴾ [ البقرة : ١٠٤ ] الآية، وهذا القول في الآية مرويّ عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة ؛ كما ذكره عنهم القرطبي، وذكره ابن كثير عن الضحاك، عن ابن عباس، وذكره أيضًا عن سعيد بن جبير، ومجاهد، ومقاتل، ونقله أيضًا عن مالك، عن زيد بن أسلم، ثم قال : إن هذا القول هو الظاهر، واستدلّ له بالآيات التي ذكرنا.
وأمّا على القول الثاني : وهو أن المصدر مضاف إلى فاعله، ففي المعنى وجهان :
الأول : ما ذكره الزمخشري في «الكشاف »، قال : إذا احتاج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرّقوا عنه إلا بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضًا، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي.
والوجه الثاني : هو ما ذكره ابن كثير في تفسيره، قال : والقول الثاني في ذلك أن المعنى في ﴿ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً ﴾، أي : لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره، فإن دعاءه مستجاب، فاحذروا أن يدعو عليكم، فتهلكوا. حكاه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، والحسن البصري، وعطية العوفي، واللَّه أعلم. انتهى كلام ابن كثير.
قال مقيّده عفا اللَّه عنه وغفر له : هذا الوجه الأخير يأباه ظاهر القرآن ؛ لأن قوله تعالى :﴿ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً ﴾ يدلّ على خلافه، ولو أراد دعاء بعضهم على بعض، لقال : لا تجعلوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض، فدعاء بعضهم بعضًا، ودعاء بعضهم على بعض متغايران، كما لا يخفى. والظاهر أن قوله :﴿ لاَّ تَجْعَلُواْ ﴾ من جعل التي بمعنى اعتقد، كما ذكرنا عن ابن كثير آنفًا.
قوله تعالى﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ ٦٣ ].
الضمير في قوله :﴿ عَنْ أَمْرِهِ ﴾ راجع إلى الرسول، أو إلى اللَّه والمعنى واحد ؛ لأن الأمر من اللَّه والرسول مبلغ عنه، والعرب تقول : خالف أمره وخالف عن أمره : وقال بعضهم :﴿ يُخَالِفُونَ ﴾ : مضمن معنى يصدّون، أي : يصدّون عن أمره.
وهذه الآية الكريمة قد استدلّ بها الأصوليّون على أن الأمر المجرّد عن القرائن يقتضي الوجوب ؛ لأنه جلّ وعلا توعّد المخالفين عن أمره بالفتنة أو العذاب الأليم، وحذّرهم من مخالفة الأمر. وكل ذلك يقتضي أن الأمر للوجوب، ما لم يصرف عنه صارف، لأن غير الواجب لا يستوجب تركه الوعيد الشديد والتحذير.
وهذا المعنى الذي دلّت عليه هذه الآية الكريمة من اقتضاء الأمر المطلق الوجوب، دلّت عليه آيات أُخر من كتاب اللَّه ؛ كقوله تعالى :﴿ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ ﴾ [ المرسلات : ٤٨ ]، فإن قوله :﴿ ارْكَعُواْ ﴾ أمر مطلق، وذمّه تعالى للذين لم يمتثلوه بقوله :﴿ لاَ يَرْكَعُونَ ﴾ يدلّ على أن امتثاله واجب. وكقوله تعالى لإبليس :﴿ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾ [ الأعراف : ١٢ ]، فإنكاره تعالى على إبليس موبخًا له بقوله :﴿ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾ يدلّ على أنه تارك واجبًا. وأن امتثال الأمر واجب مع أن الأمر المذكور مطلق، وهو قوله تعالى :﴿ اسْجُدُواْ لآدَمَ ﴾ [ البقرة : ٣٤ ]، وكقوله تعالى عن موسى :﴿ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾ [ طه : ٩٣ ]، فسمّى مخالفة الأمر معصية، وأمره المذكور مطلق، وهو قوله :﴿ اخْلُفْنِي في قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٤٢ ]، وكقوله تعالى :﴿ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ]، وإطلاق اسم المعصية على مخالفة الأمر يدلّ على أن مخالفه عاص، ولا يكون عاصيًا إلا بترك واجب، أو ارتكاب محرم ؛ وكقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [ الأحزاب : ٣٦ ]، فإنه يدلّ على أن أمر اللَّه، وأمر رسوله مانع من الاختيار موجب للامتثال، وذلك يدلّ على اقتضائه الوجوب، كما ترى. وأشار إلى أن مخالفته معصية بقوله بعده :﴿ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً ﴾ [ الأحزاب : ٣٦ ].
واعلم أن اللغة تدلّ على اقتضاء الأمر المطلق الوجوب، بدليل أن السيّد لو قال لعبده : اسقني ماء مثلاً، ولم يمتثل العبد أمر سيّده فعاقبه السيّد، فليس للعبد أن يقول : عقابك لي ظلم ؛ لأن صيغة الأمر في قولك : اسقني ماء لم توجب عليّ الامتثال، فقد عاقبتني على ترك ما لا يلزمني، بل يُفهم من نفس الصيغة أن الامتثال يلزمه، وأن العقاب على عدم الامتثال واقع موقعه، والفتنة في قوله :﴿ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ﴾، قيل : هي القتل، وهو مروي عن ابن عباس. وقيل : الزلازل والأهوال، وهو مروي عن عطاء. وقيل : السلطان الجائر، وهو مروي عن جعفر بن محمّد. قال بعضهم : هي الطبع على القلوب بسبب شؤم مخالفة أمر اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقال بعض العلماء :﴿ فِتْنَةً ﴾ محنة في الدنيا ﴿ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ في الآخرة.
قال مقيّده عفا اللَّه عنه وغفر له : قد دلّ استقراء القرآن العظيم أن الفتنة فيه أطلقت على أربعة معان :
الأول : أن يراد بها الإحراق بالنار ؛ كقوله تعالى :﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ﴾ [ الذاريات : ١٣ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [ البروج : ١٠ ] الآية، أي : أحرقوهم بنار الأخدود على القول بذلك.
الثاني : وهو أشهرها إطلاق الفتنة على الاختبار ؛ كقوله تعالى :﴿ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وألَوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾ [ الجن : ١٦-١٧ ].
والثالث : إطلاق الفتنة على نتيجة الاختيار إن كانت سيّئة ؛ كقوله تعالى :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للَّهِ ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ]. وفي «الأنفال » :﴿ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ ﴾ [ الأنفال : ٣٩ ]، فقوله :﴿ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ]، أي : حتى لا يبقى شرك على أصحّ التفسيرين، ويدلّ على صحّته قوله بعده :﴿ وَيَكُونَ الدّينُ للَّهِ ﴾[ البقرة : ١٩٣ ] ؛ لأن الدين لا يكون كلّه للَّه حتى لا يبقى شرك كما ترى. ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :«أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ اللَّه »، كما لا يخفى.
والرابع : إطلاق الفتنة على الحجّة في قوله تعالى :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ]، أي : لم تكن حجّتهم، كما قال به بعض أهل العلم.
والأظهر عندي : أن الفتنة في قوله هنا :﴿ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ﴾، أنه من النوع الثالث من الأنواع المذكورة.
وأن معناه أن يفتنهم اللَّه، أي : يزيدهم ضلالاً بسبب مخالفتهم عن أمره، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا المعنى تدلّ عليه آيات كثيرة من كتاب اللَّه تعالى ؛ كقوله جلّ وعلا :﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [ المطففين : ١٤ ]، وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [ الصف : ٥ ]، وقوله تعالى :﴿ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [ البقرة : ١٠ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٥ ] الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة، والعلم عند اللَّه تعالى.
بيَّن جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يعلم ما عليه خلقه، أي من الطاعة والمعصية وغير ذلك.
وهذا المعنى الذي دلّت عليه هذه الآية مع أنه معلوم بالضرورة من الدّين، جاء مبيّنًا في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ وَمَا تَكُونُ في شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ في الأرض ولاَ في السّماء ولاَ أَصغَرَ مِنْ ذَلْكَ ولاَ أَكْبَرَ إلاّ في كِتابٍ مُبين ﴾ [ يونس : ٦١ ]، وقوله تعالى :﴿ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [ هود : ٥ ]، وقوله تعالى :﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾[ الرعد : ٣٣ ]، أي : هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشرّ. وقوله تعالى :﴿ وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [ الشعراء : ٢١٧-٢٢٠ ]، وقوله تعالى :﴿ سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ [ الرعد : ١٠ ]، وقوله تعالى :﴿ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [ الملك : ١٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا في الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ هود : ٦ ]، وقوله تعالى :﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [ الملك : ١٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وفي هذه الآيات وما في معناها أحسن وعد للمطيعين، وأشدّ وعيد للعصاة المجرمين، ولفظة ﴿ قَدْ ﴾ في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ ﴾ للتحقيق، وإتيان ﴿ قَدْ ﴾ للتحقيق مع المضارع كثير جدًّا في القرآن العظيم ؛ كقوله تعالى :﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً ﴾ [ النور : ٦٣ ]، وقوله تعالى :﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ ﴾ [ الأحزاب : ١٨ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ﴾ [ الأنعام : ٣٣ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ] الآية.
قوله تعالى ﴿ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمُ ﴾ [ ٦٤ ].
قوله تعالى في هذه الآية :﴿ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ ﴾، الظاهر أنه ليس بظرف، بل هو معطوف على المفعول به الذي هو ﴿ مَا ﴾، من قوله :﴿ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ ﴾، أي : ويعلم يوم يرجعون إليه، وقد ذكر اللَّه جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة ينبّئ الخلائق بكل ما عملوا ؛ أي : يخبرهم به ثم يجازيهم عليه.
وما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من كونه جلَّ وعلا يخبرهم يوم القيامة بما عملوا جاء موضحًا في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ [ القيامة : ١٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنَا يا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة، والعلم عند اللَّه تعالى.
تم بحمد الله تفسير سورة النور