تفسير سورة الأحزاب

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ

سورة الأحزاب
مدنية. وهى ثلاث وسبعون- بتقديم السين- آية. وعن أبىّ أنه قال: كم تعدون سورة الأحزاب؟ قالوا: ثلاثا وسبعين، قال: فوالذى يحلف به أبىّ إن كانت لتعدل سورة البقرة، أو أطول، ولقد قرأنا منها آية الرجم: الشيخ والشيخة، إذا زنيا، فارجموهما أَلْبَتَّةَ نكالاً من الله، والله عزيز حكيم «١». أراد أبىّ أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن. انظر النسفي. ومناسبتها لما قبلها: أن الفتح إنما يكون مع التقوى، فأمره بها، بعد أمره بانتظار نصره، كأنه قيل: يا أيها النبي اتق الله تر الفتح طوع يدك.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٣)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ أي: المُشرِّف حالاً، المفخم قدراً، العلي رتبة لأن النبوة مشتقة من النَّبْوَةَ، وهو الارتفاع. أو: يا أيها المخبرُ عنا، المأمون على وحينا، المبلغ خطابنا إلى أحبابنا. وإنما لم يقل: يا محمد، كما قال: «يا آدم، يا موسى» تشريفاً وتنويهاً بفضله، وتصريحُه باسمه في قوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ «٢»، ونحوه، ليعلم الناس بأنه رسول الله. اتَّقِ اللَّهَ أي: اثبت على تقوى الله، وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ لا تساعدهم على شيء، واحترس منهم فإنهم أعداء لله وللمؤمنين.
رُوي أن أبا سُفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السُّلمي، نزلوا المدينة على ابن أُبيّ، رأس المنافقين، بعد أُحد، وقد أعطاهم النبيُّ ﷺ الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن أبي سَرْح، وطُعْمَة بن
(١) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (٢/ ٤١٥) وأخرجه الطبراني فى الأوسط (ح ٤٣٥٢)، وعزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥/ ٣٤٥) لعبد الرزاق فى المصنف، والطيالسي، وسعيد بن منصور، وعبد الله بن أحمد فى زوائد المسند، وابن منيع، والنسائي، وابن المنذر، وابن الأنبارى فى المصاحف، والدارقطني فى الأفراد، وابن مردويه، عن زر، عن أبىّ.
(٢) كما جاء فى الآية ٢٩ من سورة الفتح.
403
أبيرق، فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم، وعنده عمر بن الخطاب: ارفض ذكر آلهتنا اللات، والعزى، ومناة، وقل: إن لها شفاعة ومنفعة لِمن عَبَدَها، وندعك وَرَبَّك. فشقّ على النبي ﷺ قولهم، فقال عمر: ائذن لنا، يا رسول الله، في قتلهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «إني قد أعطيتهم الأمان». فقال عمر: اخرُجوا في لعنة الله وغضبه، فخرجوا من المدينة، فنزلت «١».
أي: اتق الله في نقض العهد، ولا تُطع الكافرين من أهل مكة، كأَبي سفيان وأصحابه، والمنافقين من أهل المدينة، فيما طلبوا، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بخبث أعمالهم، حَكِيماً بتأخير الأمر بقتالهم.
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في الثبات على التقوى، وترك طاعة الكافرين والمنافقين. أو: كل ما يُوحى إليك من ربك، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي: لم يزل عالماً بأعمالهم وأعمالكم. وقيل: إنما جمع لأن المراد بقوله: «اتبع» : هو وأصحابه، وقرأ بالغيب: أبو عمرو، أي: بما يعمل الكافرون والمنافقون، من كيدهم لكم ومكرهم. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أَسْنِدْ أمرك إليه، وكِلْهُ إلى تدبيره. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا حافظاً موكولاً إليه كل أمر. وقال الزجاج: لفظه، وإن كان لفظ الخبر فالمعنى: اكتفِ بالله وكيلاً.
الإشارة: أُمر بتقوى الله، وبالغيبة عما يشغل عن الله، وبالتوكل على الله، فالتقوى أساس الطريق، والغيبة عن الشاغل: سبب الوصول إلى عين التحقيق، والتوكل زاد رفيق. قال القشيري بعد كلام: يا أيها المُرقَّى إلى أعلى المراتب، المُتَلقَّى بأسنى القُرَب والمناقب اتقِ الله أن تلاحظ غَيْراً معنا، أو تُساكِن شيئاً دوننا، أو تُثبت شيئاً سوانا، وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ إشفاقاً منك عليهم، وطمعاً في إيمانهم، بموافقتهم في شيء مما أرادوه منك. والتقوى رقيب على الأولياء، تمنعهم، في أنفاسهم وسكناتهم وحركاتهم، أن ينظروا إلى غيره، أو يُثْبِتُوا معه سواه، إلا منصوباً بقدرته، مصرَّفاً بمشيئته، نافذاً فيه حُكْمُ قضيته.
التقوى لجامٌ يمنعك عمَّا لا يجوز، زمامٌ يقودك إلى ما تُحب، سوطٌ يسوقك إلى ما أمر به، حِرْزٌ يعصمك من تَوَصُّل عقابه إليك، عوذَةٌ تشفيك من داء الخطايا. التقوى وسيلةٌ إلى ساحة كرمه، ذريعةٌ يُتَوصَّلُ بها إلى عفوه وجوده. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ... لا تبتدع، واقتِد بما نأمرك، ولا تقتدِ، باختيارك، غَيْرَ ما نختار لك، ولا تُعَرِّج- أي: تقم- في أوطان الكسل، ولا تجنح إلى ناحية التواني، وكن لنا لا لك، وقم بنا لا بِكَ. «وتوكل» انسلخْ عن إهابك لنا، واصدق في إيابك إلينا، وتشاغلك عن حُسْبَانِكَ معنا، واحذرْ ذهابَكَ عنا، ولا تُقَصِّرْ في خطابك معنا. ويقال: التوكل: تَخلُّقُ، ثم تَخلُّقٌ، ثم تَوَثُقٌ، ثم تَمَلُّقٌ تحققٌ في العقيدة، وتخلقٌ بإقامة الشريعة، وتَوثُّقٌ بالمقسوم من القضية، وتملقٌ بين يديه بحُسْن العبودية. ويقال: التوكل: استواءُ القلب في العدم والوجود. هـ.
(١) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (ص ٣٦٤)، والبغوي فى تفسيره (٦/ ٣١٥)، بدون إسناد.
404
والتقوى محلها القلب، ولا يحصل منتهاها إلا بانفراد القلب إلى مولاه، كما أبان ذلك بقوله:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤ الى ٥]
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥)
يقول الحق جلّ جلاله: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ فيؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر، أو:
يتقي بأحدهما ويعصي بالآخر، أو: يُقبل على الله بأحدهما ويُقبل على الدنيا بالآخر، بل ما للعبد إلا قلب واحد، إن أقبل به على الله أدبر عمن سواه، وإن أقبل به على الدنيا أدبر عن الله. قيل: الآية مثل للمنافقين، أي: إنه لا يجتمع الكفر والإيمان، وقيل: لا تستقر التقوى ونقض العهد في قلب واحد. وقال ابن عطية: يظهر من الآية، بجملتها، أنها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها فى ذلك الوقت، وإعلام بحقيقة الأمر فيها، فمنها: أنَّ العرب كانت تقول: الإنسان له قلب يأمره وقلب ينهاه، وكان تَضَادُّ الخواطر يحملها على ذلك.. الخ كلامه.
قال النسفي: والمعنى: أنه تعالى لم يجعل للإنسان قلبين لأنه لا يخلو: إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فَضْلَةٌ غير مُحْتاَج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذلك، فيؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً، عالماً ظانّاً، موقناً شاكّاً، في حالة واحدة. هـ.
وكانت العرب تعتقد أيضاً أن المرأة المظاهَرَ منها: أُمًّا، فردّ ذلك بقوله: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ أي: ما جمع الزوجية والأمومة في امرأة واحدة لتضاد أحكامهما لأن الأم مخدومة، والمرأة خادمة.
وكانت تعتقد أن الدّعي ابن، فردّ عليهم بقوله: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ أي: لم يجعل المُتَبَنَّى من أولاد الناس ابناً لمَن تبناه لأن البنوة أصالة في النسب، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية، لا غير، ولا يجتمع في شيء واحد أن يكون أصيلا [و] «١» غير أصيل.
(١) زيادة، ليست فى الأصول. [.....]
405
ونزل هذا في «زيد بن حارثة»، وهو رجل من كلب، سُبي صغيراً، فاشتراه حكيم بن حزام، لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله ﷺ وهبته له، فطلبه أبوه وعمه، وجاءا بفدائه، فخُيَّر، فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتقه وتبنّاه. وكانوا يقولون: زيد بن محمد، فلما تزوج النبي ﷺ زينب وكانت تحت زيد- على ما يأتي- قال المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عنه، فأنزل الله هذه الآية.
وقيل: كان المنافقون يقولون: لمحمد قلبان، قلب معكم، وقلب مع أصحابه «١». وقيل: كان «أبو مَعْمَر» أحفظ العرب، فقيل له: ذو القلبين «٢»، فأكذب اللهُ قولَهم. والتنكير في رجل، وإدخال «مِن» الاستغراقية على (قلبين)، وذكر الجوف للتأكيد. و (اللائي) : جمع «التي». وفيها أربع قراءات: «اللاء» بالهمزة مع المد والقصر، وبالتسهيل، وبالياء، بدلاً من الهمز. وأصل تُظاهِرُونَ: تتظاهرون، فأدغم. وقرأ عاصم بالتخفيف منْ: ظَاَهَر. ومعنى الظهار: أن يقول للزوجة: أنت عليّ كظهر أمي. مأخوذ من الظهر، وتعديته بمن لتضمنه معنى التجنُّب لأنه كان طلاقاً في الجاهلية. وهو في الإسلام يقتضي الحرمة حتى يُكفَّر، كما يأتي في المجادلة. والأدعياء: جمع دعي، فقيل: بمعنى مفعول، وهو الذي يُدعى ولداً، وجمعه على أَفْعِلاَء: شاذ لأن بابه ما كان منه بمعنى فاعل كتقي وأتقياء، وشقي وأشقياء. ولا يكون فى ذلك فى نحو رَمِيَّ وسَمي، على الشذوذ. وكأنه شبهه بفعيل بمعنى فاعل، فَجُمِعَ جَمْعَهُ.
ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ إذ إن قولكم للزوجة: أُمًّا، والدعيّ: هو ابن، قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له إذ الابن يكون بالولادة، وكذا الأم. وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ ما له حقيقة عينية، مطابقة له ظاهراً وباطناً.
وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ سبيل الحق.
ثم بيّن ذلك الحَقَّ، وهدى إلى سبيله، فقال: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ انسبوهم إليهم. هُوَ، أي: الدعاء، أَقْسَطُ أعدل عِنْدَ اللَّهِ. بيّن أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في العدل. وقيل: كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه ولد الرجل ضمّه إليه، وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده، من ميراثه. وكان ينسب إليه، فيقال: فلان بن فلان. فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ أي: فإن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم،
(١) هذا معنى ما أخرجه الإمام أحمد (١/ ٢٦٨) والترمذى، وحسنه، فى (التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، ٥/ ٣٢٤- ٣٢٥، ح ٣١٩٩) والطبرى (٢١/ ١١٨) والحاكم (٢/ ٤١٥) عن ابن عباس رضي الله عنه. وصححه الحاكم، وفيه «قابوس بن أبى ظبيان» قال الذهبى: قابوس، ضعيف.
(٢) ذكره الواحدى فى أسباب النزول/ ٣٦٥. بدون إسناد.
406
فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أي: فهم إخوانكم في الدين، وأولياؤكم فيه. فقولوا: هذا أخي، وهذا مولاي، ويا أخي، ويا مولاي، يريد الأخوة في الدين والولاية فيه، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ أي: لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك، مخطئين جاهلين، قبل ورود النهي، أو بعده، نسياناً. وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي: ولكن الإثم فيما تعمِّدتموه بعد النهي. أو: لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم: يا بنيّ، على سبيل الخطأ، أو: الشفقة ولكن إذا قلتموه متعمدين على وجه الانتساب. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً لا يؤاخذكم بالخطأ، ويقبل التوبة من المتعمّد.
الإشارة: العبد إنما له قلب واحد، إذا أقبل به على مولاه أدبر عن ما سواه، وملأه اللهُ تعالى بأنواع المعارف والأسرار، وأشرقت عليه الأنوار، ودخل حضرة الحليم الغفار، وإذا أقبل به على الدنيا أدبر عن الله، وحُشي بالأغيار والأكدار، وأظلمت عليه الأسرار، وطبع فيه صور الكائنات، فّحُجِبَ عن المُكَوِّنِ، وكان مأوى للخواطر والوساوس، فلم يَسْوَ عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ. قال القشيري: القلب إذا اشتغل بشيء اشتغل عما سواه، فالمشتغلُ بما مِنَ العَدَمِ منفصلٌ عَمن له القِدَمُ، والمتصل بقلبه بِمَنْ نَعْتُهُ القِدَم مشتغلٌ عمِّا من العدم، والليل والنهار لا يجتمعان، والغيبُ والغيرُ لا يلتقيان. هـ.
وقوله تعالى: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ... الآية، يمكن أن تكون الإشارة فيها إلى أنَّ مَنْ ظاهَرَ الدنيا، وتباعد عنها لا يحل له أن يرجع، ويتخذّها أُمًّا في المحبة والخدمة. وقوله تعالى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ..:
تشير إلى أنه لا يحل أن يَدَّعِيَ الفقيرُ حالاً، أو مقاماً، ما لم يتحقق به، وليس هو له، أوْ: يَنْسِبَ حِكْمَةً أوْ عِلْماً رفيعاً لنفسه، وهو لغيره، ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ. وقوله: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ..:
إخوان الدين أّوْلَى، وإخوان الطريق أحب وأصفى. قال القشيري: وقرابةُ الدين، في الشكلية، أولى من قرابة النَّسَب، وأنشدوا:
وَقَالُوا: قَرِيبٌ مِنْ أبٍ وَعُمُومَةٍ... فَقُلْتُ: وَإخْوَانُ الصَّفَاءِ الأقارِبُ
مَنَاسِبُهُمْ شَكْلاً وَعِلْماً وأُلفة وَإنْ بَاعَدَتْنَا فِي الأُصُولِ التّناسب «١»
(١) فى القشيري: (وإن باعدتهم فى الأصول المناسب) والبيتان لأبى تمام، يرثى غالب بن السعدي. انظر ديوانه (٤/ ٤١) ونهاية الأرب (٥/ ٢٠٢).
407
ثم ذكر أبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأمومة أزواجه لجميع أمته، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٦]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦)
يقول الحق جلّ جلاله: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ أي: أحق بهم في كل شيء مَنْ أمور الدين والدنيا، وحكمه أنفذ عليهم مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فإنه لا يأمرهم، ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم، فيجب عليهم أن يبذلوها دونه. ويجعلوها فداء منه. وقال ابن عباس وعطاء: يعني: (إذا دعاهم النبي ﷺ إلى شيء، ودعتهم أنفسهم إلى شيء، كانت طاعةُ النبي ﷺ أولى) «١». أو: هو أولى بهم، أي: أرأف، وأعطف عليهم، وأنفع لهم، كقوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «٢» وفى الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: «ما من مؤمن إلا وأنَا أوْلَى الناس به فى الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فأيُّمَا مُؤْمِن هَلَكَ، وتركَ مالاً فلورَثَته ما كانوا، ومَن تَرَكَ دَيْناً أو ضَيَاعاً فليَأتني، فإني أنا مَوْلاه». «٣».
وفي قراءة ابن مسعود «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم». وقال مجاهد: كل نبي أبو أمته، ولذلك صار المؤمنون إخوة لأن النبي ﷺ أبوهم في الدين، وأزواجه أمهاتهم، في تحريم نكاحهن ووجوب تعظيمهن، وهن فيما وراء ذلك- كالإرث وغيره- كالأجنبيات، ولهذا لم يتعدَّ التحريم إلى بناتهن.
وَأُولُوا الْأَرْحامِ أي: ذوو القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في المواريث. وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرةِ، لا بالقرابة، ثم نسخ، وجعل التوارث بالقرابة. وذلك فِي كِتابِ اللَّهِ أي: في حكم الله وقضائه، أو: في اللوح المحفوظ، أو: فيما فرض الله، فهم أولى بالميراث، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بحق الولاية في الدين، وَمن الْمُهاجِرِينَ بحق الهجرة. وهذا هو الناسخ. قال قتادة: كان المسلمون
(١) انظر تفسير البغوي (٦/ ٣١٨).
(٢) الآية ١٢٨ من سورة التوبة.
(٣) أخرجه البخاري فى (الاستقراض، باب الصلاة على ترك دينا، ح ٢٣٩٩)، ومسلم فى (الفرائض، باب من ترك مالا فلورثته، ٣/ ١٢٣٨، ح ١٦١٩)، من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
408
يتوارثون بالهجرة، ولا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر شيئاً، فنزلت. وقال الكلبي: آخى النبي ﷺ بين الناس، فكان يواخى بين الرجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الآخر، دون عصبته، حتى نزلت: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ «١» في حكمه، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ. ويجوز أن يكون مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: بياناً لأولي الأرحام، أي: وأولو الأرحام، من هؤلاء، بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب، إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً أي: لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفاً، وهو أن تُوصوا لمَن أحببتم من هؤلاء بشيء، فيكون له ذلك بالوصية، لا بالميراث فالاستثناء منقطع. وعَدّى (تفعلوا) بإلى لأنه في معنى تُسْنِدُوا، والمراد بالأولياء:
المؤمنون، والمهاجرون: المتقدمون الذين نسخ ميراثهم. كانَ ذلِكَ أي: التوارث بالأرحام فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي: اللوح المحفوظ، أو: القرآن. وقيل: في التوراة.
الإشارة: متابعته- عليه الصلاة والسلام، والاقتباس من أنواره، والاهتداء بهديه، وإيثار محبته، وأمره على غيره لا ينقطع عن المريد أبداً، بدايةً ونهايةً إذ هو الواسطة العظمى، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأرواحهم وأسرارهم. فكل مدد واصل إلى العبد فهو منه صلى الله عليه وسلم، وعلى يده، وكل ما تأمر به الأشياخ من فعل وترك في تربية المريدين، فهو جزء من الذي جاء به. وهم في ذلك بحسب النيابة عن النبي ﷺ لأنهم خلفاء عنه. وكل كرامة تظهر فهي معجزة له صلى الله عليه وسلم، وكل كشف ومشاهدة فمن نوره صلى الله عليه وسلم، قال ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه: اعلم أن كل وَليّ لله تعالى إنما يأخذ ما يأخذ بِوَاسِطَةِ رُوحَانِيَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم مَن يعرف ذلك، ومنهم مَن لا يعرفه، ويقول: قال لي الله، وليس إلا تلك الروحانية. هـ. وهو موافق لما أشار إليه الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه، حيث قال: الوليّ إنما يكاشف بالمثال، كما يرى مثلاً البدر في الماء بواسطته، وكذلك الحقائق الغيبية، والأمور الإشهادية مجلوة وظاهرة فى بصيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وله عياناً لا مثالاً. والوليّ لقربه منه ومناسبته له لهديه بهديه، ومتابعته له يُكاشف بمثال ذلك فيه، فظهر الفرق وثبتت مزية النبي صلى الله عليه وسلم، وانتفى اللبس بين النبوة والولاية. قاله شيخ شيوخنا سيدي «عبد الرحمن العارف».
قال القشيري: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ الإشارة: تقديم سُنّته على هواك، والوقوف عند إشارته دون ما يتعلقُ به مُناك، وإيثار مَن تتوسل به نسباً وسبباً على أعِزَّتكَ ومَن والاك، وَأُولُوا الْأَرْحامِ.. الآية. ليكن
(١) انظر تفسير ابن كثير (٣/ ٤٦٨).
409
الأجانبُ منك على جانب، ولتكن صلتك للأقارب وصلةُ الرحم ليس لمقاربة الدار وتعاقب المزار، وليكن بموافقة القلوب، والمساعدة في حالتي المكروه والمحبوب.
أرْوَاحُنا في مكانٍ واحد، وإن كانت أشْبَاحُناَ بِشَآمٍ أوْ خُرَاسَانِ «١». هـ.
ولمّا كان كل نبى أبا لأمته، أخذ عليهم العهد فى إرشادهم، ونصحهم، كما ينصح الأب ابنه، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٧ الى ٨]
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر إِذْ أَخَذْنا حين أخذنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ بتبليغ الرسالة، والدعاء إلى الدين القيم، وإرشاد العباد ونصحهم. قيل: أخذه عليهم في عالم الذَّرِّ. قال أُبيّ بن كعب: لما أخرج الله الذرية، كانت الأنبياء فيهم مثل السُرُج، عليهم النور، فخُصُّوا بميثاقٍ وأخذ الرسالة والنبوة. وقال القشيري: أخذ الميثاق الأوَل وقت استخراج الذرية من صُلب آدم، عوندَ بعثة كل رسول، ونُبُوَّة كل نبيٍّ، أخذ ميثاقه، وذلك على لسان جبريل عليه السلام، ومنَ اختصه بإسماعه كَلاَمَهُ بلا واسطة ملك- كنبينا ليلة المعراج، وموسى- عليهما السلام- فأخذ الميثاق منهم بلا واسطة، وكان لنبينا- عليه الصلاة السلام- زيادة حال بأن كان مع سماع الخطاب كشف الرؤية. ثم أخذ المواثيق من العباد بقلوبهم وأسرارهم. هـ.
قال في الحاشية: والذي يظهر: أن أخذ الميثاق منهم مباشرة لا بوحي، وذلك في الغيب، ولذلك قدّم نبينا محمد ﷺ لأنه النور الأول قبل آدم، ثم انتقل إلى ظهره، وحينئذ، فأخذ الميثاق هنا غيبي، ولذلك قدّمه. وفي قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ... «٢» في عالم الظهور، فلذلك قدّم نوحاً، وثنَّى بنبينا لأن نوحاً أول أُولي العزم، ونبينا خاتمهم. والله أعلم. هـ. والحاصل: أن أخذ الميثاق كان مرتين في عالم الغيب وفي عالم الشهادة. وهل المراد به هنا الأول أو الثاني؟ قولان.
(١) البيت لأبى تمام، يمدح سليمان بن وهب. انظر ديوان أبى تمام (٣/ ٣٣٥)، وتاريخ بغداد (١٠/ ٩٧) وفيهما:
أرْوَاحُنا في مكانٍ واحد، وغدت... إلخ.
(٢) الآية ١٣ من سورة الشورى.
410
وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، قال النسفي: وقدَّم رسول الله ﷺ على نوح ومَن بعده لأن هذا العطف لبيان فضيلة هؤلاء لأنهم أولو العزم، وأصحاب الشرائع، فلمَّا كان نبينا محمد ﷺ أفضل هؤلاء قُدّم عليهم، ولولا ذلك لقدّم مَن قدمه زمانه. هـ. وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً وثيقاً. وأعاد ذكر الميثاق لانضمام الوصف إليه.
وإنما فعلنا ذلك لِيَسْئَلَ اللهُ الصَّادِقِينَ أي: الأنبياء عَنْ صِدْقِهِمْ عما قالوه لقومهم، وهل بلغوا ما كلفهم به. وفيه تبكيت للكفار، كقوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ «١»، أو: ليسأل المصدّقين للأنبياء عن تصديقهم: هل كان بإخلاص أم لا؟ لأن مَن قال للصادق: صدقت كان صادقاً في قوله. أو: ليسأل الأنبياء: ما الذي أجابتهم أممهم؟ وهو كقوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ «٢»، وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ بالرسل عَذاباً أَلِيماً، وهو عطف على «أخذنا» لأن المعنى: أن الله تعالى أخذ على الأنبياء العهد بالدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين، وأعد للكافرين عذابا أليما. أو: على ما دلّ عليه: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ، كأنه قال: فأثاب المؤمنين، وأعد للكافرين عذابا أليماً.
الإشارة: كما أخذ الله الميثاق على الأنبياء والرسل أخذ الميثاق على العلماء والأولياء. أما العلماء فعلى تبيين الشرائع وتغيير المناكر، وألا تأخذهم في الله لومة لأئم، وأما أخذه على الأولياء فعلى تذكير العباد وإرشادهم إلى معرفة الله، وتربية مَن تعلّق بهم، وسياسة الخلق، ودلالتهم على الحق، فمَن قصَّر من الفريقين استحق العتاب.
قال القشيري: فلكلِّ من الأولياء والأكابر حال، على ما يؤهلهم له قال صلى الله عليه وسلم: «لقد كان في الأمم مُحَدِّثون، وإن يكُن في أمتي فَعُمر»، وغير عُمَر مشارك لعُمر في خواص كثيرة، وذلك سر بينهم وبين ربِّهم.
ثم قال: قوله تعالى: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ سؤال تشريف لا تعنيف، وإيجاب لا عتاب.
والصدقُ: ألا يكون في أحوالك شَوْبٌ، ولا في اعتقادك ريب، ولا في عملك عَيْبٌ، ويقال: من أمارات الصدق في المعاملة: وجودُ الإخلاص من غير ملاحظة، وفي الأحوال: تصفيتُها [من غير مداخلة الحجاب] «٣»، وفي القول:
سلامته من المعاريض، [فيما بينك وبين نفسك] «٤». وفيما بينك وبين الناس: تباعدٌ من التلبيس والتدليس، وفيما
(١) الآية ٦ من سورة الأعراف.
(٢) متفق عليه، أخرجه البخاري فى (فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر، ح ٣٦٨٩) ومسلم فى (فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر ٤/ ٨١٦٤، ح ٢٣٩٨).
(٣) فى القشيري [من غير مداخلة إعجاب].
(٤) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول، وأثبته من القشيري، وهو ضرورى يقتضيه السياق.
411
بينك وبين الله: إدامة التبري من الحول والقوة، ومواصلة الاستقامة، وحفظ العهود معه على الدوام. وفى التوكل:
عدَم الانزعاج عند الفَقْدِ، وزوالِ الْبِشْر [بالوجد] «١»، وفي الأمر بالمعروف: التحرُّز من تخلل المداهنة، قليلها وكثيرها، وألاَّ يترك ذلك لِفَزَعٍ ولا طَمَع، ولكن تَشْرَبُ مما تَسْقي، وتتصف بما تأمر، وتنتهي عما تَزْجُر. ويقال:
الصدق: أن يهتدي إليك كل أحد، ويكون عليك، فيما تقول وتضمر، اعتماد. ويقال: الصدق: ألا تجنحَ إلى التأويلات. انتهى كلام القشيري.
ثم شرع فى غزوة الأحزاب، التي هى المقصودة من السورة، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٩ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، أي: ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب، وهو يوم الخندق، وكان بعد حرب أُحد بِسَنَةٍ. إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ أي: الأحزاب، وهم: قريش، وغطفان، ويهود قريظة والنضير، وهم السبب فى إتيانهم، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً أي: الصّبا، قال عليه الصلاة والسلام: «نُصِرتُ بالصِّبَا، وأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُور» «٢». قيل: كانت هذه الريح معجزة لأن النبي ﷺ والمسلمين كانوا قريباً منها، ولم يكن بينهم وبينها إلا عُرض الخندق، وكانوا فى عافية منها. وَلا شعور لهم بها.
وأرسلنا عليهم جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة، وكانوا ألفاً، فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور.
وكان سبب غزوة الأحزاب: أن نفراً من اليهود، منهم ابن أَبي الحقيق، وحُيي بن أخطب، في نفر من بني النضير، لَمَّا أجلاهم النبي ﷺ من بلدهم، قَدِموا مكة فحرّضوا قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجوا إلى غطفان، وأشجع، وفزارة، وقبائلَ مِنَ العرب، يُحرضونهم على ذلك، على أن يعطوهم نصف تمر خيبر كل
(١) فى القشيري [بالوجود]. [.....]
(٢) سبق تخريج الحديث عن تفسير الآية ٤٦ من سورة الروم. فراجعه إن شئت، أكرمك الله.
412
سنة. فخرجت قريش، وقائدها أبو سفيان، وخرجت غطفان، وقائدها عيينة بن حِصن، والحارث بن عوف في مُرة، وسعد بن رخيلة «١» في أشجع، وعامر بن الطفيل في هوازن.
فلما سمع النبي ﷺ بهم، ضرب الخندق على المدينة، برأى سلمان. وكان أول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ حُر. وقال: يا رسول الله: إنا كنّا بفارس إذا حُوصرنا: خَنْدَقْناَ علينا، فحفر الخندق، وباشر الحفر معهم بيده صلى الله عليه وسلم. فنزلت قريش بمجتمع الأسيال من الجُرُفِ والغابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم. ونزلت غطفان وأهل نجد بذنب نَقَمَي، إلى جانب أُحد. فخرج النبي ﷺ والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سَلْع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هناك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام «٢».
واشتد الخوف، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام المشركون، بِضعاً وعشرين ليلة، ولم يكن حرب غير الرمي بالنبل والحصى. فلما اشتد البلاء بعث النبي ﷺ إلى عُيينة بن حصن، والحارث بن عوف، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعا بمَن معهما، وكتبوا الكتاب ولم يقع الإشهاد، فاستشار النبي ﷺ سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فقال سعد بن معاذ: أشيء أمرك الله به، لا بدّ لنا من العمل به، أم شىء تحبه فنصنعه، أم شيء تصنعه لنا؟
قال: «لا، بل شيء أصنعه لكم، أردتُ أن أكْسِر عنكم شوكتهم». فقال سعد: يا رسول الله لقد كنا مع القوم على شرك وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة، إلا قِرىً، أو شراءً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وأعزَّنا بك، نعطيهم أموالنا! لا نعطيهم إلا السيف. فقال- عليه الصلاة والسلام: «فأنت وذاك»، فمحا سعدُ ما في الكتاب، وقال: ليجهدوا علينا».
ثم إن الله تعالى بَعَثَ عليهم ريحاً باردة، في ليلة شاتية، فأحصرتهم، وأحثت الترابَ في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأكفأت القدور، وأطفأت النيران، وجالت الخيل بعضها في بعض.
وأرسل الله تعالى عليهم الرُعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم، حتى كان سيد كل خباء يقول: يَا بَني فلان، هلمّوا، فإذا اجتمعوا إليه قال: النَّجا، أوتيتم. فانهزموا من غير قتال.
وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً، أي: بصيراً بعملكم، من حَفر الخندق، ومعاونة النبي صلى الله عليه وسلم، والثبات معه، فيجازيكم عليه. وقرأ أبو عمرو: بالغيب، أي: بما يعمل الكفار من البغي، والسعي في إطفاء نور الله،
(١) فى تفسير البغوى [مسعود بن رخيلة].
(٢) الآطام: الحصون. جمع أطم. انظر اللسان (أطم ١/ ٩٣).
(٣) انظر: السيرة لابن هشام (٣/ ٢٢٥).
413
إِذْ جاؤُكُمْ هو بدل من: (إذ جاءتكم)، مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي، من قِبَل المشرق. وهم بنو غطفان.
وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من قِبَل المغرب، وهم قريش. وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ مالت عن مستوى نظرها حَيْرَةً وشخوصاً. أو: مالت إلى عدوها لشدة الخوف، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ رُعباً.
والحنجرة: رأس الغَلْصَمَة، وهي منتهى الحلقوم، الذي هو مدخل الطعام والشراب. قالوا: إذا انتفخت الرئة، من شدة الفزع والغضب، رَبَتْ، وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة. وقيل: هو مثل في اضطراب القلوب، وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة.
رُوي أن المسلمين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: «نعم، قولوا:
اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا»
«١».
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا الأنواع من الظن. والمؤمنون أصناف منهم الأقوياء، ومنهم الضعفاء، ومنهم المنافقون. فظنّ الأقوياء، المخلصون، الثُبْتُ القلوب أن ينجز الله وعده في إعلاء دينه، ويمتحنهم، فخافوا الزلل وضعْفَ الاحتمال، وأما الآخرون فظنُّوا ما حكى عنهم، وهم الذين زاغت أبصارهم، وبلغت قلوبهم الحناجر، دون الأقوياء رضى الله عنهم، وقرأ أبو عمرو وحمزة: الظنون بغير ألف، وهو القياس. وبالألف فيهما: نافع، والشامي، وشعبة إجراء للوصل مجرى الوقف. والمكيّ، وعليّ، وحفص: بالألف في الوقف. ومثله: الرَّسُولَا «٢» و (السبيلا) «٣»، زادوها في الفاصلة، كما زادوها في القافية، كقوله:
«أقِلّي اللَّوْمَ، عَاذِلَ والعِتابا» «٤» وهو في الإمام: بالألف.
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي: اختبروا، فظهر المخلص من المنافق، والثابت من المزلزل، وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً وحُركوا، بالخوف، تحريكاً شديداً.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص اذكروا نعمةَ الله عليكم بالتأييد والنصر، فحين تَوَجَّهْتُمْ إليّ، ودخلتم في طريق ولايتي، رفضتكم الناس، ونكرتكم، ورمتكم عن قوس واحدة، فجاءتكم جنود الخواطر والوساوس
(١) أخرجه أحمد (٣/ ٣) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(٢) من الآية ٦٦ من سورة الأحزاب.
(٣) من الآية ٦٧ من سورة الأحزاب. وانظر الحجة لأبى على الفارسي (٥/ ٤٦٨- ٤٦٩).
(٤) صدر بيت لجرير، وعجزه: وقولى- إن أصبت- لقد أصابا. انظر: معانى القرآن للزجاج (٤/ ٢١٨).
414
من كل جانب، حتى هممتم بالرجوع أو الوقوف. وإذ زاغت الأبصار: مالت عن قصدها بالاهتمام بالرجوع، وبلغت القلوبُ الحناجرَ، ممن كان ضعيف الإرادة واليقين، وتظنون بالله الظنونا، فمنهم مَن يظن الامتكان بعد الامتحان، فيفرحون بالبلاء، ومنهم مَن يظن أنه عقوبة... إلى غير ذلك، هنالك ابتلي المؤمنون المتوجهون ليظهر الصادق، في الطلب، من الكاذب فيه، فعند الامتحان يعز المرء أو يُهان، ويظهر الخَوّافون من الشجعان، وزُلزلوا زلزالاً شديداً ليتخلصوا ويتمحصوا، كما يتخلص الذهب والفضة من النحاس، ومَن عرف ما قصد هان عليه ما ترك.
قال القشيري: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.. يعني: بمقابلتها بالشكر، وتَذَكُّرِ ما سَلَفَ من الذي دفع عنك، يهون عليك مقاساة البلاءِ في الحال. وبذكرك لما أولاك في الماضي يقرب من الثقة بوصول ما تؤمِّلهُ في الاستقبال. فمن جملة ما ذكّرهم قوله: إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ... الآية: كم بلاء صَرَفَه عن العبد وهو لا يشعر، وكم شغل كنت بصدده، فصدّه عنك ولم تعلم، وكم أمر صرفه، والعبد يضج، وهو- سبحانه- يعلم أن في تيسيره هلاكَه، فيمنعه منه رحمة عليه، والعبد يتهمه ويضيق به صدره!. هـ.
ثم ذكر سبحانه نتيجة الابتلاء، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: عطف تفسير إذ هو وصف المنافقين، كقول الشاعر:
إلى المَلِكِ القَرْمِ، وابنِ الهُمَامِ... ولَيْثَ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ
فابن الهمام هو القَرْمُ، والقرم- بالراء-: السيد. وقيل: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، هم الذين لا بصيرة بهم في الدين من المسلمين، كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشُّبه عليهم، قالوا، عند شدة الخوف: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً.
415
رُوي أن مُعَتِّبَ بن قُشَيْرٍ، المنافق، حين رأى الأحزاب قال: إن محمداً يَعِدُنا فتح فارس والروم، وأحدُنا لا يقدر أن يتبرّز، خوفاً، ما هذا إلا وعد غرور. هـ.
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ من المنافقين، وهم عبد الله بن أُبيّ وأصحابه: يا أَهْلَ يَثْرِبَ، وهم أهل المدينة، لا مُقامَ لَكُمْ «١» أي: لا قرار لكم هنا، ولا مكان تقيمون فيه- وقرأ حفص: بضم الميم- اسم مكان، أو مصدر، فَارْجِعُوا من عسكر رسول الله ﷺ إلى المدينة هاربين، أو: إلى الكفر، فيمكنكم المقام بها، أو:
لا مقام لكم على دين محمد، فارجعوا إلى الشرك وأظهروا الإسلام لتسلموا، وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ أي: بنو حارثة، يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ: ذات عورة، أي: خالية غير حصينة، وهي مما يلي العدو. وأصلها:
الخلل. وقرأ ابن عباس بكسر الواو: (عَوِرَة)، يعني: قصيرة الجدران، فيها خلل. تقول العرب: دار فلان عورة إذا لم تكن حصينة، وعَوِرَ المكان: إذا بَدا فيه خلل يُخاف منه العدو والسارق، ويجوز أن يكون عَوْرَة: تخفيفَ عَوِرة.
اعتذروا أن بيوتهم عُرضة للعدو والسارق لأنها غير محصنة، فاستأذنوا ليحصنوها ثم يرجعوا إليه، فأكذبهم الله تعالى بقوله: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ، بل هي حصينة، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً من القتل.
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مدينتهم، أو: بيوتهم. من قولك: دخلت على فلان داره. مِنْ أَقْطارِها من جوانبها، أي: ولو دَخلت هذه العساكر المتحزبة- التي يفرَّون خوفاً منها- مدينتَهم، أو بيوتهم، من نواحيها كلها ناهبين سارقين، ثُمَّ سُئِلُوا عند ذلك الفزع، الْفِتْنَةَ أي: الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين، أو: القتال في العصبية، وهو أحسن لأنهم مسلمون، لَآتَوْها «٢» لجاءوها وفعلوا. ومَن قرأ بالمد فمعناه: لأعطوها من أنفسهم، وَما تَلَبَّثُوا بِها بإجابتها وإعطائها، أي: ما احتبسوا عنها إِلَّا يَسِيراً، أو:
ما لبثوا بالمدينة، بعد ارتدادهم، إلا زماناً يسيراً، ثم يهلكهم الله لأن المدينة كالكير تنفي خبثها، وينصع طيبها، والمعنى أنهم يتعلّلون بإعوار بيوتهم ليفرُّوا عن نصرة رسول الله ﷺ والمؤمنين، وعن مصافة الأحزاب الذين ملأوهم رُعباً، وهؤلاء الأحزاب كما هم لو سألوهم أن يقاتلوا فتنة وعصبية لأجابوهم، وما تعلّلوا بشيء، وما ذلك إلا لضعف إيمانهم، والعياذ بالله.
الإشارة: وإذ قالت طائفة من شيوخ التربية لأهل الفناء: لا مقام تقفون معه إذ قد قطعتم المقامات، حين تحققتم بمقام الفناء، فارجعوا إلى البقاء لتقوموا بآداب العبودية، وتنزلون في المقامات ثم ترحلون عنها، كما
(١) أثبت المفسر- رحمة الله- قراءة (مقام) بفتح الميم، وهى قراءة الجمهور. وقرأ حفص (مقام) بضم الميم. انظر: الحجة للفارسى (٥/ ٤٧١).
(٢) قرأ نافع وابن كثير: (لأتوها) بالقصر، وقرأ الباقون: بالمد.. انظر: الإتحاف (٢/ ٣٧٢).
416
تنزل الشمس في بروجها، فكل وقت يبرز فيه ما يقتضي النزول إلى مقامه. فتارة يبرز ما يقتضي التوبة، وتارة ما يقتضي الخوف والهيبة، أي: خوف القطيعة، وتارة ما يقتضي الرجاء والبسط، وتارة ما يقتضي الشكر، وتارة الصبر، وتارة ما يقتضي الرضا والتسليم، وتارة ما يهيج المحبة أو المراقبة أو المشاهدة. وهكذا ينزل في المقامات ويرحل عنها، ولا يقيم في شيء منها. ويستأذن بعض المريدين في الرجوع إلى مقامات الإيمان أو الإسلام، أو شيء من أمور البدايات، يقولون: إن بيوت تلك المقامات لم نُتقنها، بل فيها عورة وخلل، وما هي بعورة، ما يريدون إلا فراراً من ثِقَل أعباء الحضرة. ولو دُخلت بيوت قلوبهم من أقطارها، ثم سئلوا الرجوع إلى الدنيا لأتوها لأنها قريبةُ عَهْدٍ بتركها، وما تلبّثوا بها إلا زماناً يسيراً، بل يبغتهم الموت، ويندمون، قل متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمَن اتقى.
وقد كانوا عاهدوا الله ألّا يرجعوا إليها، كما قال تعالى:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١٥ الى ١٧]
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي: قبل غزوة الخندق، وهو يوم أحد.
والضمير في «كانوا» : لبني حارثة، عاهدوا رسول الله ﷺ يوم أُحد، حين فشلوا، ثم تابوا ألا يعودوا لمثله، وقالوا: لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ منهزمين أبداً، وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا
عن الوفاء به، مُجازىً عليه، أو:
مطلوباً مقتضى حتى يوفى به. قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، فإنه لا بد لكل شخص من حتفِ أنفه، أو: قتل في وقت معين سبق القضاء وجرى به القلم، وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي: إن حضر أجلكم له ينفعكم الفرار، وإن لم يحضر، وفررتم، لن تُمتعوا في الدنيا إلا زماناً قليلاً، وهو مدة أعماركم، وهو قليل بالنسبة إلى ما بعد الموت الذي لا انقضاء له.
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ أي: يمنعكم مما أراد الله إنزاله بكم إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً في أنفسكم من قتل أو غيره، أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي: أراد بكم إطالة عمر في عافية وسلامة. أو: مَن يمنع الله
من أن يرحمكم، إن أراد بكم رحمة، فَحُذِفَ بعدا واختصارا، لما فى العصمة من معنى المنع، أو: من ذا الذي يعصمكم إن أراد بكم سوءاً، أو يصيبكم بسُوء، إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام. وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ينفعهم، وَلا نَصِيراً يدفع العذاب عنهم.
الإشارة: ولقد كان عاهدَ الله مَنْ دخل في طريق القوم، ألاَّ يولي الأدبارَ، ويرجع إلى الدنيا والاشتغال بها حتى يتفتّر عن السير، وكان عهد الله مسئولا، فيسأله الحق تعالى عن سبب رجوعه عن الإرادة، ولماذا حَرَمَ نَفْسَهُ من لذيذ المشاهدة؟ قل- لمَن رجع، ولم يقدر على مجاهدة نفسه: لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت لنفوسكم، أو القتل بمجاهدتها وتجميلها بعكس مرادها، وتحميلها ما يَثقُل عليها، وإذا لا تمتعون إلا قليلاً، ثم ترحلون إلى الله، في غم الحجاب وسوء الحساب. قل: مَن ذا الذي يعصمكم من الله، إن أراد بكم سوءاً؟، وهو البُعد والطرد، أو: مَن يمنعكم من رحمته، إن أراد بكم رحمة؟، وهي التقريب إلى حضرته، فلا أحد يعصمكم من إبعاده، ولا أحد يمنعكم من إحسانه إذ لا وليّ ولا ناصر سواه. اللهم انصرنا بنصرك المبين، وارحمنا برحمتك الخاصة، حتى تُقَرِّبَنَا إلى حضرتك، بفضل منك وجودك، يا أرحم الراحمين.
ثم ذكر نعوت أهل البعد، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ١٨ الى ١٩]
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٩)
يقول الحق جلّ جلاله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أي: يعلم مَنْ يُعوِّقُ عن نصرة رسول الله ﷺ ويَمْنَعُ، وهم المنافقون والمثبطون للناس عن الخروج إلى الغزو، وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ في الظاهر من ساكني المدينة من المسلمين: هَلُمَّ إِلَيْنا تعالوا إلينا، ودعُوا محمداً. ولغة أهل الحجاز في «هلم» : أنهم يُسوون فيه بين الواحد والجماعة. وأما بنو تميم فيقولون: هلم يا رجل، وهلموا يا رجال.. وهكذا. وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ الحرب
إِلَّا قَلِيلًا إلا إتياناً قليلاً، أو يحضرون ساعةً رياءً، ويقفون قليلاً، مقدار ما يرى شهودهم ثم ينصرفون.
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ جمع شحيح، وهو البخيل، نُصب على الحال من ضمير يَأْتُونَ أي: لا يأتون الحرب بُخلاً عليكم بالمعاونة أو بالنفقة في سبيل الله، أو: في الظفر والغنيمة، أي: عند الظفر وقَسْم الغنيمة. فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ من قِبَلَ العدو، أو: منه صلى الله عليه وسلم، رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ في تلك الحالة، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ يميناً وشمالاً كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذراً وخوفاً ولِواذاً بك.
فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ أي: زال ذلك الخوف وأمِنوا، وحيزت الغنائم سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ خاطبوكم مخاطبة شديدة، وآذوكم بالكلام، يقال: خطيب سِلق: فصيح، ورجل مِسْلق وسَلاَّق: مبالغ في الكلام. يعني: بسطوا ألسنتهم فيكم، وقت قسم الغنيمة، ويقولون: أعطنا، أعطنا فإنا قد شهدنا معكم، وبمكاننا غَلبتم عدوكم. أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي: خاطبوكم أشحة على المال والغنيمة. فهو حال من فاعل سلقوكم، فهم أشح القوم عند القسم، وأجبنهم عند الحرب، أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا في الحقيقة، بل بالألسنة فقط، فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أبطلها، بإضمار الكفر مع ما أظهروا من الأعمال الخبيثة، وَكانَ ذلِكَ الإحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً هيناً.
الإشارة: هذه صفة منافقي الصوفية، يدخلون معهم على تذبذب، فإذا رأوا قوماً توجهوا لخرق عوائدهم وتخريب ظواهرهم، أو: أرادوا الخروج عن دنياهم عَوَّقُوهُمْ عن ذلك، وثبطوهم، وكذلك إذا توجهوا في سفر لشُقة بعيدة عوقوهم ليستتروا بهم، وقالوا لأخوانهم في الطريق: هلم إلينا، ولا يأتون مكان حرب أنفسهم إلا قليلاً. أشحةً بأنفسهم عليكم، فإذا جاء الخوف، وتجلّى لهم الحق تعالى باسمه الجليل بأن نزلت بالفقراء محنة، رأيْتَهُمْ ينظرون إليك، تدور أعينهم، نظر المغشي عليه من الموت، فإذا ذهب الخوف، وجاء النصر والعز سلقوكم بألسنة حداد، وقالوا: إنا كنا معكم، أولئك لا نصيب لهم مما للقوم من الخصوصية. والله تعالى أعلم.
ثم تمم وصفهم، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٢٠]
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠)
يقول الحق جلّ جلاله: يَحْسَبُونَ أي: هؤلاء المنافقون الْأَحْزابَ، يعني: قريشاً وغطفان، الذين تحزّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: اجتمعوا، أنهم لَمْ يَذْهَبُوا ولم ينصرفوا لشدة جُبنهم، مع أنهم انصرفوا. وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرة ثانية يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ، والبادون: جمع باد، أي: يتمنى المنافقون- لجُبنهم- أنهم خارجون من المدينة إلى البادية، حاصلون بين الأعراب ليأمنوا على أنفسهم، ويعتزلوا مما فيه الخوف من الحرب، يَسْئَلُونَ كل قادم منهم من جانب المدينة. وقرئ يَسَاءلون «١»، بالشد. أي: يتساءلون، بعضهم بعضاً عَنْ أَنْبائِكُمْ عن أخباركم وعما جرى عليكم، وَلَوْ كانُوا أي:
هؤلاء المنافقون فِيكُمْ أي: حاضرون فى عسكركم، وحضر قِتَالٌ، ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا رياءً وسمعة، ولو كان الله لكان كثيراً إذ لا يقل عمل لله.
الإشارة: الجبان يخاف والناس آمنون، والشجاع يأمن والناس خائفون، ولا ينال من طريق القوم شيئاً جبانٌ ولا مستحي ولا متكبر. فمن أوصاف الضعفاء: أنهم، إذا نزلت بالقوم شدة أو محنة- كما امْتُحِنَ الجنيد وأصحابه- يتمنون أنهم خارجون عنهم، وربما خرجوا بالفعل، وإن ذهبت شوكتهم يحسبون أنهم لم يذهبوا لشدة جزعهم.
ومن أوصافهم: أنهم يكثر سؤالهم عن أخبار القوم، والبحث عما جرى بهم خوفاً وجزعاً ولو مضوا معهم لم يغنوا شيئاً. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ضدهم من أهل القوة، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤)
(١) وهى قراءة رويس، ورويت عن زيد بن على، وقتادة، وغيرهما. انظر الإتحاف (٢/ ٣٧٣).
420
يقول الحق جلّ جلاله: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ محمد ﷺ أُسْوَةٌ «١» حَسَنَةٌ خَصْلَةٌ حسنة، من حقها أن يُؤتسى بها كالثبات في الحرب، ومقاساة الشدائد، ومباشرة القتال. أو: في نفسه قدوة يحسن التأسي به. كما تقول: في البيضة عشرون رطلاً من حديد، أي: هي في نفسها عشرون. وفيه لغتان: الضم والكسر، كالعِدوة والعُدوة، والرِشوة والرُشوة. وهى لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي: يخاف الله ويخاف اليوم الآخر، أو: لأجل ثواب الله ونعيم اليوم الآخر. و «لمن» : قيل: بدل من ضمير «لكم»، وفيه ضعف إذ لا يبدل من ضمير المخاطب إلا ما دل على الإحاطة. وقيل: يتعلق بحسنة، أي: أسوة حسنة كائنة لمَن آمن، وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً أي: في الخوف والرجاء، والشدة والرخاء، فإن المؤتسِي بالرسول يكون كذلك.
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قد أقبلوا عليهم ليستأصلوهم، وقد وعدهم الله أن يسلط عليهم المحن، ويُزَلْزَلُوا حتى يستغيثوا ويستنصروا بقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ.. إلى قوله: نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ «٢»، فلما جاء الأحزاب واضطربوا قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وعَلِمُوا أن الجنة والنصرة قد وجبت لهم. وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال لأصحابه: «إنَّ الأحزاب سائِرون إليكم في آخر تِسْع ليال، أو عشر»، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد، قالوا ذلك «٣». وهذا: إشارة إلى الخطب والبلاء، أي: هذا الخطب الذي وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وَما زادَهُمْ، ما رأوا من اجتماع الأحزاب ومجيئهم، إِلَّا إِيماناً بالله وبمواعيده، وَتَسْلِيماً لقضائه وأقداره.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ أي: صدقوا فيما عاهدوه، فحذف الجار، وأوصل المفعول إلى «ما» وذلك أن رجالاً من الصحابة نَذَرُوا أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله ﷺ ثبتوا، وقاتلوا حتى يُسْتَشْهَدُوا، وهم: عثمان بن عفان، وطلحة، وسعيد بن زيد، وحمزة، ومصعب، وأنس بن النضر، وغيرهم. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ نذره بأن قاتل حتى استشهد كحمزة، ومصعب، وأنس بن النضر. والنَّحْبُ: النذر، واستعير للموت لأن كل حي من المحدثات لا بد له أن يموت، فكأنه نذرٌ لازم في رقبته، فإذا مات فقد قضى نحبه، أي:
نذره. وقال في الصحاح: النحب: النذر، ثم قال: والنَّحْبَ: المدة والوقت. يقال: قضى فلان نَحْبَه إذا مات. هـ. فهو
(١) قرأ عاصم (أسوة) بضم الهمزة، حيث كان، وهى لغة قيس وتميم، وقرأ الباقون بكسرها حيث وقعت. وهى لغة الحجاز.
انظر الإتحاف (٢/ ٣٧٣).
(٢) الآية ٢١٤ من سورة البقرة.
(٣) قال الحافظ ابن حجر، فى الكافي الشاف (ص ١٣٣، رقم ٢٠٨) : لم أجده. [.....]
421
لفظ مشترك بين النذر والموت. وصحح ابنُ عطية أن النحب الذي في الآية ليس من شرطه الموت. بل معناه:
قَضَى نذره الذي عاهد الله عليه من نصرة الدين، سواء قُتل أو بقي حيّا. بدليل قوله- عليه الصلاة والسلام- في طلحة: «هذا ممن قَضَى نَحْبَه» «١» هـ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ أي: الموت على الشهادة كعثمان وطلحة، وَما بَدَّلُوا العهد تَبْدِيلًا ولا غيَّروه، لا المسْتَشْهَد، ولا مَن ينتظر الشهادة. وفيه تعريض بمَن بدّل من أهل النفاق، كقوله تعالى فيما مر: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ... «٢». لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ بوفائهم بالعهد، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ إذا لم يتوبوا، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إن تابوا إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً بقبول التوبة، رَحِيماً بعفو الحوبة.
الإشارة: قد تقدّم ما يتعلق بالاقتداء بالرسول- عليه الصلاة والسلام- والاهتداء بهديه، وأنه منهاج الأكابر.
وقوله تعالى: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ... الآية. كذلك الأقوياء من هذه الطائفة، إذا رأوا ما يهولهم ويروعهم زادهم ذلك إيماناً وتسليماً، ويقيناً وطمأنينة، وتحققوا بصحة الطريق إذ هو منهاج السائرين والأولياء الصادقين، وسنة الأنبياء والمرسَلين. قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ «٣» الآية. وتقدم فى إشاراتها ما يتعلق بهذا المعنى.
قال بعضهم: نحن كالنجوم، كلما اشتدت الظلمة قَوِيَ نُورُنَا. وقال القشيري: كما أن المنافقين اضطربت عقائدهمُ عند رؤية الأعداء، فالمؤمنون وأهل اليقين زادوا ثِقَةٌ، وعلى الأعداء جرأةً، ولحكم الله استسلاماً، وفي الله قوة. ثم قال: قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا.... الآية، شَكَرَ صنيعَهم في المِرَاسَ، ومدح يقينهم عند شهود الناس، وسمّاهم رجالاً إثباتاً لهم بالخصوصية في الرتبة، وتمييزاً لهم من بين أشكالهم بعلوِّ الحالة، فمنهم مَنْ خرج من دنياه على صِدْقه، ومنهم مَنْ ينتظر حكم الله في الحياة والممات، وحقيقة الصدق: حفْظُ العهد وترك مجاوزة الحدَّ. ويقال: استواءُ السِّرِّ والجهر. ويقال: هو الثبات عند ما يكون الأمر جدّا.
(١) أخرجه الترمذي فى (المناقب، مناقب طلحة بن عبيد الله ٥/ ٦٠٢، ح ٣٧٤٠) وابن ماجة فى (المقدمة: باب فى فضائل أصحاب رسول الله ﷺ ١/ ٤٦، ح ١٢٦). من حديث معاوية رضي الله عنه.
(٢) الآية ١٥ من سورة الأحزاب.
(٣) الآية الثانية من سورة العنكبوت.
422
قوله تعالى:.. لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ.. في الدنيا بالتمكين، والنصرة على العدو، وإعلاء الرتبة، وفي الآخرة بجزيل الثواب، وجميل المآب، والخلودِ في النعيم المقيم، والتقدم على الأشكال بالتكريم والتعظيم. وقوله: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ يقال: إذا لم يجَزم بعقوبة المنافق، وتعلَّق القول فيه على الرجاء، فبالحريّ ألا يُخيِّبَ المؤمنَ في رجائه. انتهى كلام القشيري.
ثم ذكر رجوع الأحزاب، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧)
يقول الحق جلّ جلاله: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: الأحزاب بِغَيْظِهِمْ ملتبسين بغيظهم، فهو حال كقوله: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «١» أي: ردهم غائظين لَمْ يَنالُوا خَيْراً ظفراً، أي: لم يظفروا بالمسلمين. وسمّاه «خيراً» بزعمهم، وهو أيضاً حال، أي: غير ظافرين، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح، والملائكة، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً قادراً غالباً، فقهرهم بقدرته وغلبهم بقهريته. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ: عاونوا الأحزاب وجاءوا بهم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ، يعني بني قريظة، أنزلهم مِنْ صَياصِيهِمْ من حصونهم. والصيصة:
ما يتحصّن به قال الهروي: وكل ما يتحصّن به فهو صيصة، ويقال لقرون البقر والظبي: صَيَاصي لأنها تتحصن بها، وفي وصف أصحاب الدجال: «شواربهم كالصياصي»، لطولها، وفتلها، فصارت كالقرون. هـ.
رُوي أن جبريل عليه السلام أتى النبي ﷺ صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب، ورجع المسلمون إلى المدينة- على فَرَسه الحيزوم، والغُبار على وجه الفَرَس والسَّرْج، فقال: ما هذا يا جبريلُ؟ فقال: من مُتَابعةِ قُريش. ثم قال: إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، وأنا عائدٌ إليهم، فإن الله داقهُمْ دَقَّ البيض على الصَّفا، وهم لكم طعمة.
(١) من الآية ٢٠ من سورة المؤمنون.
423
وفي رواية: لَمَّا رجع- عليه الصلاة والسلام- ودخل مغتسله، جاءه جبريل بعمامة من استبرق، على بغلة، عليها قطيفة من ديباج، فقال: قد وضعتَ السِّلاح، والله ما وضعت الملائكةُ السلاحَ، وما رجعت إلا من طلب القوم، وإن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة. فأذّن رسول الله ﷺ في الناس: أنَّ من كان سَامِعاً مُطيعاً فلا يُصلَّين العَصْرَ إلا في بني قُريظة. فخرج إليهم، فحاصرهُم خمساً وعشرين ليلةٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنزلُون على حُكْمي؟ فأبَوْا، فقال: تنزلون عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعاذِ؟ فرضوا به. فقال سعد: نحكم فيهمْ: أن تُقتل مقاتِلتَهُم، وتُسبى ذَرارِيهمْ ونساؤُهُم. فكبَّر النبي ﷺ وقال: «لقد حكم فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة» «١».
ثم استنْزلهم، وخَنْدَق في سوق المدينة خندقاً، وقدَّمَهُم، فضرب أعناقَهُم. وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة.
وقيل: كانوا ستمائة مقاتل، وسبعمائة أسير، فقتل المقاتلة، وقسم الأسارى، وهم الذراري والنساء. وكان عليّ والزبير- رضى الله عنهما- يضربان أعناق بني قريظة. والنبي ﷺ جالس هناك. والقصة مطولة في كتب السير «٢».
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ الخوف. وفيه السكون والضم، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ، وهم الرجال وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وهم النساء والذراري. قالت عائشة رضى الله عنهما: لم يقتل ﷺ من نساء بني قريظة امرأة إلا واحدة، قتلها بخلاد بن سويد، كانت شدخت رأسه بِحجَر من فوق الحصن «٣».
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ كالمواشي والنقود والأمتعة. رُوِي أنَّ رسول الله ﷺ جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، وقال لهم: «إنكم فى منازلكم». وَأورثكم أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بعدُ، قيل: خيبر، ولم يكونوا نالوها، أو: مكة، أو: فارس والروم، أو: كل أرض لم تُفتح إلى يوم القيامة، فمكّنهم الله من ذلك كله، وفتح عليهم مشارق الأرض ومغاربها. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً، فيقدر على جميع ذلك.
الإشارة: هذه عادة الله مع خواصه، أن يُخوفهم ثم يُؤمنهم، ويذلهم ثم يعزهم، ويفقرهم ثم يغنيهم، ويجعل دائرة السوء على مَن ناوأهم، ويكفيهم أمرهم من غير محاربة ولا قتال، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ... الآية. ثم يكون لهم التصرف في الوجود بأسره، أمرهم بأمر الله، وحكمهم بحكمه، والله غالب على أمره.
(١) أخرجه الطبري فى التفسير (٢١/ ١٥٣). وأخرجه البخاري ومسلم بلفظ: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك»، انظر صحيح البخاري (المغازي، باب مرجع النبي ﷺ من الأحزاب. ح ٤١١١٧، ٤١١٩) ومسلم (الجهاد، باب جواز قتال من نقض العهد، ٣/ ١٣٨٨- ١٣٨٩، ح ٦٤- ٦٥- ٦٦).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أرقعة» يعنى سبع سموات. وكل سماء يقال لها: (رقيع). انظر النهاية (رقع). ولسان العرب (٣/ ١٧٠٥).
(٢) راجع السيرة لابن هشام (٣/ ٣٣٣- ٣٤٣).
(٣) أخرجه الطبري (٢١/ ١٥٣- ١٥٤).
424
ولَمَّا نصر الله رسولَه، وفرّق عنه الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير، ظنّ أزواجه أنه اختص بنفائس أموال اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله: وقلن: يا رسول الله بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخول «١» ونحن على ما تراه من الفاقه والضيق، وآلمن قلبه- عليه الصلاة والسلام- لمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهن به بما يعامل به الملوكُ والأكابرُ أزواجهم، فأنزل الله تعالى:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ، وكن تسعاً خمساً من قريش: عائشة بنت الصدّيق، وحفصة بنت الفاروق، وأم حبيبة بنت سفيان، وسَوْدة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أُمية، وصفية بنت حيي الخيبرية، من بني إسرائيل، من ذرية هارون عليه السلام، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة. أي: فقل لهن إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها أي: التوسعة في الدنيا وكثرة الأموال والحُلل، فَتَعالَيْنَ أي: أَقبلن بإرادتكن واختياركن. وأصل «تعال» أن يقوله مَن في المكان المرتفع لمَن في المكان الأدنى، ثم كثر استعماله في كل أمر مطلوب. أُمَتِّعْكُنَّ أي: أُعطِكُن متعة الطلاق. وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا المفوّضة قبل الوطء مع أخواتها، كما في كتب الفقه. وَأُسَرِّحْكُنَّ أُطلقكن سَراحاً جَمِيلًا لا ضرر فيه.
وقيل: سبب نزولها: أنهن سألنه زيادة النفقة، وقيل: آذينه بغيرة بعضهن من بعض، فاغتمّ- عليه الصلاة والسلام- لذلك. وقيل: هجرهن شهراً، فنزلت. وهي آية التخيير. فبدأ بعائشة- رضى الله عنها- وكانت أحبهن إليه، فخيّرها، وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، فرؤي الفرحُ في وجهه صلى الله عليه وسلم، ثم اختارت جميعهُنّ اختيارها. وروي أنه قال لعائشة: «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً، ولاَ عَلَيكِ ألا تَعْجَلِي فيه حَتَّى تَسْتَأْمرِي أَبَوَيْكِ»، ثُمَّ قرأ عليها الآية، فقالت: أَفي هذا أسْتَأُمِرُ أَبَويّ؟ فَإِني أُريدُ الله ورسوله والدّار الآخرة «٢».
(١) خول الرّجل: حشمه وأتباعه، واحدهم: خائل، وقد يكون واحدا. وهو مأخوذ من التخويل، أي: التمليك، وقيل: من الرعاية. انظر النهاية (٢/ ٨٨) واللسان (خول ٢/ ١٢٩٣).
(٢) أخرجه البخاري فى (التفسير، سورة الأحزاب، ح ٤٧٨٥) ومسلم فى (الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية ٢/ ١١٠٣، ح ١٤٧٥) من حديث سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
وحكم التخيير في الطلاق: أنه إذا قال لها: اختاري، فقالت: اخترتُ نفسي، أن تقع تطليقة واحدة بائنة، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء. قاله النسفي. وقال ابن جزي: وإذا اختارت المرأة الطلاق فمذهب مالك: أنه ثلاث، وقيل: طلقة بائنة. وقيل: رجعية. ووصف السراح بالجميل يحتمل أن يريد أنه دون الثلاث، أو: يريد الثلاث، وجماله: حسن المرعى، والثناء، وحفظ العهد. هـ.
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ، «من» : للببان، أَجْراً عَظِيماً، فاخترن- رضى الله عنهن- ما هو مناسب لحاله- عليه الصلاة والسلام-، حين خُيّر بَيْن أن يكون نبيّاً عبداً، أو نبيًّا مَلِكاً، فاختار أن يكون نبيًّا عبداً، لا مَلِكاً. فاخترن العبودية، التي اختارها- عليه الصلاة والسلام.
الإشارة: ينبغي لمَن قلّده الله نساء متعددة أن يخيِّرهن، اقتداء برسول الله ﷺ إذ لا يخلو من حال الغيرة، فإذا خَيّرهن فينبغي أن يغيب عن تشغيبهن، ولم يصغ بأُذُنه إلى حديثهن، ولا ينبغي أن يغتم من أجل الغيرة، فإنها طبع لازم للبشر، وليُقدِّر في نفسه: أنه إذا تزوجت زوجته غيره، وهي في عصمته، هل يقْدِر على ذلك أم لا، فالأمر واحد. والله أعلم.
قال القشيري: لم يُرِد أن يكون قلبُ واحد من المؤمنين والمؤمنات منه في شُغل، أو يعود إلى واحد منهم أذى، أو تعب من الدنيا، فخيّر ﷺ بأمر ربه نساءَه، ووفق اللهُ عائشةَ، حتى أخبرتُ عن صدق قلبها، وكمال دينها ويقينها، وما هو المنتظر من أصلها ونيتها. والباقيات جرَيْن على منهاجها، ونَسَجْنَ على منوالها. هـ.
ثم هددهن وبشّرهن، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١)
يقول الحق جلّ جلاله: يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ بسيئة بليغة في القُبح مُبَيِّنَةٍ ظاهرٌ فحشها، مِنْ: بيَّن، بمعنى: تبيّن. وقرأ المكي وشعبة بفتح الياء، وهي عصيانهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشوزهن.
قال في المقدمات: كل فاحشة نُعتت في القرآن بالبينة فهي بالنطق، والتي لم تُنعت بها زنى. هـ. يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ أي: ضِعفي عذاب غيرهنّ من النساء لأن الذنب منهن أقبح فإنَّ قُبح الذنب يتبع زيادة فضل
426
المذنب والنعمة عليه، ولذلك قيل: ليست المعصية في القُرب كالمعصية في البُعد. وليس لأحد من النساء مثل فضل النساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا كان الذم للعاصي العالم أشدّ منه للعاصي الجاهل لأن المعصية من العالِم أقبح، وفي الحديث: «أشَدُّ النَّاس عَذَابًا يَومَ القِيَامَةِ عَالِمٌ لَم ينْفَعْهُ الله بعلْمِه» «١» لقوة الجرأة في العالم دون غيره. ولهذا أيضاً فضل حدّ الأحرار على العبيد، ولم يرجح الكافر. وَكانَ ذلِكَ أي: تضعيف العذاب عليهن عَلَى اللَّهِ يَسِيراً هيناً.
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ أي: يدم على الطاعة لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ أي: مثل ثوابي غيرها، مرة على الطاعة، ومرة على طلبهن رضا النبي صلى الله عليه وسلم، بالقناعة، وحسن المعاشرة. وقرأ حمزة والكسائي بالغيب «٢» على لفظ «من»، وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً جليل القدر، وهو الجنة.
الإشارة: من شأن الملِك أن يُعاتب الوزراء بما لا يعاتب غيرهم، ويهددهم بما لا يهدد به غيرهم، ويعطيهم من التقريب والكرامة ما لا يُعطي غيرهم، فإن هفوا وزلُّوا عاتبهم، ثم يردهم إلى مقامهم، وربما سمح وأغضى.
والغالب: أن الحق تعالى يعجل عتلت خواصه، في الدنيا قبل الآخرة، بمصائب وأهوال، تصفيةً وتطهيراً، ولا يُبعدهم من حضرته بما اقترفوا. قال القشيري: زيادةُ العقوبة على الجُرْمِ من أمارات الفضيلة، كحدّ الحر والعبد، وتقليل ذلك من أمارات النقص، ولَمَّا كانت منزلتُهن في الشرف تزيد وتربو على منزلة جميع النساء، تضاعفت عقوبتهن على أجْرامهن، وتضاعف ثوابَهن على طاعتِهن، فقال: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ... وقال:
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ الآية هـ. والله تعالى أعلم.
ثم وصّاهن بما يليق بجنابهن المعظم، فقال:
يا نِساءَ النَّبِيِّ...
(١) رواه الطبراني فى الصغير (١/ ١٨٢) والبيهقي فى الشعب (ح ١٧٧٨) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، وقال الهيثمي فى المجمع (١/ ١٨٥) (: رواه الطبراني فى الصغير، وفيه عثمان البرسي، ضعّفه أحمد، والنسائي، والدارقطني.
(٢) قرأ حمزة والكسائي «يعمل» و «يؤتها» بالياء، وقرأ الباقون «تعمل» و «نوتها». انظر الحجة للفارسى (٥/ ٤٧٤).
427

[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٢]

يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢)
يقول الحق جلّ جلاله: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ أي: لستن كجماعة من جماعات النساء، أي: إذا تقصيت أمة النساء، جماعةً جماعةً، لم توجد منهن جماعة واحدة تُساويكن في الفضل، فكما أنه- عليه الصلاة والسلام- ليس كأحد من الرجال، كما قال: «إني لسْتُ كَأَحَدِكُمْ... » «١»، كذلك زوجاته التي شرُفن به. وأصل «أحد» : وَحَدٍ، بمعنى: واحد، فوضع في النفي العامّ، مستوياً فيه المذكّر والمؤنّث، والواحد وما وراءه، أي:
لستن في الشرف كأحد من النساء، إِنِ اتَّقَيْتُنَّ مخالفةَ الله ورضا رسوله، فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أي: إذا كلمتن الرجال من وراء الحجاب، فلا تجئنَ بقولكنّ خاضعاً، أي: ليناً خنثاً مثل قول المُريبات، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ريبة، وفجور، وهو جواب النهي، وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً حسناً مع كونه خشيناً.
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أي: استكِن فيه، والْزَمن بيوتكن من غير خروج. وقرأ نافع وعاصم بالفتح، وهو من:
قرَر يَقْرَرُ، لغة في قرّ بالمكان، وأصله: اقرَرن، فحذفت الراء، تخفيفاً، وألقيت فتحتها على ما قبلها. وقيل: من: قار يقار: إذا اجتمع. والباقون بالكسر، من: قرّ بالمكان يقِرّ- بالكسر، وأصله: اِقْررْن، فنقلت كسرة الراء إلى القاف، وحذفت الراء. وقيل: من: وَقَر يَقِر وقاراً.
وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي: لا تتبخترن في المشي تبختر أهل الجاهلية، فالتبرُّج: التبختر في المشي وإظهار الزينة، أي: ولا تبرجن تبرجاً مثل تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي: القديمة، وهو الزمان الذي وُلد فيه إبراهيم عليه السلام، فكانت المرأة تتخذ فيه الدرع من اللؤلؤ، وتعرض نفسها على الرجال، زمان نمرود الجبار، والناس كلهم كفار. أو: ما بين آدم ونوح- عليهما السلام- ثمانمائة سنة. وكان نساؤهم أقبح ما يكون، ورجالهم حِسَان، فتريده المرأة على نفسها. أو: زمن داود وسليمان- عليهما السلام-، وكان للمرأة قميص من الدّر، غير
(١) بعض حديث شريف، لفظه كاملا: «إنى لست كهيئتكم، إنى أطعم وأسقى» أخرجه مسلم فى (الصيام، باب النهى عن الوصال فى الصوم، ٢/ ٧٧٤، ح ١١٠٢) من حديث سيدنا عبد الله ابن عمر رضي الله عنه.
428
مخيط الجانبين، فتظهر صورتها فيه. والجاهلية الأخرى: ما بين عيسى ومحمد- عليهما السلام- أو: الجاهلية الأولى: جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى: جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام.
وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ، خصهما بالذكر تفضيلاً لهما لأن مَن واظب عليهما جرتاه إلى غيرهما.
وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سائر ما أمرَكن به، ونهاكن عنه.
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ أي: يا أهل البيت، أو: أخص أهل البيت. وفيه دليل على أنَّ نساءه من أهل بيته. قال البيضاوي: وتخصيص أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما، لِما رُوي أنه- عليه الصلاة والسلام- خرج ذات غدوة عليه مِرْطٌ مُرَحَّل «١» من شعر أسود، فجاءت فاطمة، فأدخلها، ثم جاء عليّ، فأدخله فيه، ثم جاء الحسن والحسين، فأدخلهما فيه، فقال: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت... » «٢»
والاحتجاج بذلك على عصمتهم، وكون اجتماعهم حجة، ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها، والحديث يقتضي أنهم من أهل البيت، لا أنه ليس غيرهم. هـ. وإنما قال: عَنْكُمُ لأنه أُريد الرجال والنساء. والرجس: كل ما يدنس، من ذنب، أو عيب، أو غير ذلك، وقيل: الشيطان.
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً من نجاسات الآثام والعيوب، وهو كالتعليل لِمَا قبله، فإنما أَمَرَهن، ونهاهن، ووعظهن لئلا يقارف أهل البيت ما يدنس، من المآثم، وليتصوّنوا عنها بالتقوى. واستعار للذنب الرجس، وللتقوى الطُهر لأن عِرض المقترف للمستقبحات يتلوث بها كما يتلوث بدنه بالأرجاس وأما مَن تحصّن منها فعرضه مصون، نقي كالثوب الطاهر. وفيه تنفير لأُولي الألباب عن كل ما يدنس القلوب من الأكدار، وترغيب لهم في كل ما يطهر القلوب والأسرار، من الطاعات والأذكار.
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ القرآن وَالْحِكْمَةِ السنة، أو: بيان معاني القرآن، أو:
ما يُتلى عليكن من الكتاب الجامع بين الأمرين. إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً عالماً بغوامض الأشياء. خَبِيراً عالماً بحقائقها، أو: هو عالم بأقوالكن وأفعالكن، فاحذرن مخالفة أمره ونهيه، ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم.
الإِشارة: علَّق الحق تعالى شرف نساء النبي ﷺ وتفضيلهن على سبعة أمور، ويقاس عليهن غيرهن من سائر النساء، فمَن فعل هذه الأمور حاز شرف الدنيا والآخرة. الأول: تقوى الله في السر والعلانية، وهى أساس
(١) المرط: الكساء، جمعه: «مرط». انظر: النهاية (مرط ٤/ ٣١٩). والمرحّل: الذي نقش فيه تصاوير رحال الإبل. انظر: النهاية (رحل ٢/ ٢١٠).
(٢) أخرجه مسلم فى (فضائل الصحابة، باب فضل أهل البيت ٤/ ١٨٨٣، ح ٢٤٢٤) من حديث السيدة عائشة- رضى الله عنها-. [.....]
429
الشرف. الثاني: التحصُّن مما يُوجب مَيْل الرجال إليهن من التخنُّث في الكلام وغيره. الثالث: لزوم البيوت والقرار بها. وقد مدح الله نساء الجنة بذلك فقال: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ
«١». الرابع: عدم التبرُّج، وهو إظهار الزينة حيث يحضر الرجال. الخامس: إقامة الصلاة وإتقانها وإيتاء الصدقة. السادس: طاعة الله ورسوله، ويدخل فيه طاعة الزوج. السابع: لزوم ذكر الله، وتلاوة كتابه لمن تُحسن ذلك في بيتها. فمَن فعلت من النساء هذه الأمور أذهب الله عنها دنس المعاصي والعيوب، وطهّرها تطهيراً، وأبدلها بمحاسن الأخلاق والشيم الكريمة.
والله تعالى أعلم.
ولما نزل فى نساء النبي ﷺ ما نزل، قال نساء المؤمنين: فما نزل فينا؟ فأنزل الله تعالى:
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٥]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ أي: الداخلين في الإسلام، المنقادين لأحكام الله قولاً وفعلاً، فالمسلم: هو الداخل في السلم بعد الحرب، المنقاد الذي لا يُعاند، أو: المفوِّض أمره إلى الله، المتوكل عليه، مِن: أسلم وجهه إلى الله، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ المصدِّقين بالله ورسوله، وبما يجب أن يصدّق به، وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ المداومين على الطاعة، وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ في النيات، والأقوال، والأفعال، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ على الطاعات وترك السيئات، وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ المتواضعين لله بالقلوب والجوارح، أو: الخائفين، وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ فرضاً ونفلاً، وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ فرضاً ونفلاً. وقيل: مَن تصدّق في أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين، ومَن صام البيض من كل شهر، فهو من
(١) الآية ٧٢ من سورة الرحمن.
430
الصائمين، وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ عما لا يحلّ، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ بقلوبهم وألسنتهم، بالتسبيح، والتهليل، والتكبير، وتلاوة القرآن، وغير ذلك من الأذكار، والاشتغال بالعلم لله، ومطالعة الكتب من الذكر. وحذف «كثيراً» في حق الذاكرات لدلالة ما تقدم عليه.
وقال عطاء: من فوض أمره إلى الله فهو داخل في قوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ، ومَن أقرّ بأن الله ربه، وأن محمداً رسوله، ولم يخالف قلبُه لسانَه، فهو من المؤمنين والمؤمنات، ومَن أطاع الله في الفرض، والرسول في السُنَّة، فهو داخل في قوله: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ، ومَن صلّى فلم يعرف مَنْ عن يمينه وعن شماله، فهو داخل في قوله: وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ، ومَن صبر على الطاعة وعن المعصية، وعلى الذرية، فهو من الصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ، ومَن تصدّق في كل أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين والمتصدقات، ومَن صام في كل شهر أيام البيض، الثالث عشر وما بعده، فهو من الصائمين والصائمات، ومَن حفظ فرجه عما لا يحل فهو من الحافظين فروجهم والحافظات، ومَن صلّى الصلوات الخمس بحقوقها فهو من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات «١».
قال ابن عباس: (جاء إسرافيل عليه السلام إلى النبي ﷺ فقال يا محمد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، عدد ما علم، وزنة ما علم، وملءَ ما علم. مَن قالهن كُتبت له ست خصال كتب من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وكان أفضل ممن ذكره في الليل والنهار، وكان له عرش في الجنة، وتحاتت عنه ذنوبه، كما تحات ورق الشجر اليابس، وينظر الله إليه، ومَن نظر إليه لم يعذبه). وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضجعاً. هـ. من الثعلبي.
وسُئل ابنُ الصلاح عن القَدْر الذي يصير به العبد من الذاكرين الله كثيراً؟ فقال: إذا واظب على الأذكار المأثورة صباحاً ومساءً، وفي الأوقات والأحوال المختلفة، ليلاً ونهاراً، كان من الذاكرين كثيراً. هـ. قلت: وقد تتبعت ذلك في تأليف مختصر سميته: «الأنوار السنية في الأذكار النبوية».
هذا وعطف الإناث على الذكور لاختلاف الجنسين. وهو ضروري كقوله: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً «٢». وعطف الزوجين على الزوجين لتغاير الوصفين، وليس بضروري، ولو قال: «إن المسلمين والمسلمات المؤمنين والمؤمنات» بغير واو لجاز، كقوله: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ... الخ. وهو مِن عطف الصفة، ومعناه: إن الجامعين والجامعات
(١) ذكره البغوي فى تفسيره (٦/ ٣٥٢).
(٢) من الآية ٥ من سورة التحريم.
431
لهذه الصفات. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً لما اقترفوا من السيئات، وَأَجْراً عَظِيماً على طاعتهم. قال البيضاوي: والآية وعد لهن، ولأمثالهن، على الطاعة والتدرّعُ بهذه الخصال. رُوي أن أزواج النبي ﷺ قلن: ذكر الرجال في القرآن بخير فما فينا خير، فنزلت «١». هـ.
الإشارة: اعلم أن اصطلاح الصوفية أن ما يتعلق بعمل الجوارح الظاهرة يُسمى إسلاماً، وما يتعلق بعمل القلوب الباطنية يُسمى إيماناً، وما يتعلق بعمل الأرواح والأسرار يُسمى إحساناً. قال في البغية: فالإسلام يشتمل على وظائف الظاهر، وهي الغالبة عليه، وذلك من عالم الشهادة، والإيمان يشتمل على وظائف الباطن، وهي الغالبة عليه، وذلك من عالم الغيب، وهي الأعمال الغيبية، ولمّا انفتح لها باب من الأعمال الظاهرة للعبادة، وأشرقت عليها من ذلك أنوار، وتعلقت همتها بعالم الغيب، مالت إلى الوفاء بالأعمال الباطنة، ثم لمّا تمكنت في الأعمال الباطنة، واطلعت على عالَمها، وأشرفت على طهارتها، وتعلقت همتها بعالم الملكوت، مالت إلى الوفاء بالأسرار الإحسانية، ومن هناك تدرك غاية طهارتها وتصفيتها، والاطلاع على معارف الحقائق الإلهية. ثم قال: فإذا تبين هذا، فالإسلام له معنى يخصه، وهو انقياد الظاهر بما تكلف به من وظائف الدين، مع ما لا بد منه من التصديق.
والإيمان له معنى يخصه، وهو تصديق القلب بجميع ما تضمنه الدين من الأخبار الغيبية، مع ما لا بد منه من شُعبه. والإحسان له معنى يخصه، وهو تحسين جميع وظائف الدين الإسلامية والإيمانية، بالإتيان بها على أكمل شروطها، وأتم وظائفها، خالصة من جميع شوائب عِللها، سالمة من طوارق آفاتها. هـ.
قلت: ولا يكفي في مقام الإحسان تحسين الوظائف فقط، بل لا بد فيه من كشف حجاب الكائنات، حتى يُفضي إلى شهود المكوِّن، فيعبد الله على العيان. كما في الحديث: «إنَّ تعبد الله كأنك تراه». فإذا تقرّر هذا فالآية مشتملة على تدريج السلوك فأول مقامات المريد: الإسلام، ثم الإيمان، كما في الآية، ثم يكون من القانتين المداومين على الطاعة، ثم يكون من الصادقين في أقواله، وأفعاله، وأحواله، صادقاً في طلب مولاه، غائباً عن كل ما سواه، ثم من الصابرين على مجاهدة النفس، ومقاساة الأحوال، وقطع المقامات والمفاوز. وقال القشيري: من الصابرين على الخصال الحميدة وعن الخصال الذميمة، وعند جريان مفاجآت القضية. هـ. ثم من الخاشعين الخاضعين لهيبة الجلال، مشاهداً لكمال أنوار الجمال. قال القشيري: الخشوعُ: إطراق السريرة عند بواده الحقيقة. هـ.
(١) أخرجه، بنحوه، أحمد فى المسند (٦/ ٣٠١) والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي (٢/ ٤١٦)، والطبراني فى الكبير (٢٣/ ٢٦٣ ح ٥٥٤) و (٢٣/ ٢٩٤ ح ٦٥٠) من حديث أم سلمة- رضى الله عنها- وأخرجه ابن جرير فى التفسير (٢٢/ ١٠) من حديث ابن عباس رضي الله عنه وأم سلمة- رضى الله عنها.
432
ثم يتحقق بأوصاف الكمال كالسخاء والكرم، فيبذل ما عنده فى مرضات ربه، فيكون من المتصدقين بأموالهم وأنفسهم، حتى لا يكون لأحد معهم خصومة فيما أخذوا منهم وقالوا فيهم، ثم يصوم عن شهود السِّوى، ثم يحفظ فرجه عن وِقاع الشهوة والهوى، فلا ينزل إلى سماء الحقوق، أو أرض الحظوظ، إلا بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين. ثم يكون من المُسْتَهتَرين بذكر الله، أعني ذكر الروح والسر، وهو مقام الإحسان، الذي هو محل العيان، فيكون ذاكراً بالله، مذكوراً في حضرة الله، مشهوراً في ملكوت الله. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
ثم ذكر قضية تزويجه- عليه الصلاة والسلام- زينب، مناسبا للحافظين فروجهم، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٣٦]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ أي: ما صحّ لرجل مؤمن، ولا امرأة مؤمنة، إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً من الأمور أَنْ يَكُونَ «١» لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أي: أن يختاروا من أحدهم شيئاً، بل الواجب عليهم أن يجعلوا رأيهم تبعاً لرأيه، واختيارهم تلواً لاختياره.
نزلت في زينب بنت جحش، وأخيها عبد الله بنَ جَحْش. وكانت زينب بنت أميمةَ بنت عبد المطلب، عمة النبي صلى الله عليه وسلم، فخطبها- عليه الصلاة والسلام- لمولاه زيد بن حارثة، فلما خطبها، ظنت أنه يخطبها لنفسه، فرضيت، فلما علمت أنه خطبها لزيد كرهت وأبت، وقالت: أنا أم نساء قريش، وابنة عمتك، فلم أكن أرضه لنفسي، وكذلك قال أخوها. وكانت بيضاء جميلة، وكان فيها بذاذة، فأنزل الله الآية «٢»، فأعلمهم أنه لا اختيار لهم على ما قضى اللهُ ورسولُه. فلما نزلت الآية إلى قوله: مُبِيناً قالت: رضيتُ يا رسول الله، وجعلت أمرها بيد النبي صلى الله عليه وسلم
(١) قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: (يكون) بالياء من تحت. وقرأ الباقون بالتاء وقد أثبت المفسر- رحمه الله- قراءة التاء.
انظر الإتحاف (٢/ ٣٧٦).
(٢) أخرجه ابن جرير فى التفسير (٢٢/ ١١).
433
وكذلك أخوها، فأنكحها ﷺ زيداً، فدخل بها، وساق إليها النبي ﷺ عشرة دنانير، وستين درهماً، وملحفة، ودرعاً، وإزاراً، وخمسين مدًّا من طعام، وثلاثين صاعاً من تمر «١». وقيل نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط، وكانت من أول مَن هاجر من النساء، فوهبت نفسها للنبى ﷺ فقبلها، وقال: زوجتها من زيد، فسخطت هي وأخوها، وقالا: إنما أردنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت «٢». والأول أصح.
وإنما جمع الضمير في «لهم»، وكان من حقه أن يُوحَّد لأن المذكورين وقعا نكرة في سياق النفي، فعمَّا كل مؤمن ومؤمنة، فرجع الضمير إلى المعنى، لا إلى اللفظ. والخيرة: ما يُتخير، وفيه لغتان: سكون الياء، وفتحها، وتؤنث وتذكَّر باعتبار الفعل لمجاز تأنيثها.
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما اختار وقضى فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً بيِّن الانحراف عن الصواب.
فإن كان العصيانُ عصيانَ رد وامتناع عن القبول فهو ضلال كفر، وإن كان عصيانَ فعلٍ، مع قبول الأمر، واعتقاد الوجوب، فهو ضلال فسق.
ثم إن زينب مكثتْ عند زيد زمانا، فأتى عليه الصلاة والسلام ذات مرة دار زيد، لحاجة، فأبصرها في درع وخمار، فوقعت في نفسه، وذلك لِمَا سبق في علم الله من كونها له. فقال: «سبحان مقلِّب القلوب» «٣»، وكانت نفسه قبل ذلك تنفر منها، لا تُريدها، فانصرف، وسمعت زينب بالتسبيحة، فذكرتها لزيد، ففَطِنَ، وأُلقي في نفسه كراهيتُهَا والرغبة عنها في الوقت، وقال: يا رسول الله إني أُريد فراق صاحبتي؟ فقال: «مالك، أرابك منها شىء؟»
(١) انظر تفسير البغوي (٦/ ٣٥٣).
(٢) أخرجه ابن جرير فى التفسير (٢٢/ ١٢) وعزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٣٨١) لابن أبى حاتم. عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
والحديث معضل.
(٣) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي (ص ١٣٤ رقم ٢٢٤) :(ذكره الثعلبي بغير سند، وأخرج الطبري «٢٢/ ١٣» معناه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم) قلت: هذه الرواية، وإن ساقها عدد من المفسرين، إلا أن العلماء المحققين ردوها فالروايات كلها جاءت من طرق ضعيفة، ولا يوجد شىء منها فى كتب الحديث المعتمدة، والذي جاء فى الصحيح يخالف ذلك. ولا يجوز أن يستند إلى روايات ضعيفة فى إثبات خبر فيه نيل من عصمة المعصوم صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن كثير فى تفسيره: (٣/ ٤٩٠) :(ذكر ابن جرير، وابن أبى حاتم، هاهنا، آثارا عن بعض السلف، أحببنا أن نضرب عنها صفحا لعدم صحتها، فلا نوردها) - ثم إن السيدة «زينب بن جحش» - رضى الله عنها- ابنه عمته، ويعرفها مذ كانت طفلة حتى كبرت، وهو الذي زوّجها لمولاه زيد، وكان بإمكانه أن يتزوجها قبل أن يزوجها زيدا. فغير معقول- والحال كما ذكر- أن يزوجها لغيره ثم يرغب فيها.
والحق فى المسألة ما سيذكره الشيخ ابن عجيبة بعد، نقلا عن الشيخ عبد الرحمن الفاسى من أن المعنى: وتُخفي في نفسك ما اطلعت عليه من مفارقة زيد لها، وتزوجك إياها بعده... إلخ كلامه.
للمزيد راجع: الشفاء للقاضى عياض (٢/ ٨٧٨- ٨٨٠) روح المعاني للألوسى، (٢٢/ ٢٤- ٢٥) الإسرائيليات والموضوعات للدكتور محمد أبى شهبة (٣٢٣- ٣٢٨).
434
فقال: لاَ والله، ما رأيت منها إلا خيراً، إلا أنها تتعظم عليَّ، لشرفها، وتؤذيني بلسانها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمسك عليك زوجك واتق الله».
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٣٧) مَّا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٣٩)
وهذا معنى قوله: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإسلام الذي هو من أجلّ النعم وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالإعتاق والتبني، فهو متقلب في نعمة الله ونعمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو زيد بن حارثة: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ زينب، وَاتَّقِ اللَّهَ فلا تطلقها، وهو نهي تنزيه، أو: اتقِ الله، فلا تذمها بالنسبة إلى الكِبْر وأذى الزوج، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي: تُخفي في نفسك نكاحها إن طلقها زيد، وقد أبداه الله وأظهره، وقيل:
الذي أخفاه في نفسه: تعلُّق قلبه بها، ومودة مفارقة زيد إياها.
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: والصواب أن المعنى: وتُخفي في نفسك ما اطلعت عليه من مفارقة زيد لها، وتزوجك إياها بعده، فإن هذا هو الذي أبداه سبحانه وأظهره بعد ذلك. وأما قوله: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ، فإنما يعني به الحياء من الناس في أن يقابلهم بما يسوءهم، وهو إخبار زيد بما أطلعه الله عليه من صيرورة زوجته زينب له، بعد مفارقة زيد لها، لأنه لم يؤمر بإفشاء ذلك، وإلا لبلَّغ من غير رَوية ولا حشمة، سالكاً في ذلك سُنَّة مَن خلا قبله من الأنبياء، الذين لا يخشون في التبليغ أحداً إلا الله.
وقال القشيري: أي: تخشى عليهم أن يقعوا في الفتنة في قصة زيد [والفتنة التي يقعون فيها هي ظنهم أنه عليه الصلاة والسلام عشقها، وأمره بطلاقها] وكانت تلك الخشية إشفاقاً منه عليهم، ورحمة لهم ألا يُطيقوا سماع هذه الحالة، بأن يخطر ببالهم ما ليس في وسعهم. وأما قوله: أَمْسِكْ عَلَيْكَ.... الآية- مع علمه بما يؤول إليه الأمر في العاقبة، بما أطلعه الله عليه من فراقه لها- فإقامة للشريعة. هـ. ملخصاً.
وفي الوجيز: وَتَخْشَى النَّاسَ أي: تكره مقالة الناس لو قلت طَلِّقْها، فيقال: أمر رجلاً فطلّق امرأته ثم تزوجها. وقد نقل في نوادر الأصول عن عليّ بن الحسين: أن الله أعلم نبيه أنها تكون من أزواجه، فأخفى ذلك.
فلما جاء زيد يشكوها قال له: اتقِ الله، وأمسك عليك زوجك «١»، قال: فعليُّ بن حسين جاء بها من خزانة العلم، جوهراً من الجواهر، ودرًّا من الدرر، وأنه إنما عتب الله عليه في أنه قد أعلمه، ثم قال بعد ذلك لزيد: أمسك..
(١) أخرجه الطبري (٢٢/ ١٣).
435
رعاية لِما يقال، وتركاً لتدبير الله، مع كونه أحق بالرعاية، وكيف، وفي ذلك تشريع لئلا يكون على المؤمنين حرج وضيق فيما فرض الله له فيما أعلمه. ثم قال: والحاصل أنه- عليه الصلاة والسلام- لم يلمّ بخطيئة، بدليل أنه لم يؤمر بتوبة ولا استغفار، وإنما أخبره بما أضمر في نفسك، خشية افتتان الغير، والله أحق أن يخشى، بأن يبتهل إليه ليزيل عنهم ما يخشى فيهم.
قال ابن عرفة: الصواب: أن ما أخفاه في نفسه هو: أن الله أخبره أن سيتزوجها. وما قاله ابن عطية لا يحل أن يقال، لأنه تنقيص لم يرد في حديث صحيح. وإنما ذكره المفسرون. هـ. قلت: إنما يكون تنقيصاً إذا كان ذلك الواقع في القلب ثابتاً، وأما إن كان خاطراً مارًّا فلا نقص إذ ليس في طوق البشر لأنه من أوصاف العبودية، بل الكمال في دفعه ورده بعد هجومه.
ثم قال ابن عرفة، على قوله: وَتَخْشَى النَّاسَ: هو تمهيد لعذره، وإن كان لمجرد أمر الله له بذلك، ولا ينبغي حمله على أنه خاف الناس فقط. بل المراد: عتابه على خلط خوفه من الله بخوفه من الناس، وأَمَرهُ ألا يخاف إلا من الله فقط، خوفاً غير مشوب بشيء. هـ. قلت: إذا فسرنا الخشية بالحياء لا يحتاج إلى هذا التعسُّف، مع أن الخوف من الخَلْق مذموم، وحده أو مع خوف الله، والنبي ﷺ منزَّه عن ذلك، أي: تستحي من الناس أن يقولوا:
نكح امرأة ابنه، وكان- عليه الصلاة والسلام- أشد الناس حياء من العذراء في خدرها. والحياء ممدوح عند الخاص والعام. وأما قوله تعالى: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فتنبيه على أن الحياء في بعض المواضع تركه أَولى، فهو ترقية له، وتربية لوقت آخر. أو: وتخشى أن يفتتن الناس بذلك، والله أرحم بهم من غيره، فالله أحق أن تَخشى، فتبتهل إليه في زوال ذلك عنهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية الأولى حث على التفويض وترك الاختيار، مع ما أمر به الواحد القهّار. وفي الحِكَم:
«ما تَركَ من الجهل شيئا مَن أراد أن يُظهر في الوقت غير ما أظهر الله» «١». فالواجب على العبد أن يكون في الباطن مستسلماً لقهره، وفي الظاهر متمثلاً لأمره، تابعاً لسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولِمَا يُوجب رضاه ومحبته. وفي الآية الثانية تنبيه على أن خواص الخواص يُعاتبون على ما لا يُعاتب عليه الخواص. والخواص، يُعاتبون على ما لا يعاتب عليه العوام، فكلما علا المقام، واشتد القرب، اشتدت المطالبة بالأدب، ووقع العتاب على أدنى ما يخل بشيء من الأدب، على عادة الوزراء مع الملك. وذلك أمر معلوم، مذوق عند أهل القلوب. وبالله التوفيق.
(١) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص ٢٠، حكمة: ١٧)
436
ثم ذكر تزوجه- عليه الصلاة والسلام- لزينب بعد مفارقة زيد، فقال:
فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ...
يقول الحق جلّ جلاله: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً حاجة، بحيث ملَّها ولم تبقَ له فيها حاجة.
والوطر: الحاجة، فإذا بلغ البالغ حاجته من شيء له فيه همّة، يقال: قضى منه وطراً، أي: فلما قضى حاجته منها، وطلقها، وانقضت عدّتها، زَوَّجْناكَها. رُوي أنها لما اعتدت قال- عليه الصلاة والسلام- لزيد: «ما أجد أحداً أوثقُ في نفسي منكَ، ايت زينبَ فاخطبها لي» قال زيدٌ: فأتيتُها وولَّيتُها ظهْرِي، إعظاماً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت:
يا زينبُ إنَّ النبي ﷺ يخطبُك، فَفَرحَتْ، وقالت: ما أنا بصانعةٍ شيئاً حتى أؤامِرَ ربِّي، فقامت إلى مسجدها، فنزَلَ القرآنُ: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ... الآية، فتزوجها عليه الصلاة والسلام، ودخل بها حينئذ، ومَا أوْلَمَ على امْرأةٍ ما أوْلَمَ عليها، ذبح شاةٍ، وأطعمَ الناسَ الخبزَ واللحمَ حتى امتد النهار «١».
وقيل: زوّجه الله تعالى إياها بلا واسطة عقد، ويؤيده: أنها كانت تقول لسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله زوجني من فوق سبع سموات، وأنتن زوَّجَكُنَّ أولياؤكُنَّ «٢». وكانت تقول للنبى صلى الله عليه وسلم: إني لأدُلّ عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدِل عليك بهنّ: جدّي وجدّك واحد، وإياي أنكحك الله من السماء، وإن السفير لي جبريل «٣».
ثم علل تزويجه إياها، فقال: لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ الذين يتبنونهم إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، قال الحسن: ظنت العرب أن حُرمة المتبني مشتبكة كاشتباك الرحم، فبيّن اللهُ تعالى الفرق بينهما، وأن حلائل الأدعياء غير محرمة. وليست كحلائل أبناء الصلب. قال البيضاوي: وفيه دليل على أنَّ حكمه
(١) أخرجه، بنحوه، مسلم فى (النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش، ونزول الحجاب، ٢/ ١٠٤٨- ١٠٤٩ ح: ١٤٢٨) من حديث أنس رضي الله عنه.
(٢) أخرجه البخاري فى (التوحيد، باب وكان عرشه على الماء ح ٧٤٢٠) من حديث أنس رضي الله عنه.
(٣) أخرجه الطبري فى تفسيره (٢٢/ ١٤) من مرسل الشعبي. [.....]
437
وحكم الأَمة واحد، إلا ما خصّه الدليل. هـ. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ الذي يريد أن يكونه مَفْعُولًا مكوناً لا محالة، كما كان تزويج زينب.
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي: حلّ له، أو: قسم له، من قولهم: فرض له في الديوان كذا، وفروض العساكر، لأرزاقهم. أي: لا حَرج على النبي فيما حلّ له وأمر به، كتزويج زينب، أو: قسم له من عدد النساء بلا حدّ، سُنَّةَ اللَّهِ: مصدر مؤكد لِمَا قبله من قوله: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ أي:
سُنَّ ذلك سُنَّة في الأنبياء الماضين، وهو: ألا حرج عليهم في الإقدام على ما أحلّ لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره. وكانت تحتهم المهائر «١» والسراري، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة، وثلاثمائة سُرِّية. فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي: في الأنبياء الذين مضوا من قبله، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أي: قضاءً مقضياً، وحكماً مثبوتاً مبرماً، لا مرد له.
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ، هو صفة ل «لذين خلوا من قبل»، أو: بدل منه، أو: مدح لهم منصوب، أو:
مرفوع، أي: هم الذين، أو: أعني الذين يُبلغون رسالات الله، وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ، ونبينا ﷺ من جملتهم ومن أشرفهم، وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً للمخاوف، أو: محاسباً، فينبغي ألا يُخشى إلا منه تعالى.
الإشارة: إذا تمكن العبدُ مع مولاه وتحققت محبته فيه، كانت حوائجه مقضية، وهمته كلها نافذة، إذا اهتم بشيء، أو خطر على قلبه شيء، مكّنه الله منه، وسارع في قضائه، كما فعل مع حبيبه، حين خطر بباله تزوج زينب، أعلمه أنه زوَّجه إياها. وأهل مقام الفناء جُلهم في هذا المقام، إذا اهتموا بشيء كان، إذا ساعدتهم المقادير، وإلا فسوابقُ الهِمَم لا تخرق أسوارَ الأقدار، ولذلك قال هنا: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً. وصفة أهل الهمم القاطعة: أنهم لا يخافون إلا الله، ولا يخشون أحداً سواه، لا يخافون في الله لومة لائم، ذِكْرُهم لله دائم، وقلبُهم في الحضرة هائم. وبالله التوفيق.
ثم ردّ على مَن قال: إنه- عليه الصلاة والسلام- تزوج امرأة ابنه، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٠]
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠)
(١) المهائر: جمع المهيرة، وهى الحرة، والمهائر: الحرائر، ضد السّرارى. انظر اللسان (مهر ٦/ ٤٢٨٧).
يقول الحق جلّ جلاله: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ أي: لم يكن أبا رجل منكم حقيقة، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح، والمراد: من رجالكم البالغين، وأما أولاده القاسم، والطيب، والطاهر، فماتوا قبل أن يكونوا رجالاً، وأما الحسن والحسين، فأحفاد، لا أولاد. وَلكِنْ كان رَسُولَ اللَّهِ، وكل رسول أبو أمته، فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم، ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء. وزيد واحد من رجالكم، الذين ليسوا بأولاد حقيقة، فكان حكمُه حكمهم. والتبني من باب الاختصاص والتقريب، لا غير. وَكان أيضا ﷺ خاتَمَ النَّبِيِّينَ أي: آخرهم الذي ختمهم، أو: ختموا به على قراءة عاصم. بفتح التاء، بمعنى: الطابع، كأنه طبع وختم على مقامات النبوة، كما يختم على الكتاب لئلا يلحقه شيء. فلا نبي بعده. وعيسى ممّن نبأ قبله، وحين ينزل ينزل عاملا على شريعته صلى الله عليه وسلم، كأنه بعض أمته. ومَن قرأ بكسر التاء، فمعناه: فاعل الختم، كما قال- عليه الصلاة والسلام-: «أنا خاتم النبيين فلا نبي بعدي» «١». ويصح أن يكون بمعنى الطابع أيضاً إذ فيه لغات خاتِم- بالفتح والكسر-، وخاتام، وخَيْتام. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً، فيعلم مَن يليق بأن يختم به النبوة، وكيف ينبغي شأنه.
الإشارة: كان ﷺ أبا الأرواح حقيقة إذ الوجود كله ممتد من نوره، وأبا الأشباح باعتبار أنه السابق نوره.
فأول ما ظهر نوره- عليه الصلاة والسلام-، ومنه امتدت الكائنات، فهو بذرة الوجود. وسيأتي في قوله: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «٢» تتميم ذلك إن شاء الله. ولم يكن أباً باعتبار تولُّد الصلب، وهو الذي نفاه الله تعالى عنه.
ثم حضّ على الذكر إذ هو سبب التهذيب والتأديب، فيزجر صاحبه عن الخوض فيما لا يعنى، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤)
(١) أخرجه مطولا أحمد فى المسند (٥/ ٢٧٨)، وعزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٣٨٦) لابن مردويه، عن ثوبان. وجاء الجزء الأول «أنا خاتم النبيين» في حديث «مثلى ومثل الأنبياء من قبلى..» الحديث، أخرج البخاري فى (المناقب، باب خاتم النبيين، ح ٣٥٣٥) ومسلم فى (الفضائل، باب ذكر كونه ﷺ خاتم النبيين ٤/ ١٧٩١) من حديث سيدنا أبى هريرة رضي الله عنه.
(٢) الآية ٨١ من سورة الزخرف.
439
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً قياماً، وقعوداً، وعلى جنوبكم، قال ابن عباس: (لم يُعذَر أحد في ترك ذكر اللهِ- عزّ وجل- إلا مَن غلب على عقله) «١». وقال: الذكر الكثير: ألاَّ تنساه أبداً. وروى أبو سعيد عن النبي ﷺ أنه قال: «أكْثِرُوا ذِكرَ اللهِ حتى يقولوا مجنونٌ» «٢».
والذكر أنواع: تهليل، وتحميد، وتقديس، واستغفار، وتلاوة، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد: ذكر القلوب، فإن الذكر الذي يمكن استدامته، هو ذكر القلب، وهو استدامة الإيمان والتوحيد. وأمَّا ذكرُ اللسان فإن إدامته كالمتعذَر. قاله القشيري. وَسَبِّحُوهُ أي: نزِّهوه، أو: قولوا: سبحان الله وبحمده، بُكْرَةً أول النهار وَأَصِيلًا آخر النهار. وخُصَّا بالذكر لأن ملائكةُ الليل وملائكة النهار يجتمعون فيهما. وعن قتادة: (قولوا:
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله). أو: الفعلان- أي: (اذكروا) و (سبّحوه) - موجهان إلى البُكرة والأصيل، كقولك: صم وصلِّ يوم الجمعة. والتسبيح من جملة الذكر، وإنما اختص من بين أنواعه إبانةً لفضله لأن معناه: تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات. ويجوز أن يراد بالذكر وإكثاره: تكثير الطاعات والعبادات، فإنها من جملة الذكر، ثم خصّ من الذكر التسبيح بكرة، وهي صلاة الفجر، وأصيلاً، وهي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، أو: صلاة الفجر والعشاءين.
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ، لمّا كان من شأن المصلي أن ينعطف في ركوعه وسجوده استعير لمَن ينعطف على غيره، حُنواً عليه، كحنو المرأة على ولدها. ثم كثر، حتى استعمل في الرحمة والترؤف، ومنه قولهم: صلى الله عليك، أي: ترحّم عليك وترأف. فإن قلت: صلاة الله غير صلاة الملائكة، فكيف اشتركا في العطف؟ قلت: لاشتراكهما في قدر مشترك، وهو إرادة وصول الخير إليهم، إلا أنه منه تعالى برحمته، ومن الملائكة بالدعاء والاستغفار.
وذكر السدي: أن بني إسرائيل قالت لموسى عليه السلام: أيُصلي ربنا؟ فكَبُر هذا الكلام على موسى عليه السلام، فأوحى الله إليه: أن قل لهم: إني أُصلي، وإنَّ صلاتي رحمتي، وقد وَسِعَتْ كل شيء «٣». وفي حديث المعراج: «قلت:
إلهي لَمَّا لحقني استيحاش قبل قدومي عليك، سمعت منادياً يُنادي بلغة، تُشبه لغةَ أبي بكر، فقال: قف، إن ربك
(١) أخرجه الطبري (٢٢/ ١٧).
(٢) أخرجه أحمد فى المسند (٣/ ٦٨، ٧١) والحاكم (١/ ٤٩٩) وصححه، من حديث سيدنا أبى سعيد الخدري رضي الله عنه.
(٣) عزاه فى الدر المنثور (٥/ ٣٨٩) لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابنُ أبي حاتم، عن الحسن.
440
يصلي، فعجبت من هاتين، هل سبقني أبو بكر إلى هذا المقام، وإن ربي لغنيٌّ عن أن يصلِّي؟ فقال تعالى: أنا الغني عن أن أُصلّي لأحد، وإنما أقول: سبحاني، سبقت رحمتي غضبي. اقرأ يا محمد: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ... الآية، فصلاتي رحمة لك ولأمتك. ثم قال. وأما أمر صاحبك، فخلقت خلقاً على صورته، يُناديك بلغته، ليزول عنك الاستيحاش، لئلا يلحقك من عظيم الهيبة ما يقطعك عن فهم ما يراد منك».
والمراد بصلاة الملائكة: قولهم: اللهم صَلّ على المؤمنين. جُعلوا- لكون دعائهم بالرحمة مستجاباً- كأنهم فاعلون الرحمة. والمعنى: هو الذي يترحّم عليكم ويترأف، حيث يدعوكم إلى الخير، ويأمركم بإكثار ذكره، ويأمر ملائكته يترحّمون عليكم، ويستغفرون لكم، ليقربكم، ويخصكم بخصائص ليست لغيركم. بدليل: لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ثم من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة، ثم من ظلمات الغفلة إلى نور اليقظة، ثم من ظلمات الحجاب إلى نور العيان. وقيل: يُصَلِّي عليكم: يشيع لكم الذكر الجميل في عباده.
وَكانَ الله بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً، قد اعتنى بصلاح أمرهم، وإثابة أجرهم، واستعمل في خدمتهم ملائكتَه المقربين، وهو دليل على أن المراد بالصلاة: الرحمة، حيث صرَّح بكونه رحيماً بهم. قال أنس: لمّا نزل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال أبو بكر: يا رسول الله ما خصك الله بشريف إلا وقد اشتركنا فيه، فأنزل قوله: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ... الخ «١».
تَحِيَّتُهُمْ أي: تحية الله لهم، فهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ عند الموت. قال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن، قال: ربك يُقرئك السلام «٢». أو: يوم الخروج من القبور، تُسلِّم عليهم الملائكة وتُبشرهم. أو: يوم يرونه في الجنة، سَلامٌ، يقول الله تبارك وتعالى: «السلام عليكم يا عبادي، هَلْ رَضيتُم؟ فَيَقُولونَ: وَما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيت ما لم تُعط أحداً من العالمين. فيقول لهم: أعطيكم أفضل من ذلك، أُحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبداً» كما في البخاري «٣». وفي رواية غيره: يقول تعالى:
(١) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥/ ٣٨٩) لعبد بن حميد، وابن المنذر، عن مجاهد. وذكره البغوي فى التفسير (٦/ ٣٦٠) عن أنس رضي الله عنه.
(٢) عزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٣٩٠) للمروزى فى الجنائز، وابن أبى الدنيا، وأبى الشيخ.
(٣) سبق تخريج الحديث.
441
«السلام عليكم، مرحباً بعبادي الذين أرضوني باتباع أمري» هو إشارة إلى قوله: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ «١».
وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً، يعني الجنة وما فيها.
الإشارة: قال القشيري: قوله تعالى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً. الإشارة فيه: أَحِبُّوا الله لقوله- عليه الصلاة والسلام- «مَنْ أحبَّ شيئاً أكثَرَ من ذكره» «٢» فيُحب أن يقول: الله، ولا ينسَ اللهَ بعد ذكر الله. هـ. قلت: لأن ذكر الله عنوان محبته، ومنار وصلته، وهو الباب الأعظم في الدخول إلى حضرته، ولله در القائل:
الذكر عمدة لكل سالك... تنورت بنوره المسالك
هو المطية التي لا تنتكب... ما بعدها في سرعة الخُطا نُجُب
به القلوب تطمئن في اليقين... ما بعده على الوصالِ من معين
به بلوغ السالكين للمُنى... به بقاء المرء مِن بعد الفنا
به إليك كل صعب يسهل... به البعيد عن قريب يحصل
فهو أقوى سبب لديكَ... وكلُّهُ إليك، لا عليك
فكل طاعة أتى الفتى بها... هو أساسها، كذاك سَقفها
ووحدَه يفوق كل طاعه... كما أتى عن صاحب الشفاعهْ
كَفى بفضله لدا البيان... ذهابه بالسهو والنسيان
إذا ذكرتَ مَن له الغنى العظيم... لديك يصغرُ الفقير يا نديم
عليه دُمْ حتى إذا تجوهرا... بسره الفؤاد كلّ ما ترى
ترى به المذكور دون ستر... وقد علا الإدراك درك الفكر
به الحبيب في الورى تجلّى... به السِّوى عن الحِجا تولى
به تمكن المريد في الفنا... حتى يصيرَ قائلاً أنا أنا
به رجوعه إلى العبادة... به التصرُّف الذي في العادهْ
تالله لو جئتُ بكل قول... ما جئتكم بما لَهُ من فضل. هـ.
(١) من الآية ٧٣ من سورة الزمر.
(٢) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ٨٣١٢) للديلمى، فى الفردوس، وضعّفه، من حديث السيدة عائشة- رضي الله عنها.
442
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَبَق المُفَرِّدُونَ، قيل: مَن المفردون يا رسول الله؟ قال: المستهترون بذكر الله، يَضَعُ الذِّكرُ عنهم أثقالَهُمْ، فيَردُون يَوْمَ القيامةِ خِفَافاً» «١» وسئل صلى الله عليه وسلم: أيّ المجاهدين أعظمُ أجراً؟ قال: «أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا. وقيل: فأي الصالحين أعظم أجراً؟ قال: أكثرهم لله تبارك وتعالى ذِكْراً. ثم ذَكَرَ الصلاة والزكاة والحج والصدقة، كل ذلك ورسول الله ﷺ يقول: «أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكراً». فقال أبو بكر لعمرَ: يا أبا حفصٍ ذهب الذاكرون بكل خيرٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل» «٢» رواه أحمد والطبراني.
وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ... الآية. قال الورتجبي: صلوات الله: اختياره العبدَ في الأزل لمعرفته ومحبته، فإذا خصَّه بذلك جعل زلاته مغفورة، وجعل خواص ملائكة مستغفرين له، لئلا يحتاج إلى الاستغفار بنفسه عن اشتغاله بالله ومحبته، وبتلك الصلاة يُخرجهم من ظلمات الطبع إلى نور المشاهدة، وهذا متولد من اصطفائيته الأزلية ورحمته الكافية القدسية. ألا ترى إلى قوله: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً أي: قبل وجودهم، حيث أوجدهم، وهداهم إلى نفسه، بلا سبب ولا علة. ثم قال عن ابن عطاء: أعظم عطية للمؤمن في الجنة: سلام الله عليهم من غير واسطة. هـ.
وقوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ قال القشيري: التحيةُ إذا قُرِنَتْ بالرؤية، واللقاءُ إذا قُرن بالتحية، لا يكون إلا بمعنى رؤية البصر، والتحية: خطاب يُفاتح بها الملوك، أخبر عن عُلُوِّ شأنهم، فهذا السلام يدلّ على علو رتبتهم. هـ.
ولمّا أمر بذكره وتنزيهه، ذكر شهادته لرسوله، ليدلّ على اقترانها فى صحة الإيمان وكمال الذكر، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٤٨)
(١) أخرجه بلفظه الترمذي فى: (الدعوات، باب: فى العفو والعافية ٥/ ٥٣٩، ح: ٣٥٩٦)، وبنحوه أخرجه مسلم فى (الذكر والدعاء، باب الحث على ذكر الله تعالى ٤/ ٢٠٦٢، ح ٢٦٧٦) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
والمستهترون بذكر الله: المولعون بالذكر: المداومون عليه، لا يبالون ما قيل فيهم، ولا ما فعل بهم.
(٢) أخرجه أحمد (٣/ ٤٣٨)، وقال الهيثمي فى مجمع الزوائد (١٠/ ٧٤) : رواه أحمد والطبراني، وفيه: زبان بن فائد، وهو ضعيف، وقد وثّق، وكذلك ابن لهيعة، وبقية رجال أحمد ثقات.
443
قلت: «شاهداً» : حال مقدرة، كمررت برجل معه صقر صائداً به غداً.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على من بعث إليهم، على تصديقهم وتكذيبهم، أي: مقبولاً قولك عند الله، لهم وعليهم، كما يُقبل قول الشاهد العدل في الحكْم، وَمُبَشِّراً للمؤمنين بالنعيم المقيم، وَنَذِيراً للكافرين بالعذاب الأليم، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ إلى الإقرار بربوبيته، وتوحيده، وما يجب الإيمان به، من صفاته، ووعده، ووعيده، بِإِذْنِهِ بأمره، أو: بتيسيره. وقيّد به الدعوى إيذاناً بأنه أمر صعب، لا يتأتى إلا بمعونةٍ من جناب قدسه، وَسِراجاً مُنِيراً يُستضاء به في ظلمة الجهالة، وتُقتبس من نوره أنوار الهداية، قد جلى به الله ظلمات الشرك، واهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير، ويهتدى به. وقيل: المراد به القرآن، فيكون التقدير: وذا سراج. ووُصف بالإنارة لأن من السُرج مَن لا يضيء جدًّا إذا قلّ سَلِيطُه، - أي: زيته- ورقَّت فتيلته. أو: شاهداً بوحدانيتنا، ومبشراً برحمتنا، ونذيراً بنقمتنا، وداعياً إلى عبادتنا، وسراجاً تُنير الطريقَ إلى حضرتنا.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً ثواباً عظيماً، يربو على ثواب سائر الأمم. وفي الحديث:
«مثَلُكمْ ومَثَلُ اليهود والنصارى كمَن استأجر عُمالاً إلى آخر اليوم، فعَمِلَتِ اليهودُ إلى الظهر، ثم عجزوا، ثم عملت النصارى إلى العصر، فعجزوا، ثم عملتم إلى آخر النهار، فاستحققتم أجر الفريقين، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر عملاً، وأقلّ أجراً، فقال لهم الله تعالى: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء» «١» وفي رواية: «أنهم عملوا إلى الظهر، أو العصر، وقالوا: لا حاجة لنا بأجرك، فبطل أجر الفريقين». وهذا في حق مَن أدرك الإسلام منهم ولم يؤمن. والحديث في الصحيح. نقلته بالمعنى.
قال البيضاوي: ولعله معطوف على محذوف، أي: فراقب أمتك وبشِّرهم. هـ.
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ أي: دُم على مخالفتهم، وهو تهييج وتنفير عن حالهم، وَدَعْ أَذاهُمْ أي: لا تلتفت إليه، ولا تحتفل بشأنه. وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل، أي: اجعل إيذائهم إياك في جانب، وأنت في جانب، ولا تُبال بهم، ولا تخفْ من إيذائهم. أو: إلى المفعول، أي: دع إيذاءك إياهم مجازاةً ومؤاخذة على كفرهم. ولذلك قيل: إنه منسوخ. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فإنه يكفيكهم، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا موكولا عليه،
(١) أخرجه البخاري فى (الإجارة، باب الإجارة إلى نصف النهار، ح ٢٢٦٨) من حديث سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه. [.....]
444
ومفوضاً إليه الأمر في الأحوال كلها، ولعله تعالى لَمّا وصفه بخمسة أوصاف، قابل كُلاًّ منها بخطاب مناسب له، فقابل الشاهد بقوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ لأنه يكون شاهدا على أمته، وهم يكونون شهداء على سائر الأمم، وهو الفضل الكبير، وقابل المبشِّر بالإعراض عن الكافرين والمنافقين لأنه إذا أعرض عنهم أقبل بكليته على المؤمنين، وهو مناسب للبشارة، وقابل النذير بدَعْ أذاهم لأنه إذا ترك أذاهم في العاجل، والأذى له، لا بد له من عقاب عاجل أو آجل، كانوا منذرين به في المستقبل. وقابل الداعي إلى الله بأمره بالتوكل عليه لأن مَن توكل على الله يسَّر عليه كل عسير، فتسهل الدعوة، ويتيسر أمرها، وقابل السراج المنير بالاكتفاء به وكيلاً لأن مَن أناره الله وجعله بُرهاناً على جميع خلقه كان حقيقاً بأن يَكتفي به عن جميع خلقه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال الورتجبي: إنا أرسلناك بالحقيقة شاهداً، أنت شاهِدُنا، شاهدناك وشهدت علينا، فألبستك أنوار ربوبيتي، فمَن شهدك بالحقيقة فقد شَهِدنَا. قُلتُ: لأن نوره ﷺ أول نور ظهر من نور الحق، فمَن شَهِدَه شَهِدَ الحق.
ثم قال: ومَن نظر إليك فقد نظر إلينا. قال صلى الله عليه وسلم: «من عرفنى فقد عرف الحق، ومَن رآني فقد رأى الحق». ثم قال:
وَسِراجاً مُنِيراً، أسرجت نورك من نوري، فتُنور بنوري عيون عبادي المؤمنين، فيأتون إليّ بنورك. ثم أمره بأن يُبشر المؤمنين بأنهم يصلون إلى مشاهدته، بلا حجاب ولا عتاب. هـ.
قال القشيري: يا أيها المُشَرَّفُ مِنْ قِبَلِنا إنّا أرسلناك شاهداً بوحدانيتنا، ومبشراً، تُبشر عبادنا بنا، وتحذِّرُهم مخالفة أَمْرِنا، وتُعلمهم مواضع الخوف منا، وداعياً الخلق إلينا بنا، وسراجاً منيراً يستضيئون بك، وشمساً ينبسط شعاعك على جميع من صَدَّقَك وآمَنَ بك، ولا يصل إلينا إلا مَن اتَّبعكَ وخَدَمَك وقَدَّمك، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بفضلنا عليهم، ونَيْلِهم طَوْلَنا عليهم، وإحساننا إليهم. ومَن لم تُؤثِر فيهم بركة إيمانهم بك فلا قَدْرَ لهم عندنا. ولا تُطع مَن أعرضنا عنه وأضللناه، من أهل الكفر والنفاق، وأهل البدع والشقاق، وتوكل على الله بدوام الانقطاع إليه، وكفى بالله وكيلا. هـ.
ثم ذكر حكم المطلقة قبل الدخول، وأنه لا عدّة عليها. مناسب لقوله: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ... إلخ، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٤٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩)
445
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ أي: تزوجتموهن. والنكاح في الأصل: الوطء، من: تناكحت الأشجار: إذا التصق بعضها ببعض. وتسمية العقد نكاحاً مجاز لملابسته له، من حيث إنه طريق إليه، كتسمية الخمر إثماً لأنها سببه، ولم يَرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد لأنه لو استعمل في الوطء لكان تصريحاً به، ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة، والمماسة، والقربان، والتغشي، والإتيان، تعليماً للأدب والحياء. وفي تخصيص المؤمنات، مع أن الكتابيات تُساوي المؤمنات في هذا الحُكُم، إشارة إلى أن الأولَى للمؤمن أن ينكح المؤمنة، تخييراً للنطفة. والمعنى: إذا تزوجتم النساء ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ تجامعوهن. والخلوة الصحيحة كالمسّ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أي: تستوفون عددها، وتَعُدونها عليهن، من: عددته الدراهم فاعتدها، كقوله: كِلته الطعام فاكتاله. والإسناد إلى الرجال للدلالة على أن العِدَّة تجب على النساء لحق الأزواج، كما يشعر به، فَما لَكُمْ. والإتيان ب «ثم» إزاحة ما عسى أن يتوهم أن تراخي الطلاق [ربما يمكن الإصابة فتجب العدة] «١».
فَمَتِّعُوهُنَّ بشيء من المال، وهذا في المفوض لها قبل الفرض، وأما المفروض لها، أو المسمى صداقها، فتأخذ نصف مَهرها، ولا متعة لها على المشهور. وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أي: لا تمسكوهنّ ضراراً، وأخرجوهن من بيوتكم إذ لا عدة لكم عليهن. قال القشيري: (سراحاً جميلاً) لا تذكروهن بعد الفراق إلا بخير، ولا تستردوا منهن شيئاً، ولا تجمعوا عليهن سوء الحال والإضرار من جهة المال. هـ.
الإشارة: أيها المريدون إذا طلقتم نفوسكم، وغبتم عنها بخمرةٍ قوية، من قَبل أن تمسوهن بمجاهدة ولا مخالفة، فمتعوها بالشهود، وسرحوا فكرتها في ذات المعبود، سَراحاً جميلاً، لا حجر فيه ولا حصر، فمن رزقه الله الغيبة عن نفسه، حتى غاب عن حظوظها وهواها، فقد كفاه الله قتالها، فيدخل الحضرة بلا مشقة ولا تعب، لكنه نادر، وعلى تقدير وجوده يكون ناقص التربية لأنه يكون كمن طُويت له الطُرق للحج، فلا يعرفها كما يعرفها مَن سافر فيها، وكابد مشقتها، وعرف منازلها ومياهها، ووعرها وسهلها، ومخوفها ومأمونها، وكلهم أولياء لله تعالى، لكن طريق التربية أن يكون المريد سلك الطريقة، وقاس شدائد نفسه، وعالجها ليُعالج غيره بما يُعالج نفسه، على يد شيخ عارف بالطريق. وبالله التوفيق.
(١) العبارة كما فى البيضاوي: [وفائدة «ثم» إزاحة ما عسى أن يتوهم تراخى الطلاق ريثما تمكن الإصابة، كما يؤثر فى النسب يؤثر فى العدة].
446
ثم وسّع على نبيه فى باب النكاح، فقال تعالى:
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٠]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ مهورهن إذ المهر أجر البضع، ولذا قال الكرخي- من الحنفية-: إن النكاح بلفظ الإجارة جائز، والجواب: أن التأبيد من شرط النكاح، والتأقيت من شرط الإجارة، وبينهما منافاة، وإيتاؤها: إعطاؤها عاجلاً، أو فرضها في المفوض، وتسميته في المسمى. والمراد بالأزواج المحلّلة له- عليه الصلاة والسلام-: نساؤه اللاتي في عصمته حينئذ، كعائشة وغيرها، وكان قد أعطاهن مهورهن، أو: جميع النساء اللاتي يريدُ أن يتزوجهن، فأباح له جميع النساء.
وهذا أوسع.
وَأحللنا لك ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من السّراري مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ من الغنائم، وهي صفية، أعتقها وتزوجها، وَبَناتِ عَمِّكَ، وَبَناتِ عَمَّاتِكَ، وَبَناتِ خالِكَ، وَبَناتِ خالاتِكَ، يعني قرابتك، التي من جهة أبيك، ومن جهة أمك. وكان له- عليه الصلاة والسلام- أعمام وعمات، إخوة لأبيه، ولم يكن لأمه ﷺ أخ ولا أخت، فإنما يعني بخاله وخالته: عشيرة أمه، وهم بنو زهرة، ولذلك كانوا يقولون: نحن أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا قلنا: المراد بقوله: أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ مَن كان في عصمته، فهذا عطف عليهن، وإباحة لأن يتزوج قرابته، زيادة على مَن كان في عصمته، وإذا قلنا: المراد: جميع النساء، فهذا تحديد لهن، على وجه التشريف، بعد دخولهن في العموم. وقوله: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ، قيد فى حلّية قرابته- عليه الصلاة والسلام-. قالت أم
447
هانئ: خطبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذرتُ إليه، فعَذَرَني، فأنزل الله هذه الآية، فلم أَحِلَ له لأني لم أُهاجر معه، كنت من الطُلَقَاءِ «١».
و «مع» هنا: ليست للاقتران، بل لوجود الهجرة فقط، كقوله: أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
«٢».
وَأحللنا لك امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ من غير مَهر ولا عقد، فهو منصوب بفعل يُفسره ما قبله، أو: عطف على ما سبقه، ولا يدفعه أن «التي» للاستقبال لأن المعنى بالإحلال: الإعلام بالحِلّ، أي:
أعلمناك حِلّ امرأة مؤمنة وهبت لك نفسها، ولا تطلب مهراً إن اتفق، ولذلك نكّرها. واختلف في اتفاق ذلك، والقائل به ذكر أربعاً: ميمونة بنت الحارث، حين جاءها الخاطب، قالت: البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجها. وزينب بنت خزيمة الأنصارية، أم المساكين، وتوفيت فى حياته صلى الله عليه وسلم، وأم شريك بنت جابر الأسدية، وقيل: أم شريك العامرية، قيل: إنّ رسول الله ﷺ تزوجها، ولم يثبت ذلك. ذكره ابن عبد البر. وخولة بنت حكيم السُلَمية. ذكر البخاري عن عائشة أنها قالت: كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن. قال أبو نعيم:
تزوجها رسول الله ﷺ ولم يدخل بها. قال السهيلي: فدلّ أنهن كن غير واحدة. والله أعلم. هـ. وقال ابن عباس: هو بيان حكم في المستقبل، ولم يكن عنده أحد منهن بالهبة، فانظره «٣».
وقرأ الحسن بفتح «أن» على حذف لام التعليل. وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه بغير «إن» أي: وأحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها، أي: طلب نكاحها والرغبة فيها. وقيل: نكح واستنكح بمعنى واحد.
والشرط الثاني تقييد للأول، كأنه قال: أحللنا لك امرأة إن وهبت نفسها، وأنت تريد أن تستنكحها، وإرادته هي:
قبول [الهبة] «٤».
جعلنا ذلك خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، بل يجب عليهم المهر، تسمية أو فرضاً. وفيه إيذان بأنه مما خصّ به- عليه الصلاة والسلام- لشرف نبوته، وتقرير لاستحقاقه الكرامة. قال ابن جزي: وانظر كيف رجع من الغيبة إلى الخطاب ليخص المخاطب وحده. وقيل: إن «خالصة» يرجع إلى كل ما تقدم من النساء المباحات له
(١) أخرجه الترمذي فى (التفسير- سورة الأحزاب ٥/ ٣٣١، ح ٣٢١٤)، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (٢/ ٤٢٠)، والبيهقي فى السنن (٧/ ٥٤) وابن جرير فى التفسير (٢٢/ ٢٠) والطبراني فى الكبير (٢٤/ ٤٠٥ ح ٩٨٥) وقال الترمذي: حسن صحيح.
(٢) من الآية ٤٤ من سورة النمل.
(٣) انظر: تفسير القرطبي (٦/ ٥٤٤٣) والبحر المحيط (٧/ ٢٣٣).
(٤) فى الأصول: الهدية.
448
صلى الله عليه وسلم لأن سائر المؤمنين قصّروا على أربع نسوة، وأبيح له- عليه الصلاة والسلام- أكثر من ذلك. ومذهب مالك:
أن النكاح بلفظ الهبة لا ينعقد، خلافاً لأبي حنيفة. هـ. قلت: إن قرنه ذكر الصداق جاز، كما في المختصر.
و (خالصة) : مصدر مؤكد، أي: خلُص إحلالها، أو: إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلوصاً لك. أو:
حال من الضمير في (وهبت)، أو: صفة لمصدر محذوف، أي: هبة خالصة لك.
قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ أي: ما أوجبنا من المهور على أمتك في زوجاتهم، أو:
ما أوجبنا عليهم في أزواجهم من الحقوق، كالنفقة وحسن المعاشرة، أو: ما فرضنا عليهم من الاقتصار على الأربع، أو: ما أوجبنا عليهم من الإشهاد والولي، وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ بالشراء وغيره من وجوه الملك، فقد علمنا ما فرضنا عليهم من الإنفاق والرفق، وألا يكلفوهن ما لا طاقة لهن به، مع حلية الوطء، ولو تعددن. وإنما وسَّعنا عليك في أمر النساء لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ضيق، وهو راجع لقوله: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
والجملة من قوله: قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا.. الخ: اعتراضية للدلالة على أن الفرق بينه وبين المؤمنين في نحو ذلك ليس لمجرد التوسيع عليه، بل لمعان تقتضي التوسيع عليه والتضييق عليهم تارة، والعكس أخرى، كنكاح الكتابية والأَمة، فتحرمان عليه ﷺ دون أُمته. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً بالتوسعة على عباده، أو: غفوراً لما يُعسر التجرُّد عنه، رحيماً بالتوسعة في مظان الحرج.
الإشارة: قد وسَّع الله على خواصه في باب النكاح، وأمدّهم في ذلك بالقوة، وأعطاهم من الباءة ما لم يُعط غيرهم، تشريفاً وترغيباً في هذا الأمر، لإبقاء النسل الطيب، ولِما فيه من التوسعة في المعرفة، وحسن الخلق، وتعلم السياسة، فدلّ ذلك أن كثرة النساء لا يُنافي الزهد، ولا يقدح في كمال المعرفة، بل يزيد فيها. قال الإمام ابن منصور المقدسي، في شرح منازل السائرين- في باب الزهد-: ومتعلق الزهد ستة أشياء، لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها، وهي: المال، والرئاسة، والناس، والنفس، وكل ما دون الله. وليس المراد رفضها عن الملِك، فقد كان داود وسليمان- عليهما السلام- من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المُلك والنساء والمِلك ما لهما. وكان نبينا ﷺ أزهد البشر على الإطلاق، وله تسع نسوة، وكان عليّ بن أبي طالب- كرّم الله وجهه، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وعثمان- رضوان الله عليهم- من الزهاد، مع مالهم من الأموال- أي: والنساء- فكان لعلىّ رضي الله عنه أربع حرائر، وسبعة عشر سرية، ولعبد الرحمن بن عوف والزبير أربع أربع، ولعثمان كذلك. وتزوج المغيرة بن شعبة تسعاً وتسعين امرأة. ثم قال: وكان الحسن بن علىّ- رضى الله عنهما- من الزهّاد، مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحهن. ثم قال: ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن وغيره، قال: ليس الزهد في الدنيا
449
بتحريم الحلال، ولا بإضاعة المال، وإنما الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أرغب منك فيها لو لم تُصبك. انتهى المقصود منه.
ثم وسّع على نبيه فى القسمة، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥١]
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١)
يقول الحق جلّ جلاله لرسوله صلى الله عليه وسلم: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي: تؤخرها في القسمة، وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أي: تضمها إليك، والمعنى: تترك مضاجعة مَن تشاء منهن وتضاجع مَن تشاء، فقد خيّره الله في القسمة وعدمها. قال أبو رزين: لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يُطلَّقن، فقلن: يا نبيَّ الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودَعْنا على حالنا «١»، فكان ممن أرجى منهن: سودة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة، فكان يقيم لهن ما يشاء، وكان ممن آوى إليه عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب، فكان يقسم لهن بالسوية «٢»، لا يفضل بعضهن على بعض. فآوى أربعاً وأرجى خمساً. وقيل: إنه كان ﷺ يسوّي بين الجميع في القسم، إلا سودة، فإنها وهبت ليلتها لعائشة، حين همّ بطلاقها، وقالت: لا تطلّقني حتى أُحْشَر في زمرتك وفي نسائك. والجمهور على أنه ﷺ كان يعدل في القسمة بين نسائه، أخذاً منه بأفضل الأخلاق، مع أن الله خيّره. وقيل: (تُرجي من تشاء) أي: تطلق من تشاء منهن، وتُمسك من تشاء. وقيل: تترك تزوج من شئت من أمتك، وتتزوج من شئت.
وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي: ومَن دعوت إلى فراشك، وطلبت صحبتها، ممن عزلت عن نفسك بالإرجاء، فلا ضيق عليك في ذلك، أي: ليس إذا عزلتها من القسمة، أو من العصمة، لم يجز لك ردّها إلى نفسك، بل افعل ما شئت، فلا حرج عليك. ذلِكَ التفويض إلى مشيئتك أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أي: هو أقرب إلى قرة أعينهن، وقلة حزنهن، ورضاهن جميعاً لأنه إذا علمن أنّ هذا الحكم من عند الله اطمأنت نفوسهنّ، وذهب التغاير، وحصل الرضا، وقرّت العيون.
(١) أخرجه بمعناه الطبري (٢٢/ ٢٦) عن أبى رزين. وانظر أسباب النزول للواحدى (ص: ٣٧١).
(٢) عزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي (ص ١٣٥ ح ٢٣٢) لابن أبى شيبة، وعبد الرزّاق، عن أبى رزين، وهذا مرسل.
450
قلت: والذي يظهر أن من أرجاه ﷺ من النساء إنما كان بوحي، ومَن ضمه كذلك إذ لا يتصرف إلا بإذن من الله، فإذا عَلِمَ النساءُ أن الإرجاء والإيواء كان بوحي من الله رضين بذلك، وقرّت أعينهن، وزال تغايرهن، وأما مطلق التفويض إليه فقط، فلا يقطع الغيرة في العادة، فالإشارة تعود إلى حكم الإرجاء والإيواء فتأمله. و «كلهن» :
تأكيد ضمير «يَرْضَيْن».
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من أمر النساء، والميل إلى بعضهن، أو: يعلم ما في قلوبكم من الرضا بحُكم الله والتفويض إليه، ففيه تهديد لمَن لم يرضَ منهن بما دبَّر الله، وفوّض إلى رسوله، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بذات الصدور، حَلِيماً لا يُعاجل بالعقوبة، فهو حقيق بأن يُتقى ويُحذر.
الإشارة: إذا تحقق فناء العبد وزواله، وتكملت ولايته، كان مفوضاً إليه في الأمور، يفعل ما يشاء، ويترك ما يشاء، لم يبقَ عليه تحجير، ولم يتوجه إليه عتاب لأن العبد المملوك إذا تحققت محبة سيده له، كتب له عقد التحرير. وشاهده حديث: «إِذَا أحَبَّ الله عَبْداً لمْ يضُره ذَنْبٌ» «١»، وحديث البخاري: «لعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غَفَرتُ لَكم» «٢»، وسببه معلوم.
وفي القوت عن زيد بن أرقم: إن الله عزّ وجل ليُحب العبد، حتى يبلغ من حبه أن يقول له: اصنع ما شئت، فقد غفرتُ لك. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه: يبلغ الولي مبلغا يقال له: أصحبناك السلامة، وأسقطنا عنك الملامة، فاصنع ما شئت. ومصداقه من كتاب الله: قوله تعالى في حق سليمان عليه السلام: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ «٣». وهذا وإن كان للنبي من أجل العصمة، فلمن كان من الأولياء في مقام الإمامة قسط منه،
(١) ذكره الغزالي فى الإحياء (كتاب المحبة ٤/ ٣٤٥) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وقال العراقي فى المغني: ذكره صاحب الفردوس- الديلمي- ولم يخرجه ولده فى مسنده. هـ. والحديث أخرجه- مطولا- القشيري فى الرسالة (باب التوبة/ ٧٦) عن شيخه «ابن فورك» بسنده عن أنس. وزاد الزبيدي فى إتحاف السادة المتقين (٩/ ٦٠٩) عز والحديث لابن أبى الدنيا، وابن النجار فى تاريخه.
قلت: معناه: أنه إذا أحب الله العبد تاب عليه قبل الموت، فلم تضره الذنوب الماضية، ولو كثرت، كما لا يضر الكفر الماضي قبل الإسلام.
(٢) جزء من حديث، أخرجه بطوله البخاري فى (الجهاد، باب الجاسوس، ح ٣٠٠٧) ومسلم فى (فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر- رضى الله عنهم ٤/ ١٩٤١- ١٩٤٢، ح ٢٤٩٤) عن سيدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
وسبب الحديث: أن حاطب بن أبي بلتعة، أرسل رسالة مع امرأة إلى قريش، يخبرهم فيه ببعض أمر رسول صلى الله عليه وسلم، فلما أتى برسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «يا خاطب! ما هذا؟» قال: لا تعجل علىّ يا رسول الله! إني كنت امرأ ملصقا فى قريش، وكان ممن كان معك من المهاجرين، لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم، فأحببت إذا فاتنى ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ فيهم يدا، يحمون بها قرابتى، ولم أفعل كفرا ولا ارتدادا عن دينى، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق» فقال عمر: دعني، يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال: «إنه قد شهد بدرا..» الحديث.
(٣) الآية ٣٩ من سورة «ص».
451
من أجل الحفظة. وقال أيضا رضي الله عنه في بعض أدعيته: وأدرج أسمائي تحت أسمائك، وصفاتي تحت صفاتك، وأفعالي تحت أفعالك، درج السلامة، وإسقاط الملامة، وتنزُل الكرامة، وظهور الإمامة. هـ.
فإذا اندرجت أسماء العبد وصفاته وأفعاله تحت أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، لم يبقَ للعبد وجود أصلاً، وكان الفعل كله بالله، ومن الله، وإلى الله. وهذا مقام عزيز، لا يناله إلا الأفراد من أهل الفناء في الله، والبقاء بالله، وقد غطى وصفهم بوصفه، ونعتهم بنعته، فغيَّبهم عن اسمهم ورسمهم، فهم بالله فيما يفعلون ويذرُون. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى:
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٢]
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢)
يقول الحق جلّ جلاله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي: من بعد التسع، اللاتي خيرتهن فاخترنك لأن التسع نِصابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن الأربع نِصاب أمته. لَمّا اخترن اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرة قصره الله عليهن، وقيل: هي منسوخة كما يأتي. أو: لا يحلّ لك نساء الأجانب، وإنما لك نساء قرابتك، كبنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك، وبنات خالاتك، فيحل لك منهن ما شئت، ولو ثلاثمائة، أو أكثر. أو: لا يحل لك النساء من غير المسلمات، كالكتابيات والمشركات. وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ بالطلاق. والمعنى: ولا أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجاً، بكلهن أو بعضهن، كرامةً لهن، وجزاء على ما اخترن ورضين. فقصر رسوله ﷺ على التسع اللاتي مات عنهن. وقال أبو هريرة وابن زيد: كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بالأزواج، يعطي امرأة هذا أياماً ويأخذ امرأته، فأنزل الله: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ بأن تُعطي بعض أزواجك وتأخذ بعض أزواجهم، إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ، فلا بأس أن تبادل بجاريتك. و «مِن» : لتأكيد النفي ليفيد استغراق جنس الأزواج بالتحريم، وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ أي: حُسْن الأزواج المتبدلة. وقيل: هي أسماء بنت عُميْس، امرأة جعفر بن أبي طالب، فإنها ممن أعجبه حسنهنّ.
وعن عائشة وأم سلمة، (ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى أَحلَّ الله له أن يتزوج من النساء ما شاء) «١»، يعني أن الآية نُسخت إما بالسُنَّة، أو: بقوله: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ. وترتيب النزول ليس على ترتيب
(١) أخرجه، عن السيدة عائشة، رضى الله عنها، أحمد فى المسند (٤/ ٤١) والترمذي فى (التفسير- سورة الأحزاب ٥/ ٣٣٢، ح ٣٢١٦) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي فى (النكاح، باب ما افترض الله عز وجل على رسوله ﷺ وحرمه على خلقه، ٦/ ٥٦) والدارمي فى (النكاح، باب قول الله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ٢/ ٢٠٥، ح ٢٢٤١) وصححه الحاكم (٢/ ٤٣٧) ووافقه الذهبي.
المصحف. إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ استثناء من النساء لأنه يتناول الأزواج، وقيل: منقطع، أي: لكن ما ملكت يمينك، فيحل لك ما شئت، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً حافظاً ومُطلعاً. وهو تحذير عن مجاوزة حدوده.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: مَن نكح أبكار الحقائق العرفانية ودخل بأسرار العلوم اللدنية، لا يحل له أن ينكح ثيبات نساء العلوم الرسمية، ولا أن يتبدل بما عنده من المواهب الربانية، بغيرها من العلوم اللسانية، ولو أعجبك حُسنها ورونقها- على الفرض والتقدير- إذ التنزُّل إليها بطالة عند المحققين، إلا ما كنت تملكه قبل علم الحقيقة، فلا بأس أن تنزل إلى تعليمه وإفادته، إن توسعت في علم الباطن، وصرت من الأغنياء الكبار، تُنفق كيف تشاء، فلا يضرك حينئذ التنزُّل إلى علم الظاهر. وقد كان شيخ شيوخنا سيدي يوسف الفاسى رضي الله عنه عنده مجلسان مجلس لأهل الظاهر، ومجلس لأهل الباطن. فإن كان في مجلس الظاهر، وجاء إليه أحد من الفقراء، يقول: اذهب حتى نأتي إلى مجلسكم، وإن كان في مجلس أهل الباطن، وجاء إليه أحد من أهل الظاهر، قال: اذهب حتى نأتي إليكم. وكان له هذا بعد الرسوخ في علم الحقيقة. وبالله التوفيق.
ولمّا أو لم- عليه الصلاة والسلام- على زينب، جلس قوم فى بيته يتحدثون، فأنزل الله تعالى فى شأنهم:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ وكانت تسعاً، إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ أي: إلا وقت أن يُؤذن لكم، أو: إلا مأذوناً لكم، فجملة: (إلا أن يُؤذن) : في موضع الحال، أو الظرف. و (غير ناظرين) : حال من (لا تدخلوا)، وقع الاستثناء على الوقت والحال، كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت
453
النبي إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غَيْرَ ناظِرِينَ أي: منتظرين إِناهُ أي: إدراكه ونضجه. قال ابن عزيز: إِناهُ: بلوغ وقته، يقال: أنِيَ يَأنَى، وآن يئين: إذا شهى، بمنزلة: حان يحين. هـ. وقال الهروي: أي:
غير ناظرين نضجه وبلوغ وقته، مكسور الهمزة مقصور، فإذا فتحت مددت، فقلت: الإناء، أي غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله.
رُوي أن النبي ﷺ أو لّم على زينب بتمر وسويق، وذبح شاةً، وأمر أنساً أن يدعوا الناس، فترادفوا أفواجاً، يأكل كل فوج، فيخرج، ثم يدخل فوج، إلى أن قال: يا رسول الله دعوتُ حتى ما أجد أحداً أدعوه. فقال: «أرفعوا طعامكم» وتفرّق الناس، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون، فأطالوا، فقام رسول الله ﷺ ليخرجوا، فطاف بالحجرات، وسلّم عليهن، ودعون له، ورجع، فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون. وكان ﷺ شديد الحياء، فتولى، فلما رأوه متولياً خرجوا، فنزلت الآية، وهي آية الحجاب. قال أنس: فضرب بيني وبينه الحجاب «١».
قال تعالى: وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا: تفرقوا، وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي: ولا تدخلوها حال كونكم مستأنسين لحديث، أو: غير ناظرين ولا مستأنسين، فهو منصوب، أو مجرور، عطف على «ناظرين»، نُهوا أن يُطيلوا الجلوس في بيته ﷺ مستأنسين بعضهم ببعض، لأجل حديث يتحدثون به، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ من إخراجكم وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، يعني أن إخراجكم حق، ما ينبغي أن يُستحى منه، ولا يُترك بيانه، حياءً، أو: لا يأمر بالحياء في الحق، ولا يَشرع ذلك.
وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ أي: نساء النبي صلى الله عليه وسلم، بدلالة البيوت عليهن لأن فيها نساءه، مَتاعاً عارية أو حاجة، فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ستر، ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ من خواطر الشيطان وعوارض الفتن. وكانت النساء قبل هذه الآية يبرزن للرجال، وكان عمر رضي الله عنه يُحب ضَرْبَ الحجاب عليهن، ويودّ أن ينزلَ فيه، وقال: يا رسول الله: يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرتَ أمهاتِ المؤمنين بالحجاب؟ فنزلت «٢».
وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام، كان يَطعمَ ومعه بعض أصحابه، فأصابت يدُ رجلٍ يدَ عائشة، فكَرِهَ النبيُّ ﷺ ذلك فنزلت الآية «٣». والله تعالى أعلم.
(١) أخرجه البخاري فى (التفسير، سورة الأحزاب، ح ٤٧٩٣) وفى (الاستئذان)، ومسلم فى (النكاح، باب زواج زينب بنت جحش ٢/ ١٠٥٢، ح ٩٥ من كتاب النكاح) من حديث سيدنا أنس رضي الله عنه.
(٢) أخرجه البخاري فى (التفسير، باب: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، ح ٤٤٨٣). عن أنس رضي الله عنه.
(٣) أخرجه الطبري فى التفسير (٢٢/ ٣٩) والواحدي فى أسباب النزول (ص ٣٧٤) عن مجاهد، مرسلا. [.....]
454
الإشارة: العلماء ومشايخ التربية ورثة الأنبياء، فإذا دَعوا إلى طعام فلا يدخل أحد حتى يُؤذن له، فإذا طعموا فلينتشروا، وإذا سأل أحدٌ حاجته من أهل دار الشيخ فليسأل من وراء الباب، وليتنحَّ عن مقابلة الباب لئلا يتكشف على عِرض شيخه، فيسيء الأدب معه، وهو سبب الخسران.
ثم نهى عن تزوج نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
وَما كانَ لَكُمْ...
يقول الحق جلّ جلاله: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أي: ما صحَّ لكم إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كفر، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً تعظيما لحرمته صلى الله عليه وسلم، ولبقاء عصمته عليهن، ولذلك وجبت نفقتهن بعده، لقوله: «ما بقي بعد نفقة أهلي صدقة». وكذا السكنى كما قد علم، وبه قال ابن العربي.
وعَطفُ (ولا أن تنكحوا) على (أن تؤذوا) من عطف الخاص على العام إذ تزوج نسائه من أعظم الإيذاء. إِنَّ ذلِكُمْ أي: الإيذاء أو التزوُّج كانَ عِنْدَ اللَّهِ ذنباً عَظِيماً.
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً من أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نكاح أزواجه، أَوْ تُخْفُوهُ في أنفسكم، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً، فيُعاقبكم عليه. رُوي أن رجلاً من الصحابة قال: لئن قُبض النبي ﷺ لأنكحنَّ عائشة، فنزلت، فَحُرّمن «١». وفيه نزلت: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أي: من نكاح عائشة، أَوْ تُخْفُوهُ... إلخ. وكان- عليه الصلاة والسلام- مَلَك قتيبة بنت الأشعث بن قيس، ولم يبنِ بها، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل، بعد ذلك، فهمَّ به أبو بكر، وشقّ عليه، حتى قال له عمر: يا خليفة رسول الله، ليست من نسائه، ولم يُخيرها، ولم يحجبها، وقد برأها الله منه بالردة، حين ارتدت مع قومها، فسكن أبو بكر. وقال الزهري: إن العالية بنت ظبيان، التي طلق النبي ﷺ تزوجت رجلاً وولدت له قبل أن يحرم أزواج النبي ﷺ «٢».
(١) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (ص ٣٧٤) بدون سند. وعزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥/ ٤٠٤) لابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنه.
(٢) أخرجه البيهقي فى الكبرى (٧/ ٧٣) عن يونس، عن ابن شهاب، بلاغا.
455
الإشارة: مذهب الصوفية تشديد الأدب مع الأشياخ، فإذا مات الشيخ، أو طلَّق امرأة بعد الدخول، فلا يتزوجها أحد من تلامذته أبداً، تعظيماً وأدباً مع الشيخ. وأما تزوج بنت الشيخ فلا بأس، إن قدر على القيام بالأدب معها، والصبر على أذاها، وإلا فالبُعد أحسن وأسلم، والله تعالى أعلم.
قال القشيري: قوله تعالى إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً.... الآية: حِفْظُ القلبِ مع الله تعالى، ومراعاةُ الأمر- بينه وبين الله على الصِّحَّةِ في دوام الأوقات لا يَقْوى عليه إلا الخواصُّ، من أهل الحضور. هـ.
ثم رخّص للأقارب أن يدخلوا على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٥]
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥)
يقول الحق جلّ جلاله: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ أن يدخلوا عليهن بلا حجاب. قال ابن عباس: لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: ونحن أيضاً نُكلمهن من وراء حجاب، فنزلت: لا جُناحَ... الخ، أي: لا إثم عليهن في أن لا يحتجبن من هؤلاء. ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقد جاء تسمية العم أباً في قوله تعالى: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ.. «١» وإسماعيل عم يعقوب، فسمّاه أباً. وذكر القاضي إسماعيل، عن الحسن والحسين: أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين. وقال ابن عباس: إن رؤيتهما لهن تحل، أي: لأنهما ولدا البعل. قال القاضي: وأحسبُ أن الحسن والحسين ذهبا في ذلك إلى أن أبناء البعولة لم يُذكروا في الآية. وقال في سورة النور: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلى قوله:... أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ «٢»، فذهب ابن عباس إلى ما في سورة النور، وذهب الحسن والحسين إلى ما في هذه السورة. هـ.
(١) الآية ١٣٣ من سورة البقرة.
(٢) الآية ٣١ من سورة النور.
وَلا نِسائِهِنَّ أي: نساء المؤمنات، فلا حجاب عليهن، وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من العبيد والإماء.
وقيل: من الإماء خاصة، وأما العبيد فهم كالأجانب. وهو المشهور، وَاتَّقِينَ اللَّهَ فيما أُمِرتُن به من الحجاب، وما نزل فيه الوحي من الاستتار، واحتطن في ذلك. ونقل الكلام فيه من الغيبة إلى الخطاب لشدة التهديد، ولذا قال: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً عالماً يعلم خطرات القلوب وهواجسها، فيعاتب عليها.
الإشارة: ما قيل في أزواج النبي ﷺ يُقال في نساء المشايخ والعلماء، فتحتجبن من جميع الخلق، إلا من محارمهن، ولا يمنعهن من إدخال محارمهن عليهن إلا جامد أو جاهل، ولا ينبغي لأحد أن يمنع زوجه من لقاء محرمها والدخول عليها إلا لفساد بيّن. وبالله التوفيق.
ثم أمر بالصلاة على رسوله ﷺ وحضّ عليها، بعد أن أمر بتعظيمه واحترامه، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٦]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه.
وقال صاحب المُغني: الصواب عندي: أن الصلاة لغة بمعنى واحد، وهو العطف، ثم العطف بالنسبة إلى الله تعالى:
الرحمة، وإلى الملائكة: الاستغفار، وإلى الآدميين: دعاء. واختاره السُّهيلي قبله. والمراد بالرحمة منه تعالى غايتها، وهو إفاضة الخير والإحسان، لا رقة القلب، الذي هو معنى الرحمة حقيقة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ أي: قولوا: اللهم صلِّ على محمد- أو: صلى الله على محمد. وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي: قولوا: اللهم سلّم على محمد، أو: صلّ وسلِّم على محمد، أو: انقادوا لأمره وحكمه، انقياداً كليًّا.
وعن كعب بن عُجْرَة: قلنا: يا رَسُولَ الله، أما السلام عليك، فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: «قولوا اللهم صلِّ على مُحمدٍ وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم، إنك حميد مجيدٌ، اللهمَّ بارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما بَارَكْت على إبراهيمَ، إنك حميد مجيد» «١». ومعرفتهم السلام من التشهُّد. والصلاة على غير الأنبياء
(١) أخرجه البخاري فى (التفسير- سورة الأحزاب، باب: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ح ٤٧٩٧).
457
بالتبع جائزة. وأما بالاستقلال فمكروه، وهو من شعار الروافض. هـ. قال الكواشي: رُوي أنه قيل يا رسول الله: أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.. الآية؟ فقال: هذا من العلم المكنون، ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم، إن الله وكَل بي ملكين، فلا أُذكر عند عبدٍ مسلم، فيُصلي عليّ، إلا قال ذانك الملكان: غفر الله لك.
وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملّكين: آمين. ولا أُذكر عند عبد مسلم، فلا يُصلي عليّ إلا قال ذانك الملكان:
لا غفر الله لك. وقال الله جوابا لذينك الملكين: آمين «١». هـ.
والصلاة على النبي ﷺ واجبة. فمنهم مَن أوجبها عند ذكره كلما ذكر، وعليه الجمهور، وهو الاحتياط للحديث المتقدم. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن ذُكرتُ عنده فلم يُصلِّ عليّ دَخَلَ النار». ومنهم مَن أوجبها في كل مجلس مرة، وإن تكرر ذكره، كتشميت العاطس وآية السجدة. ومنهم مَن أوجبها مرة في العمر. قالوا: وكذلك الخلاف في إظهار الشهادتين، وأما ذكرها في الصلاة فليست شرطاً عند أبي حنيفة ومالك، خلافاً للشافعي، والاحتياط: الإكثار منها بغير حصر، ولا يغفل عنها إلا مَن لا خير فيه. واختلف هل كانت الأمم الماضية متعبدة بالصلاة على أنبيائهم. قال القسطلاني: إنه لم ينقل إلينا ذلك، ولا يلزم من عدم النقل عدم الوقوع. هـ.
الإشارة: اعلم أن الصلاة عليه ﷺ سُلم ومعراج الوصول إلى الله لأن تكثير الصلاة عليه ﷺ توجب محبته، ومحبته- عليه الصلاة والسلام- توجب محبة الله تعالى، ومحبته تعالى للعبد تجذبه إلى حضرته، بواسطة وبغيرها. وأيضا: الرسول ﷺ وزير مقرب، ومَن رام دخول حضرة الملوك يخدم الوزير، ويتقرّب إليه، حتى يُدخله على الملِك. فهو ﷺ حجاب الله الأعظم، وبابه الأكرم، فمَن رام الدخول من غير بابه طُرِد وأُبعد، وفي ذلك يقول ابن وفا:
وأنتَ بابُ الله، أيُّ امرئ وفاه من غَيْرِكَ لاَ يدْخُلُ.
وقال الشيخ الجزولي رضي الله عنه في دلائل الخيرات: وهي من أهم المهمات لمَن يريد القرب من رب الأرباب.
وقال شارحه: ووجه أهميتها من وجوه، منها: ما فيها من التوسُّل إلى الله سبحانه بحبيبه ومصطفاه. وقد قال تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ «٢»، ولا وسيلة إليه أقرب، ولا أعظم، من رسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم.
(١) قال الهيثمي فى المجمع (٧/ ٩٣) : رواه الطبراني، وفيه الحكم بن عبد الله بن خطاف، وهو كذّاب.
(٢) من الآية ٣٥ من سورة المائدة.
458
ومنها: أن الله تعالى أمر بها، وحضَّنا عليها، تشريفاً له وتكريماً، وتفضيلاً لجلاله، ووعد مَن استعملها حُسن المآب، وجزيل الثواب، فهي من أنجح الأعمال، وأرجح الأقوال، وأزكى الأحوال، وأحظى القربات، وأعم البركات.
وبها يتوصل إلى رضا الرحمن، وتنال السعادة والرضوان، وتجاب الدعوات، ويرتقي إلى أرفع الدرجات. وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى أتريدُ أن أكون أقرب إليك من كلامك إلى لسانك، ومن وسواس قلبك إلى قلبك، ومن روحك إلى بدنك، ومن نور بصرك إلى عينيك؟ قال: نعم يا رب، قال: فأكثر من الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أنه ﷺ محبوب لله عزّ وجل، عظيم القدر عنده، وقد صلّى عليه هو وملائكتُه، فوجبت محبة المحبوب، والتقرُّب إلى الله تعالى بمحبته، وتعظيمه، والاشتغال بحقه، والصلاة عليه، والاقتداء بصلاته، وصلاة ملائكته عليه. قلت: وهذا التشريف أتم وأعظم من تشريف آدم عليه السلام، بأمر الملائكة بالسجود له لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة في ذلك التشريف. فتشريف يصدر عنه مع ملائكة أبلغ من تشريف تختص به الملائكة.
ومنها: ما ورد في فضلها، ووعَدَ عليها من جزيل الأجر وعظيم القدر، وفوز مستعملها برضا الله، وقضاء حوائج آخرته ودنياه.
ومنها: ما فيها مِن شُكر الواسطة في نعم الله علينا المأمور، بشكره، وما من نعمة لله علينا، سابقة ولا لاحقة من نعمة الإيجاد والإمداد، في الدنيا والآخرة، إِلا وهو السبب في وصولها إلينا، وإجرائها علينا، فوجب حقه علينا، ووجب علينا في شكر نعمته ألا نفتر عن الصلاة عليه، مع دخول كل نفس وخروجه.
ومنها: ما فيها من القيام برسم العبودية، بالرجوع لِما يقتضي الأصلُ نفيه، فهو أبلغ في الامتثال، ومن أجل ذلك كانت فضيلة الصلاة على النبي ﷺ على كل عمل. والذي يقتضي الأصل نفيه، هو كون العبد يتقرب إلى الله بالاشتغال بحق غيره لأن قولنا «اللهم صَلِّ على محمد» هو الاشتغال بحق محمد صلى الله عليه وسلم، وأصل التعبدات: ألا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالاشتغال بحقه. ولكن لمّا كان الاشتغال بالصلاة على محمد بإذن من الله تعالى، كان الاشتغال بها أبلغ في امتثال الأمر، فهي بمثابة أمر الله تعالى للملائكة بالسجود لآدم، فكان شرفهم في امتثال أمر الله، وإهانة إبليس في مخالفة أمره سبحانه.
ومنها: ما جُرب من تأثيرها، والنفع بها في التنوير ورفع الهمة، حتى قيل: إنها تكفي عن الشيخ في الطريق، وتقوم مقامه، حسبما نقله الشيخ السنوسي، والشيخ زروق، وغيرهما.
459
ومنها: ما فيها من سير الاعتدال، الجامع لكمال العبد وتكميله، ففي الصلاة على رسول الله ﷺ ذكر الله ورسوله، ولا كذلك عكسه، فلذلك كانت المثابرة على الأذكار والدوام عليها يحصل به الانحراف، وتُكسب نورانية تحرق الأوصاف، وتثير وهجاً وحرارة في الطباع، والصلاة على رسول الله ﷺ تُذهب وهَج الطِّباع، وتقوي النفوس لأنها كالماء البارد، فكانت تقوم مقام شيخ التربية. انتهى كلامه.
قلت: والحق الذي لا غُبار عليه: إن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والإكثار منها، تدلّ صاحبها على مَن يأخذ بيده، وتُوصله إلى شيخ التربية، الذي هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كان صادق الطلب، وأما كونها تقوم مقام الشيخ في دخول مقام الفناء والبقاء، حتى تعتدل حقيقته وشريعته فلا إذ لا تنقطع رعونات النفوس إلا بآمر وناهٍ من غيره، يكون عالماً بدسائس النفوس وخِدعها، وغاية ما توصل إليه الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم- إن لم يظفر بالشيخ- الفناء في الصفات، وينال مقام الصلاح الأكبر، ويظهر له كرامات وخوارق، ويكون من أرباب الأحوال، وإن وصل إلى مقام الفناء تكون شريعته أكبر من حقيقته.
هذا ما ذقناه، وشهدناه، وسمعناه من أشياخنا، والطريق التي أدركناهم يستعملونها، وأخذناها منهم، أنهم يأمرون المريد إن رأوه أهلاً للتربية أن يلتزم الاسم المفرد، ويفنى فيه، حتى تنهدم به عوالمه، فإذا تحقق فناؤه وغاب عن نفسه ورسمه، ردُّوه إلى مقام البقاء، وحينئذ يأمرونه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتكون صلاته عليه كاملة، يُصلي على روحه وسره بلا حجاب، ويشاهده في كل ساعة كما يشاهدونه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر أهل الغفلة والبعد، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بارتكابهم ما يكرهانه من الكفر والمعاصي والبدع. وقال ابن عباس: هم اليهود والنصارى والمشركون. فقالت اليهود: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ «١»، إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ «٢»
(١) كما ذكرت الآية ٦٤ من سورة المائدة.
(٢) كما ذكرت الآية ١٨١ من سورة آل عمران
وقالت النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «١»، إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ «٢». وقال المشركون: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه. وقيل: يؤذونه: يُلحدون في أسمائه وصفاته. ويؤذون رسول الله، حين شُج وجهه، وكُسرت رباعيتُه، وقيل له: هو ساحر وشاعر ومجنون. أو: بترك سُنَّته ومخالفة شريعته. ويحتمل أن يكون المراد يؤذون رسولَ الله فقط بالتنقيص، أو بالتعرُّض لنسائه. وذكرُ اسم الله للتشريف. لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي: أبعدهم من رحمته في الدارين وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً يُهينهم ويُخزيهم في النار.
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا بغير جناية يستحقون بها الإيذاء، فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً كذباً وَإِثْماً مُبِيناً ظاهراً، وإنما أطلق في إيذاء الله ورسوله، وقيّد إيذاء المؤمنين والمؤمنات لأن إيذاء الله ورسوله لا يكون إلا بغير حق، وأما إيذاء المؤمنين فمنه ما يكون بحق، كالحدّ والتعزير، ومنه باطل. وقيل:
نزلت في ناس من المنافقين، كانوا يؤذون عليّا رضي الله عنه، ويُسْمِعُونه، وقيل: في زُناة المدينة، كانوا يمشون في طرق المدينة، ويتبعون النساء إذا تبرزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيغمزون المرأة، فإن سكتتْ اتبعوها، وإن زجرتهم انتهوا «٣». وعن الفضيل: لا يحلّ أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق، فكيف بالمؤمنين؟. هـ.
الإشارة: إذاية الله ورسوله هي إذاية أوليائه، ونقله الثعلبي عن أهل المعاني، فقال: فأراد الله تعالى المبالغة في النهي عن أذى أوليائه، فجعل أذاهم أذاه. هـ. ويؤيده الحديث القدسي: «مَنْ آذَى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» «٤»، أو كما سبحانه. وإذاية المؤمنين كثيرة، تكون باللسان وبغيره، وقد قالوا: البَر لا يؤذي الذر. ومن أركان التصوف: كف الأذى، وحمل الجفا، وشهود الصفا، ورمي الدنيا بالقفا. وبالله التوفيق.
ثم أمر بتمييز الحرائر من الإماء فى اللباس، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٩]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩)
(١) كما ذكرت الآية ٣٠ من سورة التوبة.
(٢) كما ذكرت الآية ٧٣ من سورة المائدة.
(٣) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (ص ٣٧٧) والبغوي فى التفسير (٦/ ٣٧٦) عن الضحاك، والسدى، والكلبي.
(٤) أخرجه البخاري فى (الرقاق، باب: التواضع، ح ٦٥٠٢). من حديث أبى هريرة بلفظ: «مَن عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب..»
الحديث وأخرجه الإمام أحمد فى المسند (٦/ ٢٥٦) من حديث السيدة عائشة- رضى الله عنها- بلفظ: «من أذل لى وليّا فقد استحل محاربتى... » الحديث.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ أي: يُرخين على وجوههنّ من جلابيبهن فيغطين بها وجوهَهن. والجلباب: كل ما يستر الكل، مثل الملحفة، والمعنى: قل للحرائر يُرخين أرديتهن وملاحفَهن ويغَطين بها وجوههن ورؤوسهن، ليعلم أنهن حرائر فلا يؤذين. وذلِكَ أَدْنى أي: أقرب وأجدر، أَنْ يُعْرَفْنَ من الإماء فَلا يُؤْذَيْنَ، وذلك أن النساء في أول الإسلام كن على زيهنَّ في الجاهلية متبدّلات، تبرز المرأةُ في درج وخمار، لا فَصْل بين الحُرّة والأَمَة. وكان الفتيان يتعرّضون للإماء، إذا خرجن بالليل لقضاء حاجتهنّ في النخيل والغَيْضات «١»، وكن يخرجن مختلطات مع الحرائر، فربما تعرّضوا للحُرّة، يحسبونها أَمَة، فأُمِرن أن يخالفن بزيهنّ عن زي الإماء بلباس الجلابيب، وستر الرؤوس والوجوه، فلا يطمع فيهنّ طامع.
قال ابن عباس رضي الله عنه: أمر الله تعالى نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب، ويُبدين عيناً واحدة. قلت: وقد مرَّ في سورة النور «٢» أن الوجه والكفين ليس بعورة، إلا لخوف الفتنة، وأما الإماء فلا تسترن شيئاً إلا ما بين السرة والركبة، كالرجل. قال أنس: مرتْ جارية متقنعة بعمر بن الخطاب فعلاها بالدرة، وقال:
يا لكاع أنت تشبهين بالحرائر، فألقِ القناع. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لِما سلف منهن من التفريط، رَحِيماً بتعليمهن آداب المكارم.
الإشارة: ينبغي لنساء الخواص أن يتميزن من نساء العامة بزيادة الصَوْن والتحفُّظ، وقلة الخروج، فإذا لزمهنَّ الخروج، فليخرجن في لباس خشين، بحيث لا يُعرفن، أو يخرجن ليلاً. وثبت أن زوجة الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه لم تخرج من دارها إلا خرجتن خرْجة حين زُفت إلى زوجها، وخرجة إلى المقابر. نفعنا الله ببركاتهم. آمين.
ثم هدد المنافقين، حيث كانوا [يؤذوان] «٣» رسول الله ﷺ والمؤمنين، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٠ الى ٦٢]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٦٢)
(١) الغيضة: هى الشجر الملتف، وجمعه: غياض وغيضات. انظر اللسان (غيض ٥/ ٣٣٢٧). [.....]
(٢) راجع تفسير الآية ٣١ من سورة النور.
(٣) فى الأصول الخطية [يؤذوا]..
462
قلت: (لنُغرينك) : جواب القسم المغني عن جواب الشرط. و (ثم لا يُجاورنك) : عطف عليه لأنه يصح أن يُجاب به القسم لصحة قولك: لئن لم ينتهوا لا يُجاورنك، ولَمَّا كان الجلاء عن الوطن أعظم من جميع ما أُصيبوا به عطف بثم، لبُعد حاله عن حال المعطوف عليه. و (ملعونين) : نصب على الشتم أو الحال، والاستثناء دخل على الظرف والحال معاً، أي: لا يُجاورنك إلا قليلاً في اللعنة والبُعد، ولا يصح نصبه بأُخذوا لأن ما بعد حرف الشرط لا يعمل فيما قبله.
يقول الحق جلّ جلاله: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عن نفاقهم وإيذائهم، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فجور، وهم الزناة من قوله: «فيطمع الذي في قلبه مرض». وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ، وهم أُناس كانوا يُرجفون بأخبار السوء في المدينة، من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: هُزموا وقُتلوا، وجرى عليهم كيت وكيت، فيكسرون بذلك قلوبَ المؤمنين. يقال: رجف بكذا: إذا أخبر به على غير حقيقته لكونه خبراً مزلزلاً غير ثابت، من:
الرجفة، وهي الزلزلة، لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ: لنأمرنك بقتالهم وإجلائهم، أو ما يضطرهم إلى طلب الجلاء، أو:
لنُسلطنك عليهم، ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها في المدينة إِلَّا زمناً قَلِيلًا.
والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يُلقون من أخبار السوء، لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوءهم، بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء من المدينة، وألاّ يُساكنوك فيها إلاّ زمناً قليلاً، ريثما يرتحلون. فسمّي ذلك إغراء، وهو التحريشُ، على سبيل المجاز. حال كونهم مَلْعُونِينَ أي: لا يجاورونك إلا ملعونين، مُبعدين عن الرحمة أَيْنَما ثُقِفُوا وُجدوا، أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا، والتشديد للتكثير.
سُنَّةَ اللَّهِ أي: سنَّ اللهُ ذلك سُنَّة فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ في المنافقين الذين كانوا يُنافقون الأنبياء من قبل، ويسعون في وهنهم بالإرجاف ونحوه أن يقتّلوا أينما وُجدوا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي: لا يُبدل الله سُنَّته ولا يقدر أحد أن يبدلها، بل يُجريها مجرىً واحداً في الأمم كلهم.
قال ابن جزي: تضمنت الآية وعيد هؤلاء الأصناف إن لم ينتهوا، ولم ينفُذ الوعيد فيهم. ففي ذلك دليل على بطلان القول بوجوب إنفاذ الوعيد في الآخرة. وقيل: إنهم انتهوا وستروا أمرهم فكف عنهم إنفاء الوعيد. هـ.
الإشارة: منافقو الصوفية هم الذين ينتسبون إلى الصوفية، ويدّعون محبة القوم، وهم يعترضون على الفقراء، ويرفعون الميزان عليهم، وهم الذين في قلوبهم مرض، أي: حيرة وضيق من غم الحجاب إذ لو ارتفع عنهم
463
الحجاب لم يعترضوا على أحد، وهم المرجفون بأهل النسبة، إذا سمعوا شيئاً يسوؤهم أفشوه، وأظهروا الفرح. لئن لم ينتهوا عن ذلك ليُسلطن الله عليهم مَن يُخرجهم من النسبة بالكلية، ثم لا يبقون فيها إلا قليلاً، ممقوتين عند أهل التحقيق، أينما وُجدوا، أُخذوا بالفعل أو بالقول فيهم. وقد ألَّف بعض الفقهاء تأليفاً في الرد على الفقراء، فسلّط الله عليه من أهانه، ووَسمَه بالبلادة والجمود، ولا زال مُهاناً أينما ذُكر، والعياذ بالله.
ولما ذكر حال المنافقين، ذكر حال المشركين، لاشتراكهم فى الكفر، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٣ الى ٦٨]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧)
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨)
يقول الحق جلّ جلاله: يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ، كان المشركون يسألون رسول الله ﷺ عن وقت الساعة، استعجالاً واستهزاءً، واليهود يسألون امتحاناً لأن الله تعالى أخْفى وقتها في التوراة وفي كل كتاب، فأمر رسولَه ﷺ أن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به، ثم بيّن لرسوله عليه الصلاة والسلام- أنها قريبة الوقوع، تهديداً للمستعجلين، وإسكاتاً للممْتحنين فقال: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، لم يُطلع عليها ملكاً ولا نبيًّا.
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي: شيئاً قريباً، أو: في زمان قريب، فتنصب على الظرفية، ويجوز أن يكون التذكير لأن الساعة في معنى اليوم أو الزمان.
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ أبعدهم عن رحمته، وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ناراً شديدة التسعير، أي: الإيقاد، خالِدِينَ فِيها أَبَداً، وهذا يرد مذهبَ الجهمية في زعمهم أن النار تفنى، و (خالدين) : حال مقدَّرة من ضمير «لهم». لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يحفظهم، وَلا نَصِيراً يمنعهم ويدفع العذاب عنهم، وذلك يَوْمَ تُقَلَّبُ أو: واذكر يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ تطوف من جهة إلى جهة، كما ترى البضعة «١» من اللحم تدور
(١) البضعة: القطعة. انظر اللسان (بضع، ١/ ٢٩٦).
في القِدْرِ إذا غلت. وخصّت الوجوه لأنها أكرم موضع على الإنسان من جسده. أو: يكون الوجه كناية عن الجملة.
حال كونهم يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا في الدنيا، فنتخلص من هذا العذاب، فندّموا حيث لم ينفع الندم.
وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا، والمراد: رؤساء الكُفر، الذين لقنوهم الكفر، وزيّنوه لهم. وقرأ ابن عامر ويعقوب «ساداتنا» بالجمع، جمع: سادة، وسادة: جمع سيد، فهو جمع الجمع، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي:
أتلفونا عن طريق الرشد. يقال: ضلّ السبيلَ وأضلّه إياه، وزيادة الألف للإطلاق. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أي: مثلي ما آتيتنا منه للضلال والإضلال، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً «١» كثير العدد، تكثيراً لأعداد اللاعنين، أو: العنهم المرة بعد المرة. وقرأ عاصم بالباء، أي: لعناً هو أشد اللعن وأعظمه. وهو يدلّ على تعدُّد الأجزاء والأفراد.
الإشارة: مذهب العباد والزهّاد والصالحين: جعل الساعة نُصب أعينهم، لا يغيبون عنها، فهم يجتهدون في التأهُّب لها ليلاً ونهاراً. ومذهب العارفين الموحّدين: الغيبة عنها، بالاستغراق في شهود الحق، فلا يشغلهم الحق، دنيا ولا آخرة، ولا جنة ولا نار لما دخلوا جنة المعارف، غابوا عن كل شيء، فانخلعوا عن الكونين بشهود المكوِّن، وجعلوا الوجود وجوداً واحداً إذ المتجلي هنا وثَم واحد. وإذا كان كُبراء الضلال يُضاعَف عذابهم، وكان كبراء الهداية يُضاعف ثوابهم، يأخذون ثواب الاهتداء والإرشاد، فمَن دلّ على هُدىً كان له أجره وأجر مَن اتبعه إلى يَومِ القيامَةِ، ومَن اهتدى على يديه أحد جرى عليه أجره، وكان في ميزانه كل مَن تبعه كذلك، وفي ذلك يقول القائل:
وَالمَرْءُ في مِيزانِه أتْباعُهُ فاقْدرْ إِذَنُ قَدْرَ النبي محمد «٢»
ثم رجع إلى النهى عن إذاية الرسول، فقال:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٩ الى ٧١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١)
(١) قرأ عاصم «كبيرا» بالباء، وقرأ الباقون «كثيرا» بالتاء، من الكثرة. انظر الإتحاف (٢/ ٣٧٨).
(٢) انظر ديوان البوصيرى (ص ١٢٢)، وفيه:
465
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى من بني إسرائيل فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا. وذلك أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عرايا، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى عليه السلام يستتر لشدة حيائه، فقالوا: ما يمنع موسى من الاغتسال معنا إلا أنه آدر- والأدْرَة: انتفاخ الأنثيين- أو: به عيب من برص أو غيره، فذهب يغتسل وحده، فوضع ثوبه على حجر، ففرّ الحجر بثوبه، فلجّ في أثره يقول: ثَوْبي حَجَر، ثوبي حجر! حتى نظروا إلى سوأته، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر من بعد ما نظروا إليه، وأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضرباً، ثلاثاً أو أربعاً «١».
وقيل: كان أذاهم: ادعاءهم عليه قتل أخيه. قال علىّ رضي الله عنه: صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون، فقالت بنو إسرائيل: أنت قتلته. وكان أشدَّ لنا حبًّا، وألين منك، فآذوه بذلك، فأمر تعالى الملائكة فحملته، حتى مرت به على بني إسرائيل، وتكلمت الملائكة بمماته، حتى تحققت بنو إسرائيل أنه قد مات، فبرّأ الله موسى من ذلك، ثم دفنوه. فلم يطلع على قبره إلا الرَّخَم «٢» من الطير، وإن الله جعله أصم أبكم «٣»، وقيل: إنه على سرير في كهف الجبل. وقيل: إن قارون استأجر امرأة مومسة، لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ، فعصمها الله، وبرأ موسى، وأهلك قارون «٤». وقد تقدّم.
وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ذا جاه ومنزلة رفيعة، مستجاب الدعوة. وقرأ ابن مسعود والأعمش «وكان عبداً لله وجيهاً».
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في ارتكاب ما يكرهه، فضلاً عما يؤذي رسوله، وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً صدقاً وصواباً، أو: قاصداً إلى الحق. والسدادُ: القصدُ إلى الحق والقول بالعدل. والمراد: نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول. والحثُّ على أن يُسددوا قولهم في كل باب لأن حفظ اللسان، وسداد القول رأس كل خير، ولذلك قال: يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ أي: يوفقكم لصالح الأعمال، أو: يقبل طاعتكم، ويثيبكم عليها، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي: يمحها.
(١) أخرجه البخاري فى (الأنبياء- باب ٢٨ ح ٣٤٠٤) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(٢) الرّخم: نوع من الطير معروف، واحدته: «رخمة»، وهو موصوف بالغدر، وقيل بالقذر. انظر النهاية (٢/ ٢١٢).
(٣) أخرجه ابن جرير (٢٢/ ٥٢) والحاكم وصححه ()، وانظر الدر المنثور (٥/ ٤١٩).
(٤) ذكره البغوي فى التفسير (٦/ ٣٧٩) عن أبى العالية.
466
والمعنى: راقبوا الله في حفظ ألسنتكم، وتسديد قولكم، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم ما هو غايةُ الطُلبة من تقبل حسنَاتكم، ومن مغفرة سيئاتكم. وهذه الآية مقررة للتي قبلها، فدلت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان، ليترادف عليها النهي والأمر، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام، واتباع الأمر الوعد البليغ بتقوى الله الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه.
ثم وعدهم بالفوز العظيم بقوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الأوامر والنواهي فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً، يعيش في الدنيا حميداً، وفي الآخرة سعيداً. جعلنا الله منهم، آمين.
الإشارة: في الآية تسلية لمن أوذي من الأولياء بالتأسي بالأنبياء. رُوِي أن موسى عليه السلام قال: يا رب احبس عليّ ألسنة الناس، فقال له: هذا شيء لم أصنعه لنفسي، فكيف أفعله بك. وأوحى تبارك وتعالى إلى عزير: إن لم تطِبْ نفساً بأن أجعلك علكاً في أفواه الماضغين، لم أثبتك عندي من المتواضعين. هـ.
واعلم أن تعظيم الرسول ﷺ هو سبب السعادة والفوز الكبير، وتعظيم أولياء الله وخدمتهم هو سبب الوصول إلى الله العلي الكبير، وتقوى الله أساس الطريق، وحفظ اللسان وتحرِّي القول السديد هو سبب الوصول إلى عين التحقيق.
قال الشيخ زروق رضي الله عنه في بعض وصاياه- بعد كلام-: ولكن قد تصعب التقوى على النفس لاتساع أمرها، فتوجّهْ لترك العظائم والقواعد المقدر عليها، تُعَنْ على ما بعدها، وأعظم ذلك معصية: الغيبة قولاً وسماعاً، فإنها خفيفة على النفوس لإِلْفها، مستسهلة لاعتيادها، مع أنها صاعقة الدين، وآفة المذنبين، مَن اتقاها أفلح في بقية أمره، ومَن وقع فيها خسر فيما وراءها. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ... الآية، فجعل صلاحَ العمل متوقفاً على سداد القول، وكذلك ورد: أن الجوارح تُصبح تشتكي اللسان، وتقول: اتق الله فينا، فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا. فلا تهمل يا أخي لسانك، وخصوصاً في هذه الخصلة، فتورع فيها أكثر ما تورعُ في مأكلك ومشربك، فإذا فعلت طابت حياتك، وكفيت الشواغب، ظاهراً وباطناً. هـ.
فإذا تحققت بالتقوى، وحصّنت لسانك بالقول السديد، كنت أهلاً لحمل الأمانة، كما قال تعالى:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣)
467
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ، الأمانة هنا هي التوحيد في الباطن، والقيام بوظائف الدين في الظاهر، من الأوامر والنواهي، فالإيمان أمانة الباطن، والشريعة بأنواعها كلها أمانة الظاهر، فمَن قام بهاتين الخصلتين كان أميناً، وإلا كان خائناً. والمعنى: إنا عرضنا هذه الأمانة على هذه الأجرام العظام، ولها الثواب العظيم، إن أحسنت القيام بها، والعقاب الأليم إن خانت، فأبتْ وأشفقتْ واستعفتْ منها، مخافةَ ألاَّ تقدر عليها، فطلبت السلامة، ولا ثواب ولا عقاب. وهذا معنى قوله: فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها. فيحتمل أن يكون الإباء بإدراكٍ، خلقه الله فيها، وقيل: أحياها وأعقلها، كقوله: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً «١». ويحتمل أن يكون هذا العرض على أهلها من الملائكة والجن.
وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: وقد يقال: الأمانة هي ما أخذ عليهم من عهد التوحيد في الغيب بعد الإشهاد لربوبيته، وينظر لذلك قوله: «لن يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن».
وأما حملها على التكاليف فلا يختص بالآدمي لأن الجن أيضاً مكلف، ومناسبة الآية لِمَا قبلها: أن الوفاء بها من جملة التقوى المأمور بها. هـ.
وقيل: لم يقع عَرض حقيقةً، وإنما المقصود: تعظيم شأن الطاعة، وسماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء.
والمعنى: أنها لعظمة شأنها لو عُرضت على هذه الأجرام العظام، وكانت ذا شعور وإدراك، لأبيْن أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، مع ضعف بنيته، ورخاوة قوته، لا جرم، فإن الراعي لها، والقائم بحقوقها، بخير الدارين. هـ. قاله البيضاوي. والمراد بالإباية: الاستعفاء، لا الاستكبار، أي: أشفقن منها فعفا عنهن وأعفاهن.
وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ أي: آدم. قيل: فما تمّ له يوم من تحملها حتى وقع في أمر الشجرة، وقيل: جنس الإنسان، وهذا يناسب حملَ الأمانة على العهد الذي أخذ على الأرواح في عالم الغيب. إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا حيث تعرض لهذا الخطر الكبير، ثم إن قام بها ورعاها حق رعايتها خرج من الظلم والجهل، وكان صالحاً أمينا
(١) الآية ١١ من سورة فصلت.
468
عدولاً، وإن خانها ولم يقم بها، كان ظلوماً جهولاً، كلٌّ على قدر خيانته وظُلمه، فالكفار خانوا أصل الأمانة، وهي الإيمان فكفروا، ومن دونهم خانوا بارتكاب المناهي أو ترك الطاعة، فبعضهم أشد، وبعضهم أهون، وكل واحد عقوبته على قدر خيانته.
ثم علل عرضها، وهو: لتقوم الحجة على عباده، فقال: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ حيث لم يقوموا بها، وخانوا فيها، فتقوم الحجة عليهم، ولا يظلم ربك أحداً. وقال أبو حيان: اللام للصيرورة والعاقبة. وقال أبو البقاء: اللام متعلق بحَمَلَها، وحينئذ تكون للعاقبة قطعاً. وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ، حيث حملوا الأمانة، إلا أن العبد لا يخلو من تفريط، قال تعالى: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ «١» وقال:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «٢» ولذلك قال: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً، فالغفران لمن لَحِقه تفريط وتقصير، والرحمة لمَن اجتهد قدر طاقته، كالأولياء وكبار الصالحين.
والحاصل: أن العذاب لمَن تحملها أولاً، ولم يقم بحقها ثانياً. والغفران لمَن تحملها وقام بحقها، والرحمة لمَن تحملها ورعاها حق رعايتها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال هي شهود أسرار الربوبية في الباطن، والقيام بآداب العبودية في الظاهر، أو تقول: هي إشراق أسرار الحقائق في الباطن، والقيام بالشرائع في الظاهر، مع الاعتدال، بحيث لا تغلب الحقائق على الشرائع، ولا الشرائع على الحقائق، فلا يغلب السُكْرُ على الصحو، ولا الصحو على السُكْر. وهذا السر خاص بالآدمي لأنه اجتمع فيه الضدان اللطافة والكثافة، النور والظلمة، المعنى والحس، القدرة والحكمة، فهو سماوي أرضي، رُوحاني بشري، معنوي وحسي. ولذلك خصّه الله تعالى من بين سائر الأكوان بقوله: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ «٣» أي: بيد القدرة والحكمة، فكان جامعاً للضدين، ملكياً ملكوتيًّا، حسه حِكْمةٌ، ومعناه قدرة. وليست هذه المزية لغيره من الكائنات، فالملائكة والجن معناهم غالب على حسهم، فإذا أشرقت عليهم أنوار الحقائق غلب عليهم السكر والهَيَمان، والحيوانات والجمادات حسهم غالب على معناهم، فلا يظهر عليهم شيء من الأنوار والأسرار.
(١) الآية ٢٣ من سورة عبس.
(٢) الآية ٦٧ من سورة الزمر.
(٣) من الآية ٧٥ من سورة (ص).
469
وهذا السر الذي خُصّ به الآدمي هو كامن فيه، من حيث هو، كان كافراً أو مؤمناً، كما كَمُن الزبد في اللبن، فلا يظهر إلا بعد الترييب والضرب والمخض، وإلا بقي فيه كامناً، وكذلك الإنسان، السر فيه كامن، وهو نور الولاية الكبرى، فإذا آمن ووحّد الله تعالى، واهتز بذكر الله، وضرب قلبه باسم الجلالة، ظهر سره، إن وجد شيخاً يُخرجه من سجن نفسه وأسر هواه.
وله مثال آخر، وهو أن كمون السر فيه ككمون الحَب في الغصون قبل ظهوره، فإذا نزل المطر، وضربت الرياح أغصان الأشجار، أزهرت الأغصان وأثمرت، وإليه أشار في المباحث الأصلية، حيث قال:
وَهِيَ مِن النفوس في كُمُون... كما يكون الحَبُّ في الغصون
حتى إذا أرعدت الرعود... وانسكب الماء ولان العود
وجال في أغصانها الرياح... فعندها يرتقب اللقاح
ثم قال:
فهذه فواكه المعارف... لم تشر بالتالِد أو بالطارف «١»
ما نالها ذو العين والفلوس... وإنما تُباع بالنفوس
فلا يظهر هذا السر الكامن في الإنسان إلا بعد إرعاد الرعود فيه، وهي المجاهدة والمكابدة، وقتل النفوس، بخرق عوائدها، وبعد نزول أمطار النفخات الإلهية، والخمرة الأزلية، على يد الأشياخ، الذين أهَّلهم الله لسقي هذا الماء، وتجول في أغصان عوالمه رياح الواردات، وينحط مع أهل الفن، حتى يسري فيه أنوارهم، ويتأدّب بآدابهم، فحينئذ ينتظر لقاح السر فيه، ويجني ثمار معارفه، وإلا بقي السر أبداً كامناً فيه. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
(١) التالد: المال القديم الأصلى، الذي ولد عندك، وطال فى ملكك. انظر اللسان (تلد، ١/ ٤٣٩) والطارف والطريف: الحادث من المال، أي: الذي تجدد ملكه، وهو ضد التالد. انظر (طرف، ٤/ ٢٦٥٧) وانظر شرح الأبيات فى الفتوحات الإلهية (١١٧- ١٢٦). [.....]
470
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
والمرء فى ميراثه أتباعه فاقدر إذن فضل النبي مُحَمد