ﰡ
وهناك مسألة مشتركة أخرى بين هذه السورة وسورة الأحزاب وهي عادة الظهار الجاهلية. فقد احتوى مطلع سورة الأحزاب تنديدا بهذه العادة ولكنه مترافق مع التنديد بعادة التبني الجاهلية. ثم احتوى تشريعا في إلغاء التبني دون الظهار.
في حين أن التنديد بالظهار في هذه السورة رافقه تشريع. بحيث يحتمل أن يكون تنديد سورة الأحزاب هو السابق كخطوة أولى ثم جاء التشريع في هذه السورة كخطوة ثانية وبحيث قد يصح أن يكون في هذا قرينة على سبق فصل سورة الأحزاب على فصل الظهار في هذه السورة: والله أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ١ الى ٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤). في الآيات:
(١) إشارة إلى حادث شكوى امرأة إلى الله ورسوله من زوجها ومجادلتها في حالتها وإيذان بأن الله قد سمع قولها وسمع المحاورة التي دارت بينها وبين النبي.
(٢) والتفات تعنيفي إلى الذين يظاهرون من زوجاتهم. ووضع للأمر في
(٣) وتعقيب تشريعي في حالة الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا، فيجب عليهم أن يعتقوا رقبة كفارة، توبة قبل أن يتماس الزوجان جنسيا وحينئذ يحل لهم ذلك. فإذا لم يجدوا رقبة يعتقونها أو لم يستطيعوا شراء عبد وعتقه فعليهم أن يصوموا بدلا من ذلك شهرين متتابعين. فإذا لم يستطيعوا فعليهم أن يطعموا ستين مكسينا وقد انتهت الآيات بالتنبيه إلى وجوب الوقوف عند أوامر الله وحدوده وبإنذار الجاحدين بعذاب الله الأليم توخيا للتشديد في تسفيه هذا التقليد كما هو المتبادر.
تعليق على الآية قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) والآيات الثلاث التالية لها وما ورد فيها من أحاديث وتعلق بها من أحكام وما فيها من تلقين ودلالة على قوة شخصية المرأة العربية
لقد روى المفسرون «٢» سبب نزول هذه الآيات في خبر طويل، رأينا من المفيد إيراده لما فيه من فوائد وطرائف وتلقين وأحكام، حيث روي عن ابن عباس أن امرأة أنصارية اسمها خولة رآها زوجها أوس بن الصامت ساجدة في صلاتها، فلما انصرفت أرادها فأبت عليه فغضب عليها فقال لها أنت عليّ كظهر أمي ثم ندم على ما قال ولكنه قال لها ما أظنك إلّا حرمت عليّ فقالت لا تقل ذلك. وأت رسول الله ﷺ فاسأله. فقال إني أستحي منه فقالت دعني أسأله. فقال سليه فأتت رسول الله ﷺ فقالت إن زوجي تزوجني وأنا شابة غانية ذات مال وأهل. حتى إذا أكل
(٢) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير.
وقد روى الخبر أصحاب السنن باختصار ليس فيه ما قد يلمح في هذا النصّ الطويل من تناقض حيث رووا عن خولة بنت مالك بن ثعلبة «قالت ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله ﷺ أشكو إليه فجادلني فيه وقال اتقي الله فإنه ابن عمك فما برحت حتى نزل القرآن قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها... إلخ فقال يعتق رقبة قالت: لا يجد. قال يصوم شهرين متتابعين قالت يا رسول الله: إنه شيخ كبير. قال فليطعم ستين مسكينا. قالت ما عنده شيء يتصدق به. قالت فأتي ساعتئذ بعرق من تمر قلت يا رسول الله فإني أعينه بعرق آخر. قال: قد أحسنت اذهبي فأطعمي عنه بها ستين مسكينا وارجعي إلى
ولقد جاء في أوائل سورة الأحزاب آية احتوت تسفيها لعادة الظهار. وقد ذكرنا في سياق تفسيرها مدلول هذه العادة وأسبابها وأثرها في الجاهلية فلا نرى حاجة إلى التكرار. والمتبادر أن آية الأحزاب نزلت قبل هذه الآيات، فكانت خطوة أولى في تسفيه هذه العادة ثم جاءت هذه الآيات لتكون حاسمة في تشريع إبطالها.
ولقد تعددت الأقوال في تخريج جملة ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا صرفيّا وفقهيّا ونحويّا حتى اعتبرها بعضهم من مشكلات القرآن. ومن هذه الأقوال أنها بمعنى العودة إلى الوطء أو بمعنى الندم والعودة عما قالوا أو فيما قالوا أو بمعنى العودة إلى عادة الجاهلية فيعتبرون الظهار طلاقا أو بمعنى العودة إلى لفظ الظهار ثانية.
أو بمعنى العودة إلى تحليل ما حرّموه ونقض ما أبرموه «٢».
ويبدو على ضوء الروايات الواردة أن أوجه الأقوال وأكثرها اتساقا مع فحوى الآيات كون الجملة بمعنى الندم والرغبة في العودة عما قالوا وتحليل ما حرموا ونقض ما أبرموا حيث جعل الله لهم فرصة لذلك بالكفارة قبل التماسّ.
وجملة وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ تكون في مقامها بمعنى إن الله تعالى حينئذ يعفو عمن ظاهر من امرأته فارتكب منكرا من القول وزورا.
نقول هذا ونحن غير مطمئنين تماما إلى كون معنى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا هو (ثم يعودون عما قالوا) لأن في السورة آية تأتي بعد قليل فيها تعبير مماثل ولا يمكن أن يؤول بهذا التأويل، فضلا عن كون هذا التأويل غير مستقيم لغويّا.
وهي أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ [المجادلة: ٨].
وقد كان الأوجه أن تؤول تأويلا يتسق مع ذلك فيكون معنى الجملة (ثم
وفي تفسير ابن كثير صيغ أخرى لرواية هذا الحادث مختلفة في التفصيل متفقة في النتائج فاكتفينا بما أوردناه.
(٢) انظر تفسير الطبري والطبرسي والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري.
والمستفاد من أقوال المفسرين أنه لا يترتب كفارة على من لا يريد أن يعود إلى معاشرة زوجته جنسيا. وقد يكون هذا متسقا مع فحوى الآية. غير أن المتبادر أن الزوج في مثل هذه الحالة يظل موضع سخط الله المنطوي في الآيات لأنه قال منكرا من القول وزورا ولم يرجع عنه ليستحق عفو الله وغفرانه.
ولقد قال الزمخشري إن المظاهر إذا امتنع عن الكفارة فلا مرأته أن تراجع القاضي وعلى القاضي أن يجبره على الكفارة وأن يحبسه حتى يكفر. لأن في امتناعه ضررا بحق زوجته. ولا يخلو هذا من وجاهة. لأن فيه حماية للمرأة التي استهدفها القرآن والسنة في مختلف المناسبات على ما مرّ التنبيه عليه. لولا أن تكون مسألة حبس المظاهر حتى يكفر تتحمل التوقف. فقد لا يكون في استطاعته التكفير وقد يظل مصرا على عدم التكفير ولا يعقل أن يظل محبوسا إلى آخر العمر.
ولم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه فرض حالة إصرار الزوج المظاهر على الامتناع عن الكفارة. ولم نطلع في ذلك على أثر نبوي أو راشدي. ولما كان من أهداف الظهار في الجاهلية تعليق الزوجة حتى لا تكون زوجة ولا مطلقة كالإيلاء على ما شرحناه في سياق آيات سورة البقرة [٢٢٦- ٢٢٧] وآية سورة الأحزاب [٤] فالذي يتبادر لنا أن هذه الحالة تقاس على حالة الإيلاء. وآيات الإيلاء في البقرة جعلت لهذه الحالة مدة أربعة أشهر فإما أن يراجع الزوج زوجته وإما أن تعد طالقة منه طلقة بائنة على ما شرحناه أيضا في سياق شرحها. فيصح والحالة هذه أن يقال إن على المظاهر إما أن يكفر ويعود إلى معاشرة زوجته وإما أن تطلق منه طلقة بائنة. ولما لم يكن للكفارة مدة فإن للحاكم أن يعين مدة لها فإذا لم يكفر المظاهر خلالها ويعود إلى زوجته طلق الزوجة منه طلقة بائنة حماية لها من بقائها معلقة لا زوجة ولا مطلقة. وقد يصح أن تجعل المدة القصوى للإيلاء
وفي كتب التفسير تعليقات وتفريعات أخرى حول هذه المسألة كثير منها معزوّ إلى ابن عباس ولبعض التابعين وإلى الأئمة أبي حنيفة والشافعي والحنبلي والمالكي وأبي يوسف. وبينها خلاف. نوجز أهمها مما يتصل بفحوى الآيات فيما يلي مع التعليق عليها بما يعنّ لنا «١» :
١- من الأئمة من قال إن الظهار يتحقق والكفارة تصبح واجبة إذا قال الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي أو كبطن أمي أو كفخذ أمي، أي دون أن يقتصر على الظهر.
وقد لا يخلو هذا من وجاهة من حيث القياس والهدف. مع التنبيه على أن الظهار الجاهلي الذي هو المقصود كان يستعمل فيه الظهر. ومنه جاءت التسمية.
٢- من الأئمة من قال إن الظهار يتحقق والكفارة تصبح واجبة إذا قال الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أختي أو بنتي أو عمتي أو خالتي، أي ما هو محرم عليه نكاحه من النساء. ومنهم من قال إن الظهار لا يتحقق إلّا بتشبيه الزوجة بالأم أخذا بنصّ الآية. وهذا القول هو الأوجه المتسق مع النصّ. وإن كان القول الأول قد يكون صحيحا من حيث القياس والهدف أيضا.
٣- ومنهم من قال إن الظهار لا يجعل الوطء فقط محرما قبل الكفارة بل يجعل كل نوع من الاستمتاع ببدن المرأة أيضا حراما. ومنهم من قال لا يحرم إلّا الوطء فقط. وكلا القولين وجيه، وإن كنا نرجح الثاني لأن الآية إنما نهت عن التماس قبل الكفارة. والتماس هو الوطء على ما يستفاد من آيات في سورتي البقرة والأحزاب عبر بها عن الوطء بالمسّ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: ٢٣٦] ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب: ٤٩].
لا والله فانطلقت إلى رسول الله فأخبرته فقال: أنت بذاك يا سلمة قلت: أنا بذاك يا رسول الله مرتين وأنا صابر لأمر الله فاحكم بما أمرك الله به، قال: حرّر رقبة قلت: والذي بعثك بالحق نبيا ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي، قال:
فصم شهرين متتابعين، قال: وهل أصبت بالذي أصبت إلّا من الصيام، قال: فاطعم وسقا من تمر ستين مسكينا، قلت: والذي بعثك بالحق نبيا لقد بتنا وحشين لا نملك لنا طعاما. قال: فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق (أي الموظف) فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند النبي ﷺ السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم» «١» وقد روى هذا النص أبو داود والترمذي أيضا «٢» وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي حديثا آخر من هذا الباب عن ابن عباس جاء فيه (أن رجلا أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إني قد ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر فقال: وما حملك على ذلك يرحمك الله؟ قال؟ رأيت خلخالها في ضوء القمر قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به» «٣». والحديثان من الأحاديث المعتبرة حيث يمكن أن يقال في هذه الحالة إن النبي ﷺ رأى من الحكمة أن يهون على الرجل في أمر جرى وانقضى ولا سيما أن التشريع القرآني جاء لإلغاء تقليد الظهار الجاهلي وما يترتب عليه من تحريم وطء الزوجة. وإن الكفارة قد شرعت
(٢) التاج ج ٢ ص ٣٢٣.
(٣) المصدر نفسه ص ٣٢٢ وأورد هذا الحديث بخلاف يسير ابن كثير والزمخشري أيضا. وفي نصّ الزمخشري ورد اسم سلمة بن صخر حيث قد يفيد هذا أن الحادث واحد.
ومع ذلك فالواضح من نصّ الحديثين وروحهما أنهما لا يبيحان الوطء قبل الكفارة، حيث تظل القاعدة الحكمية وهي حرمة الوطء قبل الكفارة محكمة. والله أعلم.
وفي ما جرى من حوار بين النبي ﷺ وسلمة الوارد في الحديث الأول ومساعدة النبي ﷺ له على الكفارة من بيت المال ما يفيد إيجاب تنفيذ أمر الله بالكفارة بأية وسيلة كانت وعدم جواز تركها واستحلال وطء الزوجة بدونها. وإيجاب مساعدة بيت المال لغير القادرين على الصوم على الكفارة المالية ولو بإطعام ستين مسكينا. والله أعلم.
٤- من الأئمة من أجاز عتق رقبة كافرة أو ذمية لأن العبارة القرآنية مطلقة.
ومنهم من لم يجز ذلك قياسا على كفارة قتل الخطأ المشابهة بعض الشيء لكفارة الظهار باستثناء إطعام ستين مسكينا والتي قيدت الرقبة في الآية التي وردت فيها بقيد مؤمنة فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ... [النساء: ٩٢] والقول الثاني هو الأوجه فيما نرى إلا في حالة عدم وجود رقبة مؤمنة.
٥- اتفق الأئمة على أن كفارة الظهار تتكرر كلما تكرر صدوره إلّا إذا كان التكرار في مجلس واحد. وهذا وجيه وصواب. وقد يكون من الصواب أيضا أن التكرار لو لم يكن في مجلس واحد وكان قبل الكفارة كفت كفارة واحدة والله أعلم.
٦- أكثر الأئمة على أن ترتيب أنواع الكفارة واجب المراعاة فالأوجب هو تحرير رقبة أولا فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا. وهذا حق متسق مع نص الآيات وروحها.
غير أن هناك من أجاز الإخلال بالترتيب لمعذرة. فأجاز الصيام دون عتق الرقبة لمن عنده رقبة إذا كان لا يستغني عنها أو لمن عنده ما يشتري به رقبة إذا كان لا يستغني عن ثمنها لنفقة عياله. وأجاز الانتقال من الصيام إلى إطعام الطعام لمن اشتد به الشبق ولم يستطع الصبر إلى الانتهاء من صيام الشهرين. ولسنا نرى في
٧- وهناك من أجاز لمن لم يقدر على عتق الرقبة وصيام شهرين متتابعين وأراد إطعام المساكين الستين أن يطأ زوجته قبل الإطعام أيضا استنباطا من تأخير هذا عن العملين الأولين في ترتيب النصّ القرآني. ونرى في هذا بعدا عن روح الآيات لأن جملة إطعام الطعام تابعة للكلام الأول ومعطوفة عليه وتتمة له.
٨- وهناك من أساغ وطء زوجته في ليالي صيامه الشهرين لأنه باشر القيام بواجب الكفارة. ونقول هنا ما قلناه في صدد القول الأول.
٩- والمستفاد من أقوال المفسرين المعزوة إلى أئمة الفقه أو الواجب هو إطعام ستين مسكينا طعام يوم كامل من الطعام الذي يقتات به أهل البلد. وهو صواب. ومنهم من أجاز إطعام مسكين واحد ستين يوما ومنهم من أوجب مراعاة النصّ القرآني وهو الأوجه فيما نرى.
هذا، وفي الآيات أمور جديرة بالتنبيه والتعليق:
فأولا: إنها توخت رفع الحيف والظلم عن المرأة وكانت مظهرا آخر من مظاهر عناية القرآن بها.
وثانيا: إن في الكفارة المفروضة وسيلة إلى تحرير العبيد والبرّ بالمساكين.
وهذا وذاك مما حثّ عليهما القرآن في مواضع عديدة.
وثالثا: إن الآية الأولى بخاصة احتوت صورة قوية لشخصية المرأة العربية المسلمة في عهد النبي ﷺ في مجادلتها عن حقها ومحاولة دفع الضيم عنها وفي ما انتهى الموقف إليه من سماع الله لقولها وإنزاله قرآنا بإنصافها وحمايتها. وفي هذا سند يسند حق المرأة المسلمة في الدفاع عن نفسها، واحترام هذا الحق وما يترتب عليه من التسليم لها به من قبل أولياء الأمر والأفراد والأزواج. وفيه أسوة حسنة دائمة للمرأة المسلمة تتأسى به في كل ظرف ومكان في الجرأة والدفاع عن حقها أمام أولياء الأمر والأفراد والأزواج. وفيه دليل على أن المرأة العربية
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٥ الى ٦]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦)
. (١) يحادّون: يشاقّون ويعادون.
(٢) كبتوا: ذلوا وخزوا وأهلكوا.
عبارة الآيتين واضحة. وفيهما تقرير إنذاري وتنديدي بالذين يشاقون الله ورسوله: فهؤلاء مصيرهم إلى الذل والخزي والهلاك كما كان مصير أمثالهم من قبلهم. والله إنما ينزل آياته واضحات ليتعظ الناس بها والكافرون هم الذين لا يتعظون بها. فلهم عند الله العذاب الأليم. ولسوف يبعثهم جميعا إليه وينبئهم بأعمالهم فيرونها محصاة عليهم في حين قد يكونون هم أنفسهم نسوها وذهلوا عنها. لأن الله لا يخفى عليه شيء. وهو شهيد ومطلع على كل شيء.
ولم نطلع على رواية في صدد نزول الآيتين. وهناك احتمالان: الأول أن تكونا معقبتين على السياق السابق الذي انتهى بتقرير كون ما جاء فيه هو حدود الله وبإنذار الكافرين بعذاب أليم. والثاني أن تكونا بداية ومقدمة للسياق الآتي الذي احتوى تنديدا بفريق من المتظاهرين بالإسلام كانوا يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول.
وكلا الاحتمالين وارد بنفس القوة. فإذا صح الاحتمال الأول تكون الصلة قائمة بين الآيتين وما سبقها. وفي حالة صحة الاحتمال الثاني فمن المحتمل أن تكون الآيات نزلت عقب الآيات السابقة فوضعت بعدها في السورة. وإلّا فتكون وضعت بعدها لما يجمع بينها وبين سابقها من إنذار الكافرين. والله أعلم.
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٧ الى ١٠]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠). (١) نجوى: اجتماع سرّي أو مساررة حديث.
(٢) يتناجون: يتسارّون أو يتحدثون في مجالسهم السرّية.
(٣) لولا: هنا بمعنى هلّا للتحدي.
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور خبيثة عن اليهود والمنافقين وما فيها من تحذير وتلقين
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت:
(١) تقريرا وتوكيدا بعلم الله تعالى لكل ما يعمله الناس بالسرّ والعلن مهما بالغوا بالتخفي والمساررة وكونهم تحت رقابته الدائمة الشاملة.
(٢) وتنديدا بفريق من الناس نهوا عن الاجتماعات السرّية فلم ينتهوا وظلوا يعقدون هذه الاجتماعات ويتحدثون فيها بما فيه الإثم والعدوان ومعصية الرسول.
ثم بلغ من تحديهم وسوء أدبهم أنهم كانوا إذا جاءوا إلى الرسول حيّوه بغير تحية الله وقالوا في أنفسهم هلّا عذبنا الله على ما نقول ونفعل.
(٤) وتنبيها تطمينيا لهم: فإذا تسارر فريق من الناس بما فيه إثم وكيد فالشيطان هو الذي يوسوس لهم بذلك ليحزنهم. غير أنهم لن يضروهم بشيء إلّا بإذن الله وعليهم أن يتكلوا عليه فهو وحده الذي يتوكّل عليه المؤمنون.
والآيات فصل جديد كما هو المتبادر إلّا احتمال كون الآيتين السابقتين مقدمة له. والمتبادر أن الآية الأولى منها في مثابة تمهيد أو مقدمة للآيات الثلاث التالية لها.
وقد روى المفسرون «١» أن الآية الثانية نزلت في جماعة من المنافقين واليهود كانوا يعقدون مجالس خاصة يتحدثون فيها بما فيه كيد وتآمر على النبي والمؤمنين وكانوا يفعلون هذا في ظروف الأعمال الجهادية والأزمات، وإذا مرّ بهم فريق من المؤمنين المخلصين غمزوا نحوهم فكان ذلك يثير الهمّ والقلق فيهم فشكوا إلى رسول الله. كما رووا أنها عنت أيضا اليهود الذين كانوا يستعملون جملة (السام عليكم) بدلا من السلام عليكم إذا دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك حديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة أم المؤمنين قالت «دخل رهط من اليهود على رسول الله ﷺ فقالوا السام عليكم ففهمتها فقلت عليكم السام واللعنة فقال رسول الله مهلا يا عائشة فإن الله يحبّ الرفق في الأمر كلّه فقلت يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟ قال فقد قلت وعليكم» وفي رواية لمسلم «فسمعت عائشة فسبّتهم فقال رسول الله مه يا عائشة فإن الله لا يحبّ الفحش ولا التفحّش فأنزل الله عزّ وجل وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ» «٢».
وهكذا تكون الروايات والحديث قد قسمت الآية الثانية إلى قسمين وجعلت
(٢) التاج ج ٥ ص ٢٢٧.
وهذا لا ينقض صحة الحديث والرواية حيث يصح القول إن ما روي جميعه قد وقع قبل نزول الآيات مع شيء آخر هو ما تفيده الآية الثانية من نهي الفريق المعني فيها عن التناجي الآثم فلم يرتدع فاقتضت حكمة التنزيل إنزال الآيات الأربع منبهة منددة منذرة مرشدة ومطمئنة.
ولقد روى الترمذي في فصل التفسير حديثا عن أنس قال «أتى يهوديّ على النبي ﷺ وأصحابه فقال السام عليكم فردّ عليه القوم فقال نبي الله هل تدرون ما قال هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم. سلّم يا نبي الله. قال لا ولكنه قال كذا وكذا ردوه عليّ فردوه فقال قلت السام عليكم. قال نعم. قال ﷺ عند ذلك إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك ما قلت قال وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ» «١».
ومع أن الرواية والأحاديث تذكر أن اليهود هم الذين كانوا يحيون النبي بما لم يحيّه به الله فإن الجملة القرآنية شاملة للذين حكت تناجيهم بالإثم والعدوان وروت الرواية أنهم كانوا فريقا خليطا من المنافقين واليهود فإما أن تكون الآية احتوت الإشارة إلى هذا في مناسبة التنديد بتناجي هذا الفريق الخليط الآثم. أو أن المنافقين أيضا صاروا يقلدون اليهود في تحيتهم الخبيثة.
وإذا صحّ أن المنافقين كانوا فريقا من المتناجين مع اليهود فيكون هذا قرينة على أن هذا الفصل قد نزل قبل الفصل الذي احتوى خبر وقعتي الخندق والتنكيل ببني قريظة الواردة في سورة الأحزاب أو على أن فصل سورة الأحزاب المذكور نزل بعده على ما نبهنا عليه في مقدمة السورة.
وعلى كل حال ففي الآية الثانية بخاصة صورة للمواقف الخبيثة التي كان
ومع خصوصية الآيات فإنها تحتوي تلقينات وتأديبات اجتماعية عامة وعظات بليغة مستمرة المدى:
(١) بوجوب مراقبة الله والإيقان بأنه شاهد على كل شيء.
(٢) وبوجوب الحذر نتيجة لذلك من الكيد والأذى والتآمر بالسوء سرّا وجهرا.
(٣) وبوجوب اجتناب ما من شأنه إثارة القلق في المجتمع بالاجتماعات والمجالس السرية المريبة.
(٤) وبوجوب مراعاة عواطف الناس وشعورهم وبخاصة في أوقات أزماتهم.
(٥) وبحظر التآمر في المجالس والاجتماعات السرية على ما فيه بغي وإثم ومعصية، وبتقبيحه.
(٦) وبوجوب تجنب الألفاظ المريبة في التحية والمعاشرة والآداب السلوكية مع الناس.
(٧) وبحق الحاكم وولي الأمر في النهي عن كل ذلك وزجر الذين يفعلونه.
(٨) وبتقرير كون الأمثل للمؤمنين ألا يتناجوا ولا يتحدثوا في مجالسهم إلّا بما فيه خير وبرّ ونفع وتقوى وأن ينزهوها عن كل ما فيه إثم وعدوان.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن ابن عمر قال «قال رسول الله ﷺ إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلّا بإذنه فإن ذلك يحزنه» «١» حيث ينطوي في الحديث تأديب سلوكي نبوي رفيع للمسلمين مستمر المدى.
الجزء الثامن من التفسير الحديث ٣١
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١). (١) تفسّحوا: بمعنى افسحوا ووسعوا لبعضكم.
(٢) انشزوا: انهضوا.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا | وما فيها من تأديب وتلقين وما ورد في ذلك وفي فضل العلماء من أحاديث |
(١) أمر للمسلمين بالتوسيع والتفسح لبعضهم في المجالس حتى ولو اقتضى ذلك النهوض منها إذا طلب منهم.
(٢) وتنويه وتطييب بالذين يفعلون ذلك.
والآية فصل جديد. وقد روى المفسرون أن المسلمين كانوا يتحلقون حول النبي ﷺ ويتزاحمون على التقرب منه فكان يأتي آخرون فلا يجدون مكانا فيظلون وقوفا وكان النبي يرغب في تكريم بعض كبار أصحابه أو رجال بدر في مجالسه فيطلب من أحد الجالسين إعطاء مجلسه لغيره فيستثقل ويكره فأنزل الله الآية ليكون فيها تأديب وتطييب «١».
والرواية وجيهة ومتسقة مع روح الآية كما يبدو. ولعل بعض الناس كانوا إذ لا يجدون مكانا يجلسون لحدتهم فيكون ذلك وسيلة للتسارر والتناجي أو لعل المنافقين بخاصة كانوا يفعلون ذلك فتوخت الآية إفساح المجالس حتى لا يكون ضيقها عذرا لهؤلاء. وإذا صح هذا فتكون المناسبة قائمة بشكل ما بين الآية
وعلى كل حال فإن هناك تناسبا موضوعيّا بين الآية وسابقاتها من حيث احتواؤها تأديبا وتعليما للمسلمين. ويصح أن يكون ذلك سبب وضعها بعده أيضا. والله أعلم.
وإطلاق الخطاب في الآية يجعل التأديب والتنويه والتطييب الذي احتوته عام الشمول في المواقف والمناسبات المماثلة كما هو واضح.
ويمكن أن يلمح في الفقرة الثانية بالإضافة إلى معنى التطييب معنى الإشادة بطبقتي العلماء والورعين وإيجاب تقديمهما على غيرهما، كما يمكن أن يلمح فيها تلقين روحي بليغ المدى بكون رفعة القدر إنما يجب أن تلتمس بالخلق الكريم والذوق السليم والأدب في المجالس وبالعقل والعلم وليس بالمظاهر والبروز في المجالس.
ولقد أورد المفسرون «١» أحاديث نبوية عديدة في سياق هذه الآية وما فيها من تأديب وتلقين. منها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما ورد في غيرها. وما ورد في غيرها لا يبعد عمّا ورد فيها. منها حديث عن ابن عمر قال «قال النبي ﷺ لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ولكن تفسّحوا وتوسّعوا» «٢». وحديث عن عبد الله بن مسعود قال «قال رسول الله ﷺ لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا» «٣». وحديث عن أبي هريرة قال «قال النبي ﷺ لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه. ولكن افسحوا يفسح الله لكم» «٤». وحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال «قال رسول الله ﷺ لا يحلّ لرجل أن يفرّق بين اثنين إلّا بإذنهما» «٥». وقد روى الإمام أبو عبيد بن القاسم بن سلام عن
(٢) النص من ابن كثير.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
وليس من تناقض بين النهي عن أن يقيم الرجل من مجلسه والأمر بالنشوز إذا قيل للجالسين انشزوا. فهذا على الأغلب قد منح للنبي ﷺ لإجلاس الناس في مراتبهم ويظل منوطا بمن يكون في مقامه بعده على ما هو المتبادر. أما حديث ابن عمر فالمتبادر منه هو النهي عن الجلوس في مجلس شخص قام لضرورة على أن يعود.
ولقد تطرق المفسرون إلى القيام للقادم احتراما وترتيب الناس في مجالسهم فرووا روايات عديدة أخرى، منها ما يفيد ترخيص القيام حيث روي أن النبي ﷺ قال للأوس حينما استدعى زعيمهم سعد بن معاذ ليحكم في قضية بني قريظة «قوموا لسيّدكم» «٢» ومنها ما يفيد منع القيام حيث روي «أن معاوية خرج على ابن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير فقال معاوية لابن عامر:
اجلس فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول من أحبّ أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار، وفي رواية من سرّه بدلا من أحبّ» «٣». وقد روى أبو داود وابن ماجه حديثا عن أبي أمامة قال «خرج علينا رسول الله ﷺ متوكئا على عصا فقمنا إليه فقال لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظّم بعضها بعضا» «٤». وروى الترمذي عن أنس قال «لم يكن شخص أحبّ إليهم من النبي ﷺ وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك» «٥» وجاء في السنن «أن رسول الله ﷺ كان يجلس حيث انتهى به المجلس ولكن حيث يجلس يكون صدر المجلس فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون منه على مراتبهم فالصدّيق عن يمينه وعمر عن يساره وبين يديه
(٢) أورده ابن كثير. وهذا النص مما رواه الشيخان وأبو داود عن أبي سعيد الخدري انظر التاج ج ٥ ص ٢٣١.
(٣) من ابن كثير. والنص مما رواه أبو داود والترمذي انظر التاج ج ٥ ص ٢٢٣ أيضا.
(٤) التاج ج ٥ ص ٢٣٢.
(٥) المصدر نفسه ص ٢٣٢.
ولقد أراد بعضهم التوفيق بين الحديث الأول والحديثين الثاني والثالث من جواز القيام للقادم وعدمه، فقالوا إن السنّة هي كراهية القيام وإن أمر النبي ﷺ بالقيام لسعد بن معاذ قد كان لحكمة اقتضاها الظرف الخاص. ولقد أورد المفسر القاسمي فتوى للإمام ابن تيمية فيها كثير من الوجاهة. فقد قرر الإمام ما تقدم من جهة وحسّن القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيا له من جهة. وقال من جهة ثالثة: إذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه أو قصد لخفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له لأن ذلك إصلاح لذات البين وإزالة للتباغض والشحناء. فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما.
ولقد تطرق المفسرون كذلك إلى فضل الذين أوتوا العلم بمناسبة ورود العبارة في الآية فرووا أحاديث متعددة منها حديث عن أبي الدرداء قال «سمعت رسول الله ﷺ يقول من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم. وإن السموات والأرض والحوت في الماء لتدعو له. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر
(٢) من ابن كثير.
(٣) من ابن كثير انظر أيضا التاج ج ١ ص ٥٣.
وفي كل ما تقدم عبر وحكم ومواعظ وتلقين للمسلمين في كل زمان ومكان.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢)
. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً
عبارة الآية واضحة. وفيها أمر للمسلمين بأن يعطوا صدقة ما حينما يريدون
(٢) من البغوي أيضا.
(٣) التاج ج ١ ص ٥٥- ٥٦.
(٤) المصدر نفسه.
ولقد روى المفسرون «١» أن الناس سألوا النبيّ ﷺ فأكثروا حتى شقّ عليه وثقل فأراد الله أن يخفف عنه فأمرهم بتقديم صدقة بين يدي أسئلتهم واستفتاءاتهم كما رووا أن الأغنياء كانوا يغلبون الفقراء على مجالس النبي ﷺ فأنزل الله الآية ليكون فيها إفساح وتفريج للفقراء.
ولسنا نرى الروايات معقولة ولا مما يصح أن ينسب إلى النبي ﷺ كما أننا لا نراها متسقة مع مضمون الآية. وليست واردة بعد في كتب الحديث المعتبرة.
ويتبادر لنا أن حكمة فرض هذه الصدقة بين يدي مناجاة أحد من المسلمين لرسول الله هو جعل مراجعات الناس للنبي ﷺ في قضاياهم ومشاكلهم الخاصة وسيلة من وسائل أخذ بعض المال من ميسوريهم لإنفاقه على المحتاجين والمصالح العامة. أو بتعبير آخر وضع رسم قضاء وفتوى على نحو ما كان مألوفا ومعتادا عليه في القضاء العربي قبل الإسلام. وقد سمته الآية صدقة لأنه لم يكن لشخص النبي ﷺ الذي لم تحل له الصدقة «٢»، وإنما أريد لمصلحة المسلمين العامة وفقرائهم. وقد كانت الزكاة تسمى صدقة أيضا وهي شريعة مفروضة. وتعبير إِذا ناجَيْتُمُ يفيد معنى الاجتماع الخاص من أجل عرض قضية أو مشكلة خاصة للاستفتاء أو التقاضي. ويجوز أن تكون حكمة التنزيل اقتضت ذلك حينما أخذت استفتاءات الناس الخاصة تكثر على النبي ﷺ لتكون تلك الوسيلة. ويجوز أن يكون ذلك انبثق في نفس النبي ﷺ أولا فأيدته حكمة التنزيل قرآنا. وفي القرآن
(٢) روى الشيخان عن أبي هريرة قال «أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي كخ كخ ليطرحها ثم قال أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة، ولمسلم أما علمت أنا لا تحل لنا الصدقة» التاج ج ٣ ص ٣٠.
ولقد روى المفسرون حديثا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ... قال لي النبي ﷺ ما ترى دينارا.
قلت لا يطيقونه. قال فنصف دينار. قلت لا يطيقونه قال: فكم، قلت حبة أو شعرة. قال إنك لزهيد» «١» وقد يكون في هذا الحديث الذي رواه الترمذي أيضا دعم لما تبادر لنا من حكمة التكليف. والله أعلم.
وإتماما للحديث نذكر أن في كتب الحديث الصحيحة أي كتب صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود وجامع الترمذي أحاديث عديدة تذكر قول النبي ﷺ أن الصدقة لا تحلّ له ولا لآله. ومصداقه ذلك في القرآن الكريم أيضا حيث لم يجعل لرسول الله نصيب في الصدقات كما جاء في آية سورة التوبة هذه:
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ [٦٠] بينما جعل لرسول الله ﷺ نصيب خمس الغنائم كما جاء في آية سورة الأنفال هذه: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [٤١].
وجعل له نصيب في الفيء أيضا وهو ما عاد على المسلمين من الأعداء بدون حرب كما جاء في آية سورة الحشر هذه: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [٧] فتكون الصدقة التي أمر الله المسلمين بتقديمها بين يدي نجواه قد أريد بها مورد لبيت المال لإنفاقه على مصالح المسلمين وفقرائهم كما ذكرنا، والله أعلم.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١٣]
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣). تعليق على الآية أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ودلالتها على النسخ في القرآن وما فيها من صور متصلة بالعهد النبوي في المدينة
عبارة الآية أيضا واضحة. وقد تضمنت:
(١) سؤالا إنكاريا منطويا على عتاب موجه للمسلمين على ما كان من إشفاقهم أو استثقالهم للصدقة التي فرضتها الآية السابقة لها على مناجاة النبي ﷺ ثم من عدم تنفيذهم الأمر.
(٢) وإيذانا بالتخفيف عنهم: فقد تاب الله عليهم وأعفاهم من ذلك. وعليهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله.
وقد روى المفسرون أن فرض الصدقة على المناجاة كان شديد الوقع والأثر على المسلمين فتكلموا في ذلك فأنزل الله الآية «١».
والرواية متسقة مع فحوى الآية وروحها. ومضمون الآية وأسلوبها يسند وجاهة حكمة التكليف التي ألمعنا إليها قبل فلو كان لتقليل مراجعة الناس للنبي ﷺ أو لإفساح مجال المراجعة للفقراء لما كان وجه للعتاب والعدول لأن المقصود قد حصل.
وواضح أن الآية قد نسخت حكم الآية السابقة وهو ما عليه الجمهور «٢».
ولقد روي عن مقاتل أن حكم الآية السابقة استمر عشر ليال ثم نسخ، وروي عن
(٢) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.
ومن المحتمل أن تكون الآية قد نزلت عقب نزول الآية الثانية بدون فاصل قرآني فوضعت بعدها. وإلّا فيكون ترتيبها للمناسبة الموضوعية.
وفي الآية صورة لما كان يظهر من المسلمين من مواقف اللجاج والتلكؤ إزاء بعض التشريعات والتكليفات المالية والجهادية مما نبهنا عليه في سياق تشريع الأنفال- الغنائم الحربية- والفيء والجهاد في سور الأنفال والحشر والنساء.
ونقول هنا ما قلناه في تلك المناسبات من أننا نرجح أن الذين استثقلوا التكليف الجديد وأشفقوا منه هم من المستجدين الذين كانوا يؤلفون أكثرية المسلمين وليسوا من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، الذين سجل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه في آية سورة التوبة [١٠٠] وسجلت آيات عديدة مكية ومدنية استغراقهم في دين الله وطاعته وطاعة رسوله ورويت أحاديث عديدة بفضلهم وإخلاصهم أوردناها في مناسبات سابقة وتواترت الأخبار بأنهم كانوا يبادرون إلى تلقي كل أمر رباني ونبوي بالإذعان والقبول. والتشريعات إنما تقوم على الأكثرية وهذه صورة اجتماعية عامة تظهر في مثل هذه المناسبات في كل وقت ومكان. وقد اقتضت الحكمة العدول عن التكليف بسبب ذلك.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) انظر تفسير القاسمي.
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ١٤ الى ٢١]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١)
. تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ والآيات الست التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا واستنكارا وحملة شديدة وإنذارا لفريق كانوا يتولون ويتحالفون مع قوم ليسوا منهم ولا من المسلمين. وكانوا إذا ما عوتبوا حلفوا الأيمان الكاذبة بسبيل نفي ما عرف عنهم. وقد قررت الآيات واقع أمرهم بكونهم كاذبين قد استحوذ عليهم الشيطان وغدوا من حزبه وصاروا من الخاسرين وانتهت بتقرير كون الله قد حكم على كل من يشاققه ويحادده الذل. وأن الغلبة ستكون لله ورسله حتما.
والآيات فصل جديد. وقد روي أنها نزلت في منافق اسمه عبد الله بن نبتل
والرواية متسقة إجمالا مع مضمون الآيات. غير أن الآيات تفيد أن الفريق المندد به أكثر من شخص واحد. وهذا لا ينفي احتمال صحة رواية مناسبة النزول ولكن يلهم أنه كان لهذا المنافق أمثال. فاقتضت حكمة التنزيل شمولهم جميعا بالحملة الشديدة التي احتوتها الآيات مع تطمين قوي للنبي ﷺ ووعد بالنصر والغلبة.
وهكذا تكون الآيات قد احتوت صورة من المواقف الخبيثة التي كان يقفها المنافقون في الكيد والأذى والتضامن والتآمر مع اليهود.
والراجح أن هذه الصورة غير الصورة التي احتوتها الآية الثامنة من هذه السورة وإن كان بينهما شيء من المماثلة.
ومن المحتمل أن تكون الآيات قد نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في ترتيبها.
والآيات قرينة أخرى على أنها نزلت قبل الفصل الذي احتوى خبر وقعتي الخندق وبني قريظة الوارد في سورة الأحزاب أو على أن فصل سورة الأحزاب المذكورة قد نزل بعدها. والله أعلم.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تلقينا أخلاقيا واجتماعيا مستمر المدى بتقبيح وتشنيع وحظر التناصر والتضامن مع أعداء الأمة والملة وعدم التساهل مع من يفعل ذلك والوقوف منهم موقف الشدة والصرامة.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ٢٢]
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢).
عبارة الآية واضحة. وفيها تنزيه قوي لصادقي الإيمان: فإنه لا يمكن أن يقف قوم مؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا صادقا موقف الموالاة والموادة لمن يشاقّ الله ورسوله ويحاددهم ويناصبهم العداء. ولو جمعت بينهم أشد روابط القربى كالأبوة أو النبوة أو الأخوة أو العصبية الرحمية. وفيها تنويه قوي بهم وبشرى لهم فالله قد كافأهم على إخلاصهم فملأ قلوبهم بالإيمان وأيدهم بروح وقوة منه ورضي عنهم ورضوا عنه. ولسوف يدخلهم الجنات التي تجري تحتها الأنهار فتكون مثواهم الخالد. وإنهم حزب الله وإن حزب الله هم المفلحون.
ولقد ذكر المفسرون «١» أنها نزلت بسبيل التنويه بأبي بكر أو أبي عبيدة أو بمصعب بن عمير أو بعلي وحمزة رضي الله عنهم جميعا على اختلاف الروايات بسبب ما بدا منهم من موقف قوي شديد ضد آبائهم وذوي أرحامهم الكفار.
ونحن نتوقف في هذه الرواية التي لم ترد في كتب الحديث المعتبرة ونلحظ أن للآية اتصالا قويا بالآيات السابقة وأنها جاءت معقبة عليها بسبيل توكيد كون المخلصين في إيمانهم منزهين عن فعل ما يفعله المنافقون الذين حكت الآيات السابقة صورة من مواقفهم.
ومهما يكن من أمر فأسلوب الآية قوي أخّاذ نافذ إلى أعماق النفس. وأن
وهذا الحديث «ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلّا بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة» «٣».
ومع أن أسلوب الآية يلهم أن ما احتوته هو التشديد في النهي عن موادة من حادّ الله ورسوله مطلقا فإن من الممكن أن يلمح فيها شيء من التطور. فالآيات المكية رددت أكثر من مرة وجوب الاستمرار في احترام الوالدين ومعاشرتهما في الدنيا بالمعروف ولو كانا كافرين وعدم إطاعتهما في مسألة الشرك فقط «٤» وفي هذه
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) آيات سورة لقمان [١٤، ١٥] والعنكبوت [٨].
هذا، وروح الآية ومضمونها يمدان المسلم في كل وقت بروح وعظة قويتين بوجوب الإخلاص لله ورسوله وبمنافاة موادة المسلم المؤمن للأعداء وموالاتهم منافاة تامة لأي اعتبار كان. وهي ميزان دقيق خالد لإيمان المؤمنين وإخلاصهم لمبادئهم وعقائدهم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن النبي ﷺ جاء فيه «إنّ الله يحبّ الأخفياء، والأتقياء، والأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يدعوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كلّ فتنة سوداء مظلمة. فهؤلاء أولياء الله الذين قال الله أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»، وحديثا آخر أخرجه نعيم بن حماد جاء فيه «إنّ رسول الله ﷺ كان يدعو قائلا اللهمّ لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة. فإني وجدت فيما أوحيته لي لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ». حيث ينطوي في الحديثين صورة من التعليقات والتعقيبات النبوية على بعض الآيات وأهدافها ومضمونها وحيث ينطوي في ذلك في الوقت نفسه تلقين وحكمة وموعظة للمسلمين في كل زمان ومكان.