تفسير سورة الأنعام

المنتخب
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم المعروف بـالمنتخب .
لمؤلفه مجموعة من المؤلفين .

١ - الثناء والذكر الجميل لله، الذى خلق السموات والأرض، وأوجد الظلمات والنور لمنفعة العباد بقدرته وعلى وفق حكمته، ثم مع هذه النعم الجليلة يشرك به الكافرون، ويجعلون شريكاً فى العبادة.
٢ - هو الذى بدأ خلقكم من طين، ثم قدر لحياة كل منكم زمناً ينتهى بموته والأجل عنده - وحده - المحدد للبعث من القبور. ثم إنكم - أيها الكافرون - بعد هذا تجادلون فى قدرة الله على البعث، واستحقاقه - وحده - للعبادة.
٣ - وهو - وحده - المستحق للعبادة فى السموات والأرض، يعلم ما أخفيتموه وما أظهرتموه، ويعلم ما تفعلون فيجازيكم عليه.
٤ - ولا يؤتى المشركون بدليل من أدلة خالقهم، التى تشهد بوحدانيته وصدق رسله، إلا كانوا منصرفين عنه، لا يتأملون فيه ولا يعتبرون به.
٥ - فقد كذبوا بالقرآن حين جاءهم، وهو حق لا يأتيه الباطل. فسوف يحل بهم ما أخبر به القرآن من عقاب الدنيا وعذاب الآخرة، ويتبين لهم صدق وعيده الذى كانوا يسخرون منه.
٦ - ألم يعلموا أننا أهلكنا أُمماً كثيرة قبلهم، أعطيناهم من أسباب القوة والبقاء فى الأرض ما لم نعطكم إياه - أيها الكافرون - ووسعنا عليهم فى الرزق والنعيم، فأنزلنا عليهم الأمطار غزيرة ينتفعون بها فى حياتهم، وجعلنا مياه الأنهار تجرى من تحت قصورهم، فلم يشكروا هذه النعم. فأهلكناهم بسبب شركهم وكثرة ذنوبهم، وأوجدنا - من بعد - أناساً غيرهم خيراً منهم.
٧ - ولو أنزلنا عليك - أيها النبى - دليل رسالتك مكتوباً فى ورق، فرأوه بأعينهم، وتأكدوا منه بوضع أيديهم عليه، لقالوا - تعنتاً -: ما هذا الذى نلمسه إلاّ سحر ظاهر!!.
٨ - وقالوا: نطلب أن ينزل الله عليك ملكاً يصدقك. ولو استجبنا لهم، وأرسلنا معه ملكاً كما اقترحوا، ثم عاندوا ولم يؤمنوا. لنفذ الأمر بإهلاكهم، ثم لا يمهلون لحظة.
٩ - ولو جعلنا المؤيد للرسول ملكاً كما طلبوا، لجعلناه على هيئة بشر، حتى يستطيعوا مشاهدته والفهم عنه، فإنهم لا يقدرون على رؤية الملك فى صورته الأصلية، ولاشتبه عليهم الأمر واختلط بإرساله فى صورة بشر، وأوقعناهم فى نفس الخطأ الذى يتخبطون فيه.
١٠ - ولقد سَخِرَ الكفار كثيراً برسل من قبلك - أيها النبى - فأحاط بالساخرين العذاب الذى أنذرهم به رسلهم، وقد جعلوه موضع سخريتهم من قبل.
١١ - قل - أيها النبى - لهؤلاء الكفار: سيروا فى جوانب الأرض وتأملوا كيف كان الهلاك نهاية المكذبين لرسلهم فاعتبروا بهذه النهاية وذلك المصير.
١٢ - قل - أيها النبى - لهؤلاء الجاحدين: مَنْ مَالِك السموات والأرضِ ومن فيهن؟ فإن أحجموا فقل الجواب الذى لا جواب غيره: إن مالكها هو الله - وحده - لا شريك له، وأنه أوجب على نفسه الرحمة بعباده، فلا يعجل عقوبتهم، ويقبل توبتهم، إنه ليحشرنكم إلى يوم القيامة الذى لا شك فيه. الذين ضيعوا أنفسهم وعرّضوها للعذاب فى هذا اليوم، هم الذين لا يصدقون بالله، ولا بيوم الحساب.
١٣ - ولله ما فى كل زمان، كما أن له ما فى كل مكان، وهو السميع لكل ما يسمع، العليم بكل ما يُعلم.
١٤ - قل - أيها النبى -: لا أتخذ غير الله إلهاً وناصراً، وهو - وحده - المنشئ للسموات والأرض على نظام لم يسبق إليه، وهو الرازق لعباده طعامهم، ولا يحتاج منهم إلى طعام. قل: إنى أمرنى الله أن أكون أول من أسلم، ونهانى أن أشرك معه غيره فى العبادة.
١٥ - قل: إنى أخاف، إن خالفت أمر ربى وعصيته، عذاب يوم شديد.
١٦ - من يُصرف عنه هذا العذاب يوم القيامة، فقد رَحِمَهُ اللَّهُ، وذلك هو الفوز الثابت البيّن.
١٧ - وإن يصبك الله بسوء فلا كاشف له إلا هو، وإن يمنحك خيراً فلا راد لفضله، لأنه على كل شئ قدير.
١٨ - وهو الغالب بقدرته، المستعلى على عباده، المتصف بالحكمة فى كل ما يفعل، المحيط علمه بما ظهر واستتر.
١٩ - قل - أيها النبى - لمن يكذبوك ويطلبون شهادة على رسالتك، أى شئ أعظم شهادة وأحق بالتصديق؟ ثم قل: إن الله أعظم شاهد بينى وبينكم على صدق ما جئتكم به، وقد أنزل علىّ هذا القرآن ليكون حُجّة لصدقى، لأحذركم به أنتم وكل من بلغه خبره، وهو حُجة قاطعة شاهدة بصدقى، لأنكم لا تستطيعون أن تأتوا بمثله!! سلهم: أأنتم الذين تقولون معتقدين أن مع الله آلهة غيره؟ ثم قل لهم: لا أشهد بذلك، ولا أقوله، ولا أقركم عليه، وإنما المعبود بحق إله واحد، وإننى برئ مما تشركون به من أوثان.
٢٠ - الذين آتيناهم الكتب السماوية من اليهود والنصارى، يعرفون محمداً وصدق رسالته، من هذه الكتب، كمعرفتهم أبناءهم. إن الذين ضيعوا أنفسهم، لا يقرون بما يعرفون، فهم لا يؤمنون.
٢١ - وليس أحد أشد ظلماً لنفسه وللحق ممن افترى على الله الكذب، وادعى أن له ولداً أو شريكاً، أو نسب إليه ما لا يليق، أو أنكر أدلته الدالة على وحدانيته وصدق رسله. إن الظالمين لا يفوزون بخير فى الدنيا والآخرة.
٢٢ - واذكر لهم ما سيحصل يوم نجمع الخلق كلهم للحساب، ثم نقول توبيخاً للذين عبدوا مع الله غيره: أين الذين جعلتموهم شركاء لله لينفعوكم؟
٢٣ - ثم لم تكن نتيجة محنتهم الشديدة فى هذا الموقف إلا محاولة التخلص من شركهم السابق بالكذب، فقالوا كاذبين: والله ربنا ما أشركنا فى العبادة أحداً غيرك.
٢٤ - انظر كيف غالطوا أنفسهم بهذا الكذب، وغاب عنهم ما كانوا يختلقونه من عبادة الأحجار ويزعمونها شركاء لله! {
٢٥ - ومنهم من يستمع إليك حين تتلو القرآن، لا ليتفهموه، وليهتدوا به، وإنما ليتلمسوا سبلا للطعن فيه والسخرية منه.
وقد حرمناهم بسبب ذلك من الانتفاع بعقولهم وأسماعهم، كأن عقولهم فى أغطية تحجب عنهم الإدراك الصحيح، وكأن فى آذانهم صمماً يحول دون سماع آيات القرآن، وإن يروا كل دليل لا يؤمنون به، حتى إذا جاءوك ليجادلوك بالباطل يقول الذين كفروا مدفوعين بكفرهم: ما هذا إلا أباطيل سطرها من قبلك الأولون.
٢٦ - وهم ينهون الناس عن الإيمان بالقرآن، ويبتعدون عنه بأنفسهم، فلا ينتفعون ولا يدعون غيرهم ينتفع} وما يضرون بذلك الصنيع إلا أنفسهم، وما يشعرون بقبح ما يفعلون.
٢٧ - ولو ترى - أيها النبى - هؤلاء الكفار وهم واقفون على النار يعانون أهوالها، لرأيت أمراً غريباً رهيباً، إذ يتمنون الرجوع إلى الدنيا، ويقولون: يا ليتنا نرد إليها لنصلح ما أفسدنا، ولا نكذب بآيات ربنا، ونكون من المؤمنين {
٢٨ - وليس قولهم هذا، إلا لأنه قد ظهر لهم ما لا يمكن إخفاؤه والمكابرة فيه، مما كان يخبرهم به الرسول} ولو ردّوا إلى الدنيا كما يتمنون، لعادوا إلى الكفر الذى نهاهم الله عنه، لغرورهم بزخرفها وإطاعة أهوائهم ﴿وإنهم لكاذبون فى دعواهم الإيمان إذا ردوا إلى الدنيا﴾
٢٩ - ولو أعيدوا إلى الدنيا لعادوا إلى سيرتهم الأولى وقالوا: ليس لنا حياة إلا هذه الحياة الدنيا. وما نحن بعد ذلك بمبعوثين {
٣٠ - لو تراهم حين يقفون للحساب أمام ربهم، ويعرفون صدق ما أنزله على رسله، لرأيت سوء حالهم إذ يقول الله لهم: أليس هذا الذى تشاهدونه الآن هو الحق الذى أنكرتموه فى دنياكم؟ فيقولون متذللين: بلى وربنا إنه الحق} فيقول الله لهم بعد ذلك: ادخلوا النار بسبب ما كنتم حريصين عليه من الكفر.
٣١ - قد خسر الذين أنكروا لقاء الله للحساب والجزاء يوم القيامة، وظلّوا على إنكارهم، حتى إذا فاجأتهم مشاهد يوم القيامة ندموا وقالوا: يا حسرتنا على إهمالنا اتباع الحق فى الدنيا {وهم يومئذٍ يرزحون تحت أعباء ذنوبهم. ألا قُبْحُ ما يحملون من الذنوب.
٣٢ - وليست الحياة الدنيا التى حسب الكفار أنه لا حياة غيرها، والتى لا يقصد بالعمل فيها مرضاة الله، إلا لعباً لا نفع فيه، ولهواً يتلهى به} ! وان الدار الآخرة لهى الحياة الحقيقية، وهى أنفع للذين يخافون الله فيمتثلون أمره. أفلا تعقلون هذا الأمر الواضح؟، أفلا تفهمون ما يضركم ولا ينفعكم؟
٣٣ - إننا نعلم أنه ليحزنك أيها النبى ما يقوله الكفار تكذيباً لك، فلا تحزن من ذلك. لأن الحقيقة أنهم لا يتهمونك بالكذب، ولكنهم لظلمهم لأنفسهم وللحق يكابرون، فينكرون بألسنتهم دلائل صدقك، وعلامات نبوتك.
٣٤ - ولقد قوبل رسل من قبلك بالتكذيب والإيذاء من أقوامهم، كما فعل معك قومك، فصبروا على التكذيب والإيذاء حتى نصرناهم، فاصبر كما صبروا حتى يأتيك نصرنا، ولا مغير لوعد الله بنصر الصابرين، فلا بد من تحققه. ولقد قصصنا عليك من أخبار هؤلاء الرسل وتأييدنا لهم، ما فيه تسلية لك، وما توجبه الرسالة من تحمل الشدائد.
٣٥ - وإن كان قد شق عليك انصرافهم عن دعوتك، فإن استطعت أن تتخذ طريقاً فى باطن الأرض، أو سلماً تصعد به إلى السماء، فتأتيهم بدليل على صدقك، فافعل. وليس فى قدرتك ذلك. فأرح نفسك واصبر لحكم ربك، ولو شاء الله هدايتهم لحملهم جميعاً على الإيمان بما جئت به قسراً وقهراً، ولكنه تركهم لاختيارهم فلا تكونن من الذين لا يعلمون حكم الله وسنته فى الخلق.
٣٦ - إنما يجيب دعوة الحق مقبلين عليه، الذين يسمعون سماع فهم وتدبر. وأما هؤلاء فلا ينتفعون بدعوتك، لأنهم فى حكم الأموات. وسيبعثهم الله يوم القيامة من القبور، ويرجعهم إليه، فيحاسبهم على ما فعلوا.
٣٧ - وقال الكفار متعنتين: نطلب أن ينزل على محمد دليل مادى من ربه يشهد بصدق دعوته. قل لهم أيها النبى: إن الله قادر على أن ينزل أى دليل تقترحونه. ولكن أكثرهم لا يعلمون حكمة الله فى إنزال الآيات، وأنها ليست تابعة لأهوائهم، وأنه لو أجاب مقترحاتهم ثم كذبوا بعد ذلك لأهلكهم، ولكن أكثرهم لا يعلمون نتائج أعمالهم!!
٣٨ - وإن أقوى دليل على قدرة الله وحكمته ورحمته، أنه خلق كل شئ، وليس فى الأرض حيوان يدب فى ظاهر الأرض وباطنها، أو طائر يطير بجناحيه فى الهواء، إلا خلقها الله جماعات تماثلكم، وجعل لها خصائصها ومميزاتها ونظام حياتها. ما تركنا فى الكتاب المحفوظ عندنا شيئاً إلا أثبتناه. وإن كانوا قد كذبوا، فيحشرون مع كل الأمم للحساب يوم القيامة.
٣٩ - والذين لم يصدقوا بأدلتنا الدالة على قدرتنا وصدق رسالتك، لم ينتفعوا بحواسهم فى معرفة الحق، فتخبطوا فى ضلال الشرك والعناد، تخبط الأصم الأبكم فى ظلمات الليل، لا نجاة له من الهلاك. ولو كان فى هؤلاء استعداد للخير لوفقهم الله إليه، فإنه سبحانه إذا أراد إضلال إنسان لفساد قصده، تركه وشأنه، وإذا أراد هدايته لسلامة قصده، يسر له السير فى طريق الإيمان الواضح المستقيم.
٤٠ - قل أيها النبى لهؤلاء الكفار: أخبرونى إن جاءكم عذاب من عند الله فى الدنيا أو جاءتكم القيامة بأهوالها، هل تتجهون لغير الله تضرعون إليه فى هذا الوقت فينفعكم شيئاً، إن كنتم صادقين فى عبادتكم لغير الله؟
٤١ - بل إنكم لا تتجهون إلا إليه، إذ تدعونه فيكشف عنكم ما تطلبون كشفه إن شاء. وفى حال هذه الشدة، تنسون من تجعلونهم لله شركاء!!
٤٢ - لا يشق عليك - أيها النبى - ما تلاقيه من قومك. فلقد بعثنا قبلك رسلا إلى أمم كثيرة قبل أمتك. فكذبوهم، فعاقبناهم بالشدائد تنزل بهم، وبما يضرهم فى أبدانهم، لعلهم يخشعون ويرجعون إلى الله.
٤٣ - وكان ينبغى لهم أن يرجعوا إلى ربهم، ولكنهم لم يفعلوا، بل استمرت قلوبهم على قسوتها، وزين لهم الشيطان عملهم القبيح.
٤٤ - فلما تركوا الاتعاظ بما ابتليناهم من الفقر والمرض، ابتليناهم بعد ذلك بالرزق الواسع، ففتحنا عليهم أبواب كل شئ من أسباب الرزق، حتى إذا فرحوا بما أنعمنا به عليهم، ولم يشكروا الله عليه، جاءهم العذاب فجأة، فإذا هم متحيّرون يائسون، لا يجدون للنجاة سبيلا {
٤٥ - فأبيد هؤلاء القوم الظالمون عن آخرهم. والحمد لله مربى الخلق بالنقم والنعم، ومطهر الأرض من فساد الظالمين.
٤٦ - قل لهم - أيها النبى -: أخبرونى إن سلب الله سمعكم، وغطى قلوبكم بما يحجبها عن الإدراك، فجعلكم صماً عمياً لا تفهمون شيئاً، مَنْ تعبدون غير الله. من إله يستطيع أن يرد إليكم ما سلبه الله منكم؟ انظر - أيها النبى - كيف نوضح البراهين وننوعها، ثم هم مع هذا يعرضون عن تدبرها والانتفاع بها} !
٤٧ - قل: أخبرونى إن حل بكم عذاب الله فجأة دون توقع، أو جاءكم عيانا على ترقب، لسبق ما ينذركم بوقوعه، هل يصيب هذا العذاب إلا القوم الذين ظلموا أنفسهم بالإصرار على الشرك والضلال؟ أنه لا يصيب غيرهم.
٤٨ - وما نرسل الأنبياء إلا ليبشروا من يؤمن بالخير والثواب، وليحذروا من يكفر من العذاب. فمن آمن بدعوتهم وعمل صالحاً، فلا خوف عليهم من شر يصيبهم، ولا يحزنون على خير يفوتهم.
٤٩ - والذين كذبوا بالأدلة الواضحة على صدق ما جاء به الرسل، يصيبهم العذاب بسبب خروجهم عن الطاعة والإيمان.
٥٠ - قل - أيها الرسول - لهؤلاء الكفار: لا أقول لكم إنى أملك التصرف بما يملكه الله فأجيبكم إلى ما تطلبون، ولا أدعى علم الغيب الذى لم يطلعنى الله عليه، ولا أقول إنى ملك أستطيع الصعود إلى السماء! إنما أنا بشر لا أتبع إلا ما يوحيه الله إلى. قل - أيها النبى -: هل يستوى الضال والمهتدى فى معرفة هذه الحقائق؟ هل يليق بكم أن تعرضوا عن هدى أسوقه لكم، فلا تتأملون فيه بعقولكم حتى يتبين لكم الحق؟
٥١ - وحذّر - بما فى هذا القرآن - الذين يخافون من هول يوم تسوقهم فيه الملائكة للحساب والجزاء، حيث لا ناصر لهم ولا شفيع إلا بإذن الله، ليبتعدوا عما يغضب الله.
٥٢ - ولا تستجب - أيها النبى - لدعوة المتكبرين من الكفار، فتُبعد عنك المستضعفين من المؤمنين، الذين يعبدون ربهم دائماً، ولا يريدون إلا رضاه. ولا تلتفت لدس المشركين على هؤلاء المؤمنين، فلست مسئولا أمام الله عن شئ من أعمالهم، كما أنهم ليسوا مسئولين عن شئ من أعمالك، فإن استجبت لهؤلاء الكفار المتعنتين، وأبعدت المؤمنين، كنت من الظالمين.
٥٣ - وبمثل هذا الابتلاء الذى جرت به سُنَّتنا، امتحنا المتكبرين بسبق الضعفاء إلى الإسلام، ليقول المتكبرون مستنكرين ساخرين، هل هؤلاء الفقراء هم الذين أنعم الله عليهم من بيننا بالخير الذى يعدهم به محمد؟ إن هؤلاء الفقراء يعرفون نعمة الله عليهم بالتوفيق إلى الإيمان فيشكرونه. والله أعلم بمن يشكرون فضله ونعمه.
٥٤ - وإذا جاءك الذين يصدقون بالقرآن فقل لهم تكريماً لهم: سلام عليكم، أبشركم برحمة الله الواسعة، التى أوجبها على نفسه تفضلا منه، والتى تقضى بأن من عمل منكم سيئة غير متدبر نتائجها، ثم رجع إلى الله نادماً تائباً، وأصلح أعماله، غفر الله له، لأنه كثير المغفرة واسع الرحمة.
٥٥ - وبمثل ذلك البيان الواضح نوضح الدلائل المتنوعة، ليظهر طريق الحق الذى يسلكه المؤمنون، ويتبين طريق الباطل الذى يسلكه الكافرون.
٥٦ - قل - أيها النبى - لهؤلاء الكفار: إن الله قد نهانى عن عبادة الذين تعبدونهم من دون الله فلا أتبع أهواءكم، فإنى حين أتبعكم أكون قد انحرفت عن الحق، ولم أكن من المهتدين!
٥٧ - قل لهم: إنى على شريعة واضحة منزلة من ربى وقد كذبتم القرآن الذى جاء بها، وليس فى قدرتى أن أقدم ما تستعجلونه من العذاب، بل هو فى قدرة الله، ومرهون بإرادته وحكمته، وليس الأمر والسلطان إلا لله، إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره، له سبحانه فى ذلك الحكمة، وهو خير الفاصلين بينى وبينكم.
٥٨ - قل: لو أن فى قدرتى إنزال العذاب الذى تتعجلونه، لأنزلته عليكم غضبا لربى، وانتهى الأمر بينى وبينكم بذلك، ولكن الأمر لله وهو أعلم بما يستحقه الكافرون من العذاب العاجل أو الآجل.
٥٩ - وعند الله علم جميع أبواب المغيبات، لا يحيط بها علماً إلا هو ومن يريد إعطاءه بعضها، ويحيط علمه كذلك بجميع الموجودات فى البر والبحر ولا تسقط ورقة - أيَّة ورقة كانت - إلا يعلمها، ولا تسقط حبة ما فى باطن الأرض ولا شئ رطب ولا يابس، إلا وهو سبحانه محيط بعلمه إحاطة تامة.
٦٠ - وهو الذى ينيمكم بالليل، ويوقظكم بالنهار، ويعلم ما كسبتم فيه حتى ينتهى أجل كل منكم فى الدنيا بموته، ثم يوم القيامة ترجعون جميعاً إلى الله - وحده - يخبركم بأعمالكم فى الدنيا من خير أو شر، ويجازيكم عليها.
٦١ - هو الغالب بقدرته، المستعلى بسلطانه على عباده، والذى يرسل عليكم ملائكة يحصون كل أعمالكم إلى أن تجئ نهاية كل منكم، فتقبض روحه ملائكتنا الذين نرسلهم لذلك، وهم لا يقصرون فيما يوكل إليهم.
٦٢ - ثم يُبعث هؤلاء الأموات يوم القيامة، ويوقفون أمام ربهم الذى يتولى وحده أمورهم بحق. اعلموا أن له - وحده - الفصل بين الخلائق وحسابهم فى ذلك اليوم، وهو أسرع من يتولى الحساب والجزاء.
٦٣ - قل - أيها النبى - للمشركين: من الذى ينقذكم من أهوال البر والبحر، إذا حلت بكم، فلجأتم إليه تدعونه فى خضوع ظاهر وباطن قائلين: نقسم لئن أنقذتنا من هذه الأهوال لنكونن من المقرين بفضلك، القائمين بشكرك.
٦٤ - قل: الله - وحده - هو الذى ينقذكم من هذه الأهوال، ومن كل شدة أخرى، ثم أنتم مع ذلك تشركون معه فى العبادة غيره مما لا يدفع شراً ولا يجلب خيراً.
٦٥ - قل: إن الله - وحده - هو الذى يقدر على أن يرسل عليكم عذاباً يأتيكم من أعلاكم أو من أسفلكم. أو يجعل بعضكم لبعض عدواً. وتكونون طوائف مختلفة الأهواء متناكرة، يعذب بعضكم بعضا عذاباً شديداً! ﴿انظر كيف دلت الدلائل على قدرتنا واستحقاقنا وحدنا للعبادة، لعلهم يتأملونها ويفهمون الحق﴾
٦٦ - وكذب قومك بالقرآن، وهو الحق الذى لا موضع فيه لتكذيب قل أيها النبى لهم: لست موكلا بحفظكم، وإحصاء أعمالكم ومجازاتكم عليها. بل أمركم فيها إلى الله.
٦٧ - لكل خبر جاء به القرآن وقت يتحقق فيه. وسوف تعلمون - صِدْق - هذه الأخبار عند وقوعها.
٦٨ - وإذا حضرت مجلس الكفار، ووجدتهم يطعنون فى آيات القرآن، أو يستهزئون بها، فانصرف عنهم حتى ينتقلوا إلى حديث آخر. وإن نسيت وجالستهم فى أثناء حديثهم الباطل. ثم تذكرت أمر الله بالبعد عنهم. فلا تجلس بعد التذكر مع القوم الظالمين.
٦٩ - وليس على الذين يتقون الله شئ من إثم هؤلاء الظالمين، إذا استمروا على ضلالهم، ولكن يجب أن يُذكِّروهم، لعلهم يخشون عذاب الله ويكفون عن الباطل.
٧٠ - واترك - أيها النبى - الذين اتخذوا شريعتهم اللهو واللعب، وخدعتهم الحياة الدنيا عن الآخرة، وذَكِّر دائماً بالقرآن، وحذرهم هول يوم تحبس فيه كل نفس بعملها، حيث لا ناصر ولا معين غير الله، وإن كل فدية للنجاة من العذاب لا تقبل. أولئك الكافرون الذين حبسوا فى العذاب بسبب ما عملوا من شر، لهم فى جهنم شراب من ماء شديد الحرارة، وعذاب شديد الألم بسبب كفرهم.
٧١ - قل لأولاء الكفار توبيخاً لهم، هل يصح أن يعبد غير الله مما لا يملك جلب نفع، ولا دفع ضر، وننتكس فى الشرك بعد أن وفقنا الله إلى الإيمان، ونكون كالذى غررت به الشياطين وأضلته فى الأرض، فصار فى حيرة لا يهتدى معها إلى الطريق المستقيم، وله رفقة مهتدون يحاولون تخليصه من الضلال، قائلين له: ارجع إلى طريقنا السوى، فلا يستجيب لهم. قل - أيها النبى -: إن الإسلام هو الهدى والرشاد، وما عداه ضلال، وقد أمرنا الله بالانقياد له، فهو خالق العالمين ورازقهم ومدبر أمورهم.
٧٢ - أعرضوا عن المشركين بعد أن تدعوهم إلى الهدى، وانصرفوا إلى عبادة ربكم، وأدوا الصلاة على أكمل وجه من الخضوع، وخافوا الله، وأدوا أوامره، فإنه هو الذى تجمعون عنده.
٧٣ - وهو الله وحده الذى خلق السموات والأرض، وأقام خلقهما على الحق والحكمة، وفى أى وقت تتجه إرادته سبحانه إلى إيجاد شئ يوجد فوراً، يوجد الأشياء بكلمة: «كن»، وكل قول له هو الصدق والحق، وله وحده التصرف المطلق يوم القيامة، حين يُنْفَخ فى البوق إيذاناً بالبعث، وهو سبحانه الذى يستوى فى علمه الغائب والحاضر، وهو الذى يتصرف بالحكمة فى جميع أفعاله، والذى يحيط علمه ببواطن الأمور وظواهرها.
٧٤ - واذكر - أيها النبى - ما كان، حين قال إبراهيم لأبيه آزر، منكراً عليه عبادة غير الله: ما كان لك أن تجعل الأصنام آلهة؟ إنى أراك وقومك الذين يشاركونك فى هذه العبادة فى بُعْدٍ واضح عن طريق الحق.
٧٥ - وكما رأى إبراهيم - بتوفيقنا - ضلال أمته وقومه فى تأليه الأصنام نريه مُلكنا العظيم للسموات والأرض وما فيهما، ليقيم الحُجة على قومه، وليزداد إيماناً.
٧٦ - طلب إبراهيم ربه، فهداه الله، إذ ستر الليل وجه النهار بظلمته، فرأى نجماً متألقاً، قال: هذا ربى. فلما غاب، قال مبطلا لربوبية النجم: لا أقبل عبادة الآلهة الزائلين المتغيرين!.
٧٧ - وحين رأى القمر طالعاً بعد ذلك قال محدثاً نفسه: هذا ربى. فلما غاب هو الآخر، وظهر بطلان ربوبيته، قال ليوجه نفوسهم إلى التماس الهداية: أقسم إن لم يهدنى ربى إلى الحق لأكونن من القوم الحائرين.
٧٨ - ثم رأى الشمس طالعة بعد ذلك، فقال محدثاً نفسه: هذا ربى، لأنه أكبر ما يرى من الكواكب، فلما غابت قال: يا قوم إنى برئ من الأصنام التى تشركونها مع الله فى العبادة.
٧٩ - بعد أن رأى ضعف المخلوقات اتجه إلى خالقها قائلا: إنى وجهت قصدى إلى عبادة الله - وحده - الذى خلق السموات والأرض، مجانباً كل سبيل غير سبيله وما أنا بعد الذى رأيت من دلائل التوحيد - ممن يرضى أن يكون من المشركين مثلهم.
٨٠ - ومع ذلك جادله قومه فى توحيد الله، وخوفوه غضب آلهتهم، فقال لهم: ما كان لكم أن تجادلونى فى توحيد الله وقد هدانى إلى الحق، ولا أخاف غضب آلهتكم التى تشركونها مع الله، لكن إذا شاء ربى شيئاً من الضر وقع ذلك، لأنه - وحده - القادر، وقد أحاط علم ربى بالأشياء كلها، ولا علم لآلهتكم بشئ منها. أتغفلون عن كل ذلك فلا تدركون أن العاجز الجاهل لا يستحق أن يعبد؟ {
٨١ - وكيف تتصورون أنى يمكن أن أخاف آلهتكم الباطلة، على حين لا تخافون الإله الحق الذى أشركتم به غيره فى العبادة؟} فأى فريق منا فى هذه الحالة أحق بالطمأنينة والأمان، إن كنتم تعلمون الحق وتدركونه؟
٨٢ - الذين آمنوا بالله، ولم يخلطوا إيمانهم هذا بعبادة أحد سواه، هؤلاء - وحدهم - هم الأحق بالطمأنينة، وهم - وحدهم - المهتدون إلى طريق الحق والخير.
٨٣ - وتلك الحُجة العظيمة على ألوهيتنا ووحدانيتنا، أعطيناها إبراهيم ليقيمها على قومه، فارتفع بها عليهم، وسنتنا فى عبادنا أن نرفع بالعلم والحكمة من نريد منهم درجات. إن ربك - أيها النبى - حكيم يضع الشئ فى موضعه، عليم بمن يستحق الرفعة ومن لا يستحق.
٨٤ - ووهبنا لإبراهيم إسحق ويعقوب بن إسحق، ووفقنا كلا منهما إلى الحق والخير كأبيهما، ووفقنا من قبلهم نوحاً إلى ذلك، وهدينا من ذرية نوح داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، وكما جزينا هؤلاء نجزى المحسنين بما يستحقون.
٨٥ - وهدينا زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، كل واحد من هؤلاء من عبادنا الصالحين.
٨٦ - وهدينا إسماعيل وإليسع ويونس ولوطا، وفضلنا كل واحد من هؤلاء جميعاً على العالمين فى زمانه، بالهداية والنبوة.
٨٧ - واصطفينا بعض آباء هؤلاء وذرياتهم وإخوانهم، ووفقناهم إلى طريق لا اعوجاج فيه.
٨٨ - ذلك التوفيق العظيم الذى ناله هؤلاء، هو توفيق من الله، يوفق إليه من يشاء من عباده. ولو أشرك هؤلاء المختارون لضاعت كل أعمال الخير التى يعملونها، فلا يكون عليها ثواب.
٨٩ - أولئك الذين آتيناهم الكتب المنزلة والعلم النافع وشرف النبوة، فإن يجحد بهذه الثلاثة مشركو مكة فقد عهدنا برعايتها والانتفاع بها إلى قوم لا يكفرون بها.
٩٠ - أولئك الذين وفقهم الله إلى طريق الحق والخير، فاتبعهم فيما اجتمعوا عليه من أصول الدين وأمهات الفضائل، ولا تسلك غير سبيلهم.. قل - أيها النبى - لقومك كما قال هؤلاء لأقوامهم: لا أطلب منكم على تبليغ كلام الله أجراً {ما هذا القرآن إلا تذكير للعالمين، ولا غاية لى إلا أن تنتفعوا به.
٩١ - هؤلاء الكفار لم يقدروا الله ورحمته وحكمته حق التقدير، إذ أنكروا أن تنزل رسالته على أحد من البشر} قل - أيها النبى - للمشركين ومن يشايعهم على ذلك من اليهود: من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى نوراً يضئ، وهدى يرشد؟ إنكم - أيها اليهود - تجعلون كتابته فى أجزاء متفرقة تظهرون منها ما يتفق وأهواءكم، وتخفون كثيراً مما يلجئكم إلى الإيمان والتصديق بالقرآن، وعلمتم منه ما لم تكونوا تعلمونه أنتم ولا آباؤكم!! وتول أنت - أيها النبى - الجواب، وقل لهم: الله هو الذى أنزل التوراة، ثم اتركهم يمضون فى الضلال عابثين كالصبيان.
٩٢ - وهذا القرآن كتاب أنزلناه - كما أنزلنا التوراة - كثير الخير، باق إلى يوم القيامة، مصدق لما تقدمه من الكتب المنزلة، مخبر عن نزولها، لتبشر به المؤمنين، وتخوف الكفار من أهل مكة ومن حولها فى جميع أنحاء الأرض من غضب الله، إذا لم يذعنوا له. والذين يصدقون بيوم الجزاء يحملهم رجاء الثواب والخوف من العقاب على الإيمان به، وهم لذلك يحافظون على أداء صلاتهم كاملة مستوفاة.
٩٣ - لم يكذب النبى حين أعلن أن القرآن من عند الله، وليس أحد أكثر ظلماً ممن اختلق الكذب على الله، أو قال: تلقيت وحياً من الله، دون أن يكون قد تلقى شيئاً من الوحى. وليس أحد كذلك أشد ظلماً ممن قال: سآتى بكلام مثل ما أنزله الله ﴿ولو تعلم حال الظالمين، وهم فى شدائد الموت. والملائكة ينزعون أرواحهم من أجسادهم فى قسوة وعنف، لرأيت هوْلاً رهيباً ينزل بهم﴾ ويقال لهم حينئذ: الآن تبدأ مجازاتكم بالعذاب المذل المهين، جزاء ما كنتم تقولون على الله غير الحق، وجزاء استكباركم عن النظر والتدبر فى آيات الله الكونية والقرآنية.
٩٤ - ويقول لهم الله يوم القيامة: لقد تأكدتم الآن بأنفسكم أنكم بعثتم أحياء من قبوركم كما خلقناكم أول مرة، وجئتم إلينا منفردين عن المال والولد والأصحاب، وتركتم وراءكم فى الدنيا كل ما أعطيناكم إياه مما كنتم تغترون به ولا نرى معكم اليوم الشفعاء الذين زعمتم أنهم ينصرونكم عند الله، وأنهم شركاء لله فى العبادة ﴿لقد تقطعت بينكم وبينهم كل الروابط، وغاب عنكم ما كنتم تزعمون أنهم ينفعونكم﴾
٩٥ - إن دلائل قدرة الله على البعث، واستحقاقه وحده للعبادة، وبعثه للناس من قبورهم، متوافرة متنوعة، فهو وحده الذى يشق الحب، ويخرج منه النبات، ويشق النوى ويخرج منه الشجر، ويخرج الحى من الميت كالإنسان من التراب، ويخرج الميت من الحى كاللبن من الحيوان، ذلك القادر العظيم هو الإله الحق، فليس هناك صارف يصرفكم عن عبادته إلى عبادة غيره.
٩٦ - هو الذى يشق غبش الصبح بضوء النهار، ليسعى الأحياء إلى تحصيل أسباب حياتهم، وجعل الليل ذا راحة للجسم والنفس، وجعل سير الشمس والقمر بنظام دقيق يعرف به الناس مواقيت عباداتهم ومعاملاتهم.
ذلك النظام المحكم، تدبير القادر المسيطر على الكون المحيط بكل شئ علماً.
٩٧ - وهو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بمواقعها إلى مقاصدكم، وأنتم سائرون فى ظلمات الليل بالبر والبحر، إنا قد بيّنا دلائل رحمتنا وقدرتنا لقوم ينتفعون بالعلم.
٩٨ - هو الذى أنشأكم من أصل واحد، هو أبو البشر آدم، وآدم من الأرض، فالأرض مكان استقراركم مدة حياتكم، ومستودع لكم بعد موتكم وتغيبكم فى بطنها، وقد بيّنا دلائل قدرتنا لقوم يدركون ويفهمون الأشياء على وجهها.
٩٩ - وهو الذى أنزل من السحاب ماء أخرج به نبات كل صنف، فأخرج من النبات شيئاً غَضَّا طريَّا، ونخرج منه حباً كثيراً بعضه فوق بعض، ومن طلع النخل عراجين نخرجها محملة بالثمار سهلة التناول، وأخرجنا كذلك بالماء جنات من الأعناب والزيتون والرمان، ومنها ما هو متماثل الثمر فى الشكل وغير متماثل فى الطعم والرائحة ونوع الفائدة. انظروا فى تدبر واعتبار إلى ثمره حين يثمر، وإلى نضجه كيف تم بعد أطوار مختلفة؟ إن فى ذلك لدلائل لقوم ينشدون الحق ويؤمنون به ويذعنون له.
١٠٠ - واتخذ الكافرون - مع هذه الدلائل - الملائكة والشياطين شركاء لله، وقد خلقهم فلا يصح مع علمهم ذلك أن يعبدوا غيره، وهو الذى خلق الملائكة والشياطين، فلا ينبغى أن يعبدوهم وهم مخلوقون مثلهم ﴿.. واختلق هؤلاء الكفار لله بنين: فزعم النصارى أن المسيح ابن الله، وزعم مشركو بعض العرب أن الملائكة بنات الله، وذلك جهل منهم. تنزّه الله تعالى عما يفترون فى أوصافه سبحانه﴾
١٠١ - الله الذى أنشأ السموات والأرض على غير مثال سبق: كيف يكون له ولد كما يزعم هؤلاء، مع أنه لم تكن له زوجة، وقد خلق جميع الأشياء وفيها هؤلاء الذين اتخذوهم شركاء، وهو عالم بكل شئ يحصى عليهم ما يقولون وما يفعلون، وهو مجازيهم على قولهم وفعلهم.
١٠٢ - ذلك المتصف بصفات الكمال هو الله ربكم، لا إله غيره، خالق كل شئ مما كان وما سيكون، فهو - وحده - المستحق للعبادة، فاعبدوه، وهو - وحده - المتولى كل أمر وكل شئ، فإليه - وحده - المرجع والمآب.
١٠٣ - لا تبصر ذاته العيون، وهو يعلم دقائق العيون وغير العيون، وهو اللطيف فلا يغيب عنه شئ، الخبير فلا يخفى عليه شئ.
١٠٤ - قل - أيها النبى - للناس: قد جاءكم من خالقكم ومالك أمركم حُجج وبينات فى القرآن، تنير لكم طريق الحق، فمن انتفع بها فانتفاعه لنفسه ومن أعرض عنها جنى على نفسه. لست أنا بمحافظ عليكم، بل أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم.
١٠٥ - ومثل هذا التنويع البديع فى عرض الدلائل الكونية نعرض آياتنا فى القرآن منوعة مفصلة، لنقيم الحُجة بها على الجاحدين، فلا يجدوا إلا اختلاق الكذب، فيتهموك بأنك تعلمت من الناس لا من الله ولنبين ما أنزل إليك من الحقائق - من غير تأثر بهوى - لقوم يدركون الحق ويذعنون له.
١٠٦ - اتبع - أيها النبى - ما جاءك به الوحى من الله، مالك أمرك ومدبر شئونك، إنه - وحده - الإله المستحق للطاعة والخضوع، فالتزم طاعته، ولا تبال بعناد المشركين.
١٠٧ - ولو أراد الله أن يعبدوه وحده لقهرهم على ذلك بقوته وقدرته، ولكنه تركهم لاختيارهم، وما جعلناك رقيباً على أعمالهم، وما أنت بمكلف أن تقوم عنهم بتدبير شئونهم وإصلاح أمرهم.
١٠٨ - لا تسبوا - أيها المؤمنون - أصنام المشركين التى يعبدونها من دون الله، فيحملهم الغضب لها على إغاظتكم بسب الله تعدياً وسفهاً. مثل ما زينا لهؤلاء حب أصنامهم يكون لكل أمة عملها حسب استعدادها، ثم يكون مصير الجميع إلى الله - وحده - يوم القيامة، فيخبرهم بأعمالهم ويجازيهم عليها.
١٠٩ - وأقسم المشركون بأقصى أيمانهم لئن جاءتهم آية مادية من الآيات التى اقترحوها ليكونن ذلك سبباً فى إيمانهم، قل - يا أيها النبى -: إن هذه الآيات من عند الله، فهو - وحده - القادر عليها، وليس لى يد فيها، إنكم - أيها المؤمنون - لا تدرون ما سبق به علمى من أنهم إذا جاءتهم هذه الآيات لايؤمنون.
١١٠ - وإنكم لا تدرون أيضاً أننا نقلب قلوبهم عند مجئ الآيات بالخواطر والتأويلات، ونقلب أبصارهم بتوهم التخيلات، فيكونون بعد الآيات كحالهم قبلها، وندعهم فى ظلمهم وعنادهم يتخبطون.
١١١ - إن أولئك الذين أقسموا إذا جاءتهم آية ليؤمنن بها كاذبون، والله أعلم بإيمانهم، ولو أننا نزّلنا الملائكة يرونهم رأى العين، وكلَّمهم الموتى بعد إحيائهم وإخراجهم من قبورهم، وجمعنا لهم كل شئ مقابلا لهم مواجهاً يبين لهم الحق، ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله تعالى أن يؤمنوا، والأكثرون لا يدركون الحق ولا يذعنون له، لما أصاب قلوبهم من عمياء الجاهلية.
١١٢ - وكما أن هؤلاء عادوك وعاندوك وأنت تريد هدايتهم جعلنا لكل نبى يبلِّغ عنا أعداء من عتاة الإنس وعتاة الجن الذين يخفون عنك ولا تراهم، يوسوس بعضهم لبعض بكلام مزخرف مُمَوَّه لا حقيقة له، فيلقون بذلك فيهم الغرور بالباطل، وذلك كله بتقدير الله ومشيئته، ولو شاء ما فعلوه، ولكنه لتمحيص قلوب المؤمنين. فاترك الضالين وكفرهم بأقوالهم التى يقترفونها.
١١٣ - وإنّهم يموّهون القول الباطل ليغروا أنفسهم ويرضوها، ولتميل إليه قلوب من على شاكلة أولئك العتاة الذين لا يذعنون للآخرة، ويعتقدون أن الحياة هى الدنيا، وليقعوا بسبب عدم اعتقادهم باليوم الآخر فيما يقترفون من آثام وفجور.
١١٤ - قل لهم - أيها النبى - هذا حكم الله بالحق بينتهُ الآيات الساطعة، فلا يسوغ أن أطلب حَكَماً غيره يفصل بينى وبينكم، وقد حكم سبحانه فأنزل الكتاب الكريم حُجة لى عليكم، وقد عجزتم أن تأتوا بمثله، وهو مبين للحق وللعدل، وإن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أنه منزل من عند الله مشتملا على الحق، كما بشرت كتبهم. وإن حاولوا إخفاء ذلك وكتمانه، فلا تكونن - يا أيها النبى - أنت ومن اتبعك من الذين يشكّون فى الحق بعد بيانه.
١١٥ - وإنَّ حُكْم الله قد صدَر، فتمت كلمات ربك الصادقة العادلة، بإنزال الكتاب الكريم مشتملا على الصدق، وفيه الميزان الصادق بين الحق والباطل، ولا يوجد من يغير كلمات الله وكتابه، وهو سبحانه سميع لكل ما يقال، عليم بكل ما يقع منهم.
١١٦ - وإذا كان سبحانه هو الحكم العدل الذى يُرْجَعُ إلى كتبه فى طلب الحق ومعرفته، فلا تتبع - أيها النبى - أنت ومن معك أحداً يخالف قوله الحق، ولو كانوا عدداً كثيراً. فإنك إن تتبع أكثر الناس الذين لا يعتمدون على شرع مُنزل يبعدوك عن طريق الحق المستقيم وهو طريق الله تعالى، لأنهم لا يسيرون إلا وراء الظنون والأوهام، وإن هم إلا يقولون عن تخمين لا يُبنى على برهان.
١١٧ - وإن ربك هو العليم علماً ليس مثله علم بالذين بعدوا عن طريق الحق، والذين اهتدوا إليه وصارت الهداية وصفاً لهم.
١١٨ - وإذا كان الله تعالى هو الذى يعلم المهتدين والضالين، فلا تلتفتوا إلى ضلال المشركين فيتحريم بعض الأنعام، وكلوا منها، فقد رزقكم الله تعالى إياها، وجعلها حلالا وطيبة لا ضرر فى أكلها، واذكروا اسم الله تعالى عليها عند ذبحها، ما دمتم مؤمنين به، مذعنين لأدلته.
١١٩ - وإنه لا يوجد أى مبرر أو دليل يمنعكم أن تأكلوا مما يذكر اسم الله تعالى عليه عند ذبحه من الأنعام، وقد بين سبحانه وتعالى المحرَّم فى غير حال الاضطرار، كالميتة والدم. وإن الكثيرين من الناس يبعدون عن الحق بمحض أهوائهم، من غير علم أوتوه، أو برهان قام عندهم، كأولئك العرب الذين حرَّموا بعض النعم عليهم. ولستم معتدين فى أكلكم ما وَلدَ، بل هم المعتدون بتحريم الحلال، والله - وحده - هو العليم علماً ليس مثله علم بالمعتدين حقاً.
١٢٠ - ليست التقوى فى تحريم ما أحل الله، إنما التقوى فى ترك الإثم ظاهره وباطنه، فاتركوا الآثام فى أعمالكم ظاهرها وخفيها، وإن الذين يكسبون الإثم سيجزون مقدار ما اقترفوا من سيئات.
١٢١ - وإذا كانت الأنعام حلالا لكم بذبحها، فلا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه عند ذبحه إذا تركت فيه التسمية عمداً، أو ذكر فيه اسم غير الله تعالى، فإن هذا فسق وخروج عن حكم الله.. وإن العتاة المفسدين من إبليس وأعوانه ليوسوسون فى صدور من استولوا عليهم، ليجادلوكم بالباطل. وليجروكم إلى تحريم ما أحل الله، وإن اتبعتموهم فإنكم مثلهم فى الإشراك بالله.
١٢٢ - وإنكم بإيمانكم لستم مثل المشركين فى شئ، فليس حال مَنْ كان كالميت فى ضلاله فأنار الله بصيرته بالهداية التى هى كالحياة، وجعل له نور الإيمان والحُجج والبيات، يهتدى به ويمشى على ضوئه، كحال الذى يعيش فى الظلام المتكاثف. وكما زين الله الإيمان فى قلوب أهل الإيمان، زين الشيطان الشرك فى نفوس الظالمين الجاحدين.
١٢٣ - لا تعجب - أيها النبى - إذا رأيت أكابر المجرمين فى مكة يدبرون الشر ويتفننون فيه!. فكذلك الشأن فى كل مدينة كبيرة يدبر الشر فيها الأكابر من المجرمين، وعاقبته عليهم، وهم لا يشعرون ولا يحسون بذلك.
١٢٤ - وإن هؤلاء الكبار من المجرمين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من علم ونبوة وهداية، فإذا جاءتهم حُجة قاطعة لا يذعنون لها، ولكن يقولون: لن نذعن للحق حتى ينزل علينا الوحى كما ينزل على الرسل، والله - وحده - هو الذى يصطفى لرسالته من يشاء من خلقه، وإن هؤلاء المعاندين إذا كانوا يطلبون الرياسة بهذا العناد، فسينالهم الصَغار والذل فى الدنيا بسببه، وسينالهم العذاب الشديد فى الآخرة بسبب تدبيرهم السيئ.
١٢٥ - إذا كان أولئك قد ضلوا واهتديتم، فبإرادة الله تعالى وقضائه، فمن يُكْتَب له الهداية يتسع صدره لنور الإسلام، ومن يكتب عليه الضلال يكن صدرُه ضيقاً شديد الضيق، كأنه من الضيق كمن يصعد إلى مكان مرتفع بعيد الارتفاع كالسماء، فتتصاعد أنفاسه ولا يستطيع شيئاً، وبهذا يكتب الله الفساد والخذلان على الذين ليس من شأنهم الإيمان.
١٢٦ - وهذا الذى بيَّناه هو طريق الحق المستقيم، قد فصَّلناه ووضَّحناه للناس، ولا ينتفع به إلا الذين من شأنهم التذكر وطلب الهداية.
١٢٧ - ولهؤلاء المتذكرين المؤمنين دار الأمن، وهى الجنة، وهم فى ولاية الله ومحبته ونصرته، بسبب ما عملوا فى الدنيا من خير.
١٢٨ - وإذا كان الذين سلكوا صراط الله المستقيم لهم الأمْن وولاية الله، فالذين سلكوا طريق الشيطان لهم جزاء ما ارتكبوا، حين يحشر الجميع يوم القيامة، ويقول - جل جلاله - للآثمين من الجن والإنس: أيها المجتمعون من الجن قد أكثرتم من إغواء الإنس حتى تبعكم منهم عدد كثير!. فيقول الذين اتبعوهم من الإنس: يا خالقنا والقائم علينا، قد انتفع بعضنا ببعض، واستمتعنا بالشهوات، وبلغنا أجلنا الذى حددته لنا. فيقول - جل جلاله -: مقركم النار خالدين فيها إلا مَنْ شاء الله أن ينقذهم ممن لم ينكروا رسالة الله. وإن أفعال الله دائماً على مقتضى الحكمة والعلم.
١٢٩ - وكما متَّعنا عصاة الإنس والجن بعضهم ببعض، فجعل بعض الظالمين أولياء لبعض بسبب ما يكتسبون من كبائر.
١٣٠ - والله تعالى يقول لهم يوم القيامة: يا أيها الإنس والجن، لقد جاءتكم الرسل يذكرون لكم الحجج والبينات، ويتلون عليكم الآيات، ويحذرونكم لقاء الله فى يومكم هذا، فكيف تكذبون؟ فأجابوا: قد أقررنا على أنفسنا بما ارتكبنا، وقد خدعتهم الحياة الدنيا بمتعها، وأقروا على أنفسهم أنهم كانوا جاحدين.
١٣١ - وإن إرسال الرسل منذرين مبينين إنما كان لأن ربك - أيها النبى - لا يهلك القرى بظلمهم وأهلها غافلون عن الحق، بل لا بد أن يبيّن لهم وينذرهم.
١٣٢ - ولكل عامل خير أو عامل شر درجاته من جزاء ما يعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، والله سبحانه وهو الخالق البارئ غير غافل عما يعملون، بل إن عملهم فى كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
١٣٣ - والله ربك هو الغنى عن العباد والعبادة، وهو - وحده - صاحب الرحمة الشاملة، وبمقتضاها أمركم بالخير ونهاكم عن الشر، وهو القادر إن يشأ يذهبكم ويجعل فى الأرض خلفاء من بعدكم على حسب مشيئته، وليس ذلك يصعب عليه سبحانه، فقد خلقكم من ذرية آخرين سبقوكم، وكنتم وارثين الأرض من بعدهم.
١٣٤ - وإن الذى ينذركم به من عقاب، ويبشركم به من ثواب بعد البعث والجمع والحساب آتٍ لا محالة، وما أنتم بمعجزين من يطلبكم يومئذ، فلا قدرة لكم على الامتناع عن الجمع والحساب.
١٣٥ - قل - أيها النبى - لهم مهدِّدا: اعملوا على النحو الذى اخترتموه بكل ما فى قدرتكم، وإنى عامل فى ناحية الحق، وستعلمون حتماً من تكون له العاقبة الحسنة فى الدار الآخرة، وهى لأهل الحق لا محالة، لأنكم ظالمون والله تعالى لم يكتب الفوز للظالمين.
١٣٦ - المشركون الذين يعبدون الأوثان فى أوهام مستمرة، فهم يجعلون مما خلق الله تعالى وأنشأه من الزرع ومن الإبل والبقر والغنم، جزءاً لله تعالى ينفقونه على الضيفان والمحتاجين، وجزءاً آخر ينفقونه على خدمة الأوثان التى جعلوها شركاء لله تعالى بزعمهم، فما يجعلونه للأوثان يصل إلى أوثانهم فينفقونه عليها، وما يجعلونه لله بزعمهم لا يصل شى منه إلى الضيفان والفقراء، وما أسوأ حكمهم الظالم، لأنهم جعلوا الأوثان نظراء لخالق الحرث والنسل، ولأنهم لا ينفقون ما جعلوه لله فى مصارفه.
١٣٧ - وكما زيَّنَتْ لهم أوهامهم تلك القسمة الظالمة لما خلق الله من حرث وإبل وبقر وغنم، قد زيَّنَتْ لهم أوهامهم فى الأوثان التى زعموها شركاء لله قتْل أولادهم عند الولادة، وأن يُنذروا لآلهتهم ذبح أولادهم، وإن تلك الأوهام تُرديهم وتخلط عليهم أمر الدين، فلا يدركونه على وجهه، وإذا كانت الأوهام لها ذلك السلطان على عقولهم، فاتركهم وما يفترونه على الله تعالى وعليك وسينالون عقاب ما يفترون، وتلك مشيئة الله، فلو شاء ما فعلوا.
١٣٨ - ومن أوهامهم أنهم يقولون: هذه إبل وبقر وغنم وزرع ممنوعة، لا يأكلها أحد إلا من يشاءون من خَدَمَة الأوثان، وذلك من زعمهم الباطل، لا من عند الله. وقالوا أيضاً: هذه إبل حُرِّمت ظهورها فلا يركبها أحد، وهم مع ذلك لا يذكرون اسم الله تعالى عند ذبح ما يذبحون من إبل وبقر وغنم، وذلك لكذبهم على الله تعالى بشركهم، والله تعالى سيجزيهم بالعذاب فى الآخرة، بسبب افترائهم وتحريمهم ما يُحرِّمون من غير تحريم الله تعالى.
١٣٩ - ومن أوهام هؤلاء المشركين أنهم يقولون: ما فى بطون الأنعام التى جعلوها ممنوعة لا تذبح ولا تركب، ما فى بطونها من أجِنَّة خالص للذكور من الرجال، ويُحْرَم منه النساء، ومع ذلك إذا نزل ميتاً فهم شركاء فيه، يأكلون منه، سيجزيهم الله تعالى على كذبهم الذى وصفوا به فعلهم، إذ ادَّعَوْا أن هذا التحريم من عند الله تعالى، وإن الله عليم بكل شئ، حكيمٌ، كل أفعاله على مقتضى الحكمة وهو يجزى الآثمين بإثمهم.
١٤٠ - وقد خسر أولئك الذين قتلوا أولادهم حمقا ووهما، غير عالمين مغبّة عملهم ودَاعِيه، وحرَّموا على أنفسهم ما رزقهم الله من زرع وحيوان، مفترين على الله بادعاء أنه هو الذى حرم، وقد بعدوا عن الحق بسبب ذلك، وما كانوا بسبب هذا الافتراء ممن يتصفون بالهداية.
١٤١ - الله - وحده - هو الذى خلق حدائق من الكرم، منها ما يغرس ويرفع على دعائم، ومنها ما لا يقوم على دعائم وخلق النخل والزرع الذى يخرج ثمراً مختلفاً فى اللون والطعم والشكل والرائحة وغير ذلك، وخلق الزيتون والرمان متشابهاً فى بعض الصفات وغير متشابه فى بعضها الآخر، مع أن التربة قد تكون واحدة وتسقى جميعها بماء واحد. فكلوا من ثمرها إذا طاب لكم، وأخرجوا منها الصدقة عند نضجها وجمعها، ولا تسرفوا فى الأكل فتضروا أنفسكم وتضروا الفقراء فى حقهم، إن الله لا يرضى عن المسرفين فى تصرفاتهم وأعمالهم.
١٤٢ - وخلق الله من الأنعام - وهى الإبل والبقر والماعز - ما يحمل أثقالكم، وما تتخذون من أصوافها وأوبارها وأشعارها فراشا، وهى رزق الله لكم، فكلوا ما أحل الله منها ولا تتبعوا الشيطان وأولياءه فى افتراء التحليل والتحريم، كما كان يفعل أهل الجاهلية. إن الشيطان لا يريد لكم الخير، لأنه عدو ظاهر العداوة.
١٤٣ - خلق الله من كل نوع من الأنعام ذكرا وأنثى، فهى ثمانية أزواج خلق من الضأن زوجين، ومن الماعز زوجين، وقل يا محمد للمشركين منكراً عليهم تحريم ما حرموا من هذا: ما علة تحريم هذه الأزواج كما تزعمون؟ أهى كونها ذكوراً؟ ليس كذلك، لأنكم تحلون الذكور أحياناً. أم هى كونها إناثاً؟ ليس كذلك، لأنكم تحلون الإناث أحياناً، أم هى اشتمال الأرحام عليها. ليس كذلك لانكم لا تحرمون الأجنة على الدوام. أخبرونى بمستند صحيح يعتمد عليه، إن كنتم صادقين فيما تزعمون من التحليل والتحريم.
١٤٤ - وخلق الله من الإبل زوجين، ومن البقر زوجين. قل لهم يا محمد منكراً عليهم: ما علة التحريم لما حرمتم من هذه الأزواج كما تزعمون؟ أهى كونها ذكوراً؟ ليس كذلك، لأنكم تحلون الذكور أحياناً، أهى كونها إناثاً؟ ليس كذلك لأنكم تحلون الإناث أحياناً، أم هى اشتمال الأرحام عليها؟ ليس كذلك لأنكم لا تحرمون الأجنة على الدوام، وتزعمون أن هذا التحريم من عند الله! أكنتم حاضرين حين وجه إليكم الله هذا التحريم فسمعتم نهيه؟ لم يكن ذلك قطعاً. انتهوا عما أنتم فيه، فهو ظلم، وليس هناك أظلم ممن كذب على الله فنسب إليه ما لم يصدر عنه، ولا سند له من علم يعتمد عليه، وإنما يريد بذلك إضلال الناس. إن الله لا يوفق الظالمين إذا اختاروا طريق الباطل.
١٤٥ - قل - أيها النبى -: لا أجد الآن فى مصدر التحليل والتحريم الذى أوحى به إلىَّ طعاماً محرماً على آكل يأكله، إلا أن يكون هذا الشئ ميتة لم تذَكَّ ذكاة شرعية، أو دماً سائلا، أو لحم خنزير، فإن ذلك المذكور ضارٌّ خبيث لا يجوز أكله أو أن يكون هذا الشئ المحرم فيه خروج من العقيدة الصحيحة، بأن ذكر عند ذبحه اسم غير الله، كصنم معبود آخر. على أن من دعته الضرورة إلى أكل شئ من هذه المحرمات غير طالب اللذة بالأكل، وغير متجاوز قدر الضرورة، فلا حرج عليه لأن ربك غفور رحيم.
١٤٦ - فهذا ما حرمناه عليكم. ولقد حرمنا على اليهود أكل اللحم والشحم وغيرهما من كل ما له ظفر من الحيوانات كالإبل والسباع، وحرمنا عليهم من البقر والغنم شحومهما فقط، إلا الشحوم التى حملتها ظهورهما، أو التى توجد على الأمعاء، أو التى اختلطت بعظم. وهذا التحريم عقاب لهم على ظلمهم، وفَطْمٌ لنفوسهم من اندفاعها فى الشهوات، وإنا لصادقون فى جميع أخبارنا التى منها هذا الخبر.
١٤٧ - فإن كذبك المكذبون فيما أوحيت به إليك، فقل لهم محذِّراً: إن ربكم الذى يجب أن تؤمنوا به - وحده وتلتزموا أحكامه - ذو رحمة واسعة لمن أطاعه، ولمن عصاه أيضاً، حيث لم يعجل بعقوبتهم، ولكن لا ينبغى أن يغتروا بسعة رحمته، فإن عذابه لا بد واقع بالمجرمين.
١٤٨ - سيقول المشركون اعتذاراً عن شركهم، وتحريم ما أحل الله من المطاعم، وتكذيباً لما أبلغتهم من مقت الله لما هم عليه: إن الإشراك منا وتحريم الحلال كانا بمشيئة الله ورضاه، ولو شاء عدم ذلك وكره منا ما نحن عليه، ما أشركنا نحن ولا أسلافنا، ولا حرمنا شيئاً مما أحله لنا. وقد كذَّب الذين من قبلهم رسلهم، كما كذَّبك هؤلاء واستمروا فى تكذيبهم حتى نزل بهم عذابنا! قل لهؤلاء المكذبين، هل عندكم من مستند صحيح على أن الله رضى لكم الشرك والتحليل، فتظهروه لنا؟ ما تتبعون فيما تقولون إلا الظن الذى لا يغنى من الحق شيئاً، وما أنتم إلا كاذبون فيما تزعمون.
١٤٩ - قل - يا أيها النبى -: لله الحُجة الواضحة فى كذبكم وادعائكم أن الله رضى بعملكم، ولا حُجة لكم فيما تزعمون من الشرك والتحليل والتحريم وغيرها، فلو شاء الله أن يوفقكم إلى الهداية لهداكم أجمعين إلى طريق الحق، ولكنه لم يشأ ذلك لاختياركم سبيل الضلال.
١٥٠ - قل لهم - يا أيها النبى -: هاتوا أنصاركم الذين يشهدون لكم أن الله حرَّم هذا الذى زعمتم أنه حرام، فإن حضروا، وشهدوا، فلا تصدقهم لأنهم كاذبون. ولا تتبع أهواء هؤلاء الذين كذبوا بالأدلة الكونية والقرآن المتلو، الذين لا يؤمنون بالآخرة - وهم مشركون بالله - يساوون به غيره من المعبودات الباطلة.
١٥١ - قل لهم - يا أيها النبى - تعالوا أبيِّن لكم المحرمات التى ينبغى أن تهتموا بها وتبتعدوا عنها: لا تجعلوا لله شريكاً ما، بأى نوع كان من أنواع الشرك، ولا تسيئوا إلى الوالدين، بل أحسنوا إليهما إحساناً بالغاً، ولا تقتلوا أولادكم بسبب فقر نزل بكم، أو تخشون نزوله فى المستقبل، فلستم أنتم الرازقين، بل نحن الذين نرزقكم ونرزقهم، ولا تقربوا الزنى فهو من الأمور المتناهية فى القبح، سواء منها ما ظهر للناس حين إتْيانه، وما لم يطلع عليه إلا الله، ولا تقتلوا النفس التى حرم الله قتلها لعدم موجبه، إلا إذا كان القتل بحق تنفيذاً لحكم القضاء. أمركم الله أمراً مؤكداً باجتناب هذه المنهيّات التى تقضى بديهة العقل بالبعد عنها، لتعقلوا ذلك.
١٥٢ - ولا تتصرفوا فى مال اليتيم إلا بأحسن تصرف يحفظه وينمّيه، واسْتَمِروا على ذلك حتى يصل اليتيم إلى حالة من الرشد يستطيع معها أن يستقل بالتصرف السليم، وحينئذ ادفعوا إليه ماله. ولا تمسوا الكيل والميزان بالنقص إذا أعطيتم، أو بالزيادة إذا أخذتم، بل أوفوها بالعدل ما وسعكم ذلك، فالله لا يكلف نفساً إلا ما تستطيعه دون حرج. وإذا قلتم قولا فى حكم أو شهادة أو خبر أو نحو ذلك، فلا تميلوا عن العدل والصدق، بل تحروا ذلك دون مراعاة لصلة من صلات الجنس أو اللون أو القرابة أو المصاهرة، ولا تنقضوا عهد الله الذى أخذه عليكم بالتكاليف، ولا العهود التى تأخذونها بينكم، فيما يتعلق بالمصالح المشروعة، بل أوفوا بهذه العهود. أمركم الله أمراً مؤكداً باجتناب هذه المنهيات، لتتذكروا أن التشريع لمصلحتكم.
١٥٣ - ولا تحيدوا عن النهج الذى رسمتْه لكم، لأنه هو الطريق المستقيم الموصل إلى سعادة الدارين، بل اتبعوه، ولا تتبعوا الطرق الباطلة التى نهاكم الله عنها حتى لا تتفرَّقوا شيعاً وأحزاباً، وتبعدوا عن صراط الله السوى. أمركم الله أمراً مؤكداً بذلك لتتجنبوا مخالفته.
١٥٤ - وقد أنزلنا التوراة على موسى إتماماً للنعمة على من أحسن القيام بأمر الدين، وأنزلناها تفصيلا لكل شئ من التعاليم المناسبة لهم، وهُدىً إلى الطريق السوى، ورحمة لهم باتّباعه، وذلك ليؤمن بنو إسرائيل بلقاء ربهم يوم القيامة ومحاسبتهم على هذه التكاليف.
١٥٥ - وهذا القرآن كتاب أنزلناه مبارك، مشتمل على الخير الإلهى والمنافع الدينية والدنيوية، فاتبعوه واتقوا مخالفته ليرحمكم ربكم.
١٥٦ - أنزلناه حتى لا تعتذروا عن عصيانكم وتقولوا: إن الوحى لم ينزل إلا على طائفتين من قبلنا، هم أهل التوراة وأهل الإنجيل، ولا علم لنا مطلقاً بتلاوة كتبهم وفهم ما فيها من إرشاد.
١٥٧ - وأنزلناه حتى لا تقولوا أيضاً: لو أنا أُنزل علينا الوحى الذى نزل عليهم لكنا أكثر منهم هداية وأحسن حالا، لسعة عقولنا وطيب استعدادنا. لا حُجة لكم بعد اليوم على عصيانكم، ولا محل لقولكم هذا، فقد جاءكم القرآن من ربكم علامة واضحة على صدق محمد، ومبيناً لكم جميع ما تحتاجون إليه فى دينكم ودنياكم، وهادياً إلى الطريق السوى، ورحمة لكم باتباعه. ولا يَكُنْ أحد أظلم ممن كذب بآيات الله التى أنزلها فى كتبه، وآياته التى خلقها فى الكون، وأعرض عنها فلم يؤمن ولم يعمل بها، وسنعاقب الذين يعرضون عن آياتنا، ولا يتدبرون ما فيها بالعذاب البالغ غايته فى الإيلام، بسبب إعراضهم وعدم تدبرهم.
١٥٨ - لقد قامت الحُجة على وجوب الإيمان، ولم يؤمن هؤلاء، فماذا ينتظرون لكى يؤمنوا؟ هل ينتظرون أن تأتيهم الملائكة رسلاً بدل البشرَ، أو شاهدين على صدقك؟ أو أن يأتيهم ربك ليروه، أو يشهد بصدقك؟ أو أن تأتيهم بعض علامات ربك لتشهد على صدقك؟! وعندما تأتى علامات ربك مما يلجئهم إلى الإيمان لا ينفعهم إيمانهم، لأنه إيمان اضطرار، ولا ينفع العاصى أن يتوب ويطيع الآن، فقد انتهت مرحلة التكليف، قل لهؤلاء المعرضين المكذبين: انتظروا أحد هذه الأمور الثلاثة، واستمروا على تكذيبكم، إنا منتظرون حكم الله فيكم.
١٥٩ - إن الذين فرَّقوا الدين الحق الواحد بالعقائد الزائفة والتشريعات الباطلة، وصاروا بسبب ذلك أحزاباً، تحسبهم جميعاً وقلوبهم مختلفة، لست مؤاخذاً بتفرقهم وعصيانهم ولا تملك هدايتهم، فما عليك إلا البلاغ، والله - وحده - هو الذى يملك أمرهم بالهداية والجزاء، ثم يخبرهم يوم القيامة بما كانوا يفعلونه فى الدنيا ويجازيهم عليه.
١٦٠ - مَن عمل صالحاً يضاعف له ثوابه إلى عشرة أمثاله فضلا وكرماً، ومَن عمل عملا سيئاً لا يعاقب إلا بمقدار عصيانه، عدلا منه تعالى، وليس هناك ظلم بنقص ثواب أو زيادة عقاب.
١٦١ - قل - يا أيها النبى - مبيناً ما أنت عليه من الدين الحق: إن ربى أرشدنى ووفقنى إلى طريق مستقيم، بلغ نهاية الكمال فى الاستقامة، وكان هو الدين الذى اتبعه إبراهيم مائلاً به عن العقائد الباطلة، وما كان إبراهيم يعبد مع الله إلهاً آخر كما يزعم المشركون.
١٦٢ - قل إن صلاتى وجميع عباداتى، وما آتيه فى حال حياتى من الطاعة، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح، كله خالص لوجه الله الذى خلق جميع الموجودات، فاستحق أن يعبد - وحده - وأن يطاع وحده.
١٦٣ - ولا شريك له فى الخلق، ولا فى استحقاق العبادة، وقد أمرنى ربى بذلك الإخلاص فى التوحيد والعمل، وأنا أول المذعنين الممتثلين، وأكملهم إذعاناً وتسليماً.
١٦٤ - قل يا محمد - منكراً - على المشركين دعوتهم إياك لموافقتهم على شركهم: أأطلب للعبادة رباً غير الله، مع أنه خالق كل شئ؟ وقل لهم - منكراً عليهم - إنهم لا يحملون عنك خطاياك إذا وافقتهم. لا تعمل أى نفس عملا إلا وقع جزاؤه عليها - وحدها - ولا تؤاخذ نفس بحمل ذنب نفس أخرى، ثم تبعثون بعد الموت إلى ربكم، فيخبركم بما كنتم تختلفون فيه فى الدنيا من العقائد، ويجازيكم عليه، فكيف أعصى الله اعتماداً على وعودكم الكاذبة؟.
١٦٥ - وهو الذى جعلكم خلفاء للأمم السابقة فى عمارة الكون، ورفع بعضكم فوق بعض درجات فى الكمال المادى والمعنوى لأخذكم فى أسبابه، ليختبركم فيما أعطاكم من النعم كيف تشكرونها؟ وفيما آتاكم من الشرائع كيف تعملون بها؟ إن ربك سريع العقاب للمخالفين، لأن عقابه آت لا ريب فيه وكل آت قريب، وإنه لعظيم المغفرة لمخالفات التائبين المحسنين، واسع الرحمة بهم.
Icon