( وهي السورة السابعة في العدد وسادسة السبع الطول وآياتها ٢٠٥ آيات عند القراء البصريين والشاميين و ٢٠٦ عند المدنيين والكوفيين )
الأعراف مكية بالإجماع وقد أطلق القول في ذلك عن ابن عباس وابن الزبير واستثنى قتادة آية ﴿ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ﴾ ( الأعراف ١٦٣ ) رواه عنه أبو الشيخ وابن حبان. قال السيوطي في الإتقان : وقال غيره : من هنا إلى ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم ﴾ ( الأعراف ١٧٢ ) مدني اه وكأن قائل هذا رأى أن هذه الآيات متصل بعضها بعض بالمعنى فلا يصح أن يكون بعضها مكيا وبعضها مدنيا، وبهذا النظر نقول : إن ما قبل هذه الآيات وما بعدها في سياق واحد وهو قصة بني إسرائيل على أن الغاية وهي :﴿ وإذ أخذ ربك ﴾ غير داخلة في المغيا فهي بدء سياق جديد عام. ومقتضى ذلك أن السورة كلها مكية وهو الصحيح المختار.
مناسبتها لما قبلها
سورة الأعراف أطول من سورة الأنعام فلو كان ترتيب السبع الطول مراعى فيه تقديم الأطول فالأطول مطلقا لقدمت الأعراف على الأنعام على أنه قد روي أنها نزلت قبلها، والظاهر أنها نزلت دفعة واحدة مثلها. فلم يبق وجه لتقديم الأنعام إلا أنها أجمع لما تشترك السورتان فيه، وهو أصول العقائد وكليات الدين التي أجملنا جل أصولها في خاتمة تفسيرها، وكون ما أطيل به في الأعراف كالشرح لما أوجز به فيها أو التفصيل بعد الإجمال، ولاسيما عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقصص الرسل قبله وأحوال أقوامهم، وقد بينا بعض هذا التناسب بين السورتين مع ما قبلها في فاتحة تفسير الأولى ( ج ٧ تفسير ) وسنزيده تفصيلا فيما نذكره في خاتمة الأعراف على نحو ما ذكرنا في خاتمة الأنعام من الأصول الكلية فيها إن أحيانا الله تعالى. وأما سبب تأخر نزول الأنعام فهو مبني على ما علم من التدريج في تلقين الدين ومراعاة استعداد المخاطبين فيه وهي أجمع للأصول الكلية ولرد شبهات المشركين، والفرق ظاهر بين ما يراعى من الترتيب في دعوتهم وما يراعى في تلاوة المؤمنين للقرآن.
وذكر السيوطي في المناسبة بين السورتين ما نقله الآلوسي عنه وهو أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وفيها ﴿ هو الذي خلقكم من طين ﴾ ( الأنعام ٢ ) وقال سبحانه في بيان القرون ﴿ كم أهلكنا من قبلهم من قرن ﴾ ( الأنعام ٦ ) وأشير إلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم وكان ما ذكر على وجه الإجمال جيء بهذه السورة بعدها مشتملة على شرحه وتفصيله فبسط فيها قصة آدم وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل، ويصلح هذا أن يكون تفصيلا لقوله تعالى :﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ﴾ ( الأنعام ١٦٥ ) ولهذا صدر السورة بخلق آدم الذي جعله خليفة في الأرض وقال سبحانه في قصة عاد ﴿ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ﴾ ( الأعراف ٦٩ ) وفي قصة ثمود ﴿ جعلكم خلفاء من بعد عاد ﴾ ( الأعراف ٧٤ ) وأيضا فقد قال سبحانه فيما تقدم ﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ ( الأنعام ٥٤ ) وهو كلام موجز وبسطه سبحانه هنا بقوله :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ﴾ ( الأعراف ١٥٦ ).
وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأولى فهو أنه تقدم ﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ﴾ ﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه ﴾ ( الأنعام ١٥٣- ١٥٥ ) وافتتح هذه بالأمر باتباع الكتاب، وأيضا لما تقدم ﴿ ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ﴾ ( الأنعام ١٥٩ ) ﴿ ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾ ( الأنعام ١٦٤ ) قال جل شأنه في مفتتح هذه السورة ﴿ فلنسألن الذين أرسل إليه ﴾ ( الأعراف ٦ ) وذلك من شرح التنبئة المذكورة وأيضا لما قال سبحانه :﴿ من جاء بالحسنة ﴾ ( الأنعام ١٦٠ ) الآية وذلك لا يظهر إلا في الميزان، افتتح هذه بذكر الوزن فقال عز من قائل :﴿ والوزن يومئذ الحق ﴾ ( الأعراف٨ ) ثم من ثقلت موازينه وهو من زادت حسناته على سيئاته. ثم من خفت وهو على العكس. ثم أصحاب الأعراف وهم في أحد الأقوال من استوت حسناتهم وسيئاتهم اه. ونكتفي بهذا مع ما أشرنا إليه قبله هنا وإن كان من السهل بسطه بأوضح من هذه العبارة والزيادة عليه، ونشرع في تفسير السورة مستعينين عليه بإلهامه وتفهيمه عز وجل.
ﰡ
﴿ المص ﴾ هذه حروف مركبة في الرسم بشكل كلمة ذات أربعة أحرف ولكنها تقرأ بأسماء هذه الأحرف ساكنة هكذا ألف. لام. ميم. صاد. والمختار عندنا أن حكمة افتتاح هذه السورة وأمثالها بأسماء حروف ليس لها معنى مفهوم غير مسمى تلك الحروف التي يتركب منها الكلام هي تنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه بعد هذا الصوت من الكلام حتى لا يفوته منه شيء. فهي كأداة الافتتاح " ألا " وهاء التنبيه. وإنما خصت سور معينة١ من الطول والمئين والمثاني والمفصل بهذا الضرب من الافتتاح لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتلوها على المشركين بمكة لدعوتهم بها إلى الإسلام وإثبات الوحي والنبوة، وكلها مكية إلا الزهراوين البقرة وآل عمران وكانت الدعوة فيهما موجهة إلى أهل الكتاب وكلها مفتتحة بذكر الكتاب إلا سورة مريم وسورتي العنكبوت والروم وسورة " ن " وفي كل منهما معنى مما في هذه السور يتعلق بإثبات النبوة والكتاب.
فأما سورة مريم فقد فصلت فيها قصتها بعد قصة يحيى وزكريا المشابهة لها. ويتلوهما ذكر رسالة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس مبدوءا كل منها بقوله تعالى :﴿ واذكر في الكتاب ﴾ ( مريم ١٦ ) والمراد بالكتاب القرآن فكأنه قال في كل من قصة زكريا ويحيى وقصة مريم وعيسى ﴿ واذكر في الكتاب ﴾.. وذكر هذه القصص في القرآن من دلائل كونه من عند الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم هذا لا هو ولا قومه كما صرح به في سورة هود بعد تفصيل قصة نوح مع قومه بقوله :﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، فاصبر إن العاقبة للمتقين ﴾ ( هود ٤٩ ) وكما قال في آخر سورة يوسف بعد سرد قصته مع إخوته ﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليه وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ﴾ ( يوسف ١٠٢ ) وختمت هذه السورة " أي سورة مريم " بإبطال الشرك وإثبات التوحيد ونفي اتخاذ الله تعالى لولد وتقرير عقيدة البعث والجزاء. فهي بمعنى سائر السور التي كانت تتلى للدعوة ويقصد بها إثبات التوحيد والبعث ورسالة خاتم النبيين وصدق كتابه الحكيم.
وأما سورة العنكبوت وسورة الروم فكل منهما قد افتتحت بعد " الم " بذكر أمر من أهم الأمور المتعلقة بالدعوة. فالأول الفتنة في الدين. وهي إيذاء الأقوياء للضعفاء واضطهادهم لأجل إرجاعهم عن دينهم بالقوة القاهرة. كان مشركو قريش يظنون أنهم يطفئون نور الإسلام ويبطلون دعوته بفتنتهم للسابقين إليه وأكثرهم من الضعفاء الذين لا ناصر لهم من الأقوياء بحمية نسب ولا ولاء. وكان المضطهدون من المؤمنين يجهلون حكمة الله بظهور أعدائه عليهم. فبين الله في فاتحة هذه السورة أن الفتنة في الدين من سننه تعالى في نظام الاجتماع يمتاز بها الصادقون من الكاذبين، ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وتكون العاقبة للمتقين الصابرين فكانت السورة جديرة بأن تفتتح بالحروف المنبهة لما بعدها.
والأمر الثاني الذي افتتحت به سورة الروم هو الإنباء بأمر وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولما يكن وصل خبره إلى قومه وبما سيعقبه مما هو ضمير الغيب. ذلك أن دولة فارس غلبت دولة الروم في القتال الذي كان قد طال أمره بينهما فأخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بذلك وبأن الأمر سيدول وتغلب الروم الفرس في مدى بضع سنين. وبأن الله تعالى ينصر في ذلك اليوم المؤمنين على المشركين، وقد صدق الخبر الوعد فكان كل منهما معجزة من أظهر معجزات القرآن والآيات المثبتة لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام. ولو فات من تلاها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كلمة من أولها لما فهموا مما بعدها شيئا فكانت جديرة بأن تبدأ بهذه الحروف المسترعية للأسماع المنبهة للأذهان. وكان هذا بعد انتشار الإسلام بعض الانتشار، وتصدي رؤساء قريش لمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من الدعوة وتلاوة القرآن على الناس ولاسيما في موسم الحاج. وكان السفهاء يلغطون إذا قرأ ويصخبون ﴿ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون ﴾ ( فصلت ٢٦ ).
وأما سورة " ن " ففاتحتها وخاتمتها في بيان تعظيم شأن الرسول صاحب الدعوة صلى اله عليه وسلم ودفع شبهة الجنون عنه، وهي أول ما نزل بعد سورة ﴿ اقرأ باسم ربك ﴾ وكانت شبهة رميه حماه الله وكرمه بتهمة الجنون مما يتبادر إلى الأذهان من غير عداوة ولا مكابرة. فإن رجلا أميا فقيرا وادعا مسالما، وليس برئيس قوم، ولا قائد جند، ولا ذي تأثير في الشعب بخطابة ولا شعر، يدعي أن جميع البشر على ضلال الكفر والفسق، وأنه مرسل من الله لهداية هؤلاء الخلق وأن دينه سيهدي العرب والعجم وإصلاح شرعه سيعم جميع الأمم، لا يستغرب من مدارك أولئك المشركين الأميين الجاهلين بسنن الله في الأمم وآياته في تأييد المرسلين، وأن يكون أول ما يصفون به صاحب هذه الدعوى قبل ظهور الآيات والعلوم بقولهم :" إنه لمجنون " ٢ وبعد ظهورها بقولهم :" ساحر أو كاهن أو مجنون " ٣ وبعد ظهور العلم والعرفان بقولهم :" معلم مجنون " ٤ ﴿ كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به ؟ بل هم قوم طاغون ﴾ ( الذاريات ٥٢ ).
نعم قد قيل : إن " ن " هنا بمعنى الدواة ولذلك قرن بالقلم لبيان أن هذا الدين يقوم بالعلم والكتابة كما قال في أول ما نزل عليه قبلها ﴿ اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ﴾ ( العلق ٣- ٤ ) وقيل إنه بمعنى الحوت لأن في السورة ذكرا لصاحب الحوت يونس عليه السلام. ولو صح هذا أو ذاك لما كتبت النون مفردة ونطقت ساكنة. بل كانت تذكر مركبة ومعربة كقوله :﴿ وذا النون إذ ذهبت مغاضبا ﴾ ( الأنبياء ٨٧ ) وإنما يصح أن يكون فيها إشارة إلى ما ذكر كما يصح في سائر تلك الحروف أن يكون فيها إشارات إلى معاني معينة تظهر لبعض الناس دون بعض أو غير معينة تذهب فيها الأفهام مذاهب تفيد أصحابها علما أو عبرة بشرط أن تتفق مع هداية القرآن وإن لم يصح أن يقال : إنها مرادة لله تعالى بحسب دلالة الألفاظ العربية على معانيها. ومن هذا القبيل الأخير جعل بعض مفسري السلف هذه الأحرف مقتطعة من أسماء الله تعالى أو من جمل من الكلام تشتمل عليها : أخرج أكثر رواة التفسير المأثور والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عابس في ( المص ) قال أنا الله أفصل ورواه ابن جرير عن سعيد بن جبير وروى هو وابن أبي حاتم عن السدي فيه قال : هو المصور. وروى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي فيه قال : الألف من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد. وأبو الشيخ عن الضحاك فيه قال : أنا الله الصادق. وروى أبناء جرير والمنذر وأبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله :﴿ المص وطه وطسم وحمعسق وق ون ﴾ وأشباه هذا أنه قسم أقسم الله به وهي من أسماء الله تعالى.
وأقرب من هذا إلى الفهم أنها أسماء للسور والاسم المرتجل لا يعلل وهو ما اخترناه في تفسير ألم من سورتي البقرة وآل عمران وعليه الأكثر، وهو لا ينافي ما بيناه من الحكمة آنفا وهي التي فتح علينا بها في درس التفسير الذي كنا نلقيه في مدرسة دار الدعوة والإرشاد وقد فصلناه فيه أتم تفصيل، إذ أثبتنا أن من حسن البيان وبلاغة التعبير، التي غايتها إفهام المراد مع الإقناع والتأثير، أن ينبه المتكلم المخاطب إلى مهمات كلامه والمقاصد الأولى بها، ويحرص على أن يحيط علمه بما يريده هو منها، ويجتهد في إنزالها من نفسه في أفضل منازلها ومن ذلك التنبيه لها قبل البدء بها لكيلا يفوته شيء منها. وقد جعلت العرب منه هاء التنبيه وأداة الاستفتاح فأي غرابة في أن يزيد عليها القرآن الذي بلغ حد الإعجاز في البلاغة وحسن البيان ويجب أن يكون فيها الإمام المقتدى، كما أنه هو الإمام في الإصلاح والهدى ؟
ومنه ما يقع في أثناء الخطاب من رفع الصوت وتكييفه بما تقتضيه الحال من صيحة التخويف والزجر، أو غنة الاسترحام والعطف، أو رنة النعي وإثارة الحزن أو نغمة التشويق والشجو، أو هيعة الاستصراخ عند الفزع أو صخب التهويش وقت الجدل ومنه الاستعانة بالإشارات وتصوير المعاني بالحركات٥ ومنه كتابة بعض الكلمات أو الجمل بحروف كبيرة أو وضع خط فوقها أو تحتها. حتى رووا عن عليان الممرور ( الموسوس ) أنه سئل أي بيت تقوله العرب أشعر قال البيت الذي لا يحجب عن القلب قيل ماذا ؟ قال مثل قول جميل :
ألا أيها النوام ويحكم هبوا | أسائلكم هل يقتل الرجل الحب |
ومنه أنه قد ورد الأمر في القرآن نفسه بترتيله وقراءته على مكث والحث على الخشوع فيه والتأثر بقراءته، وفي المسند والسنن من حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" زينوا القرآن بأصواتكم " ٦ وفي رواية " حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا " ٧ وكان أهل البصيرة في الدين الجامعين بين العلم والعمل والتخلق يراعون في التلاوة والمعاني وما يؤثر في القلب.
قال أبو حامد الغزالي في الأدب الثامن من آداب التلاوة الباطنة وهو ( التأثر ) : هو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد يتصف به قلبه من الحزن والخوف والرجاء وغيره، ثم قال : فتأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوة فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط " أي كقوله تعالى :﴿ إني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ﴾ ( طه ٨٢ ) يتضاءل من خيفته كأنه يكاد يموت وعند التوسع ووعد المغفرة يستبشر كأنه يطير من الفرح وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يتطأطأ خضوعا لجلاله واستشعارا لعظمته وعند ذكر الكفار ما يستحيل على الله عز وجل كذكرهم لله عز وجل ولدا وصاحبة يغض من صوته وينكسر في باطنه حياء من قبح مقالتهم وعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقا إليها وعند وصف النار ترتعد فرائضه خوفا منها اه وقد ذكر في موضع آخر أن بعضهم قرأ قوله تعالى حكاية عن فرعون ﴿ فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى ﴾ ( النازعات ٢٣- ٢٤ ) فخفض صوته كالمستحي من الله عز وجل.
أقول والواجب في مثل ما ذكر أن يكون خاليا من التكلف والصنعة التي يقصد بها التأثير في قلوب الناس لكسب إعجابهم كما يفعل المراءون، ولكن بعض المسلمين اتبعوا في هذا سنن من قبلهم من أهل الكتاب وغيرهم الذين جعلوا عبادتهم أغاني ومعازف مطربة أو مشجية لاستمالة الناس إليهم. وقد ورد في الحديث " اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتهم وإياكم ولحون أهل الكتابين وأهل الفسق فإنه سيجيء أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم من يعجبه شأ
٢ هو ما حكاه عنهم في آخر سورة "ن" بعد الرد عليهم في أولها، وفي أوائل سورة الحجر..
٣ أشير إليه في سورة الطور..
٤ حكاه عنهم في سورة حم الدخان..
٥ مما شرحناه في ذلك الدرس أن الشعراء والخطباء من العرب وأدباء المولدين كانوا يراعون في إلقاء الكلام وإنشاد الشعر مناسبة الصوت للمعنى ومراعاة تأثير في النفس (المؤلف)..
٦ أخرجه البخاري في التوحيد باب ٥٢ وأبو داود في الوتر باب ٢٠ والنسائي في الافتتاح باب ٨٣ وابن ماجه في الإقامة باب ١٧٦ والدرامي في فضائل باب ٣٤ واحمد في المسند ٤/ ٢٨٣- ٢٨٥- ٢٩٦- ٣٠٤..
٧ أخرجه بهذا اللفظ الدامي في فضائل القرآن باب ٣٤..
﴿ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ ﴾ حرج الصدر ضيقه وغمه، وهو من الحرجة التي هي مجتمع الشجر المشتبك الملتف الذي لا يجد السالك فيه سبيلا ينفذ منه، أو الذي لا يقلب الزيادة كما قال الراغب، وقد فسر الحج هنا بمعناه اللغوي وروي عن الضحاك، وروي عن ابن عباس ومجاهد تفسيره بالشك كما في الدر المنثور وعزاه ابن كثير إلى مجاهد وقتادة. ووجهوه بأن الشك ضرب من ضروب حرج الصدر وضيق القلب، وتقدم تفسير مثله في الأنعام ( الآية ١٢٤ ) وقال الراغب في هذه الجملة قيل هي نهي وقيل دعاء وقيل حكم منه نحو ﴿ ألم نشرح لك صدرك ﴾ ( الشرح ١ ) اه.
والنهي أو الدعاء عن أمر يتعلق بالمستقبل دليل على أنه مظنة الوقوع في نفسه، وبحسب سنن الله ونظام الأسباب في خلقه، والأمر هنا كذلك إلا أن يحول دون وقوعه مانع كعناية الله وتأييده، فإن هذا القرآن أمر عظيم بل هو أعظم شأن بين الله تعالى وبين عباده وقد كان في أول ما نزل قوله عز وجل :﴿ إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ﴾ ( المزمل ٥ ) ثم نزل في تفسيره ﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ﴾ ( الحشر ٢١ ) وكان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه الوحي وهو يتفصد عرقا، وكان يكاد يهيم بشدة وقعه وعظم تأثيره حتى كاد يلقى بنفسه من شاهق الجبل، وأي قلب يحتمل وصدر يتسع لكلام الله العظيم ينزل به عليه الروح الأمين، إذا لم يتول سبحانه بفضله شرحه، وإعانته على حمله وهو ما امتن به على رسوله بقوله ﴿ ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ﴾ ( الشرح ١- ٣ ) فهذا وجه مظنة وقوع الحرج بمعناه اللغوي الأصلي بالنسبة إلى الرسول نفسه، وكونه تعالى صرفه عنه بشرحه لصدره. ويصح فيه أن يكون النهي تكوينيا.
وله وجه آخر باعتبار تبليغه إياه فإنه صلى الله عليه وسلم كلف به هداية الثقلين، وإصلاح أهل الخافقين، ومن المتوقع المعلوم بالبداهة أن المتصدي لذلك لا بد أن يلقى أشد الإيذاء والمقاومة، والطعن في كتاب الله، والإعراض عن آيات الله، وهي أسباب لضيق الصدر كما قال تعالى في آخر سورة الحجر :﴿ ولقد نعلم إنك يضيق صدرك بما يقولون ﴾ ( الحجر ٩٧ ) وفي آخر سورة النحل بعدها ﴿ واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ﴾ ( النحل ١٢٧ ) ومثله في سورة النمل. وقال تعالى في أوائل سورة هود ﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ؟ إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ﴾ ( هود ١٢ ) والمراد من النهي عن أمر طبيعي كهذا الاجتهاد في مقاومته والتسلي عنه وبوعد الله والتأسي بمن سبق من رسله عليهم السلام.
فهذان الوجهان الوجيهان من تفسير القرآن بالقرآن ينافيان ما روي من تفسير الحرج بالشك، ويغنيان عما تمحله المفسرون في توجيهه بالتأويل الشبيه بالمحل وما أكثر ما روي في التفسير بصحيح حتى بالغ الإمام احمد فقال لا يصح فيه شيء، وما كل ما صح منه مقبول، إلا إذا صح رفعه إلى المعصوم، صلى الله عليه وآله وسلم. وأما قوله تعالى في سورة يونس : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } ( يونس ٩٤ ) فهو على سبيل فرض المحال المألوف في أمثال هذه المواضع والمحال وشرط " إن " لا يقتضي الوقوع بحال من الأحوال. ومثله في هذه السورة قوله تعالى بعد نهيه صلى الله عليه وسلم عن دعاء غير الله ﴿ فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ﴾ ( يونس ١٠٦ ) وقوله في غيرها ﴿ قل إن كان للرحمن ولدا فأنا أول العابدين ﴾ ( الزخرف ٨١ ) وفي ابن جرير وغيره انه صلى الله عليه وسلم قال في آية يونس " لا أشك ولا أسأل ".
وقوله تعالى :﴿ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين ﴾ تعليل لإنزال الكتاب والجملة قبله معترضة بين العلة والمعلول لإفادة أن الإنذار به إنما يكون مطلقا أو على وجه الكمال مع انتفاء الحرج من الصدر، وانشراحه للنهوض بأعباء هذا الأمر، وقيل تعليل للنهي عن الحرج على أن اللام مصدرية كقوله :﴿ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ﴾ ( الصف ٨ ) أي فلا يكن في صدرك حرج منه لأجل الإنذار به لئلا يكذبك الناس، والإنذار التعليم المقترن بالتخويف من سوء عاقبة المخالفة، وهو يتعدى إلى مفعولين : المنذر والعقاب الذي ينذره أي يخوف من وقوعه به، ومنه قوله :﴿ إنا أنذرناكم عذابا قريبا ﴾ ( النبأ ٤٠ ) وقوله :﴿ وينذرونكم لقاء يومكم هذا ﴾ ( الأنعام ١٣٠ ) والمفعولان يذكران كلاهما تارة ويذكر أحدهما تارة بعد أخرى بحسب المناسبات وقد حذف كل منهما هنا لإفادة العموم حسب القاعدة أي لتنذر به جميع الناس إذ تبلغهم دين الله وكل ما يتلى عليك في الكتاب من عقابه تعالى لمن يعصي رسله في الدنيا والآخرة فهو إيجاز بليغ يدل على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم كقوله في سورة الأنعام ﴿ ولتنذر أم القرى ومن حولها ﴾ ( الأنعام ٩٣ ) وقد صرح بجعل الإنذار عاما لأمة البعثة كافة بقوله :﴿ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ﴾ ( الفرقان ١ ) وكثيرا ما يوجه إلى الكفار والظالمين لأنهم هم الذين يعاقبون حتما، وقد يخص به المؤمنون المتقون بأنهم هم المنتفعون به قطعا، كقوله تعالى :﴿ إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب ﴾ ( فاطر ١٨ ) وقوله ﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ﴾ ( يس ١١ ) وقوله :﴿ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ﴾ ( الأنعام ٥١ ) الآية.
وأما الذكرى فهي مصدر لذكر الشيء بقلبه وبلسانه والاسم الذكر بالضم وكذا بالكسر قال في المصباح : نص عليه جماعة منهم أبو عبيدة وابن قتيبة، وأنكر الفراء الكسر في ذكر القلب وقال : اجعلني على ذكر منك، بالضم لا غير ولهذا اقتصر جماعة عليه اه وقال الراغب : والذكرى كثرة الذكر وهو أبلغ من الذكر. اه ولعله أخذ هذا المعنى من كثرة استعمالها في القرآن بمعنى التذكر النافع والموعظة المؤثرة ولا أذكر أنها استعملت فيه بمعنى ذكر اللسان إلا في قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الساعة أيان مرساها ؟ فيما أنت من ذكراها ﴾ ( النازعات ٤٢- ٤٣ ) ولا بمعنى مطلق التذكر إلى في قوله :﴿ فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ﴾ ( الأنعام ٦٨ ) لأنه في مقابل الإنساء. وقد خصها هنا بالمؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون بالمواعظ كما قال في الذاريات ﴿ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ﴾ ( الذاريات ٥٥ ) ومثله في سورة العنكبوت ﴿ وذكرى لقوم يؤمنون ﴾ ( العنكبوت ٥١ ) وفي سورة الأنبياء ﴿ وذكرى للعابدين ﴾ ( الأنبياء ٨٤ ) وفي سورة ص ﴿ وذكرى لأولي الألباب ﴾ ( ص ٤٣ ) وفي سورة ق ﴿ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ﴾ ( ق ٨ ).
والمراد بالمؤمنين هنا من كتب الله لهم الإيمان سواء كانوا آمنوا عند نزول السورة أم لا. وتقدير الكلام مع ما قبله. أنزل إليك الكتاب لتنذر به قومك وسائر الناس، وتذكر به أهل الإيمان وتعظهم ذكرى نافعة مؤثرة لأنهم هم المستعدون للاهتداء به أو أنزل إليك للإنذار العام والذكرى الخاصة، أو وهو ذكرى أو حال كونه ذكرى لمن آمنوا ولمن علم الله أنهم يؤمنون.
﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ﴾ تتخذونهم من أنفسكم ولا من الشياطين الذين يوسوسون لكم، ما يزين لكم ضلال تقاليدكم والابتداع في دينكم، فتولونهم أموركم وتطيعونهم فيما يرومون منكم، من وضع أحكام وحلال وحرام، زاعمين أنه يجب عليكم تقليدهم لأنهم أعلم منكم أو للاقتداء بما كان عليه آباؤكم فإنما على العالم بدين الله تبليغه وبيانه للمتعلم لا بيان آرائه وظنونه فيه، ولا أولياء تتخذونهم لأجل إنجائكم من الجزاء على ذنوبكم وجلب النفع لكم أو رفع الضر عنكم، زاعمين أنهم بصلاحهم يقربونكم إليه زلفى، أو يشفعون لكم عنده في الآخرة أو الدنيا، فإن الله ربكم هو الولي أي الذي يتولى أمر العباد بالتشريع والتدبير، والخلق والتقدير، فله وحده الخلق والأمر وبيده النفع والضر.
﴿ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون ﴾ أي تذكرا قليلا تتذكرون، أو زمنا قليلا تتذكرون ما يجب أن يعلم فلا يجهل ويحفظ فلا ينسى مما يجب للرب تعالى، ويحظر أن يشرك معه غيره فيه، أو قليلا ما تتعظون بما توعظون به فترجعون عن تقاليدكم وأهوائكم إلى ما أنزل إليكم من ربكم قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " تذكرون " بحذف إحدى التاءين وتخفيف الذال وتشديد الكاف، على أن أصلها ( تتذكرون ) وقرأها ابن عامر " يتذكرون " بالياء على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على طريق الالتفات، وقرأها الباقون بالتاء وتشديد الذال بإدغام التاء الأخرى فيها.
قد حققنا معنى الولاية لغة وأنواع استعمالها في القرآن مرارا أقربها ما في سورة الأنعام كقوله تعالى ؛ ﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ﴾ ( الأنعام ١٢٨ وبينا وجه الحصر في كون الله تعالى هو ولي المؤمنين في تفسير ﴿ قل أغير الله اتخذ وليا فاطر السماوات والأرض ﴾ ( الأنعام ١٤ ) وزدنا هذا بيانا في تفسير ﴿ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ﴾ ( الأنعام ٥١ ) وكذا تفسير ﴿ وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ﴾ ( الأنعام ٧٠ ) كما بيناه في تفسير آيات أخرى مما قبل سورة الأنعام ومن أوسعها وأعمها بيانا تفسير قوله تعالى :﴿ والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ﴾ ( البقرة ٢٥٧ ) الآية وفيه تفصيل لولاية الله للمؤمنين وولاية المؤمنين بعضهم لبعض وولاية الطاغوت للكافرين ونكتفي هنا بأن نقول إن الولاية التي هي عبارة عن تولي الأمر منها ما هو خاص برب العباد وإلههم الحق وهي قسمان : أحدهما : شرع الدين عقائده وعباداته وحلاله وحرامه. وثانيهما : الخلق والتدبير الذي هو فوق استطاعة الناس في أمور الأسباب العامة التي مكن الله منها جميع الناس في الدنيا، كالهداية بالفعل، وتسخير القلوب والنصر على الأعداء وغير ذلك وكل ما يتعلق بأمر الآخرة من المغفرة والرحمة والثواب والعقاب فكل ما ورد من حصر الولاية في الله تعالى فالمراد به تولي أمور العباد فيما لا يصل إليه كسبهم وشرع الدين لهم كما فصلناه في تفسير آية البقرة وغيرها.
والمتبادر هنا من النهي عن اتباع الأولياء من دونه تعالى هو النهي عن طاعة كل أحد من الخلق في أمر الدين غير ما أنزله الله من وحيه كما فعل أهل الكتاب في طاعة أحبارهم ورهبانهم فيما أحلوا لهم وزادوا على الوحي من العبادات وما حرموا عليهم من المباحات، كما ورد في الحديث المرفوع في تفسير قوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ ( التوبة ٣١ ) وكل من أطاع أحدا طاعة دينية في حكم شرعي لم ينزله ربه إليه فقد اتخذه ربا، والآية نص في عدم جواز طاعة أحد من العلماء ولا الأمراء في اجتهاده في أمور العقائد والعبادات والحلال والحرام تدينا، وما على العلماء إلا بيان ما أنزله الله وتبليغه وإرشاد الناس إلى فهمه وما عسى أن يخفى عليهم من تطبيق العمل على النص وحكمة الدين في الأحكام كبيان سمت القبلة في البلاد المختلفة، فهم لا يتبعون في ذلك لذواتهم بل المتبع ما أنزله الله بنصه أو فحواه على حسب روايتهم له وتفسيرهم لمعناه، وإنما يطاع أولو الأمر من الأمراء وأهل الحل والعقد في تنفيذ ما أنزله الله تعالى وفيما ناطه بهم من استنباط الأحكام في سياسة الأمة وأقضيتها التي تختلف المصالح فيها باختلاف الزمان والمكان، والآية نص في بطلان القياس ونبذ الرأي في الأمور الدينية المحضة، وقد فصلنا القول في ذلك وما يتعلق به من الأصول والفروع في تفسير ﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾ ( النساء ٥٨ ) الآية وتفسير قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم ﴾ ( المائدة ١٠٤ ) الآية.
ولا شك في أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من بيان الدين داخل في عموم ما أنزل إلينا على لسانه وكذا اتباعه في أحكامه الاجتهادية فإنه تعالى أمرنا باتباعه وبطاعته وأخبرنا بأنه مبلغ عنه، وقال له ﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾ ( النحل ٤٤ ) والجمهور على أن الأحكام الشرعية الواردة في السنة موحى بها وأن الوحي ليس محصورا في القرآن والإمام الشافعي يقول : إنها مستنبطة من القرآن. وقد قال صلى الله عليه وسلم " إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر " ١ رواه مسلم من حديث رافع بن خديج في مسألة تأبير النخل وروى من حديث موسى ابن طلحة عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم قال :" إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إن حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فأني لن أكذب على الله عز وجل " ٢ وإذا كان عليه أفضل الصلاة والسلام قد أذن لنا أن لا نأخذ بظنه في أمور الدنيا وقال :" أنتم أعلم بأمر دنياكم " كما في حديث عائشة وثابت ابن أنس عند مسلم فما القول بظن غيره ؟ ومنه اجتهاد العلماء فيما ذكرنا آنفا.
قال الرازي : هذه الآية تدل على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس لا يجوز لأن عموم القرآن منزل من عند الله تعالى والله تعالى أوجب متابعته فوجب العمل بعموم القرآن ولما وجب العمل به امتنع العمل بالقياس وإلا لزم التناقض. فإن قالوا : لما ورد الأمر بالقياس في القرآن، وهو قوله ﴿ فاعتبروا ﴾ كان العمل بالقياس عملا بما أنزل الله، قلنا : هب أنه كذلك " إلا أنا نقول : الآية الدالة على وجوب العمل بالقياس إنما تدل على الحكم المثبت بالقياس لا ابتداء بل بواسطة ذلك القياس، وأما عموم القرآن فإنه يدل على ثبوت ذلك الحكم ابتداء لا بواسطة ولما وقع التعارض كان الذي دل عليه ما أنزله الله ابتداء أولى بالرعاية من الحكم الذي دل عليه ما أنزله الله بواسطة شيء آخر، فكان الترجيح من جانبنا والله أعلم اه. وقد نقلنا في بحث القياس أن الرازي قد رد في محصوله كون قوله تعالى :﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾ ( الحشر ٢ ) دليلا على القياس الأصولي وهو مصيب في ذلك ثم أورد استدلالا آخر بالآية لنفاة القياس وأورد عليه مناقشة القياسيين فيه، ونحن في غنى عن ذلك بتحقيق الحق في المسألة في تفسير آية المائدة التي أشرنا إليها آنفا.
ثم ذكر أن الحشوية الذين ينكرون النظر العقلي والبراهين العقلية تمسكوا بهذه الآية. قال وهو بعيد لأن العلم بكون القرآن حجة موقوف على صحة التمسك بالدلائل العقلية فلو جعلنا القرآن طاعنا في صحة الدلائل العقلية لزم التناقض وهو باطل اه وكان ينبغي أن يرد عليهم بأن القرآن قد هدى إلى الدلائل العقلية باستدلاله بالمعقول، ومخاطبته لأولي الألباب وأصحاب العقول على أننا لا نعرف طائفة من الناس تنكر النظر العقلي والبراهين العقلية مطلقا، وإنما أنكر بعض العقلاء وأهل البصيرة على أمثاله من المتكلمين جعل العقائد والصفات الإلهية وأخبار عالم الغيب محلا لنظريات فلسفية، وموقوفا إثباتها على اصطلاحات جدلية ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يستفد أصحابها منها غير تفريق الدين، واختلاف المسلمين، والبعد عن حق اليقين، ويرى هؤلاء ان كون القرآن من عند الله تعالى قد ثبت ثبوتا عقليا من وجوه كثيرة فوجب اتباعه بتلقي العقائد والأحكام منه مع اجتناب التأويل للصفات الإلهية والأمور الغيبية بالنظريات الكلامية كما كان عليه السلف الصالح. وقد بينا هذا في مواضع أخرى.
٢ أخرجه مسلم في الفضائل حديث ١٣٩ واحمد في المسند ١/ ١٦٢..
كانت الآية الأولى من السورة في بيان إنزال الكتاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لينذر به كل الناس وذكرى وموعظة لأهل الإيمان والآية الثانية استئناف بياني لما يبدأ به من التبليغ وهو أن يأمر الناس باتباع ما أنزل إليهم من ربهم وأن لا يتبعوا من دونه أحدا يتولونه في أمر التشريع الخاص بالرب تعالى ولما كان الإنذار تعليما مقرونا بالتخويف من عاقبة المخالفة قفى على هذه القاعدة الأولى التي هي أم القواعد لأصول الدين بالتخويف من عاقبة المخالفة لها ولما يتلوها من أصول الدين وفروعه فبدأ في هاتين الآيتين بالتخويف من عذاب الدنيا فقال :
﴿ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُون ﴾ " كم " خبرية تفيد الكثرة، والقرية تطلق على الأمة قال الراغب : القرية للموضع الذي يجتمع فيه الناس وللناس جميعا ( أي معا ) ويستعمل لكل منهما، قال تعالى :﴿ { واسأل القرية ﴾ ( يوسف ٨٢ ) قال كثير من المفسرين معناه أهل القرية وقال بعضهم بل القرية ههنا القوم أنفسهم اه من غير تقدير مضاف. والذين يقولون بالتقدير يرون أنه لا حاجة إليه هنا لأن القرية تهلك كما يهلك أهلها ولكنهم يقدرون المضاف في قوله :﴿ فجاءها بأسنا ﴾ فيقولون : جاء أهلها بأسنا بدليل وصفهم بالبيات والقيلولة والمدينة لا تبيت ولا تقيل، والبيات الإغارة على العدو ليلا والإيقاع به فيه على غفلة منه فهو اسم للتبييت، وهو يشمل ما يدبره المرء أو ينويه ليلا، ومنه تبييت نية الصيام. وقيل يأتي مصدرا لبات يبيت إذا أدركه الليل، والبأس الشدة والقوة والعذاب الشديد وهو المراد هنا، والقائلون هم الذين يقيلون أي ينامون للاستراحة وسط النهار، وقيل يستريحون وإن لم يناموا يقال قال يقيل قيلا وقيلولة.
والمعنى وكثيرا من القرى أهلكناها لعصيان رسلها فيما جاءوها به من عند ربها فكان هلاكها على ضربين بأن جاء بعضهم بأسنا حال كونهم مبيتين أو بائتين ليلا كقوم لوط، وجاء بعضهم وهم قائلون آمنون نهارا كقوم شعيب. والوقتان وقتا دعة واستراحة ففيه إيذان بأنه لا ينبغي للعاقل أن يأمن صفو الليالي ولا مواتاة الأيام ولا يغتر بالرخاء فيعده آية على الاستحقاق له الذي هو مظنة الدوام وقد يعذر بالغفلة قبل مجيء النذير وأما بعده فلا عذر ولا عذير، وفيه تعريض بغرور كفار قريش بقوتهم وثروتهم وعزة عصبيتهم، وبما كانوا يزعمون أنها آية رضى الله عنهم :﴿ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ﴾ ( سبأ ٣٥ ) وليس أمرهم بأعجب من الأقوام التي عرفت هداية القرآن، أو سنن الله في نوع الإنسان، ثم هي تغتر بما هي عليه وإن كان دليلا على الهلاك، ولا ترجع عن غيها حتى يأتيها العذاب.
وقد استشكل بعض المفسرين من الآية ما لا إشكال فيه إذ ظنوا أن عطف جاءهم على " أهلكنا " بالفاء يفيد أن مجيء البأس وقع عقب الإهلاك وهو محال لأنه سببه، غافلين عن كونه بيانا تفصيليا لنوعين منه أحدهما ليلي والآخر نهاري كما بيناه آنفا، وتفصى بعضهم كالزمخشري منه بأن المراد بالإهلاك إرادته كما أن المراد من قوله :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة ﴾ ( المائدة ٦ ) إذا أردتم القيام إليها.
وفي الآية من مباحث اللغة والبلاغة أن قوله تعالى :﴿ أو هم قائلون ﴾ جملة حالية حذفت منها واو الحال لاستثقال الجمع بينها وبين واو العطف والأصل : أو وهم قائلون. ولم أر أحدا تعرض لنكتة الجمع بين الحال المفردة وجملة الحال هنا والظاهر أن المقام مقام الإفراد، لا كقوله تعالى :﴿ لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا ﴾ ( النساء ٤٣ ) حيث انفردنا ببيان فرق وجيه بين الحالين هنالك يقتضيه المعنى وينطبق على ما حققه الإمام عبد القاهر في الفرق بينهما، ولا يأتي مثله هنا لأن الفرق بين الحالين خاص بما كانت الحال فيه وصفا لفاعل العامل فيها كآية النساء ومثل قولك " نذرت أن أعتكف صائما أو وأنا صائم، وهي هنا وصف لمفعوله فتأمل. وقد بحث المفسرون الذين يعنون بالإعراب في مسألة الواو في الجملة الفعلية هل هي لام العطف أو غيرها ومتى تجب في الجملة الحالية هي والضمير معا ومتى يجب أحدهما، وهي مباحث لفظية نعدوها لأنها قلما تفيد في المعاني ونكت البلاغة فائدة تذكر.
والعبرة في الآية أن كل مذنب يقع عليه عقاب ذنبه في الدنيا يندم ويتحسر ويعترف بظلمه وجرمه إذا علم أنه هو سبب العقاب، وما كل معاقب يعلم ذلك لأن من الذنوب ما يجهل أكثر الناس أنه سبب للعقاب، وأما الذنوب التي مضت سنة الله تعالى بجعل عقابها أثرا لازما لها في الدنيا فلا تطرد في الأفراد كاطرادها في الأمم، ولا تكون دائما متصلة باقتراف الذنب، بل كثيرا ما تقع على التراخي فلا يشعر فاعلها بأنها أثر له، مثال ذلك أن ما يتولد من شرب الخمر من الأمراض والآلام لا يعرف أكثر السكارى منه غير ما يعقب الشرب من صداع وغثيان وهو مما يسهل عليهم احتماله وترجيح لذة النشوة عليه، وأما ما يولده السكر من أمراض القلب والكبد والجهاز التناسلي وما يترتب عليه من ضعف النسل واستعداده للأمراض وانقطاعه أحيانا و غير ذلك من الأمراض الجسدية والعصبية ( العقلية ) فهي تحصل ببطء وقلما يعلم غير الأطباء أنها من تأثير السكر، ثم قلما يفيد العلم بها بعد بلوغ تأثيرها هذه الدرجة أن تحمل السكور على التوبة لأن داء الخمار يزمن وحب السكر يضعف الإرادة ومضار الزنا الجسدية أخفى من مضار الخمر والميسر، ومفاسده الاجتماعية، أخفى من مضاره الجسدية فما كل أحد يفطن لها.
ويا ليت كل من علم بضرر ذنبه بعد وقوعه يرجع عنه ويتركه ويتوب إلى الله تعالى منه، ولا يكتفي بالاعتراف بظلمه، ولا بالإقرار بذنبه فإن هذا لا فائدة له فيه لا في دنياه ولا في دينه، وإذا كان الراسخ في الفسق لا يتوب من ذنب وقع عليه ضرره وعلم به، فكيف يتوب من ذنب لم يصبه منه ضرر أو أصابه من حيث لا يدري به ؟ إنما تسهل التوبة على المؤمنين الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب، وإلا فهي لأولي العزائم القوية الذين تقهر إرادتهم بشهواتهم وهم الأقلون.
وأما ذنوب الأمم فعقابها في الدنيا مطرد ولكن لها آجالا ومواقيت أطول من مثلها في ذنوب الأفراد وتختلف باختلاف أحوالها في القوة والضعف كما تختلف في الأفراد بل أشد، فإذا ظهر الظلم واختلال النظام وفشا الترف وما يلزمه من الفسق والفجور في أمة من الأمم تمرض أخلاقها فتسوء أعمالها وتنحل قواها، ويفسد أمرها وتضعف منعتها، ويتمزق نسيج وحدتها، حتى تحسب جميعا وهي شتى فيغري ذلك بعض الأمم القوية بها، فتستولي عليها، وتستأثر بخيرات بلادها وتجعل أعزة أهلها أذلة. فهذه سنة مطردة في الأمم على تفاوت أمزجتها وقواها، وقلما تشعر أمة بعاقبة ذنوبها قبل وقوع عقوبتها ولا ينفعها بعده أن يقول العارفون : يا ويلنا إنا كنا ظالمين. على أنه قد يعمها الجهل حتى لا تشعر بأن ما حل بها، إنما كان بما كسبت أيديها، فترضى باستذلال الأجنبي، كما رضيت من قبل بما كان سببا له من الظلم الوطني فينطبق عليها قولنا في المقصورة :
من ساسه الظلم بسوط بأسه | هان عليه الذل من حيث أتى |
ومن يهن هان عليه قومه | وعرضه ودينه الذي ارتضى |
فلينظر القارئ أين مكان الشعوب الإسلامية من هذه العبرة، والشعور بعقوبة الجناية والحاجة إلى علاج التوبة، وقد ثلت عروشها، وخوت صروح عظمتها على عروشها، وكانت أجدر الشعوب بمعرفة سنن الله في هلاك الأمم واتقائها وأسباب حفظ الدول وبقائها فقد أرشدها إليه القرآن، ولكن أين هي من هداية القرآن، وقد ترك تذكيرها به العلماء فهجره الدهماء، وجهل أحكامه وحكمه الملوك والأمراء، ثم نبتت فيها نابتة لا تدري ما الكتاب ولا الإيمان أقنعهم أساتذتهم أعداء الإسلام، بأن لا سبب لهبوطها وسقوطها إلا اتباع القرآن، فأضلوهم السبيل، ولفتوهم عن الدليل، فذنب هؤلاء أنهم يجهلونه، وذنب أولئك أنهم لا يقيمونه. هؤلاء مقلدة للأجانب الطامعين الخادعين، وأولئك مقلدة لشيوخ الحشوية الجامدين. فمتى تنتشر دعوة المصلحين أولي الاستقلال فتجمع الكلمة بما أوتيت من الحكمة والاعتدال على قول الكبير المتعال ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ﴾ ( الرعد ١١ ).
بينا في تفسير الآيتين اللتين قبل هذه الآيات : أنهما بدء للإنذار بعد بيان أصل الدعوة إلى الإسلام بالتذكير بعذاب الأمم التي عاندت الرسل في الدنيا وهذه الآيات تذكير بعذابهم في الآخرة قفى به على تخويف قوم الرسول من مثل ذلك العذاب العاجل، بتخويفهم مما يعقبه من العذاب الآجل، وهو الحساب والجزاء في الآخرة.
﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِين ﴾ عطف هذا على ما قبله بالفاء لأنه يعقبه ويجيء بعده إذ كان ذلك العذاب المعبر عنه بالبأس آخر أمرهم في الدنيا وقيل إن الفاء هنا هي التي يسمونها الفصيحة. وقد أكد الخبر بلام القسم ونون التوكيد لأن المخاطبين من العرب في أول الدعوة كانوا ينكرون البعث والجزاء. ولتأكيد الخبر تأثير في الأنفس ولاسيما خبر المشهور بالأمانة والصدق كالنبي صلى الله عليه وسلم فقد كانوا يلقبونه قبل البعثة بالأمين. والمراد : أرسل إليهم جميع الأمم التي بلغتها دعوة الرسل يسأل تعالى كل فرد منهم في الآخرة عن رسوله إليه وعن تبليغه لآياته وبماذا أجابوهم وما عملوا من إيمان وكفر، وخير وشر ويسأل المرسلين عن التبليغ منهم، والإجابة من أقوامهم.
بين هذا الإجمال في آيات منها قوله تعالى في سورة الأنعام :﴿ يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا ﴾ ( الأنعام ١٢٦ ) وفي سورة القصص ﴿ ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ﴾ ( القصص ٥٦ ) وفي سورة العنكبوت ﴿ وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون ﴾ ( العنكبوت ١٢ ) ومثله في سورة النحل :﴿ ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون ﴾ ( النحل ٥٦ ) وهو ما ابتدعوه في الدين كجعلهم لمعبوداتهم نصيبا مما رزقوا من الحرث والأنعام يتقربون إليهم بها بنذر أو غيره ويتقربون بهم إلى الله كما تقدم في سورة الأنعام ومنه ما ينذره القبوريون لأوليائهم، وأعم منه قوله تعالى في النحل أيضا ﴿ ولتسألن عما كنتم تعملون ﴾ ( النحل ٩٣ ) وهو خطاب لجميع الناس، ومثله في التأكيد والعموم قوله في سورة الحجر ﴿ فوربك لنسألهم أجمعين عما كانوا يعملون ﴾ ( الحجر ٩ ) ومنه في السؤال عن المشاعر الظاهرة والباطنة ﴿ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ﴾ ( الإسراء ٣٦ ) وقال تعالى في سؤال الرسل ﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ﴾ المائدة ١١٢ ) وتقدم تفسيره في الجزء السابع.
قال ابن عباس في تفسير الآية : نسأل الناس عما أجابوا المرسلين ونسأل المرسلين عما بلغوا. ونحوه عن سفيان الثوري وقيل إن الذين أرسل إليهم هم الأنبياء المرسلون والمرسلين هم الملائكة الذين نزلوا عليهم بالوحي وفي رواية جبريل خاصة، وهو خلاف الظاهر فإن الرسل يسألون ليكونوا شهداء على أقوامهم كما قال تعالى :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾ ( النساء ٥١ ) ولا حاجة إلى شهادة الملائكة على الرسل لئلا ينكروا الرسالة فما هي ذنب يتوقع إنكاره منهم لو لم يكونوا معصومين من ذلك. وفي السؤال العام وما يسأل عنه الناس أحاديث سيأتي بعضها.
فإن قيل هذه الآيات تثبت السؤال العام يوم القيامة وهو يشمل العقائد والأعمال وهي حسنات وسيئات فما معنى قوله تعالى في سورة القصص ﴿ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ﴾ ( القصص ٧٨ ) وفي سورة الرحمن ﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ﴾ ( الرحمان : ٣٩ ) قلنا قد أجاب المفسرون عن ذلك بأجوبة أشرنا في تفسير آية الأنعام إلى بعضها وهو أن للقيامة مواقف متعددة يعبر عنها باليوم والسؤال والجواب والاعتذار يكون في بعضها دون بعض. والصواب أن نفي السؤال عن الذنب في آية الرحمن لا إشكال فيه لأن ما بعد الآية يفسرها بأن المراد لا يسأل أحد عن ذنبه لأجل أن يعرف المجرم ويمتاز من غيره إذ قال بعدها ﴿ يعرف المجرمون بسيماهم ﴾ ( وهو استئناف بياني كأنه قيل لم لا يسألون وبم يعرف المجرمون منهم ويمتازون من المسلمين ؟ فقال :﴿ يعرف المجرمون بسيماهم ﴾ ( ولا مندوحة عن حمل آية القصص على هذا المعنى وهو مروي عن ابن عباس كالأول، وروي عنه أيضا أن المذنب لا يسأل عن ذنبه هل أذنبت أو هل فعلت كذا من الذنوب ؟ أي لأن الله تعالى أعلم منه بذنوبه وقد أحصاها عليه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وهو يجد ما عمل حاضرا في كتابه متمثلا في نفسه، معروضا لها فيما يشهد عليه من أعضائه وجوارحه وإنما يسأله لم عمل كذا أي بعد أن يعرف به، وهو يتفق مع تفسيره هنا لقوله عز وجل :﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْم ﴾.
بينا في تفسير الآيتين اللتين قبل هذه الآيات : أنهما بدء للإنذار بعد بيان أصل الدعوة إلى الإسلام بالتذكير بعذاب الأمم التي عاندت الرسل في الدنيا وهذه الآيات تذكير بعذابهم في الآخرة قفى به على تخويف قوم الرسول من مثل ذلك العذاب العاجل، بتخويفهم مما يعقبه من العذاب الآجل، وهو الحساب والجزاء في الآخرة.
﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ٧ ﴾
فإن قيل هذه الآيات تثبت السؤال العام يوم القيامة وهو يشمل العقائد والأعمال وهي حسنات وسيئات فما معنى قوله تعالى في سورة القصص ﴿ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ﴾ ( القصص ٧٨ ) وفي سورة الرحمن ﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ﴾ ( الرحمان : ٣٩ ) قلنا قد أجاب المفسرون عن ذلك بأجوبة أشرنا في تفسير آية الأنعام إلى بعضها وهو أن للقيامة مواقف متعددة يعبر عنها باليوم والسؤال والجواب والاعتذار يكون في بعضها دون بعض. والصواب أن نفي السؤال عن الذنب في آية الرحمن لا إشكال فيه لأن ما بعد الآية يفسرها بأن المراد لا يسأل أحد عن ذنبه لأجل أن يعرف المجرم ويمتاز من غيره إذ قال بعدها ﴿ يعرف المجرمون بسيماهم ﴾ ( وهو استئناف بياني كأنه قيل لم لا يسألون وبم يعرف المجرمون منهم ويمتازون من المسلمين ؟ فقال :﴿ يعرف المجرمون بسماهم ﴾ ( ولا مندوحة عن حمل آية القصص على هذا المعنى وهو مروي عن ابن عباس كالأول، وروي عنه أيضا أن المذنب لا يسأل عن ذنبه هل أذنبت أو هل فعلت كذا من الذنوب ؟ أي لأن الله تعالى أعلم منه بذنوبه وقد أحصاها عليه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وهو يجد ما عمل حاضرا في كتابه متمثلا في نفسه، معروضا لها فيما يشهد عليه من أعضائه وجوارحه وإنما يسأله لم عمل كذا أي بعد أن يعرف به، وهو يتفق مع تفسيره هنا لقوله عز وجل :
﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْم ﴾ قال : يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون. وأصل القص تتبع الأثر فيكون بالعمل كقوله تعالى حكاية عن أم موسى ﴿ وقالت لأخته قصيه ﴾ ( القصص ١١ ) وبالقول ومنه ﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص ﴾ ( يوسف ٣ ) وهي الأخبار المتتبعة كما حققه الراغب فليس كل خبر قصصا. أي فلنقصن على الرسل وعلى أقوامهم الذين أرسلوا إليهم كل ما وقع من الفريقين قصصا بعلم منا محيط بكل ما كان منهم لا يعزب عنه مثقال ذرة، أو عالمين بكل ما كان منهم لا يعزب عنه مثقال ذرة، أو عالمين بكل ما كان منهم، وما كتبه الكرام الكاتبون عنهم. ﴿ وَمَا كُنَّا غَآئِبِين ﴾ عنهم في حال من الأحوال ولا وقت من الأوقات بل كنا معهم نسمع ما يقولون ونبصر ما يعملون، ونحيط علما بما يسرون ويعلنون كما قال :﴿ وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ﴾ ( النساء ١٠٧ ) فالسؤال لأجل البيان والإعلام لا لأجل الاستبانة والاستعلام وهذا القصص هو الذي يكون به الحساب ويتلوه الجزاء والآيات والأحاديث في بيانه كثيرة.
أما الآيات فتأتي في مواضعها وأما الأحاديث فمنها حديث ابن عمر المتفق عليه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعته : فالإمام يسأل عن الناس والرجل يسأل عن أهله والمرأة تسأل عن بيت زوجها والعبد يسأل عن مال سيده " ١ وورد بألفاظ أخرى. وفي معناه ما رواه الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن أنس قال : قال رسول الله صلة الله عليه وسلم " كلكم راع وكلم مسؤول عن رعيته فأعدوا للمسائل جوابا " قالوا وما جوابها ؟ قال " أعمال البر " وفي معناه ما رواه من حديث عبد الله بن مسعود " إن الله سائل كل ذي رعية عما استرعاه أقام أمر الله فيهم أم ضيعه ؟ حتى إن الرجل ليسأل عن أهل بيته " وما رواه في الكبير عن المقدام : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يكون رجل على قوم إلا جاء يقدمهم يوم القيامة بين يديه راية يحملها وهم يتبعونه، فيسأل عنهم ويسألون عنه " ومنها ما رواه في الأوسط من حديث أنس " أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة ينظر في صلاته فإن صلحت فقد أفلح وإن فسدت فقد خاب وخسر " وما رواه هو والبزار والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعا " ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابا يسيرا وأدخله الجنة برحمته قالوا وما هي ؟ قال تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك ".
وروى أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي هريرة مرفوعا " إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها ؟ قال قاتلت في سبيلك حتى استشهدت. قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل : ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها ؟ قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما علمت فيها ؟ قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل : ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار " ٢.
وروى الترمذي من حديث أبي برزة الأسلمي مرفوعا وقال حسن صحيح " لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه " ٣ وروي نحوه عن ابن مسعود بلفظ " لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وماذا عمل فيما علم " وقال هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث حسين بن قيس وحسين يضعف في الحديث اه وهذه الرواية تذكر كثيرا في بعض خطب الجمعة. وذكر السفاريني في شرح عقيدته أن البزار والطبراني روياه به من حديث معاذ بسند صحيح بلفظ " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال " إلخ.
وروى أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث شداد بن أوس مرفوعا " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " ٤ علم عليه السيوطي في الجامع الصغير بالصحة وقال الترمذي بعد ذكره وآخره عنده " وتمنى على الله " هذا حديث حسن ومعنى " دان نفسه " حاسب نفسه في الدنيا قل أن يحاسب يوم القيامة، ويروى عن عمر بن الخطاب قال : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وتزينوا للعرض الأكبر، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا اه.
٢ أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٥٢ والترمذي في الزهد باب ٤٨ والنسائي في الجهاد باب ٢٢ وأحمد في المسند ٢/ ٣٢٢..
٣ أخرجه الترمذي في القيامة باب ١..
٤ أخرجه الترمذي في القيامة باب ٢٥ وابن ماجه في الزهد باب ٣١ واحمد في المسند ٤/ ١٢٤..
بينا في تفسير الآيتين اللتين قبل هذه الآيات : أنهما بدء للإنذار بعد بيان أصل الدعوة إلى الإسلام بالتذكير بعذاب الأمم التي عاندت الرسل في الدنيا وهذه الآيات تذكير بعذابهم في الآخرة قفى به على تخويف قوم الرسول من مثل ذلك العذاب العاجل، بتخويفهم مما يعقبه من العذاب الآجل، وهو الحساب والجزاء في الآخرة.
ولما كان الجزاء على حسب الأعمال وهي متفاوتة تنضبط وتقدر بالوزن وإقامة الميزان قال عز وجل :
﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقّ ﴾ قال الراغب : الوزن معرفة قدر الشيء يقال وزنته وزنا وزنة والمتعارف في الوزن عند العامة ما يقدر بالقسط والقبان اه وتفسيره الوزن بالمعرفة تساهل وإنما هو عمل يراد به تعرف مقدار الشيء بالآلة التي تسمى الميزان وهو مشتق منه، وبالقسطاس وهو من القسط ومعناه النصيب العادل أو بالعدل كما قال الراغب، وأطلق على العدل مجازا وكذا الميزان ومنه قوله تعالى :﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب ﴾ ( آل عمران ٧ ) ﴿ بالحق والميزان ﴾ ( الشورى ١٧ ) وقوله في الرسل كافة ﴿ وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم للناس بالقسط ﴾ ( الحديد ٢٥ ) ومن كلام العرب استقام ميزان النهار إذا انتصف وليس لفلان وزن أي قدر لخسته ومنه قوله تعالى :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ( الكهف ١٠٥ ) قال الراغب وقوله :﴿ والوزن يومئذ الحق ﴾ ( الأعراف ٨ ) فإشارة إلى العدل في محاسبة الناس كما قال :﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ﴾ ( الأنبياء ٤٧ ) أي ولذلك قال عقبه ﴿ فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ﴾ ( الأنبياء ٤٧ ) والتجوز بالوزن والميزان في الشعر كثير.
ومعنى الجملة : والوزن في ذلك اليوم الذي يسأل الله فيه الرسل والأمم ويقص عليهم كل ما كان منهم هو الحق الذي تحق به الأمور وتعرف به حقيقة كل أحد وما يستحقه من الثواب والعقاب. وذهب أكثر علماء الإعراب إلى أن المعنى أن الوزن الحق كائن يومئذ لا أن الوزن يومئذ حق. فالحق صفة للوزن ويومئذ هو الخبر عنه أو المعنى والوزن كائن يومئذ وهو الحق الأول أظهر.
﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ قيل إن الموازين جمع ميزان فهي متعددة لكل امرئ ميزان وقيل لكل عمل. والجمهور على أن الميزان واحد وأنه يجمع باعتبار المحاسبين وهم الناس أو على حد قول العرب : سافر فلان على البغال وإن ركب بغلا واحدا، وقيل إن الموازين جمع موزون والمعنى فمن رجحت موازين أعماله بالإيمان وكثرة حسناته فأولئك هم الفائزون بالنجاة من العذاب والنعيم في دار الثواب.
بينا في تفسير الآيتين اللتين قبل هذه الآيات : أنهما بدء للإنذار بعد بيان أصل الدعوة إلى الإسلام بالتذكير بعذاب الأمم التي عاندت الرسل في الدنيا وهذه الآيات تذكير بعذابهم في الآخرة قفى به على تخويف قوم الرسول من مثل ذلك العذاب العاجل، بتخويفهم مما يعقبه من العذاب الآجل، وهو الحساب والجزاء في الآخرة.
﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُون ﴾ أي ومن خفت موازين أعماله بالكفر وكثرة سيئاته فأولئك الذين خسروا أنفسهم إذ حرموا السعادة التي كانت مستعدة لها لو لم يفسدوا فطرتها بالكفر والمعاصي بسبب ما كانوا يظلمونها بكفرهم بآيات الله مستمرين على ذلك مصرين عليه إلى نهاية أعمارهم كما يدل عليه التعبير بالمضارع، وعدي الظلم بالباء لتضمنه معنى الكفر وسيأتي مثله في هذه السورة ( آية ١٠٢ ) وفي غيرها.
وظاهر هذا التقسيم أنه لفريقي المؤمنين على تفاوت درجاتهم في الفلاح، والكافرين على تفاوت دركاتهم في الخسران، فإن من مات مؤمنا فهو مفلح وإن عذب على بعض ذنوبه بقدرها، فهذا الوزن الإجمالي الذي يمتاز به فريق الجنة وفريق السعير وهنالك قسم ثالث استوت حسناتهم وسيئاتهم وهم أصحاب الأعراف وسيأتي ذكرهم في هذه السورة ويتبع الوزن الإجمالي الوزن التفصيلي للفريقين. ولكن بعض العلماء يقولون إن الوزن للمؤمنين خاصة لأنه تعالى قال في الكافرين ﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ( الكهف ١٠٥ وأجاب الآخرون بأن معناه ما تقدم آنفا في بحث الوزن في اللغة في أنه لا يكون لهم قيمة ولا قدر، وهو لا ينفي وزن أعمالهم وظهور خفتها وخسرانهم، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى من سورة المؤمنين ﴿ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون ﴾ ( المؤمنون ١٠٣- ١٠٦ ).
ومن المستغرب أن شيخ الإسلام ابن تيمية قال بعد ذكر آيتي الموازين في الثقل والخفة من سورة المؤمنين : إن الكفار لا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته إذ لا حسنات لهم ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها، وهو سهو سببه والله أعلم ما كان علق بذهنه من هذا القول، وما من كافر إلا وله حسنات ولكن الكفر يحبطها فتكون هباء منثورا، وهي تحصى مع السيئات وتضبط بالوزن الذي به يظهر مقدار الجزاء وتفاوتهم فيه واستدلوا على تخفيف العذاب عن الكافر بسبب عمله الصالح بما ورد في الصحيح من التخفيف عن أبي طالب بما كان من حمايته للنبي صلى الله عليه وسلم وحبه له، وزعم بعضهم أن ذلك خاص به ويصح أن تكون الخصوصية في نوع التخفيف ومقداره، إذ من المتفق عليه والمجمع عليه أن عذاب الكفار متفاوت ولا يعقل أن يكون عذاب أبي جهل كعذاب أبي طالب لولا الخصوصية والله تعالى يقول :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ ( النساء ٤٠ ).
ومن المشاهد في كل زمان أن من الكفار من يحب الله ويعبده ولا يشرك به والمشركون منهم إنما أشركوا معه غيره في الحب والعبادة كما قال في أندادهم ﴿ يحبونهم كحب الله ﴾ ( البقرة ١٦٥ ) وهو يتضمن إثبات حبهم لله ويتصدقون ويصلون الأرحام ويفعلون غير ذلك من أعمال البر ويمتنعون عن الفواحش خوفا من الله فهل يسوي الحكم العدل بينهم وبين مرتكبي الفواحش والمنكرات والجنايات من الكفار ولاسيما الجاحدين المعطلين ومكذبي الرسل منهم ؟ حاش لله. نعم صح الحديث عند مسلم بأنهم يجازون على حسناتهم في الدنيا وهو لا يمنع وزنها في الآخرة وأن لا يكون لها مع الكفر والسيئات دخل في رجحان موازينهم.
وجملة القول إن المسلمين اختلفوا في هذا الوزن والموازين : هل هي عبارة عن العدل التام في تقدير ما به يكون الجزاء من الأعمال وتأثيرها في إصلاح الأنفس وتزكيتها وفي إفسادها وتدسيتها، أم هنالك وزن حقيقي حكمته إظهار علم الله تعالى بأعمال العباد وعدله في جزائهم عليها ؟ ذهب إلى الأول مجاهد من مفسري السلف – وكذا الأعمش والضحاك حكاه الرازي عنهما والجهمية والمعتزلة قال مجاهد في الآية كما في الدر المنثور " والوزن يومئذ الحق " قال العدل " فمن ثقلت موازينه " قال حسناته " ومن خفت موازينه " قال سيئاته اه وروى ابن جرير نحوه عنه وسيأتي فيما لخصه الحافظ ابن حجر.
والجمهور على الثاني بل قال أبو إسحاق الزجاج كما نقل الحافظ عنه أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال. وأنكرت المعتزلة الميزان وقالوا هو عبارة عن العدل فخالفوا الكتاب والسنة لأن الله أخبر أنه يضع الموازين لوزن الأعمال ليرى العباد أعمالهم ممثلة ليكونوا على أنفسهم شاهدين. وقال ابن فورك : أنكرت المعتزلة الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها. قال وقد روى بعض المتكلمين عن ابن عباس أن الله تعالى يقلب الأعراض أجساما فيزنها. انتهى.
نقل الحافظ ابن حجر ما ذكر في شرح آخر باب من أبواب البخاري وهو ( باب قول الله ﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ﴾ وإن أعمال بني آدم وقولهم توزن وقفى عليه بقوله : وقد ذهب بعض السلف إلى أن الميزان بمعنى العدل والقضاء فأسند الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى :﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ﴾ ( الأنبياء ٤٧ ) قال إنما هو مثل كما يجوز وزن الأعمال كذلك يجوز الحط ومن طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال : الموازين العدل والراجح ما ذهب إليه الجمهور.
وأخرج أبو القاسم اللالكائي في السنة عن سلمان قال يوضع الميزان وله كفتان لو وضع في إحداهما السماوات والأرض ومن فيهن لوسعته ومن طريق عبد الملك بن أبي سليمان : ذكر الميزان عند الحسن فقال : له لسان وكفتان. وقال الطيبي : قيل إنما توزن الصحف وأما الأعمال فإنها أعراض فلا توصف بثقل ولا خفة. والحق عند أهل السنة أن الأعمال حينئذ تجسد أو تجعل في أجسام فتصير أعمال الطائعين في صورة حسنة وأعمال المسيئين في صورة قبيحة ثم توزن، ورجح القرطبي أن الذي يوزن الصحائف التي تكتب فيها الأعمال، ونقل عن ابن عمر قال : توزن صحائف الأعمال قال فإذا ثبت هذا فالصحف أجسام فيرتفع الإشكال، ويقويه حديث البطاقة الذي أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه وفيه " فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة " ١ انتهى والصحيح أن الأعمال هي التي توزن.
وقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن " ٢ وفي حديث جابر رفعه " توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار قيل ومن استوت حسناته وسيئاته ؟ قال أولئك أصحاب الأعراف " أخرجه خيثمة في فوائده، وعند ابن المبارك في الزهد عن ابن مسعود نحوه موقوفا. وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة عن حذيفة موقوفا إن صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام اه ما لخصه الحافظ ابن حجر من أقوال أهل السنة.
أقول : وقد استقصى السيوطي في تفسير الآية من الدر المنثور ما ورد في الميزان أو الوزن من الروايات الصحيحة والسقيمة أو جله وليس في الصحيحين منها إلا ما ختم به البخاري صحيحه وهو حديث أبي هريرة المرفوع " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " ٣ وإذا لم يكن في الصحيحين ولا في كتب السنن المعتمدة حديث صحيح مرفوع في صفة الميزان ولا في أن له كفتين ولسانا فلا تغتر بقول الزجاج إن هذا مما أجمع عليه أهل السنة. فإن كثيرا من المصنفين يتساهلون بإطلاق كلمة الإجماع ولاسيما غير الحفاظ المتقنين والزجاج ليس منهم، ويتساهلون في عزو كل ما يوجد في كتب أهل السنة إلى جماعتهم وإن لم يعرف له أصل من السلف، ولا اتفق عليه الخلف منهم، وهذه المسألة مما اختلف فيه السلف والخلف كما علمت فاختلف علماء أهل السنة القائلون بأن الوزن بميزان هل هو ميزان واحد أم لكل شخص أو لكل عمل ميزان ؟ وفي الموزون به حتى قيل إنه الأشخاص لا الأعمال وفي صفة الموزون والوزن، وفيمن يوزن لهم أللمؤمنين خاصة أم لهم وللكفار، وفي صفة الخفة والثقل وفيها ثلاثة أقوال.
ولهذا الخلاف ثلاثة أسباب : أحدهما : اختلاف الأخبار والآثار عن السلف وأكثرها لا يصح ولا يحتج بمثله في الأحكام العملية فضلا عن المسائل الاعتقادية، ثانيها : الاختلاف في فهمها، ثالثها : الرأي والتخيل والقياس مع الفارق، فإن الخلف من المنتمين إلى مذاهب السنة خاضوا فيما خاض فيه غيرهم من تحكيم الرأي في أمور الغيب. فالمعتزلة أخطأوا في قياس عالم الغيب على عالم الشهادة وإنكار وزن الأعمال بحجة أنها أعراض لا توزن وأن علم الله بها يغني عن وزنها، ورد عليهم بعض المنتمين إلى السنة ردا مبنيا على أساس مذهبهم في قياس عالم الغيب على عالم الشهادة وتطبيق أخبار الآخرة على المعهود المألوف في الدنيا، فزعموا أن الأعمال تتجسد وتوزن أو توضع في صور مجسمة أو أن الصحائف التي تكتب فيها الأعمال هي التي توزن بناء على أنها كصحائف الدنيا إما رق ( جلد ) وإما ورق.
والأصل الذي عليه سلف الأمة في الإيمان بعالم الغيب أن كل ما ثبت من أخباره في الكتاب والسنة فهو حق لا ريب فيه نؤمن به ولا نحكم رأينا في صفته وكيفته. فنؤمن إذا بأن في الآخرة وزنا للأعمال قطعا، ونرجح أنه بميزان يليق بذلك العالم يوزن به الإيمان والأخلاق والأعمال، لا نبحث عن صورته وكيفيته ولا عن كفتيه إن صح الحديث فيهما كما صوره الشعراني في ميزانه، ويؤخذ من آيات كثيرة أن ذلك يكون باعتبار تأثيرها في النفس من تزكية أو تدسية وهو ما يترتب عليه جل الجزاء كما تقدم شرحه. وإذا كان البشر قد اخترعوا موازين للأعراض كالحر والبرد أفيعجز الخالق البارئ القادر على كل شيء عن وضع ميزان للأعمال النفسية والبدنية المعبر عنها بالحسنات والسيئات، بما أحدثته في الأنفس من الأخلاق والصفات ؟ والنقل والعقل متفقان على أن الجزاء إنما يكون بصفات النفس الثابتة، لا بمجرد ما كان سببا لها من الحركات والأعراض الزائلة قال تعالى :﴿ سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم ﴾ ( الأنعام ١٣٩ ) وقال في سورة الشمس ﴿ ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ﴾ ( الشمس ٨- ١٠ ) وفي سورة الأعلى :﴿ قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى ﴾ ( الأعلى ١٤- ١٥ ) وقد حققنا هذا البحث في مواضع من التفسير آخرها تفسير خاتمة سورة الأنعام.
وتقدم أن حكمة وزن الأعمال بعد الحساب أنه يكون أعظم مظهرا لعدل الرب تبارك وتعالى أي ولعلمه وحكمته وعظمته في ذلك اليوم العظيم إذ يرى فيه عباده أفرادا وشعوبا وأمما ذلك بأعينهم و يعرفونه معرفة إدراك ووجدان في أنفسهم فإن أعمالهم تتجلى لهم فيها أولا، ثم تتجلى لهم ولسائر الخلق في خارجها ثانيا، فيا له من منظر مهيب، ويا له من منظر رهيب، وما أشد غفلة من قال إنه لا حاجة إليه، للاستغناء بعلم الله عنه.
ولولا تحكيم الناس الرأي والخيال فيما لا مجال لهما فيه من أمور الغيب واهتمامهم بكل ما روي فيه عن المتقدمين لكنا في غنى عن إطالة الكلام في حكاية تلك الاختلافات بالاختصار في بيان العقائد على ما ثبت في آيات الكتاب العزيز ثم الأحاديث الصحيحة المخرجة في دواوين السنة المشهورة دون الشاذة والغريبة.
ومن هذه الأحاديث الغريبة
٢ أخرجه الترمذي في البر باب ٦٢..
٣ أخرجه البخاري في التوحيد باب ٥٨ والدعوات باب ٦٦ والإيمان باب ١٩ ومسلم في الذكر حديث ٣٠ والترمذي في الدعوات باب ٥٩ وابن ماجه في الأدب باب ٥٦ واحمد في المسند ٢/ ٢٣٢..
تقدم أن الله تعالى بدأ هذه السورة بذكر إنزال القرآن على خاتم الرسل لينذر به جميع البشر فيما يدعوهم من دينه، وبيان أساس الدين الإلهي وهو أن واضع الدين هو الله تعالى رب العباد فالواجب فيه اتباع ما أنزله إليهم وأن لا يتبعوا من دونه أولياء يتولونهم ويعملون بما يأمرونهم به من عبادة وحلال وحرام، وأنه قفى على ذلك ببيان نوعي العذاب الذي أنذر به من يتبعون أولئك الأولياء أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فهذا موضوع الآيات السابقة.
ولما كان الدين الذي أمر تعالى باتباع التنزيل فيه دون غيره إلا ما بيّنه من سنة الرسول المنزل عليه بأمره هو دين الفطرة المبين لكل ما يوصلها إلى كمالها والناهي لها عن كل ما يحول بينها وبين الكمال وكان افتتان الناس بأمر المعيشة من أسباب إفساد الفطرة بالإسراف في الشهوات، من حيث إنه يجب أن تكون نعم الله عليهم بما يحتاجون إليه من أمر المعيشة سببا لإصلاحها بشكر الله عليه الموجب للمزيد منه، لما كان الأمر كذلك ذكر سبحانه الناس في هذه الآية بنعمه عليهم في التمكين في الأرض وخلق أنواع المعايش فيها وهو بدء سياق طويل فيه بيان خلق نوعهم الإنساني مستعدا للكمال وما يعرض له من وسوسة الشيطان التي تصده عنه، وما ينبغي لأفراده من اتقاء فتنة هذه الوسوسة وعدم اتخاذ شياطينها الملقين لها أولياء يتبعونهم دون ما أنزل إليهم من ربهم، فإنهم هم الذين يحملونهم بذلك على كفر النعم عوضا عن الشكر وعلى تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه، ويتلوه ما شرعه لهم من الزينات والطيبات وما حرمه عليهم فيهما.
فهذا السياق الاستطرادي أو المشبه للاستطراد يبتدئ من الآية التاسعة إلى الآية الثانية والثلاثين، ثم يعود الكلام إلى ذكر دعوة الرسل للأمم وجزاء من آمن بهم واتبعهم ومن كفر بهم وعصاهم، وفيه تفصيل لما أجمل في الآيتين اللتين قبل هذه الآية من جزاء الآخرة فتأمل دقة بلاغة التناسب بين آيات القرآن فإنها نوع خاص من أنواع إعجازه الكثيرة.
قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْض ﴾ أي جعلنا لكم فيها أوطانا تتبوءونها وتتمكنون من الراحة في الإقامة فيها، وتأكيد الخبر باللام وقد لتذكير الغافلين عن كونه من نعم الله عليهم به وكذا ما عطف عليه من قوله :﴿ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِش ﴾. جمع معيشة وهي ما تكون به العيشة والحياة الجسمانية الحيوانية من المطاعم والمشارب وغيرها. أي وأنشأنا لكم فيها ضروبا شتى مما تعيشون به عيشة راضية، والنكتة في تقديم ﴿ لكم فيها ﴾ على ﴿ معايش ﴾ مع أن الأصل أن يقدم المفعول به على غيره من متعلقات الفعل هو أن المقصود من ذكر خلق المعايش كونها نعما منه سبحانه على الناس جعلهم مالكين لها متمكنين من الانتفاع بها لا كونها مجعولة ومخلوقة، والقاعدة في تقديم بعض الكلام على بعض هي أن يقدم المقصود بالذات والأهم فالأهم منه كما حققه الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز، ولا شك أن كون المعايش لهم أهم من كونها في الأرض التي مكنهم فيها فهاهنا ثلاثة أشياء : المعايش، وكونها في الوطن الذي يعيش في المرء، وكون المرء مالكا لها ومتصرفا فيها، ولا مشاحة في أن الأهم عند كل إنسان أن يكون مالكا لما يعيش به ويتلوه أن يكون ذلك في وطنه ويتلوه أنواعه وأن تكون كثيرة وهو ما أفاده تركيب الكلمات في الآية. ولا تجد هذه الدقة في تقديم ما ينبغي وتأخير ما ينبغي مطردة إلا في كتاب الله تعالى.
ولما كانت هذه المعايش أنواعا كثيرة من نبات شتى وأنعام وطير وسمك ومياه صافية وأشربة مختلفة الطعوم والروائح وغير ذلك وكانت بذلك تقتضي شكرا كثيرا وكان الشكور من العباد قليلا ﴿ وقليل من عبادي الشكور ﴾ ( سبأ ١٣ ) قال تعالى عقب الامتنان بها ﴿ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُون ﴾ أي شكرا قليلا تشكرون هذه النعم لا كثيرا يناسب كثرتها وحسنها وكثرة الانتفاع بها. وشكر النعمة للمنعم يكون أولا بمعرفتها له والاعتراف بأنه هو مسديها والمنعم بها وثانيا بالحمد له والثناء عليه بها وثالثا بالتصرف بها فيما يحبه ويرضيه وهو ما أسداها لأجله من حكمة ورحمة. وهو هنا حفظ حياتنا البدنية أفرادا وجماعات خاصة وعامة والاستعانة بذلك على حفظ حياتنا الروحية التي تكمل بها الفطرة بتزكية الأنفس وتأهيلها لحياة الآخرة الأبدية، وسيأتي في هذا السياق بيان لأصول ذلك في قوله تعالى :﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم.. ﴾ ( الأعراف ٣١ ) إلخ.
وفي الآية من المباحث اللفظية قراءة نافع في رواية عنه معائش بالهمز، وغلطه سيبويه ومن تبعه لأن القاعدة عندهم أنه لا يهمز بعد ألف الجمع إلا الياء الزائدة في المفرد كصحيفة وصحائف وياء معيشة أصيلة فيجب عندهم أن تثبت في الجمع كما اتفقت عليه القراءات السبع المتواترة، وهذه الرواية عن نافع غير متواترة ولذلك عدوها خطأ منه. والصواب أنه رواها وهو أجل من أن يفتجرها افتجارا. وفي المصباح قول أنها من معش لا من عاش فالياء زائدة وجمعها معائش قال : وبه قرأ أبو جعفر المدني والأعرج، أي في الشواذ وألحقها المفسرون وبعض اللغويين بما سمع عن العرب من أمثالها كمصائب ومعائب، وقالوا إنه من تشبيه مفاعل بفعائل. ونقول إن العرب لا حجر عليهم بما وضعه غيرهم لكلامهم من القواعد المبنية على الاستقراء الناقص والقرآن أعلى من كل كلام فأولى أن لا ينكر منه شيء صحت الرواية به لغة عند من رواها وإن لم يثبت كونها قرآنا إلا بالتواتر.
قال تعالى :
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُم ﴾ الخطاب لبني آدم والمعنى خلقنا جنسكم أي مادته من الصلصال والحمأ المسنون وهو الماء والطين واللازب المتغير الذي خلق منه الإنسان الأول، ثم صورناكم بأن جعلنا من تلك المادة صورة بشر سوي قابل للحياة، أو قدرنا إيجادكم تقديرا، ثم صورنا مادتكم تصويرا، ومعنى الخلق في أصل اللغة التقدير ثم أطلق على إيجاد الشيء المقدر على صفة مخصوصة. قال في حقيقة المادة من أساس البلاغة : خلق الخراز الأديم ( أي الجلد ) والخياط الثوب قدره قبل القطع، واخلق لهذا الثوب ( قال ) ومن المجاز خلق الله الخلق أوجده على تقدير أوجبته الحكمة اه. ولكن هذا المجاز اللغوي صار حقيقة شرعية. وهذا التفسير أظهر من حيث اللغة وهو يصدق بخلق آدم وبخلق مجموع الناس فإن كل فرد من الأفراد يقدر الله خلقه ثم يصور المادة التي يخلقه منها في بطن أمه.
وقد اختلفت الروايات عن مفسري السلف في الجملتين فعن ابن عباس ثلاث روايات : إحداها : ورواتها كثيرون وصححها بعضهم على شرط الشيخين قال فيهما : خلقوا في أصلاب الرجال وصوروا في أرحام النساء. والثانية : خلقوا في ظهر آدم ثم صوروا في الأرحام أخرجها الفريابي. والثالثة : قال : أما خلقناكم فآدم وأما ثم صورناكم فذريته. أخرجها ابن جرير وابن أبي حاتم. وروي عن قتادة نحوها قال : خلق الله آدم من طين ثم صوركم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم كسا العظام لحما. وعن مجاهد خلقناكم يعني آدم، ثم صورناكم يعني في ظهر آدم. وعن الكلبي قال خلق الإنسان في الرحم ثم صوره فشق سمعه وبصره وأصابعه اه. ملخصا من الدر المنثور. والتقدير الذي ذكرناه أولا هو الموافق لما عليه الجمهور. والإنسان الأول عندنا وعند أهل الكتاب والهندوس آدم عليه السلام ولذلك قال :
﴿ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَم ﴾ أي قلنا ذلك بعد أن سويناه ونفخنا فيه من روحنا ما جعلناه به خليفة في الأرض وعلمناه الأسماء كلها، كما تقدم تفصيله في سورة البقرة :﴿ فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين ﴾ أي لم يكن من جملتهم لأنه أبى واستكبر وفسق عن أمر ربه. وهو من الجن لا منهم. وإن كانت الجن نوعا من جنسهم، أو الجنة ( بالكسر ) جنسا للملائكة وللشياطين الذين هم مردة الجن وأشقياؤهم. وهذا السجود تكريم من الله لآدم لا سجود عبادة إذ نص القرآن القطعي قد تكرر بأنه لا يعبد إلا الله وحده، أو هو بيان لاستعداد آدم وذريته وما صرفهم الله تعالى به من قوى الأرض التي تدبرها الملائكة بأسلوب التمثيل القصصي، والأمر فيه وفيما بعده تكويني قدري، لا تكليفي شرعي، فهو كقوله في خلق السماوات والأرض :﴿ فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ﴾ ( فصلت ١١ ) وسيأتي توضيحه في أثناء القصة وفي نهايتها إن شاء الله تعالى.
وقد روي عن ابن عباس أن هذا السجود كرامة كرم الله بها آدم وقال كانت السجدة لآدم والطاعة لله ومثله عن قتادة وزاد أن إبليس حسد آدم على هذا التكريم والدليل على أنه تكريم امتحن الله تعالى به طاعة ذلك العالم الغيبي له فظهرت عصمة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وفسق إبليس، قوله تعالى حكاية عن إبليس في سورة الإسراء ﴿ قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ﴾ ( الإسراء ٦٢ ) حسده على هذا التكريم فحمله الحسد على الاستكبار والفسوق عن أمر الله كما صرحت به الآيات المختلفة في البقرة والكهف وغيرها ويدل عليه جواب السؤال التالي :﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُك ﴾.
﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُك ﴾ أي قال تعالى له ما منعك من امتثال الأمر فحملك على أن لا تسجد لآدم مع الساجدين في الوقت الذي أمرتك فيه بالسجود ؟ واستدل علماء الأصول بهذا على أن الأمر يقتضي الوجوب على الفور ﴿ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين ﴾ أي منعني من ذلك أنني أنا خير منه لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين والنار خير من الطين وأشرف، ولا ينبغي للأشرف أن يكرم من دونه ويعظمه، أي وإن أمره بذلك ربه، وهذا الجواب يتضمن ضروبا من الجهل الفاضح، ما أوقع اللعين فيها إلا حسده وكبره فإنهما يعميان البصائر.
الأول : الاعتراض على ربه وخالقه كما تضمنه جوابه ومثله في هذا كل من يعترض على كلام الله تعالى فيما لا يوافق هواه، وهذا كفر لا يقع مثله من مؤمن بالله وبكتابه، فإن المؤمن إذا خفيت عليه حقيقة أو حكمة لله في شيء من كلامه بحث عنها بالتفكر والبحث وسؤال العلماء وصبر إلى أن يهتدي إلى ما يطمئن به قلبه مكتفيا قبل ذلك بأن الله تعالى يعلم ما لا يعلم من حقائق خلقه وحكم شرعه وفوائد أمره ونهيه.
الثاني : الاحتجاج عليه بما يؤيد به اعتراضه والمؤمن المذعن لا يحتج على ربه بل يعلم أن لله الحجة البالغة.
الثالث : جعل امتثال أمر الرب تعالى مشروطا باستحسان العبد له وموافقته لرأيه وهواه، وهو رفض لطاعة الرب، وترفع عن مرتبة العبد، وتعال منه إلى وضع نفسه موضع الند، وهو في حكم الدين كفر، وفي العقل حماقة وجهل. فإن الرئيس لأية حكومة أو جيش أو جمعية أو شركة إذا كان لا يطيعه المرؤوسون له إلا فيما يوافق أهواءهم لا يلبث أمرهم أن يفسد بأن تختل الحكومة وتسقط وينكسر الجيش ويهلك وتنحل الشركة وتفلس، وهكذا يقال في كل مصلحة يقوم بإدارتها كثرة، يرجع نظامها إلى جهة واحدة، كبوارج الحرب وسفن التجارة ومعامل الصناعة، فإذا كان الصلاح والنظام في كل أمر يتوقف على طاعة الرئيس وهو ليس ربا تجب طاعته لذاته ولا لنعمه، ولا معصوما من الخطأ فيما يأمر به، فما القول في وجوب طاعة رب العالمين على عبيده ؟ ويشارك إبليس في هذا الجهل وما قبله كثيرون ممن يسمون أنفسهم مؤمنين : يتركون طاعة الله تعالى فيما أمر به مما يخالف أهواءهم ويحتجون على ترك الصيام مثلا بأن لا فائدة في الجوع والعطش، أو بأن الله غني عن صيامهم على أن حكم الصيام كثيرة جلية كما بيناها مرارا في التفسير ( ج ٢ ) و في المنار.
روى أبو نعيم في الحلية والدليمي عن جعفر الصادق عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله تعالى له اسجد لآدم فقال أنا خير منه " إلخ قال جعفر فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس وروى ابن جرير عن الحسن : أول من قاس إبليس.
الرابع : الاستدلال على الخيرية بالمادة التي كان منها التكوين، وهذا جهل ظاهر من وجوه : الأول : أن خيرية المواد بعضها على بعض ليس من الحقائق التي يمكن إثباتها بالبرهان، وإنما هي أمور اعتبارية تختلف فيها الآراء والأهواء. وأصول المخلوقات المختلفة التركيب عناصر بسيطة قليلة يرجح أنها متحولة عن أصل واحد كما يعلم من فن الكمياء، ثانيها : أن بعض الأشياء النفيسة أصلها خسيس، فالمسك من الدم، وجوهر الألماس من الكربون الذي هو أصل الفحم، والأقذار التي تعاف من مادة الطعام الذي يشتهي ويحب، ثالثها : أن الملائكة خلقوا من النور وهو قد خلق من مارج من نار وهو اللهب المختلط بالدخان فما فوقه دخان وما تحته لهب صاف فإن مادة المرج معناها الخلط والاضطراب. ولا شك في أن النور خير من النار والنار الصافية خير من اللهب المختلط بالدخان. وقد سجد الملائكة المخلوقون من النور امتثالا لأمر الله تعالى فكان هو أولى، بل أولى بأن يقال له : أولى لك فأولى١.
الخامس : إذا سلمنا جدلا أن خيرية الشيء ليست في ذاته وصفاته الخاصة التي تفصلها عن غيرها من مقومات نوعه ومشخصات نفسه وصفاته التي يمتاز بها عن غيره، وإنما هي تابعة للمادة التي هي أصل جنسه فلا نسلم أن النار خير من الطين فإن جميع الأحياء النباتية والحيوانية في هذه الأرض مخلوقة من الطين بالذات أو بالواسطة وهي خير ما فيها بكل نوع من أنواع الاعتبارات التي تعرفها العقول، وليس للنار أو لمارجها مثل هذه المزايا ولا ما يقرب منها.
السادس : أن اللعين غفل عما خص الله به آدم من خلقه بيده، والنفخ فيه من روحه، وجعل استعداده العلمي والعملي فوق استعداد غيره من خلقه، ومن تشريفه بأمر الملائكة بالسجود له، وجعله بتلك المزايا أفضل من أولئك الملائكة، وهم أفضل من إبليس بعنصر الخلقة وبالطاعة.
فهذه أصول الجهل والغباوة التي أوقع إبليس فيها حسده لآدم واستكباره عن طاعة الله بالسجود له. وأنت ترى أن أولياءه ونظراءه من شياطين الإنس مرتكسون فيها كلها والعياذ بالله تعالى. قال قتادة : حسد عدو الله إبليس آدم على ما أعطاه الله من الكرامة وقال أنا ناري وهذا طيني فكان بدء الذنوب الكبر، واستكبر عدو الله أن يسجد لآدم فأهلكه بكبره وحسده. وسيأتي تفسير الكبر والتكبر.
وهذا التفصيل مبني على كون الأمر بالسجود للتكليف وأنه وقع حوار فيه بين الرب سبحانه وبين إبليس. وأما على القول بأن الأمر للتكوين ( كما سيأتي عن ابن كثير ) وأن القصة بيان لغرائز البشر والملائكة والشيطان، فالمعنى أنه تعالى جعل ملائكة الأرض المدبرة بأمر الله وإذنه لأمورها بالسنن التي عليها مدار نظامها كما قال تعالى :﴿ فالمدبرات أمرا ﴾ ( النازعات ٥ ) مسخرة لآدم وذريته إذ خلق الله هذا النوع مستعدا للانتفاع بها كلها بعلمه بسنن الله تعالى فيها، وبعمله بمقتضى هذه السنن كخواص الماء والهواء والكهرباء والنور والأرض ومعادنها ونباتها وحيوانها، وإظهاره لحكم الله تعالى وآياته فيها، ومستعدا لاصطفاء الله بعض أفراده واختصاصهم بوحيه ورسالته وإقامة من اهتدى بهم لدينه وميزان شرعه. وقد أشير إلى ذلك في سورة البقرة بقوله تعالى :﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ﴾ ( البقرة ٣١ ) إلا أنه جعل الشيطان عاتيا متمردا على الإنسان بل عدوا له من حيث إن الإنسان بروحه وسط بين روح الملائكة المفطورين على طاعة الله وإقامة سننه في صلاح الخلق وبين روح الجن الذين يغلب على شرارهم وهم الشياطين التمرد والعصيان وقد أعطي الإنسان إرادة واختيارا من ربه في ترجيح ما به يصعد إلى أفق الملائكة وما به يهبط إلى أفق الشياطين وسيأتي تفصيل ذلك في هذا السياق.
وفي الآية من المباحث اللغوية زيادة " لا " في جملة " ما منعك أن لا تسجد " إذ قال في سورة " ص " :﴿ ما منعك أن تسجد ﴾ ( ص ٧٥ ) وقد عهد في الكلام العربي الفصيح أن تجيء لا في سياق النفي الصريح وغير الصريح لتقويته وتوكيده وكذا في غير النفي وذلك على أنواع منها هذه الآية وفي معناها قوله تعالى في تحاور موسى وهارون من سورة طه ﴿ قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن أفعصيت أمري ﴾ ( طه ٩٢- ٩٣ ) وعدوا من هذا القبيل قوله تعالى :﴿ وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ﴾ ( الأنعام ١٠٨ ) وقوله عز وجل :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا ﴾ ( الأنعام ١٥١ ) وفي كل منهما معنى النفي وتقدم تفسيرهما.
ومنهم من خرج هذه الآيات وأمثالها من الشواهد على جعل " لا " غير زائدة وهي طريقة شيخنا رحمه الله. وتقدم ما اخترناه في آيتي الأنعام وأشرنا آنفا في هذه الآية إلى أن منع هنا تتضمن معنى الحمل، والتضمين كثير في التنزيل وكلام العرب ولكن لم يجعله النحويون قياسيا، ويستدل عليه كثيرا بالتعدية كما بيناه في تفسير ﴿ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ﴾ ( النساء ٢ ) إذ ضمن الأكل معنى الضم فعدى بإلى ويقرب منه تعبير سورة الحجر ﴿ ما لك أن لا تكون مع الساجدين ﴾ ( الحجر ٣٢ ) والتقدير أي شيء عرض لك فحملك على أن لا تكون معهم، واختار ابن جرير تضمين المنع هنا الإلزام والاضطرار فيكون التقدير ما ألزمك او اضطرك إلى أن لا تسجد.
ومن مباحث البلاغة أن الفصل في حكاية السؤال والجواب جميعا " بقال قال " وارد على طريقة الاستئناف البياني فإن من يسمع السؤال يتشوق لمعرفة الجواب وينزل منزلة من يسأل عنه فيجاب.
﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا ﴾ الهبوط الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه أو من مكانة ومنزلة إلى ما دونها، فهو حسي ومعنوي والفاء لترتيب هذا الجزاء على ما ذكر من الذنب قبله، والضمير عائد إلى الجنة التي خلق الله فيها آدم وكانت على نشز مرتفع من الأرض وقد كانت اليابسة قريبة العهد بالظهور في خضم الماء فخير ما يصلح منها لسكنى الإنسان يفاعها وانشازها، أو التي أسكنه إياها بعد خلقه في الأرض وهي جنة الجزاء على القول بها. يدل على ذلك ما ورد من الأمر بالهبوط له ولآدم وزوجه بعد ذكر سكنى الجنة من سورتي البقرة وطه، وقيل إنه يعود إلى المنزلة التي كان عليها ملحقا بملائكة الأرض الأخيار قبل أن يميز الله الخبيث من الطيب من جنس الجنة ( بكسر الجيم ) بالسجود لآدم فيكون نوعين ملائكة وشياطين، كما قيل في جنة آدم إنها عبارة عن حياة النعيم الأولى للنوع التي تشبه نعيم الطفولية لأفراده وتقدم شرح ذلك في تفسير آيات سورة البقرة.
﴿ فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ﴾ أي فما ينبغي لك وليس مما تعطاه من التصرف أن تتكبر في هذا المكان المعد للكرامة، أو في هذه المكانة التي هي منزلة الملائكة لأنها مكانة الامتثال والطاعة. والكبر اسم للتكبر وهو مصدر تكبر أي تكلف أن يجعل نفسه أكبر مما عليه أو أكبر ممن هي في ذاتها أصغر منه، وقد ورد في الحديث الصحيح تفسير الكبر بأنه غمط الحق، أو بطر الحق واحتقار الناس١. وهو تفسير له بمظهره العلمي الذي يترتب عليه الجزاء وهو أن لا يذعن للحق إذ ظهر له بل يدفعه أو ينكره تجبرا وترفعا، وأن يحتقر غيره بقول أو عمل يدل على عدم الاعتراف له بمزيته وفضله. أو بتنقيص تلك المزية بادعاء أن ما دونها هو فوقها سواء ادعى ذلك لنفسه فرفعها على غيرها بالباطل أو ادعاه لغيره بأن يفضل بعض الناس على بعض بقصد احتقار المفضل عليه وتنقيص قدره.
﴿ فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِين ﴾ هذا تأكيد للأمر بالهبوط متفرع عليه. أي فاخرج من هذا المكان أو المكانة. وعلل ذلك بقوله على طريق الاستئناف البياني :﴿ إنك من الصاغرين ﴾ أي أولي الذلة والصغار أظهر حقيقتك الامتحان والاختبار الذي يميز بين الأخيار والأشرار، بإظهاره لما كان كامنا في نفسك من عصيان الاستكبار. ﴿ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ﴾ ( آل عمران ١٧٩ ) وقال بعضهم إنه تعالى جازاه بضد مراده إذ أراد أن يرفع نفسه عن منزلتها التي كانت فيها، فجوزي بهبوطها منها إلى ما دونها، كما ورد في بعض الأخبار من أن الله تعالى يحشر المتكبرين يوم القيامة بصورة حقيرة يطؤهم فيها الناس بأرجلهم، كما أنه يبغضهم إلى الناس في الدنيا فيحتقرونهم ولو في أنفسهم وهذا التوجيه أليق بقول من جعل الأمر للتكليف. ولكن الحافظ ابن كثير جرى عليه بعد جزمه بالقول بأنه للتكوين واقتصاره عليه قال :" يقول تعالى لإبليس بأمر قدري كوني فاهبط منها بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي فما يكون لك أن تتكبر فيها. قال كثير من المفسرين الضمير عائد إلى الجنة. ويحتمل أن يكون عائدا إلى المنزلة التي هو فيها من الملكوت الأعلى ( فاخرج إنك من الصاغرين } أي الذليلين الحقيرين. معاملة له بنقيض قصده، ومكافأة لمراده بضده. فعند ذلك استدرك اللعين، وسأل النظرة إلى يوم الدين ".
﴿ قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون ﴾ أي قال بلسان قاله التفسير الأول أو لسان حاله واستعداد على الآخر : رب أخرني وأمهلني إلى يوم يبعث آدم وذريته فأكون أنا وذريتي أحياء ما داموا أحياء وأشهد انقراضهم وبعثهم.
﴿ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِين ﴾ أي قال تعالى له مخبرا أو قال مريدا ومنشئا كما يقول للشيء كن فيكون : إنك من المنظرين، قال ابن كثير أجابه تعالى إلى ما سأل لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع ولا معقب لحكمه اه. فهو يؤكد بهذا ما اختاره في مدلول هذا الحوار وهو أنه بيان لمقتضى التكوين الذي هو متعلق المشيئة، لا مراجعة أقوال من متعلق من صفة الكلام.
وظاهر الكلام أنه جعل من المنظرين إلى يوم يبعثون وإن لم يصرح به للعلم به من السؤال إيجازا قال ابن كثير : أجابه إلى ما سأل. ولكن هذا السؤال ورد في سورة الحجر فكان جوابه بلفظ آخر وهو :﴿ قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ﴾ ( الحجر ٣٦- ٣٧ ) أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في تفسير هذه الآيات : أراد إبليس أن لا يذوق الموت فقيل له :" إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم " قال النفخة الأولى وبين النفخة والنفخة أربعون سنة. وأخرج الأول عن السدي قال : فلم ينظره إلى يوم يبعثون ولكن أنظره إلى يوم المعلوم. والنفخة الأولى في الصور هي التي يموت فيها جميع أهل الأرض دفعة واحدة والثانية هي التي بها يبعثون وليس بعدها موت ولذلك قال ابن عباس إنه أراد أن لا يذوق الموت.
وهذه النفخة تسمى نفخة الفزع لقوله تعالى في سورة النمل :﴿ ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ﴾ ( النمل ٨٧ ) ونفخة الصعق لقوله في سورة الزمر :﴿ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من يشاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ﴾ ( الزمر ٦٨ ) ولاختلاف الوصفين قال أبو بكر ابن العربي وغيره أن النفخات ثلاث وقال آخرون أربع ولكن ظاهر القرآن أنهما ثنتان وهما المراد بقوله :﴿ يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة ﴾ ( الحاقة ٦- ٧ ) فهم يفزعون فيصعقون أي يموتون بالأولى وهي الراجفة، ويبعثون بالثانية التي تردفها وتتبعها. وأصل الصعق تأثير الصاعقة فيمن تصيبه من إغماء وغشيان أو موت وهو الغالب ثم صار يطلق على الغشيان من كل صوت شديد وعلى الموت منه كما فسره الفيومي في المصباح.
وفيمن استثنى الله تعالى من الفزع والصعق عشرة أقوال على ما استقصاه الحافظ في الفتح ليس في شيء منها ذكر إبليس لعنه الله وما من قول من تلك الأقوال إلا وفيه نظر من بعض الوجوه وهذا أمر غيبي لا يعلم إلا بتوقيف ولم يصح في قول منها حديث مرفوع متصل الإسناد فيما يظهر من كلامهم، ولكن ورد في حديث لأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن هذه الآية : من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا ؟ قال " هم شهداء الله عز وجل " قال الحافظ صححه الحاكم ورجاله ثقات ورجحه الطبري اه.
ولكن الحافظ لم يذكر هذا قولا مستقلا بل أدمجه في قول من قال إنهم الأنبياء.
أي بناء على أن المراد بشهداء الله حججه على خلقه بحسن سيرتهم واستقامتهم في الدنيا إذ يشهدون في الآخرة بضلال كل من كان مخالفا لهديهم و سنتهم في اتباع دين الله عز وجل، والأنبياء في مقدمتهم قطعا فكل نبي يشهد على قومه كما قال :﴿ فكيف إذ جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾ ( النساء ٤١ ) وهؤلاء الشهداء لا تخلوا الأرض منهم، يقلون تارة ويكثرون تارة أخرى ولكن يجب أن يجعل هذا قولا مستقلا فإن الشهداء أعم من الأنبياء ومن الصديقين فكل نبي شهيد وكل صديق شهيد ومن الشهداء من ليس بنبي ولا صديق ولكن كل شهيد صالح وما كل صالح بشهيد، فبين طبقات ﴿ الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ﴾ ( النساء ٦٩ ) العموم والخصوص المطلق، وإذا كان الصعق المراد هو الموت فلا يظهر للقول بأن المستثنى هم الأنبياء وجه، وكذا إن كان المراد به الغشيان المعبر عنه في آية النمل بالفزع وكانت النفخة المحدثة له هي الأولى إذ يتلوه موت الخلق وخراب الدنيا كما هو الظاهر المتبادر، وظاهر بعض الأحاديث أن ذلك يكون يوم البعث وهو خلاف المتبادر من الآيات كلها.
فعلم مما ذكرنا أن إبليس لا ينتهي إنظاره إلى يوم البعث بل يموت عقب النفخة الأولى التي يتلوها خراب هذه الأرض كما قال تعالى في سورة الحاقة :﴿ فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ﴾ الحاقة ١٢- ١٣ } إلا إذا قيل إن يوم القيامة ويوم البعث يطلق تارة على ما يشمل زمن مقدماته فيسمى كل ذلك يوما كما يطلق تارة على زمن المقدمات وحدها وتارة على زمن الغاية وحدها إذ معناه في اللغة الزمن الذي يتميز بعمل معين فيه كأيام العرب المعروفة، وقد يستدل على هذا بقوله تعالى بعد الآيتين المذكورتين آنفا من سورة الحاقة :﴿ فيومئذ وقعت الواقعة ﴾ ( الحاقة ١٤ ) الآيات وفي هذا الباب حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما الناطق بأن الناس يصعقون يوم القيامة وأن النبي صلى الله عليه وسلم يكون أول من يرفع رأسه فيجد موسى آخذا بقائمة من قوائم العرش قال :" فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله عز وجل " ١ وظاهره أن ذلك غشيان يقع بعد البعث في موقفه، ويحتمل أن يعم صعق النفخة الأولى الأحياء والأموات إلا من استثني وإلا كان مشكلا يحتاج إلى الجمع بينه وبين ما يعارضه مما علمت بعضه وليس هذا المقام بالذي يتسع لتحقيق هذه المسألة.
وقد استشكل المفسرون ولاسيما علماء الكلام منهم هذا الإنظار بالنسبة إلى ما يترتب عليه من الشر والإغواء وسيأتي بيان حكمته بعد انتهاء تفسير هذه الآيات.
﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم ﴾ الإغواء الإيقاع في الغواية وهي ضد الرشاد لأنها في أصل اللغة بمعنى الفساد المردي من قولهم غوى الفصيل كهوى ورمى، وغوي كهوي ورضي إذا فسد جوفه من كثرة اللبن فهزل وكاد يهلك، وصراط الله المستقيم هو الطريق الذي يصل سالكه إلى السعادة التي أعدها سبحانه لمن تتزكى نفسه بهداية الدين الحق وتكميل الفطرة، والفاء لترتيب مضمون الجملة التي تليها على مضمون ما قبلها، والباء للسببية أو القسم والمعنى فبسبب إغوائك إياي من أجل آدم وذريته أقسم لأقعدن لهم على صراطك المستقيم أو فيه أو لألزمنه فأصدهم عنه وأقطعه عليهم بأن أزين لهم سلوك طرق أخرى أشرعها لهم من جميع جوانبه ليضلوا عنه، وهو ما فسر بقوله :﴿ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِم ﴾.
﴿ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِم ﴾
أي فلا أدع جهة من جهاتهم الأربع إلا وأهاجمهم منها، وهذه جهات معنوية كما أن الصراط الذي يريد إضلالهم عنه معنوي، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى :﴿ وإن صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ﴾ ( الأنعام ١٥٣ ) الآية ما يوضح ما هنا وفسر في الآثار بالإسلام وبطريقي الهجرة والجهاد لصده عنهما ﴿ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين ﴾ لنعمك عليهم في عقولهم ومشاعرهم وجوارحهم ومعايشهم وما يهديهم إلى تكميل فطرتهم من تعاليم رسلك لهم، أي لا يكون الشكر التام الممكن صفة لازمة لأكثرهم بل للأقلين منهم، قيل إنه قال هذا عن ظن فأصاب لقوله تعالى :﴿ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ﴾ ( سبأ ٢٠ ) وقيل عن علم بالدلائل لا بالغيب والدلائل النظرية غير القطعية ظنون وتقدم تعريف الشكر في تفسير آية ﴿ ولقد خلقناكم ﴾ وهي فاتحة هذا السياق.
روي عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير الأربع قال :" ثم لآتينهم من بين أيديهم " قال : أشككهم في آخرتهم " ومن خلفهم " فأرغبهم في دنياهم " وعن أيمانهم " أشبه عليه أمر دينهم " وعن شمائلهم " استن لهم المعاصي " ولا تجد أكثرهم شاكرين " قال موحدين فسر الشكر بأصل أصوله ومنبت جميع فروعه وهو توحيد الربوبية والألوهية الذي هو منتهى الكمال في معرفته تعالى، وفي رواية أخرى عنه : من بين أيديهم من قبل الدنيا ومن خلفهم من قبل الآخرة وعن أيمانهم من قبل حسناتهم وعن شمائلهم من جهة سيئاتهم وهي إنما تخالف الأولى في تفسير ما بين الأيدي والخلف، ومخالفة تناقض في اللفظ، والمراد واحد، وهو هل المراد فيما بين الأيدي ما هو حاضر أو ما هو مستقبل، وهل المراد بالخلف ما يتركه المرء ويتخلف عنه وهو الدنيا أم ما هو وراء حياته الحاضرة وهو الآخرة ؟ اللفظ يحتمل التأويلين.
وعنه : لم يستطع أن يقول من فوقهم. علم أن الله فوقهم. وفي لفظ : لأن الرحمة تنزل من فوقهم، وعن مجاهد وقتادة ما هو بمعنى ما ذكر مع تفصيل ما كما في الدر المنثور وهما من تلاميذه ( رض ). والفوقية معنوية كغيرها، وإثبات العلو والفوقية لله تعالى تنطق به الآيات والأحاديث الصحيحة ومن صفاته ( العلي ) فنؤمن به مع تنزيهه تعالى عما لا يليق به صفات خلقه جميعا وقد شرحناه من قبل بما أثبتنا به مذهب السلف فيه، وفي رواية عن مجاهد من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون، ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون، وحاصل المعنى كما قال ابن جرير : جميع طرق الخير والشر، فالخير يصدهم عنه والشر يحسنه لهم، وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث ابن عمر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات " اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي " ١.
﴿ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ﴾ يقال ذأم المتاع ( من باب فتح ) وذامه بالتخفيف يذيمه ذيما وذاما ( بالقلب ) إذا عابه وذمه. ويقال دحر الجند العدو إن طرده وأبعده فهو بمعنى اللعن وبذلك ورد التفسير المأثور للفظين، والأمر الأول بالخروج قد ذكر لبيان سببه وهذا لبيان صفته، والمعنى اخرج من الجنة أو المنزلة التي أنت فيها حال كونك معيبا مذموما من الله وملائكته مطرودا من جنته، فهو بمعنى لعنه وجعله رجيما في آيات أخرى
﴿ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِين ﴾ جهنم اسم من أسماء دار الجزاء على الكفر والفسوق والعصيان. أخبر تعالى خبرا مؤكدا بالقسم بأن من يتبع إبليس من ذرية آدم فيما يزينه له من الكفر والشرك والفجور والفسق فإن جزاءهم أن يكونوا معه أهل دار العذاب يملؤها منهم أجمعين، وفي آخر سورة ص ﴿ لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ﴾ ( ص ٨٥ ) ويدخل في خطابه أعوانه في الإغواء من ذريته. والنصوص فيهم كثيرة. وقوله " منهم " بدل على أن الملء يكون من بعضهم وإلا قيل : لأملأن جهنم بكم. وذلك أن بعض من يتبعه من المؤمنين الموحدين في بعض المعاصي يغفر الله لهم ويعفو عنهم.
وفي سورتي الحجر وص استثناء عباد الله المخلصين من إغوائه لعنه الله حكاية عنه وهو مقابل الأكثر هنا. وأكد سبحانه ذلك في سورة الحجر بقوله :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ﴾ ( الحجر ٤٢ ) ونحوه في سورة ( الإسراء ٦٥ ) وفي سورة إبراهيم عليه السلام ما يفيد أنه ليس له سلطان على أحد، وإنما هو داعية شر وما تبعه من تبعه إلا مختارا مرجحا للباطل على الحق وللشر على الخير، فقد قال في سياق تخاصم أهل النار يوم القيامة من المستكبرين المضلين والضعفاء الذين اتبعوهم في ضلاهم ﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾ ( إبراهيم ٢٥ ) وسيأتي فائدة التذكير بهذا عند تفسير الآيات الآتية في نصح بني آدم وتحذيرهم من طاعة الشيطان.
وقد استشكل بعض المفسرين ولاسيما المتكلمين منهم خطاب الرب سبحانه للشيطان في هذا التحاور الطويل واختلفوا فيه هل هو خطاب بواسطة الملائكة كالوحي لرسل البشر أم بغير واسطة وكيف وهو يقتضي التكريم ؟ وتحكموا في الجواب حتى قال بعضهم إن الشيطان كان يطلع على اللوح المحفوظ فيعلم مراد الله في جواب أسئلته واستشكلوا أمر الله تعالى إياه بإغواء البشر وإضلالهم المبين في سورة الإسراء بقوله سبحانه :﴿ واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ﴾ ( الإسراء ٦٤ ) الآية مع قوله تعالى :﴿ إن الله لا يأمر بالفحشاء ﴾ ( الأعراف ٢٨ ) وإنما يشكل هذا كله على ما جروا عليه من جعل الخطاب للتكليف.
وأما إذا جعل الخطاب للتكوين كما صرح به ابن كثير فلا إشكال لأنه عبارة عن بيان الواقع من صفة البشر وطبيعة الشيطان واستعدادهما وأعمالهما الاختيارية. وللأشعرية والمعتزلة فيها جدل طويل، فالأولون يثبتون الإغواء والإضلال لله تعالى وينفقون رعاية الرب لمصالح العباد في كل من دينهم ودنياهم ويجعلون الإنسان مجبورا في صورة مختار، والآخرون يخالفونهم. فندع أمثال هذه المباحث الجدلية لابني نجدتها الرازي والزمخشري، ونختم تفسير هذه الآيات ببيان حكمة الله تعالى في خلق إبليس وذريته الشياطين، وكشف شبهة المستشكلين له ولخلق الإنسان مستعدا لقبول إغوائه فإنها مما يحتاج إليه هنا حتى على القول بأن السياق كله لبيان حقيقة التكوين.
حكمة خلق الله الخلق واستعداد الشيطان والبشر للشر
اعلم أن الحكمة العليا لخلق جميع المخلوقات هي أن يتجلى بها الرب الخالق لها لما هو متصف له من صفات الكمال ليعرف ويعبد، ويشكر ويحمد، ويحكم ويجزي فيعدل، ويغفر ويعفو ويرحم، إلخ فهي مظهر أسمائه وصفاته، ومجلى سننه وآياته وترجمان حمده وشكره ﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ﴾ ( الإسراء ٤٤ ) لذلك كانت في غاية الإحكام والنظام الدالين على العلم والحكمة والمشيئة والاختيار، ووحدانية الذات والصفات والأفعال، ﴿ صنع الله الذي أتقن كل شيء ﴾ ( النمل ٧٧ ) ﴿ الذي أحسن كل شيء خلقه ﴾ ( السجدة ٧ ) كما نطق القرآن.
الخير كله بيديه، والشر ليس إليه، كما ورد في الحديث. بل ليس في خلقه ما هو شر محض في نفسه، وإنما الشر أمر اعتباري مداره على ما يؤلم الأحياء أو تفوت به مصلحة أو منفعة على أحد منهم فيكون شرا له إن لم يترتب على ذلك منفعة أعظم أو دفع مفسدة أكبر، فإن الإنسان قد يتألم من الدواء الذي يزيل مرضه الذي هو أشد أو أطول إيلاما منه، وقد تفوته منفعة صغيرة يكون فوقها سببا لمنفعة أكبر منها، كالذي يبذل ماله في المصلحة العامة لملته ووطنه فيكرم ويكون قدوة في الخير، وحظه من كرامة الأمة وعمران الوطن أعظم مما بذل من المال، وفوق ذلك من يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله وهي سبيل الحق والخير وسعادة الدارين ابتغاء مرضاته والزلفى عنده.
وقد كان من مقتضى تحقق معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العلى أن يخلق ما علمنا وما لم نعلم من أنواع المخلوقات، وأن تكون المقابلات والنسب بين بعضها مختلفة من توافق وتباين وتضاد، ويترتب على ذلك في نظام الخلق أن الضد يظهر حسنه الضد، وأن تكون مصائب قوم عند قوم فوائد، وأن يسيء بعضهم إلى نفسه أو غيره، وأن يكون بعضهم مفطورا على طاعة ربه، دائبا على عبادته وحمده وشكره، وأن يكون بعضهم مختارا في عمله مستعدا للأضداد في ميله وطبعه، يتنازعه عاملا الكفر والشكر، وتشتبه عليه حقيقتا التوحيد والشرك، وتتجاذبه داعيتا الفجور والبر، فيكون لشكره وبره وطاعته لربه من عظم الشأن مع معارضة الموانع ما ليس للمفطور على ذلك، وقد يعصي فيفيده العصيان خوفا ورهبة، ويحمله على التوبة، فيكون له أوفر حظ من اسمي العفو الغفور، وقد يستكبر عن الطاعة والإيمان ويصر على الفسوق والعصيان فيكون موضعا لعقاب الحكم العدل، وآية فيه على تنزهه تعالى عن الجور والظلم.
ولا نعرف نوعا من أنواع الخلق مفطورا على الباطل والشر، مجبورا على الفسق والكفر، فهو غير موجود. على أنه لو وجد لما صح أن يعترض به العبد المربوب على الرب المعبود، وهذه الآيات المبينة لمعصية إبليس وهو شر أفراد هذا النوع المسمى بالجن تدل على أنه كان مختارا في عصيانه بانيا إياه على شبهة احتج بها عليه وكذلك خلق الله نوعه فكانوا كالبشر منهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر كما يعلم من السورة التي سميت باسمهم ( الجن ) قال تعالى :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ﴾ ( الكهف ٥٠ ) الفسق الخروج من الشيء فهو يدل على أنه كان قبل ذلك يطيعه ويعبده كما يدل عليه وجوده مع الملائكة وعقوبته بإخراجه منهم بعد المعصية.
وقد عصى آدم ربه عصيان إبليس، وكان الفرق بينهما أن آدم تاب إلى ربه فتاب عليه وهداه واجتباه، وجعله موضع مغفرته ورحمته، وأن إبليس أصر على عصيانه واحتج على ربه فلعنه وأخزاه، وجعله موضع عدله في عقابه وقص قصصهما على المكلفين من ذريتهما بما أظهر حقيقة النوعين، ومآل العملين، عبرة للمعتبرين وموعظة للمتقين، وابتلاء ( اختبارا ) للعالمين يميز الله به المحسنين والمسيئين ويزيل بين الطيبين والخبيثين، إذ كان من سننه فيهما أن الحياة جهاد، يظهر به ما أودع في النفوس من الاستعداد، وأن من حكم تفاوت البشر فيه أن يكون منهم العالم والجاهل، والحكيم والحاكم والمسوس والسائس، والجندي والقائد والمخدوم والخادم، والزارع والصانع، والتاجر والعامل. فلولا العمال مثلا لما اتسعت مسائل العلوم بالأعمال ولما أمكن الانتفاع بما كشف العلماء من أسرار الطبيعة وخواص المخلوقات، ولولا ذلك لما عرفت نعم الخالق وسننه ودقائق علمه وحكمته في الأشياء، وغير ذلك من معاني الصفات ومظاهر الأسماء وموجبات الحمد والشكر والثناء.
وجملة القول إن كل ما خلقه الله تعالى فهو حسن في نفسه، متقن في صنعه، مظهر لنوع أو أنواع من حكمه في خلقه، ومن كماله في ذاته وصفاته ولا شيء منه بباطل ولا بشر محض ﴿ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ﴾ ( الحجر ٧٥ ) ﴿ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ﴾ ( ص ٢٦ ).
وإذا كان من حكمته تعالى فيما ذكر من معصيتي أبوي الإنس والجن ظهور استعدادهما وإظهار حكمه تعالى في الجزاء على الذنوب في حالي التوبة منها والإصرار عليها، والعبرة والموعظة، وحسن الأسوة، وسوء القدوة، والابتلاء والجهاد وغيره مما بينا. وإذا كانت معصية الأول بسبب وسوسة الآخر فلا خفاء في استمرار ذلك في ذريتهما، لأنه من مقتضى فطرة نوعيهما، التي هي مظهر أسماء الله وصفاته فيهما، فجنس الجن أو الجنة الغيبي الروحاني نوعان أو صنفان : صنف ملكي يلابس بعضه أرواح البشر الميالة إلى الحق والخير فتقوى داعيتهما فيها، وصنف شيطاني يلابس أراوح البشر الميالة إلى الباطل والشر فتقوى داعيتهما فيها، كما بينه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله :" إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان " ثم قرأ ﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ﴾ ١ ( البقرة ٢٦٨ ) الآية رواه الترمذي وقال حسن غريب والنسائي وابن حبان والبيهقي في الشعب ورواة التفسير المأثور من حديث ابن مسعود. ومثل اتصال نوعي الجنة الروحية بروح الإنسان كل بما يناسب طبعه كمثل اتصال نوعي الجنة المادية بجسده وتأثيرها فيه بحسب استعداده، وهي ما يسميه الأطباء بالمكروبات وسماها بعض الأدباء النقاعيات، فإن منها جنة الأمراض والأوبئة التي تؤثر في الجسم القابل لها بضعفه، والميكروبات التي تقوى بها الصحة كما بيناه من قبل.
قال الراغب في مفرداته : والجن يقال على وجهين : أحدهما : للروحانيين المستترة عن الحواس كلها بإزاء الإنس فعلى هذا تدخل فيه الملائكة والشياطين فكل ملائكة جن وليس كل جن ملائكة، وعلى هذا قال أبو صالح الملائكة كلها جن وقيل بل الجن بعض الروحانيين، وذلك أن الروحانيين ثلاثة : أخيار وهم الملائكة وأشرار وهم الشياطين وأوساط فيهم أخيار وأشرار وهم الجن. ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ قل أوحي إلي ﴾ إلى قوله عز وجل :﴿ وإنا منا المسلمون ومنا القاسطون ﴾ ( الجن ١٤ ) والجنة جماعة الجن اه.
وأقول : إن هذا لا يخالف ما ذكر قبله من وحدة الجنس فإنه غلب على قسمين منه اسمان مميزان لهما لتضادهما. وقد فسرت الجنة ( بالكسر ) في قوله تعالى :﴿ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرون ﴾ ( الصافات ١٥٨ ) بالملائكة كما يدل عليه قوله قبل الآية عن كفار قريش ﴿ فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ﴾ ( الصافات ١٤٩ ) الآيات. قال مجاهد وعكرمة وأبو صالح وأبو مالك وقتادة : إن الجنة في الآية الملائكة وإن المراد بالنسب قولهم : الملائكة بنات الله ﴿ ولقد علمت الجنة ﴾ أي الملائكة ﴿ إنهم لمحضرون ﴾ في النار مقدمون على عذاب الكفر اه ملخصا با
﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة ﴾ أي قلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة كما نص التعبير في سورة البقرة فهو معطوف على قوله تعالى في أول السياق :﴿ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ﴾ وهذا أظهر من جعله معطوفا على قوله تعالى في الآية السابقة لهذه ﴿ قال اخرج منها مذءوما مدحورا ﴾، فإن إخراجه من الجنة على قول الجمهور كان بعد الوسوسة لآدم كما هو مبين في هذه الآيات، والنداء يفيد الاهتمام بالأمر بعده. والأمر بالسكنى قيل للإباحة وقيل للوجوب بناء على أنه أمر تكليف، ويقابله جعله أمرا تكوينيا قسريا كما تقدم مثله في أمر إبليس. واللام في الجنة للعهد الخارجي وهي الجنة التي فيها أو لديها آدم، ومثله قوله تعالى في سورة ن :﴿ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ﴾ ( القلم ١٧ ) لأن آدم خلق من الأرض في الأرض ولم يرد في شيء من آيات قصته المكررة في عدة سور أن الله رفعه إلى الجنة التي هي دار الجزاء على الأعمال، وتقدم بيان الخلاف في هذه الجنة في تفسير القصة في سورة البقرة والجمهور على أنها جنة الآخرة.
والآية تدل على أن آدم كان له زوج أي امرأة وليس في القرآن مثل ما في التوراة من أن الله تعالى ألقى على آدم سباتا انتزع في أثنائه ضلعا من أضلاعه فخلق له منه حواء امرأته، وأنها سميت امرأة " لأنها من امرئ أخذت " وما روي في هذا المعنى فهو مأخوذ من الإسرائيليات. وحديث أبي هريرة في الصحيحين " فإن المرأة خلقت من ضلع " على حد ﴿ خلق الإنسان من عجل ﴾ ( الأنبياء ٣٧ ) بدليل قوله :" فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء " ١ أي لا تحاولوا تقويم النساء بالشدة، ووثنيو الهند يزعمون أن لآدم أما ولها في مدينتهم المقدسة ( بنارس ) قبر عليه قبة بجانب قبة قبره، وقيل إن المراد بأمه عندهم الرمز إلى الطبيعة. والآية ترشد إلى أن المرأة تابعة للرجل في السكنى والمعيشة باقتضاء الفطرة وهو الحق الواقع الذي يعد ما خالفه شذوذا.
﴿ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾ أي فكلا من ثمارها حيث شئتما وفي سورة البقرة ﴿ وكلا منها رغدا حيث شئتما ﴾ ( البقرة ٣٥ ) ومن سنة القرآن أن يتضمن التكرار للقصص فوائد في كل منها لا توجد في الأخرى من غير تعارض في المجموع.
﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين ﴾ النهي عن قرب الشيء أبلغ من النهي عنه كما بيناه في تفسير ﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها ﴾ ( البقرة ١٨٧ ) فهو يقتضي البعد عن موارد الشبهات التي تغري به وتفضي إليه ورعا واحتياطا " ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه " ٢ كما ورد في الحديث وتعريف الشجرة كتعريف الجنة، وهي مشار إليها في الآية بما يعين شخصها ولم يبين في القرآن نوعها ولا وصفها، إلا ما في الآية التالية عن إبليس ومثله في سورة طه. وفي الفصل الثاني من سفر التكوين أول أسفار التوراة ما نصه " ٨ وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا ووضع هناك آدم الذي جبله ٩ وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر " ثم قال " ١٥ وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها ١٦ وأوصى الرب آدم قائلا من جميع شجر الجنة تأكل أكلا ١٧ وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها لأنك يوم تأكل منها موتا تموت " اه وقد أكل آدم من الشجرة ولم يمت يوم أكلها، والقرآن قد علل النهي بأنه يترتب على مخالفته أن يكونا من الظالمين لأنفسهما أي بفعلهما ما يعاقبان عليه ولو بالحرمان من ذلك الرغد من العيش وما يعقبه من التعب في المعيشة.
قد بينا من قبل أن الله قص علينا خبر نشأتنا الأولى بما يبين لنا سنته تعالى في فطرتنا وما يجب علينا من شكره وطاعته في تزكيتها وتهذيب غرائزها. وملخص هذه الآيات فيها مع ما يفسرها ويوضحها من السور الأخرى : أن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها، ولتسخير جميع ما فيها من القوة والمادة لمنافعه ليكون في ذلك مظهرا لأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وتعلقها بتدبير خلقه ومعاملتهم في الآخرة والأولى، وأنه كان في نشأته الأولى في جنة من النعيم وراحة البال، وأنه لاستعداده للأمور المتضادة التي يكون بها مظهرا للصفات المتقابلة كالضار والنافع والمنتقم والغافر، كانت نفسه مستعدة للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبها إلى الحق والخير وبالأرواح الشيطانية التي تجذبها إلى الباطل والشر، وإن عاقبة التأثر الأول سعادة الدارين بما تقبله طبيعة كل منهما، وعاقبة الثاني شقاء الدارين بقدر ما يوجد من أسباب الشقاء فيهما، ويحتاج البشر في ذلك إلى هداية الوحي الإلهي الهادية إلى اتقاء الأول والتعرض للآخر، وهو ما بينه تعالى في سورة طه بقوله ﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ ( طه ١٢٣- ١٢٦ ) ونحوه ما تقدم في سورة البقرة. فهذا أثر الدين في الحفظ من شقاء الدنيا وهلاك الآخرة، وكتاب الله حجة على من لا يصدق عليهم ذلك في حالهم، ومن يفسرونه بما يخالف ذلك بأقوالهم.
وقد تقدم في تفسير القصة من سورة البقرة أن بعضهم جعلها تمثيلا لبيان هذه السنن والنواميس في فطرة البشر والشياطين، على أن يكون المراد بآدم نوع الإنسان الذي هو أصله كما تسمي العرب القبيلة باسم أصلها وجدها الأشهر، فتقول فعلت قريش كذا وكذا وقالت تميم كيت وكيت. وتكون الجنة عبارة عن نعمة الحياة، والشجرة عبارة عن الغريزة التي تثمر المعصية والمخالفة كما مثل كلمتي الكفر والإيمان بالشجرة الخبيثة والشجرة الطيبة، ويكون الأمر بالخروج من الجنة أمر قدر وتكوين، ولا أمر تشريع وتكليف. وقد شرح الأستاذ الإمام هذا التأويل شرحا بليغا يراجع هنالك والغرض المقصود منه لا يتوقف عليه وإنما هو أقرب إلى أذهان من يعسر إقناعهم بظواهر النصوص ولا تطمئن قلوبهم إلا بمثل هذا الضرب من البيان.
هذا ملخص مضمون القصة أو ملخص بقيتها وأما ملخص ما فيها من العبرة فهو أنه : ينبغي لنا أن نعرف أنفسنا بغرائزها واستعدادها للكمال، وما يعرض لها دونه من الموانع، فيصرفها عنه إلى النقائص، وأن أنفع ما يعيننا على تربيتها أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده، وأن لا نعبد معه الشيطان ولا غيره، وأن نذكره ولا ننساه فننسى أنفسنا، ونغفل عن تزكيتها، وصقلها بصقال التوبة كلما عرض لها من وسواس الشيطان ما يلوثها، فإنه إن يترك صار صدأ وطبعا مفسدا لها، وما أفسد أنفس البشر ودساها إلا غفلة عقولهم وبصائرهم عنها، وتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات، ووساوس شياطين الضلالات، فعلى العاقل أن يعرف قيمتها ويحرص عليها أشد من حرصه على ما عساه يملك من نفائس الجواهر وأعلاق الذخائر، فإن حرصه على مثل هذا إنما يكون لأجلها، وهو يبذله عند الضرورة في أحقر ما لا بد لها منه. وذلك بأن يطلب لها أقصى ما تسمو إليه همته من الكمال ويحاسبها كل يوم مرة أو أكثر على ما بذلت من السعي لذلك، وعلى مكافحة ما يصدها عنه من الأهواء والوسواس وينصب الميزان القسط لما يشتبه عليها من الآراء والخواطر ليعرف كنه الحق والخير فيلتزمهما، وأضدادهما من الشر والباطل فيجتنبهما. وليتدبر ما قفى به الكتاب العزيز على القصة من الوصايا في الآيات الآتية.
الإشكالات في القصة
قد أكثر المفسرون المتكلمون في هذه القصة من استخراج الإشكالات، والجواب عنها بأنواع من التمحلات وهي مبنية على ما جروا عليه من أن آدم كان نبيا ورسولا وأن الرسل معصومون من معاصي الله تعالى فكيف وسوس له الشيطان فأغواه ؟ وكيف أقسم له فصدقه فيما يخالف خبر الله ؟ وكيف أطمعه في أن يكون ملكا أو خالدا فطمع وهو يستلزم إنكار البعث ؟ وإذا كان لم يصدقه فكيف أطاعه ؟ وهل الأمر له بالأكل من الجنة أمر وجوب أم إباحة ؟ وهل النهي عن الشجرة للتحريم أو الكراهة ؟ إلخ ما هنالك، حتى زعم بعضهم أن معصيته كانت صورية. وزعم بعض الصوفية أن حقيقة هذه المسألة لا تعرف إلا بالكشف أو إلا في الآخرة. ولا يرد على ما أوردناه شيء من ذلك فأما على جعل التأويل من باب التمثيل، وجعل الأمر والنهي للتكوين لا للتكليف فالأمر ظاهر. وأما على الوجه الأول فما جليناه فيه يقربه من الوجه الآخر. وآدم لم يكن نبيا رسولا عند بدء خلقه اتفاقا ولا موضع للرسالة في ذلك الطور والظاهر من الآيات الواردة في الرسل ومن بعض الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن رسولا مطلقا. وأن أول الرسل نوح عليه وعليهم السلام١ وعصمة الأنبياء من كل معصية قبل النبوة وبعدها لم ينقل إلا عن بعض الروافض. ولا يظهر دليل العصمة ولا حكمتها فيه. إذ لم يكن هنالك أحد يخاف من سوء الأسوة عليه.
هذا ما ألهمه تعالى من بيان معاني هذه الآيات بما يدل عليه الأسلوب العربي مع مراعاة سنن الله تعالى في الخليقة وما ترشد إليه الآيات الأخرى في القصة وما يناسبها، ولم ندخل فيه شيئا من تلك الروايات المأثورة، والآراء المشهورة التي لا دليل عليها من قول الله ولا قول رسوله، ولا من سننه تعالى في خلقه، إذ كل ما ورد في ذلك أو جله من الإسرائيليات التي لا يوثق بها، وقد فتن كثير من المفسرين بنقلها، كقصة الحية ودخول إبليس فيها وما جرى بينها وبين حواء من الحوار.
كلمة في الإسرائيليات الواردة في قصة آدم وغيرها
ومن أراد الإسرائيليات فليرجع إلى المتفق عليه عند أهل الكتاب ليعلم الفرق بين ما عندنا وما عندهم، بأن يراجع هنا سائر ما ورد في القصة بعد الذي نشرناه منها في سفر التكوين دون غيره مما لا يعرف له أصل عندهم وهو في الفصل الثالث منه. وملخصه أن الحية كانت أحيل حيوان البرية، وأنها قالت لحواء إنها هي وزوجها لا يموتان إذا أكلا من الشجرة كما قال لهما الرب، بل يصيران كآلهة يعرفان الخير والشر، وأن حواء رأت أن الشجرة طيبة الأكل بهجة المنظر، منية للنفس، فأكلت منها وأطعمت زوجها فأكل، فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان فخاطا لأنفسهما مآزر من ورق التين " فسمعا صوت الرب الإله وهو متمش في الجنة " فاختبآ من وجهه بين الشجر فنادى الرب آدم فاعتذر بتواريه عنه لأنه عريان، فسأله من أعلمه أنه عريان وهل أكل من الشجرة ؟ فاعتذر بأن امرأته أطعمته، وسأل الرب المرأة فاعتذرت بإغواء الحية لها " ١٤ فقال الرب الإله للحية : إذ صنعت هذا فأنت ملعونة من بين جميع البهائم وجميع وحوش البرية على صدرك تمشين وترابا تأكلين طول أيام حياتك٢ ١٥ وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها فهو يستحق رأسك وأنت ترصدين عقبه " وقال للمرأة إنه يكثر مشقات حملها وآلام ولادتها، وإنها تنقاد إلى بعلها وهو يسودها، وقال لآدم إن الأرض ملعونة بسببه وأنه بمشقة يأكل طول أيام حياته وبعرق وجهه يأكل خبزا حتى يعود إلى التراب الذي أخذ منه، ثم قال الرب ٢٢ هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيا إلى الدهر ٢٣ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أخذ منها " اه وفي هذه القصة من الإشكالات ما ترى وليس فيما ورد في القرآن شيء مشكل فيها وقد صرح النصارى منهم بأن إبليس دخل في الحية وتوسل بها إلى إغواء حواء. ونقل عنهم المسلمون ما نقلوا في ذلك، ونحن لا نعتد بما يخالف ما في القرآن وصحيح ما في السنة من ذلك.
إذا علمت هذا فلا يغرنك شيء مما روي في التفسير المأثور في تفصيل هذه القصة فأكثره لا يصح، وهو أيضا مأخوذ من تلك الإسرائيليات المأخوذة عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له، وكذا الذين لم يدخلوا فيه. كان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره عنه هذه الإسرائيليات من غير بيان فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد أن يكون له أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم لأنه لا يعرف بالرأي، فيعدونه من الموقوف الذي له حكم المرفوع حتى روي عن ابن عباس ( رض ) كتب إلى بعض أحبار اليهود يسأله عن بعض ما ورد في القرآن ليعلم ما عندهم من العلم فيه، وكان بعض المسلمين يصدقونهم فيما لا يخالف كلام الله ورسوله، وينقلون روايتهم وإن خالفت فصار يعسر تمييز المخالف من الموافق إلا على أساطين العلماء الواسعي الاطلاع على السنة الذين يفهمونها ويفهمون القرآن حق الفهم، وكلما قل هؤلاء في الأمة كثر الذين يأخذون كل ما ذكر في كتب التفسير والتاريخ والمواعظ من الإسرائيليات بالتسليم، مع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ". ذلك بأنهم قد حرفوا وزادوا ونقصوا كما قال الله تعالى فيهم : إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ونسوا حظا مما ذكروا به، فلا نصدق روايتهم لئلا تكون مما حرفوه أو زادوه ولا نكذبها لئلا تكون مما أوتوه فحفظوه إلا أن تكون مخالفة لما صح عندنا. وقد أكثر الرواة من التابعين ومن بعدهم من الرواية عن زنادقتهم. ويقل في صحيح المأثور عن الصحابة ما هو من الإسرائيليات وإن روى بعضهم عن كعب الأحبار كأبي هريرة رضي الله عنه الذي تروى أكثر أحاديثه عنعنة وأقلها ما يصرح فيه بالسماع وكذا ابن عباس.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في فن التفسير٣ نقل عنه السيوطي في الإتقان بحثا طويلا في المفسرين واختلافهم في التفسير، وقال إنه نفيس جدا ومنه فصل فيما لا يعلم إلا من طريق النقل، وهو قسمان : ما يمكن معرفة الصحيح فيه من غيره وما لا يمكن، وهو الذي تدخل فيه الإسرائيليات. وقد قال فيه ما نصه :
" فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه و سلم قبل، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ( أي كعب الأحبار ووهب ابن منبه وهما من خيارهم عند الرواة ومعظم الخرافات والأكاذيب نقلت عنهما ) وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله ( ص ) :" إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " وكذا ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب. فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض. وما نقل من ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم٤ ؟ وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثير ولله الحمد وإن قال الإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي وذلك لأن الغالب عليها المراسيل " اهـ.
٢ أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٩ في المساقاة حديث ١٠٨ والدرامي في البيوع باب ٣ وابن ماجه في الفتن باب ١٤ والدرامي في البيوع باب ١..
﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا ﴾ قال الراغب الوسوسة الخطرة الرديئة وأصله من الوسواس وهو صوت الحلي، والهمس الخفي، قال :﴿ فوسوس إليه الشيطان ﴾ ( طه ١٢٠ ) وقال :﴿ من شر الوسواس ﴾ ( الناس ٤ ) ويقال لهمس الصائد وسواس اه فوسوسة الشيطان للبشر هي ما يجدونه في أنفسهم من الخواطر الرديئة التي تزين لهم ما يضرهم في أبدانهم أو أرواحهم ومعاملتهم وقد فصلنا القول في ذلك مرارا. والظاهر هنا أن الشيطان تمثل لآدم وزوجه وكلمهما وأقسم لهما، ولا مانع منه على قول الجمهور. ومن جعل القصة تمثيلا لبيان حال النوع البشري في الأطوار التي تنقل فيها يفسر الوسوسة بما تقدم آنفا فإن الإنسان عندما ينتقل من طور الطفولة التي لا يعرف فيها هما ولا نصبا إلى طور التمييز الناقص يكون كثير التعرض لوسوسة الشيطان وأتباعها. وقد عللت هذه الوسوسة بأن غايتها أو غرضه منها أن يظهر لهما ما غطي وستر عنهما من سوآتهما. يقال وارى الشيء إذا غطاه وستره و( ووري الشيء ) : غطي وستر، والسوأة ما يسوء الإنسان من أمر شائن وعمل قبيح. والسوأة السوآء الخلة القبيحة والمرأة المخالفة. قال في حقيقة الأساس : وسوأة لك، ووقعت في السوأة السوآء قال أبو زبيد :
لم يهب حرمة النديم وحقت | يا لقومي للسوأة السوآء١ |
﴿ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِين ﴾ أي وقال فيما وسوس به لهما : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة أن تأكلا منها إلا لأحد أمرين : اتقاء أن تكونا بالأكل منها ملكين أي كالملكين فيما أوتي الملائكة من الخصائص كالقوة وطول البقاء وعدم التأثير بفواعل الكون المؤلمة والمتعبة وغير ذلك، وقرأ ابن عباس وابن كثير " ملكين " بكسر اللام واستشهد له الزجاج له بما حكاه تعالى عن الشيطان في سورة طه بقوله :﴿ قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ﴾ ( طه ١٢٠ ) وهو ضعيف والقراءة شاذة أو اتقاء أن تكونا من الخالدين في الجنة، أو الذين لا يموتون البتة. أوهمهما أن الأكل من هذه الشجرة يعطي الآكل صفة الملائكة وغرائزهم ويقتضي الخلود في الحياة، واستدلوا به على تفضيل الملائكة على آدم، وخصه بعضهم بملائكة السماء والكرسي والعرش من العالين والمقربين دون ملائكة الأرض المسخرين لتدبير أمورها الذين كان معنى سجودهم له أن الله سخر لنوعه جميع قوى الأرض وعوالمها. وذكر الرازي في تفسير الآية أنها أحد الدلائل على كون الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الأرض فقط، واستدل الشيخ محيي الدين بن العربي على عدم سجود جميع الملائكة له بقوله تعالى لإبليس في سورة الحجر :﴿ أستكبرت أم كنت من العالين ﴾ ( ص ٧٥ ) ؟ بناء على أن العالين خواص الملائكة.
قد بينا من قبل أن الله قص علينا خبر نشأتنا الأولى بما يبين لنا سنته تعالى في فطرتنا وما يجب علينا من شكره وطاعته في تزكيتها وتهذيب غرائزها. وملخص هذه الآيات فيها مع ما يفسرها ويوضحها من السور الأخرى : أن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها، ولتسخير جميع ما فيها من القوة والمادة لمنافعه ليكون في ذلك مظهرا لأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وتعلقها بتدبير خلقه ومعاملتهم في الآخرة والأولى، وأنه كان في نشأته الأولى في جنة من النعيم وراحة البال، وأنه لاستعداده للأمور المتضادة التي يكون بها مظهرا للصفات المتقابلة كالضار والنافع والمنتقم والغافر، كانت نفسه مستعدة للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبها إلى الحق والخير وبالأرواح الشيطانية التي تجذبها إلى الباطل والشر، وإن عاقبة التأثر الأول سعادة الدارين بما تقبله طبيعة كل منهما، وعاقبة الثاني شقاء الدارين بقدر ما يوجد من أسباب الشقاء فيهما، ويحتاج البشر في ذلك إلى هداية الوحي الإلهي الهادية إلى اتقاء الأول والتعرض للآخر، وهو ما بينه تعالى في سورة طه بقوله ﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ ( طه ١٢٣- ١٢٦ ) ونحوه ما تقدم في سورة البقرة. فهذا أثر الدين في الحفظ من شقاء الدنيا وهلاك الآخرة، وكتاب الله حجة على من لا يصدق عليهم ذلك في حالهم، ومن يفسرونه بما يخالف ذلك بأقوالهم.
وقد تقدم في تفسير القصة من سورة البقرة أن بعضهم جعلها تمثيلا لبيان هذه السنن والنواميس في فطرة البشر والشياطين، على أن يكون المراد بآدم نوع الإنسان الذي هو أصله كما تسمي العرب القبيلة باسم أصلها وجدها الأشهر، فتقول فعلت قريش كذا وكذا وقالت تميم كيت وكيت. وتكون الجنة عبارة عن نعمة الحياة، والشجرة عبارة عن الغريزة التي تثمر المعصية والمخالفة كما مثل كلمتي الكفر والإيمان بالشجرة الخبيثة والشجرة الطيبة، ويكون الأمر بالخروج من الجنة أمر قدر وتكوين، ولا أمر تشريع وتكليف. وقد شرح الأستاذ الإمام هذا التأويل شرحا بليغا يراجع هنالك والغرض المقصود منه لا يتوقف عليه وإنما هو أقرب إلى أذهان من يعسر إقناعهم بظواهر النصوص ولا تطمئن قلوبهم إلا بمثل هذا الضرب من البيان.
هذا ملخص مضمون القصة أو ملخص بقيتها وأما ملخص ما فيها من العبرة فهو أنه : ينبغي لنا أن نعرف أنفسنا بغرائزها واستعدادها للكمال، وما يعرض لها دونه من الموانع، فيصرفها عنه إلى النقائص، وأن أنفع ما يعيننا على تربيتها أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده، وأن لا نعبد معه الشيطان ولا غيره، وأن نذكره ولا ننساه فننسى أنفسنا، ونغفل عن تزكيتها، وصقلها بصقال التوبة كلما عرض لها من وسواس الشيطان ما يلوثها، فإنه إن يترك صار صدأ وطبعا مفسدا لها، وما أفسد أنفس البشر ودساها إلا غفلة عقولهم وبصائرهم عنها، وتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات، ووساوس شياطين الضلالات، فعلى العاقل أن يعرف قيمتها ويحرص عليها أشد من حرصه على ما عساه يملك من نفائس الجواهر وأعلاق الذخائر، فإن حرصه على مثل هذا إنما يكون لأجلها، وهو يبذله عند الضرورة في أحقر ما لا بد لها منه. وذلك بأن يطلب لها أقصى ما تسمو إليه همته من الكمال ويحاسبها كل يوم مرة أو أكثر على ما بذلت من السعي لذلك، وعلى مكافحة ما يصدها عنه من الأهواء والوسواس وينصب الميزان القسط لما يشتبه عليها من الآراء والخواطر ليعرف كنه الحق والخير فيلتزمهما، وأضدادهما من الشر والباطل فيجتنبهما. وليتدبر ما قفى به الكتاب العزيز على القصة من الوصايا في الآيات الآتية.
الإشكالات في القصة
قد أكثر المفسرون المتكلمون في هذه القصة من استخراج الإشكالات، والجواب عنها بأنواع من التمحلات وهي مبنية على ما جروا عليه من أن آدم كان نبيا ورسولا وأن الرسل معصومون من معاصي الله تعالى فكيف وسوس له الشيطان فأغواه ؟ وكيف أقسم له فصدقه فيما يخالف خبر الله ؟ وكيف أطمعه في أن يكون ملكا أو خالدا فطمع وهو يستلزم إنكار البعث ؟ وإذا كان لم يصدقه فكيف أطاعه ؟ وهل الأمر له بالأكل من الجنة أمر وجوب أم إباحة ؟ وهل النهي عن الشجرة للتحريم أو الكراهة ؟ إلخ ما هنالك، حتى زعم بعضهم أن معصيته كانت صورية. وزعم بعض الصوفية أن حقيقة هذه المسألة لا تعرف إلا بالكشف أو إلا في الآخرة. ولا يرد على ما أوردناه شيء من ذلك فأما على جعل التأويل من باب التمثيل، وجعل الأمر والنهي للتكوين لا للتكليف فالأمر ظاهر. وأما على الوجه الأول فما جليناه فيه يقربه من الوجه الآخر. وآدم لم يكن نبيا رسولا عند بدء خلقه اتفاقا ولا موضع للرسالة في ذلك الطور والظاهر من الآيات الواردة في الرسل ومن بعض الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن رسولا مطلقا. وأن أول الرسل نوح عليه وعليهم السلام١ وعصمة الأنبياء من كل معصية قبل النبوة وبعدها لم ينقل إلا عن بعض الروافض. ولا يظهر دليل العصمة ولا حكمتها فيه. إذ لم يكن هنالك أحد يخاف من سوء الأسوة عليه.
هذا ما ألهمه تعالى من بيان معاني هذه الآيات بما يدل عليه الأسلوب العربي مع مراعاة سنن الله تعالى في الخليقة وما ترشد إليه الآيات الأخرى في القصة وما يناسبها، ولم ندخل فيه شيئا من تلك الروايات المأثورة، والآراء المشهورة التي لا دليل عليها من قول الله ولا قول رسوله، ولا من سننه تعالى في خلقه، إذ كل ما ورد في ذلك أو جله من الإسرائيليات التي لا يوثق بها، وقد فتن كثير من المفسرين بنقلها، كقصة الحية ودخول إبليس فيها وما جرى بينها وبين حواء من الحوار.
كلمة في الإسرائيليات الواردة في قصة آدم وغيرها
ومن أراد الإسرائيليات فليرجع إلى المتفق عليه عند أهل الكتاب ليعلم الفرق بين ما عندنا وما عندهم، بأن يراجع هنا سائر ما ورد في القصة بعد الذي نشرناه منها في سفر التكوين دون غيره مما لا يعرف له أصل عندهم وهو في الفصل الثالث منه. وملخصه أن الحية كانت أحيل حيوان البرية، وأنها قالت لحواء إنها هي وزوجها لا يموتان إذا أكلا من الشجرة كما قال لهما الرب، بل يصيران كآلهة يعرفان الخير والشر، وأن حواء رأت أن الشجرة طيبة الأكل بهجة المنظر، منية للنفس، فأكلت منها وأطعمت زوجها فأكل، فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان فخاطا لأنفسهما مآزر من ورق التين " فسمعا صوت الرب الإله وهو متمش في الجنة " فاختبآ من وجهه بين الشجر فنادى الرب آدم فاعتذر بتواريه عنه لأنه عريان، فسأله من أعلمه أنه عريان وهل أكل من الشجرة ؟ فاعتذر بأن امرأته أطعمته، وسأل الرب المرأة فاعتذرت بإغواء الحية لها " ١٤ فقال الرب الإله للحية : إذ صنعت هذا فأنت ملعونة من بين جميع البهائم وجميع وحوش البرية على صدرك تمشين وترابا تأكلين طول أيام حياتك٢ ١٥ وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها فهو يستحق رأسك وأنت ترصدين عقبه " وقال للمرأة إنه يكثر مشقات حملها وآلام ولادتها، وإنها تنقاد إلى بعلها وهو يسودها، وقال لآدم إن الأرض ملعونة بسببه وأنه بمشقة يأكل طول أيام حياته وبعرق وجهه يأكل خبزا حتى يعود إلى التراب الذي أخذ منه، ثم قال الرب ٢٢ هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيا إلى الدهر ٢٣ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أخذ منها " اه وفي هذه القصة من الإشكالات ما ترى وليس فيما ورد في القرآن شيء مشكل فيها وقد صرح النصارى منهم بأن إبليس دخل في الحية وتوسل بها إلى إغواء حواء. ونقل عنهم المسلمون ما نقلوا في ذلك، ونحن لا نعتد بما يخالف ما في القرآن وصحيح ما في السنة من ذلك.
إذا علمت هذا فلا يغرنك شيء مما روي في التفسير المأثور في تفصيل هذه القصة فأكثره لا يصح، وهو أيضا مأخوذ من تلك الإسرائيليات المأخوذة عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له، وكذا الذين لم يدخلوا فيه. كان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره عنه هذه الإسرائيليات من غير بيان فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد أن يكون له أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم لأنه لا يعرف بالرأي، فيعدونه من الموقوف الذي له حكم المرفوع حتى روي عن ابن عباس ( رض ) كتب إلى بعض أحبار اليهود يسأله عن بعض ما ورد في القرآن ليعلم ما عندهم من العلم فيه، وكان بعض المسلمين يصدقونهم فيما لا يخالف كلام الله ورسوله، وينقلون روايتهم وإن خالفت فصار يعسر تمييز المخالف من الموافق إلا على أساطين العلماء الواسعي الاطلاع على السنة الذين يفهمونها ويفهمون القرآن حق الفهم، وكلما قل هؤلاء في الأمة كثر الذين يأخذون كل ما ذكر في كتب التفسير والتاريخ والمواعظ من الإسرائيليات بالتسليم، مع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ". ذلك بأنهم قد حرفوا وزادوا ونقصوا كما قال الله تعالى فيهم : إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ونسوا حظا مما ذكروا به، فلا نصدق روايتهم لئلا تكون مما حرفوه أو زادوه ولا نكذبها لئلا تكون مما أوتوه فحفظوه إلا أن تكون مخالفة لما صح عندنا. وقد أكثر الرواة من التابعين ومن بعدهم من الرواية عن زنادقتهم. ويقل في صحيح المأثور عن الصحابة ما هو من الإسرائيليات وإن روى بعضهم عن كعب الأحبار كأبي هريرة رضي الله عنه الذي تروى أكثر أحاديثه عنعنة وأقلها ما يصرح فيه بالسماع وكذا ابن عباس.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في فن التفسير٣ نقل عنه السيوطي في الإتقان بحثا طويلا في المفسرين واختلافهم في التفسير، وقال إنه نفيس جدا ومنه فصل فيما لا يعلم إلا من طريق النقل، وهو قسمان : ما يمكن معرفة الصحيح فيه من غيره وما لا يمكن، وهو الذي تدخل فيه الإسرائيليات. وقد قال فيه ما نصه :
" فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه و سلم قبل، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ( أي كعب الأحبار ووهب ابن منبه وهما من خيارهم عند الرواة ومعظم الخرافات والأكاذيب نقلت عنهما ) وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله ( ص ) :" إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " وكذا ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب. فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض. وما نقل من ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم٤ ؟ وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثير ولله الحمد وإن قال الإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي وذلك لأن الغالب عليها المراسيل " اهـ.
﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِين ﴾ ادعى اللعين أنه ناصح لهما فيما رغبهما فيه من الأكل من الشجرة. ولما كان محل الظنة في نصحه عندهما، لأنه تعالى أخبرهما بأنه عدو لهما، أكد دعواه بأشد المؤكدات وأغلظها، وهي القسم وإن اللام وتقديم " لكما " على متعلقه الدال على الحصر. وكان الظاهر أن يقال وأقسم لهما فإن المقاسمة تدل على المشاركة كقاسمه المال أي أخذ كل منهما قسما وللمفسرين في الصيغة قولان أحدهما أن صيغة فاعل وردت للمفرد كثيرا وهذا منها فمعناه : وحلف لهما، واستشهد له ابن جرير بقول خالد بن زهير :
وقاسمها بالله جهدا لأنتمُ | ألذ من السلوى إذا ما نشورها١ |
قد بينا من قبل أن الله قص علينا خبر نشأتنا الأولى بما يبين لنا سنته تعالى في فطرتنا وما يجب علينا من شكره وطاعته في تزكيتها وتهذيب غرائزها. وملخص هذه الآيات فيها مع ما يفسرها ويوضحها من السور الأخرى : أن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها، ولتسخير جميع ما فيها من القوة والمادة لمنافعه ليكون في ذلك مظهرا لأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وتعلقها بتدبير خلقه ومعاملتهم في الآخرة والأولى، وأنه كان في نشأته الأولى في جنة من النعيم وراحة البال، وأنه لاستعداده للأمور المتضادة التي يكون بها مظهرا للصفات المتقابلة كالضار والنافع والمنتقم والغافر، كانت نفسه مستعدة للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبها إلى الحق والخير وبالأرواح الشيطانية التي تجذبها إلى الباطل والشر، وإن عاقبة التأثر الأول سعادة الدارين بما تقبله طبيعة كل منهما، وعاقبة الثاني شقاء الدارين بقدر ما يوجد من أسباب الشقاء فيهما، ويحتاج البشر في ذلك إلى هداية الوحي الإلهي الهادية إلى اتقاء الأول والتعرض للآخر، وهو ما بينه تعالى في سورة طه بقوله ﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ ( طه ١٢٣- ١٢٦ ) ونحوه ما تقدم في سورة البقرة. فهذا أثر الدين في الحفظ من شقاء الدنيا وهلاك الآخرة، وكتاب الله حجة على من لا يصدق عليهم ذلك في حالهم، ومن يفسرونه بما يخالف ذلك بأقوالهم.
وقد تقدم في تفسير القصة من سورة البقرة أن بعضهم جعلها تمثيلا لبيان هذه السنن والنواميس في فطرة البشر والشياطين، على أن يكون المراد بآدم نوع الإنسان الذي هو أصله كما تسمي العرب القبيلة باسم أصلها وجدها الأشهر، فتقول فعلت قريش كذا وكذا وقالت تميم كيت وكيت. وتكون الجنة عبارة عن نعمة الحياة، والشجرة عبارة عن الغريزة التي تثمر المعصية والمخالفة كما مثل كلمتي الكفر والإيمان بالشجرة الخبيثة والشجرة الطيبة، ويكون الأمر بالخروج من الجنة أمر قدر وتكوين، ولا أمر تشريع وتكليف. وقد شرح الأستاذ الإمام هذا التأويل شرحا بليغا يراجع هنالك والغرض المقصود منه لا يتوقف عليه وإنما هو أقرب إلى أذهان من يعسر إقناعهم بظواهر النصوص ولا تطمئن قلوبهم إلا بمثل هذا الضرب من البيان.
هذا ملخص مضمون القصة أو ملخص بقيتها وأما ملخص ما فيها من العبرة فهو أنه : ينبغي لنا أن نعرف أنفسنا بغرائزها واستعدادها للكمال، وما يعرض لها دونه من الموانع، فيصرفها عنه إلى النقائص، وأن أنفع ما يعيننا على تربيتها أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده، وأن لا نعبد معه الشيطان ولا غيره، وأن نذكره ولا ننساه فننسى أنفسنا، ونغفل عن تزكيتها، وصقلها بصقال التوبة كلما عرض لها من وسواس الشيطان ما يلوثها، فإنه إن يترك صار صدأ وطبعا مفسدا لها، وما أفسد أنفس البشر ودساها إلا غفلة عقولهم وبصائرهم عنها، وتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات، ووساوس شياطين الضلالات، فعلى العاقل أن يعرف قيمتها ويحرص عليها أشد من حرصه على ما عساه يملك من نفائس الجواهر وأعلاق الذخائر، فإن حرصه على مثل هذا إنما يكون لأجلها، وهو يبذله عند الضرورة في أحقر ما لا بد لها منه. وذلك بأن يطلب لها أقصى ما تسمو إليه همته من الكمال ويحاسبها كل يوم مرة أو أكثر على ما بذلت من السعي لذلك، وعلى مكافحة ما يصدها عنه من الأهواء والوسواس وينصب الميزان القسط لما يشتبه عليها من الآراء والخواطر ليعرف كنه الحق والخير فيلتزمهما، وأضدادهما من الشر والباطل فيجتنبهما. وليتدبر ما قفى به الكتاب العزيز على القصة من الوصايا في الآيات الآتية.
الإشكالات في القصة
قد أكثر المفسرون المتكلمون في هذه القصة من استخراج الإشكالات، والجواب عنها بأنواع من التمحلات وهي مبنية على ما جروا عليه من أن آدم كان نبيا ورسولا وأن الرسل معصومون من معاصي الله تعالى فكيف وسوس له الشيطان فأغواه ؟ وكيف أقسم له فصدقه فيما يخالف خبر الله ؟ وكيف أطمعه في أن يكون ملكا أو خالدا فطمع وهو يستلزم إنكار البعث ؟ وإذا كان لم يصدقه فكيف أطاعه ؟ وهل الأمر له بالأكل من الجنة أمر وجوب أم إباحة ؟ وهل النهي عن الشجرة للتحريم أو الكراهة ؟ إلخ ما هنالك، حتى زعم بعضهم أن معصيته كانت صورية. وزعم بعض الصوفية أن حقيقة هذه المسألة لا تعرف إلا بالكشف أو إلا في الآخرة. ولا يرد على ما أوردناه شيء من ذلك فأما على جعل التأويل من باب التمثيل، وجعل الأمر والنهي للتكوين لا للتكليف فالأمر ظاهر. وأما على الوجه الأول فما جليناه فيه يقربه من الوجه الآخر. وآدم لم يكن نبيا رسولا عند بدء خلقه اتفاقا ولا موضع للرسالة في ذلك الطور والظاهر من الآيات الواردة في الرسل ومن بعض الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن رسولا مطلقا. وأن أول الرسل نوح عليه وعليهم السلام١ وعصمة الأنبياء من كل معصية قبل النبوة وبعدها لم ينقل إلا عن بعض الروافض. ولا يظهر دليل العصمة ولا حكمتها فيه. إذ لم يكن هنالك أحد يخاف من سوء الأسوة عليه.
هذا ما ألهمه تعالى من بيان معاني هذه الآيات بما يدل عليه الأسلوب العربي مع مراعاة سنن الله تعالى في الخليقة وما ترشد إليه الآيات الأخرى في القصة وما يناسبها، ولم ندخل فيه شيئا من تلك الروايات المأثورة، والآراء المشهورة التي لا دليل عليها من قول الله ولا قول رسوله، ولا من سننه تعالى في خلقه، إذ كل ما ورد في ذلك أو جله من الإسرائيليات التي لا يوثق بها، وقد فتن كثير من المفسرين بنقلها، كقصة الحية ودخول إبليس فيها وما جرى بينها وبين حواء من الحوار.
كلمة في الإسرائيليات الواردة في قصة آدم وغيرها
ومن أراد الإسرائيليات فليرجع إلى المتفق عليه عند أهل الكتاب ليعلم الفرق بين ما عندنا وما عندهم، بأن يراجع هنا سائر ما ورد في القصة بعد الذي نشرناه منها في سفر التكوين دون غيره مما لا يعرف له أصل عندهم وهو في الفصل الثالث منه. وملخصه أن الحية كانت أحيل حيوان البرية، وأنها قالت لحواء إنها هي وزوجها لا يموتان إذا أكلا من الشجرة كما قال لهما الرب، بل يصيران كآلهة يعرفان الخير والشر، وأن حواء رأت أن الشجرة طيبة الأكل بهجة المنظر، منية للنفس، فأكلت منها وأطعمت زوجها فأكل، فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان فخاطا لأنفسهما مآزر من ورق التين " فسمعا صوت الرب الإله وهو متمش في الجنة " فاختبآ من وجهه بين الشجر فنادى الرب آدم فاعتذر بتواريه عنه لأنه عريان، فسأله من أعلمه أنه عريان وهل أكل من الشجرة ؟ فاعتذر بأن امرأته أطعمته، وسأل الرب المرأة فاعتذرت بإغواء الحية لها " ١٤ فقال الرب الإله للحية : إذ صنعت هذا فأنت ملعونة من بين جميع البهائم وجميع وحوش البرية على صدرك تمشين وترابا تأكلين طول أيام حياتك٢ ١٥ وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها فهو يستحق رأسك وأنت ترصدين عقبه " وقال للمرأة إنه يكثر مشقات حملها وآلام ولادتها، وإنها تنقاد إلى بعلها وهو يسودها، وقال لآدم إن الأرض ملعونة بسببه وأنه بمشقة يأكل طول أيام حياته وبعرق وجهه يأكل خبزا حتى يعود إلى التراب الذي أخذ منه، ثم قال الرب ٢٢ هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيا إلى الدهر ٢٣ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أخذ منها " اه وفي هذه القصة من الإشكالات ما ترى وليس فيما ورد في القرآن شيء مشكل فيها وقد صرح النصارى منهم بأن إبليس دخل في الحية وتوسل بها إلى إغواء حواء. ونقل عنهم المسلمون ما نقلوا في ذلك، ونحن لا نعتد بما يخالف ما في القرآن وصحيح ما في السنة من ذلك.
إذا علمت هذا فلا يغرنك شيء مما روي في التفسير المأثور في تفصيل هذه القصة فأكثره لا يصح، وهو أيضا مأخوذ من تلك الإسرائيليات المأخوذة عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له، وكذا الذين لم يدخلوا فيه. كان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره عنه هذه الإسرائيليات من غير بيان فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد أن يكون له أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم لأنه لا يعرف بالرأي، فيعدونه من الموقوف الذي له حكم المرفوع حتى روي عن ابن عباس ( رض ) كتب إلى بعض أحبار اليهود يسأله عن بعض ما ورد في القرآن ليعلم ما عندهم من العلم فيه، وكان بعض المسلمين يصدقونهم فيما لا يخالف كلام الله ورسوله، وينقلون روايتهم وإن خالفت فصار يعسر تمييز المخالف من الموافق إلا على أساطين العلماء الواسعي الاطلاع على السنة الذين يفهمونها ويفهمون القرآن حق الفهم، وكلما قل هؤلاء في الأمة كثر الذين يأخذون كل ما ذكر في كتب التفسير والتاريخ والمواعظ من الإسرائيليات بالتسليم، مع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ". ذلك بأنهم قد حرفوا وزادوا ونقصوا كما قال الله تعالى فيهم : إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ونسوا حظا مما ذكروا به، فلا نصدق روايتهم لئلا تكون مما حرفوه أو زادوه ولا نكذبها لئلا تكون مما أوتوه فحفظوه إلا أن تكون مخالفة لما صح عندنا. وقد أكثر الرواة من التابعين ومن بعدهم من الرواية عن زنادقتهم. ويقل في صحيح المأثور عن الصحابة ما هو من الإسرائيليات وإن روى بعضهم عن كعب الأحبار كأبي هريرة رضي الله عنه الذي تروى أكثر أحاديثه عنعنة وأقلها ما يصرح فيه بالسماع وكذا ابن عباس.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في فن التفسير٣ نقل عنه السيوطي في الإتقان بحثا طويلا في المفسرين واختلافهم في التفسير، وقال إنه نفيس جدا ومنه فصل فيما لا يعلم إلا من طريق النقل، وهو قسمان : ما يمكن معرفة الصحيح فيه من غيره وما لا يمكن، وهو الذي تدخل فيه الإسرائيليات. وقد قال فيه ما نصه :
" فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه و سلم قبل، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ( أي كعب الأحبار ووهب ابن منبه وهما من خيارهم عند الرواة ومعظم الخرافات والأكاذيب نقلت عنهما ) وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله ( ص ) :" إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " وكذا ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب. فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض. وما نقل من ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم٤ ؟ وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثير ولله الحمد وإن قال الإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي وذلك لأن الغالب عليها المراسيل " اهـ.
﴿ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُور ﴾ دلى الشيء تدلية أرسله إلى الأسفل رويدا رويدا لأن في الصيغة معنى التدريج أو التكثير أي فما زال يخدعهما بالترغيب في الأكل من الشجرة والقسم على أنه ناصح بذلك لهما به، حتى أسقطهما وحطهما عما كانا عليه من سلامة الفطرة وطاعة الفاطر بما غرهما به، والغرور الخداع بالباطل وهو مأخوذ من الغرة ( بالكسر ) والغرارة ( بالفتح ) وهما بمعنى الغفلة وعدم التجربة كما حققناه بالتفصيل في تفسير ﴿ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ ( الأنعام ١١١ ) واستشهدنا عليه بخداع الشيطان لآدم وحواء في مسألتنا. وقيل دلاهما حال كونهما متلبسين بغرور. والأول أظهر.
والظاهر أنهما اغترا وانخدعا بقسمه وصدقا قوله لاعتقادهما أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا، واستنكر بعضهم أن يكونا صدقاه واستكبر أن يقع ذلك منهما، وزعم أن تصديقه كفر، ورجح هؤلاء أن يكون الغرور بتزيين الشهوة، فإن من غرائز البشر حب التجربة واستكشاف المجهول، والرغبة في الممنوع، فجاء الوسواس نافخا في نار هذه الشهوات الغريزية مذكيا لها، مثيرا للنفس بها إلى مخالفة النهي حتى نسي آدم عهد ربه، ولم يكن له من العزم ما يصرفه عن متابعة امرأته، ويعتصم به من تأثير شيطانه، كما قال تعالى في سورة طه :﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ﴾ ( طه ١١٥ ) وفي حديث أبي هريرة في الصحيح " ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها " ١ بناء على أنها هي التي زينت له الأكل من الشجرة. والمراد أن المرأة فطرت على تزيين ما تشتهيه للرجل ولو بالخيانة له، وقيل إن ذلك بنزع العرق أي الوراثة.
﴿ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّة ﴾ أي فلما ذاقا ثمرة الشجرة ظهرت لكل منهما سوءته وسوءة صاحبه وكانت مواراة عنهما، قيل بلباس من الظفر كان يسترها فسقط عنهما، وبقيت له بقية في رؤوس أصابعهما، وقيل بلباس مجهول كان الله تعالى ألبسهما إياه، وقيل بنور كان يحجبهما ولا دليل على شيء من ذلك، ولم يصح به أثر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. والأقرب عندي أن معنى ظهورها لهما أن شهوة التناسل دبت فيهما بتأثير الأكل من الشجرة فنبهتهما إلى ما كان خفيا عنهما من أمرها، فخجلا من ظهورها، وشعرا بالحاجة إلى سترها، وشرعا يخصفان أي يلزقان أو يضعان ويربطان على أبدانهما من ورق أشجار الجنة العريض ما يسترها من خصف الإسكافي النعل إذا وضع عليها مثلها فالمواراة كانت معنوية فإن كانت حسية فما ثم إلا الشعر ساتر خلقي، وقد تظهر الشهوة ما أخفاه الشعر، وإن لم يسقط بتأثير ذلك الأكل. ويدل على كل من هذين الوجهين فطرة الإنسان التي نزلت الآيات في شرح حقيقتها وغرائزها، والله أعلم بمراده، وخلقه وقدره أصدق شاهد لكتابه.
﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِين ﴾ الاستفهام هنا للعتاب والتوبيخ، أي وقال لهما ربهما الذي يربيهما في طور المخالفة والعصيان، كما يربيهما في حال الطاعة والإذعان : ألم أنهكما عن تلكما الشجرة أن تقرباها وأقل لكما إن الشيطان عدو لكما دون غيركما من الخلق بين العداوة ظاهرها فلا تطيعاه يخرجكما من الجنة حيث العيش الرغد إلى حيث الشقاء في المعيشة والتعب في جهاد الحياة. وهذا القول هو ما ورد في سورة طه :﴿ فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ﴾ ( طه ١١٧ ) والقرآن يفسر بعضه بعضا سواء ما تقدم نزوله منه وما تأخر.
قد بينا من قبل أن الله قص علينا خبر نشأتنا الأولى بما يبين لنا سنته تعالى في فطرتنا وما يجب علينا من شكره وطاعته في تزكيتها وتهذيب غرائزها. وملخص هذه الآيات فيها مع ما يفسرها ويوضحها من السور الأخرى : أن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها، ولتسخير جميع ما فيها من القوة والمادة لمنافعه ليكون في ذلك مظهرا لأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وتعلقها بتدبير خلقه ومعاملتهم في الآخرة والأولى، وأنه كان في نشأته الأولى في جنة من النعيم وراحة البال، وأنه لاستعداده للأمور المتضادة التي يكون بها مظهرا للصفات المتقابلة كالضار والنافع والمنتقم والغافر، كانت نفسه مستعدة للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبها إلى الحق والخير وبالأرواح الشيطانية التي تجذبها إلى الباطل والشر، وإن عاقبة التأثر الأول سعادة الدارين بما تقبله طبيعة كل منهما، وعاقبة الثاني شقاء الدارين بقدر ما يوجد من أسباب الشقاء فيهما، ويحتاج البشر في ذلك إلى هداية الوحي الإلهي الهادية إلى اتقاء الأول والتعرض للآخر، وهو ما بينه تعالى في سورة طه بقوله ﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ ( طه ١٢٣- ١٢٦ ) ونحوه ما تقدم في سورة البقرة. فهذا أثر الدين في الحفظ من شقاء الدنيا وهلاك الآخرة، وكتاب الله حجة على من لا يصدق عليهم ذلك في حالهم، ومن يفسرونه بما يخالف ذلك بأقوالهم.
وقد تقدم في تفسير القصة من سورة البقرة أن بعضهم جعلها تمثيلا لبيان هذه السنن والنواميس في فطرة البشر والشياطين، على أن يكون المراد بآدم نوع الإنسان الذي هو أصله كما تسمي العرب القبيلة باسم أصلها وجدها الأشهر، فتقول فعلت قريش كذا وكذا وقالت تميم كيت وكيت. وتكون الجنة عبارة عن نعمة الحياة، والشجرة عبارة عن الغريزة التي تثمر المعصية والمخالفة كما مثل كلمتي الكفر والإيمان بالشجرة الخبيثة والشجرة الطيبة، ويكون الأمر بالخروج من الجنة أمر قدر وتكوين، ولا أمر تشريع وتكليف. وقد شرح الأستاذ الإمام هذا التأويل شرحا بليغا يراجع هنالك والغرض المقصود منه لا يتوقف عليه وإنما هو أقرب إلى أذهان من يعسر إقناعهم بظواهر النصوص ولا تطمئن قلوبهم إلا بمثل هذا الضرب من البيان.
هذا ملخص مضمون القصة أو ملخص بقيتها وأما ملخص ما فيها من العبرة فهو أنه : ينبغي لنا أن نعرف أنفسنا بغرائزها واستعدادها للكمال، وما يعرض لها دونه من الموانع، فيصرفها عنه إلى النقائص، وأن أنفع ما يعيننا على تربيتها أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده، وأن لا نعبد معه الشيطان ولا غيره، وأن نذكره ولا ننساه فننسى أنفسنا، ونغفل عن تزكيتها، وصقلها بصقال التوبة كلما عرض لها من وسواس الشيطان ما يلوثها، فإنه إن يترك صار صدأ وطبعا مفسدا لها، وما أفسد أنفس البشر ودساها إلا غفلة عقولهم وبصائرهم عنها، وتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات، ووساوس شياطين الضلالات، فعلى العاقل أن يعرف قيمتها ويحرص عليها أشد من حرصه على ما عساه يملك من نفائس الجواهر وأعلاق الذخائر، فإن حرصه على مثل هذا إنما يكون لأجلها، وهو يبذله عند الضرورة في أحقر ما لا بد لها منه. وذلك بأن يطلب لها أقصى ما تسمو إليه همته من الكمال ويحاسبها كل يوم مرة أو أكثر على ما بذلت من السعي لذلك، وعلى مكافحة ما يصدها عنه من الأهواء والوسواس وينصب الميزان القسط لما يشتبه عليها من الآراء والخواطر ليعرف كنه الحق والخير فيلتزمهما، وأضدادهما من الشر والباطل فيجتنبهما. وليتدبر ما قفى به الكتاب العزيز على القصة من الوصايا في الآيات الآتية.
الإشكالات في القصة
قد أكثر المفسرون المتكلمون في هذه القصة من استخراج الإشكالات، والجواب عنها بأنواع من التمحلات وهي مبنية على ما جروا عليه من أن آدم كان نبيا ورسولا وأن الرسل معصومون من معاصي الله تعالى فكيف وسوس له الشيطان فأغواه ؟ وكيف أقسم له فصدقه فيما يخالف خبر الله ؟ وكيف أطمعه في أن يكون ملكا أو خالدا فطمع وهو يستلزم إنكار البعث ؟ وإذا كان لم يصدقه فكيف أطاعه ؟ وهل الأمر له بالأكل من الجنة أمر وجوب أم إباحة ؟ وهل النهي عن الشجرة للتحريم أو الكراهة ؟ إلخ ما هنالك، حتى زعم بعضهم أن معصيته كانت صورية. وزعم بعض الصوفية أن حقيقة هذه المسألة لا تعرف إلا بالكشف أو إلا في الآخرة. ولا يرد على ما أوردناه شيء من ذلك فأما على جعل التأويل من باب التمثيل، وجعل الأمر والنهي للتكوين لا للتكليف فالأمر ظاهر. وأما على الوجه الأول فما جليناه فيه يقربه من الوجه الآخر. وآدم لم يكن نبيا رسولا عند بدء خلقه اتفاقا ولا موضع للرسالة في ذلك الطور والظاهر من الآيات الواردة في الرسل ومن بعض الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن رسولا مطلقا. وأن أول الرسل نوح عليه وعليهم السلام١ وعصمة الأنبياء من كل معصية قبل النبوة وبعدها لم ينقل إلا عن بعض الروافض. ولا يظهر دليل العصمة ولا حكمتها فيه. إذ لم يكن هنالك أحد يخاف من سوء الأسوة عليه.
هذا ما ألهمه تعالى من بيان معاني هذه الآيات بما يدل عليه الأسلوب العربي مع مراعاة سنن الله تعالى في الخليقة وما ترشد إليه الآيات الأخرى في القصة وما يناسبها، ولم ندخل فيه شيئا من تلك الروايات المأثورة، والآراء المشهورة التي لا دليل عليها من قول الله ولا قول رسوله، ولا من سننه تعالى في خلقه، إذ كل ما ورد في ذلك أو جله من الإسرائيليات التي لا يوثق بها، وقد فتن كثير من المفسرين بنقلها، كقصة الحية ودخول إبليس فيها وما جرى بينها وبين حواء من الحوار.
كلمة في الإسرائيليات الواردة في قصة آدم وغيرها
ومن أراد الإسرائيليات فليرجع إلى المتفق عليه عند أهل الكتاب ليعلم الفرق بين ما عندنا وما عندهم، بأن يراجع هنا سائر ما ورد في القصة بعد الذي نشرناه منها في سفر التكوين دون غيره مما لا يعرف له أصل عندهم وهو في الفصل الثالث منه. وملخصه أن الحية كانت أحيل حيوان البرية، وأنها قالت لحواء إنها هي وزوجها لا يموتان إذا أكلا من الشجرة كما قال لهما الرب، بل يصيران كآلهة يعرفان الخير والشر، وأن حواء رأت أن الشجرة طيبة الأكل بهجة المنظر، منية للنفس، فأكلت منها وأطعمت زوجها فأكل، فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان فخاطا لأنفسهما مآزر من ورق التين " فسمعا صوت الرب الإله وهو متمش في الجنة " فاختبآ من وجهه بين الشجر فنادى الرب آدم فاعتذر بتواريه عنه لأنه عريان، فسأله من أعلمه أنه عريان وهل أكل من الشجرة ؟ فاعتذر بأن امرأته أطعمته، وسأل الرب المرأة فاعتذرت بإغواء الحية لها " ١٤ فقال الرب الإله للحية : إذ صنعت هذا فأنت ملعونة من بين جميع البهائم وجميع وحوش البرية على صدرك تمشين وترابا تأكلين طول أيام حياتك٢ ١٥ وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها فهو يستحق رأسك وأنت ترصدين عقبه " وقال للمرأة إنه يكثر مشقات حملها وآلام ولادتها، وإنها تنقاد إلى بعلها وهو يسودها، وقال لآدم إن الأرض ملعونة بسببه وأنه بمشقة يأكل طول أيام حياته وبعرق وجهه يأكل خبزا حتى يعود إلى التراب الذي أخذ منه، ثم قال الرب ٢٢ هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيا إلى الدهر ٢٣ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أخذ منها " اه وفي هذه القصة من الإشكالات ما ترى وليس فيما ورد في القرآن شيء مشكل فيها وقد صرح النصارى منهم بأن إبليس دخل في الحية وتوسل بها إلى إغواء حواء. ونقل عنهم المسلمون ما نقلوا في ذلك، ونحن لا نعتد بما يخالف ما في القرآن وصحيح ما في السنة من ذلك.
إذا علمت هذا فلا يغرنك شيء مما روي في التفسير المأثور في تفصيل هذه القصة فأكثره لا يصح، وهو أيضا مأخوذ من تلك الإسرائيليات المأخوذة عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له، وكذا الذين لم يدخلوا فيه. كان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره عنه هذه الإسرائيليات من غير بيان فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد أن يكون له أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم لأنه لا يعرف بالرأي، فيعدونه من الموقوف الذي له حكم المرفوع حتى روي عن ابن عباس ( رض ) كتب إلى بعض أحبار اليهود يسأله عن بعض ما ورد في القرآن ليعلم ما عندهم من العلم فيه، وكان بعض المسلمين يصدقونهم فيما لا يخالف كلام الله ورسوله، وينقلون روايتهم وإن خالفت فصار يعسر تمييز المخالف من الموافق إلا على أساطين العلماء الواسعي الاطلاع على السنة الذين يفهمونها ويفهمون القرآن حق الفهم، وكلما قل هؤلاء في الأمة كثر الذين يأخذون كل ما ذكر في كتب التفسير والتاريخ والمواعظ من الإسرائيليات بالتسليم، مع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ". ذلك بأنهم قد حرفوا وزادوا ونقصوا كما قال الله تعالى فيهم : إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ونسوا حظا مما ذكروا به، فلا نصدق روايتهم لئلا تكون مما حرفوه أو زادوه ولا نكذبها لئلا تكون مما أوتوه فحفظوه إلا أن تكون مخالفة لما صح عندنا. وقد أكثر الرواة من التابعين ومن بعدهم من الرواية عن زنادقتهم. ويقل في صحيح المأثور عن الصحابة ما هو من الإسرائيليات وإن روى بعضهم عن كعب الأحبار كأبي هريرة رضي الله عنه الذي تروى أكثر أحاديثه عنعنة وأقلها ما يصرح فيه بالسماع وكذا ابن عباس.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في فن التفسير٣ نقل عنه السيوطي في الإتقان بحثا طويلا في المفسرين واختلافهم في التفسير، وقال إنه نفيس جدا ومنه فصل فيما لا يعلم إلا من طريق النقل، وهو قسمان : ما يمكن معرفة الصحيح فيه من غيره وما لا يمكن، وهو الذي تدخل فيه الإسرائيليات. وقد قال فيه ما نصه :
" فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه و سلم قبل، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ( أي كعب الأحبار ووهب ابن منبه وهما من خيارهم عند الرواة ومعظم الخرافات والأكاذيب نقلت عنهما ) وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله ( ص ) :" إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " وكذا ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب. فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض. وما نقل من ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم٤ ؟ وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثير ولله الحمد وإن قال الإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي وذلك لأن الغالب عليها المراسيل " اهـ.
﴿ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين ﴾ هذا بيان مستأنف لما كان من أمرهما بعد أن تذكرا نهي الرب لهما عن الأكل من الشجرة لما فيه من ظلمهما لأنفسهما به وهو أنهما قالا : يا ربنا إننا ظلمنا أنفسنا بطاعتنا للشيطان وعصياننا لك كما أنذرتنا، وقد عرفنا ضعفنا وعجزنا عن التزام عزائم الطاعات وإن لم تغفر لنا ما نظلم به أنفسنا، وترحمنا بهدايتك لنا وتوفيقك إيانا إلى ترك الظلم، والاعتصام من الجهل والجهالة بالعلم والحلم، بقبولنا إذا نحن تبنا إليك وبإعطائك إيانا من فضلك فوق ما نستحق بعدلك، فوحقك لنكونن إذا من الخاسرين لأنفسنا وللسعادة والفلاح بتزكيتها، وإنما ينال الفوز والفلاح بمغفرتك ورحمتك من يتوب إليك ويتبع سبيلك دون من يصر على ذنبه ويحتج على ربه كالشيطان الرجيم، الذي أبى واستكبر واحتج لنفسه على المعصية وأصر.
هذا ما يدل عليه المقام وتقتضيه الحال من معنى كلمات آدم التي تلقاها من ربه وهي التي أشير إليها في سورة البقرة :﴿ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ﴾ ( البقرة ٣٧ ) قالها خاشعا متضرعا وتبعته زوجه بها، فحذفهما لمفعول " تغفر " إذ لم يقولا وإن لم تغفر لنا ذنبنا هذا أو ظلمنا يدل على أنهما قد علقا النجاة من الخسران على المغفرة العامة المطلقة التي تشمل هذا الذنب وغيره، من كل ذنب يتوب الإنسان عنه ويرجع إلى ربه وهو الذي يقتضيه مقام بيان حال الفطرة البشرية المبين في آيات أخرى كآية الأحزاب في حمل الإنسان للأمانة وكونه كان بذلك ظلوما جهولا، وآية المعارج ﴿ إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين ﴾ ( المعارج ١٩ -٢٢ ) إلخ ويؤيده أن هذا الذنب بعينه قد عوقبا عليه بالإخراج من الجنة وبالتشهير الدائم بإعلامه تعالى ذريتهما به، وهاك ما أجابهما الرب تعالى به، إذ المقام مقام السؤال عنه :﴿ قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ ﴾.
قد بينا من قبل أن الله قص علينا خبر نشأتنا الأولى بما يبين لنا سنته تعالى في فطرتنا وما يجب علينا من شكره وطاعته في تزكيتها وتهذيب غرائزها. وملخص هذه الآيات فيها مع ما يفسرها ويوضحها من السور الأخرى : أن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها، ولتسخير جميع ما فيها من القوة والمادة لمنافعه ليكون في ذلك مظهرا لأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وتعلقها بتدبير خلقه ومعاملتهم في الآخرة والأولى، وأنه كان في نشأته الأولى في جنة من النعيم وراحة البال، وأنه لاستعداده للأمور المتضادة التي يكون بها مظهرا للصفات المتقابلة كالضار والنافع والمنتقم والغافر، كانت نفسه مستعدة للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبها إلى الحق والخير وبالأرواح الشيطانية التي تجذبها إلى الباطل والشر، وإن عاقبة التأثر الأول سعادة الدارين بما تقبله طبيعة كل منهما، وعاقبة الثاني شقاء الدارين بقدر ما يوجد من أسباب الشقاء فيهما، ويحتاج البشر في ذلك إلى هداية الوحي الإلهي الهادية إلى اتقاء الأول والتعرض للآخر، وهو ما بينه تعالى في سورة طه بقوله ﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ ( طه ١٢٣- ١٢٦ ) ونحوه ما تقدم في سورة البقرة. فهذا أثر الدين في الحفظ من شقاء الدنيا وهلاك الآخرة، وكتاب الله حجة على من لا يصدق عليهم ذلك في حالهم، ومن يفسرونه بما يخالف ذلك بأقوالهم.
وقد تقدم في تفسير القصة من سورة البقرة أن بعضهم جعلها تمثيلا لبيان هذه السنن والنواميس في فطرة البشر والشياطين، على أن يكون المراد بآدم نوع الإنسان الذي هو أصله كما تسمي العرب القبيلة باسم أصلها وجدها الأشهر، فتقول فعلت قريش كذا وكذا وقالت تميم كيت وكيت. وتكون الجنة عبارة عن نعمة الحياة، والشجرة عبارة عن الغريزة التي تثمر المعصية والمخالفة كما مثل كلمتي الكفر والإيمان بالشجرة الخبيثة والشجرة الطيبة، ويكون الأمر بالخروج من الجنة أمر قدر وتكوين، ولا أمر تشريع وتكليف. وقد شرح الأستاذ الإمام هذا التأويل شرحا بليغا يراجع هنالك والغرض المقصود منه لا يتوقف عليه وإنما هو أقرب إلى أذهان من يعسر إقناعهم بظواهر النصوص ولا تطمئن قلوبهم إلا بمثل هذا الضرب من البيان.
هذا ملخص مضمون القصة أو ملخص بقيتها وأما ملخص ما فيها من العبرة فهو أنه : ينبغي لنا أن نعرف أنفسنا بغرائزها واستعدادها للكمال، وما يعرض لها دونه من الموانع، فيصرفها عنه إلى النقائص، وأن أنفع ما يعيننا على تربيتها أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده، وأن لا نعبد معه الشيطان ولا غيره، وأن نذكره ولا ننساه فننسى أنفسنا، ونغفل عن تزكيتها، وصقلها بصقال التوبة كلما عرض لها من وسواس الشيطان ما يلوثها، فإنه إن يترك صار صدأ وطبعا مفسدا لها، وما أفسد أنفس البشر ودساها إلا غفلة عقولهم وبصائرهم عنها، وتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات، ووساوس شياطين الضلالات، فعلى العاقل أن يعرف قيمتها ويحرص عليها أشد من حرصه على ما عساه يملك من نفائس الجواهر وأعلاق الذخائر، فإن حرصه على مثل هذا إنما يكون لأجلها، وهو يبذله عند الضرورة في أحقر ما لا بد لها منه. وذلك بأن يطلب لها أقصى ما تسمو إليه همته من الكمال ويحاسبها كل يوم مرة أو أكثر على ما بذلت من السعي لذلك، وعلى مكافحة ما يصدها عنه من الأهواء والوسواس وينصب الميزان القسط لما يشتبه عليها من الآراء والخواطر ليعرف كنه الحق والخير فيلتزمهما، وأضدادهما من الشر والباطل فيجتنبهما. وليتدبر ما قفى به الكتاب العزيز على القصة من الوصايا في الآيات الآتية.
الإشكالات في القصة
قد أكثر المفسرون المتكلمون في هذه القصة من استخراج الإشكالات، والجواب عنها بأنواع من التمحلات وهي مبنية على ما جروا عليه من أن آدم كان نبيا ورسولا وأن الرسل معصومون من معاصي الله تعالى فكيف وسوس له الشيطان فأغواه ؟ وكيف أقسم له فصدقه فيما يخالف خبر الله ؟ وكيف أطمعه في أن يكون ملكا أو خالدا فطمع وهو يستلزم إنكار البعث ؟ وإذا كان لم يصدقه فكيف أطاعه ؟ وهل الأمر له بالأكل من الجنة أمر وجوب أم إباحة ؟ وهل النهي عن الشجرة للتحريم أو الكراهة ؟ إلخ ما هنالك، حتى زعم بعضهم أن معصيته كانت صورية. وزعم بعض الصوفية أن حقيقة هذه المسألة لا تعرف إلا بالكشف أو إلا في الآخرة. ولا يرد على ما أوردناه شيء من ذلك فأما على جعل التأويل من باب التمثيل، وجعل الأمر والنهي للتكوين لا للتكليف فالأمر ظاهر. وأما على الوجه الأول فما جليناه فيه يقربه من الوجه الآخر. وآدم لم يكن نبيا رسولا عند بدء خلقه اتفاقا ولا موضع للرسالة في ذلك الطور والظاهر من الآيات الواردة في الرسل ومن بعض الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن رسولا مطلقا. وأن أول الرسل نوح عليه وعليهم السلام١ وعصمة الأنبياء من كل معصية قبل النبوة وبعدها لم ينقل إلا عن بعض الروافض. ولا يظهر دليل العصمة ولا حكمتها فيه. إذ لم يكن هنالك أحد يخاف من سوء الأسوة عليه.
هذا ما ألهمه تعالى من بيان معاني هذه الآيات بما يدل عليه الأسلوب العربي مع مراعاة سنن الله تعالى في الخليقة وما ترشد إليه الآيات الأخرى في القصة وما يناسبها، ولم ندخل فيه شيئا من تلك الروايات المأثورة، والآراء المشهورة التي لا دليل عليها من قول الله ولا قول رسوله، ولا من سننه تعالى في خلقه، إذ كل ما ورد في ذلك أو جله من الإسرائيليات التي لا يوثق بها، وقد فتن كثير من المفسرين بنقلها، كقصة الحية ودخول إبليس فيها وما جرى بينها وبين حواء من الحوار.
كلمة في الإسرائيليات الواردة في قصة آدم وغيرها
ومن أراد الإسرائيليات فليرجع إلى المتفق عليه عند أهل الكتاب ليعلم الفرق بين ما عندنا وما عندهم، بأن يراجع هنا سائر ما ورد في القصة بعد الذي نشرناه منها في سفر التكوين دون غيره مما لا يعرف له أصل عندهم وهو في الفصل الثالث منه. وملخصه أن الحية كانت أحيل حيوان البرية، وأنها قالت لحواء إنها هي وزوجها لا يموتان إذا أكلا من الشجرة كما قال لهما الرب، بل يصيران كآلهة يعرفان الخير والشر، وأن حواء رأت أن الشجرة طيبة الأكل بهجة المنظر، منية للنفس، فأكلت منها وأطعمت زوجها فأكل، فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان فخاطا لأنفسهما مآزر من ورق التين " فسمعا صوت الرب الإله وهو متمش في الجنة " فاختبآ من وجهه بين الشجر فنادى الرب آدم فاعتذر بتواريه عنه لأنه عريان، فسأله من أعلمه أنه عريان وهل أكل من الشجرة ؟ فاعتذر بأن امرأته أطعمته، وسأل الرب المرأة فاعتذرت بإغواء الحية لها " ١٤ فقال الرب الإله للحية : إذ صنعت هذا فأنت ملعونة من بين جميع البهائم وجميع وحوش البرية على صدرك تمشين وترابا تأكلين طول أيام حياتك٢ ١٥ وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها فهو يستحق رأسك وأنت ترصدين عقبه " وقال للمرأة إنه يكثر مشقات حملها وآلام ولادتها، وإنها تنقاد إلى بعلها وهو يسودها، وقال لآدم إن الأرض ملعونة بسببه وأنه بمشقة يأكل طول أيام حياته وبعرق وجهه يأكل خبزا حتى يعود إلى التراب الذي أخذ منه، ثم قال الرب ٢٢ هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيا إلى الدهر ٢٣ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أخذ منها " اه وفي هذه القصة من الإشكالات ما ترى وليس فيما ورد في القرآن شيء مشكل فيها وقد صرح النصارى منهم بأن إبليس دخل في الحية وتوسل بها إلى إغواء حواء. ونقل عنهم المسلمون ما نقلوا في ذلك، ونحن لا نعتد بما يخالف ما في القرآن وصحيح ما في السنة من ذلك.
إذا علمت هذا فلا يغرنك شيء مما روي في التفسير المأثور في تفصيل هذه القصة فأكثره لا يصح، وهو أيضا مأخوذ من تلك الإسرائيليات المأخوذة عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له، وكذا الذين لم يدخلوا فيه. كان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره عنه هذه الإسرائيليات من غير بيان فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد أن يكون له أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم لأنه لا يعرف بالرأي، فيعدونه من الموقوف الذي له حكم المرفوع حتى روي عن ابن عباس ( رض ) كتب إلى بعض أحبار اليهود يسأله عن بعض ما ورد في القرآن ليعلم ما عندهم من العلم فيه، وكان بعض المسلمين يصدقونهم فيما لا يخالف كلام الله ورسوله، وينقلون روايتهم وإن خالفت فصار يعسر تمييز المخالف من الموافق إلا على أساطين العلماء الواسعي الاطلاع على السنة الذين يفهمونها ويفهمون القرآن حق الفهم، وكلما قل هؤلاء في الأمة كثر الذين يأخذون كل ما ذكر في كتب التفسير والتاريخ والمواعظ من الإسرائيليات بالتسليم، مع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ". ذلك بأنهم قد حرفوا وزادوا ونقصوا كما قال الله تعالى فيهم : إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ونسوا حظا مما ذكروا به، فلا نصدق روايتهم لئلا تكون مما حرفوه أو زادوه ولا نكذبها لئلا تكون مما أوتوه فحفظوه إلا أن تكون مخالفة لما صح عندنا. وقد أكثر الرواة من التابعين ومن بعدهم من الرواية عن زنادقتهم. ويقل في صحيح المأثور عن الصحابة ما هو من الإسرائيليات وإن روى بعضهم عن كعب الأحبار كأبي هريرة رضي الله عنه الذي تروى أكثر أحاديثه عنعنة وأقلها ما يصرح فيه بالسماع وكذا ابن عباس.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في فن التفسير٣ نقل عنه السيوطي في الإتقان بحثا طويلا في المفسرين واختلافهم في التفسير، وقال إنه نفيس جدا ومنه فصل فيما لا يعلم إلا من طريق النقل، وهو قسمان : ما يمكن معرفة الصحيح فيه من غيره وما لا يمكن، وهو الذي تدخل فيه الإسرائيليات. وقد قال فيه ما نصه :
" فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه و سلم قبل، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ( أي كعب الأحبار ووهب ابن منبه وهما من خيارهم عند الرواة ومعظم الخرافات والأكاذيب نقلت عنهما ) وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله ( ص ) :" إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " وكذا ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب. فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض. وما نقل من ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم٤ ؟ وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثير ولله الحمد وإن قال الإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي وذلك لأن الغالب عليها المراسيل " اهـ.
﴿ قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ ﴾ الخطاب لآدم وحواء عليهما السلام وللشيطان عليه اللعنة والملام، أي اهبطوا من هذه الجنة او من هذه المكانة على ما تقدم مثله في قصة إبليس بعضكم وهو الشيطان عدو لبعض وهو الإنسان وأما الإنسان فليس عدو للشيطان لأنه ليس مندفعا إلى إغوائه وإيذائه، وإنما يجب عليه أن يتخذه عدوا بأن لا يغفل عن عداوته له ولا يأمن وسوسته وإغوائه وإيذائه كما قال تعالى :﴿ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ﴾ ( فاطر ٦ ) وقيل إن الخطاب لهما بالذات ولذريتهما بالتبع وفيه خطاب المعدوم، وقيل هو خطاب لهما فقط بدليل قوله في سورة طه ﴿ قال اهبطا منها ﴾ ( طه ١٢٣ ) إلخ. وفي هذه التثنية قولان للمفسرين : أحدهما أنها لآدم وحواء، والثاني أنها لآدم وإبليس وحواء تبع لآدم، وهذا أقوى لأنه جعل بعض المخاطبين عدوا لبعض وإنما العداوة بين الإنسان والشيطان لا بين المرء وزوجه التي خلقت ليسكن إليها وتكون بينهما المودة والرحمة. فعجبا لمن غفل عن هذا. ويحتمل أن تكون التثنية للفريقين فريقي الإنسان والشيطان، والمتبادر أن هذا الإخراج من ذلك النعيم عقاب على تلك المعصية، وتأويل لكونها ظلما منهما لأنفسهما، وهو من نوع العقاب الذي قضت سنته تعالى في طبيعة الخلق أن يكون أثرا طبيعيا للعمل السيئ مترتبا عليه ترتب المسبب على السبب، وأما النوع الآخر من العقاب عليه من حيث هو عصيان للرب تعالى الذي يكون في الآخرة فقد غفره تعالى لهما بالتوبة التي ذهبت بأثره من النفس، وجعلتها محلا لاصطفائه تعالى كما قال في سورة طه ﴿ وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ﴾ ( طه ١٢١- ١٢٢ ).
﴿ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين ﴾ أي ولكم في الأرض استقرار أو مكان تستقرون فيه ومتاع تنتفعون به في معيشتكم إلى حين، أي زمن مقدر في علم الله تعالى وهو الأجل الذي تنتهي فيه أعماركم وتقوم به قيامتكم. والمستقر يطلق مصدرا بمعنى الاستقرار، واسم مكان منه. والمتاع ما ينتفع به، وهذا المستقر والمتاع هنا بمعنى قوله تعالى في أول هذا السياق ﴿ ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش ﴾ فهو تعالى يذكرنا فيما خاطب به آخرنا على لسان آخر رسله وخاتمتهم صلى الله عليه و سلم بما قاله لأولنا.
قد بينا من قبل أن الله قص علينا خبر نشأتنا الأولى بما يبين لنا سنته تعالى في فطرتنا وما يجب علينا من شكره وطاعته في تزكيتها وتهذيب غرائزها. وملخص هذه الآيات فيها مع ما يفسرها ويوضحها من السور الأخرى : أن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها، ولتسخير جميع ما فيها من القوة والمادة لمنافعه ليكون في ذلك مظهرا لأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وتعلقها بتدبير خلقه ومعاملتهم في الآخرة والأولى، وأنه كان في نشأته الأولى في جنة من النعيم وراحة البال، وأنه لاستعداده للأمور المتضادة التي يكون بها مظهرا للصفات المتقابلة كالضار والنافع والمنتقم والغافر، كانت نفسه مستعدة للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبها إلى الحق والخير وبالأرواح الشيطانية التي تجذبها إلى الباطل والشر، وإن عاقبة التأثر الأول سعادة الدارين بما تقبله طبيعة كل منهما، وعاقبة الثاني شقاء الدارين بقدر ما يوجد من أسباب الشقاء فيهما، ويحتاج البشر في ذلك إلى هداية الوحي الإلهي الهادية إلى اتقاء الأول والتعرض للآخر، وهو ما بينه تعالى في سورة طه بقوله ﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ ( طه ١٢٣- ١٢٦ ) ونحوه ما تقدم في سورة البقرة. فهذا أثر الدين في الحفظ من شقاء الدنيا وهلاك الآخرة، وكتاب الله حجة على من لا يصدق عليهم ذلك في حالهم، ومن يفسرونه بما يخالف ذلك بأقوالهم.
وقد تقدم في تفسير القصة من سورة البقرة أن بعضهم جعلها تمثيلا لبيان هذه السنن والنواميس في فطرة البشر والشياطين، على أن يكون المراد بآدم نوع الإنسان الذي هو أصله كما تسمي العرب القبيلة باسم أصلها وجدها الأشهر، فتقول فعلت قريش كذا وكذا وقالت تميم كيت وكيت. وتكون الجنة عبارة عن نعمة الحياة، والشجرة عبارة عن الغريزة التي تثمر المعصية والمخالفة كما مثل كلمتي الكفر والإيمان بالشجرة الخبيثة والشجرة الطيبة، ويكون الأمر بالخروج من الجنة أمر قدر وتكوين، ولا أمر تشريع وتكليف. وقد شرح الأستاذ الإمام هذا التأويل شرحا بليغا يراجع هنالك والغرض المقصود منه لا يتوقف عليه وإنما هو أقرب إلى أذهان من يعسر إقناعهم بظواهر النصوص ولا تطمئن قلوبهم إلا بمثل هذا الضرب من البيان.
هذا ملخص مضمون القصة أو ملخص بقيتها وأما ملخص ما فيها من العبرة فهو أنه : ينبغي لنا أن نعرف أنفسنا بغرائزها واستعدادها للكمال، وما يعرض لها دونه من الموانع، فيصرفها عنه إلى النقائص، وأن أنفع ما يعيننا على تربيتها أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده، وأن لا نعبد معه الشيطان ولا غيره، وأن نذكره ولا ننساه فننسى أنفسنا، ونغفل عن تزكيتها، وصقلها بصقال التوبة كلما عرض لها من وسواس الشيطان ما يلوثها، فإنه إن يترك صار صدأ وطبعا مفسدا لها، وما أفسد أنفس البشر ودساها إلا غفلة عقولهم وبصائرهم عنها، وتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات، ووساوس شياطين الضلالات، فعلى العاقل أن يعرف قيمتها ويحرص عليها أشد من حرصه على ما عساه يملك من نفائس الجواهر وأعلاق الذخائر، فإن حرصه على مثل هذا إنما يكون لأجلها، وهو يبذله عند الضرورة في أحقر ما لا بد لها منه. وذلك بأن يطلب لها أقصى ما تسمو إليه همته من الكمال ويحاسبها كل يوم مرة أو أكثر على ما بذلت من السعي لذلك، وعلى مكافحة ما يصدها عنه من الأهواء والوسواس وينصب الميزان القسط لما يشتبه عليها من الآراء والخواطر ليعرف كنه الحق والخير فيلتزمهما، وأضدادهما من الشر والباطل فيجتنبهما. وليتدبر ما قفى به الكتاب العزيز على القصة من الوصايا في الآيات الآتية.
الإشكالات في القصة
قد أكثر المفسرون المتكلمون في هذه القصة من استخراج الإشكالات، والجواب عنها بأنواع من التمحلات وهي مبنية على ما جروا عليه من أن آدم كان نبيا ورسولا وأن الرسل معصومون من معاصي الله تعالى فكيف وسوس له الشيطان فأغواه ؟ وكيف أقسم له فصدقه فيما يخالف خبر الله ؟ وكيف أطمعه في أن يكون ملكا أو خالدا فطمع وهو يستلزم إنكار البعث ؟ وإذا كان لم يصدقه فكيف أطاعه ؟ وهل الأمر له بالأكل من الجنة أمر وجوب أم إباحة ؟ وهل النهي عن الشجرة للتحريم أو الكراهة ؟ إلخ ما هنالك، حتى زعم بعضهم أن معصيته كانت صورية. وزعم بعض الصوفية أن حقيقة هذه المسألة لا تعرف إلا بالكشف أو إلا في الآخرة. ولا يرد على ما أوردناه شيء من ذلك فأما على جعل التأويل من باب التمثيل، وجعل الأمر والنهي للتكوين لا للتكليف فالأمر ظاهر. وأما على الوجه الأول فما جليناه فيه يقربه من الوجه الآخر. وآدم لم يكن نبيا رسولا عند بدء خلقه اتفاقا ولا موضع للرسالة في ذلك الطور والظاهر من الآيات الواردة في الرسل ومن بعض الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن رسولا مطلقا. وأن أول الرسل نوح عليه وعليهم السلام١ وعصمة الأنبياء من كل معصية قبل النبوة وبعدها لم ينقل إلا عن بعض الروافض. ولا يظهر دليل العصمة ولا حكمتها فيه. إذ لم يكن هنالك أحد يخاف من سوء الأسوة عليه.
هذا ما ألهمه تعالى من بيان معاني هذه الآيات بما يدل عليه الأسلوب العربي مع مراعاة سنن الله تعالى في الخليقة وما ترشد إليه الآيات الأخرى في القصة وما يناسبها، ولم ندخل فيه شيئا من تلك الروايات المأثورة، والآراء المشهورة التي لا دليل عليها من قول الله ولا قول رسوله، ولا من سننه تعالى في خلقه، إذ كل ما ورد في ذلك أو جله من الإسرائيليات التي لا يوثق بها، وقد فتن كثير من المفسرين بنقلها، كقصة الحية ودخول إبليس فيها وما جرى بينها وبين حواء من الحوار.
كلمة في الإسرائيليات الواردة في قصة آدم وغيرها
ومن أراد الإسرائيليات فليرجع إلى المتفق عليه عند أهل الكتاب ليعلم الفرق بين ما عندنا وما عندهم، بأن يراجع هنا سائر ما ورد في القصة بعد الذي نشرناه منها في سفر التكوين دون غيره مما لا يعرف له أصل عندهم وهو في الفصل الثالث منه. وملخصه أن الحية كانت أحيل حيوان البرية، وأنها قالت لحواء إنها هي وزوجها لا يموتان إذا أكلا من الشجرة كما قال لهما الرب، بل يصيران كآلهة يعرفان الخير والشر، وأن حواء رأت أن الشجرة طيبة الأكل بهجة المنظر، منية للنفس، فأكلت منها وأطعمت زوجها فأكل، فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان فخاطا لأنفسهما مآزر من ورق التين " فسمعا صوت الرب الإله وهو متمش في الجنة " فاختبآ من وجهه بين الشجر فنادى الرب آدم فاعتذر بتواريه عنه لأنه عريان، فسأله من أعلمه أنه عريان وهل أكل من الشجرة ؟ فاعتذر بأن امرأته أطعمته، وسأل الرب المرأة فاعتذرت بإغواء الحية لها " ١٤ فقال الرب الإله للحية : إذ صنعت هذا فأنت ملعونة من بين جميع البهائم وجميع وحوش البرية على صدرك تمشين وترابا تأكلين طول أيام حياتك٢ ١٥ وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها فهو يستحق رأسك وأنت ترصدين عقبه " وقال للمرأة إنه يكثر مشقات حملها وآلام ولادتها، وإنها تنقاد إلى بعلها وهو يسودها، وقال لآدم إن الأرض ملعونة بسببه وأنه بمشقة يأكل طول أيام حياته وبعرق وجهه يأكل خبزا حتى يعود إلى التراب الذي أخذ منه، ثم قال الرب ٢٢ هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيا إلى الدهر ٢٣ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أخذ منها " اه وفي هذه القصة من الإشكالات ما ترى وليس فيما ورد في القرآن شيء مشكل فيها وقد صرح النصارى منهم بأن إبليس دخل في الحية وتوسل بها إلى إغواء حواء. ونقل عنهم المسلمون ما نقلوا في ذلك، ونحن لا نعتد بما يخالف ما في القرآن وصحيح ما في السنة من ذلك.
إذا علمت هذا فلا يغرنك شيء مما روي في التفسير المأثور في تفصيل هذه القصة فأكثره لا يصح، وهو أيضا مأخوذ من تلك الإسرائيليات المأخوذة عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له، وكذا الذين لم يدخلوا فيه. كان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره عنه هذه الإسرائيليات من غير بيان فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد أن يكون له أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم لأنه لا يعرف بالرأي، فيعدونه من الموقوف الذي له حكم المرفوع حتى روي عن ابن عباس ( رض ) كتب إلى بعض أحبار اليهود يسأله عن بعض ما ورد في القرآن ليعلم ما عندهم من العلم فيه، وكان بعض المسلمين يصدقونهم فيما لا يخالف كلام الله ورسوله، وينقلون روايتهم وإن خالفت فصار يعسر تمييز المخالف من الموافق إلا على أساطين العلماء الواسعي الاطلاع على السنة الذين يفهمونها ويفهمون القرآن حق الفهم، وكلما قل هؤلاء في الأمة كثر الذين يأخذون كل ما ذكر في كتب التفسير والتاريخ والمواعظ من الإسرائيليات بالتسليم، مع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ". ذلك بأنهم قد حرفوا وزادوا ونقصوا كما قال الله تعالى فيهم : إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ونسوا حظا مما ذكروا به، فلا نصدق روايتهم لئلا تكون مما حرفوه أو زادوه ولا نكذبها لئلا تكون مما أوتوه فحفظوه إلا أن تكون مخالفة لما صح عندنا. وقد أكثر الرواة من التابعين ومن بعدهم من الرواية عن زنادقتهم. ويقل في صحيح المأثور عن الصحابة ما هو من الإسرائيليات وإن روى بعضهم عن كعب الأحبار كأبي هريرة رضي الله عنه الذي تروى أكثر أحاديثه عنعنة وأقلها ما يصرح فيه بالسماع وكذا ابن عباس.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في فن التفسير٣ نقل عنه السيوطي في الإتقان بحثا طويلا في المفسرين واختلافهم في التفسير، وقال إنه نفيس جدا ومنه فصل فيما لا يعلم إلا من طريق النقل، وهو قسمان : ما يمكن معرفة الصحيح فيه من غيره وما لا يمكن، وهو الذي تدخل فيه الإسرائيليات. وقد قال فيه ما نصه :
" فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه و سلم قبل، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ( أي كعب الأحبار ووهب ابن منبه وهما من خيارهم عند الرواة ومعظم الخرافات والأكاذيب نقلت عنهما ) وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله ( ص ) :" إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " وكذا ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب. فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض. وما نقل من ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم٤ ؟ وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثير ولله الحمد وإن قال الإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي وذلك لأن الغالب عليها المراسيل " اهـ.
ثم بين تعالى هذا القول المجمل بما هو جدير أن يفكر فيه ويسأل عنه فاستأنفه كسابقه وهو ﴿ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُون ﴾ أي في هذه الأرض التي خلقتم منها تحيون مدة العمر المقدر لكل منكم ولمجموع نوعكم أو نوعيكم، على أن إبليس داخل في الخطاب. وفيه دليل على أنه لا يبقى إلى يوم البعث. وفيها تموتون عند انتهائه ومنها تخرجون بعد موت الجميع، وعندما يريد الخالق أن يبعثكم يوم القيامة للنشأة الآخرة، كما قال في سورة طه ﴿ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ﴾ ( طه ٥٥ ) وهي تشبه النشأة الأولى إذ قال ﴿ كما بدأكم تعودون ﴾ ( الأعراف ٢٩ ) وقال مذكرا بها ﴿ نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون ﴾ ( الواقعة ٦٠- ٦٢ ).
قد بينا من قبل أن الله قص علينا خبر نشأتنا الأولى بما يبين لنا سنته تعالى في فطرتنا وما يجب علينا من شكره وطاعته في تزكيتها وتهذيب غرائزها. وملخص هذه الآيات فيها مع ما يفسرها ويوضحها من السور الأخرى : أن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها، ولتسخير جميع ما فيها من القوة والمادة لمنافعه ليكون في ذلك مظهرا لأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وتعلقها بتدبير خلقه ومعاملتهم في الآخرة والأولى، وأنه كان في نشأته الأولى في جنة من النعيم وراحة البال، وأنه لاستعداده للأمور المتضادة التي يكون بها مظهرا للصفات المتقابلة كالضار والنافع والمنتقم والغافر، كانت نفسه مستعدة للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبها إلى الحق والخير وبالأرواح الشيطانية التي تجذبها إلى الباطل والشر، وإن عاقبة التأثر الأول سعادة الدارين بما تقبله طبيعة كل منهما، وعاقبة الثاني شقاء الدارين بقدر ما يوجد من أسباب الشقاء فيهما، ويحتاج البشر في ذلك إلى هداية الوحي الإلهي الهادية إلى اتقاء الأول والتعرض للآخر، وهو ما بينه تعالى في سورة طه بقوله ﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ ( طه ١٢٣- ١٢٦ ) ونحوه ما تقدم في سورة البقرة. فهذا أثر الدين في الحفظ من شقاء الدنيا وهلاك الآخرة، وكتاب الله حجة على من لا يصدق عليهم ذلك في حالهم، ومن يفسرونه بما يخالف ذلك بأقوالهم.
وقد تقدم في تفسير القصة من سورة البقرة أن بعضهم جعلها تمثيلا لبيان هذه السنن والنواميس في فطرة البشر والشياطين، على أن يكون المراد بآدم نوع الإنسان الذي هو أصله كما تسمي العرب القبيلة باسم أصلها وجدها الأشهر، فتقول فعلت قريش كذا وكذا وقالت تميم كيت وكيت. وتكون الجنة عبارة عن نعمة الحياة، والشجرة عبارة عن الغريزة التي تثمر المعصية والمخالفة كما مثل كلمتي الكفر والإيمان بالشجرة الخبيثة والشجرة الطيبة، ويكون الأمر بالخروج من الجنة أمر قدر وتكوين، ولا أمر تشريع وتكليف. وقد شرح الأستاذ الإمام هذا التأويل شرحا بليغا يراجع هنالك والغرض المقصود منه لا يتوقف عليه وإنما هو أقرب إلى أذهان من يعسر إقناعهم بظواهر النصوص ولا تطمئن قلوبهم إلا بمثل هذا الضرب من البيان.
هذا ملخص مضمون القصة أو ملخص بقيتها وأما ملخص ما فيها من العبرة فهو أنه : ينبغي لنا أن نعرف أنفسنا بغرائزها واستعدادها للكمال، وما يعرض لها دونه من الموانع، فيصرفها عنه إلى النقائص، وأن أنفع ما يعيننا على تربيتها أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده، وأن لا نعبد معه الشيطان ولا غيره، وأن نذكره ولا ننساه فننسى أنفسنا، ونغفل عن تزكيتها، وصقلها بصقال التوبة كلما عرض لها من وسواس الشيطان ما يلوثها، فإنه إن يترك صار صدأ وطبعا مفسدا لها، وما أفسد أنفس البشر ودساها إلا غفلة عقولهم وبصائرهم عنها، وتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات، ووساوس شياطين الضلالات، فعلى العاقل أن يعرف قيمتها ويحرص عليها أشد من حرصه على ما عساه يملك من نفائس الجواهر وأعلاق الذخائر، فإن حرصه على مثل هذا إنما يكون لأجلها، وهو يبذله عند الضرورة في أحقر ما لا بد لها منه. وذلك بأن يطلب لها أقصى ما تسمو إليه همته من الكمال ويحاسبها كل يوم مرة أو أكثر على ما بذلت من السعي لذلك، وعلى مكافحة ما يصدها عنه من الأهواء والوسواس وينصب الميزان القسط لما يشتبه عليها من الآراء والخواطر ليعرف كنه الحق والخير فيلتزمهما، وأضدادهما من الشر والباطل فيجتنبهما. وليتدبر ما قفى به الكتاب العزيز على القصة من الوصايا في الآيات الآتية.
الإشكالات في القصة
قد أكثر المفسرون المتكلمون في هذه القصة من استخراج الإشكالات، والجواب عنها بأنواع من التمحلات وهي مبنية على ما جروا عليه من أن آدم كان نبيا ورسولا وأن الرسل معصومون من معاصي الله تعالى فكيف وسوس له الشيطان فأغواه ؟ وكيف أقسم له فصدقه فيما يخالف خبر الله ؟ وكيف أطمعه في أن يكون ملكا أو خالدا فطمع وهو يستلزم إنكار البعث ؟ وإذا كان لم يصدقه فكيف أطاعه ؟ وهل الأمر له بالأكل من الجنة أمر وجوب أم إباحة ؟ وهل النهي عن الشجرة للتحريم أو الكراهة ؟ إلخ ما هنالك، حتى زعم بعضهم أن معصيته كانت صورية. وزعم بعض الصوفية أن حقيقة هذه المسألة لا تعرف إلا بالكشف أو إلا في الآخرة. ولا يرد على ما أوردناه شيء من ذلك فأما على جعل التأويل من باب التمثيل، وجعل الأمر والنهي للتكوين لا للتكليف فالأمر ظاهر. وأما على الوجه الأول فما جليناه فيه يقربه من الوجه الآخر. وآدم لم يكن نبيا رسولا عند بدء خلقه اتفاقا ولا موضع للرسالة في ذلك الطور والظاهر من الآيات الواردة في الرسل ومن بعض الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن رسولا مطلقا. وأن أول الرسل نوح عليه وعليهم السلام١ وعصمة الأنبياء من كل معصية قبل النبوة وبعدها لم ينقل إلا عن بعض الروافض. ولا يظهر دليل العصمة ولا حكمتها فيه. إذ لم يكن هنالك أحد يخاف من سوء الأسوة عليه.
هذا ما ألهمه تعالى من بيان معاني هذه الآيات بما يدل عليه الأسلوب العربي مع مراعاة سنن الله تعالى في الخليقة وما ترشد إليه الآيات الأخرى في القصة وما يناسبها، ولم ندخل فيه شيئا من تلك الروايات المأثورة، والآراء المشهورة التي لا دليل عليها من قول الله ولا قول رسوله، ولا من سننه تعالى في خلقه، إذ كل ما ورد في ذلك أو جله من الإسرائيليات التي لا يوثق بها، وقد فتن كثير من المفسرين بنقلها، كقصة الحية ودخول إبليس فيها وما جرى بينها وبين حواء من الحوار.
كلمة في الإسرائيليات الواردة في قصة آدم وغيرها
ومن أراد الإسرائيليات فليرجع إلى المتفق عليه عند أهل الكتاب ليعلم الفرق بين ما عندنا وما عندهم، بأن يراجع هنا سائر ما ورد في القصة بعد الذي نشرناه منها في سفر التكوين دون غيره مما لا يعرف له أصل عندهم وهو في الفصل الثالث منه. وملخصه أن الحية كانت أحيل حيوان البرية، وأنها قالت لحواء إنها هي وزوجها لا يموتان إذا أكلا من الشجرة كما قال لهما الرب، بل يصيران كآلهة يعرفان الخير والشر، وأن حواء رأت أن الشجرة طيبة الأكل بهجة المنظر، منية للنفس، فأكلت منها وأطعمت زوجها فأكل، فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان فخاطا لأنفسهما مآزر من ورق التين " فسمعا صوت الرب الإله وهو متمش في الجنة " فاختبآ من وجهه بين الشجر فنادى الرب آدم فاعتذر بتواريه عنه لأنه عريان، فسأله من أعلمه أنه عريان وهل أكل من الشجرة ؟ فاعتذر بأن امرأته أطعمته، وسأل الرب المرأة فاعتذرت بإغواء الحية لها " ١٤ فقال الرب الإله للحية : إذ صنعت هذا فأنت ملعونة من بين جميع البهائم وجميع وحوش البرية على صدرك تمشين وترابا تأكلين طول أيام حياتك٢ ١٥ وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها فهو يستحق رأسك وأنت ترصدين عقبه " وقال للمرأة إنه يكثر مشقات حملها وآلام ولادتها، وإنها تنقاد إلى بعلها وهو يسودها، وقال لآدم إن الأرض ملعونة بسببه وأنه بمشقة يأكل طول أيام حياته وبعرق وجهه يأكل خبزا حتى يعود إلى التراب الذي أخذ منه، ثم قال الرب ٢٢ هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيا إلى الدهر ٢٣ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أخذ منها " اه وفي هذه القصة من الإشكالات ما ترى وليس فيما ورد في القرآن شيء مشكل فيها وقد صرح النصارى منهم بأن إبليس دخل في الحية وتوسل بها إلى إغواء حواء. ونقل عنهم المسلمون ما نقلوا في ذلك، ونحن لا نعتد بما يخالف ما في القرآن وصحيح ما في السنة من ذلك.
إذا علمت هذا فلا يغرنك شيء مما روي في التفسير المأثور في تفصيل هذه القصة فأكثره لا يصح، وهو أيضا مأخوذ من تلك الإسرائيليات المأخوذة عن زنادقة اليهود الذين دخلوا في الإسلام للكيد له، وكذا الذين لم يدخلوا فيه. كان الرواة ينقلون عن الصحابي أو التابعي ما مصدره عنه هذه الإسرائيليات من غير بيان فيغتر به بعض الناس فيظنون أنه لا بد أن يكون له أصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم لأنه لا يعرف بالرأي، فيعدونه من الموقوف الذي له حكم المرفوع حتى روي عن ابن عباس ( رض ) كتب إلى بعض أحبار اليهود يسأله عن بعض ما ورد في القرآن ليعلم ما عندهم من العلم فيه، وكان بعض المسلمين يصدقونهم فيما لا يخالف كلام الله ورسوله، وينقلون روايتهم وإن خالفت فصار يعسر تمييز المخالف من الموافق إلا على أساطين العلماء الواسعي الاطلاع على السنة الذين يفهمونها ويفهمون القرآن حق الفهم، وكلما قل هؤلاء في الأمة كثر الذين يأخذون كل ما ذكر في كتب التفسير والتاريخ والمواعظ من الإسرائيليات بالتسليم، مع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ". ذلك بأنهم قد حرفوا وزادوا ونقصوا كما قال الله تعالى فيهم : إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ونسوا حظا مما ذكروا به، فلا نصدق روايتهم لئلا تكون مما حرفوه أو زادوه ولا نكذبها لئلا تكون مما أوتوه فحفظوه إلا أن تكون مخالفة لما صح عندنا. وقد أكثر الرواة من التابعين ومن بعدهم من الرواية عن زنادقتهم. ويقل في صحيح المأثور عن الصحابة ما هو من الإسرائيليات وإن روى بعضهم عن كعب الأحبار كأبي هريرة رضي الله عنه الذي تروى أكثر أحاديثه عنعنة وأقلها ما يصرح فيه بالسماع وكذا ابن عباس.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب في فن التفسير٣ نقل عنه السيوطي في الإتقان بحثا طويلا في المفسرين واختلافهم في التفسير، وقال إنه نفيس جدا ومنه فصل فيما لا يعلم إلا من طريق النقل، وهو قسمان : ما يمكن معرفة الصحيح فيه من غيره وما لا يمكن، وهو الذي تدخل فيه الإسرائيليات. وقد قال فيه ما نصه :
" فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه و سلم قبل، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ( أي كعب الأحبار ووهب ابن منبه وهما من خيارهم عند الرواة ومعظم الخرافات والأكاذيب نقلت عنهما ) وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله ( ص ) :" إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " وكذا ما نقل عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب. فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض. وما نقل من ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم٤ ؟ وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثير ولله الحمد وإن قال الإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي وذلك لأن الغالب عليها المراسيل " اهـ.
بعد أن قص الله تعالى على بني آدم قصة نشأتهم الأولى وما خلقوا مستعدين له من السعادة ونعيم الجنة، وما يصدهم عن ذلك من وسوسة الشيطان وإغوائه رتب عليها هذه النصائح الهادية لهم إلى أقوم طرق تربيتهم لأنفسهم كما قلنا في بيان تناسب الآيات في أول ذلك السياق فقال :
﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا ﴾ الريش لباس الحاجة والزينة مستعار من ريش الطائر وليس من أجناس الحيوان كالطير في كثرة أنواع ريشها وبهجة مناظرها وتعدد ألوانها فهي جامعة لجميع المنافع، والزينة ومنها ما هو أجمل من جميع ما في الطبيعة وقرأ أبو زيد عن المفضل ( ورياشا ) وهو مروي عن زر بن حبيش والحسن البصري، وفيه حديث مرفوع قال ابن جرير في إسناده نظر. قيل الرياش جمع ريش، فهو كشعب وشعاب وذئب وذئاب، وقال الجوهري الريش والرياش بمعنى كاللبس واللباس، وهو اللباس الفاخر. وقال ابن السكيت الرياش مختص بالثياب والأثاث، والريش قد يطلق على سائر الأموال. وقال ابن جرير. ويحتمل أن يكون أراد به مصدرا من قول القائل راشه الله يريشه رياشا وريشا كما يقال لبسه يلبسه لباسا ( بكسر اللام ) ( ثم قال ) والرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب من المتاع مما يلبس أو يحشى من فراش أو دثار، والريش إنما هو المتاع والأموال عندهم، وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال، يقولون أعطاه سرجا بريشه أي بكسوته وجهازه. ويقولون إنه لحسن ريش الثياب. وقد يستعمل الرياش في الخصب ورفاهة العيش. ثم نقل عن بعض مفسري السلف ما يؤيد هذه الأقوال فعن ابن عباس ومجاهد والسدي وعروة بن الزبير أن الريش المال، وعن آخرين أنه المعاش أو الجمال والمختار عندنا من هذه الأقوال أنه لباس الحاجة والزينة معا بدليل اقترانه بلباس الستر الذي يواري العورات ولباس التقوى.
خاطب الله تعالى بني آدم في هذه الآية وأمثالها بالنداء الذي يخاطب به البعيد لما كان عليه عربهم وعجمهم عند نزول هذه السورة في مكة من البعد عن الفطرة السليمة، والشرعة القويمة، تنبيها للأذهان، بما يقرع الآذان، فامتن عليهم بعد أن أنبأهم بما كان من عري سلفهم الأول بما أنعم به عليهم من اللباس على اختلاف درجاته وأنواعه من الأدنى الذي يستر السوأة عن أعين الناس إلى أنواع الحلل التي تشبه ريش الطير في وقاية البدن من الحر والبرد بستر جميع البدن وما في ذلك من أنواع الزينة والجمال اللائقة بجميع ذكران البشر وإناثهم على اختلاف أسنانهم وأحوالهم. فهو يقول : يا بني آدم، إنا بما لنا من القدرة والنعمة والرحمة قد أنزلنا عليكم من علو سمائنا ؟ بتدبيرنا لأموركم من فوق عرشنا لباسا يواري سوآتكم وهو أدنى اللباس وأقله الذي يعد فاقده ذليلا مهينا وريشا تتزينون به في مساجدكم ومجالسكم ومجامعكم وهو أعلاه وأكمله، وبينهما لباس الحاجة وهو ما يقي الحر والبرد. والامتنان به يؤخذ من الامتنان بما فوقه بطريق المفهوم من الأسلوب أو هو داخل فيه بطريق المنطوق على ما اخترنا آنفا.
والمراد بإنزال ما ذكر أن الله تعالى خلق لبني آدم مادته من القطن والصوف والوبر وريش الطير والحرير وغيرها وعلمهم بما خلق لهم من الغرائز والقوى والأعضاء وسائل صنع اللباس منها كالزراعة والغزل والنسج والخياطة.
وإن مننه تعالى بهذه الصناعات على أهل هذا العصر أضعاف مننه على المتقدمين من شعوب بني آدم، فيجب أن يكون شكرهم له أعظم فقد بلغ من إتقان صناعات اللباس أن عاهل ألمانية الأخير ( قيصرها ) دخل مرة أحد معامل الثياب ليشاهد ما وصلت إليه من الإتقان فجزوا أمامه عند دخوله صوف بعض أكباش الغنم، ولما انتهى من التجوال في المعمل ومشاهدة أنواع العمل فيه وأراد الخروج قدموا له معطفا ليلبسه تذكارا لهذه الزيارة، وأخبروه أنه صنع من الصوف الذي جزوه أمامه عند دخوله، فهم قد نظفوه في الآلات المنظفة فغزلوه بآلات الغزل فنسجوه بآلات النسج ففصلوه فخاطوه في تلك الفترة القصيرة، فانتقل في ساعة أو ساعتين من ظهر الخروف إلى ظهر الإمبراطور.
وامتنانه تعالى على بني آدم بلباس الزينة يدل على استحبابها ولا يعارضه قوله تعالى في أوائل سورة الكهف ﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ﴾ ( الكهف ٨ ) وإن فسر الحسن البصري إحسان العمل بترك الدنيا وسفيان الثوري بالزهد فيها. ذلك بأن دين الإسلام هو دين الفطرة فليس فيه ما يخالف مقتضاها ويناقض غرائزها، بل هو مهذب ومكمل لها. وحب الزينة من أقوى غرائز البشر الدافعة لهم إلى إظهار سنن الله في الخليقة وأنواع نعمه على عباده كما سنفصله في تفسير ﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ﴾ ( الأعراف ٣٢ ) في هذا السياق وتحقيق معنى كونها ابتلاء إن الله تعالى يختبر بها طالبها ما يقصد منها ؟ وواجدها أيشكر المنعم عليه بها إذا استعملها، ويقف عند الحد المشروع فيها، وماذا يقصد وينوي بترك ما يتركه منها. وفاقدها أيصبر على فقدها أم يكون ساخطا على ربه وحاسدا لأهلها ؟
وأما قوله تعالى ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْر ﴾ فجمهور مفسري السلف على أنه اللباس المعنوي المجازي. فعن ابن زيد أنه عين التقوى أي اللباس الذي هو التقوى وذكر من معناه ما يناسب المقام قال : يتقي الله فيواري عورته. وعن زيد ابن علي تفسيره بالإسلام. وعن ابن عباس أنه الإيمان والعمل الصالح، قال الإيمان والعمل خير من الريش واللباس. وعن الجهني أنه الحياء. وفي رواية عن ابن عباس أنه السمت الحسن في الوجه. ومراده ما يدل على ما عليه النفس من طيب السريرة وبذلك يكون بمعنى ما سبقه. ورووا من الحديث المرفوع ما يؤيده فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال : رأيت عثمان على المنبر قال : أيها الناس اتقوا الله في هذه السرائر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول " والذي نفس محمد بيده ما عمل أحد قط عملا سرا إلا ألبسه الله رداءه علانية إن خيرا فخير وإن شرا فشر " ثم تلا هذه الآية. وفيه إنه قال ورياشا ولم يقل وريشا. وفسره عكرمة وعطاء بما يلبس المتقون يوم القيامة قالا : هو خير مما يلبس أهل الدنيا ومعناه أن اللباس الذي يكون في الآخرة جزاء على التقوى، ذلك خير من لباس أهل الدنيا.
هذه أقوالهم ملخصة من الدر المنثور وجعله بعضهم من اللباس الحسي الحقيقي. ففي بعض كتب المفسرين عن زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام أنه لباس الحرب : الدرع والمغفر والآلات التي يتقى بها العدو. واختاره أبو مسلم الأصفهاني. وهو مأخوذ من قوله تعالى في سورة النحل ﴿ وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ﴾ ( النحل ٨١ ) وقوله تعالى في داود من سورة الأنبياء عليهم السلام ﴿ وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ﴾ ( الأنبياء ٧٩ ) ولا مانع عندنا من استعمال التقوى هنا فيما يعم هذا وذاك. أي تقوى الله بالإيمان والعمل وتقوى فتك العدو بلبس الدرع والمغفر ونحوهما. على ما قررناه من قبل في مثل هذه المعاني التي لا تتعارض مدلولاتها في الاشتراك وفي الحقيقة والمجاز. والأمر أوسع فيما يسمونه عموم المجاز. وأضعف الأقوال في لباس التقوى أنه لباس النسك والتواضع كدروع الصوف ومرقعاته التي ابتدعها بعض العباد والمتصوفة. وإنما هي شر لا خير لأنها لباس شهوة وشهرة مذمومة، وكذا القول بأنه الحسن من الثياب فإن هذا هو الريش.
﴿ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون ﴾ أي ذلك الذي ذكر من نعم الله بإنزال أنواع الملابس الصورية والمعنوية من آيات الله تعالى ودلائل إحسانه إلى بني آدم وكثرة نعمه عليهم. التي من شأنها أن تدعهم وتؤهلهم لتذكر فضله ومننه والقيام بما يجب عليهم من شكرها. واتقاء فتنة الشيطان لهم بإبداء العورات تارة وبالإسراف في الزينة تارة أخرى. وسيأتي ما ذكر مفسرو السلف في هذا السياق من طوائف المشركين بالبيت الحرام عراة وما لهم من الشبهة في ذلك.
ومن مباحث اللفظ أن اسم الإشارة في قوله تعالى :﴿ ولباس التقوى ذلك خير ﴾ استعمل مكان الضمير في الربط. وجعل جملة ﴿ ذلك خير ﴾ خبرا لقوله ﴿ ولباس التقوى ﴾ يدل على تأكيد مضمونها بتكرار الإسناد. وذهب بعضهم إلى جعل " ذلك " صفة لباس ومنهم الزجاج وجعله بعضهم بدلا أو بيانا له.
( وهي السورة السابعة في العدد وسادسة السبع الطول وآياتها ٢٠٥ آيات عند القراء البصريين والشاميين و ٢٠٦ عند المدنيين والكوفيين )
الأعراف مكية بالإجماع وقد أطلق القول في ذلك عن ابن عباس وابن الزبير واستثنى قتادة آية ﴿ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ﴾ ( الأعراف ١٦٣ ) رواه عنه أبو الشيخ وابن حبان. قال السيوطي في الإتقان : وقال غيره : من هنا إلى ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم ﴾ ( الأعراف ١٧٢ ) مدني اه وكأن قائل هذا رأى أن هذه الآيات متصل بعضها بعض بالمعنى فلا يصح أن يكون بعضها مكيا وبعضها مدنيا، وبهذا النظر نقول : إن ما قبل هذه الآيات وما بعدها في سياق واحد وهو قصة بني إسرائيل على أن الغاية وهي :﴿ وإذ أخذ ربك ﴾ غير داخلة في المغيا فهي بدء سياق جديد عام. ومقتضى ذلك أن السورة كلها مكية وهو الصحيح المختار.
مناسبتها لما قبلها
سورة الأعراف أطول من سورة الأنعام فلو كان ترتيب السبع الطول مراعى فيه تقديم الأطول فالأطول مطلقا لقدمت الأعراف على الأنعام على أنه قد روي أنها نزلت قبلها، والظاهر أنها نزلت دفعة واحدة مثلها. فلم يبق وجه لتقديم الأنعام إلا أنها أجمع لما تشترك السورتان فيه، وهو أصول العقائد وكليات الدين التي أجملنا جل أصولها في خاتمة تفسيرها، وكون ما أطيل به في الأعراف كالشرح لما أوجز به فيها أو التفصيل بعد الإجمال، ولاسيما عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقصص الرسل قبله وأحوال أقوامهم، وقد بينا بعض هذا التناسب بين السورتين مع ما قبلها في فاتحة تفسير الأولى ( ج ٧ تفسير ) وسنزيده تفصيلا فيما نذكره في خاتمة الأعراف على نحو ما ذكرنا في خاتمة الأنعام من الأصول الكلية فيها إن أحيانا الله تعالى. وأما سبب تأخر نزول الأنعام فهو مبني على ما علم من التدريج في تلقين الدين ومراعاة استعداد المخاطبين فيه وهي أجمع للأصول الكلية ولرد شبهات المشركين، والفرق ظاهر بين ما يراعى من الترتيب في دعوتهم وما يراعى في تلاوة المؤمنين للقرآن.
وذكر السيوطي في المناسبة بين السورتين ما نقله الآلوسي عنه وهو أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وفيها ﴿ هو الذي خلقكم من طين ﴾ ( الأنعام ٢ ) وقال سبحانه في بيان القرون ﴿ كم أهلكنا من قبلهم من قرن ﴾ ( الأنعام ٦ ) وأشير إلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم وكان ما ذكر على وجه الإجمال جيء بهذه السورة بعدها مشتملة على شرحه وتفصيله فبسط فيها قصة آدم وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل، ويصلح هذا أن يكون تفصيلا لقوله تعالى :﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ﴾ ( الأنعام ١٦٥ ) ولهذا صدر السورة بخلق آدم الذي جعله خليفة في الأرض وقال سبحانه في قصة عاد ﴿ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ﴾ ( الأعراف ٦٩ ) وفي قصة ثمود ﴿ جعلكم خلفاء من بعد عاد ﴾ ( الأعراف ٧٤ ) وأيضا فقد قال سبحانه فيما تقدم ﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ ( الأنعام ٥٤ ) وهو كلام موجز وبسطه سبحانه هنا بقوله :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ﴾ ( الأعراف ١٥٦ ).
وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأولى فهو أنه تقدم ﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ﴾ ﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه ﴾ ( الأنعام ١٥٣- ١٥٥ ) وافتتح هذه بالأمر باتباع الكتاب، وأيضا لما تقدم ﴿ ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ﴾ ( الأنعام ١٥٩ ) ﴿ ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾ ( الأنعام ١٦٤ ) قال جل شأنه في مفتتح هذه السورة ﴿ فلنسألن الذين أرسل إليه ﴾ ( الأعراف ٦ ) وذلك من شرح التنبئة المذكورة وأيضا لما قال سبحانه :﴿ من جاء بالحسنة ﴾ ( الأنعام ١٦٠ ) الآية وذلك لا يظهر إلا في الميزان، افتتح هذه بذكر الوزن فقال عز من قائل :﴿ والوزن يومئذ الحق ﴾ ( الأعراف٨ ) ثم من ثقلت موازينه وهو من زادت حسناته على سيئاته. ثم من خفت وهو على العكس. ثم أصحاب الأعراف وهم في أحد الأقوال من استوت حسناتهم وسيئاتهم اه. ونكتفي بهذا مع ما أشرنا إليه قبله هنا وإن كان من السهل بسطه بأوضح من هذه العبارة والزيادة عليه، ونشرع في تفسير السورة مستعينين عليه بإلهامه وتفهيمه عز وجل.
﴿ يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّة ﴾ يقال في هذا النداء ما قيل فيما قبله، وتكرار النداء في مقام الوعظ والتذكير، من أقوى أساليب التنبيه والتأثير، يعرف ذلك الإنسان من نفسه، ويشعر به في قلبه. ونظيره في التنزيل قصة الجن من سورة الأحقاف إذ جاء فيها الوعظ والإنذار بتكرار النداء يا قومنا.. يا قومنا.. ووعظ مؤمن آل فرعون في سورة غافر :.. يا قوم... وقد فاتنا أن نذكر في تفسير النداء في الآية الأولى أن الذي يفهم من أساليب العربية في نسبة الإنسان إلى أحد أجداده أنه خاص بالجد الذي صار رئيس القبيلة أو العشيرة الكبيرة التي انحصر نسبها فيه، كقريش وعبد القادر الجيلاني وعثمان مؤسس السلطنة العثمانية ومحمد علي الكبير مؤسس دولة مصر الجديدة. أو الذي له صفة ممتازة يقتضي المقام تذكير من ينسب إليه بها لمشاركته له فيها أو للتعريض بتجرده منها مثلا، كأن تقول لبعض أحفاد الخديوي توفيق يا ابن إسماعيل أو هذا ابن إسماعيل في مقام السخاء وسعة العطاء إثباتا أو نفيا. ولو قلت له في هذا المقام يا ابن توفيق كان خطأ فإن توفيقا لم يشتهر بصفة السخاء وكثرة الهبات. وتسمية الناس أبناء آدم من النوع الأول. وفي كل منهما تدل القرينة على أن المنسوب إليه أحد الأجداد وليس هو الأب. فمن استدل بالنداء في هذه الآيات على أن أولاد الأولاد يدخلون في الوقف على الأولاد بدلالة اللغة فقد أخطأ.
والفتنة الابتلاء والاختبار وأصله من قولهم فتن الصائغ الذهب والفضة إذا عرضهما على النار ليعرف الزيف من النضار. وحجر الصائغ الذي يختبرهما به يسمى الفتانة. والفتنة تكون بالمحن والشدائد غالبا. وقد تكون بالاستمالة بالشهوات فإن الصبر عن الشهوات قد يكون أعسر من الصبر على الشدائد.
ومعنى لا يفتننكم الشيطان لا تغفلوا عن أنفسكم ووسوسته لكم فتمكنوه بذلك من خداعكم بها وإيقاعكم في المعاصي كما وسوس لأبويكم آدم وحواء فزين لهما معصية ربهما، ففتنا حتى عصياه بالأكل من الشجرة التي نهاهما عنها، فكان ذلك سببا لخروجهما من الجنة التي كانا يتمتعان بنعيمها، ودخلا في طور آخر من الحياة يكابدان فيها شقاء المعيشة وهمومها. وإن الفتنة التي تحرم المفتون من دخول الجنة أسهل من الفتنة التي تخرج من الجنة ولاسيما إذا تفاوت نعيم الجنتين ومدة اللبث فيهما.
﴿ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا ﴾ أي أخرجهما من الجنة حال كونه نازعا عنهما لباسهما أي سببا لنزع ما اتخذاه لباسا لهما من ورق الجنة لأجل أن يريهما سوآتهما أو لتكون عاقبة ذلك إراءتهما سوآتهما دائما. ويفهم من هذا ما هو المعقول من أنهما كانا يعيشان بعد الخروج منها عريانين إذ ليس في الأرض ثياب تصنع، وما ثم إلا ورق الشجر حيث يوجد. ولا نعلم أكان يوجد في الأرض شجر ذو ورق عريض في غير الجنة التي أخرجا منها ؟ وجميع الباحثين في طبائع الاجتماع وعاديات البشر وآثارهم يجزمون بأنهم كانوا قبل الاهتداء إلى الصناعات يعيشون عراة وأن أول ما اكتسبوا به ورق الشجر وجلود الحيوانات التي يصطادونها، ولا يزال في المتوحشين منهم من يعيش كذلك، وهذا الذي قلناه يدل عليه جعلهم ( ينزع ) حالا من فاعل يخرج ومثله جعله حالا من أبويكم الذي هو مفعول يخرج، ولكن جميع ما اطلعنا عليه من أقوال المفسرين يجعل ما هنا عين ما تقدم من ظهور سوآتهما لهما عقب الأكل من الشجرة قبل الإخراج من الجنة الذي كان بعد سترها سوآتهما بما خصفا عليهما من ورقها، والمتبادر أن هذا غير ذلك، وهنالك لم يقل إنه كان عليهما لباس فنزع، وإنما كان شيء موارى فظهر، فصار كل منهما يرى من نفسه ومن الآخر ما لم يكن يرى.
وقد جعل بعضهم هذا اللباس حسيا، وجعله بعضهم معنويا، فروي عن ابن عباس وعكرمة أن لباسهما كان الظفر وأنه نزع عنهما بسبب الأكل من الشجرة وتركت الأظفار في رؤوس الأصابع تذكرة وزينة، وعن وهب بن منبه أنه كان عليهما نور يمنع رؤية السوءتين وهو المراد بلباسهما، وقد بينا هنالك أن هذا وذاك من الإسرائيليات التي لا دليل عليها. وعن مجاهد في قوله ﴿ ينزع عنهما لباسهما ﴾ قال التقوى. وقد نقل ابن جرير هذه الأقوال ولم يعتد بشيء منها. بل جوز أن يكون ذلك اللباس غيرها. وعلله بأنه ليس في المسألة خبر تثبت به الحجة. واختار التفويض وترك تعيين ذلك اللباس. وهذا ما اعتمدنا عليه هنالك في رد الروايات. فإن التعيين في مثلها لا يقبل إلا بخبر صحيح من المعصوم. وأما ما رجحناه من غير جزم. فأخذناه من سنة الله تعالى في التكوين وبدء الخلق.
وقد استدل بعض الناس بهذه القصة على كراهة رؤية كل من الزوجين سوءة الآخر حتى في خلوة المباعلة الزوجية. وإنما القصة مبينة لحال الفطرة وليس فيها حكم التكليف الشرعي في هذه المسألة. هل هو الكراهة أو الإباحة ؟ ومن الناس من يرى أن القول بكراهة ما ذكر حرج شديد وتحكم في الفطرة وحجر عليها في صفة التمتع الحلال المطلوب شرعا بما لا تظهر له حكمة، والمختار إن هذا من المباح ولا حجر فيه ولا حرج. وما ورد في هذا الباب من السنة فآداب إرشادية للخواص يستفيد كل أحد منها بقدر سلامة فطرته، ودرجة أدبه وفضيلته، كحديث عائشة أنه صلى الله عليه و سلم ما رأى منها ولا رأت منه. ولكن لا نسلم أن جعل رؤية السوءة ولاسيما باطنها مكروها تنزيها فلا يحسن التمادي فيها مما لا تظهر له حكمة تليق بدين الفطرة. فإن إطلاق العنان في المباحات كلها قد يفضي إلى الإسراف الضار الذي يقصد به صاحبه زيادة اللذة فيصدق قول الأمثال : من طلب الزيادة وقع في النقصان. ورب أكلة هاضت الآكل، وحرمته مآكل وما جاوز حده، جاور ضده.
ولكن هذه حكمة عالية لا يفقهها إلا حكيم خبير يعلم أن من أعطى نفسه منتهى ما يقدر عليه من اللذة وإن مباحة فلم يقف عند حد أدب شرعي ولا فطري ولا طبي آل أمره في الإسراف إلى إضعاف هذه اللذة حتى يحتاج في إثارتها إلى المعالجة والأدوية ثم لا تكون إلا ناقصة. ويتكرر إضعافها بعد إثارتها بسنة رد الفعل حتى تكون مرضا ويكون صاحبها حرضا أو يكون من الهالكين. ولهذا نرى أكثر المترفين سيئي الهضم شديدي الإقهاء١ والطسي٢ يكثرون حتى في الشباب من الأدوية والمحرضات على الطعام والمعاجين والحبوب السامة التي تقوي الباه، فتنتابهم الأمراض والأسقام ويسرع إليهم الهرم إذا لم يسرع الحمام.
﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُم ﴾ الجملة تعليل للنهي عن تمكين الشيطان مما يبغي من الفتنة وتأكيد للتحذير منه، والتذكير بعداوته وضرره وذلك أنه يرانا هو وقبيله أي جنوده وذريته من شياطين الجن ولا نراهم { وأصل القبيل الجماعة كالقبيلة وخص بعضهم القبيلة من كان لهم أب واحد والقبيل أعم ) " وحيث " ظرف مكان، أي يرونكم من حيث يكونون غير مرئيين منكم، والضرر إذ جاء من حيث لا يرى كان خطره أكبر، ووجوب العناية بإتقائه أشد، كاتقاء أسباب بعض الأدواء والأوبئة التي ثبتت في هذا الزمان برؤية العينين بالمجهر أي المرآة أو النظارة المكبرة للمرئيات وهو أن لكل داء منها جنة من الديدان أو الهوام الخفية تنفذ إلى البدن بنقل الذباب أو البعوض أو القمل أو البراغيث أو مع الطعام أو الشراب أو الهواء فتولد وتنمى بسرعة عجيبة حتى تفسد على المرء رئته في داء السل، وأمعاءه في الهيضة الوبائية، ودمه في الطاعون والحميات الخبيثة، وقد أشير في الحديث إلى سبب الطاعون فيما ورد من أنه من وخز الجن، وإلى داء السل فيما ورد من تحول الغبار في الصدر إلى نسمه.
وفعل جنة الشياطين في أنفس البشر كفعل هذه الجنة التي يسميها الأطباء الميكروبات في أجسادهم، وفي غيرها من أجسام الأحياء : تؤثر فيها من حيث لا ترى فتتقى، وإنما ينبغي للعقلاء أن يأخذوا في اتقاء ضررها بنصائح أطباء الأبدان ولاسيما في أوقات الأوبئة كاستعمال المطهرات الطبية والتوقي من شرب الماء الملوث بوصول شيء إليه مما يخرج من المصابين بالهيضة أو الحمى التيفوئيدية، إلا أن يغلى ثم يحفظ في آنية نظيفة وغير ذلك. ولو كانوا يرون تلك الجنة بأعينهم كما يراها الأطباء بمجاهرهم، لاتقوها من غير توصية بقدر طاقتهم. والوقاية نوعان : أحدهما اتخاذ الأسباب التي تمنع طروءها من الخارج كالذي تفعله الحكومات في المحاجر الصحية في ثغور البلاد ومداخلها أو في أمكنة بعيدة عنها كجزائر البحار للوقاية العامة للبلاد كلها. أو في بعض البلاد دون بعض ومثله ما يتخذه أهل البيوت لوقاية بيوتهم، والنوع الثاني تقوية الأبدان بالأغذية الجيدة والنظافة التامة لتقوى على منع فتك هذه الجنة فيها إذا وصلت إليها، كما يتقى تولد السوس في حب الحصيد بتجفيفه ووضع بعض المواد الواقية فيه، وكما يتقى وصول العث إلى الثياب الصوفية بمنع وصول الغبار إليها، أو بوضع الدواء المسمى بالنفتالين بينها، وهو يقتل العث برائحته.
كذلك يجب الأخذ بإرشاد طب الأنفس والأرواح في وقايتها من فتك جنة الشياطين فيها بالوسوسة التي تزين للناس الأباطيل والشرور المحرمة في هذا الطب لشدة ضررها. ولم يحرم الدين شيئا على الناس إلا لضرره وإفساده، فإن مداخلها في أنفسهم، وتأثيرها في قلوبهم وخواطرهم كدخول تلك في أجسادهم وتأثيرها في أعضائهم من حيث لا ترى. واتقاؤها كاتقائها نوعان، أحدهما تقوية الأرواح بالإيمان بالله تعالى وصفاته ومراقبته ومناجاته وإخلاص العبادة له والتخلق بالأخلاق الكريمة والفضائل وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير حق حتى ترسخ فيه ملكات الخير، وحب الحق، وكراهة الباطل والشر فحينئذ تبعد المناسبة بينها وبين تلك الأرواح الشيطانية التي تدعو إلى الباطل والشر فتبعد عنها، ولا تطيق الدنو منها، كما هو شأن العث مع الثوب المشبع برائحته النفتالين، بل الجعل مع عطر الورد أو الياسمين.
وهؤلاء المتقون هم عباد الله المخلصون الذين ليس للشيطان عليهم من سلطان كما بينه تعالى بقوله في بيان هذه الحقائق الفطرية بأسلوب الخطاب بين الشيطان وبين الرب تبارك تعالى : من سورة الحجر :﴿ قال ( أي الشيطان ) رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال ( أي الرب تعالى ) هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاويين ﴾ ( الحجر ٣٩- ٤٢ ) وقد تقدم هذا وأمثاله في تفسير القصة، وهذا الصراط المستقيم في الآية هو سنته تعالى في الخلقة الروحية بأن الروح الكامل المهذب بالتقوى والإخلاص تؤثر فيه الوسوسة الشيطانية ولا تتمكن منه، وهذا هو معنى نفي سلطان الشيطان عنه، كما أن الميكروبات والهوام لا تجد لها مأوى في الأجساد النظيفة الطاهرة القوية.
والنوع الثاني من هذه التقوى ما يعالج به الوسواس بعد طروئه كما يعالج المرض حدوثه بتأثير تلك الهوام الخفية فيه بالأدوية التي تقتلها وتمنع امتداد ضررها. وأول ما يجب في ذلك بعد التنبه والتذكر لما حصل بسبب الوسوسة من فعل معصية أو ترك واجب أن تترك المعصية ويؤدى الواجب ويتوب العاصي كما تاب أبونا آدم وزوجه عليهما السلام، وأن يستعان على ذلك بذكر الله تعالى با
٢ الطسي: التخمة من كثرة الدهن والدم وفعله: طسي كرضي وطسا كغزا..
هذا بيان لبعض آثار ولاية الشياطين للذين لا يؤمنون، أي أنهم يطيعونهم في إغوائهم في أقبح الأشياء ولا يشعرون بقبحها.
﴿ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بها ﴾ قال ابن جرير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الجملة : وإذا فعل الذين لا يؤمنون بالله الذين جعل الله لهم الشياطين أولياء قبيحا من الفعل وهو الفاحشة وذلك تعريهم للطواف بالبيت وتجردهم له فعذلوا على ما أتوا من قبيح فعلهم وعوتبوا عليه قالوا : وجدنا على مثل ما نفعل آباءنا فنحن نفعل مثل ما كانوا يفعلون ونقتدي بهم ونستن بسنتهم والله أمرنا به فنحن نتبع أمره فيه اه والفاحشة كل ما عظم قبحه وفسرها هو وغيره هنا بطواف أهل الجاهلية عراة لأن المسلمين لما كانوا يعذلونهم ويقبحون فعلتهم هذه كانوا يجيبون بهذا الجواب، ومما رواه في ذلك قول مجاهد : كانوا يطوفون بالبيت عراة يقولون نطوف كما ولدتنا أمهاتنا فتضع المرأة على قبلها النسعة ( أي القطعة من سيور الجلد ) أو الشيء فتقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله | وما بدا منه فلا أحله١ |
فأما اعتذارهم بالتقليد فقد رده الكتاب العزيز في مواضع تقدم بعضها في سورتي البقرة والمائدة، وقال مفسرو المتكلمين كالزمخشري والبيضاوي والرازي إنه تعالى لم يجب عن هذه الحجة وهي محض التقليد لما تقرر في العقول من أنه طريقة فاسدة، لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان حقا لزم القول بحقية الأديان المتناقضة وهو محال. فلما كان فساد هذا الطريق ظاهرا لم يذكر الله تعالى الجواب عنه، وهذا تقرير الرازي، وقوله بفساد التقليد وكونه حجة داحضة في نظر العقول السليمة صحيح، ولكن زعمه أن هذا سبب لعدم الرد غير صحيح فقد رد تعالى عليهم بمثل قوله :﴿ أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ﴾ ( البقرة ١٧٠ ) والصواب أنه استغنى عن الرد الصحيح هنا برد ما اقترن به المتضمن للرد عليه وبيان بطلانه، وهو زعمهم أن الله تعالى أمرهم بتلك الفحشاء التي وجدوا عليها آباءهم فقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يدحضه بقوله لهم :
﴿ قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون ﴾ فهذا القول تكذيب لهم من طريقي العقل والنقل، أما الأول فتقريره أن هذا الفعل لا خلاف بينكم وبيننا في أنه من الفحشاء أي أقبح القبائح والله تعالى منزه بكماله المطلق الذي لا شائبة للنقص فيه أن يأمر بالفحشاء، وإنما الذي أمر بها هو الشيطان الذي هو مجمع النقائص كما قال تعالى في آية أخرى ﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ﴾ ( البقرة ٢٦٨ ) وهذا حجة على من ينكر الحسن والقبح العقلي في الأحكام الشرعية لأجل مخالفة من توسعوا في تحكيم العقل في ذلك، وأما طريق النقل فهو أن ما يسند إلى الله تعالى من أمر ونهي لا يثبت بمجرد الدعوى بل يجب أن يعلم بوحي منه تعالى إلى رسول من عنده ثبتت رسالته بتأييده تعالى له بالآيات البينات، فالاستفهام في قوله تعالى :
﴿ أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾ للإنكار المتضمن للتوبيخ وللرد على المقلدين فإنهم باتباع آبائهم وأجدادهم وشيوخهم في آرائهم وأعمالهم الدينية غير المسندة إلى الوحي الإلهي يقولون على الله ما لا يعلمون أنه شرعه لعباده.
﴿ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين ﴾ أي قل لهم أيها الرسول أمر ربي بالقسط فأقسطوا وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد أو وقل لهم أقيموا إلخ. إقامة الشيء إعطاؤه حقه وتوفيته شروطه كإقامة الصلاة وإقامة الوزن بالقسط. والوجه حسي ومعنوي فقوله تعالى :﴿ فول وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ ( البقرة ١٤٤ ) من الأول وقوله :﴿ فول وجهك للدين حنيفا ﴾ ( الروم ٣٠ ) من الثاني، والمراد به توجه القلب وصحة القصد، فإن الوجه يطلق على الذات، وما هنا من الثاني وإن ورد عن بعضهم تفسيره بالأول أيضا، وجعله بعضهم بمعنى التوجه إلى الكعبة في كل صلاة في كل مسجد أينما كان. والمعنى : أعطوا توجهكم إلى الله تعالى عند كل مسجد تعبدونه فيه حقه من صحة النية وحضور القلب وصرف الشواغل سواء كانت العبادة طوافا أو صلاة أو ذكرا أو فكرا وادعوه وحده مخلصين له الدين لا تشوبوا دعاءكم ولا غيره من عبادتكم له بأدنى شائبة من الشرك الأكبر هو التوجه إلى غيره من عباده المكرمين كالملائكة والرسل والصالحين، ولا إلى ما وضع للتذكير بهم من الأصنام والقبور وغيرها ولا من الشرك الأصغر وهو الرياء وحب اطلاع الناس على عبادتكم والثناء عليكم بها والتنويه بذكركم فيها. وكانوا يتوجهون إلى غيره معه زاعمين أن المذنب لا يليق به أن يقبل على الله وحده ويقيم وجهه له حنيفا، بل لابد له أن يتوسل إليه بأحد من عباده الطاهرين المكرمين ليشفع لهم عنده ويقربهم إليه زلفى. وهذا من وسواس الشيطان وشبهتهم فيه كشبهتهم في عدم الطواف في ثياب عصوه فيها، وجعلهم هذا وذاك من الدين ونسبته إلى الله تعالى افتراء عليه وقول عليه بغير علم مما أوحاه إلى رسله، وإنما أوحى إليهم ما نطقت به هذه الآية وأمثالها من الآيات الناطقة بالأمر بتجريد التوحيد من كل شائبة والإخلاص في العبادة كما أمر بأخذ الزينة عند كل مسجد وجعل الظاهر عنوانا للباطن في طهارته وحسنه من غير رياء ولا تكلف وهو مقتضى تحري القسط والعدل في كل أمر.
﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَة ﴾ هذا تذكير بالبعث والجزاء على الأعمال ودعوة إلى الإيمان به في أثر بيان أصل الدين ومناط الأمر فيه والنهي الوارد في سياق أصل تكوين البشر، واستعدادهم للإيمان والكفر والخير والشر، وما للشيطان في ذلك من إغواء الكافرين الذين يتولونه، وعدم سلطانه على المؤمنين الذين يتولون الله ورسوله. وهذه الجملة من أبلغ الكلام الموجز المعجز فإنها دعوى متضمنة للدليل بتشبيه الإعادة بالبدء، فهو يقول : كما بدأكم ربكم خلقا وتكوينا بقدرته تعودون إليه يوم القيامة حالة كونكم فريقين فريقا هداهم في الدنيا ببعثة الرسل فاهتدوا بإيمانهم به وإقامة وجوههم له وحده في العبادة ودعائه مخلصين له الدين لا يشركون به أحدا ولا شيئا وفريقا حق عليهم الضلالة لاتباعهم إغواء الشيطان، وإعراضهم عن طاعة الرحمن وكل فريق يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ومعنى حقت عليهم الضلالة ثبتت بثبوت أسبابها الكسبية، لا أنها جعلت غريزة لهم فكانوا مجبورين عليها.
يدل على هذا تعليلها على طريق الاستئناف البياني بقوله تعالى :
﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُون ﴾ عاد هنا إلى الكلام عن المشركين بضمير الغائبين بعد انتهاء ما أمر به الرسول من خطاب المحتجين منهم بما يبطل حجتهم التي حكاها عنهم ومعنى اتخاذهم الشياطين أولياء أنهم أطاعوهم في كل ما يزينونه لهم من الفواحش والمنكرات كأنهم ولوهم أمورهم من دون الله الذي يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي والعدوان، ويحسبون أنهم مهتدون فيما تلقنهم الشياطين من الشبهات كجعل التوجه إلى غير الله والتوسل به إليه في الدعاء وغيره مما يقربهم إليه تعالى زلفى، وجعل الرب تعالى كالملوك الجاهلين الظالمين، لا يقبل عبادة عبده المذنب إلا بواسطة بعض المقربين عنده، كالملك الجاهل مع وزرائه وحجابه وأعوانه، وغير ذلك مما ذكر آنفا من شبهتهم على طوافهم عراة، وما تقدم في سورة الأنعام من تحريم ما حرموا من الحرث والأنعام.
وأكثر من ضل من البشر في الاعتقاديات والعمليات يحسبون أنهم مهتدون، وأقل الكفار الجاحدون للحق كبرا وعنادا كأعداء الرسل في عصورهم، وحاسديهم على ما آتاهم الله من فضله فكرمهم به عليهم، كما حسد إبليس آدم واستكبر عليه، ومنهم فرعون والملأ من أشراف قومه الذين قال تعالى فيهم ﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ﴾ ( النمل ١٤ ) ومنهم كبراء طواغيت قريش كأبي جهل والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث والأخنس بن شريق الذين قال تعالى فيهم ﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ ( الأنعام ٣٣ ) وأما سائر الناس فضالون بالتقليد واتباع الشبهات الشيطانية ؟ أو بالنظريات والآراء الباطلة ؟ وهم الذين قال تعالى فيهم ﴿ قل هل أنبئنكم بالأخسرين أعمالا ؟ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ﴾ ( الكهف ١٠٣- ١٠٤ ) ولو كان التقليد عذرا مقبولا لكان أكثر كفار الأرض في جميع الأزمنة والأمكنة معذورين ناجين كالمؤمنين.
ألم تر أن التقلد قد أضل الألوف التي لا تحصى من المسلمين الذين صدق عليهم الحديث الصحيح " لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع " ١ فتركوا هداية الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح، واتبعوا البدع المستحدثة فإذا دعوا إلى الله ورسوله : قالوا قال الشيخ فلان وفعل الولي الصالح فلان، وهؤلاء أعلم وأهدى منا بالسنة والقرآن. وإنما أمرهم الله أن يتبعوا ما أنزله إليهم ونهاهم أن يتبعوا من دونه أولياء كما تقدم في صدر هذه السورة وما أضيع البرهان عند المقلد*.
وأما أهل النظر فمنهم من بلغته دعوة الرسول على وجهها أو على غير وجهها ومنهم من لم تبلغه، وفي كل منهم من يبحث عن الحق ليتبعه ومن لم يبحث.
ذهب بعض المتكلمين إلى أن من بذل جهده في النظر والبحث والاستدلال على الحق فاتبع ما ظهر له أنه الحق بحسب ما وصلت إليه طاقته وكان مخالفا في شيء منه لما جاءت به الرسل لا يدخل في مدلول هذه الآية وأمثالها بل يكون معذورا عند الله تعالى لقوله :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ ( البقرة ٢٨٦ ) وقد اشترطوا في حجية بلوغ الدعوة كونها على وجه من الصحة والحجة يحرك إلى النظر فيها وإلا فليس من شأن أحد من البشر أن يبحث عن كل ما يبلغه من أمر الأديان ولاسيما إذا بلغه بصورة مشوهة تدعو إلى الإعراض عنها، واتقاء إضاعة الوقت في النظر فيها، ويزعم كثير من المسلمين أن جميع أهل هذا العصر قد بلغتهم دعوة الإسلام على وجهها وما أجهلهم بحال العصر وأهله وبالدعوة وأدلتها على أنهم تركوها منذ قرون ولولا ذلك لما جهلوها.
قال السيد الآلوسي في تفسير ﴿ ويحسبون أنهم مهتدون ﴾ عطف على ما قبله داخل معه في حيز التعليل أو التأكيد ولعل الكلام من قبيل بنو فلان قتلوا فلانا والأول في مقابلة من هداه الله تعالى شامل للمعاند والمخطئ، والثاني مختص بالثاني، وهو صادق على المقصر في النظر والباذل غاية الوسع فيه. واختلف في توجه الذم على الأخير وخلوده في النار، ومذهب البعض أنه معذور، ولم يفرقوا بين من لا عقل له أصلا ومن له عقل لم يدرك به الحق بعد أن لم يدع في القوس منزعا في طلبه، فحيث يعذر الأول بعدم قيام الحجة عليه يعذر الثاني لذلك. ولا يرون مجرد المالكية وإطلاق التصرف حجة. ولله الحجة البالغة، والتزام أن كل كافر معاند بعد البعثة وظهور أمر الحق كنا على علم وأنه ليس في مشارق الأرض ومغاربها اليوم كافر مستدل مما لا يقدم عليه إلا مسلم معاند، أو مستدل بما هو أو هي من بيت العنكبوت، وإنه لأوهن البيوت، وادعى بعضهم أن المراد من المعطوف عليه المعاند ومن المعطوف المخطئ والظاهر ما قلنا. اه.
هذا وإن المعذور في الخطأ لا يكون عند الله كالمصيب وإن الذي يتحرى الحق المرضي عند الله تعالى المنجي في الآخرة لا بد أن يعرف بإخلاصه في النظر واجتهاده في الطلب كثيرا من الحق والخير، ومعرفته حجة عليه، ومن كان هذا شأنه كان أجدر الناس بقبول دعوة الرسل إذ بلغته على وجهها، لأنه أحق بها وأهلها، فإن لم يقبلها كان في نظره على هوى. ويتفاوت هؤلاء المجتهدون المخطئون بتفاوت حظوظهم من معرفة الحق واتباعه، ومعرفة الخير والعمل به واجتناب ضده إذ بذلك تتزكى الأنفس والمدار في الآخرة على تزكيتها. وقد بينا هذا في موضع آخر من التفسير بما هو أوسع مما هنا. والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
* من لطائف الإتقان أنه قد جاءني وأنا أفسر هذه الآية كتابان أحدهما من (بنكوك سيام) في الشرق الأقصى والآخر من بعض بلاد اليمن يذكر في كل منهما عداوة بعض المقلدين للمنار، بأنه يدعو إلى ما يخالف بل يحقر ويضلل ما جرى عليه الآباء والأجداد، فأما ما عليه أهل سيام فمنه أن نساءهم يخرجن إلى الأسواق والمجامع عاريات الأجسام لا يسترن إلا السوأتين ويشاركن البوذيين في لهوهم ولعب الميسر وفي حفلات عبادتهم وفي هياكلهم، ومنه غير ذالك مما ذكر في باب فتاوى المنار فهذا بعض ما جرى عليه الآباء والأجداد ولا يجري عليه الذين اهتدوا بالمنار على كتاب اله وسنة رسوله (ص) وسيرة السلف الصالح وأما لبلاد اليمن فإن بعض العلويين من الحضارمة قد نشطوا في هذه السنين إلى بث دعوة غلو في التشيع ودعوى وجوب اتباع الناس لكل من ينسب إلى السلالة العلوية بناء على أن ما ورد في آل بيت النبي (ص) في عصره يشاركهم فيه ذراريهم إلى يوم القيامة وإن كانوا من أجهل الناس بدين الله وأبعدهم عن الاهتداء به: وهم لا يدعون إلى مذهب مدون كمذهب الزيدية او الإمامية بل إلى فوضى في الدين لا حد لها: وقد قامت قيامة الناس عليهم في جاوه وسنغافوره وغيرها من البلاد التي يبثون فيها هذه الدعاوى الجهلية وكلهم يكهرون المنار طبعا ويصدون عنه... فهذه عواقب ضلالة التقليد (المؤلف.
.
روى مسلم في صحيحه والنسائي والبيهقي في سننهما ومخرجو التفسير المأثور عن ابن عباس أن النساء كن يطفن بالبيت عراة إلا أن تجعل المرأة على فرجها خرقة وتقول :
اليوم يبدو كله أو بعضه | وما بدا منه فلا أحله١ |
وفي رواية عن طاوس أنهم كانوا يضعون ثيابهم خارجا من المسجد ويدخلون فإذا دخل رجل وعليه ثيابه يضرب وتنزع عنه ثيابه، فنزلت. وعن قتادة حكاية ذلك عن حي من اليمن والصواب أنه عام ولم يكن أحد من العرب يلبس ثيابه في الطواف إلا الحمس٢ من قريش فإنهم كانوا يميزون أنفسهم على سائر الناس : يطوفون بثيابهم وهذا حسن في نفسه دون الانفراد به ويأتون البيت من ظهره لا من بابه إذا كانوا محرمين، وقد أبطل هذا كتاب الله تعالى بقوله :﴿ وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وائتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾ ( البقرة ١٨٩ ) ويقفون عند المشعر الحرام ( جبل قزح ) بمزدلفة لا في عرفات.
ويعللون هذا بأنهم أهل الحرم فلا يخرجون منه، وعرفة خارج حد الحرم المعروف بالعلمين المنصوبين اللذين ينفر الحجاج من بينهما عند الدفع منها إلى المزدلفة، ولذلك ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في حجة الوداع إلى الموقف كانت قريش لا تشك في أنه يقف عند المشعر الحرام بمن معه من قريش ويأمر الناس بأن يذهبوا إلى عرفة فيقفوا فيها فخاب ظنهم، وأبطل النبي صلى الله عليه وسلم امتيازهم وسن لهم ولغيرهم المساواة. وبدأ صلى الله عليه وسلم بنفسه حتى إنه أبى أن يتخذ لنفسه مكانا في منى يستظل فيه من الشمس لما أرادوا عمله له. وقال :" منى مناخ من سبق " ٣ رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن عائشة بسند صحيح.
وجملة القول إن الروايات في سبب نزول هاتين الآيتين قد روي مثلها في نزول ما قبلهما من آيات اللباس كما تقدم مختصرا. والمعنى أن هذه الآيات كلها نزلت مبطلة لتلك الضلالة الجاهلية الفاحشة ومقررة لوجوب اتخاذ الملابس للستر ولزينة التجمل وإظهار نعمه الله على عباده. قال عز وجل :
﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد ﴾ يقال في هذا النداء ما قلنا في مثله قبله ونزيد أنه يشمل النساء بالتبع للرجال شرعا لا لغة ويدل على بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جميع البشر. والظاهر أن هذه الوصايا مما أوصى الله تعالى به من سبق من الرسل وسنعود إلى هذا في تفسير آخرها، والزينة الشيء أو الشخص فهي اسم من زانه يزينه زينا، ضد شانه أي عابه يشينه شينا. وأخذها عبارة عن التزين لأنه إنما يحصل بأخذ ما يزين واستعماله والمراد بها هنا الثياب الحسنة المعتادة بدليل القرينة والإضافة وسبب نزول الآيات وإلا فأنواع الزينة في الدنيا كثيرة ومنها المال والبنون فلا يدخل فيها ما هو خاص بالنساء من الحلي والحلل التي يتحببن بها إلى أزواجهن وقد تكون شاغلة عن العبادة وأقل هذه الزينة ما يدفع عن المرء أقبح ما يشينه بين الناس وهو ما يستر عورته وقد اقتصر بعضهم على هذا لأجل جعل الأمر للوجوب وإنما يجب لصحة الصلاة والطواف ستر العورة فقط على ما جرى عليه جمهور الفقهاء على اختلافهم في تحديد العورة وقالوا : إن ما زاد على ذلك من التجمل بزينة اللباس اللائق عند الصلاة ولاسيما صلاة الجمعة والجماعة وفي العيدين سنة لا واجب، ولكن إطلاق الأمر يدل على وجوب الزينة للعبادة عند كل مسجد بحسب عرف الناس في تزيينهم المعتدل في المجامع والمحافل ليكون المؤمن عند عبادة الله تعالى مع عباده المؤمنين في أجمل حالة لائقة به لا تكلف فيها ولا إسراف فمن قدر بلا تكلف على عمامة وإزاء ورداء أو ما في معناها من قلنسوة وجبة وقباء، لا يكون ممتثلا للأمر بالزينة إذا اقتصر على إزار يستر العورة فقط ( وهي عند بعض الأئمة السوءتان فقط وعند الجمهور ما بين السرة والركبة ) للرجل وما عدا الوجه والكفين للمرأة وإن صحت صلاته فإن المقام ليس مقام بيان شروط صحة الصلاة بل هو أوسع من ذلك، ومن العلماء من يقول : إن ستر العورة في الصلاة واجب لا شرط لصحتها. وأن فيما ورد من الأخبار والآثار في المسألة ما يدل على ما قلنا حتى جعلت النعال من الزينة وهي كذلك وإن تركها جميع المسلمين في المساجد لأنهم يفرشونها كما يفرشون بيوتهم بالحصر أو بالبسط والطنافس.
أخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إذا صلى أحدكم " أي أراد الصلاة " فليلبس ثوبيه فإن الله عز و جل أحق من تزين له فإن لم يكن له ثوبان فليتزر إذا صلى ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود " وأخرج الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء " ٤ وأخرج أبو داود والبيهقي عن بريدة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل في لحاف ( ثوب يلتحف به ) واحد لا يتوشح به ونهى أن يصلي الرجل في سراويل وليس عليه رداء٥ وأخرج ابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خذوا زينة الصلاة قالوا وما زينة الصلاة ؟ قال البسوا نعالكم فصلوا فيها ". وأخرج العقيلي وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله :﴿ خذوا زينتكم عند كل مسجد ﴾ قال :" صلوا في نعالكم " وفي معنى هذين الحديثين بضعة أحاديث أخرى ضعيفة يؤديها ما أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس أنه سئل : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعيله ؟ قال : نعم٦ وأخرج أحمد والشيخان وغير الترمذي من أصحاب السنن عن أبي هريرة أن سائلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم في الثوب الواحد فقال " أو لكلكم ثوبان ؟ " ٧ زاد البخاري في رواية : ثم سأل رجل عمر فقال : إذا وسع الله فأوسعوا : جمع رجل عليه ثيابه، صلى رجل في إزار ورداء في إزار وقميص وفي إزار وقباء٨ في سراويل ورداء، في سراويل وقميص في سراول وقباء، في تبان٩ وقباء في تبان وقميص. قال وأحسبه قال : في تبان ورداء، وذكروا في هذا السؤال إن سببه ما رواه عبد الرزاق أن أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود اختلفا فقال أبي : الصلاة في الثوب الواحد غير مكروهة وقال ابن مسعود : إنما كان ذلك وفي الثياب قلة فقام عمر على المنبر فقال القول ما قال أبي ولم يأل ابن مسعود أي لم يقصر وروي عن الحسن السبط عليه السلام والرضوان أنه إذا قام للصلاة لبس أجود ثيابه فسأل عن ذلك فقال إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي وهو يقول :﴿ خذوا زينتكم عند كل مسجد ﴾.
والمأخوذ من جملة هذه الروايات وغيرها ما حققه وفصله عمر رضي الله تعالى عنه وهو أن الأمر يختلف باختلاف حال الإنسان في السعة والضيق كالنفقة قال تعالى :﴿ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ﴾ ( الطلاق ٧ ) فمن عنده ثوب واحد يستر جميع بدنه فليستر به جميع بدنه ويصل به، فإن لم يستر إلا العورة كلها أو العورة المغلظة وهي السوأتان فليستر به ما يستره، ومن وجد ثوبين معهما يكن نوعهما أو أكثر فليصل بهما، والخلاصة أنه يطلب أن يكون في أوسط حال حسنة يقدر عليها، وقد عد الفقهاء من أعذار ترك الجمعة والجماعة فقد الرجل للثياب اللائقة به بين أمثاله حتى العمامة للعالم.
هذا الأمر بالزينة عند كل مسجد لا المسجد الحرام وحده أصل من أصول الإصلاح الدينية والمدنية يعرف بعض قيمته مما روي في سبب نزول هذه الآيات، وإنما يعرفها حق المعرفة من قرأ تواريخ الأمم والملل وعلم أن أكثر المتوحشين الذين يعيشون في الحرجات والغابات أفرادا وجماعات يأوون إلى الكهوف والمغارات، والقبائل الكثيرة الوثنية، في بعض جزائر البحار وجبال إفريقية، كلهم يعيشون عراة الأجسام نساء ورجالا، وإن الإسلام ما وصل إلى قوم منهم إلا وعلمهم لبس الثياب بإيجابه للستر وللزينة إيجابا شرعيا، ولما أسرف بعض دعاة النصرانية الأوروبيين في الطعن في الإسلام لتنفير أهله منه وتحويلهم إلى ملتهم، ولتحريض أوربة عليهم، رد عليهم بعض المنصفين منهم، فذكر في رده أن لانتشار الإسلام في إفريقية منة على أوروبة بنشره للمدنية في أهلها بحملهم على ترك العري وإيجابه لبس الثياب الذي كان سببا لرواج تجارة النسيج الأوروبية فيهم.
بل أقول : إن بعض الأمم الوثنية ذات الحضارة والعلوم والفنون كان يغلب فيها معيشة العري حتى إذا ما اهتدى بعضهم بالإسلام صاروا يلبسون ويتجملون. ثم صاروا يصنعون الثياب، وقلدهم جيرانهم من الوثنيين بعض التقليد. هذه بلاد الهند على ارتقاء حضارة الوثنيين فيها قديما وحديثا لا يزال ألوف الألوف من نسائهم ورجالهم عراة أو أنصاف أو أرباع عراة فترى بعض رجالهم في معاهد تجارتهم وصناعتهم بين عار لا يستر السوءتين ويسمونهما " سبيلين " وهي الكلمة العربية التي يستعملها الفقهاء في باب نواقض الوضوء أو ساتر لنصفه الأسفل فقط، وامرأة مكشوفة البطن والفخذين أو النصف الأعلى من الجسم كله أو بعضه، وقد اعترف بعض علمائهم المنصفين بأن المسلمين هم الذين علموهم لبس الثياب والأكل في الأواني. ولا يزال أكثر فقرائهم يضعون طعامهم على ورق الشجر ويأكلون منه، ولكنهم خير من كثير من سائر الوثنين سترا وزينة، لأن المسلمين كانوا حكامهم، وقد كانوا ولا يزالون من أرقى مسلمي الأرض علما وعملا وتأثيرا في وثنيي بلادهم. وأما المسلمون في بلاد الشرق التي يغلب عليها الجهل فهم أقرب إلى الوثنية منهم إلى الإسلام في اللباس وكثير من الأعمال الدينية، ومنهم نساء مسلمي ( سيام ) اللاتي لا يرين في أنفسهم عورة سوى السوءتين كما تقدم آنفا فحيث يقوى الإسلام يكون الستر والزينة اللائقة بكرامة البشر ورقيهم.
فمن عرف مثل هذا عرف قيمة هذا الأصل الإصلاحي في الإسلام، ولولا أن جعل هذا الدين المدني الأعلى أخذ الزينة من شرع الله أوجبه على عباده لما نقل أمما وشعوبا كثيرة من الوحشي
اليوم يبدو بعضه أو كله
وهو بلا نسبة لسان العرب (حرم) وتاج العروس (ضبع) وتهذيب اللغة ٥/ ٤٨. والحديث أخرجه مسلم في التفسير حديث ٢٥ والنسائي في الحج باب ١٥٩..
٢ الحمس جمع أحمس كحمر جمع أحمر: وهو وصف لبني قريش وصفوا به لحماسهم أو تحمسهم أي تشددهم في الدين من الحماسة التي هي الشدة والشجاعة او لانتمائهم إلى الحمساء وهي الكعبة..
٣ أخرجه أبو داود في المناسك باب ٧٩ والترمذي في الحج باب ٥١ وابن ماجه في المناسك باب ٥٢ والدرامي في المناسك باب ٨٧ واحمد في المسند ٦/ ١٨٧- ٢٠٧..
٤ أخرجه البخاري في الصلاة باب ٥ ومسلم في الصلاة حديث ٢٧٧- ٢٧٨- ٢٨٤ والنسائي في القبلة باب ١٨ والدرامي في الصلاة باب ٩٩ وأحمد في المسند ٢/ ٢٤٣- ٤٦٤..
٥ أخرجه أبو داود في الصلاة باب ٨٢..
٦ أخرجه البخاري في الصلاة باب ٢٤ واللباس باب ٣٧ ومسلم في المستجد حديث ٦٠ والترمذي في المواقيت باب ١٧٦ والنسائي في القبلة باب ٢٤ والدرامي الصلاة باب ١٠٣ وأحمد في المسند ٣/ ١٠٠- ١٦٦- ٤/٩..
٧ روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، وأخرجه البخاري في الصلاة باب ٣- ٤- ٩ ومسلم في الصلاة حديث ٢٧٥- ٢٧٦- ٢٨٠- ٢٨٣ وأبو داود في باب ٧٧ وابن ماجه في الإقامة باب ٦٩ ومالك في الجماعة حديث ٣٠ وأحمد في المسند ٢/ ٢٣٠- ٢٣٩-٢٤٣-٢٥٥-٢٦٦-٢٨٥-٣١٩-٣٤٥-٣٨٠-٣٢٧-٤٦٤-٤٧٨-٤٩١-٤٩٥-٤٩٩-٥٠١-٥٢٠-٤/٢٢-٢٣..
٨ القباء: هو ما يسمى في مصر بالقفطان وفي الشام بالغنبار (المؤلف)..
٩ التبان، بضم التاء وتشديد الباء: سراويل ليس له وجلين يتخذ من الجلد ويلبسه في زمننا المصارعون (المؤلف)..
حرمت العرب في جاهليتها زينة اللباس في الطواف تعبدا وقربة، وحرم بعضهم أكل بعض الطيبات من الأدهان وغيرها في حال الإحرام بالحج كذلك، وحرموا من الحرث والأنعام ما بينه تعالى في سورة الأنعام، وحرم غيرهم من الوثنيين وأهل الكتاب كثيرا من الطيبات والزينة كذلك. فجاء دين الفطرة الجامع بين مصالح البشر في معاشهم ومعادهم. المطهر المربي لأرواحهم وأجسادهم ينكر هذا التحكم والظلم للنفس فالاستفهام في قوله تعالى :﴿ قل من حرم ﴾ إلخ إنكاري يدل على أن هذا التحريم من وساوس الشياطين، لا مما أوحاه تعالى إلى من سبق من المرسلين، أي لم يحرمه أحد منهم، ولم يجعل سبحانه حق التبليغ عنه لغيرهم، وإضافة الزينة إلى الله تعالى يؤذن باستحسانها والمنة بها، وإخراجها للناس عبارة عن خلق موادها لهم وتعليمهم طرائق صنعها، بما أودع في فطرهم من حبها، وفي عقولهم من الاستعداد للإبداع فيها، ليبلوهم أيهم أحسن عملا، وأكثر للمنعم شكرا، وأوسعهم بسننه وآياته علما، والطيبات من الرزق هي المستلذات من الأطعمة والأشربة، واشترط كونها حلالا يؤخذ هنا من النهي عن الإسراف فيها، وصرح به في آيات أخرى كما تقدم في سورتي البقرة ( ٢ : ١٦٧ ) والمائدة ( ٥ : ٩٠- ٩١ ).
خلق الله تعالى البشر مستعدين لإظهار آياته وسننه في جميع ما خلقه لهم في هذا العالم الذي يعيشون فيه، ذلك بأنه أودع في غرائزهم ميلا إلى العلم والبحث وكشف المجهولات، والاطلاع على الخفيات، لا حد له يقف عنه، وحبا للشهوات الحسية والعقلية والزينة، الصورية والمعنوية، لا حد له أيضا، فاندفعوا بهذه الغرائز التي لم تخلق لغيرهم ممن يشاركهم في حياتهم الجسدية كأنواع الحيوان، ولا في حياتهم الروحية من الملائكة والجان، فلم يدعوا شيئا عرفوه بحواسهم إلا وعنوا بالبحث فيه ولا شيئا عرفوه بعقولهم إلا بحثوا عنه، ولم يكن بحثهم من طريق واحد ولا لغرض واحد، بل من طرق كثيرة لأغراض شتى لم تنته ولن تنتهي في هذه الحياة المقضي عليها بالنهاية، وإنما هم مخلوقون لحياة لا نهاية لها ولا حد، كما تدل عليه غرائزهم واستعدادهم الذي ليس له حد.
ولقد كانت غريزة حب الزينة وغريزة حب الطيبات من الرزق سببا لتوسع البشر في أعمال الفلاحة والزراعة وما يرقيها من فنون الصناعة وسائر وسائل العمران وإظهار عجائب علم الله وحكمته وقدرته في العالم، ورحمته وإحسانه بالخلق، ولو وقف الإنسان عند حد ما تنبت به الأرض من الغذاء لحفظ حياة أفراده الشخصية وبقاء حياته النوعية كسائر أنواع الحيوان لما وجد شيء من هذه العلوم والفنون والأعمال وهل كان ما ذكر في بيان خلقه الأول من أكل آدم من الشجرة التي نهيا عنها إلا بدافع غريزة كشف المجهول، والحرص على الوصول إلى الممنوع ؟ وهل كان ما ذكر من حرمانهما من الراحة بنعيم الجنة التي يعيشان فيها رغدا بغير عمل، إلا لبيان سنة الله في جعل هذا النوع عالما صناعيا تدفعه الحاجة إلى العمل، ويدفعه العمل إلى العلم، ويدعه حب الراحة إلى التعب، ويثمر له التعب الراحة ؟
وقد عرف من اختبار قبائل هذا النوع وشعوبه في حالي بداوته وحضارته أنه يتعب ويبذل في سبيل الزينة، فوق ما يتعب ويبذل في سبيل ضروريات المعيشة، وكثيرا ما يفضلها عليها عند التعارض، فالمرء قد يضيق على نفسه في طعامه وشرابه ليوفر لنفسه ثمنا لثوب فاخر يتزين به في الأعياد والمجامع، وماذا تقول في المرأة وهي أشد حبا للزينة من الرجل وقد تؤثرها على جميع اللذات الأخرى ؟ وإن توسع الأغنياء في أنواع الزينة التي ينفسون بها على الفقراء هو الذي وسع الطرق لاستفادة هؤلاء من فضل أموال أولئك، فإن الغواصين الذين يستخرجون اللؤلؤ من أعماق البحار، وعمال الصياغة والحياكة والتطريز والبناء والنقش والتصوير وسائر الزينات، كلهم أو جلهم من الفقراء الذين يتزين الأغنياء بما يعملون لهم وهم منه محرمون، ولكنهم لا يصلون إلى ما لا بد لهم منه معيشة وزينة تليق بهم إلا بسبب تنافس الأغنياء فيه.
فحب الزينة أعظم أسباب العمران وإظهار استعداد الإنسان لمعرفة سنن الله وآياته في الأكوان، فهي غير مذمومة في نفسها وإنما يذم الإسراف فيها ؟ والغفلة عن شكر المنعم بها، ومن الإسراف فيها جعلها شاغلة عن عبادة الله تعالى وعن سائر معالي الأمور والكمالات الإنسانية، من علمية أو عملية أو اجتماعية، دنيوية كانت أو أخروية، ومنه إضاعة الوقت الطويل في التطرز والتطرس والتوزن كما يفعل النساء وبعض الشبان. وكذلك الطيبات من الرزق. وهذه الأمور المذمومة ليست لوازم للزينة والطيبات تحصل بحصولها، وتزول بزوالها، وليس الحرمان من الزينة والطيبات علة سببية ولا غائية، للقيام بمعالي الأمور الدينية والدنيوية، ولا لشكر الله تعالى والرضى عنه، ولا هو أعون على ذلك. وإنما الابتلاء والاختبار يقع بكل من حصولهما والحرمان منهما، وإن المالك لهما أقدر على طاعة الله وشكره وتزكية نفسه ونفع غيره من الفاقد لهما، فلا وجه إذا لتحريم الدين لهما، ولا جعله إياهما عائقين عن الكمال بحيث يعبد الله تعالى ويتقرب إليه بتركهما، كما جرى عليه وثنيو البراهمة وغيرهم وسرت عدواه التقليدية إلى أهل الكتاب غلوا في الدين، وسرت عدوى هؤلاء وأولئك إلى كثير من المسلمين فصاروا يبثون في الأمة أن أصل الدين وروحه وسره في تعذيب النفس وحرمانها من الطيبات والزينة. وقد كذب الله الجميع بقوله عز وجل :
﴿ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَة ﴾ أي قل أيها الرسول لأمتك : هي أي الزينة والطيبات من الرزق ثابتة للذين آمنوا بالأصالة والاستحقاق في الحياة الدنيا، ولكن يشاركهم فيها بالتبع لهم، وإن لم يستحقها مثلهم، وهي خالصة لهم يوم القيامة أو حال كونها خالصة لهم يوم القيامة. ( فقد قرأ نافع " خالصة " بالرفع على أنها خبر والباقون بالنصب على الحالية ) وقيل : إن المعنى هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة من المنغصات ولكنها تكون لهم يوم القيامة خالصة منها. وهذا المعنى صحيح في نفسه. ولكن المتبادر هو الأول. كما تدل عليه الآيات الناطقة بأن دين الله الحق يورث أهله سعادة الدنيا والآخرة جميعا كقوله تعالى :﴿ فإما يأتيكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ﴾ ( طه ١٢٣- ١٢٤ ) وقوله تعالى :﴿ وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ﴾ ( الجن ١٦ ) وقد بينا هذا المعنى مرارا.
وبيان هذا أن المؤمنين إنما كانوا أحق من الكافرين بهذه النعم لأنهم أجدر بما تتوقف عليه في ترقيها من العلوم والفنون والصناعات التي أرشدهم إليها الإسلام بما حثهم عليه من معرفة سنن الله تعالى في خلقه. وما أودعه في هذه المخلوقات من الحكم والمنافع والآيات البينات الدالة على قدرته وعلمه وحكمته فيما أحكم من صنعها. وعلى رحمته وجوده وإحسانه إلى عباده بتسخيرها لهم، ولأنهم أحق بشكره عليها بلسانهم وجوارحهم وقلوبهم. فالمؤمن يزداد علما وإيمانا بربه وإلهه كلما عرف شيئا من سننه وآياته في نفسه أو في غيرها من الموجودات ويزداد شكرا له كلما زادت نعمه عليه بالعلم وثمرات العلم فيها. ولذلك ذكرنا جل ثناؤه في أول هذا السياق بمنته علينا بتمكيننا في الأرض وما جعل لنا فيها من المعايش وبما يجب من شكره عليها. وقد بينا أن من أصول الشكر قبول النعمة واستعمالها فيما وهبها المنعم لأجله وهو شكر الجوارح. ولا يكمل شكر الاعتقاد بأنها من فضله وشكر اللسان بالثناء عليه إلا بشكر الأعضاء العملي وهو الاستعمال. وفي حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي والنسائي والحاكم " الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر " ١ وهو حديث صحيح. والذي يظهر لنا من جعل التنظير فيه بين الطاعم الشاكر والصائم الصابر دون الجائع الصابر أن الجوع أمر سلبي ولكن الصيام عمل نفسي يشترط فيه النية فهو طاعة كالأكل بالنية مع الشكر.
والأكل والشرب من الطيبات بدون إسراف هما قوام الحياة والصحة التي يتوقف عليها القيام بجميع الأعمال الدينية والدنيوية من عقلية وبدنية ولهما التأثير العظيم في جودة النسل الذي تكثر به الأمة والأطباء يحظرون الزواج على كثير من المرضى ويعدون زواجهم خطرا على صحتهم وجناية على نسلهم وعلى أمتهم بما يكون سببا لسوء حال نسلها والمؤمن الكامل الذي من شأنه أن لا يعمل عملا إلا بنية صالحة يقصد بحسن تغذية بدنه بالطيبات كل ما يعقله من فوائدها ويتجنب ما نهى الله عنه من الإسراف فيها ومن أكل الحرام فيكون عابدا لله تعالى في ذلك كله فتكثر حسناته فيه، فلا غرو إذا عد في أكله كالصائم فيما يناله من الثواب ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه " وفي بضع أحدكم صدقة " أي في الملامسة الزوجية أجر وثواب كثواب الصدقة قالوا يا رسول الله : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " ٢ رواه مسلم في حديث أبي ذر والكافر ليس كذلك فإنه لا يكون له هم في الغالب إلا التمتع بالشهوة غير متحر للحلال ولا لحسن النية، ولذلك ورد في حديث الصحيحين " المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء ".
واللباس الجيد النظيف له فوائد في حفظ الصحة معروفة، وله تأثير في حفظ كرامة المتجمل به في أنفس الناس، فإن القلوب من وراء الأعين، وفيه إظهار لنعمة الله به وبالسعة في الرزق الذي له شأن في القلوب غير شأن التجمل في نفسه، والمؤمن يثاب بنيته على كل ما هو محمود من هذه الأمور وبالشكر عليها. روى أبو داود عن أبي الأحوص عن أبيه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب دون فقال " ألك مال ؟ قال نعم. قال من أي المال ؟ قال قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق قال " فإذا آتاك الله فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته " ٣ وأخرج الترمذي وحسنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " ٤ وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال : لما خرجت الحرورية أتيت عليا فقال : ائت هؤلاء القوم. فلبست أحسن ما يكون من حلل اليمن، فأتيتهم فقالوا مرحبا بك يا ابن عباس ما هذه الحلة ؟ قلت أم تعيبون علي ؟ لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكون من الحلل. وأخرج ابن مردويه عنه قال : وجهني علي بن أبي طالب إلى ابن الكواء وأصحابه وعلى قميص رقيق وحلة، فقالوا لي أنت ابن عباس وتلبس مثل هذه الثياب قلت أول ما أخاصمكم به قال الله :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ﴾ و﴿ خذوا زينتكم عند كل مسجد ﴾ ( الأعراف ٣١ ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس في العيدين بردي حبرة.
وحكى الغزالي في كتاب العلم من الإحياء أن يحيى بن زيد النوفلي كتب إلى مالك ابن انس رضي الله عنهما باسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على رسوله محمد في الأولين والآخرين. من يحيى بن يزيد بن عبد الملك إلى مالك بن أنس أما بعد فقد بلغني أنك تلبس الدقاق٥ وتأكل الرقائق$
٢ أخرجه مسلم في الزكاة حديث ٥٣..
٣ أخرجه أوب داود في اللباس باب ١٤ والترمذي في الأدب باب ٥٤..
٤ أخرجه الترمذي في الأدب باب ٥٤..
٥ الدقاق: الثياب الدقيقة النسج، وهي ضد الغلاظ ويجوز أن يكون الرقاق بكسر الراء.
﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون ﴾ هذا كلام مستأنف لبيان ما حرمه الله تعالى بعد إنكار بأن يكون حرم الزينة والطيبات لأن الحال تقتضي أن يسأل عنه. والمعنى : قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين وغيرهم من أهل الملل الذين ظلموا أنفسهم وكذبوا على الله بزعمهم أنه حرم على عباده ما أخرج لهم من نعم الزينة والطيبات من الرزق، وكذا لمن اتبعك من المؤمنين : إنما حرم ربي في كتبه، على ألسنة رسله هذه الأنواع الخمس أو الست من أعمالهم الضارة التي يجنون بها على أنفسهم، فجعل تحريمها هو الدائم الذي لا يباح بحال من الأحوال كما يدل عليه الحصر بإنما وهي :
١ و٢- الفواحش الظاهرة والباطنة. فالفواحش جمع فاحشة وهي الفعلة أو الخصلة التي فحش قبحها في الفطر السليمة والعقول الراجحة التي تميز بين الحسن والقبيح والضار والنافع، وكانوا يطلقونها على الزنا واللواط والبخل الشديد وعلى القذف بالفحشاء والبذاء المتناهي في القبح، وتقدم تفصيل القول في الفواحش ما ظهر منها وما بطن في تفسيره ( ٥ : ١٥١ ) وهي من آيات الوصايا العشر في أواخر سورة الأنعام وفيه إحالة في تفسير ما ظهر منها وما بطن على تفسيره ( ١١٩ وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) من تلك السورة.
٣ و٤- الإثم والبغي : تقدم أن الإثم في اللغة هو القبيح الضار فهو يشمل جميع المعاصي- الكبائر منها كالفواحش والخمر والصغائر كالنظر واللمس بشهوة لغير الحليلة وهو اللمم، ومنه قوله تعالى :﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ﴾ ( النجم ٣١ ) فعطف الفواحش على كبائر الإثم لا على الإثم وهو من عطف الخاص على العام. وكذلك عطف البغي على الإثم هنا من عطف الخاص على العام. ومعناه في أصل اللغة كطلب لما ليس بحق أو بسهل أو ما تجاوز الحد، وقالوا بغي الجرح إذا ترامى إلى الفساد أو تجاوز الحد في فساده، ومنه البغي في الأرض الوارد في عدة آيات كقوله :﴿ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ﴾ ( يونس ٢٣ ) وقد صرح بعضها بالفساد ﴿ ولا تبغ الفساد في الأرض ﴾ القصص ٧٧ ) وإذا عدى البغي بعلى كان بمعنى التجاوز والتعدي على الناس في أنفسهم أو أموالهم وأعراضهم ومنه ﴿ إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ﴾ ( القصص ٨٦ ) ﴿ خصمان بغى بعضنا على بعض ﴾ ( ص : ٢١ ) ﴿ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي ﴾ ( الحجرات ٩ ) بل ذهب الراغب إلى أن حقيقة البغي طلب تجاوز الاقتصاد في القدر أو الوصف سواء تجاوزه بالفعل أو لم يتجاوزه. وذكر أنه قد يكون محمودا وهو تجاوز العدل إلى الإحسان والفرض إلى التطوع.
واستعمال القرآن له في المعنيين اللذين ذكرناهما آنفا وفي غيرهما يؤيد تعريفنا وهو أعم من هذا التعريف كقوله في البحرين ﴿ بينهما برزخ لا يبغيان ﴾ ( الرحمن ٢٠ ) وقوله في أهل الجنة ﴿ لا يبغون عنها حولا ﴾ ( الكهف ١٠٨ ) وقوله :﴿ أفغير دين الله يبغون ﴾ ( آل عمران ٨٣ ) ﴿ أفحكم الجاهلية يبغون ﴾ ( المائدة ٥٠ ) ﴿ قل أغير الله أبغي ربا ﴾ ( الأنعام ١٦٤ ) ﴿ يبغونكم الفتنة ﴾ ( التوبة ٤٧ ) ﴿ ويبغونها عوجا ﴾ ( الأعراف ٤٥ ) ومنه البغاء وهو طلب النساء الفاحشة. وقد يتعدى إلى مفعولين ومنه ﴿ أغير الله أبغيكم إلها ﴾ ( الأعراف ١٤٠ ) ﴿ قل أغير الله أبغي ربا ﴾ ( الأنعام ١٦٤ ) وقال في الأساس : وأبغني ضالتي أطلبها لي، وأبغني ضالتي أعنّي على طلبها. قال رؤبة :
*فاذكر بخير وابغني ما يبتغى١*
أي اصنع بي ما يجب أن يصنع وخرجوا بغيانا لضوالهم اه وكله يدخل في تعريفنا فإن طلب الضالة التي خرجت من حيازة المالك طلب لما يعسر بل ناشدها يطلب ما ليس له بالفعل، ورؤبة يطلب إحسانا وكرامة ليست حقا له.
فعلم من هذا أن البغي المحرم هو الإثم الذي فيه تجاوز لحدود الحق أو اعتداء على حقوق أفراد الناس أو جماعاتهم وشعوبهم ولذلك اقترن الإثم بالعدوان كقوله :﴿ تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ﴾ ( البقرة ٨٥ ) ﴿ ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾ ( المائدة ٢ ) ﴿ ترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان ﴾ ( المائدة ٦٢ ) ومنه ﴿ فمن اضطر غير باغ ولا عاد ﴾ ( البقرة ١٧٣ ) أي فمن اضطر إلى شيء من محرمات الطعام غير طالب لها لذاتها فإنه تجاوز للحق ولا عاد حد الضرورة فيما يتناوله منه " فلا إثم عليه ".
وقد قيد البغي بكونه بغير الحق لاستعماله بالمعنى اللغوي الذي يشمل تجاوز الحدود المعروفة أو المألوفة فيما لا ظلم فيه ولا فساد، ولا هضم لحقوق الجماعات ولا الأفراد كالأمور التي ليس لهم فيها حقوق، أو التي تطيب أنفسهم فيها عن بعض حقوقهم فيبذلونها عن رضى وارتياح لمنفعة أو مصلحة لهم يرجونها ببذلها، وقيل إن القيد للتأكيد.
وقال ابن القيم : إن الإثم ما كان محرم الجنس، والعدوان ما كان محرم القدر والزيادة فهو تعدي ما أبيح إلى القدر المحرم كالاعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه بأخذ زيادة عما له، وبإتلاف أضعاف ما أتلف عليه أو قول أضعاف ما قيل فيه فهذا كله تعد للعدل. قال : وكذلك ما أبيح له قدر معين منه فتعداه إلى أكثر منه كمن أبيح له إساغة الغصة بجرعة من خمر فتناول الكأس كلها، أو أبيح له نظرة الخطبة والسوم والمعاملة والمداواة، فأطلق عنان طرفه في ميادين محاسن المنظور وأسام طرف ناظره في تلك الرياض والزهور، فتعدى المباح إلى القدر المحظور إلخ ما أطال به في وصف نظر الشهوة ومفاسده.
ثم قال، إن الغالب في استعمال البغي أن يكون في حقوق العباد والاستطالة عليهم، وأنه إذا قرن بالعدوان كان البغي ظلمهم بمحرم الجنس كالسرقة والكذب والبهت والابتداء بالأذى والعدوان في حقهم كالإثم والعدوان في حدود الله قال فهاهنا أربعة أمور : حق لله وله حد، وحق لعباده وله حد، فالبغي والعدوان والظلم تجاوز الحدين إلى ما وراءهما، أو التقصير عنهما فلا يصل إليهما اه.
٥- الشرك بالله وهو معروف وقد بينا أنواعه في مواضع من هذا التفسير، ومن المعلوم بالضرورة أنه أبطل الباطل فلا يمكن أن يقوم عليه حجة من العقل ولا سلطان من الوحي، والسلطان الحجة البينة لأنها لها سلطة على العقل والقلب فقوله تعالى :﴿ وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ﴾ ( بيان للواقع من شركهم، وتكذيب لهم في مضمون قولهم :﴿ لو شاء الله ما أشركنا ﴾ ( الأنعام ١٤٨ ) الآية ونص على أن أصول الإيمان يجب أن تكون بوحي من الله مؤيد بالبرهان فهو كقوله تعالى :﴿ ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به ﴾ ( المؤمنون ١١٧ ) الآية ولا يكون هذا الداعي إلا كذلك ولكنه تعالى عظم شأن الدليل والبرهان في دينه وناط به تصديق دعوى المدعي وردها، بصرف النظر عن موضوعها، حتى كأن من جاء بالبرهان على الشرك يصدق به، وهو من فرض المحال، للمبالغة في فضل الاستدلال.
وقد قال في سياق إقامة البراهين على توحيده ﴿ أإله مع الله ؟ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾ ( النمل ٦٤ ) على أنه صرح بأنه ليس لديهم برهان فيما أقام على كذبهم فيه البرهان، وكيف يكون لديهم ما هو في نفسه محال، كقوله :﴿ وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض، إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون ؟ ﴾ ( يونس ٦٨ ) وإن هنا نافية أي ما عندكم أدنى دليل بهذا القول الفظيع الذي تقولونه مع أن ما تبطل البراهين والآيات البينة مثله يحتاج مدعيه إلى أقوى البراهين والحجج وأعظمها سلطان على العقول، ولما كان منهم من قد يعترف بأنه قول لا تقوم عليه حجة من العقل بل لا يتصور العقل وجوده ولكنه يدعي أنه قد ورد به النقل عن الأنبياء وأن المسيح ادعاه لنفسه قال :﴿ أتقولون على الله ما لا تعلمون ؟ ﴾ وهذه الآية تناسب الآية التي نفسرها.
٦- القول على أن الله بغير علم : وهو أعظم هذه الأنواع من أصول المحرمات الذاتية التي حرمها الله تعالى في دينه على ألسنة جميع رسله، فإنه أصل الأديان الباطلة، ومنشأ تحريف الأديان المحرفة، وشبهة الابتداع في الدين الحق الناسخ كتابه المعصوم للأديان المبدلة، والمهيمن على الكتب المحرفة، والمحررة سنة رسوله بالأسانيد المتصلة، والمحصاة تراجم رواتها في الكتب المدونة، فمن العجائب بعد هذا أن ينتشر في أهله الابتداع، وتتعارض فيه المذاهب وتتعادى الأشياع، مع نهي كتابه عن التفرق والاختلاف، ووعيده المتفرقين بعذاب الدنيا وعذاب النار، ومع بيانه للمخرج من فتنة التنازع، ومعالجته لأدواء التدابر والتقاطع، ولكنهم حكموا الأهواء حتى في العلاج والدواء فاتبعوا كما أنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم سنن من قبلهم حتى في قوله تعالى :﴿ وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ﴾ ( البقرة ٢١٣ ).
ومن غمة الجهل أن أكثر المسلمين لا يشعرون بهذا حتى علماؤهم الذين يرون حديث " لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم " قلنا يا رسول الله : اليهود والنصارى ؟ قال :" فمن " ٢ رواه الشيخان وغيرهما وفي رواية شبرا شبرا وذراعا ذراعا. فهم يقولون : صدق رسول الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا يبحثون في أسباب هذا الابتداع ولا يتأملون في أقوال من بحث فيها قبلهم من العلماء. فقد نقل الحافظ ابن عبد البر في كتاب العلم وغيره من الحفاظ عن بعض علماء الصحابة والتابعين أن رأس البلية في هذا الابتداع القول في الدين بالرأي، وهذا هو الحق فما من أحد يبتدع أو يتبع مبتدعا في أصول الدين أو فروعه إلا وهو يستدل على بدعته بالرأي، وقد ظهرت مبادئ هذه البدع والآراء والأهواء في القرون الأولى قرون العلم والسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يكن هذا كله بمانع لها إذ كان من الأفراد، لا من مصدر القوة والنظام الذي هو مقام الخلافة الإسلامية فكيف يكون الأمر بعد ذلك وقد زال العلم أو كاد ؟ إذ لا علم إلا علم الاستقلال والاجتهاد. وقد صار محصورا في أفراد لا يعرف قدرهم العوام، ولا يتبعهم الحكام، ثم فشا النفاق والدهان، وصار طلب العلم الديني حرفة للكسالي والرذال.
روى ابن أبي خيثمة من حديث أنس : قيل يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال :{ إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل : إذا ظهر الإدهان في خياركم، والفحش في شراركم، والملك في صغاركم، والفقه في رذالكم " أورده الحافظ وأقره، ثم قال : وفي مصنف قاسم بن أصبغ بسند صحيح عن عمر : فساد الدين إذا جاء العلم من قبل الصغير، استعصى عليه الكبير، وصلاح الناس إذا جاء العلم من قبل الكبير، تابعه عليه الصغير، قال : وذكر أبو عبيدة أن المراد بالصغر في هذا هذا صغر القدر لا السن اه وصغير القدر هو المهين الذي ليس له من العقل والفضيلة وعزة النفس ما يحترم به ويتخذه قدوة، كما هو شأن أكثر المسترزقة ب
واذكر بخير وابغني ما ينبغي
وهو في ديوان رؤبة ص ٩٨ وأساس البلاغة (بغي) بلفظ "يبتغي"..
٢ أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٥٠ والاعتصام باب ١٤ ومسلم في العلم حديث ٦ وابن ماجه في الفتن باب ١٧ وأحمد في المسند ٢/ ٣٢٥- ٣٣٦- ٣٣٧- ٤٥٠- ٥١١- ٥٢٧- ٣/ ٨٤- ٨٩- ٩٤..
هذه الآية الثالثة مما قفى به على النداء الثالث لبني آدم، ووجه وصلها بما قبلها أنه تعالى قد بين في الثانية مجامع المحرمات على بني آدم وهي أصول المفاسد والمضار الشخصية والاجتماعية في أثر إباحة أصول المنافع من الزينة والطيبات النافعة لهم أو إيجابها بشرط عدم الإسراف فيها وسبق هذه وتلك ما قفى به على النداء الثاني من بيان أصل الأصول لما أمر الله تعالى به عباده على ألسنة رسله وهو القسط والعدل في الآداب والأعمال، وعبادة الله وحده بالإخلاص له في الدين وعقيدة البعث. ولما وصل ما هنالك بقسم الناس إلى فريقين مهتدين وضالين وصل ما هنا ببيان عاقبة الأمم في قبول هذه الأصول أو ردها والاستقامة على طريقتها بعد القبول أو الزيغ عنها، فقال عز وجل :
﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَل ﴾ هذا معطوف على مقول القول في الآية السابقة أي قل أيها الرسول ﴿ إنما حرم ربي الفواحش ﴾ إلخ دون ما حرمتم من النعم والمنافع بأهوائكم وجهالاتكم وقل :﴿ لكل أمة أجل ﴾ أي أمد مضروب لحياتها، مقدر فيما وضع الخالق سبحانه من السنن لوجودها، وهو على نوعين أحدهما أجل من يبعث الله فيهم رسلا لهدايتهم فيردون دعوتهم كبرا وعنادا في الجحود، ويقترحون عليهم الآيات فيعطونها مع إنذارهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا بها فيكذبون فيهلكون، وبهذا هلك أقوام نوح وعاد و ثمود وفرعون وإخوان لوط وغيرهم. وهذا النوع من الهلاك كان خاصا بأقوام الرسل أولي الدعوة الخاصة لأقوامهم. وقد انتهى ببعثة صاحب الدعوة العامة خاتم النبيين المخاطب بقوله تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ ( الأنبياء : ١٠٧ ) لكن انتهاءه عند الله لا يمنع جعله إنذار لقومه خاصة بهلاكهم، إن أعطوا ما اقترحوه من الآيات إرضاء لعنادهم، ليعلم أهل البصيرة بعد ذلك أن منعهم إياه إنما كان رحمة بهم وبغيرهم.
وقد مضت سنة الله في الأمم أن الجاحدين الذين يقترحون الآيات لا يؤمنون بها، ولأجل هذا لم يعط الله تعالى رسوله شيئا مما كانوا يقترحونه عليه منها. كما تقدم بيانه في سورة الأنعام وتفسيرها. وهذا الأجل لم يكن يعلمه أحد إلا بعد أن يبينه تعالى على ألسنة الرسل.
والنوع الثاني الأجل المقدر لحياة الأمم سعيدة عزيزة بالاستقلال، التي تنتهي بالشقاء والمهانة أو الاستعباد والاستذلال، إن لم تنته بالفناء والزوال، وهذا النوع منوط بسنن الله تعالى في الاجتماع البشري والعمراني، وأسبابه محصورة في مخالفة هدى الآيات التي قبل هذه الآية، بالإسراف في الزينة والتمتع بالطيبات، وباقتراف الفواحش والآثام والبغي على الناس، وبخرافات الشرك والوثنية التي ما أنزل بها من سلطان، وبالكذب على الله بإرهاق الأمة لما لم يشرعه لها من الأحكام، تحكما من رؤساء الدين عن تقليد أو اجتهاد. وذلك قوله تعالى ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ ( الرعد ١١ ).
فما من أمة من الأمم العزيزة السعيدة ارتكبت هذه الضلالات والمفاسد المبيدة، إلا وسلبها الله سعادتها وعزها، وسلط عليها من استذلها وسلب ملكها ﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ﴾ ( هود ١٠٢ ) وأمامنا تاريخ اليهود والرومان والفرس والعرب والترك وغيرهم، منهم من سلب ملكه كله، ومنهم من سلب بعضه أو أكثره، ومن لم يرجع إلى رشده، فإنه يسلب ما بقي له منه.
وهذا النوع من آجال الأمم وإن عرفت أسبابه وسننه لا يمكن لأحد أن يحدده بالسنين والأيام وهو محدد في علم الله تعالى بالساعات، ولذلك قال :﴿ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون ﴾ الساعة في اللغة عبارة عن أقل مدة من الزمن، والساعة الفلكية اصطلاح، وهي جزء من ٢٤ جزءا من مجموع الليل والنهار. أي فإذا جاء أجل كل أمة كان عقابهم فيه لا يتأخرون عنه أقل تأخر كما إنهم لا يتقدمون عنه إذا لم يجئ أو لا يملكون طلب تأخيره كما أنهم لا يملكون طلب تقديمه، وقد قالوا إن استقدم ورد بمعنى قدم وأقدم وتقدم كما ورد استجاب بمعنى أجاب، ومثله استأخر. ولا يمنع هذا كون الأصل في السين والتاء للطلب أو مظنة الطلب، والطلب قد يكون بالقول وقد يكون بالفعل، فمن أتي سبب الشيء كان طالبا له بالفعل، وإن كان غافلا عن استتباعه له، فالأمة التي ترتكب أسباب الهلاك تكون طالبة له بلسان حالها واستعدادها ولا بد أن يأتيها. لأن هذا الطلب هو الذي لا يرد، ومفهوم الشرط هنا أن الأمة قد تملك طلب تأخير الهلاك قبل مجيء أجله أي قبل أن تغلبها على نفسها وعلى إرادتها أسباب الهلاك، ذلك بأن تترك الفواحش والآثام والظلم والبغي، والفساد في الأرض، والإسراف في الترف المفسد للأخلاق، وخرافات الشرك المفسدة للعقول والأعمال، وكذا التكاليف التقليدية بتكثير ما ابتدع من العبادات والمحرمات، التي لم يخاطب الرب بها العباد. والمراد أن يكون الغالب على الأمة الصلاح لإصلاح جميع الأفراد.
فإن قيل إنه قد جاء معنى هذه الآية بالجزم وغير مشروط بهذا الشرط في قوله تعالى من سورة الحجر :﴿ وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ﴾ ( الحجر ٤- ٥ ) قلنا إن امتناع السبق والتأخر أو طلبه والسعي له هنا إنما هو بالنسبة إلى ما علمه الله تعالى وأثبته في كتاب مقادير العالم، فإن علمه تعالى لا يتغير، وسننه لا تتبدل ولا تتحول، ولذلك يمتنع التأخير أو طلبه من طريق أسبابه إذا جاء الأجل بالفعل، ولهذا أمثلة كثيرة في الحس، منها ما يمكن ضبطه بالتحديد ومنها ما يعلم بالتقريب كقوة الحرارة وتأثيرها في الأجسام وقوة المواد الضاغطة وما يترتب عليها من الانفجار، كل منهما يضبط بحساب معلوم. ومنها مقدار الماء الذي يمسك وراء السدود كخزان أسوان، فقوة السد ومقادير الماء وقوة ضغطه مقدرة بحساب. وكذا الماء والوقود الذي تسير به مراكب البر والبحر، والغاز المحرك للطيارات والمناطيد في الجو يمكن العلم بما تحتاج إليه كل مسافة منه، والجزم بوقوف هذه المراكب بعد نفاذه في الوقت المقدر له.
وكل عمل منظم بعلم صحيح، يأتي فيه مثل هذا التقدير، ويكون ضبطه وتحديده بقدر إحاطة العلم به، مثل درجات الحرارة والرطوبة وسنن الضغط والجذب ككون جاذبية الثقل على نسبة مربع البعد. ومما يكون التقدير فيه بالتقريب فيخطئ فيه المقدر ويصيب تقدير سير الأمراض المعروفة كالسل الرئوي فإن له درجات يسرع قطع المسلول لها ويبطئ بقدر قوة المناعة والمقاومة في جسمه وطرق المعالجة والتغذية والرياضة وما يتعلق بها من جودة الهواء وأشعة الشمس. وكم من مرض اتفق الأطباء على إمكان الشفاء منه قبل وصوله إلى الدرجة التي لا تنفع معها المعالجة وهم مصيبون في ذلك، كالسرطان الذي يمكن استئصاله بعملية جراحية في وقت قريب ويتعذر في آخر. وكذلك شأن الأمم قد يبلغ فيها الفساد درجة تستعصي فيها معالجته على أطباء الاجتماع ولكنها إذا تنبهت قبل انتشار الفساد فيها، وتبريحه بزعائمها ودهائمها فقد يمكن أن يظهر فيها من أفراد المصلحين أو جماعاتهم من ينقذها فيرشدها إلى تغيير ما بأنفسها من الفساد فيغير الله ما بها، وهو من استئخار الهلاك أو منعه عنها قبل مجيء أجلها.
وقد سبق حكيمنا العربي ابن خلدون إلى الكلام في آجال الأمم وأعمار الدول، وبيان ما يعرض لها من الهرم، وكونه إذا وقع لا يرتفع، فأصاب في بعض قوله وأخطأ في بعض، ومما أخطأ فيه جعله عمر الدولة ثلاثة أجيال أي ١٢٠ سنة كالأجل الطبيعي للأفراد على تقدير بعض متقدمي الأطباء. ولو قال : عمر الدولة ثلاثة أيام من أيام الله : طفولية، وبلوغ أشد ورشد، وشيخوخة وهرم، ولم يقدرها بالسنين لسدد وقارب.
فإن قيل إن ما ذكرت من أسباب هلاك الأمم بالظلم والفساد والانغماس في حمأة الرذائل والفسق قد بلغ من أمم أوروبة مبلغا عظيما فما بالها تزداد قوة وعزة وعظمة، حتى صارت الأمم المغلوبة على أمرها ولاسيما المستذلة لها، تعتقد أن تقليدها في مدنيتها المادية وحرية الفسق المطلقة من كل قيد إلا تعدي الفرد على حرية غيره هو الذي يجعلها عزيزة سعيدة مثلها.
قلنا : إن تأثير الفسق والفساد في الأمم يشبه تأثيره في الأفراد، ومثله ما ذكرنا آنفا من اختلاف الأبدان والأمزجة في احتمال الأمراض، واختلاف وسائل المعيشة والعلاج، فأطباء الأبدان مجموعون على مضار السكر الكثيرة وكونها سببا للأمراض البدنية والعقلية المفضية إلى الموت، وإننا نعلم أن تأثيرها في البدن القوي دون تأثيرها في البدن الضعيف، وأن القليل منها يبطئ تأثير ضرره عن تأثير الكثير، وأن بعضها أضر من بعض، وأطباء الاجتماع مجمعون على أن الإسراف في الفسق والترف مفسد للأمم وأن الظلم والبغي بغير الحق، والغلو في المطامع والعلو في الأرض، والتنازع على الاستعمار، كل ذلك من أسباب الهلاك والدمار، ولكن لدى هذه الدول كثيرا من القوى المعنوية والمادية التي تقاوم بها سرعة تأثير الأمراض الجسدية والرياضية الشاقة التي يتقي بها إضعاف الترف للأبدان. وأعظم هذه القوى الواقية للأمم النظام ومراعاة سنن الاجتماع حتى في نفس الظلم، وفي إخفائه عمن يضر الظالمين علمهم به ولو من أقوامهم، وإتقان الوسائل والأسباب في إلباس ظلمهم لباس العدل، وجعل باطلهم عين الحق وإبراز إفسادهم في صورة الإصلاح، وإيجاد أنصار لهم عليه من المظلومين، بل إقناع الكثيرين منهم، بأن سيادتهم عليهم خير لهم من سيادتهم لأنفسهم وغير ذلك مما لا محل لشرحه هنا، وما أحسن قول الشاعر المصري١ في تفريقه بين ما كان من الظلم الوطني وما هو كائن من الظلم الأجنبي في مصر وأمثالها :
لقد كان هذا الظلم فوضى فهذبت | حواشيه حتى صار ظلما منظما |
بيد أن هذا كله لا يمنع انتقام الله منهم، وإنما يجري على مقتضى سننه في تأخيره عنهم فهو مثل من مثال استئخار العذاب بأسباب تأخير الأجل. وليس من أسباب منعه فإنما منعه بالرجوع إلى الحق والعدل والاعتدال والصلاح والإصلاح. وإن حكماءهم وعلماءهم يعملون ذلك. وقد نقلنا بعض أقوالهم في المنار ومنها قول بعضهم لنا في مدينة ( جنيف سويسرة ) إن كثيرا من العقلاء يتوقعون قرب هلاك أوربة في حرب عاجلة شر من الحرب الأخيرة التي فقدت بها ألوف الألوف من قتلى المعارك ومثلهم ما بين قتيل مرض أو مخمصة ومشوه أضحى عالة على الوطن، وأنهم يرجحون أن لا يعدو هلاكها هذا الجيل. ومنها ما قاله أحد ضباط الإنكليز في أثناء الحرب من حديث دار بينهم في عصر الإمبراطورية البريطانية. وهو أنه قد دب إليها الفساد الذي ذهب بإمبراطورية الرومان وأنهم يقدرون أنها قد تعيش ثمانين عاما. وقد كنت منذ أيام أتحدث مع بعض أذكياء اليهود في مفاسد الفرنسيس وقلة نسلهم.
هذا النداء هو الرابع لبني آدم كافة منذ بعث الله إليهم الرسل عليهم السلام فهو يؤذن بأنه هو وما قبله حكاية لما خاطب الله به كل أمة على لسان رسولها وبينه لهم من أصول دينه الذي شرعه لهدايتهم به إلى ما لا غنى لهم عنه في تكميل فطرتهمز وقد تخلل النداء الثاني والثالث بعض ما يناسب أمة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلمن إذ لم يكن في آياتهما ما يدل على مشاركة غيرها لها في الخطاب، وأما هذا النداء فقد صرح فيه بذكر جملة الرسل، وذكره بعد بيان آجال الأمم، ولهذا فرع عليه بيان جزاء من اتبع الرسل ومن كذبهم من جميع الأقوام. فهذا وجه مناسبته لما قبله ظهر لنا والله أعلم. قال عز وجل :
﴿ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون ﴾ إما مركبة من " إن " الشرطية و " ما " التي تفيد تأكيد الشرط وكذا العموم في قول. والمعنى إن يأتكم رسل من أبناء جنسكم البشر يتلون عليكم آياتي التي أنزلها عليهم في بيان ما أفرضه عليكم من الإيمان والأعمال الصالحة المصلحة، وما أحرمه عليكم من الشرك والرذائل والأعمال المفسدة فمن اتقى ما نهيت عنه، وأصلح نفسه بما أوجبت عليه، فلا خوف عليهم مما يترتب على التكذيب والعصيان من عذاب الدنيا والآخرة، ولا هم يحزنون عند الجزاء يوم القيامة ولا في الدنيا كحزن غيرهم. وقد تقدم تفسير مثل هذه الجملة في مواضع أشبهها بهذه الآية وما بعدها ( ٢ : ٣٨ و٦ : ٤٨ فيراجع ).
والمعنى أن الذين كذبوا بآياتنا المنزلة على أحد من رسلنا واستكبروا عن اتباع من جاء بها حسدا له على الرياسة وتفضيلا لأنفسهم عليه أو لقولهم على قومه فأولئك أصحاب النار الذين يخلدون فيها، لا كالذين يعذبون فيها زمنا معينا على ذنوب اقترفوها.
قال تعالى :
﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِه ﴾ أي إذا كان الأمر كما ذكر في الآيات السابقة وهو كذلك فلا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ما بأن أوجب على عباد من العبادات ما لم يوجبه أو حرم عليهم في الدين ما لم يحرمه أو عزا إلى دينه أي حكم لم ينزله على رسله، أو كذب بآياته المنزلة عليهم بالقول أو بما هو أدل منه وهو الاستكبار عن اتباعها، أو الاستهزاء بها، أو تفضيل غيرها عليها بالعمل.
﴿ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَاب ﴾ في الكتاب وجهان أحدهما : أنه كتاب الوحي الذي أنزل على الرسل ( واللام للجنس ) وهو ظاهر قول مجاهد في تفسير نصيبهم منه :" ما وعدوا فيه من خير وشر " فإن الكتاب الإلهي هو الذي يتضمن الوعد على الأعمال أي والوعيد بدليل بيانه بالخير والشر. وهو عام يشمل جزاء الدنيا والآخرة، وثانيهما : أنه كتاب المقادير الذي كتب الله فيه نظام العالم كله ومنها أعمال الأحياء الاختيارية وما يبعث عليها من الأسباب وما يترتب عليها من المسببات كالسعادة والشقاء والصحة والمرض إلخ، وقد تقدم الكلام المفصل فيه في تفسير ( ٦ : ٥٩ ) ﴿ وعنده مفاتح الغيب ﴾ ( من تفسير سورة الأنعام وعليه ابن عباس إذ قال في تفسير النصيب من الآية : ما قدر لهم من خير وشر. وفي رواية أخرى عنه : ما كتب عليهم من الشقاء والسعادة.
وفسر محمد بن كعب القرظي النصيب بالرزق والأجل والعمل وروي أيضا عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وفسره أبو صالح والحسن بالعذاب، ولا خلاف بين الوجهين فما وعدوا به كتاب الدين الذي هو أثبت في كتاب المقادير، وإنما الخلاف في نفس النصيب الذي ينالهم هل هو خاص بالدنيا أم بالآخرة أم عام فيهما ؟ ورجح الأول بموافقته لمثل قوله ﴿ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك ﴾ ( الإسراء ٢٠ ) وقوله :﴿ نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ﴾ ( لقمان ٢٤ ) وبموافقته لما تدل عليه حتى من الغاية في قوله عز وجل :
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُم ﴾ أي ينالهم نصيبهم الذي كتب لهم مدة حياتهم حتى إذا ما انتهى بانتهاء آجالهم وجاءتهم رسلنا يتوفونهم وهم الملائكة الموكلون بالتوفي أي قبض الأرواح من الأجساد ﴿ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه ﴾ أي يسألهم رسل الموت حال كونهم يتوفونهم أي الذين كنتم تدعونهم غير الله في حال الحياة لقضاء الحاجات ودفع المضرات ؟ ادعوهم لينجوكم مما أنتم فيه الآن.
﴿ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ﴾ أي قالوا غابوا عنا فلا نرجو منهم منفعة. واعترفوا بأنهم كانوا كافرين بدعائهم إياهم وزعمهم أنهم عنده تعالى كأعوان الأمراء والسلاطين ووزرائهم وحجابهم. جاهلين أن الله غني عن ذلك بإحاطة علمه وكمال قدرته وان الملوك والأمراء لا يستغنون عن الأعوان والمساعدين لجهلهم بأمور الناس وعجزهم عن معرفتها وقضائها بأنفسهم وقد تقدم مثل هذا في سورة الأنعام ( ٦ : ٢١- ٢٤- ٩٤ و٩٥ ) وكل منهما مبتدأ بقوله تعالى :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾ فيراجعان، ففي كل منهما ما ليس في الآخر ولا هنا من الفوائد، وتقدم مثل هذا الاستفهام الإنكاري في آخر آية ( ١٤٤ ) من الأنعام أيضا، وفسرنا الافتراء على الله فيها بمثل ما فسرناه هنا لمناسبة السياق وتقدم أيضا مثل هذه الشهادة من الكفار على أنفسهم في آخر آية ( ١٢٩ ) منها.
﴿ قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ ﴾ أي يقول الله تعالى أو أحد ملائكته بأمره يوم القيامة لهؤلاء الكافرين : ادخلوا مع أمم قد خلت ومضت من قبلكم من الجن والإنس في النار. أو ادخلوا في ضمن أمم مثلكم قد سبقتكم كائنة في دار العذاب وقدم الجن لأن شياطينهم مبتدئو الإضلال والإغواء لأبناء جنسهم وللإنس كما تقدم.
﴿ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ﴾ هذا بيان لشيء من حالتهم في دخول النار الذي لا يمكن تخلفه بعد أمر الله تعالى به. أي كلما دخلت جماعة منهم في النار واستقبلت ما فيها من الخزي والنكال لعنت أختها في الدين والملة التي ضلت هي باتباعها والاقتداء بها في كفرها كما قال تعالى في حكاية عن خليله ﴿ ويوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ﴾ ( العنكبوت ٢٥ ) إلخ.
﴿ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّار ﴾ أي حتى إذا تتابعوا وأدرك بعضهم بعضا فاجتمعوا كلهم فيها قالت أخرى كل منهم لأولاها ومقدميها في الرتبة والرياسة أو في الزمن أي لأجلها وفي شأنها وإنما الخطاب لله عز وجل ربنا هؤلاء أضلونا عن الحق باتباعنا لهم وتقليدنا إياهم فيما كانوا عليه من أمر الدين وسائر الأعمال فأعطهم ضعفا من عذاب النار لإضلالهم إيانا فوق العذاب على ضلالهم في أنفسهم حتى يكون عذابهم ضعفين ضعفا للضلال وضعفا للإضلال.
﴿ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ ﴾ أي يقول الرب تعالى لهم. لكل منهم ضعف من العذاب بإضلاله فوق عذابه على ضلاله كما قال في آية أخرى :﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ﴾ ( النحل ٢٥ ) ولكن لا تعلمون كنه عذابهم. وذلك أن العذاب ظاهر وباطن أو جسدي ونفسي وقد وصف الله النار في سورة الهمزة بأنها تطلع على الأفئدة أي القلوب فإذا رأى الأتباع المتبوعين معهم في دار العقاب ظنوا أن عذابهم كعذابهم فيما يأكلون من الزقوم والضريع ويشربون من الماء الحميم، وفيما تلفحهم النار بريحها السموم، وفيما يلجأون إليه من ظلها اليحموم، فمثلهم معهم كمثل المسجونين في الدنيا، منهم المجرم العريق في إجرامه من تحوت الناس وأشقيائهم، والرئيس الزعيم في قومه، العزيز الكريم في وطنه، لا يشعر الأول بما يقاسيه الآخر من عذاب النفس وقهر الذل. بل يظن أن عقوبتهما واحدة في ألمها كما هي صورتها.
وحمل الأولى على الرؤساء المتبوعين والأئمة المضلين والأخرى على أتباعهم المقلدين لهم أظهر في المعنى من حملها على المتقدمين والمتأخرين في الزمن أو في دخول النار، على أن شأن مبتدع الضلالة أن يكون متقدما في الزمن تقدما ما على من اتبعه فيها ولو في عصره، وهذا هو الموافق لما في الآيات الأخرى كقوله تعالى :﴿ ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول ﴾ ( سبأ : ٣١ ) إلى آخر الحوار، ومثله ما تقدم في سورة البقرة في سياق متخذي الأنداد من دون الله وجعلهم وسطاء عند الله أو طاعتهم في أمر الدين بغير وحي من الله وتبرؤ التابعين من المتبوعين ( ٢ : ١٦٥- ١٦٧ ) وقد استشهدنا في تفسيره بهذه الآيات فيراجع.
ويعلم منه بالتفصيل أن كل دعاة التقليد الأعمى من هؤلاء المضلين الذين يضاعف لهم العذاب، وأن أئمة الهدى من علماء السلف ليسوا منهم لأنهم كانوا يستنبطون الأحكام من الكتاب والسنة ليفتحوا للناس أبواب الفهم والفقه فيهما مع نهيهم عن تقليدهم وأمرهم بعرض كلامهم على الكتاب والسنة وأخذ ما وافقهما ورد ما عداه. ومنهم الأئمة الأربعة الذين تنتمي إليهم طوائف السنة وأئمة العترة الذين تنتمي إليهم الشيعة كالإمامين جعفر الصادق وزيد بن علي رضي الله عنهم أجمعين.
لم يبح أحد من هؤلاء الأئمة التقليد وقد حرمه الله في كتابه، فهم برآء من جميع المقلدين لهم ولغيرهم في دين الله كما فصلناه في تفسير تلك الآيات وفي مواضع أخرى. وورد في معنى ذلك آيات أخرى في سورة إبراهيم والقصص والأحزاب والصافات وص وغيرهن.
وأما حمل الأولى والأخرى على المتقدمة في الزمان والمتأخرة فيه فهو مروي عن السدي وتبعه ابن جرير وقيل عليه : لكل منكم ومنهم ضعف وهذا وإن كان ظاهرا من اللفظ لا يظهر فيه المعنى الموافق لسائر الآيات في هذا الموضوع وللقاعدة القطعية في جزاء السيئات وهو كونه على العمل بقدره مثلا. نعم إن المتأخرين في جملتهم يقلدون من قلبهم حذو القذة بالقذة، وإنما المضل من المتبوعين من ابتدع الضلال أو دعا إليه أو كان قدوة فيه، فهو الذي يحمل مثل وزر من أضله سواء كان عالما بذلك أم لا، وقد صح في الحديث " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء " ١ كما بيناه في مواضع. والذي جرى عليه أكثر أصحاب التفاسير المعروفة أن الضعف الآخر على الأتباع عقاب على التقليد وعزاه بعضهم إلى الكرخي. قال الآلوسي بعد ذكره والتعبير عنه بالأولى : ولا شك أن التقليد في الهدى ضلال ويستحق فاعله العذاب. أي فكيف بالتقليد في الكفر والضلال الذي قيل في أهله :
عمي القلوب عموا عن كل فائدة | لأنهم كفروا بالله تقليدا |
ذلك بأن الضعف هنا هو الزائد على عقاب الذنب نفسه بسبب يلابسه فهو كقوله في محاورة الأتباع المقلدين للمتبوعين من سورة ص ﴿ قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار ﴾ ( ص ٦٠ ) فقد صرح فيه بالزيادة وقوله من سورة الأحزاب حكاية عن التابعين المرءوسين في النار ﴿ وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب وألعنهم لعنا كبيرا ﴾ ( الأحزاب ٦٧- ٦٨ ).
وقد كان من سبق رحمة الله لغضبه وانتقامه وغلبة فضله على عدله أن وعد بمضاعفة جزاء الحسنات لذاتها دون السيئات كما قال :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ﴾ ( الأنعام ١٦٠ وكما قال :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾ ( النساء ٣٩ ) وكل ما ورد في كتابه في مضاعفة العذاب فهو على الإغواء والإضلال وسوء القدوة إلا آية الفرقان فقد قال بعد ذكر الشرك وأكبر الكبائر من المعاصي ﴿ ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ﴾ ( الفرقان ٦٨-٦٩ ) ولو انفرد دون سائر آيات المضاعفة بحكم جديد يتعارض معها لم تكن مشكلة ولكنها معارضة بها وبقاعدة الجزاء على السيئة بمثلها إلا من أغوى غيره وأضله بقوله أو عمله فكان قدوة سيئة له فوجب الجمع بينهما وبين الآيات والأخبار الصحيحة المقررة لهذه القاعدة كأن يقال إن العقاب فيها على مجموع الشرك وكبائر الفواحش وهو مقسم عليهما لكل منهما جزء أو نوع منه فكان مضاعفا بالنسبة إلى عقاب المشرك الذي لم يقترف تلك الكبائر أو عقاب مقترفها كلها أو بعضها من غير المشركين، وإنما الممنوع بمقتضى القاعدة أن يضاعف العذاب على كل منهما مع انتفاء الإضلال وسوء القدوة. ويحتمل أن يقال إن فاعل تلك المعاصي من الكفار لا يكون إلا مجاهرا بضلاله فيلزمه الإضلال بسوء القدوة، وقد قيل بمثله في كل مجاهرة، وهو ظاهر.
ومن مباحث اللفظ أنه لا فرق في المعنى بين هذه الآية وآية ﴿ آتِهِمْ ضعفين من العذاب ﴾ ( الأحزاب ٦٨ ) فإن لفظ الضعف من الألفاظ المتضايفة التي يقتضي وجود أحدها وجود الآخر كالزوج وهو تركب قدرين متساويين، ويختص بالعدد فضعف الشيء هو الذي يثنيه وإذا أضيف على عدد اقتضى ذلك العدد ومثله، فضعف الواحد اثنان وضعف العشرة عشرون فإذا قيل أعطه ضعفين من كذا كان معناه أعطه اثنين أو سهمين منه وأما إذا قيل أعطه ضعفي واحد بالإضافة كان معناه أعطه واحدا وضعفيه أي ثلاثة وعلى ذلك فقس اه ملخصا من مفردات الراغب.
﴿ وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُون ﴾ هذا الجواب مبني على ما قبله من قول أخراهم أو من جواب الرب تعالى لهم. والمعنى على الأول : إذا كان الأمر كما ذكرتم من أننا نحن أضللناكم فما كان لكم علينا بهذا أدنى فضل تطلبون به أن يكون عذابكم دون عذابنا والذنب واحد، وقد اعترفتم بتلبسكم بالضلال المقتضي له، فذوقوا العذاب بكسبكم له مهما يكن سببه. وفي سورة الصافات :﴿ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين فحق علينا قول ربنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون ﴾ ( الصافات ٢٧- ٣٢ ).
وأما المعنى على الوجه الثاني فأن يقال : إذا كان الرب قد جعل لكل منا أو منا ومنكم ضعفا من العذاب فليس لكم فضل يخفف له عنكم ما أوجبه عليكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون من الكفر والمعاصي مثلنا فنحن لم نكن بمكرهين لكم على ذلك بل فعلتموه باختياركم، وإنما كان يكون لكم الفضل علينا لو اهتديتم باتباع الرسل وتركتمونا في ضلالنا وغوايتنا، ولا ينفعكم مضاعفة العذاب لنا إذا لم يخفف عنكم عذابكم فإن كلا منا لا يشعر إلا بعذاب نفسه. كما قال تعالى في مثل هذا المقام في سورة الزخرف :﴿ ولن ينفعكم اليوم إذا ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ﴾ ( الزخرف ٣٩ ).
هذا نوع آخر من جزاء المكذبين بالقرآن، المستكبرين عن الإيمان بضرب آخر من البيان، قال :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء ﴾ : لمفسري السلف في تفتح أبواب السماء قولان لا يتنافيان أحدهما : أن معناه لا تقبل أعمالهم ولا ترفع إلى الله عز وجل كما ترفع أعمال الصالحين كما قال :﴿ والعمل الصالح يرفعه ﴾ ( فاطر ١٠ ) قال ابن عباس : أي لا يصعد إلى الله من عملهم شيء وفي رواية عنه : لا تفتح لهم لعمل ولا دعاء. ومثله عن مجاهد وسعيد بن جبير. والثاني : أن أرواحهم لا تصعد إلى السماء بعد الموت. وروي عن ابن عباس والسدي وغيرهما، قال ابن عباس : عير بها الكفار أن السماء لا تفتح لأرواحهم وتفتح لأرواح المؤمنين، ومثل هذا التعبير في السماء معروف عند أهل الكتاب وروي في هذا القول أخبار مرفوعة في قبول روح المؤمن ورد روح الكافر وروى ابن جرير عن ابن جريج الجمع بين القولين قال : لا لأرواحهم ولا لأعمالهم.
﴿ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾ قرأ جمهور القراء الجمل بالتحريك وهو البعير البازل الذي طلع نابه، والمعنى لا يدخلون الجنة حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم وهو الجمل الكبير فيما هو مثل في الضيق وهو ثقب الإبرة وتسمى الخياط بالكسر والمخيط بوزن المنبر وذلك لا يكون فالمراد تأكيد النفي أو تأبيده. وكأن بعض الناس في الصدر الأول لم يفطنوا لنكتة هذا التعليق لعدم التناسب بين الجمل وسم الخياط فكانوا يسألون عنه فيجابون بما يؤكد المراد. سئل عنه ابن مسعود رضي الله عنه فقال هو زوج الناقة والحسن البصري فقال ابن الناقة الذي يقوم في المربد على أربع قوائم. والمربد ( كمنبر ) محبس الإبل وكذا الغنم ومكان بالبصرة مشهور كانت تحبس به أو كان سوقا لها.
وكأن هؤلاء السائلين كانوا يرون أن المناسب تفسير الجمل هنا بالحبل الغليظ وهو القلس الذي يكون في السفن لشبهه بالخيط وفيه لغات أخرى ضبطها صاحب القاموس بأوزان سكر وصرد وقفل وعنق وحبل وذكر أنه قرئ بهن١.
﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِين ﴾ أي مثل هذا الجزاء نجزي جنس المجرمين أي الذين صار الإجرام وصفا لازما لهم. وأصل معناه قطع الثمرة قبل بدو صلاحها ثم توسع فيه فأطلق على كل إفساد ولاسيما إفساد الفطرة بالكفر وما يترتب عليه من الخرافات والمعاصي وهو المراد هنا، وليس كل من أجرم كذلك فإن المؤمن إذا أجرم جرما بثروة غضب أو نزوة شهوة لا يلبث أن يندم ويتوب كما قال تعالى في وصف المؤمنين ﴿ ثم يتوبون من قريب ﴾ ( النساء ١٧ وقال :﴿ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾ ( آل عمران ١٣٥ ) وقد تقدم تفسيرهما في سورتي النساء وآل عمران فهؤلاء لا يسمون مجرمين.
﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين ﴾ أي ومثل هذا الجزاء نجزي جنس الظالمين لأنفسهم وللناس بشرطه الذي ذكر في المجرمين آنفا. وأفادت الآيتان أن المجرمين والظالمين الراسخين في صفتي الإجرام والظلم هم الكافرين، وأن المؤمنين لا يكونون كذلك، كما قال :﴿ والكافرين هم الظالمون ﴾ ( البقرة ٢٥٤ ) وهذا تحقيق القرآن والناس في غفلة عنه ولذلك خالفوه في عرفه.
من سنة القرآن الجمع بين الوعد والوعيد والثواب والعقاب يبدأ بأحدهما لمناسبة السياق قبله ويقفي عليه بالآخر. ولهذا عطف بيان جزاء السعداء على بيان جزاء الأشقياء فقال :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات ﴾ أي والذين آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا الأعمال الصالحات على الوجه الذي دعتهم إليه الرسل، وهي لا عسر فيها ولا حرج إذ ﴿ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ أي لا نفرض على المكلف إلا ما يكون في وسعه، وهو ما لا يضيق به ذرعه، ولا يشق عليه أداؤه. وهذه جملة معترضة هنا، وقد تقدم مثلها في آخر سورة البقرة، ( مع إسناد الفعل المنفي إلى اسم الجلالة ) وما في معناها من إرادة اليسر دون العسر في آيات الصيام منها، ومن عدم إرادة الحرج في آية الوضوء من سورة المائدة فهذه الآيات نصوص قطعية في يسر الدين وسهولته وهي حجة قطعية على ما أحدثه المتوسعون في الاستنباط والاجتهاد في أحكام العبادات التي جعلوها حملا ثقيلا يعسر تعلمه، ولا يدخل في وسع أحد عمله، { إلا المتنطعين من العباد ) حتى أن أحكام الطهارة وحدها لا يمكن تلقي ما كتبوه فيها إلا في عدة أشهر.
﴿ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون ﴾ أي أولئك الجامعون بين الإيمان والأعمال التي تصلح بها نفس الإنسان، وتزكو فتكون أهلا للنعيم والرضوان، هم أصحاب الجنة الذين يخلدون فيها أبدا، وقد تكرره نظيره.
﴿ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّه ﴾ وقرأ ابن عامر " ما كنا " بغير واو أنه بيان لما قبله وهذا من المخالف لرسم المصحف. أي ويقولون شاكرين لله بألسنتهم المعبرة عن غبطتهم وبهجتهم. الحمد لله الذي هدانا في الدنيا للإيمان الصحيح والعمل الصالح الذي كان هذا النعيم جزاءه فأدخل اللام على المسبب للعلم بالسبب وما كنا لنهتدي أي وما كان من شأننا ولا مقتضى بديهتنا أو فكرتنا أن نهتدي إليه بأنفسنا لولا أن هدانا الله إليه بتوفيقه إيانا لاتباع رسله ومعونته لنا عليها ورحمته الخاصة، علاوة على هداية فطرته التي فطرنا عليها وهداية ما خلق لنا من المشاعر والعقل.
تالله ﴿ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقّ ﴾ فهذا مصداق ما وعدنا من الجزاء على التوحيد والعمل الصالح ﴿ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون ﴾ أي ونودوا من قبل الرب تبارك وتعالى بأن قيل لهم : تلكم هي الجنة البعيدة المنال لولا فضل ذي الجلال والإكرام التي وعد بوراثتها الأتقياء، أورثتموها بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من الصالحات فعلامة البعد في اسم الإشارة للبعد المعنوي الذي بيناه، إذ السياق دال على أن هذا النداء يكون بعد دخولها، والتبوؤ من غرف قصورها، وجعله بعض المفسرين حسيا على القول بأن النداء يكون عند ما يرويها منصرفين إليها من الموقف وبعضهم زمنيا مرادا به الجنة الموصوفة على ألسنة الرسل في الدنيا، وقد بعد عهد ذكرها، والوعد بها، وهو وجيه.
تكرر في القرآن التعبير عن نيل أهل الجنة بالإرث. والأصل في الإرث أن يكون انتقالا للشيء من حائز إلى آخر كانتقال مال الميت إلى وارثه وانتقال الممالك من أمة إلى أخرى. وكذا إرث العلم والكتاب قال تعالى :﴿ ورث سليمان داود ﴾ ( النمل١٦ ) وقال :﴿ ورثوا الكتاب ﴾ ( الأعراف١٦٩ ) وقال ﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ﴾ ( فاطر ٣٢ ) ولا يظهر شيء من هذا في الجنة وإنما يخرج إيراثها هنا وما في معناه وارثها في قوله :﴿ أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس ﴾ ( المؤمنون١٠-١١ ) على وجهين أحدهما : أنهم يعبرون بالإرث عن الملك الذي لا منازع فيه. ثانيهما : ما ورد من أن الله تعالى جعل لكل أحد من المكلفين مكانا في الجنة هو حقه إذ طلبه بسببه وسعى إليه في صراطه المستقيم، وهو الإيمان والإسلام لله رب العالمين، وهو ما وعد به جميع أفراد أمة الدعوة على ألسنة الرسل ( عليهم السلام ) وورثتهم الناشرين لدعوتهم بالعلم والعمل، فمن كفر خسر مكانه من الجنة وأعطيه أهل الإيمان والتقوى فما من أحد منهم إلا وله حظ من الإرث. والاستعمالان مجازيان، وهما متفقان لا متباينان.
أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي في تفسير الآية قال : ليس من مؤمن ولا كافر إلا وله في الجنة منزل مبين فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ودخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله، ثم يقال يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون. فيقتسم أهل الجنة منازلهم. وروي نحوه عن ابن شوذب في تفسير ﴿ تلك الجنة نورث من عبادنا من كان تقيا ﴾ ( مريم ٦٣ ) ووري مثله موقوفا ومرفوعا في تفسير ﴿ أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس ﴾ ( المؤمنون ١٠- ١١ ) أخرج سعيد بن منصور وابن ماجه ورواة التفسير المأثور الأربعة أبناء جرير والمنذر وأبي حاتم ومردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله " فذلك قوله :﴿ أولئك هم الوارثون ﴾ ١ ( المؤمنون ١٠ ).
والآية صريحة في كون الجنة تنال بالعمل وفي معناها آيات كثيرة بباء السببية بعضها بلفظ الإرث وبعضها بلفظ الدخول. وأما حديث أبي هريرة في الصحيحين " لن يدخل أحدا عمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته " ٢وله تتمة وروي بلفظ آخر فمعناه : أن عمل الإنسان مهما يكن عظيما لا يستحق له الجنة لذاته لولا رحمة الله وفضله إذ جعل هذا الجزاء العظيم على هذا العمل القليل فدخول الجنة بالعمل دخول بفضل الله ورحمته، ولذلك قال بعده " فسددوا وقاربوا " أي لا تبالغوا ولا تغلوا في دينكم ولا تتكلفوا من العمل ما لا تطيقون. وقيل معناه يدخلونها بفضله ويقتسمونها بأعمالهم.
٢ روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الرقاق باب ١٨ والمرضى باب ١٩ ومسلم في المنافقين حديث ٧١- ٧٣- ٧٥- ٧٦- ٧٨- وابن ماجه في الزهد باب ٢٠ والدرامي في الرقاق باب ٢٤ وأحمد في المسند ٢/ ٢٣٥- ٢٥٦- ٢٦٤- ٣١٩- ٣٢٦- ٣٤٤- ٣٨٦- ٣٩٠- ٤٥٢- ٤٦٦-٤٦٩- ٤٧٣- ٤٨٢- ٤٨٨- ٤٩٥- ٥٠٣- ٥٠٩- ٥١٤- ٥١٩- ٥٢٤- ٥١٩- ٥٢٤- ٥٣٧- ٣/ ٥٢- ٣٣٧- ٣٦٢- ٦/ ١٢٥..
بعد أن ذكر سبحانه النار وأهلها والجنة وأهلها، بين لنا في هذه الآيات وما بعدها بعض ما يكون بين الفريقين فريق الجنة وفريق السعير من الحوار بعد استقرار كل منهما في داره، وتمكنه في قراره وهي تدل على الدارين في عالم واحد، أو أرض واحدة، يفصل بينهما حجاب هو سور واحد لا يمنع من إشراف أهل الجنة وهم في عليين، على أهل النار وهم في سجين من هاوية الجحيم، فيخاطب بعضهم بعضا بما يزيد أهل الجنة عرفانا بقيمة نعمة الله عليهم ويزيد أهل النار حسرة على تفريطهم وشقاء على شقائهم، ولا يقتضي هذا النوع من الاتصال القرب المعهود عندنا في الدنيا بين المتخاطبين وهو كون المسافة بينهما تقاس بالذراع أو الباع، بل يجوز أن تكون بحيث تحدد بما عندنا من الأشهر أو الأيام، لأن شأن الآخرة أن تغلب فيه الروحانية على المادة الجسدية فيمكن للإنسان أن يسمع من هو على بعد شاسع منه يراه، وقد كان هذا المعنى غريبا بعيدا عن المألوف عند أجدادنا الأولين، ولا يكاد يوجد الآن في العالم المدني من يستعبده بعد اختراع البشر للآلات التي يتخاطبون بها من أبعاد ألوف الأميال، إما بالإشارات الكاتبة كالتلغراف السلكي واللاسلكي أو بالكلام اللساني كالتليفون السلكي واللاسلكي وقد نبأتنا أخبار الاختراعات في الشمال بصنع آلة تجمع بين الرؤية والخطاب، إن كان لما يتم صنعها فقد كاد.
قال عز وجل.
﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُم ﴾ التعبير بالماضي عن المستقبل معهود في الأساليب العربية البليغة، وأشهر نكتة جعل المستقبل في تحقق وقوعه كالذي وقع بالفعل، والمعنى أن أصحاب الجنة سوف ينادون أصحاب النار حتى إذا ما وجهوا أبصارهم إليهم سألوهم سؤال تبجح وافتخار بحسن حالهم، وتهكم وتذكير بما كان من جناية أهل النار على أنفسهم بتكذيب الرسل، وتقرير لهم بصدق ما بلغوهم من وعد ربهم لمن آمن وأصلح بنعيم الجنة قائلين : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا وها نحن أولاء فيه فهل وجدتم ما وعد ربكم من آمن به وبما جاءت به رسله حقا ؟
قالوا :( وعدنا ربنا ) ولم يقولوا لأهل النار ( وعدكم ربكم ) بل حذفوا المفعول لأنه قد عرف حينئذ أن أهل الجنة محل لذلك الوعد بالجنة وأن أهل النار ليسوا محلا له، فسألوهم عن الوعد المطلق كما وجه إلى الناس كافة في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام معلقا على الإيمان والتقوى والعمل الصالح في مثل قوله :﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون يجري من تحتها الأنهار ﴾ ( الرعد ٣٥ ) إلخ قوله :﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن ﴾ ( محمد ١٥ ) إلخ وقوله تعالى في حكاية دعاء الملائكة للذين تابوا واتبعوا سبيله ﴿ ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ﴾ ( غافر ٨ ) وقوله ﴿ جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب ﴾ ( مريم ٦١ ).
وهذا ظاهر على القول بأن الوعد خاص بما كان في الخير، وكذا على القول بأنه يشمل الخير والشر وهو الصحيح ولكن الوعيد خاص بالشر أو السوء والمعنى حينئذ : فهل وجدتم ما وعد ربكم من آمن به واتقاه، وما وعد به من كفر به وعصاه حقا بدخولنا الجنة ودخولكم النار، وهذا يوافق قاعدة حذف المعمول لإفادة العموم، والجمهور على أنه لا يكاد يطلق الوعد في الشر غير متعلق بالموعود به صراحة ولا ضمنا لأنه إذا أطلق ينصرف إلى الخير وأما إذا قيد بتعلقه بالشر فيجوز أن تكون تسميته وعدا للتهكم أو للمشاكلة إذا كان في مقابلة وعد الخير أو للتغليب، فالأول كقوله تعالى :﴿ قل أفأنبئكم بشر من ذلكم ؟ النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ﴾ ( الحج ) والثاني كقوله تعالى :﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ﴾ ( البقرة ٢٦٨ ) على أنه لو عد الشيطان هنا نكتة أخرى وهو أنه شر في صورة الخير على سبيل الخداع فإنه عبارة عن الوسوسة للمرء بترك الصدقة وعمل البر اتقاء للفقر بذهاب ماله، وتظهر مقابلة المشاكلة في وعد الله للمنافقين والمؤمنين في سورة التوبة والثالث ( هذا ما وعد الرحمن } ( إشارة إلى البعث. ولكن في التنزيل ما لا يظهر فيه شيء من الثلاثة كقوله في وعيد قوم صالح ﴿ ذلك وعد غير مكذوب ﴾ ( هود ٦٥ ) وله نظائر على أن المتكلمين قد صرحوا بجواز تخلف الوعيد وعدم جواز تخلف الوعد بناء على أن العرب تتمدح بذلك والعقلاء يعدونه فضلا وكيف يقبل هذا مع قول الله تعالى في الوعيد ﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده ﴾ ( الحج ٤٨ ) وما في معناه من الآيات. نعم قد يصح قولهم في الوعيد المقيد ولو في نصوص أخرى بجواز العفو عنه كبعض المعاصي دون المؤكد أو المطلق الذي لا يقيده شيء.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الوعد هنا بمعنى الوعيد ولو للمشاكلة وأن المفعول حذف تخفيفا للإيجاز أو للعلم به مما قبله، والمعنى فهل وجدتم ما أوعدكم ربكم من الخزي والهوان والعذاب حقا ؟ وقيل بل المعنى فهل وجدتم ما وعدنا ربنا حقا، وهذا ضعيف جدا، وما قبله قد رواه ابن جرير وغيره عن ابن عباس " وأن " في قوله ( أن قد وجدنا ) هي المفسرة.
﴿ قَالُواْ نَعَم ﴾ أي قال أهل النار : نعم قد وجدنا ما وعد ربنا حقا. قرأ الكسائي نعم بكسر العين وهي لغة فصيحة نسبت إلى كنانة وهذيل ﴿ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِين ﴾ التأذين رفع الصوت بالإعلام بالشيء واللعنة عبارة عن الطرد والإبعاد مع الخزي والإهانة. أي فكان عقب هذا السؤال والجواب الذي قامت به الحجة على الكافرين أن أذن مؤذن قائلا : لعنة الله على الظالمين لأنفسهم الجانين عليها بما أوجب حرمانها من النعيم المقيم، وارتكاسها في عذاب الجحيم، والظالمين للناس بما يصفهم به في الآية التالية، ونكر المؤذن لأن معرفته غير مقصودة بل المقصود الإعلام بما يقوله هنالك للتخويف منه هنا، ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء وهو من أمور الغيب التي لا تعلم علما صحيحا إلا بالتوقيف المستند إلى الوحي ولكن المعهود في أمور عالم الغيب ولاسيما الآخرة أن يتولى مثل ذلك فيها ملائكة الله عز وجل :
قال الآلوسي : هو على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه صاحب الصور عليه السلام، وقيل مالك خازن النار. وقيل ملك من الملائكة غيرهما يأمره الله بذلك، ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنه علي كرم الله وجهه مما لم يثبت من طريق أهل السنة، وبعيد عن هذا الإمام أن يكون مؤذنا وهو إذ ذلك في حظائر القدس اه وأقول إن واضعي كتب الجرح والتعديل لرواة الآثار لم يضعوها على قواعد المذاهب، وقد كان في أئمتهم من يعد من شيعة علي وآله كعبد الرزاق والحاكم وما منهم أحد إلا وقد عدل كثيرا من الشيعة في روايتهم، فإذا ثبتت هذه الرواية بسند صحيح قبلناها، ولا نرى كونه في حظائر القدس مانعا منها، ولو كنا نعقل لإسناد هذا التأذين إليه كرم الله وجهه معنى يعد به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرواية بما دون السند الصحيح ما لم يكن موضوعا أو معارضا برواية أقوى سندا أو أصح متنا.
قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي ﴿ أن لعنة الله ﴾ بفتح الهمزة وتشديد النون ونصب لعنة، وقرأ الأعمش بكسر الهمزة على تقدير القول والباقون بفتح الهمزة وتخفيف النون على أنها المفسرة أو المخففة من الثقيلة ورفع لعنة.
بعد أن ذكر سبحانه النار وأهلها والجنة وأهلها، بين لنا في هذه الآيات وما بعدها بعض ما يكون بين الفريقين فريق الجنة وفريق السعير من الحوار بعد استقرار كل منهما في داره، وتمكنه في قراره وهي تدل على الدارين في عالم واحد، أو أرض واحدة، يفصل بينهما حجاب هو سور واحد لا يمنع من إشراف أهل الجنة وهم في عليين، على أهل النار وهم في سجين من هاوية الجحيم، فيخاطب بعضهم بعضا بما يزيد أهل الجنة عرفانا بقيمة نعمة الله عليهم ويزيد أهل النار حسرة على تفريطهم وشقاء على شقائهم، ولا يقتضي هذا النوع من الاتصال القرب المعهود عندنا في الدنيا بين المتخاطبين وهو كون المسافة بينهما تقاس بالذراع أو الباع، بل يجوز أن تكون بحيث تحدد بما عندنا من الأشهر أو الأيام، لأن شأن الآخرة أن تغلب فيه الروحانية على المادة الجسدية فيمكن للإنسان أن يسمع من هو على بعد شاسع منه يراه، وقد كان هذا المعنى غريبا بعيدا عن المألوف عند أجدادنا الأولين، ولا يكاد يوجد الآن في العالم المدني من يستعبده بعد اختراع البشر للآلات التي يتخاطبون بها من أبعاد ألوف الأميال، إما بالإشارات الكاتبة كالتلغراف السلكي واللاسلكي أو بالكلام اللساني كالتليفون السلكي واللاسلكي وقد نبأتنا أخبار الاختراعات في الشمال بصنع آلة تجمع بين الرؤية والخطاب، إن كان لما يتم صنعها فقد كاد.
ثم وصف هؤلاء الظالمين بقوله :﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾ تقدم أن صد يصد يجيء لازما بمعنى يعرض ويمتنع عن الشيء ومتعديا بمعنى يصد غيره ويصرفه عنه، وإن الإيجاز في مثل هذا التعبير يقتضي الجمع بينهما أي الذين يعرضون عن سلوك سبيل الله الموصلة إلى مرضاته وكرامته وثوابه ويضلون الناس عنها، ويمنعونهم من سلوكها، ويبغونها معوجة أو ذات عوج أي غير مستوية ولا مستقيمة حتى لا يسلكها أحد قال في اللسان : والعوج بالتحريك مصدر قولك عوج الشيء بالكسر فهو أعوج والاسم العوج بكسر العين، وعوج يعوج إذا عطف، والعوج في الأرض أن لا تستوي، وفي التنزيل ﴿ لا ترى فيهما عوجا ولا أمتا ﴾ ( طه ١٠٧ ) قال ابن الأثير قد تكرر ذكر العوج في الحديث اسما وفعلا ومصدرا وفاعلا ومفعولا وهو بفتح العين مختص بكل شكل مرئي كالأجسام وبالكسر لما ليس بمرئي كالرأي والقول، وقيل الكسر يقال فيهما معا والأول أكثر ( ثم قال ) وعوج الطريق وعوجه زيغه وعوج الدين والخلق فساده وميله على المثل، اه وقال الراغب إن العوج ﴿ بالتحريك ﴾ يقال فيما يدرك بالبصر والعوج ( بكسر ففتح } يقال فيما يدرك بالفكر والبصيرة كالدين والمعاش.
وأما بغي الظالمين أي طلبهم أن تكون سبيل الله عوجا أي غير مستوية ولا مستقيمة فيكون على صور شتى فأصحاب الظلم العظيم وهو الشرك يشوبون التوحيد بشوائب كثيرة من الوثنية أعمها الشرك في العبادة ومخها الدعاء فلا يتوجهون فيه إلى الله وحده بل يشركون معه في التوجه والدعاء غيره على أنه شفيع عنده وواسطة لديه أو وسيلة إليه ﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ﴾ ( البينة ٥ ) ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ﴾ ( الحج ٣١ ) ﴿ دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ﴾ ( الأنعام ١٦١ ) ﴿ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ﴾ ( الأنعام ٧٩ ) بل منهم من يتوجهون إلى غيره توا ويدعونه من دونه ولاسيما عند الضيق والشدة فلا يخطر ببالهم ربهم ولا يذكرونه ولكنهم إذا أنكر عليهم منكر يتأولون فيقول العامي : المحسوب كالمنسوب، الواسطة لا تنكر، ويقول المعمم دعي العلم : هذا تول واستشفاع، لا عبادة ولا دعاء، وكرامات الأولياء حق خلافا للمعتزلة والأولياء أحياء في قبورهم كالشهداء. وقد فندنا دعواهم مرارا.
والظالمون بالابتداع يبغونها عوجا بما يزيدون في الدين من البدع والمحدثات التي لم ترد في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا سنة الخلفاء الراشدين وجمهور الصحابة، ومستندهم في هذه البدع النظريات الفكرية، والتأويلات الجدلية، ومحاولة التوفيق بين الدين والفلسفة العقلية، هذا إذا كان الابتداع في المسائل الاعتقادية وأما الابتداع بالزيادة في العبادات الواردة والشعائر المشروعة فمنه ما كان كاحتفالات الموالد وترتيلات الجنائز وأذكار المآذن كالزيادة في الأذان وما كان في تحريم ما لم يحرم الله من الزينة والطيبات من الزرق أو في إحلال ما حرمه كبناء المساجد على القبور واتخاذها أعيادا وتشريفها وإيقاد المصابيح والسرج من الشموع وغيرها عليها، فإن خواصهم يحتجون له بآراء سقيمة، وأقيسة مؤلفة من مقدمات عقيمة، واستحسانات ينكرون أصولها ويأخذون بفروعها. وعوامهم يقولون قال فلان من المؤلفين، وفعل فلان من الصوفية الصالحين، ونحن لا نفهم كلام الله ولا كلام الرسول، وإنما نفهم كلام هؤلاء الفحول، بل وجد ولا يزال يوجد من المعممين المدرسين من يصرحون في دروسهم بأنه لا يجوز لمسلم في زمانهم أن يعمل بكتاب الله ولا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا بما نقله المحدثون عن سلف الأمة الصالح، بل على كل مسلم أن يأخذ بما يلقنه إياه أي عالم ينتمي إلى مذهب من المذاهب المعروفة، وإن لم يروا ما يلقنه عن إمام المذهب ولم يستدل عليه بدليل مبني على أصول المذهب التي كان بها مذهبا كعمل أهل المدينة عند مالك بشرطه، وكون الإجماع الذي يحتج به هو إجماع الصحابة دونه من بعدهم وهو مذهب داود والمشهور عن أحمد وروي عن أبي حنيفة وكالخلاف في الاحتجاج بالحديث المرسل.
والظالمون بالزندقة والنفاق يبغونها عوجا بالتشكيك فيها بضروب من التأويل يقصد بها بطلان الثقة بها والصد عنها ؟ ومذاهب الباطنية التي أدخلت في الإسلام من منافذ التشيع والتصوف معروفة وقد كان لواضعي تلك التأويلات من الفرس غرض سياسي من إفساد الإسلام على أهله وإحداث الشقاق بينهم فيه وهو إضعاف العرب وإزالة ملكهم للتمكن من إعادة ملك فارس وسلطان أمة المجوسية، ثم رسخ بالتقليد في طوائف من أجناس أخرى حتى العرب جهلوا أصله، ومن الأفراد من يحاول إفساد دين قومه عليهم ليكونوا مثله، فلا يكون محتقرا بينهم، ومن زنادقة عصرنا من يحاولون هذا لظنهم أن قومهم لا يمكن أن يكونوا كالإفرنج في حارتهم المادية الشهوانية إلا إذا تركوا دينهم وهم يرون الإفرنج يتعصبون لدينهم وينفقون الملايين في سبيل نشره.
والظالمون في الأحكام يبغونها عوجا بترك تحري ما أمر الله تعالى به من التزام الحق، وإقامة ميزان العدل، والمساواة فيهما بين الناس بالقسط، بأن لا يحابى أحد لعقيدته أو مذهبه ولا لغناه أو قوته ولا يهضم حق أحد لضعفه أو فقره ولا لفسقه أو كفره، ﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ﴾ ( المائدة ٨ ) بل منهم من بغى هذه الشريعة العادلة المعتدلة عوجا في أساس نظامها، وأصول أحكامها، فجعل حكومتها من قبيل الحكومات الشخصية، ذات السلطة الاستبدادية.
والظالمون بالغلو فيها جعلوا يسرها عسرا وسعتها ضيقا وحرجا، وزادوا على ما شرعه الله من أحكام العبادات، والمحظورات المباحات، أضعاف ما أنزله الله في كتابه، وما صح من سنة رسوله، مما ضاقت به مطولات الأسفار، التي تنقضي دون تحصيلها الأعمار، ومنهم من جعل غاية الاهتداء بها الفقر والمهانة والذلة والاستكانة، خلافا لما نطق به الكتاب من عزة المؤمنين، وكونهم أولى بزينة الدنيا وطيباتها من الكافرين.
فهذه أمثلة لمن يبغونها عوجا من المنتمين إليها والمدعين لهدايتها.
وأما أعداؤها الصرحاء فهم يطعنون في كتاب الله وفي خاتم رسله جهرا بما يخلقون من الإفك، وما يحرفون من الكلم، وما يخترعون من الشبهات وما ينمقون من المشككات. وأمرهم معروف، وأجرؤهم على البهتان والزور وتعمد قلب الحقائق فريقان : دعاة النصرانية الطامعون في تنصير المسلمين الذين اتخذوا هذه الدعوة حرفة عليها مدار رزقهم، ورجال السياسة الاستعماريون الطامعون في استعباد المسلمين واستعمار بلادهم. وكل من الفريقين ظهير للآخر، فالحكومة السودانية الإنكليزية حرمت مجلة المنار على مسلمي السودان بسعي دعاة النصرانية وسعايتهم لأن دعوتهم لا تروج في قوم يقرؤون المنار١.
وأما قوله تعالى ﴿ وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُون ﴾ فهو خاص بمنكري البعث من أولئك الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهو شر تلك الفرق كلها أي وهم على ضلالتهم وإضلالهم كافرون بالآخرة كفرا راسخا قد صار صفة من صفاتهم فلا يخافون عقابا على إجرامهم فيتوبوا منه، وتقديم الجار والمجرور ( بالآخرة ) على متعلقة للاهتمام به فإن أصل كفرهم قد علم مما قبله، وهذا النوع منه له تأثير خاص في إصرارهم على ما أسند إليهم، وقد غفل عن هذا من قال إن التقديم لأجل رعاية الفاصلة.
ومن المعلوم أن المؤذن بلعن هؤلاء في الآخرة يصفهم بالظلم ويسند إليهم الصد عن سبيل الله وبغيها عوجا بصيغة المضارع ويصفهم بالكفر بالآخرة في الآخرة بعد أن زال الكفر بها، بعين اليقين فيها، وفات زمن الصد عنها وبغيها عوجا. والنكتة في هذا تصوير حالهم التي كانوا عليها في الدنيا وترتب عليها ما صاروا إليه في الآخرة. ليتذكروها هم وكل من سمع التأذين بها، ويعلموا عدل الله بعقابهم عليها، وليعتبر بها في الدنيا من يتصور حالهم هذه. فكانت البلاغة أن يعدل هنا عن صيغة الماضي إلى صيغة الحال حتى يخيل أنه هو الواقع عند إطلاق الكلام، كما كانت البلاغة في العدول عن صيغة الاستقبال في تحاور أهل الجنة وأهل النار إلى صيغة الماضي لإثبات القطع به وتحقق وقوعه. ويجوز أن يكون وصفهم بما ذكر مستأنف من كلام الله تعالى لا من كلام المؤذن.
.
بعد أن ذكر سبحانه النار وأهلها والجنة وأهلها، بين لنا في هذه الآيات وما بعدها بعض ما يكون بين الفريقين فريق الجنة وفريق السعير من الحوار بعد استقرار كل منهما في داره، وتمكنه في قراره وهي تدل على الدارين في عالم واحد، أو أرض واحدة، يفصل بينهما حجاب هو سور واحد لا يمنع من إشراف أهل الجنة وهم في عليين، على أهل النار وهم في سجين من هاوية الجحيم، فيخاطب بعضهم بعضا بما يزيد أهل الجنة عرفانا بقيمة نعمة الله عليهم ويزيد أهل النار حسرة على تفريطهم وشقاء على شقائهم، ولا يقتضي هذا النوع من الاتصال القرب المعهود عندنا في الدنيا بين المتخاطبين وهو كون المسافة بينهما تقاس بالذراع أو الباع، بل يجوز أن تكون بحيث تحدد بما عندنا من الأشهر أو الأيام، لأن شأن الآخرة أن تغلب فيه الروحانية على المادة الجسدية فيمكن للإنسان أن يسمع من هو على بعد شاسع منه يراه، وقد كان هذا المعنى غريبا بعيدا عن المألوف عند أجدادنا الأولين، ولا يكاد يوجد الآن في العالم المدني من يستعبده بعد اختراع البشر للآلات التي يتخاطبون بها من أبعاد ألوف الأميال، إما بالإشارات الكاتبة كالتلغراف السلكي واللاسلكي أو بالكلام اللساني كالتليفون السلكي واللاسلكي وقد نبأتنا أخبار الاختراعات في الشمال بصنع آلة تجمع بين الرؤية والخطاب، إن كان لما يتم صنعها فقد كاد.
﴿ وَبَيْنَهُمَا حِجَاب ﴾ أي وبين الفريقين حجاب يفصل كلا منهما عن الآخر ويمنعه عن الاستطراق إليه. والحجاب من الحجب معنى المنع كالكفاف من الكف والصوان من الصون وهو حسي ومعنوي. والحسي منه ما يمنع الاستطراق دون الرؤية كالزجاج وما يمنع الرؤية وحدها كالستور وما يمنعهما جميعا كالأسوار والحيطان. ومن الحجب المعنوي منع الإرث حرمانا أو نقصانا. وهذا الحجاب بين الجنة والنار هو السور في قوله تعالى من سورة الحديد :﴿ يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظروا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا. فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ﴾ ( الحديد ١٣ ) الآية فإن الجنة في باطنه والنار من قبل ظاهره أي بالنسبة إلى ما يكون الناس عليه في موقف الحساب. روى البيهقي في الأسماء والصفات عن مقاتل في قوله :﴿ فضرب بينهم بسور له باب ﴾ قال يعني بالسور حائطا بين أهل الجنة وأهل النار باب باطنه يعني باطن السور فيه الرحمة مما يلي الجنة وظاهره من قبله العذاب يعني جهنم وهو الحجاب الذي ضرب بين أهل الجنة وأهل النار. وروى هو ورواة التفسير المأثور قبله عن مجاهد في آية الحديد قال : إن المنافقين كانوا مع المؤمنين أحياء في الدنيا يناكحونهم ويعاشرونهم وكانوا معهم أمواتا، ويعطون النور جميعا يوم القيامة فيطفأ نور المنافقين إذا بلغوا السور يماز بينهم يومئذ، والسور كالحجاب في الأعراف فيقولون ﴿ انظرونا نقتبس من نوركم، قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ﴾.
﴿ وعلى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُم ﴾ الأعراف بصيغة الجمع ضرب من النخل وجمع لكلمتي الأعرف والعرف ( بوزن قفل ) ويطلق على أعالي الأشياء وأوائلها وكل مرتفع من الأرض وغيرها، ومنه عرف الديك وعرف الفرس وهو الشعر على أعلى الرقبة وعرف السحاب، روي عن حذيفة رضي الله عنه قال : الأعراف سور بين الجنة والنار. وعن ابن عباس رضي الله عنه روايات :( ١ ) الأعراف هو الشيء المشرف ( ٢ ) سور له عرف كعرف الديك ( ٣ ) تل بين الجنة والنار جلس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار ( ٤ ) السور الذي ذكر الله في القرآن بين الجنة والنار.
والتحقيق أن الأعراف هو ذلك السور والحجاب بين الدارين وأهلهما أو أعاليه التي يكون عليها أولئك الرجال الذين يرون أهل الجنة وأهل النار جميعا قبل الدخول فيهما فيما يظهر، فيعرفون كلا منهما بسيماهم التي وصفهم الله تعالى بها في مثل قوله :﴿ وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة ﴾ ( عبس ٣٨- ٤٢ ) وأما بعد الدخول فيها فالتمييز بين الفريقين من تحصيل الحاصل، وذكره عبث ينزه عنه التنزيل إذا أريد معرفة أشخاص معينين، وهو لا يظهر هنا وإنما ظهر في قوله :﴿ ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم ﴾ ( الأعراف ٤٨ ) فهذه سيما خاصة لأنها لأفراد مخصوصين، وتلك سيما عامة لأنه لفريقين أفرادهما غير محصورين.
وقد اختلف المفسرون فيهم على أقوال عدها القرطبي وغيره اثني عشر قولا وهي على ثلاث مراتب الأولى : أنهم بعض أشراف الخلق الممتازين والثانية : أنهم الذين ليسوا من الأخيار الذين رجحت حسناتهم فاستحقوا الجنة ولا من الأشرار الذين رجحت سيئاتهم فاستحقوا النار، بل تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وفي بعض الأحاديث الضعيفة أنهم قوم خرجوا للجهاد في سبيل الله بدون إذن آبائهم واستشهدوا فمنعهم من دخول النار قتلهم في سبيل الله من دخول الجنة معصية آبائهم وهذا خاص يدخل في العام الذي قبله.
والثالثة : أنهم أصحاب صفة خاصة ليسوا من أهل الجنة ولا من أهل النار بل منزلة بينهما هي الأعراف وفي هؤلاء أقوال ( ١ ) أهل الفترة ( ٢ ) مؤمنو الجن وروى ابن عساكر فيه حديثا مرفوعا عن أنس بن مالك من طريق الوليد بن موسى الدمشقي ومن منكر الحديث في أعدل الأقوال ورماه بعضهم بالوضع ( ٣ ) أولاد المشركين أي الكفار الذين ماتوا قبل سن التكليف ( ٤ ) أولاد الزنا ( ٥ ) أهل العجب بأنفسهم ؛ وهذان القولان لا وجه لهما البتة ( ٦ ) آخر من يفصل الله بينهم وهم عتقاؤه من النار وفيه حديث مرسل حسن الإسناد، ويرى بعضهم أن هؤلاء هم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم ولكن ورد في الصحاح أن آخر من يدخل الجنة " أقوام كانوا قد امتحشوا في النار لم يعملوا خيرا قط فيخرجهم الله منها ويدخلهم الجنة فيقول فيهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه " ١ وذلك بعد إخراج من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان من النار، كما في حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين.
وأما القائلون بالمرتبة الأولى فلهم أقوال :
١- أنهم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار رواه ابن جرير عن أبي مجلز قال الحافظ ابن كثير بعد إيراد الرواية عنه : وهذا صحيح إلى أبي مجلز لاحق ابن حميد أحد التابعين وهو غريب من قوله وخلاف الظاهر من السياق اه وإنما عده غريبا عنه لمخالفته لقول الجمهور ولتسمية الملائكة رجالا وهم لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة، وأولوه بأنهم في صورة الرجال وقد اختار هذا القول أبو مسلم الأصفهاني.
٢- أنهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجعلهم الله تعالى على أعالي ذلك السور تمييزا لهم على الناس ولأنهم شهداؤه على الأمم ورجح هذا القول الرازي.
٣- أنهم عدول الأمم الشهداء على الناس من كل أمة حكاه الزهري، فكما ثبت أن كل رسول يشهد على أمته وثبت أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء على جملة من الأمم بعده ثبت أيضا أن في الأمم شهداء غير الأنبياء عليهم السلام قال الله تعالى :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة شهيد وجئنا على هؤلاء شهيدا ﴾ ( النساء ٤١ ) وقال في خطاب هذه الأمة ﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ ( البقرة ١٤٣ ) وقال في صفة يوم القيامة ﴿ وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ﴾ ( الزمر ٦٩ ) إلخ وهؤلاء الشهداء هم حجة الله على الناس في كل زمان بفضائلهم واستقامتهم على الحق والتزامهم للخير وأعمال البر، ولولاهم لفقدت القدوة الصالحة.
٤ أنهم العباس وحمزة وعلي وجعفر ذو الجناحين رضي الله عنه يجلسون على موضع من الصراط يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسوادها. وهذا القول ذكر الآلوسي أن الضحاك رواه عن ابن عباس ولم نره في شيء من كتب التفسير المأثور، والظاهر أنه نقله عن تفاسير الشيعة، وفيه أن أصحاب الأعراف يعرفون كلا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم أي فيميزون بينهم أو يشهدون عليهم. وأي فائدة في تمييز هؤلاء السادة على الصراط لمن كان يبغضهم من الأمويين ومن يبغضون عليا خاصة من المنافقين والنواصب ؟ وأين الأعراف من الصراط ؟ هذا بعيد عن نظم الكلام وسياقه جدا.
٥- قول مجاهد أنهم قوم صالحون فقهاء علماء. وهذا القول إنما تعقل حكمته إذا رد إلى القول الثالث ولذلك قال ابن كثير : إن فيه غرابة.
ورجح الجمهور بكثرة الروايات أنهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم. وفيه أن هؤلاء ليسوا من الرجال وحدهم والتعبير برجال يمنع أن يكون فيهم نساء والتغليب لا يظهر هنا، كما يمنع أن يكونوا من الملائكة خلافا لأبي مجلز إذ لو أريد هذا أو ذاك لعبر عنه بلفظ يقبله كأن يقول " عباد يعرفون كلا بسيماهم " وينافي كونهم من الملائكة أيضا آخر هذه الآية على القول بأن الضمير فيه لأصحاب الأعراف كما ينافي كونهم الأنبياء أو الشهداء وكذا الآية التي بعدها، فقد قال تعالى :
﴿ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾ أي نادوهم بقولهم سلام عليكم. قيل إن هذا السلام يراد به الأخبار بالسلامة من العذاب والبشارة بالنجاة إن كان قبل دخول الجنة كما هو المتبادر من تمييزهم بين أهل الجنة وأهل النار بسيماهم فإن هذا التمييز بالسيما إنما يكون قبل دخول كل في داره، وهو المروي عن أبي مجلز وحينئذ يترجح أن يكون أهل الأعراف الانبياء أو الشهداء على الناس منهم ومن غيرهم. وأما إن كان بعد دخولهم الجنة فهو تحية محضة داخلة في عموم قوله تعالى :﴿ لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ﴾ ( الواقعة ٢٥- ٢٦ ).
ولا يمنع هذا الوجه ولا ذاك أن يكونوا من الملائكة بل ورد التنزيل والحديث الصحيح بتسليم الملائكة على أهل الجنة ﴿ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب : سلام عليكم بما صبرتم فنعم الدار عقبى ﴾ ( الرعد ٢٣- ٢٤ ).
وقوله :﴿ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُون ﴾ فيه وجهان أحدهما أنه في أصحاب الأعراف وسيأتي ما روي فيه، والثاني أنه في أهل الجنة والجملة حالية على الوجهين أي نادوهم مسلمين عليهم حال كونهم لم يدخلوها معك وهم طامعون في ذلك أو حال كون أهل الجنة لم يدخلوا الجنة بعد وهم يطمعون في دخولها لما بدا لهم من يسر الحساب، ولاسيما إذا كان ذلك بعد المرور على الصراط، وقد ورد في الآثار أن الناس يكونون في الموقف بين الخوف والرجاء لا تطمئن قلوب أهل الجنة حتى يدخلوها ومن ذلك ما رواه أبو نعيم في حلية الأولياء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : لو نادى مناد : يا أهل الموقف ادخلوا النار إلا رجلا واحدا لرجوت أن أكون ذلك الرجل، ولو نادى : ادخلوا الجنة إلا رجلا واحدا لخشيت أن أكون ذلك الرجل اه بالمعنى لا أذكر أي المكانين قدم. وهذا الوجه هو المتبادر من نظم الكلام.
بعد أن ذكر سبحانه النار وأهلها والجنة وأهلها، بين لنا في هذه الآيات وما بعدها بعض ما يكون بين الفريقين فريق الجنة وفريق السعير من الحوار بعد استقرار كل منهما في داره، وتمكنه في قراره وهي تدل على الدارين في عالم واحد، أو أرض واحدة، يفصل بينهما حجاب هو سور واحد لا يمنع من إشراف أهل الجنة وهم في عليين، على أهل النار وهم في سجين من هاوية الجحيم، فيخاطب بعضهم بعضا بما يزيد أهل الجنة عرفانا بقيمة نعمة الله عليهم ويزيد أهل النار حسرة على تفريطهم وشقاء على شقائهم، ولا يقتضي هذا النوع من الاتصال القرب المعهود عندنا في الدنيا بين المتخاطبين وهو كون المسافة بينهما تقاس بالذراع أو الباع، بل يجوز أن تكون بحيث تحدد بما عندنا من الأشهر أو الأيام، لأن شأن الآخرة أن تغلب فيه الروحانية على المادة الجسدية فيمكن للإنسان أن يسمع من هو على بعد شاسع منه يراه، وقد كان هذا المعنى غريبا بعيدا عن المألوف عند أجدادنا الأولين، ولا يكاد يوجد الآن في العالم المدني من يستعبده بعد اختراع البشر للآلات التي يتخاطبون بها من أبعاد ألوف الأميال، إما بالإشارات الكاتبة كالتلغراف السلكي واللاسلكي أو بالكلام اللساني كالتليفون السلكي واللاسلكي وقد نبأتنا أخبار الاختراعات في الشمال بصنع آلة تجمع بين الرؤية والخطاب، إن كان لما يتم صنعها فقد كاد.
﴿ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين ﴾ أفاد هذا التعبير بالفعل المبني للمجهول أنهم يوجهون أبصارهم إلى أصحاب الجنة بالقصد والرغبة ويلقون إليهم السلام، وأنهم يكرهون رؤية أصحاب النار فإذا صرفت أبصارهم تلقاءهم أي حولت إلى الجهة التي تلقاهم وتبصرهم فيها وإنما يكون ذلك عن غير توخ ولا رغبة، بل بصارف يصرفهم إليها أو بمقتضى سرعة تحولها من جهة إلى جهة قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين حيث هم ولا حيث يكونون. وهذا الدعاء لا يظهر صدوره من الملائكة إلا بتأويل أن المراد به استعظام حال الظالمين واستفظاع مآلهم، لا حقيقة الدعاء ويجاب بهذا الأخير من أنكر أن يكون الأنبياء هم أصحاب الأعراف.
والإنصاف أن هذا الدعاء أليق بحال من استوت حسناتهم وسيئاتهم، وكانوا موقوفين مجهولا مصيرهم. وروى ابن جرير عن شعبة أن حذيفة رضي الله عنه ذكر أصحاب الأعراف فقال : هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة فإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين، فينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربك فقال لهم فاذهبوا فادخلوها الجنة فإني قد غفرت لكم.
وعن سعيد بن جبير أن ابن مسعود رضي الله عنه قال : يحاسب الله الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار، ثم قرأ قول الله ﴿ فمن ثقلت موازينه ﴾ ( المؤمنون ١٠٢ ) الآيتين ثم قال : إن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح. قال ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ثم عرض أهل الجنة وأهل النار فإذا نظروا إلى أهل الجنة قالوا : سلام عليكم وإذا صرفت أبصارهم إلى يسارهم رأوا أهل النار فقالوا :﴿ ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ﴾ ( الأعراف ٤٧ ) تعوذوا بالله من منازلهم ( قال ) فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ويعطى كل عبد يومئذ نورا وكل أمة نورا. فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة. فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون ( قالوا ربنا أتمم لنا نورنا ) وأما أصحاب الأعراف فإن النور كان في أيديهم فلم ينزع من أيديهم فهنالك يقول تعالى :﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ فكان الطمع دخولا ( قال سعيد ) فقال ابن مسعود على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة ثم يقول : هلك من غلب واحدته أعشاره اه.
فهذا أوضح بيان مفصل للقول الذي اعتمد الجمهور، وللأثرين الموقوفين فيه قوة الحديث المرفوع، وظاهره أن هذا كله يقع بعد الموقف وقبل أن يجعل هؤلاء الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم على الأعراف، فإن السور الذي فسرت الأعراف به أو بأعاليه يضرب بعد ذهابهم من الموقف يسيرون بنورهم إلى الجنة، كما هو ظاهر آية سورة الحديد. وقد ذكرناها عند تفسير كلمة الأعراف. وفيه أنه تعالى ذكر معرفتهم لأصحاب الجنة وأصحاب النار بسيماهم ونداءهم بالسلام على أهل الجنة بعنوان أنهم أصحاب الأعراف، ولا يصح هذا العنوان قبل وجودهم عليها إلا إذا ثبت أنهم يسمون أصحابها قبل ذلك، أو على التأويل بجعله من مجاز الأول كقوله ﴿ أعصر خمرا ﴾ ( يوسف ٣٦ ) ويجاب عن تخصيص الرجال بالذكر بأنهم هم الذين يخاطبون أهل الجنة وأهل النار دون من معهم من النساء.
هذا النداء حقيق أن يكون من النبيين أو من دونهم من الشهداء ولا مانع من صدوره عمن تساوت حسناتهم وسيئاتهم على ما نذكر في تفسيره ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُون ﴾ كرر ذكرهم مع قرب العهد به فلم يقل ( ونادوا ) لزيادة التقرير وكون هذا النداء خاصا في موضوع خاص فكان مستقلا دون ما قبله الموجه إلى أهل الجنة في جملتهم، والظاهر أن هذا النداء يكون من بعضهم لمن كانوا يعرفونهم في الدنيا من المستكبرين بغناهم وقوتهم المحتقرين لضعفاء المؤمنين لفقرهم وضعف عصبيتهم أو لحرمانهم من عصبة تمنعهم وتذود عنهم، الذين كانوا يزعمون أم من أغناه الله تعالى وجعله قويا في الدنيا هو الذي يعطيه نعيم الآخرة إن كان هنالك آخرة :﴿ وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ﴾ ( سبأ ٣٤- ٣٥ ) ومنهم طغاة قريش الذين قاوموا الإسلام في مكة واضطهدوا أهله كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل.
وقد ذكروا أنهم يعرفونهم بسيما أهل النار العامة كسواد الوجوه وزرقة العيون. والذي يظهر أنهم يعرفونهم بسيماهم الخاصة التي كانوا عليها في الدنيا أو بسيما المستكبرين إذ ورد ما يدل على أن لكل من تغلب عليهم رذيلة خاصة صفة وعلامة تدل عليهم. وفي الصحيح " يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة " ١ فيعرفه فيشفع له فلا تقبل شفاعته ثم يمسخه الله ذيخا منتنا ليزول عن إبراهيم خزيه. قال العلماء إن مسخه ضبعا مناسب لحماقته ونتن الشرك ( راجع ج ٧ ) والاستفهام هنا للتوبيخ والتقريع. أي ما أغنى عنكم جمعكم للمال وكذا للرجال عند القتال واستكبارا على المستضعفين والفقراء من أهل الإيمان وهو لم يمنع عنكم العذاب ولا أفادكم شيئا من الثواب ؟
﴿ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُون ﴾ أي قيل لهم من قبل الرحمن عز وجل : ادخلوا الجنة لا خوف عليكم مما يكون في مستقبل أمركم، ولا أنتم تحزنون من جراء شيء ينغص عليكم حاضركم. وحذفُ القولِ للعلم به من قرائن الكلام كثيرٌ في التنزيل وفي كلام العرب الخلص، ولكنه قل في كلام المولدين، حتى لا تراه إلا في كلام بعض بلغاء المنشئين، وقيل إن أهل الأعراف هم الذين يقولون لهؤلاء ادخلوا الجنة إلخ وهو بعيد بل لا يصح مطلقا على القول بأنهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم إذ لا يليق بحالهم أن يخاطبوا من هم فوقهم بهذا الأمر لا قبل دخول الجنة ولا بعده وهو وإن كان يليق من الملائكة أو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالمتبادر الأول وهو الحكاية بتقدير القول وروي عن عكرمة. وقيل إن الأمر بدخول الجنة لأصحاب الأعراف. وروي عن الربيع عن ابن أنس في تفسير الآية قال : كان رجال في النار قد أقسموا بالله لا ينال أصحاب الأعراف من الله رحمة فأكذبهم الله فكانوا آخر أهل الجنة دخولا فيها سمعناه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ضعيف معارض بما في الصحاح في آخر أهل الجنة دخولا وتقدم آنفا.
وجملة القول في أصحاب الأعراف أن ما حكاه تعالى عنهم يحتمل أن يكون ( إن صح وجود الأعراف حينئذ ) بعد المرور على الصراط وقبل دخول أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ وأن يكون بعد ذلك. فالأول لولا ما ينافيه مما تقدم يرجح أنهم الأنبياء وحدهم أو مع غيرهم من الشهداء على الخلق، لأن وجودهم هنالك تمييز وتفضيل على جميع أهل الموقف ولا يصح هذا لغيرهم إلا أن يكون للملائكة، وهو ما يمنع منه التعبير برجال، وإن أوله أبو مسلم بكونهم في صورتهم. والثاني والثالث يرجحان أنهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم بمعونة كثرة الروايات فيه، يوقفون على الأعراف طائفة من الزمن يظهر فيها عدل الله تعالى بعدم مساواتهم بأصحاب الحسنات الراجحة بدخول الجنة معهم ولا بأصحاب السيئات الراجحة بدخول النار معهم، ولو بقوا في هذه المنزلة بين المنزلتين لكان عدلا ولكن ورد أنه تعالى يعاملهم بعد هذا العدل بالفضل ويدخلهم الجنة، ولا بد أن يكون ذلك قبل إخراج من يعذبون في النار من المؤمنين الذين رجحت سيئاتهم على حسناتهم، والدليل على عدم بقاء أحد في منزلة بين الجنة والنار ما ورد من الآيات الكثيرة في القسمة الثنائية ﴿ فريق في الجنة وفريق في السعير ﴾ ( الشورى ٧ ).
وكل من تلك الاحتمالات التي يبنى عليها الترجيح بين هذين القولين له مرجحات ومعارضات من الآيات كما علم من تفسيرنا لها، وقد يكون من مرجحات الثاني والثالث وضع هذه الآيات بين نداء أهل الجنة أهل النار :﴿ أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ﴾ ( الأعراف ٤٤ ) الآية ونداء أهل النار أهل الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء والطعام الذي يتمتعون به في قوله عز وجل :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه ﴾ يدل على أن حالة الآخرة تقتضي إمكان إفاضة أهل الجنة الماء وغيره على أهل النار على ما بين المكانين من الارتفاع والانخفاض وقد بينا وجهه المعقول في مقدمة تفسير هذا السياق. وإفاضة الماء صبه ومادة الفيض فيها معنى الكثرة، وما رزقهم الله يشمل الطعام وغير الماء من الأشربة و " أو " في قوله :﴿ أو مما رزقهم الله ﴾ للتخيير فهي لا تمنع الجمع بين الماء والطعام. ويقدر بعضهم فعلا مناسبا للرزق على حد :
علفتها تبنا وماء باردا١
والصواب أن الفيض والإفاضة يستعملان في غير الماء والدمع فيقال فاض الرزق والخير وأفاض عليه النعم، ومن الأمثال أعطاه غيضا من فيض أي قليلا من كثير. وعد الزمخشري الإفاضة في الحديث من الحقيقة خلافا للراغب الذي جعلها استعارة.
والمعنى أن أهل النار يستجدون أهل الجنة أن يفيضوا عليهم من النعم الكثيرة التي يتمتعون بها من شراب وطعام، وقدموا طلب الماء لأن من كان في " سموم وحميم " يكون شعوره بالحاجة إلى الماء البارد أشد من شعوره بالحاجة إلى الطعام الطيب. روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذا الاستجداء : ينادي الرجل أخاه فيقول يا أخي أغثني فإني قد احترقت فأفض علي من الماء فيقال : أجبه، فيقول : إن الله حرمهما على الكافرين. وعن ابن زيد في الطلب قال : يستسقونهم ويستطعمونهم، وفي قوله " حرمهما " قال طعام الجنة وشرابها. وروى عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد والبيهقي في شعب الإيمان أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه شرب ماء باردا فبكى فسأل ما يبكيك ؟ قال ذكرت آية في كتاب الله ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) فعرفت أن أهل النار لا يشتهون إلا الماء البارد وقد قال الله عز وجل :﴿ أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ﴾ اه وفيه أن الآية لا حصر فيها. وفي الشعب والتفسير المأثور عنه أيضا أنه سئل أي الصدقة أفضل ؟ فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفضل الصدقة سقي الماء. ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا :﴿ أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ﴾ وروى أحمد عن سعد بن عبادة أن أمه ماتت فقال يا رسول الله أتصدق عليها ؟ قال " نعم " قال فأي الصدقة أفضل ؟ قال " سقي الماء " ٢.
﴿ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ الحرام في اللغة الممنوع، والتحريم وهو المنع قسمان : تحريم بالحكم والتكليف كتحريم الله الفواحش والمنكرات وأرض الحرم أن يؤخذ صيدها أو يقطع شجرها أو يختلى خلاها ( أي ينزع حشيشها الرطب ) وتحريم بالفعل أو القهر كتحريم الجنة وما فيها على الكافرين في هذه الآية وفي قوله :﴿ إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ﴾ ( المائدة ٧٢ ) أي قال أهل الجنة جوابا عن هذا الاستجداء : إن الله قد حرم ماء الجنة ورزقها على الكافرين كما حرم عليهم دخولها، فلا يمكن إفاضة شيء منهما عليهم وهم في النار، فإن لهم ماءها الحميم، وطعامها من الضريع والزقوم.
وذكروا من وصف الكافرين أنهم هم الذين كانوا سبب هذا الحرمان وهو أنهم اتخذوا دينهم أعمالا لا تزكي الأنفس فتكون أهلا لدار الكرامة بل هي إما لهو وهو ما يشغل الإنسان عن الجد والأعمال المفيدة بالتلذذ بما تهوى النفس وإما لعب وهو ما لا تقصد منه فائدة صحيحة كأعمال الأطفال، وغرتهم الحياة الدنيا فكان كل همهم التمتع بشهواتها ولذاتها حراما كانت أو حلالا لأنها مطلوبة عندهم لذاتها. وأما أهل الجنة فهم الذين سعوا لها سعيها بأعمال الإيمان التي تزكي الأنفس وترقيها فلم يغتروا بالحياة الدنيا. بل كانت الدنيا عندهم مزرعة الآخرة لا مقصودة لذاتها. لذلك كانوا يقصدون بالتمتع بنعم الله فيها الاستعانة بها على ما يرضيه من إقامة الحق وعمل الخير والاستعداد للحياة الأبدية.
ومن أراد التفصيل في هذا الموضوع فليرجع إلى تفسير ﴿ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ﴾ ( الأنعام ٢٩ ) إلى قوله ﴿ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ﴾ ( الأنعام ٣٢ ) وفيه بحث طويل في اللعب واللهو ونكتة تقديم اللعب على اللهو فيها وفي بعض الآيات وتقديم اللهو على اللعب في سورة الأعراف التي نحن بصدد تفسيرها. وليراجع أيضا تفسير قوله تعالى :﴿ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ ( الأنعام ٧ ) وفيه خمسة أوجه في تفسير اتخاذ الدين لعبا ولهوا.
﴿ فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا ﴾ هذا من قول الله عز وجل مرتب على ما قبله ترتب المسبب على السبب، والمراد باليوم يوم الجزاء وهو محدود بالعمل الذي هو الجزاء وإن لم يعرف له مقدار، والمراد نعاملهم معاملة المنسي الذي لا يفتقده أحد كما جعلوا هذا اليوم منسيا أو كالمنسي بعدم الاستعداد والتزود له، والظاهر أن الكاف هنا للتعليل كقوله :﴿ واذكروه كما هداكم ﴾ ( البقرة ١٩٨ ) أي لهدايته لكم لا للتشبيه على أنه يصح في هذه الجملة على حد المثل : الجزاء من جنس العمل ولكن لا يصح فيما عطف عليه من قوله.
﴿ وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُون ﴾ بل يتعين فيه التعليل فنسيان الله لهم المراد به حرمانهم من نعيم الجنة معلول بنسيانهم لقاء يوم الجزاء. إذ المراد به ترك العمل له وبجحودهم بآيات الله الذي هو عبارة عن الكفر بدينه ورفض ما جاءت به رسله ظلما وعلوا، فينطبق على سائر الآيات الناطقة بأن الجزاء في الدارين على الاعتقاد والعمل جميعا.
ما تقدم من بيان الجزاء وحال أهل الجنة وأهل النار إنذار عام وموضوعه عام إلا أنه ألقي بادئ بدء على أهل مكة ومن وراءهم من العرب، فلهذا جوز المفسرون في ضمائر هاتين الآيتين أن تكون عامة تشمل الأمم السالفة ويكون الكتاب في الأولى منهما للجنس، وأن تكون خاصة بهذه الأمة وموقعها مما قبلها على الوجهين واحد وهو بيان حجة الله على البشر كافة، وإزاحة علل الكفار وإبطال معاذيرهم إن لم يساعدوا لذلك الجزاء بعد إنزال الكتب وإرسال الرسل، والمختار عندنا الثاني.
قال عز وجل :
﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون ﴾ أي ولقد جئنا هؤلاء الناس بكتاب عظيم الشأن كامل التبيان وهو القرآن فصلنا آياته تفصيلا على علم منا بما يحتاج إليه المكلفون من العلم والعمل لتزكية أنفسهم وتكميل فطرتهم، وسعادتهم في معاشهم ومعادهم، حال كونه أو لأجل أن يكون بذلك منار هداية عامة وسبب رحمة خاصة لقوم يؤمون به إيمان إذعان يبعث على العمل لما أمر به والانتهاء عما نهي عنه، وهو بهذا التفصيل العلمي حجة على من لا يؤمنون به إذا لم يهتدوا له، ولم يرضوا لأنفسهم أن تكون أهلا لرحمته.
التفصيل عبارة عن جعل الحقائق والمسائل المراد بيانها مفصولا بعضها من بعض بما يزيل الاشتباه. واختلاف بعضها ببعض في الأفهام وليس معناه ذكر كل نوع منها على حدته ولا التطويل ببيان جميع فروعه، ففي القرآن تفصيل كل شيء نحتاج إليه في أمر ديننا : أسهب حيث ينبغي الإسهاب، وأوجز حيث يكفي الإيجاز.
مثال ذلك في العقائد أن البشر قد فتنوا بالشرك، ولبس على أكثرهم الأمر ففرقوا بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية. إذ ظنوا أن الإيمان بوحدة الرب خالق الخلق ومدبر أموره هو الواجب له الممتنع أن يكون له شريك فيه. دون توحيد الإلهية وهو عبادته وحده. وأنه لا يضر التوجه إلى غيره كما يتوجه إليه بالدعاء وطلب ما يعجز المرء عن نيله من طريق الأسباب، وهذا مخ العبادة ومحضها، وكل من يُدْعَى مثل هذا الدعاء فقد اتُّخِذ معبودا وإلها. وشبهتهم في القديم والحديث أن اتخاذ ولي مع الله بقصد التقرب والتوسل به وشفاعته عنده مما يرضيه وأن المحظور هو الاستغناء به عنه، ومأخذ هذا ما يعهدون من الملوك الظالمين الذي يتقرب إليهم الرعايا الضعفاء المستذلون بوزرائهم، ويتوسلون إليهم بحواشيهم وحجابهم. فلأجل هذه الشبهات قرر القرآن إبطال هذا الشرك وأطنب في تفصيله كل الإطناب.
ومثاله في العبادات العملية أن صفة الصلاة وعدد ركعاتها مما يكفي فيه القدوة والتأسي بالرسول الموكول إليه ببيان التنزيل فلهذا يبينها القرآن على الوجه الذي تؤدى به. ولكنه كرر الأمر بإقامتها أي الإتيان بها على أقوم وجه وأكمله وبين حكمتها وفائدتها في عدة آيات. لأن معنى الإقامة والحكمة في وجوبها مما يغفل عنه أكثر الناس.
ومثاله في العلم الذي هو أساس الإيمان الصحيح والارتقاء في الدين والدنيا أن أكثر البشر كانوا قد ألفوا فيه التقليد والأخذ بأقوال من يثقون بهم من آبائهم ورؤساء دينهم ودنياهم. فلهذا كرر القول ببطلان التقليد وضلال المقلدين، وجهل الظانين والمرتابين، وكرر الحث على النظر والاستدلال والاعتماد على البرهان، والتشنيع على المعرضين عن آيات السماوات والأرض وما فيها من جماد ونبات وحيوان وعن حكمه الخاصة في خلق الإنسان. فبمثل هذا التفصيل كان الإسلام دين العلم والعقل وكان القرآن ينبوع الهدى والحكمة والرحمة، فيا حسرة على المحرومين من رحمته، ويا شقاء الطاعنين في هدايته.
ما تقدم من بيان الجزاء وحال أهل الجنة وأهل النار إنذار عام وموضوعه عام إلا أنه ألقي بادئ بدء على أهل مكة ومن وراءهم من العرب، فلهذا جوز المفسرون في ضمائر هاتين الآيتين أن تكون عامة تشمل الأمم السالفة ويكون الكتاب في الأولى منهما للجنس، وأن تكون خاصة بهذه الأمة وموقعها مما قبلها على الوجهين واحد وهو بيان حجة الله على البشر كافة، وإزاحة علل الكفار وإبطال معاذيرهم إن لم يساعدوا لذلك الجزاء بعد إنزال الكتب وإرسال الرسل، والمختار عندنا الثاني.
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُه ﴾ أي ليس أمامهم شيء ينتظرونه في أمره إلا وقوع تأويله. وهو ما يؤول إليه ما أخبر به من أمر الغيب الذي يقع في المستقبل في الدنيا ثم في الآخرة. فالنظر هنا بمعنى الانتظار. وتأويل الكلام كتأويل الرؤيا هو عاقبتهما، والمآل الذي يتحقق به المراد منهما، وتقدم في أول تفسير آل عمران تفصيل الكلام فيه. روي عن قتادة في تفسير ﴿ هل ينظرون إلا تأويله ﴾ قال عاقبته، وعن السدي قال عواقبه مثل وقعة بدر ويوم القيامة وما وعد فيه من موعد، وعن الربيع بن أنس قال : لا يزال يقع من تأويله أمر حتى يتم تأويله يوم القيامة حين يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيتم تأويله يومئذ إلخ فجمع كلامه كل ما له مآل يُنتَظَر من أخبار القرآن الصادقة التي وعد وأوعد بها كلا من المؤمنين من نصر وثواب، والكافرين من خذلان وعقاب، وغير ذلك من أنباء الغيب.
﴿ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْل ﴾ أي يوم يأتي كل تأويله ونهايته في يوم القيامة وتزول كل شبهة يقول الذين نسوه في الدنيا أي تركوه كالمنسي فلم يهتدوا به ﴿ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقّ ﴾ أي بالأمر الثابت المتحقق فتمارينا به وأعرضنا عنه حتى جاء وقت الجزاء عليه ﴿ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَل غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ أي يتمنون أحد هذين الأمرين، فالاستفهام هنا للتمني ويحتمل أن يكون على أصله فيقع قبل دخول النار وبعد اليأس فيها من الشفعاء، حيث يقولون فيها كما في سورة الشعراء :﴿ فما لنا من شافعين ولا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين ﴾ ( الشعراء ١٠٠- ١٠٢ ) وقد تقدم في سورة الأنعام أنه يقال لهم :﴿ وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ﴾ ( الأنعام ٩٤ ) الآية وإنما يتمنون الشفعاء أي يتساءلون عنهم أولا لأن قاعدة الشرك الأساسية أن النجاة عند الله وكل ما يطلب منه إنما يكون بواسطة الشفعاء عنده. وعندما يتبين لهم الحق الذي جاءت به الرسل وهو أن النجاة والسعادة إنما تكون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، ويعلمون هنالك أن الشفاعة لله وحده، فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ﴾ ( الأنبياء ٢٨ ) يتمنون لو يردون إلى الدنيا، فيعملوا فيها غير ما كانوا يعملون في حياتهم الأولى، لأجل أن يكونوا أهلا لمرضاته تعالى بأن يعملوا بما أمرتهم به رسله عليهم السلام. وقد تقدم في آيتي ٢٧ و٢٨ من سورة الأنعام تمنيهم لو يردون إلى الدنيا فيكونوا من المؤمنين، وأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.
﴿ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُون ﴾ هذا بيان ومن الله تعالى لحالهم وغاية تمنيهم يقول : قد خسروا أنفسهم في الدنيا بتدسيسها وتدنيسها بالشرك والمعاصي، وعدم تزكيتها بالتوحيد والفضائل والأعمال الصالحات، فلم يكن لها حظ في الآخرة، ويومئذ يضل ويغيب عنهم ما كانوا يفترون من خبر الشفعاء كقولهم في معبوداتهم ﴿ هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ ( يونس ١٨ ) فلم يكن لهم من عوض عن أنفسهم. وقد تقدم تفسير خسران النفس في ( س ٦ : ١٢ و٢٠ ) وتفسير ﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ في ( ٦ : ٢٤ ) ونحوها :﴿ وما نرى معكم شفعاءكم إلى قوله وضل عنكم ما كنتم تزعمون ﴾ ( الأنعام ٩٤ ).
بين الله تعالى في الآيتين اللتين قبل هذه الآية وبعد آيات الجزاء والمعاد سبب هلاك الكافرين وخسران أنفسهم بالشرك في ألوهيته، وعبادة من اتخذوهم شفعاء عنده بغير إذنه، وعدم اتباع الرسل الذين دعوهم إلى عبادته وحده بما شرعه لهم، دون ما ابتدعوه أو ابتدعه لهم من قبلهم، ثم قفى على ذلك بخمس آيات جامعة لجملة ما جاءت به الرسل من الدين بإيجاز بليغ، ابتدأها بآية الخلق والتكوين، الهادية إلى حقيقة الربوبية والألوهية برهانا على أصل الدين، فقال عز وجل :﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ﴾.
الرب هو السيد والمالك والمدبر المربي، والإله هو المعبود أي الذي يتوجه إليه الإنسان عند الشعور بالحاجة إلى ما يعجز عنه بكسبه ومساعدة الأسباب له، فيدعوه لكشف الضر أو جلب النفع، ويتقرب إليه بالأقوال والأعمال التي يرجى أن ترضيه وبالنذر له والذبح باسمه أو لأجله، سواء كان الرجاء فيه خاصا به أو مشتركا بينه وبين معبود آخر هو فوقه أو دونه. وأما اسم الجلالة الأعظم ( الله ) فهو اسم لرب العالمين خالق الخلق أجمعين، الذي ينفي الموحدون الحنفاء ربوبية غيره وألوهية سواه، ويقول بعض المشركين إنه أكبر الأرباب أو رئيسهم وأعظم الآلهة أو مرجعهم الذي يشفعون عنده، وكان مشركو العرب وأمثالهم ينفون وجود سواه وإنما يعبدون آلهة تقربهم إليه.
والسماوات والأرض يطلقان في مثل هذا المقام على كل موجود مخلوق أو ما يعبر عنه بعض الناس بالعالم العلوي والعالم السفلي وإن كان العلو والسفل فيهما من الأمور الإضافية. وقد أجمعت الأمم على أن خالق جملة العالم واحد هو رب العالمين، والذين اتخذوا من دون الله أربابا كانوا يقيدون ربوبيتهم بأمور معينة وكل إليهم تدبيرها ويسمونهم بأسماء تدل على ذلك كما تقدم بيانه في تفسير قصة إبراهيم عليه السلام من سورة الأنعام ( ج ٧ ) ويخصون خالق كل شيء باسم كاسم الجلالة ( الله ) في العربية إلا الثنوية الذين قالوا بربين مستقلين أحدهما خالق النور وفاعل الخير، والثاني خالق الظلمة ومصدر الشر.
فالله تعالى يقول في هذه الآية للناس كافة إن ربكم واحد، وهو الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وهو المدبر لأمورهما وحده، فيجب أن تعبدوه وحده فلا يكون لكم إله غيره، وقد تطلق السماوات على ما دون العرش من العالم العلوي ولاسيما إذا وصفت بالسبع.
وأما هذه الأيام الستة فهي من أيام الله التي يتحدد اليوم منها بعمل من أعماله يكون فيه، فإن اليوم في اللغة هو الزمن الذي يمتاز بما يحصل فيه من غيره كامتياز أيامنا بما يحدها من النور والظلام، وأيام العرب بما كان يقع فيها من الحرب والخصام، وأيام الله التي أمر موسى أن يذكر قومه بها، أي أزمنة نعمه عليهم. وقد قال تعالى :﴿ وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ﴾ ( الحج ٤٧ ) ووصف يوم القيامة بقوله :﴿ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ﴾ ( المعارج ٤ ) ولا يعقل أن تكون هذه الأيام الستة من أيام أرضنا، التي يعد ليل اليوم ونهاره منها بأربع وعشرين ساعة من الساعات المعروفة عندنا فإن هذه الأيام إنما وجدت بعد خلق هذه الأرض فكيف يكون أصل خلقها في أيام منها. وقد وصف تعالى خلقها وخلق السماء في سورة ( حم السجدة ) بما يدل على هذه الأيام فقال :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ﴾ ( الشورى ٨- ١١ ).
ووصف أصل تكونهما وحال مادتهما في سورة الأنبياء بقوله :﴿ أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ﴾ ( الأنبياء ٣٠ ) فيؤخذ من هذه الآيات مسائل :
١- إن المادة التي خلقت منها السماوات والأرض كانت دخانا أي مثل الدخان كما قال الراغب في مفردات القرآن، وفسر الجلال الدخان بالبخار المرتفع وذهب البيضاوي إلى أنه جوهر ظلماني، قال : ولعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي ركبت منها.
٢- إن هذا المادة الدخانية كانت واحدة ثم فتق الله رتقها أي فصل بعضها من بعض فخلق منها هذه الأرض والسماوات السبع العلى.
٣- إن خلق الأرض كان في يومين، وتكون اليابسة والجبال الرواسي فيهما، ومصادر القوت وهي أنواع النبات والحيوان في يومين آخرين تتمة أربعة أيام.
٤- أن جميع الأحياء النباتية والحيوانية خلقت من الماء.
فيعلم من هذا أن اليوم الأول من أيام خلق الأرض هو الزمن الذي كانت فيه كالدخان حين فتقت من رتق المادة العامة التي خلق منها كل شيء مباشرة أو غير مباشرة، وأن اليوم الثاني هو الزمن الذي كانت فيه مائية بعد أن كانت بخارية أو دخانية، وأن اليوم الثالث هو الزمن الذي تكونت فيه اليابسة ونتأت منها الرواسي فتماسكت بها، وأن اليوم الرابع هو الزمن الذي ظهرت فيه أجناس الأحياء من الماء وهي النبات والحيوان. فهذه أزمنة لأطوار من الخلق قد تكون متداخلة. وأما السماء العامة وهي العالم العلوي بالنسبة إلى أهل الأرض فقد سوى أجرامها من مادتها الدخانية في يومين أي زمنين كالزمنين اللذين خلق فيهما جرم الأرض، وسيأتي الكلام في هذه السماوات في موضعه.
هذا التفصيل التي يؤخذ من مجموع الآيات يتفق مع المختار عند علماء الكون في هذا العصر من أن المادة التي خلقت منها هذه الأجرام السماوية وهذه الأرض كانت كالدخان، ويسمونها السديم، وكانت واحدة رتقا ثم انفصل بعضها من بعض، ويصورون ذلك تصويرا مستنبطا مما عرفوا من سنن الخلق إذا صح كان بيانا لما أجمل في الآيات وإذا لم يصح كله أو بعضه لم يكن ناقضا لشيء منها. فهم يقولون إن تلك المادة السديمة كانت مؤلفة من أجزاء دقيقة متحركة، وأنها قد تجمع بعضها وانجذب إلى بعض بمقتضى سنة الجاذبية العامة، فكان منها كرة عظيمة تدور على محور نفسها، وإن شدة الحركة أحدثت فيها اشتعالا فكانت ضياء أي نورا ذا حرارة، وهذه الكرة الأولى من عالمنا هي التي نسميها الشمس.
ويقولون أيضا إن الكواكب الدراري التابعة لهذه الشمس فيما نشاهد من نظام عالمنا هذا قد انفتقت من رتقها، وانفصلت من جرمها، وصارت تدور على محاورها مثلها. ومنها أرضنا هذه فقد كانت مشتعلة مثلها. ثم انتقلت من طور الغازات المشتعلة إلى طور المائية في زمن طويل بنظام مقدر بكثرة ما فيها من العنصرين اللذين يتكون منهما بخار الماء. فكانا يرتفعان منها في الجو فيبردان فيكونان بخارا فماء ينجذب إليها ثم يتبخر منها حتى غلب عليها طور المائية. ثم تكونت اليابسة في هذا الماء بتجمع موادها طبقة بعد طبقة، وتولدت فيها المعادن والأحياء الحيوانية والنباتية بسبب حركة أجزاء المادة وتجمع بعضها على بعض بنسب ومقادير مخصوصة. وقد ظهر بالبحث والحفر أن بعض طبقات الأرض خالية من آثار الحيوان والنبات جميعا فعلم أن تكونها كان من قبل وجودهما فيها.
فهذه الأقوال وما فصلوها به مما رأوه أقرب النظرات إلى سنن الكون وصفة عناصره البسيطة وحركتها، وتكون المعادن منها، والمادة الزلالية ذات القوى التي بها كانت أصل العوالم الحية كالتغذي والانقسام والتولد وهي التي يسمونها ( برتوبلاسما ) وصفة تكون الخلايا التي تركبت منها الأجسام العضوية كل ذلك تفصيل لخلق العوالم أطوارا بسنن ثابتة وتقدير منظم لم يكن منه شيء جزافا، وقد أرشد الكتاب الحكيم إلى هذه الحقائق العامة الثابتة في نفسها، وإن لم يثبت كل ما قالوه من فروعها ومسائلها بمثل قوله :﴿ إنا كل شيء خلقناه بقدر ﴾ ( القمر ٥٤ ) وقوله :﴿ وخلق كل شيء فقدره تقديرا ﴾ ( الفرقان ٢ ) وقوله حكاية عن رسوله نوح عليه السلام مخاطبا لقومه ﴿ ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ﴾ ( نوح ١٣- ١٧ ) فمن دلائل إعجاز القرآن أنه يبين الحقائق التي لم يكن يعرفها أحد من المخاطبين بها في زمن تنزيله بعبارة لا يتحيرون في فهمها والاستفادة منها مجملة، وإن كان فهم ما وراءها من التفصيل الذي يعلمه ولا يعملونه يتوقف على ترقي البشر في العلوم والفنون الخاصة بذلك.
وقد سبق علماء الإسلام إلى كثير مما يظن الآن أن علماء الإفرنج قد انفردوا به من مسائل نظام الخلق. ومن ذك قول الفخر الرازي : الأشبه أن هذه المعمورة كانت في سالف الزمان مغمورة في البحار فحصل فيها طين لزج كثير فتحجر بعد الانكشاف وحصل الشهوق بحفر السيول والرياح ولذلك كثرت فيها الجبال. ومما يؤكد هذا الظن أنا نجد في كثير من الأحجار إذا كسرناها أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف والحيتان اه.
يظن بعض قصيري النظر وضعيفي الفكر أن الخلق الأنف ( بضمتين ) الجزاف، الذي لا تقدير فيه ولا تدريج نظام أدل على وجود الخالق وعلى عظمة قدرته، ويقوي هذا الظن عند بعض الناس ما علم من كفر بعض الباحثين في نظام الخلق والتكوين وسننه بالخالق عز وجل وإن كان كفرهم ذهولا واشتغالا عن الصانع بدقة الصنعة، وتجويزا لحصول النظام فيها بنفسه مصادفة واتفاقا. والصواب المعقول أن النظام أدل الدلائل على الإرادة والاختيار والعلم والحكمة في آثار القدرة، وعلى وحدانية الخالق، فإن وحدة النظام في العالم أظهر البراهين على وحدة الرب تعالى. وما لا نظام فيه هو الذي قد يخطر في بال رائيه أن وجوده أمر اتفاقي أو من قذفات الضرورة العمياء أو بفعل أكثر من واحد. وأي عاقل لا يفرق بين كومة من الحصى يراها في الصحراء وبين قصر مشيد فيه جميع ما يحتاج إليه مترفو الأغنياء من حجرات ومرافق، أفيعقل أن يكون النظام العام في العالم الأكبر ووحدة السنن التي قام بها بالمصادفة ؟ أو أثر إرادات متعددة ؟ كلا.
فإن قيل : قد ورد في الأخبار والآثار أن هذه الأيام الستة هي من أيام دنيانا واقتصر عليه بعض مفسرينا. وفي حديث أخرجه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال :" خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل١ وهذا ظاهر في أن الخلق كان جزافا ودفعة واحدة لكل نوع في يوم من أيامنا القصيرة.
فالجواب : أن كل ما روي في هذه المسألة من الأخبار والآثار مأخوذ من الإسرائيليات لم يصح فيها حديث مرفوع، وحديث أبي هر
بعد أن بين تعالى لأمة الدعوة وتوحيد الربوبية وذكرهم بالآيات والدلائل عليها أمرهم بما يجب أن يكون لازما لها من توحيد الإلهية وهو إفراده تعالى بالعبادة التي روحها ومخها الدعاء فقال :
﴿ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ﴾ التضرع تفعل من الضراعة معناه تكلفها أو المبالغة فيها أو إظهارها، واختاره الراغب، وهي مصدر ضرع كخشع إذا ضعف وذل، وتلوى وتململ، ومأخذها من قولهم ضرع البهم إذ تناول ضرع أمه. وإن حاجة الصغير من الحيوان والإنسان إلى الرضاع من أمه لمن أشد مظاهر الحاجة والافتقار بشعور الوجدان إلى شيء واحد لا يتوجه إلى غيره معه، ولذلك خص استعمال التضرع في التنزيل بمواطن الشدة كما تقدم في الآيات ٤٢ و٤٣ و٦٣ من سورة الأنعام ومثله في سورة المؤمنين/ ﴿ ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ﴾ ( المؤمنون ٧٦ ) وذلك أن دعاء الله عند الحاجة ولاسيما في حال الشدة هو مخ العبادة وروحها، وله مظهران : التضرع والابتهال، والخفية والإسرار. أي ادعوا ربكم ومدبر أموركم متضرعين مبتهلين إليه تارة ومسرين مستخفين تارة أخرى أو دعاء تضرع وتذلل وابتهال ودعاء مناجاة وإسرار ووقار.
ولكل من الدعاءيين وقت، وداعية من النفس. فالتضرع بالجهر المعتدل تحسن في حال الخلوة والأمن من رؤية الناس للداعي ومن سماعهم لصوته، فلا جهره يؤذيهم ولا الفكر فيهم يشغله عن التوجه إلى الرب وحده، أو يفسد عليه دعاءه بحب الرياء والسمعة. والإسرار يحسن في حال اجتماع الناس في المساجد والمشاعر وغيرها إلا ما ورد رفع الصوت فيه من الجميع كالتلبية في الحج وتكبير العيد، وهو مشترك لا رياء فيه. ولما كان الليل سترا ولباسا شرع فيه الجهر في قراءة الصلاة وهو للمتهجد في خلوته يطرد الوسواس، ويقاوم فتور النعاس، ويعين على تدبر القرآن، وبكاء الخشوع للرحمن.
هذا هو المتبادر من اللفظ عندنا. ومن مفسري السلف من جعل التضرع والخفية متفقين غير متقابلين بتفسير التضرع بالتخشع والتذلل، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال كنا مع النبي في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم " ١ هذا لفظ مسلم قال النووي ففيه خفض الصوت بالذكر إذا لم تدع حاجة إلى رفعه فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه فإذا دعت حاجة إلى الرفع رفع كما جاءت به أحاديث اه والمتبادر من العبارة أن الإنكار إنما كان على المبالغة في الجهر وناهيك بكونه من جماعة كثيرين، وربما كان بعضهم يظن أن الجهر بتلك الصفة أرضى للرب وأرجى للقبول، وقال تعالى :﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها، وابتغ بين ذلك سبيلا ﴾ ( الإسراء ١١٠ ).
وروي عن الحسن البصري أنه قال :" إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور٢ وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول :﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية ﴾ وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال :﴿ إذ نادى ربه نداء خفيا ﴾ ( مريم ٣ ) اه وقال ابن جريج : يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء ويؤمر بالتضرع والاستكانة.
﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ في الدعاء كما لا يحب ذلك في سائر الأشياء. والاعتداء تجاوز الحدود فيها، وقد نهى عنه مطلقا ومقيدا إلا ما كان انتصافا من معتد ظالم بمثل ظلمه، والعفو عنه أفضل، والاعتداء في كل شيء يكون بحسبه وذلك أن لكل شيء حدا من تجاوزه كان معتديا ﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ﴾ ( البقرة ٢٢٩ ).
وشر أنواع الاعتداء في الدعاء التوجه فيه إلى غير الله ولو ليشفع له عنده، لأن الحنيف من يدعو الله تعالى وحده، فلا يدعو معه غيره، كما قال :﴿ فلا تدعوا مع الله أحدا ﴾ ( الجن ١٨ ) أي لا ملكا ولا نبيا ولا وليا... ومن دعا غير الله فيما يعجز هو وأمثاله عنه من طريق الأسباب كالشفاء من المرض بغير التداوي وتسخير قلوب الأعداء والإنقاذ من النار ودخول الجنة وما أشبه ذلك من المنافع ودفع المضار فقد اتخذه إلها لأن الإله هو المعبود و " الدعاء هو العبادة " ٣ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وابن أبي شيبة وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن النعمان بن بشير وأبو يعلى عن البراء رضي الله عنه، والمعنى : أنه الركن الأعظم في العبادة على نحو " الحج عرفة " ٤. وفي معنى هذا التفسير حديث أنس عند الترمذي مرفوعا " الدعاء مخ العبادة " ٥ وإسناده ضعيف يقويه تفسيره للصحيح وقد يفسرونه بالعبادة في جملتها دون أفرادها.
وقال تعالى :﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ﴾ ( الإسراء٥٦-٥٧ ) جاء في روايات عن ابن عباس رضي الله عنه أن هذا نزل فيمن عبدوا الملائكة والمسيح وأمه وعزيرا والشمس والقمر أي كلهم عاجز عن دفع الضر أو تحويله عنكم، ومعنى الآية الثانية أن أولئك الذين يدعونهم هم عبيد لله يبتغون إليه الوسيلة والزلفى أيهم أقرب أي أقربهم وأفضلهم كالملائكة والمسيح يعبد الله ويدعوه طلبا للوسيلة عنده، ويرجون رحمته ويخافون عذابه، فكيف يدعون معه أو من دونه ؟ وروى الترمذي وابن مردويه واللفظ له عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سلوا الله لي الوسيلة " قالوا وما الوسيلة ؟ قال :" القرب من الله عز وجل " ثم قرأ ﴿ يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ﴾٦ ( الإسراء ٥٧ ) وابتغاء ذلك يكون بدعائه وعبادته بما شرعه على لسان رسوله دون غيره، والآيات المنكرة على المشركين دعاء غير الله وكونه عبادة لهم وشركا في الله كثيرة، ولكن المضلين للعوام من المسلمين يقولون لهم لا بأس بدعائكم للأولياء والصالحين عند قبورهم، والتضرع والخشوع عندهم، فإن هذا توسل بهم إلى الله ليقربوهم منه بشفاعتهم لكم عنده لا عبادة لهم.
وهذا تحكم في اللغة وجهل بها، فأهل اللغة كانوا يسمون ذلك عبادة، والوسيلة في الدين هي غاية للعبادة فإن معناها القرب منه تعالى، والتوسل طلب ذلك فهو التقرب منه بما يرتضيه، وإنما يكون بما شرعه من عبادتك له دون عبادة غيرك ﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ ( النجم ٣٩ ) والذين عبدوا الملائكة والأنبياء والأولياء كانوا يقصدون بدعائهم أن يقربوهم إلى الله زلفى وأن يشفعوا لهم عنده، ويعتقدون أنهم لا يملكون نفعهم ولا كشف الضر عنهم بأنفسهم، بل ذلك هو الله الذي يجير ولا يجار عليه. وآيات القرآن صريحة في ذلك.
نعم إن طلب الدعاء من المؤمنين مشروع من الأحياء دون الأموات، ويسمى في اللغة توسلا إلى الله لأنه قد شرعه، ومنه توسل عمر والصحابة بالعباس، بدلا من النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وإنما كان ذلك بصلاة الاستسقاء وما يشرع بعدها من الدعاء. فإذا قيل لهم هذا، قالوا إن ما ورد من ذم دعاء غير الله والتقرب به إلى الله خاص بالمشركين، وما يعاب من المشركين لا يعاب من المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فأنتم تحملون الآيات في المشركين على المؤمنين. وهذا القول جهل فاضح منهم، فإن الله تعالى ما ذم الشرك إلا لذاته، وما ذم المشركين إلا لأنهم تلبسوا به، وإن الذين أشركوا من أهل الكتاب ما كانوا إلا مؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ولكن ما طرأ عليهم من الشرك أحبط إيمانهم، وكذلك يحبط إيمان من أشرك من المسلمين بدعاء غير الله، أو بغير ذلك من عبادة سواه، وإن لم يشرك بربوبيته بأن كان يعتقد أنه هو الخالق المدبر لأمر العباد وحده، فهذا الإيمان عام قل من أشرك فيه، فتوحيد الإلهية هو إخلاص العبادة لله والتوجه فيها له وحده دون غيره من الأولياء والشفعاء المسخرين بأمره ﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ﴾ ( البينة ٥ ).
ومن الاعتداء في الدعاء ما هو خاص باللفظ كالتكلف والسجع والمبالغة في رفع الصوت فقد صح النهي عن ذلك، ومنها ما هو خاص بالمعنى وهو طلب غير المشروع من وسائل المعاصي ومقاصدها كضرر العباد، وأسباب الفساد، وطلب المحال الشرعي أو العقلي كطلب إبطال سنن الله في الخلق وتبديلها أو تحويلها، ومنه طلب النصر على الأعداء، مع ترك وسائله كأنواع السلاح والنظام، والغنى بدون كسب، والمغفرة مع الإصرار على الذنب. والله تعالى يقول :﴿ فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ﴾ ( فاطر ٤٣ ).
روي عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ إنه لا يحب المعتدين ﴾ قال : في الدعاء ولا في غيره. وقال أبو مجلز : لا يسأل منازل الأنبياء. وروى أحمد وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص أنه سمع ابنا له وهو يقول : اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها واستبرقها ونحوا من هذا وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها. فقال : لقد سألت الله خيرا كثيرا وتعوذت به من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" سيكون قوم يعتدون في الدعاء وفي لفظ يعتدون في الطهور والدعاء " ٧ وقرأ هذه الآية.
٢ الزور بالفتح: جماعة الزائرين كالشرب والركب..
٣ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٢ باب ١٦ وسورة ٤٠ وابن ماجه في الدعاء باب ١ وأحمد في المسند ٤/ ٢٦٧- ٢٧١- ٢٧٦..
٤ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٢ باب ٢٢ وأبو داود في المناسك باب ٦٨ وابن ماجه في المناسك باب ٥٧ والدرامي في المنسك باب ٥٤..
٥ أخرجه الترمذي في الدعاء باب ١..
٦ أخرجه الترمذي في المناقب باب ١ وأحمد في المسند ٢/ ٢٦٥..
٧ أخرجه أبو داود في الوتر باب ٢٣ والطهارة باب ٤٥ وابن ماجه فيلا الدعاء باب ١٢ وأحمد في المسند ١/ ١٧٢- ١٨٣- ٤/٨٦- ٨٧- ٥/٥٥..
والبشر سادة هذه الأرض، وهم منها كالقلب من الجسد والعقل من النفس، فإذا صلحوا صلح كل شيء وإذا فسدوا فسد كل شيء. وأشد الفساد الكبر والعتو، الداعيان إلى الظلم والعلو، ألم تر إلى هؤلاء الإفرنج كيف أصلحوا كل ما في الأرض من معدن ونبات وحيوان، وعجزوا عن إصلاح نفس الإنسان، بمعاداتهم أكمل الأديان، فحولت دولهم كل ما اهتدى إليه علماؤهم من وسائل العمران، إلى إفساد نوع الإنسان، وتعادي شعوبه بالتنازع على الملك والسلطان، وإباحة الكفر والفسوق والعصيان وبذل ثروة العاملين من شعوبهم، في سبيل التنكيل بالمخالفين لهم، والجناية على أعدائهم ولو بالجناية على أنفسهم.
روى أبو الشيخ عن أبي بكر بن عياش أنه سئل عن قوله :﴿ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ﴾ فقال إن الله بعث محمدا إلى أهل الأرض وهم في فساد فأصلحهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المفسدين في الأرض اه. والإفساد بعد الإصلاح أظهر قبحا من الإفساد على الإفساد، فإن وجود الإصلاح أكبر حجة على المفسد إذ هو لم يحفظه ويجري على سننه. فكيف إذا هو أفسده وأخرجه عن وضعه ؟ ولذلك خصه بالذكر، وإلا فالإفساد مذموم ومنهي عنه في كل حال، فحجة الله على الخلوف والخلائف من المسلمين المفسدين، لما كان من إصلاح السلف الصالحين، أظهر من حجته على الكافرين، الذين هم أحسن حالا من سلفهم الغابرين.
﴿ وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ أعاد الأمر بالدعاء بقيد آخر بعد أن وسط بينهما النهي عن الإفساد، للإيذان بأن من لا يعرف نفسه بالحاجة ولافتقار إلى رحمة ربه الغني القدير وفضله وإحسانه ولا يدعوه تضرعا وخفية ولا خوفا من عقابه وطمعا في غفرانه، فإنه يكون أقرب إلى الإفساد منه إلى الإصلاح إلا أن يعجز والمعنى : وادعوه خائفين أو ذوي خوف من عقابه إياكم على مخالفتكم لشرعه المصلح لأنفسكم ولذات بينكم، وتنكبكم لسننه المطردة في صحة أجسامكم وشؤون معايشكم وهذا العقاب يكون بعضه في الدنيا وباقيه في الآخرة وطامعين في رحمته وإحسانه في الدنيا والآخرة.
والقول الجامع في حال النفس عند الدعاء أن تكون غارقة في الشعور بالعجز والافتقار إلى الرب القدير الرحيم، الذي بيده ملكوت كل شيء، يصرف الأسباب، ويعطي بحساب وبغير حساب، فإن دعاء الرب الكريم بهذا الشعور يقوي أمل النفس، ويحول بينها وبين اليأس، عند تقطع الأسباب، والجهل بوسائل النجاح، ولو لم يكن للدعاء فائدة إلا هذا لكفى، فكيف وهو مخ العبادة ولبابها، وإجابته مرجوة بعد استكمال شروطه وآدابه، وأولها عدم الاعتداء فيه، فإن لم تكن بإعطاء الداعي ما طلبه، كانت بما يعلم الله أنه خير له منه. ولا أرى بأسا بأن أقول غير مبال بإنكار المحرومين : إنني قلما دعوت الله دعاء خفيا شرعيا رغبة ورهبة إلا واستجاب لي، أو ظهر لي ولو بعد حين أن عدم الإجابة كان خيرا منها.
﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِين ﴾ أي أن رحمته تعالى الفعلية التي يعبر عنها بالإحسان قريبة من المحسنين في أعمالهم المتقنين لها لأن الجزاء من جنس العمل. فمن أحسن في العبادة نال حسن الثواب ومن أحسن في أمور الدنيا نال حسن النجاح، ومن أحسن في الدعاء استجيب له، أو أعطي خيرا مما طلبه والجملة تعليل للأمر بالدعاء قبلها، مبينة لفائدة الدعاء العامة كما قررنا، فهي أعم من قوله تعالى :﴿ ادعوني أستجب لكم ﴾ ( غافر ٦٠ ).
والإحسان مطلوب في كل شيء بهدي دين الفطرة. الداعي لحسنتي الدنيا والآخرة. وجزاؤه الإحسان في كل شيء بحسبه. قال عز وجل :﴿ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ﴾ ( الرحمن ٦٠ ) ؟ كما أن الإساءة محرمة في كل شيء وجزاؤها من جنسها. قال عز وجل :﴿ ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ﴾ ( النجم ٣١ ) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :" إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته " ١ رواه مسلم عن شداد بن أوس رضي الله عنه فالإحسان واجب في دين الإسلام حتى في قتال الأعداء، لأنه في حكمه من الضرورات التي تقدر بقدرها، ويتقي ما يمكن الاستغناء عنه من شرها، ومنه قوله تعالى :﴿ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ﴾ ( محمد ٤ ) أي فإذا لقيتم أعداءكم الكفار في المعركة فقاتلوهم بضرب الرقاب لأنه أسرع إلى القتل وأبعد عن التعذيب بمثل ضرب الرأس مثلا وناهيك بتهشيم الرؤوس وتقطيع الأعضاء في عهد التنزيل الذي لم يكن فيه أطباء جراحة يخففون آلامها حتى إذا ظهر لكم الغلب عليهم بالإثخان فيهم فاتركوا القتل، واعمدوا إلى الأسر، ثم إما أن تمنوا على الأسرى بالعتق منا، وإما أن تفدوا بهم من أسر منكم فداء.
وكذلك الإحسان في الحيوان والرفق به، ومنه ذبح البهائم للأكل يجب أن يحسن فيها بقدر الطاقة حتى لا يتعذب الحيوان، ولهذا حرم الله الموقوذة وهي التي تضرب بغير محدد حتى تنحل قواها وتموت.
ومن العبرة في الآية أن الماديين من البشر يعدون الرحمة ضعفا في النفس تجب مقاومته بالتعليم والتربية أي بإفساد الفطرة الإلهية التي أودع فيها الرب الرحيم جزءا من مائة جزء من رحمته يتراحم بها خلقه ويتعاطفون، وقاعدة التربية المادية : أن أمور الحياة كلها تجارة يقصد بها الربح العاجل، فإذا رأيت امرأ أو امرأة أو طفلا أو عشيرة أو أمة عرضة للآلام والهلاك ولم يكن لك ربح وفائدة خاصة من دفع الهلاك عنهم فلا تكلف نفسك ذلك، وإن كان لك أو لقومك ربح من ظلم فرد من الأفراد أو شعب من الشعوب وإشقائه بالاستعباد وإفساد الأخلاق وإرهاق الأجساد، فافعل ذلك وتوسل إليه بكل الوسائل التي يدلك عليها العلم وتمكنك منها القوة، بل هم يربون أولادهم على أن لا ينالوا منهم شيئا إلا بعمل يعملونه لهم، وليطبعوا في أنفسهم ملكة طلب الربح من كل عمل، وهذا حسن إذا لم ينزعوا منها عواطف الرحمة وحب الإحسان بمراغمة الفطرة وإفسادها.
على هذه القاعدة قام بناء الاستعمار الإفرنجي في العالم فكل دولة أوروبية تستولي على شعب من الشعوب تعنى أشد العناية بإفساد أخلاقه وإذلال نفسه واستنزاف ثروته، وكل ما تعمله في بلاده من عمل عمراني كتعبيد الطرق وإصلاح ري الأرض فللأجل توفير ربحها منها، وتمكينها من سوق جيوشها التي تستعبد بها أهلها، وقد قرأنا في هذا العام مقالات لسائحة أميركانية طافت كثيرا من المستعمرات الأوروبية في الشرق الأقصى، وصفت إذلال المستعمرين فيها للأهالي بنحو جرهم لعرباتهم والدوس على رقابهم وظهورهم، وإفساد أنفسهم وأجسادهم بإباحة شرب سموم الأفيون والكحول ( الخمور الشديدة السم )، وسلب أموالهم بوسائل نظامية، فذكرت ما تقشعر منه جلود المؤمنين، وتشمئز نفوس الرحماء المهذبين، ومن ذا الذي يستغرب منهم هذا بعد أن علم ما أقدموا عليه في حرب بعضهم لبعض في بلادهم ( أوروبة ) من القسوة والتخريب والتدمير ؟ فهم يرون أن قتلى هذه الحرب بلغت عشرة ملايين شاب والمشوهين المعطلين من الجراح زهاء ثلاثين مليونا، وأن نفقات التدمير قدرت بخمسمائة ألف مليون جنيه إنكليزي، وهي لو أنفقت على إصلاح كل مماليك المعمور لكفت.
ولا تزال الدولة الظافرة المسلحة ترهق الذين لا سلاح بأيديهم وتحاول الإجهاز عليهم فأين هذا من قتال الإسلام وفتوحه المبني على قاعدة كون الحرب ضرورة تقدر بقدرها، ويفترض الإحسان والرحمة بقدر الإمكان فيها ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن مر بامرأتين من اليهود على قتلاهما " أنزعت الرحمة من قلبك حتى مررت بالمرأتين على قتلاهما ؟ " وقد شهد لنا المؤرخون المنصفون من الإفرنج بذلك حتى قال بعضهم : ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب يعني المسلمين منهم. اللهم ارحمنا واجعلنا من الراحمين، وأجرنا من شر المفسدين القساة الظالمين.
ومن مباحث اللفظ في الآية أن كلمة قريب وقعت خبرا للرحمة ومن قواعد النحو أن يكون الخبر مطابقا للمبتدأ في التذكير والتأنيث بأن يقال هنا قريبة، وقد ذكروا في تعليل هذا التذكير هنا وتوجيه بضعة عشر وجها ما بين لفظي ومعنوي، بعضها قريب من ذوق اللغة وبعضها تكلف ظاهر. ( منها ) أن التذكير والتأنيث هنا لفظي لا حقيقي فلا تجب فيه المطابقة، وفيه أن الأصل فيه المطابقة فلا تترك في الكلام الفصيح إلا لنكتة ( ومنها ) ولك أن تجعله نكتة جامعة بين التوجيه اللفظي والمعنوي أن معنى الرحمة هنا مذكر قيل هو المطر، وهو ضعيف، والصواب أن معناها الإحسان العام لأنها في هذا المقام صفة فعل لا صفة ذات، إذ لا معنى لقرب الصفات الإلهية من المخلوقين فيكون المعنى أن إحسان الله قريب من المحسنين، ويؤكد ما فيه من التناسب بين الجزاء والعمل كما قلنا في تفسير الجملة، ويؤيده حديث " الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " ٢ رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم من حديث عبد الله بن عمر، ووقع لنا مسلسلا عن شيخنا القاوقجي على أنه قد ورد في التنزيل ( لعل الساعة قريب ) و( لعل الساعة تكون قريبا ) وقد يعلله فيهما برعاية الفاصلة من يقول بها وهم الجمهور ( ومنها ) أن قريب في هذه الآيات معنى اسم المفعول فيستوي فيه المذكر والمؤنث.
وقد يقال إن المراد أنه تعالى قريب برحمته من المحسنين، كما أنه قريب بعلمه وإجابته من الداعين. وكثيرا ما يعطى المضاف صفة المضاف إليه وضميره. ومهما يقل فالاستعمال قد ورد في أفصح الكلام العربي وأعلاه، فمن أعجبه شيء مما عللوه به لطرد قواعدهم قال به، ومن لم يعجبه منها شيء فليقل إن هذا من السماعي، وما هو ببدع في هذه اللغة ولا في غيرها.
٢ أخرجه أبو داود في الأدب باب ٥٨ والترمذي في البر باب ١٦..
بعد أن بين الله تعالى جده أن رحمته العامة قريب من المحسنين في عبادتهم وفي سائر أعمالهم ذكرنا بما نغفل عنه كثيرا من التفكر والتأمل في أظهر أنواع هذه الرحمة وهو إرسال الرياح وما فيها من منافع الخلق، وإنزال المطر الذي هو مصدر الرزق، وسبب حياة كل حي في هذه الأرض، وما فيه من الدلالة على قدرته تعالى على البعث، وما يستحقه عليه من الحمد والشكر فقال :
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه ﴾ الجملة معطوفة على ما بين به تعالى تدبيره لأمر العالم في إثر إثباته لخلق السماوات والأرض، واستوائه على العرش، في قوله :﴿ يغشي الليل النهار ﴾ إلخ وما بينهما من قبيل الاعتراض المقصود بالذات، من التذكير بهذه الآيات، وهو إخلاص العبادة له وحده بالفعل والترك المعبر عنه بالنهي عن الإفساد في الأرض. وهو شامل لجميع ما حرمه الإسلام.
الريح الهواء المتحرك، وهي مؤنثة في الأثر وقد تذكر بمعنى الهواء، وأصلها روح بالواو وقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها ( كالميزان أصلها موازن لأنها من الوزن ) وجمعها رياح وأرواح وكذا أرياح وهو شاذ. والهواء من أعظم نعم الله تعالى على الأحياء، إذ وجوده شرط لحياة كل نبات وحيوان، فلو رفعه الله تعالى من الأرض لمات كل حيوان وإنسان في طرفة عين ولا تتم منافعه إلا بحركته التي يكون بها ريا، ومن أهمها فعله في توليد المطر الذي هو موضوع الآية.
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ( الريح ) مفردة والباقون الرياح بالجمع، ورسمت في المصحف الإمام بغير ألف لتحتمل القراءتين، ولذلك أمثال، والرياح عند العرب أربع بحسب مهابها من الجهات الأربع : الشمال والجنوب وسميتا باسم جهة مهبهما، والثالثة الصبا والقبول وهي الشرقية، والرابعة الدبور وهي الغربية. وأهل الحجاز ينسبون ريح الصبا إلى نجد، والجنوب إلى اليمن، والشمال إلى الشام، والريح التي تنحرف عن هذه المهاب الأصلية فتكون بين ثنتين منها تسمى النكباء مؤنث الأنكب وهي من قولهم نكب عن الشيء أو عن الطريق نكبا ونكوبا إذا انحرف وتحول عنه، ومنه ﴿ وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ﴾ ( المؤمنون ٧٤ ) وإذا هبت الرياح من مهاب ونواح مختلفة سموها المتناوحة. ومن المأثور عن العرب أن الرياح تشترك في إثارة السحاب الممطر فيقولون : إن الصبا تثيره والشمال تجمعه، والجنوب تدره والدبور تفرقه قال ابن دريد في وصف سحاب ممطر دعا لبلاده به :
جون أعارته الجنوب جانبا | منها وواصت صوبه يد الصبا |
إذا خبت بروقه عنت له | ريح الصبا تثير منه ما خبا |
وإن ونت رعوده حدا بها | حادي الجنوب فحدت كما حدا |
وقال الراغب كغيره إن عامة المواضع التي ذكر الله تعالى فيها إرسال الريح بلفظ الواحد فعبارة عن العذاب وكل موضع ذكر بلفظ الجمع فعبارة عن الرحمة، وذكر بعض الشواهد، ومن استقرأ الآيات في ذلك رأى أن الجمع لم يذكر إلا في بيان آيات الله أو رحمته ولاسيما رحمة المطر، وأما الريح المفردة فذكرت في عذاب قوم عاد في عدة سور، وفي ضرب المثل للعذاب كقوله تعالى :﴿ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته ﴾ ( آل عمران ١١٧ ). وقوله :﴿ أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ﴾ ( إبراهيم ٢١ ) وقوله :﴿ أو تهوي به الريح في مكان سحيق ﴾ ( الحج ٢٩ ) ونحوه التهديد في قوله :﴿ أو يرسل عليكم قاصفا من الريح ﴾ ( الإسراء ٦٩ ) الآية ولكنها وردت في الأمرين بالتقابل في قوله تعالى :﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف ﴾ ( يونس ٢٢ ) الآية، ووردت في مقام الرحمة والمنة بتسخيرها لسليمان في سورة الأنبياء وسبأ وص.
وقوله تعالى :﴿ بشرا ﴾ قرأه عاصم بضم الموحدة وسكون الشين مخفف بشر بضمتين وهو جمع بشير كنذر جمع نذير، وفي رواية عنه بضمتين على الأصل وقرأ ابن عامر بشرا بالتخفيف حيث وقع من القرآن وحمزة والكسائي نشرا بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان.
﴿ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا ﴾ قال في الأساس : وأقله واستقل به رفعه. وفي المصباح : وكل شيء حملته فقد أقللته، وأقللته عن الأرض رفعته أيضا قيل إنه مأخوذ من القلة بالكسر لقولهم أقله واستقله أي وجده قليلا، والأظهر أنه من : أقل القلة وهي بالضم الجرة فإنما سميت قلة لأن الرجل يقلها أي يحملها أو يرفعها بيده عن الأرض، والسحاب والغيم وهو اسم جنس يفرق بينه وبين واحده وبالتاء فيقال سحابة وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ويجمع، والثقال منه المتشبعة ببخار الماء والمعنى أن الرب المدبر لأمور الخلق هو الذي يرسل الرياح بين يدي رحمته لعباده بالمطر أي قدامها مبشرات بها وناشرات لأسبابها حتى إذا حملت سحابا ثقالا ورفعته في الهواء.
﴿ سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّت ﴾ أي سيرناه وسقناه بها إلى بلد ميت أي أرض لا نبات فيها فإنما حياة الأرض بالنبات الحي فيها " فاللام بمعنى إلى " كما في آية فاطر ﴿ والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور ﴾ ( فاطر ٩ ) قال في المصباح كغيره : ويطلق البلد والبلدة على كل موضع من الأرض عامرا كان أو خلاء، وفي التنزيل ( إلى بلد ميت ) أي إلى أرض ليس فيها نبات ولا مرعى فنخرج ذلك بالمطر فترعاه أنعامهم فأطلق الموت على عدم النبات والمرعى وأطلق الحياة على وجودهما اه أقول : وغلب عرف الناس بعد ذلك في تخصيص البلد بالمكان الآهل بالسكان في المباني.
﴿ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء ﴾ أي فأنزلنا بالسحاب الماء، فالباء للآلة أو السببية، أو بالبلد فتكون الباء للظرفية أي فيه، أو بالرياح، والمختار هنا كون الباء للسببية فإن الريح هي التي تثير السحاب من سطح البحر وغيره من المياه أو الأرض الرطبة وترفعه في الجو وهي سبب تحول البخار إلى ماء ما بتبريدها له فبذلك يصير البخار ماء أثقل من الهواء فيسقط من خلاله إلى الأرض بحسب سنة الله في جاذبية الثقل. كما قال تعالى في سورة الروم :﴿ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله ﴾ ( الروم ٤٦ ) وفي سورة النور ﴿ ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله ﴾ ( النور : ٤٢ ) الودق المطر أي يخرج من خلال السحاب وأثنائه، وكل ما ورد في القرآن من إنزال الماء من السماء فمراد بالسماء فيه السحاب، لأن هذا التفصيل صريح في ذلك والسماء اسم لكل ما علا الإنسان ويفسر بالقرائن، ومن الخطأ أن يظن أن الماء ينزل من السماء المعنوية التي هي مسكن الملائكة على السحاب الذي هو كالغربال لها وإن قال به بعض المؤلفين، فإن القرآن يصرح بخلافه، وما صرح به القرآن هو الذي أثبته العلم والاختبار، فإن سكان الجبال الشامخة يبلغون في توقلها السحاب الممطر ثم يتجاوزونه إلى ما فوقه فيكون دونهم، والعرب تسمي السحاب سماء تسمية حقيقية ثم أطلقت لفظ السماء على المطر نفسه، فكانت تقول جاء مكان كذا في إثر سماء وقال الشاعر :
إذا نزل السماء بأرض قوم | رعيناه وإن كانوا غضابا١ |
﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَات ﴾ عطف كلا من إنزال الماء على سوق السحاب ومن إخراج النبات على إنزال الماء بالفاء الدالة على تعقيب، وهو يتفاوت بتفاوت الأشياء فإنزال الماء يعقب سوق السحاب الثقال وجعله كسفا أو ركاما بدقائق معدودة قلما يتجاوزها إلى الساعات، وسبب السرعة فيه شدة الريح، ويقابله سبب البطء وهو ضعفها. وأما إخراج النبات بسبب هذا الماء فأمد التعقيب فيه أوسع فإنه يكون بعد أيام تختلف قلة وكثرة باختلاف الأقطار في الحرارة والبرودة. ومن التعقيب ما يكون في أشهر أو سنين فمن الأول قولهم : تزوج فولد له فهو يصدق بمن يولد له بعد مضي مدة الحمل الغالبة وهي تسعة أشهر بالتعقيب، ولعله لا ينافي التعقيب فيه زيادة شهر أو شهرين أو ثلاثة.
والثمرات جمع ثمرة وهي واحدة الثمر ( بتحريك كل منهما ) والثمر يجمع على ثمار كجبل وجبال وجمع الثمار ثمر ككتاب وكتب وهو يجمع على أثمار كعنق وأعناق قال في المصباح : وثمر العوسج وثمر الدوم وهو المقل كما يقال ثم النخل وثمر العنب اه وهذا أصح وأوضح من قول الراغب : الثمر اسم لكل ما يتطعم من أعمال الشجر. والمراد بكل الثمرات جميع أنواعها على اختلاف طعومها وألوانها وروائحها. وليس المراد أن كل بلد ميت ينزل الله فيه الماء يخرج به جميع الثمرات التي خلقها في الأرض، فقد علم من الآية التالية ومن سنن الله تعالى في الأرض ومن المشاهدة أن البلاد تختلف أرضها فيما تخرجه وفي الإخراج فالاستغراق لا يصح إلا بالنسبة إلى أرض الله كلها. ويكفي في كل أرض تخرج أنواعا مختلفة تدل على قدرة الله تعالى وعلمه وفضله وإحسانه. قال تعالى :{ وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء
﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا ﴾
قال ابن عباس هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، أي والبر والفاجر، ومعناه أن الأرض منها الطيبة الكريمة التربة التي يخرج نباتها بسهولة، وينمي بسرعة ويكون كثير الغلة طيب الثمرة ومنها الخبيثة التربة كالحرة والسبخة التي لا يخرج نباتها على قلته وخبثه إن أنبتت إلا بعسر وصعوبة. قال الراغب : النكد كل شيء خرج إلى طالبه بتعسر يقال رجل نكد ونكد ( أي بفتح الكاف وكسرها ) وناقة نكداء : طفيفة الدر صعبة الحلب وذكر الآية. وقوله والذي خبث حذف موصوفه أي والبلد الذي خبث وهو دون الخبيث في الخبث. فإن صيغة فعيل من الصيغ التي تدل على الصفات الكاملة الثابتة. والنكد قد يكون فيما دون هذا من الخبث. ومن دقة البلاغة في هذين التعبيرين دلالتهما على الترغيب في طلب الرسوخ في صفات الكمال، وتجنب أدنى الخبث والنقص، وبين ذلك درجات.
روى أحمد والشيخان والنسائي من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب١ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان٢ لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " ٣ وقد فسر صلى الله عليه وسلم القسم الأول وهو الذي نفع وانتفع كالهادي والمهتدي والثالث الذي لم ينفع ولم ينتفع كالجاحد وسكت عن الثاني وهو الذي انتفع غيره بعلمه من دونه، كالعالم الذي يعلم غيره ولا يعمل بعلمه المشبه بالأرض التي تمسك الماء ولا تنبت وحاله معلومة بل له أحوال فمنه المنافقون ومنه المفرطون، ويدل المثلان على أن الوراثة سبب فطري لهذا التفاوت في الاستعداد، ولهذا يحسن أن تفضل المرأة التقية الكريمة الأخلاق الطاهرة الأعراق على المرأة الجميلة إذا كانت من بيت دنيء وكذا على المرأة المتعلمة غير الكريمة الخلق ولا الطيبة العرق، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالمعادن، وشبه المرأة الحسناء في المنبت السوء بخضراء الدمن أي حشيش المزبلة.
ومن اختبر الناس رأى أن المعروف يخرج من الطيبين عفوا بلا تكلف، وأن الخبيثين لا يخرج منهم الخير والمعروف ولا الحق الواجب عليهم إلا نكدا، بعد إلحاق أو إيذاء في الطلب أو إدلاء إلى الحكام ومراوغة في الخصام.
﴿ كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُون ﴾ أي كذلك شأننا في هذا التصريف البديع المثال الموضح بالأمثال نصرف الآيات الدالة على علمنا وحكمتنا ورحمتنا بالإتيان بها على أنواع جلية تبين مرادنا لقوم يشكرون نعمنا، باستعمالها فيما تتم به حكمتنا، فيستحقون مزيدنا منها، وتثويبنا عليها.
عبر بالشكر في الآية التي موضوعها الاهتداء بالعلم والعمل والإرشاد، وبالتذكر في الآية التي موضوعها الاعتبار والاستدلال.
الهواء جسم لطيف مما يعبر عنه علماء الكيمياء بالغاز لا لون له ولا رائحة مركب تركيبا مزجيا من عنصرين غازيين أصليين يسمون أحدهما ( الأكسجين ) وخاصته توليد الاحتراق والاشتعال وإحداث الصدأ في المعادن وهو سبب حياة الأحياء كلها من نبات وحيوان وإنسان، وثانيهما ( الآزوت- أو النيتروجين ) وهو أخف عناصر المادة وزنا وسيأتي ذكر بعض خواصه، ومن عناصر أخرى ( كالإيدروجين ) وهو المولد للماء ( وحمض الكربون ) وهو أصل مادة الفحم وغازه السامّ ( والهليوم والنيون والكريتون ) وهي عناصر اكتشفت من عهد قريب، وتكثر فيه أنواع الغازات والأبخرة التي تنفصل من مواد الأرض وتختلف كثرة هذه المواد وقلتها باختلاف القرب والبعد من الأرض، وهو محيط بها إلى مسافة ٣٠٠ كيلومتر بالتقريب.
يسمون الهواء عنصر الحياة فلولاه لم توجد الحياة الحيوانية ولا النباتية على هذه الأرض فالإنسان وسائر أنواع الحيوان تستنشق الهواء فيطهر ما فيه من الأكسجين دماءها من الكربون السام فيخرج بالتنفس إلى الجو فيتغذى به النبات. ولو احتبس ما يتولد في دم الحيوان من السموم الآلية في صدره لأماته مسموما كما يموت الغريق بعدم دخول الهواء في رئتيه، فمثله في ذلك كمثل مصباح زيت البترول الذي يمد أكسجين الهواء اشتعاله، ألم تر أنك إذا وضعت على فوهة زجاجة المصباح غطاء محكما ينطفئ نوره سريعا ؟ ولا يستثنى من ذلك الحيوانات المائية كالسمك فإن الهواء الذي يخالط الماء كاف لها. والنبات يمتص الكربون السام من الهواء فيتغذى به كما تقدم ويدع الأكسجين للحيوان، فكل منهما يأخذ منه حظه، ويفيد في الحياة صنوه كما قلناه في المقصورة :
والباسقـات رفعـت أكفــها | تستنزل الغيث وتطلب الندى٤ |
تمتلج الكربون من ضرع الهوا | تؤثرنا بالأكسجيـن المنتقى٥ |
ثم إن السموم التي تنحل في البدن يخرج قسم عظيم منها من مسامه بخارا أو عرقا فيمتصها الهواء ويدفعها إلى الجو الواسع، ولو انسدت مسام البدن لما كان الهواء الذي يدخل الرئتين كافيا لوقاية الإنسان والحيوان من ميتة التسمم.
ومن منافع الهواء التي يغفل أكثر الناس عن شكر الرب عليها تطهيره سطح الأرض التي نعيش عليها من الرطوبات القذرة وما يتولد فيها من جنة الأحياء الضارة " ميكروبات الأمراض " فهو يمتصها ويدفعها في هذا الجو العظيم فيتفرق شملها وتزول قوة اجتماعها وقد تموت محترقة بأشعة الشمس فيه، وينبغي اتقاء الغبار الذي يحملها فقد ورد في الحديث " تنكبوا الغبار فإن منه النسمة " ٦ وهي ذات النفس الحية. بل لولا الهواء لتعذر أن يجف ثوب غسل بل لكانت الأرض مغمورة بالماء إذا أمكن أن يوجد الماء بغير الهواء والعلاقة بينهما معروفة، فكل منهما مزدوج بالآخر : فالهواء يتخلل المياه، والمجاور منه للأرض فيه كثير من بخار الماء هو يقل فيه ويكثر بحسب بعده عن البحار والأنهار وقربه منها. ومما أثبته علماء الكون المتأخرون أن بخار الماء وإن كان يقل في الطبقات العليات من الجو كقلل الجبال وما فوقها فإن عنصر ( الإيدروجين ) وهو المولد للماء يكثر كثرة عظيمة في أعلى كرة الهواء ويقل الأكسجين في طبقات الجو العليا ويكثر بجوار الأرض لثقله النوعي فهو أثقل من صنوه النيتروجين وذلك من لطف الله وحكمته.
ومن المعروف عندهم أن الهواء يتحول بشدة البرد والضغط إلى ماء ثم إلى جليد كما أن الماء يتبخر بالحرارة حتى يكون هواء أو كالهواء في لطافته وعدم رؤيته وقد كان المتقدمون يحسبونهما شيئا واحدا، وعلماء العرب فرقوا بين بخار الماء وكرة الهواء ولكن اسم البخار في لغتهم يشمل كل المواد اللطيفة التي تصعد في جو السماء التي يسميها العلماء في هذا العصر " الغازات " والمشهور أن في الهواء من حيث حجمه لا ثقله ٢١ جزءا في المائة من الأكسجين و٨٧ في المائة من النيتروجين وواحدا في المائة من الأرغون، وهذه النسبة تكون هي الغالبة في الهواء المجاور للأرض وهي ضرورية لحياة أكثر الأحياء حياة صالحة معتدلة فإذا زاد الأكسجين زيادة كبيرة أو نقص عما هو عليه لم يعد صالحا لحياة الأحياء بل يصير نارا محرقة أو سما زعافا.
فكون النيتروجين يزيد على ثلاثة أرباع الأوكسجين في حجم الهواء ضروري لتعدليه وجعله صالحا لذلك.
والنيتروجين ضروري للحياة أيضا وإن لم يكن هو صالحا للحياة فهو إذا وضع فيه حيوان أو نبات لم يلبث أن يموت على أنه غير سام وضرورته للحياة من حيث تعديله للأكسجين ومنعه إياه من الطغيان ومن حيث هو في ذاته ركن من أركان الغذاء للحيوانات ولاسيما العليا منها وأعلاها الإنسان فإذا خلا طعامها من المادة النيتروجينية لم يكف لحياتها به.
والنيتروجين يوجد في أجسام النبات كما يوجد في لحم الحيوان وبيضه ولبنه وهو الأصل فيه، والنبات يأخذه من الأرض، وسائر غذاء الحيوانات من المواد النباتية، ومعظمها من الكربون وهو يأخذها من الأرض ومن امتصاصه لغاز الحامض الكربوني من الهواء. فهذا الغاز على شدة ضرره وقوة سمه في الهواء لمن يستنشقه لا بد له منه في ركن المعيشة الأعظم وهو النبات.
وإذا كثر هذا الحامض في الهواء فصار واحدا في المائة كان ضارا فإذا زاد على ذلك حتى صار ١٠ في المائة صار شديد الخطر على الإنسان والحيوان. وهو يكثر في المباني التي يكثر فيها الناس بخروجه من أنفاسهم والتي تكثر فيها السرج والمصابيح الزيتية والغازية وكذا الشموع فإنها تولده باحتراقها فإذا لم تكن فيها نوافذ متقابلة يدخل الهواء من بعضها ويخرج من الآخر فإن هواءها يفسد به ويتسمم دم من فيها. وقد قال علماء هذا الشأن أن الإنسان يحتاج إلى أكثر من ١٦ مترا مكعبا من الهواء في الساعة وهو ينفث في كل ساعة ٢٢ لترا من هذا الغاز السام ( الكربون ) فينبغي أن يتقي جميع الناس الاجتماع ونوم الكثيرين في البيوت التي لا يتخللها الهواء ولاسيما إذا كان فيها مصابيح موقدة وأن يحذروا من وقود الفحم فيها في أيام البرد فإنه سبب مطرد للاختناق كما ثبت علما وتجربة، إلا إذا وضع في البيت بعد أن تم اشتعاله وذهب غازه في الهواء فلم يبق له رائحة ولا شيء من السواد.
علمنا من هذا أن الخالق الحكيم قد جعل الهواء مركبا من المواد الضرورية لحياة الأحياء كلها وجعل النسبة بين أجزائه في كل من الحجم والثقل مناسبة لما يحتاج إليه كل جنس ونوع من النبات والحيوان فإذا نقص أحدها بتصرف هذه الإحياء فيه بالتغذي والاستنشاق والنفث بما من شأنه أن يوقع اختلالا وتفاوتا في هذه النسبة كان له من سنن الله تعالى ما يعيد إليه اعتداله ويحفظه له كتأثير كل من أشعة الشمس في ورق النبات الأخضر ومن تموج البحار في توليد الأكسجين، وحمل الرياح له إلى الصحارى البعيدة عن الماء الخالية من الأشجار.
تستفيد جميع أنواع النبات والحيوان من الهواء بفطرتها فلا تحتاج إلى علم كسبي ولا إلى عمل صناعي تهتدي بهما إلى التزام منافعه واتقاء مضاره إلا الإنسان فإنه وهو سيد هذه الموجودات بما خلق مستعدا له من اكتساب العلوم وإتقان الأعمال إلى غير حد يعرف هو المحتاج إلى العلم الواسع والعمل المبني على العلم لأجل ذلك، وكلما اتسع علمه ودقت صناعته صار أشد حاجة إلى العلم والصناعة، فأهل البداوة أقل حاجة إلى ذلك من أهل الحضارة لأنهم أقرب إلى حياة الفطرة وأقل جناية عليها من أهل الحضارة في أغذيتهم ومساكنهم.
يبني أهل الحضارة الدور فيجعلون في كل دار بيوتا كثيرة ومرافق مختلفة فإذا لم يراعوا فيها تخلل الهواء ونور الشمس لها فسد هواؤها، وكثرت فيها جنة الأمراض والأدواء التي تفتك بأهلها، ثم إنهم يحتاجون في جملة ما يقيمون من الدور والدكاكين والمعامل والمدارس والثكنات للسكن والأعمال العامة والتجارة والصناعة والتعليم والجند التي يسمى مجموعها المدينة إلى مثل ما يراعى في كل دار من قوانين الصحة كسعة الشوارع والجوادّ العامة وما يتفرع منها من النواشط الخاصة بطائفة من السكان بحيث يكون الانتفاع بالهواء والشمس عاما، وينبغي أن يكون للمدينة الكبيرة حدائق وبساتين واسعة مباحة لجميع أهلها لما أشرنا إليه من حاجة الإنسان والحيوان إلى الشجر في اعتدال الهواء وليختلف إليها الناس عند إرادة الاستراحة من الأعمال، وأحوجهم إليها الأطفال يتفيأون ظلالها ويستنشقون هواءها النقي المنعش. فإن قصروا في هذا انتابت الأمراض من يقيمون في الدور التي لا يطهرها الهواء والنور ثم تسري إلى من يخالطهم من سائر طبقات السكان.
وخير الهواء المعتدل بين الحرارة والبرودة والجفاف والرطوبة ومن فوائد الحار إفراز العرق من الجلد وهو مطهر لباطن البدن كتطهير الحمام لظاهره بما يخرج معه من الفضلات الميتة والمواد السامة فهذه الفائدة توازي ضرره في عسر التنفس وقلة ما يدخل معه في الرئة من الأكسجين وقلة ما يخرج منها من الكربون السام وفي ضعف الهضم واسترخاء الجسم.
ومن فوائد البارد تشديد الأعصاب وتنشيط الجسم وهو يحدث حرارة في الباطن بكثرة ما يدخل معه من الأوكسجين في الجوف ( وهو مولد الحرارة والاشتعال ) فيحتاج إلى كثرة الوقود الذي يحرقه وهو الغذاء ولذلك يكثر الأكل ويقوى الهضم في الجو البارد وتشتد الحاجة فيه إلى الحركة والعمل لدفع الدم إلى الشرايين التي في ظاهر الجسم لتدفئته، فهو يفيد الأقوياء الأصحاء ويضر الضعفاء والمصابين ببعض الأمراض الصدرية وغيرها.
فعلم من هذا أنه ينبغي تخفيف الطعام في زمن الحر واجتناب الإكثار من اللحم ولاسيما الأحمر منه ومن الحلوى والأدهان وجعل معظم الغذاء من البقول والفاكهة.
ومن حكم الله تعالى ولطف تدبيره في الهواء وفي اختلاف بقاع الأرض في الحر والبرد ما يحدثه هذا الاختلاف من الرياح وما لها من المنافع للأحياء ولاسيما الناس.
فمن سننه تعالى في نظام الكون أن الحرارة تمدد الأجسام فيخف وزنها وأن المائعات والأبخرة والغازات منها يعلو ما خف منها على ما ثقل فإذا وضع ماء وزيت في إناء يكون الزيت في أعلاه وإن وضع أولا والماء في أسفله وإن وضع آخرا لأن الزيت أخف من الماء. والماء السخن يكون في أعلى الإناء والبارد في أسفله ومتى سخن كله يكون أعلاه أشد حرارة من أسفله. فعلى هذه السنة إذا سخن الهواء المجاور للأرض بحرارتها لا يلبث أن يرتفع في الجو ويحل محله هواء أبرد منه لحفظ التوازن ﴿ ما ترى من خلق الرحمن من تفاوت ﴾ ( الملك ٣ ) وهذا هو الأصل في حدوث الرياح.
ومن المعلوم أن حرارة الأرض تكون على أشدها في خط الاستواء وهو وسط عرض الأرض وما يقرب منه حيث تكون أشعة الشمس عمودية فيكون تأثير حرارتها في الأرض على أشده ثم يضعف تأثيرها في جهتي الشمال والجنوب حيث تقع الأشعة مائلة بقدر هذا الميل فتكون الحرارة معتدلة، ثم تكون باردة حتى تصل في منطقتي القطبين إلى درجة الجليد الدائم لقلة ما يصيبها من شعاع الشمس مائلا في الأفق لا تأثير له في الأرض، فهنالك تكون سنتها يوما واحدا نصفه ليل ونصفه نهار، وليل كل من ناحيتي القطبين نهار الآخر. وتحديد أمثال هذه المسائل كلها موضعه علم ( الجغرافية الطبيعية أو الرياضية ) ولاختلاف درجات ا
٢ القيقعان بكسر القاف: جمع قاع وهي الأرض المستوية..
٣ أخرجه البخاري في العلم باب ٢٠ ومسلم في الفضائل حديث ١٥ وأحمد في المسند ٤/ ٣٩٩..
قصص الرسل المشهورين مع أقوامهم
هذا سياق جديد في قصص الأنبياء المرسلين المشهور ذكرهم في الأمة العربية والشعوب المجاورة لها قد سبق التمهيد له فيما تقدم من نداء الله تعالى لبني آدم بقوله :﴿ يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم ﴾ إلى آخر الآيتين ٣٣ و٣٤ ومنه يعلم وجه التناسب واتصال الكلام.
قصة نوح عليه السلام
قال تعالى :
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِه ﴾ بدأ تعالى هذه القصة بالقسم لتأكيد خبرها لأول من وجه إليهم الخطاب بها وهم أهل مكة ومن وراءهم من العرب، إذ كانوا ينكرون الرسالة والوحي، على كونهم أميين ليس عندهم من علوم الأمم وقصص الرسل شيء. إلا أن تكون كلمة في بيت شعر مأثور أو عبارة ناقصة من بعض أهل الكتاب حيث كانوا يلقونهم من بلاد العرب أو الشام أو ممن تهود أو تنصر منهم، وكلهم أو جلهم ظلوا على أميتهم. والقسم محذوف دل عليه لامه في بدء الجملة وهي لا تكاد تجيء إلا مع قد لأنها مظنة التوقع، ونوح أول رسول أرسله الله تعالى إلى قوم مشركين هم قومه كما ثبت في حديث في عدد الشفاعة وغيره، وتقدم التحقيق في هذه المسألة في تفسير سورة الأنعام عند البحث في عدد الرسل المذكورين في القرآن وهل يعد آدم منهم أم لا ؟ ( ج ٧ ) وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس أن قوم نوح هم الذين صوروا بعض الصالحين منهم ثم وضعوا لهم الصور والتماثيل لإحياء ذكرهم والاقتداء بهم، ثم عدوا صورهم وتماثيلهم وقد تقدم بيان هذا في تفسير الأنعام ( ج ٧ ) وغيره.
﴿ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُه ﴾ أي فناداهم بصفة القومية مضافة إليه استمالة لهم، ودعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده مع بيان أنه ليس لهم إله غيره يتوجهون إليه في عبادتهم، بدعاء يطلبون به ما لا يقدرون عليه بكسبهم، وما جعله الله في استطاعتهم من الأسباب التي تنال بها المطالب، فإن مثل هذا هو الذي يتوجه في طلبه إلى الرب الخالق لكل شيء الذي بيده ملكوت كل شيء وهذا التوجه والدعاء هو مخ العبادة ولبابها فلا يحل لمؤمن بالله تعالى أن يتوجه فيه إلى غيره البتة لا استقلالا ولا بالتبع للتوجه إلى الله تعالى وإرادة التوسط به عنده فإن هذا عين الشرك، الذي ضل به أكثر من ضل من الخلق.
وقوله تعالى :" من إله " يفيد تأكيد النفي وعمومه، فلو قال قائل " ما عندنا من طعام أو أكل ( بضمتين ) " أفاد أنه ما ثم شيء مما يطعم ويؤكل، ولو قال : ما عندنا طعام أو أكل لصدق بانتفاء ما يسمى بذلك مما يقدم عادة لمن يريد الغذاء أو العشاء من خبز وإدام فإن كان لدى القائل بقية من فضلات المائدة أو قليل من الفاكهة لا يكون كاذبا. والمراد من النفي العام المستغرق هنا أنه ليس لهم إله ما يستحق أن يوجه إليه نوع ما من أنواع العبادة لا لرجاء النفع أو دفع الضرر منه لذاته، ولا لأجل توسطه وشفاعته عند الله تعالى، بل الإله الحق الذي يستحق أن تتوجه القلوب إليه بالدعاء هو الله وحده.
قرأ الكسائي " غيره " بالكسر على الصفة للفظ " إله " والباقون بالرفع باعتبار محله من الإعراب لأن أصله ما لكم إله غيره.
﴿ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم ﴾ هذا إنذار مستأنف علل به الأمر بعبادة الله تعالى وحده المستلزم لترك أدنى شوائب الشرك بها، وبيان لعقيدة البعث والجزاء وهي الركن الثاني من أركان الإيمان بعد التسليم بالرسالة. أي إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم إذا لم تمتثلوا ما أمرتكم به، وهو يوم القيامة الذي يبعث الله تعالى فيه العباد ويجازيهم بإيمانهم وكفرهم وما يترتب عليهما من أعمالهم. وقيل يوم الطوفان ويضعف بأن الإنذار به لم يكن عند تبليغ الدعوة بل بعد طول الإباء والرد والوصول معهم إلى درجة اليأس المبين بقوله تعالى من سورته حكاية عنه ﴿ قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ﴾ ( نوح ٥- ٦ ) الآيات وبقوله من سورة هود :﴿ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ﴾ ( هود ٣٦ ) الآيات إلا أن يراد باليوم العظيم عذاب الدنيا مطلقا.
﴿ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين ﴾ أي لست بمنجاة من الضلال الذي أنتم فيه فقط بل أنا رسول من رب العالمين إليكم ليهديكم باتباعي سبيل الرشاد، وينقذكم على يدي من الهلاك الأبدي بالشرك وما يلزمه من الخرافات والمعاصي المدنسة للأنفس المفسدة للأرواح. والقدوة في الهدى، لا يمكن أن يكون ضالا فيما به أتى، ومن آثار رحمة الربوبية أن لا يدعكم على شرككم الذي ابتدعتموه بجهلكم، حتى يتبين لكم الحق من الباطل.
﴿ وَأَنصَحُ لَكُمْ ﴾ قال الراغب النصح تحري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه.. وهو من قولهم : نصحت لكم الود أي أخلصته، وناصح العسل خالصه، أو من قولهم نصحت الجلد خطته، والناصح الخياط، والنصاح ( ككتاب ) الخيط اه وفي الكشاف : يقال نصحته ونصحت له، وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وإنها وقعت خالصة للمنصوح مقصودا بها جانبه لا غير فرب نصيحة ينتفع بها الناصح فيقصد النفعين جميعا، ولا نصيحة أمحض من نصيحة الله ورسله عليهم السلام اه فعلم منه أن الأصل في النصيحة أن يقصد بها صلاح المنصوح له لا الناصح، فإن كان له فائدة منها وجاءت تبعا فلا بأس، وإلا لم تكن النصيحة خالصة، وفي الحديث عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله قال :" الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " ١رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون ﴾ قيل إن هذه الجملة معطوفة على ما قبلها والظاهر عندي أنها حالية. أي أبلغكم ما أرسلني الله تعالى به إليكم من علم وحكم وأنصح لكم بما أعظكم به من الترغيب والترهيب والوعد والوعيد، وأنا في هذا وذاك على علم من الله أوحاه إلي لا تعلمون منه شيئا أو : وأعلم من أمر الله وشؤونه ما لا تعلمونه وهو العلم بصفاته وتعلقها وآثارها في خلقه وسننه في نظام هذا العالم وما ينتهي إليه وما بعده من أمر الآخرة والحساب والجزاء فإذا نصحت لكم وأنذرتكم عاقبة شرككم وما اقتضته حكمته تعالى من إنزال العذاب بكم في الدنيا إذا جحدتم وعاندتم فإنما انصح لكم عن علم يقين لا تعلمونه.
وقد علم من قوله :" على رجل منكم " أن شبهتهم على الرسالة هي كون الرسول بشرا منكم كأن الاشتراك في البشرية وصفاتها العامة يقتضي التساوي في الخصائص والمزايا ويمنع الانفراد بشيء منها، وهذا باطل بالاختبار والمشاهدة في الغرائز والقوى العقلية والعضلية، وفي المعارف والأعمال الكسبية، فالتفاوت بين أفراد البشر عظيم جدا لا يشبههم فيه نوع آخر من أنواع المخلوقات في عالم الشهادة، ولو فرضنا التساوي بينهم في ذلك فهل يمنع أن يختص الخالق الحكيم من شاء منهم بما هو فوق المعهود في الغرائز والمكتسب بالتعلم ؟ كلا إنه تعالى قادر على ذلك وقد اقتضته حكمته ومشيئته، ونفذت به قدرته، وقد تقدم رد هذه الشبهة في أوائل سورة الأنعام.
وأعلم علم اليوم والأمس قبله | ولكنني عن علم ما في غد عم |
أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال كان هود أول من تكلم بالعربية، وولد لهود أربعة قحطان ومقحط وقاحط وفالغ فهو أبو مضر، وقحطان أبو اليمن والباقون ليس لهم نسل. وأخرجا من طريق مقاتل عن الضحاك عنه ومن طريق ابن إسحاق عن رجال سماهم ومن طريق الكلبي قالوا جميعا : إن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها اتخذوا أصناما على مثال ود وسواع ويغوث ونسر، فاتخذوا صنما يقال له صمود وصنما يقال له الهتار فبعث الله إليهم هودا، وكان هود من قبيلة يقال لها الخلود وكان من أوسطهم نسبا وأصبحهم وجها، وكان في مثل أجسادهم أبيض بادي العنفقة طويل اللحية.
فدعاهم إلى عبادة الله وأمرهم أن يوحدوه وأن يكفوا عن ظلم الناس فأبوا ذلك وكذبوه " وقالوا من أشد منا قوة "... وكانت منازلهم بالأحقاف والأحقاف الرمل فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن. وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها وقهروا بفضل قوتهم التي آتاهم الله اهـ ملخصا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع ابن خثيم قال : كانت عاد ما بين اليمن إلى الشام مثل الذر. وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن عساكر عن علي بن أبي طالب قال : قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سمرة. اهـ وسيأتي في السورة المسماة باسمه مزيد بيان لحاله وحال قومه.
قوله تعالى :﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودا ﴾ معطوف على قوله :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ﴾ أي أرسلنا إلى عاد أخاهم في النسب هودا، كما يقال في أخوة الجنس كله يا أخا العرب، وللدين أخوة روحية كأخوة الجنس القومية والوطنية، والآية دليل على جواز تسمية القريب أو الوطني الكافر أخا. وحكمة كون رسول القوم منهم أن يفهمهم ويفهم منهم، حتى إذا ما استعد البشر للجامعة العامة، أرسل الله خاتم رسله إليهم كافة، وفرض عليهم توحيد اللغة لتوحيد الدين، المراد به توحيد البشر وإدخالهم في السلم كافة.
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ تقدم معناه في قصة نوح آنفا ولكن الجملة هناك عطفت بالفاء وفصلت هنا وفيما يأتي من سائر القصص. والفرق المقتضي لذلك أن العطف هنالك جاء على أصله وهو كون التبليغ جاء عقب الإرسال لأن التأخير غير جائز. ولما صار هذا معلوما كان من المناسب فيما بعده من القصص أن يجيء بأسلوب الاستئناف البياني الذي هو الأصل في المراجعات القولية وإن تكررت كما تراه في السور الكثيرة، فكأن المستمع لهذه القصة مثلا يسأل وقد علم من أمر قصة نوح ما علم : فماذا كان من أمر هود مع قومه وماذا قال لهم في دعوته ؟ أكان أمره معهم كأمر نوح مع قومه أم اختلفت الحال ؟
﴿ أَفَلاَ تَتَّقُون ﴾ أي أفلا تتقون ما يسخطه من الشرك والمعاصي لتنجوا من عقابه ؟ الاستفهام للإنكار، واستبعاد عدم الإيمان والإذعان، بعد أن كان من عقابه تعالى لقوم نوح ما كان. وفي سورة هود ﴿ أفلا تعقلون ﴾ ( البقرة ٤٤ ) وهو دليل على أنه قال هذا وذاك في وقت واحد أو في وقت بعد وقت، ومن سنة القرآن في القصص المكررة أن يذكر في كل منها ما لم يذكر في الأخرى لتنويع الفوائد ودفع الملل عن القارئ وقد اقتبس ذلك البخاري في أحاديث جامعه الصحيح المكررة فتحرى في كل باب أن ينفرد بفائدة.
أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال كان هود أول من تكلم بالعربية، وولد لهود أربعة قحطان ومقحط وقاحط وفالغ فهو أبو مضر، وقحطان أبو اليمن والباقون ليس لهم نسل. وأخرجا من طريق مقاتل عن الضحاك عنه ومن طريق ابن إسحاق عن رجال سماهم ومن طريق الكلبي قالوا جميعا : إن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها اتخذوا أصناما على مثال ود وسواع ويغوث ونسر، فاتخذوا صنما يقال له صمود وصنما يقال له الهتار فبعث الله إليهم هودا، وكان هود من قبيلة يقال لها الخلود وكان من أوسطهم نسبا وأصبحهم وجها، وكان في مثل أجسادهم أبيض بادي العنفقة طويل اللحية.
فدعاهم إلى عبادة الله وأمرهم أن يوحدوه وأن يكفوا عن ظلم الناس فأبوا ذلك وكذبوه " وقالوا من أشد منا قوة "... وكانت منازلهم بالأحقاف والأحقاف الرمل فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن. وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها وقهروا بفضل قوتهم التي آتاهم الله اهـ ملخصا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع ابن خثيم قال : كانت عاد ما بين اليمن إلى الشام مثل الذر. وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن عساكر عن علي بن أبي طالب قال : قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سمرة. اهـ وسيأتي في السورة المسماة باسمه مزيد بيان لحاله وحال قومه.
﴿ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَة ﴾ وصف الملأ من هؤلاء بالكفر دون ملأ قوم نوح قيل لأنه كان فيهم من آمن ( كمرثد بن سعد ) كان يكتم إيمانه، والسفاهة خفة الحلم وسخافة العقل، وتنكيرها لبيان نوعها أو المبالغة بعظمها أي قالوا إنا لنراك في سفاهة غريبة أو تامة راسخة تحيط بك من كل جانب بأنك لم تثبت على دين آبائك وأجدادك، بل قمت تدعو إلى دين جديد تحتقر فيه الأولياء الصالحين من قومك الذين اتخذت الأمة لهم الصور والتماثيل لتخليد ذكرهم، والتقرب إلى الله تعالى بشفاعتهم، روي عن ابن عباس وغيره أن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها، اتخذوا أصناما على مثال أصنام قوم نوح، وسيأتي نص الرواية في ذلك، فبعث الله إليهم هودا وكان من قبيلة يقال لها الخلود إلخ ومثل قولهم هذا قال ويقول المنافقون والمشركون لدعاة الإصلاح من اتباع الأنباء : إنكم سفهاء لا ثبات لكم، وإنكم حقرتم أولياءكم وآباءكم.
﴿ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِين ﴾ أي في دعوى الرسالة عن الله تعالى أكدوا ظنهم الآثم، كما أكدوا ما قبله من تسفيههم الباطل، وهو يتضمن تكذيب كل رسول إذ عبروا عن أصحاب هذه الدعوى بالكاذبين وجعلوه واحدا منهم. والظن هنا على معناه فلو قالوا إنهم يعلمون ذلك لكانوا كاذبين على أنفسهم فيما يحكون من اعتقادهم. وأما حكمهم عليه بالسفاهة فكان على اعتقاد باطل منهم، ولذلك عبروا عنه بالرؤية التي بمعنى الاعتقاد.
أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال كان هود أول من تكلم بالعربية، وولد لهود أربعة قحطان ومقحط وقاحط وفالغ فهو أبو مضر، وقحطان أبو اليمن والباقون ليس لهم نسل. وأخرجا من طريق مقاتل عن الضحاك عنه ومن طريق ابن إسحاق عن رجال سماهم ومن طريق الكلبي قالوا جميعا : إن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها اتخذوا أصناما على مثال ود وسواع ويغوث ونسر، فاتخذوا صنما يقال له صمود وصنما يقال له الهتار فبعث الله إليهم هودا، وكان هود من قبيلة يقال لها الخلود وكان من أوسطهم نسبا وأصبحهم وجها، وكان في مثل أجسادهم أبيض بادي العنفقة طويل اللحية.
فدعاهم إلى عبادة الله وأمرهم أن يوحدوه وأن يكفوا عن ظلم الناس فأبوا ذلك وكذبوه " وقالوا من أشد منا قوة "... وكانت منازلهم بالأحقاف والأحقاف الرمل فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن. وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها وقهروا بفضل قوتهم التي آتاهم الله اهـ ملخصا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع ابن خثيم قال : كانت عاد ما بين اليمن إلى الشام مثل الذر. وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن عساكر عن علي بن أبي طالب قال : قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سمرة. اهـ وسيأتي في السورة المسماة باسمه مزيد بيان لحاله وحال قومه.
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِين ﴾ أي ليس بي أدنى شيء من ضروب السفاهة وشوائبها ولكني رسول من رب العالمين، والله أعلم حيث يجعل رسالته وهي أمانة عنه، فلا يختار لها إلا أهل الحصافة برجحان العقل وسعة الحلم وكمال الصدق، وإلا لفات ما يقصد بها من الحكمة ولم تقم بها لله الحجة.
أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال كان هود أول من تكلم بالعربية، وولد لهود أربعة قحطان ومقحط وقاحط وفالغ فهو أبو مضر، وقحطان أبو اليمن والباقون ليس لهم نسل. وأخرجا من طريق مقاتل عن الضحاك عنه ومن طريق ابن إسحاق عن رجال سماهم ومن طريق الكلبي قالوا جميعا : إن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها اتخذوا أصناما على مثال ود وسواع ويغوث ونسر، فاتخذوا صنما يقال له صمود وصنما يقال له الهتار فبعث الله إليهم هودا، وكان هود من قبيلة يقال لها الخلود وكان من أوسطهم نسبا وأصبحهم وجها، وكان في مثل أجسادهم أبيض بادي العنفقة طويل اللحية.
فدعاهم إلى عبادة الله وأمرهم أن يوحدوه وأن يكفوا عن ظلم الناس فأبوا ذلك وكذبوه " وقالوا من أشد منا قوة "... وكانت منازلهم بالأحقاف والأحقاف الرمل فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن. وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها وقهروا بفضل قوتهم التي آتاهم الله اهـ ملخصا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع ابن خثيم قال : كانت عاد ما بين اليمن إلى الشام مثل الذر. وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن عساكر عن علي بن أبي طالب قال : قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سمرة. اهـ وسيأتي في السورة المسماة باسمه مزيد بيان لحاله وحال قومه.
﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾ بيان لوظيفة الرسول وحاله عليه السلام فيها، أي أبلغكم التكاليف التي أرسلت بها والحال أنني أنا لكم ناصح فيما أبلغكم إياه وأدعوكم إليه لأن فيه سعادتكم، أمين على ما أقول فيه عن الله تعالى فإنني لا أكذب عليكم فكيف أكذب على ربي عز وجل ؟ وهذا أقوى من قول نوح : وأنصح لكم. فإنه يحتج عليهم بأن النصح وصف قائم به ثابت له عندهم، لما يعهدون من سيرته معهم، وكذلك الصدق والأمانة، لأنهم رموه بالكذب والسفاهة، وقوم نوح إنما رموه بالضلالة.
أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال كان هود أول من تكلم بالعربية، وولد لهود أربعة قحطان ومقحط وقاحط وفالغ فهو أبو مضر، وقحطان أبو اليمن والباقون ليس لهم نسل. وأخرجا من طريق مقاتل عن الضحاك عنه ومن طريق ابن إسحاق عن رجال سماهم ومن طريق الكلبي قالوا جميعا : إن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها اتخذوا أصناما على مثال ود وسواع ويغوث ونسر، فاتخذوا صنما يقال له صمود وصنما يقال له الهتار فبعث الله إليهم هودا، وكان هود من قبيلة يقال لها الخلود وكان من أوسطهم نسبا وأصبحهم وجها، وكان في مثل أجسادهم أبيض بادي العنفقة طويل اللحية.
فدعاهم إلى عبادة الله وأمرهم أن يوحدوه وأن يكفوا عن ظلم الناس فأبوا ذلك وكذبوه " وقالوا من أشد منا قوة "... وكانت منازلهم بالأحقاف والأحقاف الرمل فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن. وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها وقهروا بفضل قوتهم التي آتاهم الله اهـ ملخصا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع ابن خثيم قال : كانت عاد ما بين اليمن إلى الشام مثل الذر. وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن عساكر عن علي بن أبي طالب قال : قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سمرة. اهـ وسيأتي في السورة المسماة باسمه مزيد بيان لحاله وحال قومه.
﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُم ﴾ تقدم مثله من قول نوح ﴿ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ﴾ أي واذكروا فضل الله عليكم ونعمه إذ جعلكم خلفاء الأرض من بعد قوم نوح وزادكم في المخلوقات بسطة وسعة في الملك والحضارة. أو زادكم بسطة في خلق أبدانكم، إذ كانوا طوال الأجسام أقوياء الأبدان. وفي التفسير المأثور روايات إسرائيلية الأصل في المبالغة في طولهم وقوتهم ولا يعتمد عليها ولا يحتج بشيء منها. ولكن نص على قوتهم وجبروتهم في سور هود والشعراء وفصلت ﴿ فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ﴾ أي فاذكروا نعم الله واشكروها له لعلكم تفوزون بما أعده للشاكرين من إدامتها عليهم وزيادتها لهم، ولن تكونوا كذلك إلا إذا عبدتموه وحده ولم تشركوا بعبادته أحدا، لا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل جعله واسطة بينكم وبينه، فإن هذا حجاب دونه ومن حجب نفسه عما كرمه ربه به من التوجه إليه وحده في الدنيا حجب عن لقاءه في الآخرة، وإنما يحجب عن ربه الكافرون لا المؤمنون الشاكرون.
أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال كان هود أول من تكلم بالعربية، وولد لهود أربعة قحطان ومقحط وقاحط وفالغ فهو أبو مضر، وقحطان أبو اليمن والباقون ليس لهم نسل. وأخرجا من طريق مقاتل عن الضحاك عنه ومن طريق ابن إسحاق عن رجال سماهم ومن طريق الكلبي قالوا جميعا : إن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها اتخذوا أصناما على مثال ود وسواع ويغوث ونسر، فاتخذوا صنما يقال له صمود وصنما يقال له الهتار فبعث الله إليهم هودا، وكان هود من قبيلة يقال لها الخلود وكان من أوسطهم نسبا وأصبحهم وجها، وكان في مثل أجسادهم أبيض بادي العنفقة طويل اللحية.
فدعاهم إلى عبادة الله وأمرهم أن يوحدوه وأن يكفوا عن ظلم الناس فأبوا ذلك وكذبوه " وقالوا من أشد منا قوة "... وكانت منازلهم بالأحقاف والأحقاف الرمل فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن. وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها وقهروا بفضل قوتهم التي آتاهم الله اهـ ملخصا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع ابن خثيم قال : كانت عاد ما بين اليمن إلى الشام مثل الذر. وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن عساكر عن علي بن أبي طالب قال : قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سمرة. اهـ وسيأتي في السورة المسماة باسمه مزيد بيان لحاله وحال قومه.
﴿ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ﴾ المراد من المجيء الإتيان بالرسالة حسب دعواه الصادقة في نفسها الكاذبة في ظنهم الآثم : على أن العرب تستعمل المجيء والذهاب والقعود والقيام في التعبير عن الشروع في الشيء وبيان حاله يقال جاء يعلم الناس كيف يحاربون وذهب يقيم قواعد العمران ( ونذر ) بمعنى نترك لم يستعمل من مادته إلا الفعل المضارع.
والمعنى : أجئتنا لأجل أن نعبد الله وحده على ما نحن عليه من الآثام ونترك ما كان يعبد آباؤنا معه من الأولياء والشفعاء فنحقرهم ونمتهنهم برميهم بالكفر ونحقر أولياءنا وشفعاءنا عند الله بترك التوجه إليهم عند التوجه إليه وهم الوسيلة وهو المقصود بالدعاء والاستغاثة هم والتعظيم لصورهم وتماثيلهم وقبورهم والنذر لهم وذبح القرابين عندهم ؟ وهل يقبل الله عبادتنا مع ذنوبنا إلا بهم ولأجلهم ؟ استنكروا التوحيد واحتجوا عليه بما أبطله الشرع والعقل من التقليد واستعجلوا الوعيد قالوا :
﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِين ﴾ أي فجئنا بما تعدنا به من العذاب على ترك الإيمان بك والعمل بمقتضى توحيدك إن كنت من الصادقين في إنذارك أو في أنك رسول من رب العالمين. وقد استعمل الوعد بمعنى الوعيد لأنه أعم والمراد به هو ما أشير إليه بقوله هنا :﴿ أفلا تتقون ﴾ وصرح به في سورة الشعراء بقوله :﴿ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾ ( الأعراف ٥٩ ).
أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال كان هود أول من تكلم بالعربية، وولد لهود أربعة قحطان ومقحط وقاحط وفالغ فهو أبو مضر، وقحطان أبو اليمن والباقون ليس لهم نسل. وأخرجا من طريق مقاتل عن الضحاك عنه ومن طريق ابن إسحاق عن رجال سماهم ومن طريق الكلبي قالوا جميعا : إن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها اتخذوا أصناما على مثال ود وسواع ويغوث ونسر، فاتخذوا صنما يقال له صمود وصنما يقال له الهتار فبعث الله إليهم هودا، وكان هود من قبيلة يقال لها الخلود وكان من أوسطهم نسبا وأصبحهم وجها، وكان في مثل أجسادهم أبيض بادي العنفقة طويل اللحية.
فدعاهم إلى عبادة الله وأمرهم أن يوحدوه وأن يكفوا عن ظلم الناس فأبوا ذلك وكذبوه " وقالوا من أشد منا قوة "... وكانت منازلهم بالأحقاف والأحقاف الرمل فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن. وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها وقهروا بفضل قوتهم التي آتاهم الله اهـ ملخصا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع ابن خثيم قال : كانت عاد ما بين اليمن إلى الشام مثل الذر. وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن عساكر عن علي بن أبي طالب قال : قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سمرة. اهـ وسيأتي في السورة المسماة باسمه مزيد بيان لحاله وحال قومه.
﴿ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ﴾ يطلق الرجس على القبيح المستقذر حسنا أو معنى وبمعنى الرجز وهو العذاب أو سيئه. وقد ذكر الآية الزمخشري في مجاز الأساس وفسر الرجس بالعذاب قال لأنه جزاء ما استعير له اسم الرجس وذكر قبل ذلك في قسم الحقيقة من المادة أن الرجس بالفتح صوت الرعد وأنه يقال : رجست السماء وارتجست : قصفت بالرعد قال : والناس في مرجوسة أي في اختلاط قد ارتجس عليهم أمرهم اه ومثلها في هذا مادة الرجز ومنه في ﴿ لهم عذاب من رجز أليم ﴾ ( سبأ ٥ ) وقد كان العذاب الذي نزل بهم ووقع عليهم ريح صرصر أي ذات صوت شديد عاتية كانت " تنزع الناس " من الأرض ثم ترميهم بها صرعى ﴿ كأنهم أعجاز نخل منقعر ﴾ ( القمر ٢٠ ) قد قلع من منابته وزال عن أماكنه، وذلك من معنى الرجس والارتجاس والرجز والارتجاز. وقوله :" وقع " مجاز عبر به عن المتوقع لتحققه وقربه، وعطف الغضب على الرجس لبيان أن الرجس قد أريد به الانتقام الحتم فلا يمكن رفعه، والعياذ بالله من غضبه ما كان منه حتما عقابه كهذا، وما كان ممكنا دفعه بالتوبة كعقاب هذه الأمة. اللهم تب على أمتنا وارفع عنها رجس الأجانب الطامعين، وأعوانهم المنافقين.
﴿ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَان ﴾ أي أتخاصمونني وتمارونني في أسماء وضعتموها أنتم وآباؤكم الذين قلدتموهم على غير علم ولا هدى منكم ولا منهم، لمسميات اتخذوها فاتخذتموها آلهة زاعمين أنها تقربكم إلى الله زلفى وتشفع عنده لكم ما أنزل الله من حجة ولا برهان يصدق زعمكم، بأنه رضي أن تكون واسطة بينه تعالى وبينكم، وكيف وهو الأحد الصمد الذي يصمد إليه عباده في العبادة وطلب ما لم يمكنهم منه بالأسباب، أي يتوجهون إليه وحده، لا يشركون في توجيه قلوبهم إليه أحدا من خلقه ﴿ وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ﴾ ( الأنعام ٧٩ ) وكل ما يتعلق بعبادته لا يجوز أن يؤخذ إلا مما أنزله على رسله، إذ لا يعلم ما يرضيه ويصح عنده من عبادته غيره إلا المبلغين عنه. والآية دليل على بطلان التقليد ﴿ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِين ﴾ أي فانتظروا نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم " فائتنا بما تعدنا " إني معكم من المنتظرين ولكنني موقن وأنتم مرتابون، وجاد وأنتم هازلون.
أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال كان هود أول من تكلم بالعربية، وولد لهود أربعة قحطان ومقحط وقاحط وفالغ فهو أبو مضر، وقحطان أبو اليمن والباقون ليس لهم نسل. وأخرجا من طريق مقاتل عن الضحاك عنه ومن طريق ابن إسحاق عن رجال سماهم ومن طريق الكلبي قالوا جميعا : إن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها اتخذوا أصناما على مثال ود وسواع ويغوث ونسر، فاتخذوا صنما يقال له صمود وصنما يقال له الهتار فبعث الله إليهم هودا، وكان هود من قبيلة يقال لها الخلود وكان من أوسطهم نسبا وأصبحهم وجها، وكان في مثل أجسادهم أبيض بادي العنفقة طويل اللحية.
فدعاهم إلى عبادة الله وأمرهم أن يوحدوه وأن يكفوا عن ظلم الناس فأبوا ذلك وكذبوه " وقالوا من أشد منا قوة "... وكانت منازلهم بالأحقاف والأحقاف الرمل فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن. وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها وقهروا بفضل قوتهم التي آتاهم الله اهـ ملخصا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع ابن خثيم قال : كانت عاد ما بين اليمن إلى الشام مثل الذر. وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن عساكر عن علي بن أبي طالب قال : قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سمرة. اهـ وسيأتي في السورة المسماة باسمه مزيد بيان لحاله وحال قومه.
﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ﴾ أي فلما جاء أمرنا أنجينا هودا والذين معه من المؤمنين برحمة عظيمة من لدنا لا يقدر عليها غيرنا ﴿ وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِين ﴾ أي استأصلناهم بريح عاتية " تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ".
﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُه ﴾ أي وأرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب والوطن صالحا. سئل الإمام عبد الله بن أبي ليلى عن اليهودي والنصراني يقال له أخ ؟ قال : الأخ في الدار. واستدل بالآية. رواه أبو الشيخ. و( صالحا ) بدل أو عطف بيان ل( أخاهم ). وتقدم مثل هذا التركيب آنفا في قصة هود عليه السلام. وثمود قبيلة من العرب قيل سميت باسم جدهم ثمود بن عامر بن إرم ابن سام بن نوح. وقيل ابن عاد بن عوص ابن إرم... وعن عمرو بن العلاء أنهم سموا بذلك لقلة مائهم فالثمد الماء القليل. وثمود يمنع من الصرف بإرادة القبيلة إذ يجتمع فيه العملية والتأنيث : ويصرف بتأويل الحي أو باعتبار الأصل، فإنه علم لمذكر وكانت مساكنهم الحجر ( بكسر المهملة ) بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وهي معروفة إلى الآن. وعن الحافظ البغوي في نسبه عليه السلام أنه صالح بن عبيد بن أسيف بن ماشخ بن عبيد بن حاذر بن ثمود. ومثله في فتح الباري إلا أنه ضبط حاذر بالجيم حاجر، وزاد بعد ثمود بن عامر بن آدم بن سام بن نوح.
﴿ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُم ﴾ قد علمنا من سنة القرآن وأساليبه في قصص الأنبياء مع أقوامهم أن المراد بها العبرة والموعظة ببيان سنن الله تعالى في البشر وهداية الرسل عليهم الصلاة والسلام لأن حوادث الأمم وضوابط التاريخ مرتبة بحسب الزمان أو أنواع الأعمال. وقد حكي هنا عن صالح عليه السلام أنه ذكر الآية التي أيده الله تعالى بها عقب ذكر تبليغ الدعوة، وفي قصته من سورة هود أنه ذكر لهم الآية بعد ردهم لدعوته، وتصريحهم بالشك في صدقه، وزاد في سورة الشعراء طلبهم الآية منه، وكل ذلك صحيح ومراد وهو المسنون المعتاد، ولا منافاة بين ذلك التفصيل وهذا الإجمال، والمروي أن هذه السورة ( الأعراف ) نزلت بعد تينك السورتين فتفصيلهما لإجمالها جاء على الأصل المألوف في كلام الناس وإن كان غير ملتزم في القرآن، على أن ترتيب السورة لم يراع فيه ترتيب نزولها، والمعنى قد جاءتكم آية عظيمة القدر، ظاهرة الدلالة على ما جئتكم به من الحق فتنكير الآية للتعظيم والتفخيم.
وقوله :" من ربكم " للإعلام بأنها ليست من فعله ولا مما ينالها كسبه عليه السلام، وكذلك سائر ما يؤيد الله تعالى به الرسل من خوارق العادات، فليعتبر بذلك الجاهلون الذين يظنون أن الخوارق مما يدخل في كسب الصالحين الذين هم دون الأنبياء ولاسيما الذين يسمونهم الأقطاب المتصرفين في الكون، ولو كانت كذلك لم تكن خوارق، ولا آيات من الله تعالى دالة على تصديق الرسل في دعوى النبوة، وعلى كمال اتباع من دونهم لهم فيما جاءوا به من الهداية، إذ كسب العباد ما زال يتفاوت تفاوتا عظيما بتفاوت قوى عضلهم وجوارحهم، وقوى عقولهم وأرواحهم وعزائمهم، وتفاوت علومهم ومعارفهم، ولذلك اشتبهت الآيات على كثير من الناس بالسحر والشعوذة، وما يكون في بعض الناس من التأثر لعلو الهمة وقوة الإرادة.
﴿ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَة ﴾ هذا بيان مستأنف للبينة أي هذه ناقة الله تعالى أضافها إلى اسمه الكريم تعظيما لشأنها، وقيل لأنه خلقها على خلاف سنته في خلق الإبل وصفاتها، وقيل لأنه لم يكن لها مالك. والمعنى أشير إليها حالة كونها آية لكم خاصة لكم. وبين معنى كونها آية بقوله :
﴿ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيم ﴾ ومثله في سورة الشعراء إلا أنه وصف العذاب بالعظيم فهو أليم وعظيم وفي ( هود ) إلا أنه وصف العذاب بالقريب وهو أنه يقع بعد ثلاثة أيام من مسهم إياها بسوء وكذلك كان. وفي سورة القمر ﴿ ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر ﴾ ( القمر ٢٨ ) وفسره قوله تعالى في سورة الشعراء :﴿ هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ﴾ ( الشعراء ١٥٥ ) وهو قبل الوعيد على مسها بسوء، والشرب بكسر المعجمة ما يشرب. وفي سورة الشمس ﴿ كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها ﴾ ( الشمس ١١- ١٤ ) إلخ فدل مجموع الآيات على أن آية الله تعالى في الناقة أن لا يتعرض لها أحد من القوم بسوء في نفسها، ولا في أكلها ولا في شربها، وأن ماء ثمود قسمة بينهم وبين الناقة إذ كان ماء قليلا، فكانوا يشربونه يوما وتشربه هي يوما، وورد أنهم كانوا يستعيضون عنه في يومها بلبنها وروي هذا عن ابن عباس وقتادة. فأما الرواية عن الأول فهي تصدق بماء معين معروف كان لشربهم خاصة إذ ذكر في سورة القمر معرفا وثبت في الحديث الآتي مرفوعا.
وأما الرواية عن الثاني ففيها أن الماء كان لهم ولماشيتهم وأرضهم وهو بعيد بل منقوض بما في سورة الشعراء من تعدد عيون الماء عندهم وهو قول صالح لهم ﴿ أتتركون فيما ههنا آمنين ؟ في جنات وعيون ونخل طلعها هضيم ؟ ﴾ ( الشعراء ١٤٦ ) وقد روى أحمد عن عبد الله بن عمر مرفوعا أنه كان لهم آبار وأن النبي صلى الله عليه وسلم دل المسلمين على البئر التي كانت تشرب منها الناقة حين مروا بديار قوم صالح في غزوة تبوك. وفي البخاري عنه أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يستقوا منها ويهريقوا ما استقوا من غيرها من تلك الآبار. قال العلماء وقد علمها بالوحي. ولا يصح شيء يحتج به في خلق الناقة من الصخرة أو من هضبة من الأرض كما روي عن أبي الطفيل.
والمتبادر إلى الذهن من إضافة الأرض إلى الله تعالى أن المراد بها المباحة للأنعام أن ترعى ما ينبت فيها من الكلأ وغيره دون ما يزرعه الناس ويحمونه لأنفسهم، وفيه مراعاة النظير بين ناقة الله وأرض الله، أي فذروا واتركوا ناقته تأكل من أرضه التي خلقها وأباحها لخلقه. والمتبادر من تنكير السوء في سياق النهي أن الوعيد مرتب على أي نوع من أنواع الإيذاء لها في نفسها أو أكلها أو شربها كما تقدم فكيف وقد عقروها.
﴿ فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ أي فتذكروا نعم الله تعالى عليكم في ذلك كله واشكروها له بتوحيده وإفراده بالعبادة واستعمالها فيما فيه صلاحكم ولا تستبدلوا الكفر بالشكر فتعثوا في الأرض مفسدين يقال عثى وعثي يعثى " من بابي ضرب وعلم " عثيا وعثيانا وعثا يعثو عثوا بمعنى أفسد وكفر وتكبر ومثله مقلوبة : عاث يعيث عيثا وعيثانا. وفيه معنى الإسراف والتبذير مع الإفساد وقال الراغب : العيث والعثي يتقاربان نحو جذب وجبذ إلا أن العيث أكثر ما يقال في الفساد الذي يدرك حسا والعثي فيما يدرك حكما اه والمعنى ولا تتصرفوا في هذه النعم تصرف عثيان وكفر بمخالفة ما يرضي الله فيها حال كونهم متصفين بالإفساد ثابتين عليه. وقال المفسرون إن مفسدين حال مؤكدة، والصواب أنها تفيد معنى زائد على التأكيد كما علمت.
﴿ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُون ﴾ إي إنا بما أرسل به دون ما يخالفه من الشرك والفساد مصدقون بأنه جاء به من عند الله تعالى ومذعنون له بالفعل فإن الإيمان هو التصديق الذي يجزم به العقل، ويطمئن به القلب، وتخضع له الإرادة وتعمل بهديه الجوارح، وكان مقتضى مطابقة الجواب للسؤال أن يقولوا نعم، أو نعلم أنه مرسل من ربه، أو إنا برسالته عالمون. ولكنهم أجابوا بما يستلزم هذا المعنى ويزيد عليه، وهو أنهم علموا بذلك علما يقينيا إذعانيا له السلطان على عقولهم وقلوبهم، إذ آمنوا به إيمانا صادقا كاملا صار صفة من صفاتهم الراسخة التي تصدر عنها أعمالهم، وما كل من يعلم شيئا يصل علمه إلى هذه الدرجة، بل من الناس من يعلم الشيء بالبرهان، وهو ينفر منه بالوجدان، فيجحده ويحاربه وهو موقن به، استكبارا عنه أو حسدا لأهله، ﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ﴾ ( النمل ١٤ ).
﴿ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ﴾ أي تمردوا مستكبرين عن امتثال أمر ربهم، ضمن العتو معنى الاستكبار. والعتو في اللغة التمرد والامتناع، ويكون عن ضعف وعجز ومنه عتا الشيخ وبلغ من الكبر عتيا : إذا أسن فامتنع من المواتاة على ما يراد منه وعن قوة وعتو كوصف الريح الشديدة بالعاتية، ومنه عتو الجبارين والمستكبرين، وتوصف النخلة العالية بالعاتية لامتناعها على من يريد جناها إلا بمشقة التسلق والصعود. روى أحمد والحاكم بإسناد حسنه الحافظ ابن حجر عن جابر قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال :" لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح وكانت الناقة ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، وكانت تشرب يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله وهو أبو رغال فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه " ٢.
﴿ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِين ﴾ نادوه باسمه تهوينا لشأنه، وتعريضا بما يظنون من عجزه، وقالوا ائتنا لما أوعدتنا له من العذاب ولا تزال مصرا عليه ومعلقا له على مس الناقة بسوء إن كنت من المرسلين من عند الله تعالى وتدعي أن وعيدك تبليغ عنه، واستعمل الوعد في الشر لأنه عام.
٢ أخرجه احمد في المسند ٣/ ٢٩٦..
وأما الصاعقة فهي الشرارة الكهربائية التي تتصل بالأرض فتحدث فيها تأثيرات عظيمة بقدرها كصعق الناس والحيوانات وموتهم وهدم المباني أو تصديعها وإحراق الشجر والمتاع وغير ذلك. هذا ما وصل إليه علم البشر في هذا العصر. ومن الدلائل على صحته أن علمهم بسنة الله تعالى فيه هداهم إلى اتقاء ضرر الصواعق في المباني العظيمة بوضع ما يسمونه قضيب الصاعقة عليها، فيمتنع بسنة الله نزولها بها، يجوز أن يكون الخالق القادر المقدر قد جعل هلاكهم في وقت ساق فه السحاب المتشبع بالكهرباء إلى أرضهم بأسبابه المعتادة، كما يجوز أن يكون قد خلق تلك الصاعقة لأجلهم على سبيل خرق العادة، وأياما كان الواقع فالآية قد وقعت وصدق الله رسوله في إنذار قومه.
﴿ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِين ﴾ دار الرجل ما يسكنه هو وأهله " مؤنثة " وتكون مشتملة على عدة بيوت، والبلد دار لأهله، ودار الإسلام الوطن الذي تنفذ فيه شرائعه وهي دار العدل الذي يقيمه الإمام الحق، ويقابلها دار الكفر ودار الحرب. والجثوم للإنسان والطير كالبروك للإبل فالأول وقوع الناس على ركبهم وخرورهم على وجوههم، والثاني وقوع الطير لاطئة بالأرض في حال سكونها بالليل. أو قتلها في الصيد، والمعنى أنهم لم يلبثوا وقد وقعت الصاعقة بهم إن سقطوا مصعوقين، وجثموا هامدين خامدين. وأصبحوا إما بمعنى صاروا وإما بمعنى دخلوا في وقت الصباح أي حال كونهم جاثمين.
وفيه أن هذا وإن كان هو الأصل الذي سبق مثله في قصتي نوح وهود إلا أن مثله جائز أن يكون بعد الموت، وله طريق مسلوك، وأسلوب معهود وآخر مروي مأثور.
فأما الأول : فما يقوله المتحسر على من مات جانبا على حياته بالسكر ونحوه، المعزي لنفسه بأنه لم يقصر في دفع الضر عنه. والمتحزن لعدم قبوله ما بذل من النصح له : ألم أنهك عن هذه المسكرات ؟ ألم أحذرك عاقبة هذه المخدرات١ فماذا أفعل إذا كنت تفضل لذة الساعات والأيام على هناء المعيشة المعتدلة في عشرات الأعوام ؟ ونحو هذا مما يقال في أحوال الحزن المختلفة خطابا للموتى بحسب أحوالهم، بل عهد منهم مخاطبة الديار والطلول والآثار.
وأما الثاني : فهو ما ورد من نداء النبي صلى الله عليه وسلم لبعض قتلى المشركين ببدر بعد دفنهم في القليب٢ يا فلان ابن فلان وفلان ابن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا " ؟ قال أبو طلحة الأنصاري راوي هذا الحديث فقال عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ؟ أو فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " ٣ رواه البخاري وغيره من طريق قتادة عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه ثم قال : قال قتادة أحياهم الله حتى أسمعهم قوله صلى الله عليه وسلم توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما اه قال العلماء : ومثل هذا مما خص الله به الأنبياء.
ولكن بعض المعتذرين لعباد القبور بدعاء أصحابها لقضاء حوائجهم يقيسون عليه وعلى ما ورد من حياة الأنبياء والشهداء في البرزخ أن كل من دعا ميتا من الصالحين يسمع منه ويقضي حاجته، مع العلم بأن أمور عالم الغيب لا يقاس عليها، وإن لم تكن من الخصائص التي لا يجري القياس فيها.
٢ القليب: البئر المبنية..
٣ أخرجه البخاري في الجنائز باب ٨٦ والمغازي باب ٨ ومسلم في الجنة حديث ٧٦- ٧٧ والنسائي في الجنائز باب ١١٧ واحمد في المسند ٢/ ١٣١..
قصة لوط عليه السلام
خير ما يعرف به لوط عليه السلام أنه ابن أخي إبراهيم خليل الرحمن ( صلى الله على نبينا وعليهما وسلم ) كما في كتب الأنساب العربية وسفر التكوين وفيه أن اسم والده ( حاران ) وأنه ولد في ( أور الكلدانيين ) وهي في طرف الجانب الشرقي من جنوب العراق الغربي من ولاية البصرة وكانت تلك البقعة تسمى أرض بابل. وأنه بعد موت والده سافر مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى ما بين النهرين الذي كان يسمى جزيرة قورا ومنه ما يسمى الآن بجزيرة ابن عمر وهو مكان تحيط به دجلة فقط ( وهناك كانت مملكة أشور ) فإلى أرض كنعان من سوريا. ثم أسكنه إبراهيم في شرق الأردن باختياره لها لجودة مراعيها، وكان في ذلك المكان المسمى بعمق السديم بقرب البحر الميت الذي سمي ببحر لوط أيضا القرى أو المدن الخمس : سدوم وعمورة وأدمة وصبوبيم وبالع التي سميت بعد ذلك صوغر لصغرها، فسكن لوط عليه السلام في عاصمتها سدوم التي كانت تعمل الخبائث، ولا يعلم أحد الآن أين كانت تلك القرى من جوار حبر لوط إذ لم يوجد من الآثار ما يدل عليها، فمن المؤرخين من يظن أن البحر غمر موضعها ولا دليل على ذلك. وكانت عمورة تلي سدوم في الكبر وفي الفساد، وهما اللتان يحفظ اسمهما الناس إلى الآن.
واسم لوط مصروف وإن كان أعجميا لكونه ثلاثيا ساكن الوسط كنوح وقال بعض المفسرين إنه عربي من مادة لاط الشيء بالشيء لوطا أي لصق ولكن بعض أهل الكتاب يقول إن معنى كلمة لوط بالعبرانية " ستر " فهي من الكلمات التي تختلف معنى مادتها العربية عن مادتها العبرية والسريانية أختي العربية الصغريين، على أنه يقرب منه فإن اللصوق ضرب من الستر. ويراجع ما ذكرناه في لغة إبراهيم في تفسير الآية ( ٧٥س ٦ ) ( ج ٧ ).
قال تعالى :﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة ﴾ النسق الذي قبل هذا يقتضي أن يكون المعنى : وأرسلنا لوطا ولكن حذف هنا متعلق الإرسال وركنه الأول وهو توحيد العبادة للعلم به مما قبله ومما ذكر في غير هذه السورة، أي أرسلناه في الوقت الذي أنكر على قومه فعل الفاحشة فيها بلغهم من دعوى الرسالة، وقيل إن لوطا منصوب بفعل مقدر، أي واذكر لوطا إذ قال لقومه موبخا لهم : أتفعلون الفعلة البالغة منتهى القبح والفحش ؟
﴿ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِين ﴾ بل هي من مبتدعاتكم في الفساد فأنتم فيها قدوة سوء فعليكم وزرها ومثل أوزار من يتبعكم فيها إلى يوم القيامة. فالجملة استئناف نحوي أو بياني يؤكد التوبيخ ببيان أنه فساد مخالف لمقتضى الفطرة ولهداية الدين معا، والباء في قوله :" بها " للتعدية أو الملابسة أو الظرفية أقوال. وقوله :" من أحد " يفيد تأكيد النفي وعمومه المستغرق لكل البشر على الظاهر المتبادر وإن كان اللفظ يصدق بعالمي زمانهم، ولكونهم هم المبتدعين لها اشتق العرب لها اسما من لوط فقالوا لاط به لواطة.
أجمع العلماء على أن اللواطة من كبائر المعاصي لأن الله تعالى سماها فاحشة وخبيثة وقد وردت عدة أحاديث في لعن فاعلها عند النسائي وابن حبان وصححه الطبراني والبيهقي وصحح بعضها الحاكم، وهي على كل حال يؤيد بعضها بعضا في أمر قطعي بالنص معلوم من الدين بالضرورة. وروى الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا " إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط " ٢ صححه الحاكم وقال الترمذي حسن غريب ومن حديثه عند الطبراني " إذا ظلم أهل الذمة كانت الدولة دولة العدو، وإذا كثر الزنا كثر السباء، وإذا كثر اللوطية رفع الله يده عن الخلق فلا يبالي في أي واد هلكوا " وإسناده ضعيف.
وروى أحمد وغير النسائي من أصحاب السنن من طريق عكرمة عن ابن عباس مرفوعا " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " ٣ قال الحافظ ابن حجر في التلخيص واستنكره النسائي ورواه ابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة وإسناده أضعف من الأول بكثير. ثم نقل عن ابن الطلاع في أحكامه تصحيح الحديث ورده بأن حديث أبي هريرة لا يصح وأن ابن ماجه رواه من طريق عاصم بن عمر العمري بلفظ " فارجموا الأعلى والأسفل " وقال عاصم متروك وحديث ابن عباس مختلف في ثبوته اهـ ملخصا. ولكن الشوكاني قال في حديث ابن عباس إن الحافظ قال : رجاله موثقون إلا أن فيه اختلافا، وأن الشيخين احتجا بعمرو بن أبي عمير الذي ضعف به، ثم ذكر عبارة ابن الطلاع وتعقب الحافظ لها. وأورد بعض الأخبار والآثار في ذلك ثم قال في أحكامها ما نصه :
" وقد اختلف أهل العلم في عقوبة الفاعل للواط والمفعول به بعد اتفاقهم على تحريمه وأنه من الكبائر للأحاديث المتواترة في تحريمه ولعن فاعله ( أي تواترا معنويا ) فذهب من ذكر من الصحابة ( يعني الذين استشارهم أبو بكر في المسألة ) وعلي ( وهو منهم وابن عباس ) إلى أن حده القتل ولو كان بكرا سواء كان فاعلا أو مفعولا وإليه ذهب الشافعي والناصر والقاسم بن إبراهيم، واستدلوا بما ذكره المصنف ( يعني صاحب المنتقى ) من حديث عكرمة عن ابن عباس في رجمه اللوطية، وذكرناه في هذا الباب وهو بمجموعه ينتهض للاحتجاج به. وقد اختلفوا في كيفية قتل اللوطي فروي عن علي أنه يقتل بالسيف ثم يحرق لعظم المعصية وإلى ذلك ذهب أبو بكر كما تقدم عنه ( أي عملا برأي علي في الشورى ) وذهب عمر وعثمان إلى أنه يلقى عليه حائط، وذهب ابن عباس إلى أنه يلقى من أعلى بناء في البلد ( أقول والروايتان ضعيفتان وأهونهما الثانية لأن أبنيتهم كانت واطئة جدا ) وقد حكى صاحب الشفاء إجماع الصحابة على القتل. وقد حكى البغوي عن الشعبي والزهري ومالك وأحمد وإسحاق أنه يرجم ثم ذكر قول من قالوا إن اللواطة كالزنا فحدهما واحد وبحث في تخصيص اللوطي بعقاب. وقفى عليه بقوله :
" وما أحق مرتكب هذه الجريمة، ومقارف هذه الرذيلة الذميمة، بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين، ويعذب تعذيبا يكسر شهوة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين، أن يصلى من العقوبة بما يكون في الشدة والشناعة مشابها لعقوبتهم وقد خسف الله تعالى بهم، واستأصل بذلك العذاب بكرهم وثيبهم. وذهب أبو حنيفة والشافعي في قول له والمرتضى والمؤيد بالله إلى أنه يعزر اللوطي فقط. ولا يخفى ما في هذا المذهب من المخالفة للأدلة المذكورة في خصوص اللوطي، والأدلة الواردة في الزاني على العموم اهـ.
أقول ومما قاله الحنفية في هذا التعزير أنه يكون بالجلد والحبس في أنتن بقعة وبالسجن حتى يموت أو يتوب. وقد تقدم في تفسير ﴿ واللائي يأتين الفاحشة من نسائكم ﴾ ( النساء ١٤ ) الآيتين إن أبا مسلم الخراساني فسر اللائي يأتين الفاحشة من النساء بالمساحقات واللذين يأتيانها من الرجال باللائط والملوط به، وإن الجلال قال إنها في الزنا واللواط جميعا. وبينا أن الأستاذ الإمام رجح قول أبي مسلم في الآيتين. وهو يوافق قول من قالوا إن عقاب اللواطة التعزير ولكن بما فيه إيذاء لا مطلقا، فالتعزير يكون بالقول والفعل وبما فيه تعذيب وما لا تعذيب فيه ( راجع ج ٤ ).
ابتلاء مترفي الحضارة بهذه الفاحشة
ليس لدينا أثارة من التاريخ في سبب ابتلاء قوم لوط بهذه الفاحشة ولكن روى ابن إسحاق عن بعض رواة ابن عباس أن إبليس تزيا لهم في صورة أجمل صبي رآه الناس فدعاهم إلى نفسه ثم جروا على ذلك. وهذا أثر لا يثبت به شيء. وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس أنه كانت لهم ثمار بعضها على ظهر الطريق وإنه أصابهم قحط وقلة ثمار فتواطؤوا على منع ثمارهم الظاهرة أن يصيب منها أبناء السبيل بأن يعاقبوا كل غريب يأخذونه في ديارهم بإتيانه وتغريمه أربعة دراهم. قالوا : فإن الناس لا يظهرون ببلادكم إذا فعلتم ذلك. ففعلوه فألفوه. وإنا لنعلم أن العرب كانت تنزه أنفسها عن هذه الفاحشة في الجاهلية وفي أول الإسلام بالأولى، وما أشرنا إليه آنفا من تشاور الصحابة في العقاب عليها كان سببه أن خالد بن الوليد رضي الله عنه كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه : أنه وجد رجلا في بعض ضواحي بلاد العرب ينكح كما تنكح المرأة. فجمع لذلك أبو بكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم في هذا الأمر إذ لم يسبق له مثل، فأشار علي كرم الله وجهه بأن يحرق بالنار أي بعد قتله كما تقدم فوافقه الصحابة وكتب أبو بكر إلى خالد بذلك فأمضاه. رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي من طريقه بإسناد جيد، والمراد بقول خالد رضي الله عنه ضواحي بلاد العرب ما يلي بلاد فارس منها إذ كان هناك، ولم نعلم جنس ذلك الرجل ولا بد أن يكون من الأعاجم. وروى البيهقي عن عائشة : أول من اتهم بالأمر القبيح تعني عمل قوم لوط رجل على عهد عمر فأمر عمر بعض شباب قريش أن لا يجالسوه أي لمجرد التهمة.
هذه الفاحشة من سيئات ترف الحضارة وهي تكثر في المسرفين في الترف ولاسيما حيث يتعسر الاستمتاع بالنساء، كثكنات الجند والمدارس التي لا تشتد المراقبة الدينية الأدبية فيها على التلاميذ. ومن أسباب ابتلاء بعض فساق المسلمين بها في عنفوان حضارتهم احتجاب النساء وعفتهن مع ضعف التربية الدينية، وكثرة المماليك من أبناء الأعاجم الحسان الصور والاتجار بهم. قال الفقيه ابن حجر في آخر الكلام على هذه الكبيرة من كتابه الزواجر ما نصه :
" وأجمعت الأمة على أن من فعل بمملوكه فعل قوم لوط من اللوطية المجرمين الفاسقين الملعونين، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وقد فشا ذلك في التجار والمترفين فاتخذوا حسان المماليك سودا وبيضا لذلك، فعليهم أشد اللعنة الدائمة الظاهرة، وأعظم الخزي والبوار والعذاب في الدنيا والآخرة، ما داموا على هذه القبائح الشنيعة الفظيعة، الموجبة للفقر وهلاك الأموال وانمحاق البركات والخيانة في المعاملات والأمانات. ولذلك تجد أكثرهم قد افتقر من سوء ما جناه، وقبيح معاملته لمن أنعم عليه وأعطاه، ولم يرجع إلى بارئه وخالقه، وموجده ورازقه، بل بارزه بهذه المبارزة المبنية على خلع جلباب الحياء والمروة، والتخلي عن سائر صفات أهل الشهامة والفتوة، والتحلي بصفات البهائم بل بأقبح وأفظع صفة وخلة، إذ لا نجد حيوانا ذكرا ينكح مثله، فناهيك برذيلة تعفف عنها الحمير، فكيف يليق فعلها بمن هو في صورة رئيس أو كبير ؟ كلا بل هو أسفل من قدره، وأشأم من خبره، وأنتن من الجيف، وأحق بالشرور والسرف، وأخو الخزي والمهانة، وخائن عهد الله وما له عنده من الأمانة فبعدا له وسحقا، وهلاكا في جهنم وحرقا اهـ.
وقال السيد الآلوسي في آخر تفسير هذه القصة من روح المعاني : وبعض الفسقة اليوم دمرهم الله تعالى يهونون أمرها ويتمنون بها ويفتخرون بالإكثار منها، ومنهم من يفعلها أخذا للثار ولكن من أين ؟ ومنهم من يحمد الله سبحانه عليها مبنية للمفعول، وذلك لأنهم نالوا الصدارة بأعجازهم نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة اهـ.
وأقول إن هذه الفتن بالمرد هي التي حملت بعض الفقهاء على تحريم النظر إلى الغلام الأمرد ولاسيما إذا كان جميل الصورة، أطلقه بعضهم وخصه آخرون بنظر الشهوة الذي هو ذريعة الفاحشة. روى ابن أبي الدنيا والبيهقي عن الوضين بن عطاء عن بعض التابعين قال : كانوا يكرهون أن يحد الرجل النظر إلى وجه الغلام الجميل وعن الحسن بن ذكوان أنه قال : لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم صورا كصور النساء وهم أشد فتنة من العذارى وعن النجيب بن السدي قال كان يقال : لا يبيت الرجل في بيت مع المرد وعن ابن سهل قال سيكون في هذه الأمة قوم يقال لهم اللوطيون على ثلاثة أصناف : صنف ينظرون، وصنف يصافحون، وصنف يعملون ذلك العمل.
وعن مجاهد قال : لو أن الذي يعمل ذلك العمل ( يعني عمل قوم لوط ) اغتسل بكل قطرة في السماء وكل قطرة في الأرض لم يزل نجسا. وأخرج البيهقي عن عبد الله بن المبارك قال دخل سفيان الثوري الحمام، فدخل عليه غلام صبيح فقال أخرجوه فإني أرى مع كل امرأة شيطانا ومع كل غلام بضعة عشر شيطانا. يعني أن الوسوسة والإغراء بالغلام الجميل يزيد على الإغراء بالمرأة بضعة عشر ضعفا لسهولة الوصول إليه وكثرة وسائله، وهل كان من الممكن أن تدخل المرأة الحمام على الرجال كما دخل فيه الغلام وكما يدخل النساء في غير بلاد المسلمين، حتى أنهن يتولين تنظيف الرجال في الحمامات. ومن وسائل الافتتان بالمرد التعليم والانتساب إلى طريقة المتصوفة فيجعل الخير وسيلة إلى الشر، وكم فتن أستاذ من هؤلاء وأولئك بمريده وتلميذه وأخفى هواه حتى فسدت حاله، وساء مآله، وكم تهتك متهتك ففضح سره، واشتهر أمره، كالشيخ مدرك الذي عشق عمرا النصراني أحد التلاميذ الذين كانوا يأخذون عنه علم الأدب، فكتم هواه زمنا حتى غلبه فباح به فانقطع الغلام عن مجلسه فكتب إليه قصيدته المزدوجة المشهورة التي قال فيها :
إن كان ذنبي عنده الإسلام | فقد سعت في نقضه الآثام |
واختلت الصـلاة والصيام | وجاز في الدين له الحرام |
وجملة القول في هذه الفاحشة أنها :
١- جناية على الفطرة البشرية.
٢- مفسدة للشبان بالإسراف في الشهوة لأنها تنال بسهولة.
٣- مذلة للرجال بما تحدثه فيهم من داء الأبنة، وقد أشرنا آنفا إلى ما فيه من خزي ومهانة.
٤- مفسدة للنساء اللواتي تصرف أزواجهن عنهن، حتى يقصروا فيما يجب عليهم من إحصانهن، حدثني تاجر أنه دخلت دكانه مرة امرأة بارعة الجمال فأسفرت عن وجهها فقام لخدمتها دون أعوانه، فلما رأته دهشا بروعة حسنها قالت له : انظر أتجد فيَّ عيبا ؟ قال : أنى ولم أر مثلك قط ؟ قالت : ولكن زوجي فلانا يتركني عامة لياليه كالشيء اللقا ( هو الذي يلقى ويرمى لعدم الانتفاع به ) في غرف الدار ويلهو عني في الدور السفلي بغلمان الشوارع حتى مساحي الأحذية، وهو لا يشكو مني شيئا من خلق ولا خلق ولا تقصير في عمل ولا خيانة في مال ولا عرض. على أنه يعلم أنني أعلم هذا ولا يبالي به ولا يحسب حسابا لعواقبه...
ومن البديهي أنه يقل في النساء من تصبر على هذا الظلم طويلا في مثل هذه البلاد ( المصرية ) التي تروج في مدنها أسواق الفسق بما له فيها من المواخير السرية والجهرية، وأما المدن التي يعسر فيها السفاح، واتخاذ الأخدان فكثيرا ما يستغني فيه
قصة لوط عليه السلام
خير ما يعرف به لوط عليه السلام أنه ابن أخي إبراهيم خليل الرحمن ( صلى الله على نبينا وعليهما وسلم ) كما في كتب الأنساب العربية وسفر التكوين وفيه أن اسم والده ( حاران ) وأنه ولد في ( أور الكلدانيين ) وهي في طرف الجانب الشرقي من جنوب العراق الغربي من ولاية البصرة وكانت تلك البقعة تسمى أرض بابل. وأنه بعد موت والده سافر مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى ما بين النهرين الذي كان يسمى جزيرة قورا ومنه ما يسمى الآن بجزيرة ابن عمر وهو مكان تحيط به دجلة فقط ( وهناك كانت مملكة أشور ) فإلى أرض كنعان من سوريا. ثم أسكنه إبراهيم في شرق الأردن باختياره لها لجودة مراعيها، وكان في ذلك المكان المسمى بعمق السديم بقرب البحر الميت الذي سمي ببحر لوط أيضا القرى أو المدن الخمس : سدوم وعمورة وأدمة وصبوبيم وبالع التي سميت بعد ذلك صوغر لصغرها، فسكن لوط عليه السلام في عاصمتها سدوم التي كانت تعمل الخبائث، ولا يعلم أحد الآن أين كانت تلك القرى من جوار حبر لوط إذ لم يوجد من الآثار ما يدل عليها، فمن المؤرخين من يظن أن البحر غمر موضعها ولا دليل على ذلك. وكانت عمورة تلي سدوم في الكبر وفي الفساد، وهما اللتان يحفظ اسمهما الناس إلى الآن.
واسم لوط مصروف وإن كان أعجميا لكونه ثلاثيا ساكن الوسط كنوح وقال بعض المفسرين إنه عربي من مادة لاط الشيء بالشيء لوطا أي لصق ولكن بعض أهل الكتاب يقول إن معنى كلمة لوط بالعبرانية " ستر " فهي من الكلمات التي تختلف معنى مادتها العربية عن مادتها العبرية والسريانية أختي العربية الصغريين، على أنه يقرب منه فإن اللصوق ضرب من الستر. ويراجع ما ذكرناه في لغة إبراهيم في تفسير الآية ( ٧٥س ٦ ) ( ج ٧ ).
﴿ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء ﴾١ استئناف بياني مفسر للإتيان المجمل الذي قبله. والإتيان كناية عن الاستمتاع الذي عهد بمقتضى الفطرة بين الزوجين تدعو إليه الشهوة ويقصد به النسل، وتعليله هنا بالشهوة وتجنب النساء بيان لخروجهم عن مقتضى الفطرة، وما اشتملت عليه هذه الغريزة من الحكمة، التي يقصدها الإنسان العاقل والحيوان الأعجم، فسجل عليهم بابتغاء الشهوة وحدها أنهم أخس من العجماوات وأضل سبيلا، فإن ذكورها تطلب إناثها بسائق الشهوة لأجل النسل الذي يحفظ به نوع كل منها، ألا ترى أن الطير والحشرات تبدأ حياتها الزوجية ببناء المساكن الصالحة لنسلها في راحته وحفظه مما يعدو عليه من عش في أعلى شجرة أو وكنة في قلة جبل أو جحر في باطن الأرض أو غيل في داخل أجمة أو حرجة ؟
وهؤلاء المجرمون لا غرض لهم إلا إرضاء حس الشهرة وقضاء وطر اللذة. ومن قصد الشهوات لذاتها تمتعا بلذاتها، دون الفائدة التي خلقها الله تعالى لأجلها، جنى على نفسه غائلة الإسراف فيها، فانقلب نفعها ضرا، وصار خيرها شرا، بجعل الوسيلة مقصدا، وصيرورة الإسراف فيه خلقا، إذ الفعل يكون حينئذ عن داعية ثابتة لا عن علة عارضة، فلا يزال صاحبه يعاوده حتى يكون ملكة راسخة له، فتكرار العمل يكون الملكة، والملكة تدعو إلى العمل والإصرار عليه وهذا وجه إضراب الانتقال من إسناد إتيان الفاحشة إليهم بفعل المضارع المفيد للتكرار والاستمرار إلى إسناد صفة الإسراف إليهم بقوله :
﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُون ﴾ أي لستم تأتون هذه الفاحشة المرة بعد المرة بعد ندم وتوبة عقب كل مرة بل أنتم مسرفون فيها وفي سائر أعمالكم لا تقفون عند حد الاعتدال في عمل من الأعمال ففي سورة العنكبوت مكان هذه الآية وما قبلها عين ما قبلها ﴿ إنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر ﴾ ( العنكبوت ٢٩ ) وفي سورة الشعراء مكان هذا الاضطراب هنا ﴿ بل أنتم قوم عادون ﴾ ( الشعراء ١٦٦ ) أي متجاوزون لحدود الفطرة وحدود الشريعة، فهو بمعنى الإسراف، وفي سورة النمل ﴿ بل أنتم قوم تجهلون ﴾ ( النمل ٥٥ ) وهو يشمل الجهل الذي هو ضد العلم، والجهل الذي هو بمعنى السفه والطيش. ومجموع الآيات يدل على أنهم كانوا مرزوئين بفساد العقل والنفس بجمعهم بين الإسراف والعدوان والجهل، فلا هم يعقلون ضرر هذه الفاحشة في الجناية على النسل وعلى الصحة وعلى الفضيلة والآداب العامة ولا غيرها من منكراتهم فيجتنبوها أو يجتنبوا الإسراف فيها، ولا هم على شيء من الحياء وحسن الخلق يصرفهم عن ذلك.
وما كان العلم بالضرر وحده ليصرف عن السوء والفساد إذا حرم صاحبه الفضائل ومكارم الأخلاق، بل الفضائل الموهوبة بسلامة الفطرة، عرضة للفساد بسوء القدرة، إلا إذا رسخت بالفضائل المكسوبة بتربية الدين، فإننا نعلم أن هذه الفاحشة فاشية بين أعرف الناس بمفاسدها ومضارها في الأبدان والأنفس ونظام الاجتماع من المتعلمين على الطريقة المدنية العصرية حتى الباحثين في الفلسفة منهم، فقد بلغني عن بعضهم أنه قال لأخدانه : إن هذه الفعلة لا تحدث نقصا في النفس الناطقة. ونقول : يا لها من فلسفة فاسقة ! أليسوا يستخفون بها من الناس حتى أشدهم استباحة للشهوات كالإفرنج لكي لا ينتقصوهم ويمتهنوهم ؟ أو ليسوا بذلك يشعرون بنقص أنفسهم الناطقة ودنسها، فإن لم يشعر الفاعل، أفلا يشعر القابل ؟ بلى ولكن قد يجهل كثير من الأحداث الذين يخدعون عن أنفسهم بهذه الفاحشة أنهم يصابون بداء الأبنة، حتى إذا كبر أحدهم وصار لا يجد من الفساق من يرغب في إتيانه للاستمتاع به يبحث هو في الخفاء عمن يؤجر نفسه لهذا العمل من تحوت الفقراء وأراذل الخدم، فيجعل له جعلا أو راتبا على إتيانه، وهو لا يلبث أن يعاف هذا المنكر أو يعجز عن إرضاء صاحبه ( المهين عنده المحترم عند من لا يعرف حاله ) فينشد المأبون غيره، ولا يزال يذل ويخزى في مساومة أفراد هذه الطبقة السفلى على نفسه حتى يفتضح أمره في البلد ويشتهر بل يشهر بين سائر طبقات الناس، فإن أكثر التحوت الذين يعلونه لا يخجلون من إفشاء سرهم معه، ولأنه كثيرا ما يعرض نفسه على من ليس منهم ويراودهم بالتصريح، إذا لم يعرضوا عنه عند ما يبدأ به التعريض والتلويح. أفنسي من ذكرنا من فلاسفة الفسق هذا الخزي ؟ أم يرون أنه لا يدنس النفس الناطقة بنقص ؟ فقبح اللواطة وفحشها ليس بكونها لذة بهيمية كما قيل : إذ اللذة البهيمية لا قبح فيها لذاتها، لأنها مقتضى الفطرة ومبدأ حكمة بقاء النسل، بل فحشها باستعمالها بما يخالف مقتضى الفطرة وحكمتها وبما يترتب عليها من المضار البدينة والاجتماعية والأدبية الكثيرة.
أجمع العلماء على أن اللواطة من كبائر المعاصي لأن الله تعالى سماها فاحشة وخبيثة وقد وردت عدة أحاديث في لعن فاعلها عند النسائي وابن حبان وصححه الطبراني والبيهقي وصحح بعضها الحاكم، وهي على كل حال يؤيد بعضها بعضا في أمر قطعي بالنص معلوم من الدين بالضرورة. وروى الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا " إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط " ٢ صححه الحاكم وقال الترمذي حسن غريب ومن حديثه عند الطبراني " إذا ظلم أهل الذمة كانت الدولة دولة العدو، وإذا كثر الزنا كثر السباء، وإذا كثر اللوطية رفع الله يده عن الخلق فلا يبالي في أي واد هلكوا " وإسناده ضعيف.
وروى أحمد وغير النسائي من أصحاب السنن من طريق عكرمة عن ابن عباس مرفوعا " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " ٣ قال الحافظ ابن حجر في التلخيص واستنكره النسائي ورواه ابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة وإسناده أضعف من الأول بكثير. ثم نقل عن ابن الطلاع في أحكامه تصحيح الحديث ورده بأن حديث أبي هريرة لا يصح وأن ابن ماجه رواه من طريق عاصم بن عمر العمري بلفظ " فارجموا الأعلى والأسفل " وقال عاصم متروك وحديث ابن عباس مختلف في ثبوته اهـ ملخصا. ولكن الشوكاني قال في حديث ابن عباس إن الحافظ قال : رجاله موثقون إلا أن فيه اختلافا، وأن الشيخين احتجا بعمرو بن أبي عمير الذي ضعف به، ثم ذكر عبارة ابن الطلاع وتعقب الحافظ لها. وأورد بعض الأخبار والآثار في ذلك ثم قال في أحكامها ما نصه :
" وقد اختلف أهل العلم في عقوبة الفاعل للواط والمفعول به بعد اتفاقهم على تحريمه وأنه من الكبائر للأحاديث المتواترة في تحريمه ولعن فاعله ( أي تواترا معنويا ) فذهب من ذكر من الصحابة ( يعني الذين استشارهم أبو بكر في المسألة ) وعلي ( وهو منهم وابن عباس ) إلى أن حده القتل ولو كان بكرا سواء كان فاعلا أو مفعولا وإليه ذهب الشافعي والناصر والقاسم بن إبراهيم، واستدلوا بما ذكره المصنف ( يعني صاحب المنتقى ) من حديث عكرمة عن ابن عباس في رجمه اللوطية، وذكرناه في هذا الباب وهو بمجموعه ينتهض للاحتجاج به. وقد اختلفوا في كيفية قتل اللوطي فروي عن علي أنه يقتل بالسيف ثم يحرق لعظم المعصية وإلى ذلك ذهب أبو بكر كما تقدم عنه ( أي عملا برأي علي في الشورى ) وذهب عمر وعثمان إلى أنه يلقى عليه حائط، وذهب ابن عباس إلى أنه يلقى من أعلى بناء في البلد ( أقول والروايتان ضعيفتان وأهونهما الثانية لأن أبنيتهم كانت واطئة جدا ) وقد حكى صاحب الشفاء إجماع الصحابة على القتل. وقد حكى البغوي عن الشعبي والزهري ومالك وأحمد وإسحاق أنه يرجم ثم ذكر قول من قالوا إن اللواطة كالزنا فحدهما واحد وبحث في تخصيص اللوطي بعقاب. وقفى عليه بقوله :
" وما أحق مرتكب هذه الجريمة، ومقارف هذه الرذيلة الذميمة، بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين، ويعذب تعذيبا يكسر شهوة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين، أن يصلى من العقوبة بما يكون في الشدة والشناعة مشابها لعقوبتهم وقد خسف الله تعالى بهم، واستأصل بذلك العذاب بكرهم وثيبهم. وذهب أبو حنيفة والشافعي في قول له والمرتضى والمؤيد بالله إلى أنه يعزر اللوطي فقط. ولا يخفى ما في هذا المذهب من المخالفة للأدلة المذكورة في خصوص اللوطي، والأدلة الواردة في الزاني على العموم اهـ.
أقول ومما قاله الحنفية في هذا التعزير أنه يكون بالجلد والحبس في أنتن بقعة وبالسجن حتى يموت أو يتوب. وقد تقدم في تفسير ﴿ واللائي يأتين الفاحشة من نسائكم ﴾ ( النساء ١٤ ) الآيتين إن أبا مسلم الخراساني فسر اللائي يأتين الفاحشة من النساء بالمساحقات واللذين يأتيانها من الرجال باللائط والملوط به، وإن الجلال قال إنها في الزنا واللواط جميعا. وبينا أن الأستاذ الإمام رجح قول أبي مسلم في الآيتين. وهو يوافق قول من قالوا إن عقاب اللواطة التعزير ولكن بما فيه إيذاء لا مطلقا، فالتعزير يكون بالقول والفعل وبما فيه تعذيب وما لا تعذيب فيه ( راجع ج ٤ ).
ابتلاء مترفي الحضارة بهذه الفاحشة
ليس لدينا أثارة من التاريخ في سبب ابتلاء قوم لوط بهذه الفاحشة ولكن روى ابن إسحاق عن بعض رواة ابن عباس أن إبليس تزيا لهم في صورة أجمل صبي رآه الناس فدعاهم إلى نفسه ثم جروا على ذلك. وهذا أثر لا يثبت به شيء. وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس أنه كانت لهم ثمار بعضها على ظهر الطريق وإنه أصابهم قحط وقلة ثمار فتواطؤوا على منع ثمارهم الظاهرة أن يصيب منها أبناء السبيل بأن يعاقبوا كل غريب يأخذونه في ديارهم بإتيانه وتغريمه أربعة دراهم. قالوا : فإن الناس لا يظهرون ببلادكم إذا فعلتم ذلك. ففعلوه فألفوه. وإنا لنعلم أن العرب كانت تنزه أنفسها عن هذه الفاحشة في الجاهلية وفي أول الإسلام بالأولى، وما أشرنا إليه آنفا من تشاور الصحابة في العقاب عليها كان سببه أن خالد بن الوليد رضي الله عنه كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه : أنه وجد رجلا في بعض ضواحي بلاد العرب ينكح كما تنكح المرأة. فجمع لذلك أبو بكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم في هذا الأمر إذ لم يسبق له مثل، فأشار علي كرم الله وجهه بأن يحرق بالنار أي بعد قتله كما تقدم فوافقه الصحابة وكتب أبو بكر إلى خالد بذلك فأمضاه. رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي من طريقه بإسناد جيد، والمراد بقول خالد رضي الله عنه ضواحي بلاد العرب ما يلي بلاد فارس منها إذ كان هناك، ولم نعلم جنس ذلك الرجل ولا بد أن يكون من الأعاجم. وروى البيهقي عن عائشة : أول من اتهم بالأمر القبيح تعني عمل قوم لوط رجل على عهد عمر فأمر عمر بعض شباب قريش أن لا يجالسوه أي لمجرد التهمة.
هذه الفاحشة من سيئات ترف الحضارة وهي تكثر في المسرفين في الترف ولاسيما حيث يتعسر الاستمتاع بالنساء، كثكنات الجند والمدارس التي لا تشتد المراقبة الدينية الأدبية فيها على التلاميذ. ومن أسباب ابتلاء بعض فساق المسلمين بها في عنفوان حضارتهم احتجاب النساء وعفتهن مع ضعف التربية الدينية، وكثرة المماليك من أبناء الأعاجم الحسان الصور والاتجار بهم. قال الفقيه ابن حجر في آخر الكلام على هذه الكبيرة من كتابه الزواجر ما نصه :
" وأجمعت الأمة على أن من فعل بمملوكه فعل قوم لوط من اللوطية المجرمين الفاسقين الملعونين، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وقد فشا ذلك في التجار والمترفين فاتخذوا حسان المماليك سودا وبيضا لذلك، فعليهم أشد اللعنة الدائمة الظاهرة، وأعظم الخزي والبوار والعذاب في الدنيا والآخرة، ما داموا على هذه القبائح الشنيعة الفظيعة، الموجبة للفقر وهلاك الأموال وانمحاق البركات والخيانة في المعاملات والأمانات. ولذلك تجد أكثرهم قد افتقر من سوء ما جناه، وقبيح معاملته لمن أنعم عليه وأعطاه، ولم يرجع إلى بارئه وخالقه، وموجده ورازقه، بل بارزه بهذه المبارزة المبنية على خلع جلباب الحياء والمروة، والتخلي عن سائر صفات أهل الشهامة والفتوة، والتحلي بصفات البهائم بل بأقبح وأفظع صفة وخلة، إذ لا نجد حيوانا ذكرا ينكح مثله، فناهيك برذيلة تعفف عنها الحمير، فكيف يليق فعلها بمن هو في صورة رئيس أو كبير ؟ كلا بل هو أسفل من قدره، وأشأم من خبره، وأنتن من الجيف، وأحق بالشرور والسرف، وأخو الخزي والمهانة، وخائن عهد الله وما له عنده من الأمانة فبعدا له وسحقا، وهلاكا في جهنم وحرقا اهـ.
وقال السيد الآلوسي في آخر تفسير هذه القصة من روح المعاني : وبعض الفسقة اليوم دمرهم الله تعالى يهونون أمرها ويتمنون بها ويفتخرون بالإكثار منها، ومنهم من يفعلها أخذا للثار ولكن من أين ؟ ومنهم من يحمد الله سبحانه عليها مبنية للمفعول، وذلك لأنهم نالوا الصدارة بأعجازهم نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة اهـ.
وأقول إن هذه الفتن بالمرد هي التي حملت بعض الفقهاء على تحريم النظر إلى الغلام الأمرد ولاسيما إذا كان جميل الصورة، أطلقه بعضهم وخصه آخرون بنظر الشهوة الذي هو ذريعة الفاحشة. روى ابن أبي الدنيا والبيهقي عن الوضين بن عطاء عن بعض التابعين قال : كانوا يكرهون أن يحد الرجل النظر إلى وجه الغلام الجميل وعن الحسن بن ذكوان أنه قال : لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم صورا كصور النساء وهم أشد فتنة من العذارى وعن النجيب بن السدي قال كان يقال : لا يبيت الرجل في بيت مع المرد وعن ابن سهل قال سيكون في هذه الأمة قوم يقال لهم اللوطيون على ثلاثة أصناف : صنف ينظرون، وصنف يصافحون، وصنف يعملون ذلك العمل.
وعن مجاهد قال : لو أن الذي يعمل ذلك العمل ( يعني عمل قوم لوط ) اغتسل بكل قطرة في السماء وكل قطرة في الأرض لم يزل نجسا. وأخرج البيهقي عن عبد الله بن المبارك قال دخل سفيان الثوري الحمام، فدخل عليه غلام صبيح فقال أخرجوه فإني أرى مع كل امرأة شيطانا ومع كل غلام بضعة عشر شيطانا. يعني أن الوسوسة والإغراء بالغلام الجميل يزيد على الإغراء بالمرأة بضعة عشر ضعفا لسهولة الوصول إليه وكثرة وسائله، وهل كان من الممكن أن تدخل المرأة الحمام على الرجال كما دخل فيه الغلام وكما يدخل النساء في غير بلاد المسلمين، حتى أنهن يتولين تنظيف الرجال في الحمامات. ومن وسائل الافتتان بالمرد التعليم والانتساب إلى طريقة المتصوفة فيجعل الخير وسيلة إلى الشر، وكم فتن أستاذ من هؤلاء وأولئك بمريده وتلميذه وأخفى هواه حتى فسدت حاله، وساء مآله، وكم تهتك متهتك ففضح سره، واشتهر أمره، كالشيخ مدرك الذي عشق عمرا النصراني أحد التلاميذ الذين كانوا يأخذون عنه علم الأدب، فكتم هواه زمنا حتى غلبه فباح به فانقطع الغلام عن مجلسه فكتب إليه قصيدته المزدوجة المشهورة التي قال فيها :
إن كان ذنبي عنده الإسلام | فقد سعت في نقضه الآثام |
واختلت الصـلاة والصيام | وجاز في الدين له الحرام |
وجملة القول في هذه الفاحشة أنها :
١- جناية على الفطرة البشرية.
٢- مفسدة للشبان بالإسراف في الشهوة لأنها تنال بسهولة.
٣- مذلة للرجال بما تحدثه فيهم من داء الأبنة، وقد أشرنا آنفا إلى ما فيه من خزي ومهانة.
٤- مفسدة للنساء اللواتي تصرف أزواجهن عنهن، حتى يقصروا فيما يجب عليهم من إحصانهن، حدثني تاجر أنه دخلت دكانه مرة امرأة بارعة الجمال فأسفرت عن وجهها فقام لخدمتها دون أعوانه، فلما رأته دهشا بروعة حسنها قالت له : انظر أتجد فيَّ عيبا ؟ قال : أنى ولم أر مثلك قط ؟ قالت : ولكن زوجي فلانا يتركني عامة لياليه كالشيء اللقا ( هو الذي يلقى ويرمى لعدم الانتفاع به ) في غرف الدار ويلهو عني في الدور السفلي بغلمان الشوارع حتى مساحي الأحذية، وهو لا يشكو مني شيئا من خلق ولا خلق ولا تقصير في عمل ولا خيانة في مال ولا عرض. على أنه يعلم أنني أعلم هذا ولا يبالي به ولا يحسب حسابا لعواقبه...
ومن البديهي أنه يقل في النساء من تصبر على هذا الظلم طويلا في مثل هذه البلاد ( المصرية ) التي تروج في مدنها أسواق الفسق بما له فيها من المواخير السرية والجهرية، وأما المدن التي يعسر فيها السفاح، واتخاذ الأخدان فكثيرا ما يستغني فيه
.
قصة لوط عليه السلام
خير ما يعرف به لوط عليه السلام أنه ابن أخي إبراهيم خليل الرحمن ( صلى الله على نبينا وعليهما وسلم ) كما في كتب الأنساب العربية وسفر التكوين وفيه أن اسم والده ( حاران ) وأنه ولد في ( أور الكلدانيين ) وهي في طرف الجانب الشرقي من جنوب العراق الغربي من ولاية البصرة وكانت تلك البقعة تسمى أرض بابل. وأنه بعد موت والده سافر مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى ما بين النهرين الذي كان يسمى جزيرة قورا ومنه ما يسمى الآن بجزيرة ابن عمر وهو مكان تحيط به دجلة فقط ( وهناك كانت مملكة أشور ) فإلى أرض كنعان من سوريا. ثم أسكنه إبراهيم في شرق الأردن باختياره لها لجودة مراعيها، وكان في ذلك المكان المسمى بعمق السديم بقرب البحر الميت الذي سمي ببحر لوط أيضا القرى أو المدن الخمس : سدوم وعمورة وأدمة وصبوبيم وبالع التي سميت بعد ذلك صوغر لصغرها، فسكن لوط عليه السلام في عاصمتها سدوم التي كانت تعمل الخبائث، ولا يعلم أحد الآن أين كانت تلك القرى من جوار حبر لوط إذ لم يوجد من الآثار ما يدل عليها، فمن المؤرخين من يظن أن البحر غمر موضعها ولا دليل على ذلك. وكانت عمورة تلي سدوم في الكبر وفي الفساد، وهما اللتان يحفظ اسمهما الناس إلى الآن.
واسم لوط مصروف وإن كان أعجميا لكونه ثلاثيا ساكن الوسط كنوح وقال بعض المفسرين إنه عربي من مادة لاط الشيء بالشيء لوطا أي لصق ولكن بعض أهل الكتاب يقول إن معنى كلمة لوط بالعبرانية " ستر " فهي من الكلمات التي تختلف معنى مادتها العربية عن مادتها العبرية والسريانية أختي العربية الصغريين، على أنه يقرب منه فإن اللصوق ضرب من الستر. ويراجع ما ذكرناه في لغة إبراهيم في تفسير الآية ( ٧٥س ٦ ) ( ج ٧ ).
﴿ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُون ﴾ أي وما كان جواب قومه عن هذا الإنكار والنصيحة شيئا مما يدخل في باب الحجة ولا الاعتذار، ولا غير ذلك مما اعتيد في الجدال. ما كان إلا الأمر بإخراجه هو ومن آمن معه من قريتهم وتعليل ذلك بأنهم أناس يتطهرون ويتنزهون عن مشاركتهم في رجسهم، فلا سبيل إلى معاشرتهم ولا مساكنتهم مع هذه المباينة. فإن الناقص يستثقل معاشرة الكامل الذي يحتقره. وفي سورة الشعراء أنهم أنذروه هذا الإخراج إذا هو لم ينته عن الإنكار.
فإن قيل : إنه لم يسبق ذكر لمن آمن معه فيعود إليهم ضمير " أخرجوهم ".
( قلنا ) إن هذا مما يعرف بالقرينة وقد صرح به في آية النمل ففيها ( أخرجوا آل لوط ) بدل أخرجوهم والباقي سواء، إلا العطف في أولها بالفاء، كآية العنكبوت التي اختلف فيها الجواب، وهي ﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ﴾ ( العنكبوت ٢٩ ) والقرآن يفسر بعضه بعضا، ومتى كان الكلام مفهوما كان صحيحا فصيحا وإن أشكل على جامدي النحاة إعرابه كما سبق نظيره.
فإن قيل : إن في حكاية الجوابين تعارضا في المعنى محكيا بصيغة النفي والإثبات فيهما فكيف وقع هذا في كتاب الله تعالى وما الذي يدفع هذا التعارض ؟
قلنا : إنه لا تعارض ولا تنافي بين الجوابين، لحملهما على الوقوع في وقتين. ولا شك أنه كان ينهاهم كثيرا فكان يسمع في كل وقت كلاما ممن حضر منهم، وقد قلنا إن قصص القرآن لم يقصد بها سرد حوادث التاريخ بل العبرة والموعظة فيذكر في كل سورة من القصة الواحدة من المعاني والمواعظ ما لا يذكر في الأخرى، ومجموعها هو كل ما أراد الله تعالى أن يعظ به هذه الأمة. فمن المعهود أن الرسل عليهم السلام وكذا غيرهم من الوعاظ الذين ينهون الضالين والمجرمين عن المنكر يكررون لهم الوعظ بمعان متقاربة. ويسمعون منهم أجوبة متشابهة وقد يقول بعضهم ما لا يقول غيره فيعجبهم ويقرونه عليه فيسند إليهم كلهم، كما يسند إليهم فعل الواحد منهم إذا رضوه وأقروه عليه ولو بعد فعله، كما تقدم آنفا في إسناد عقر الناقة إلى قوم صالح وإنما عقرها واحد منهم، وقد حكى الله تعالى من قول رسوله لوط عليه السلام لقوله في سورة العنكبوت ما لم يحكه في سورتي الأعراف والنمل، فزاد على إتيانهم الرجال قطع السبيل، وإتيانهم المنكر في النادي الحافل، والمجلس الحاشد، فكأنهم ضاقوا به حينئذ ذرعا واستعجلوه العذاب الذي أنذرهم إذا أصروا على عصيانه، والأظهر أن هذا كان بعد أمرهم بإخراجه، وأن التوعد بالإخراج كان قبل الأمر به والله أعلم.
فإن قيل : هذا مقبول١ لأن مثله معهود معروف ولكن ما وجه بدء جملة الجواب بالواو تارة وبالفاء أخرى وما وجه اختصاص كل منهما بموضعه ؟
قلنا : إن عطف الجملة على ما قبلها بكل من الواو والفاء جائز إلا أن في الفاء زيادة معنى لأنها تفيد ربط ما بعدها بما قبلها بما يقتضي وجوب تلوه له فهو جماع معانيها العامة من التعقيب والسببية وجزاء الشرط، والأصل العام في هذا الارتباط أن يكون ما بعد الفاء أثرا لفعل وقع قبله، وكل من آيتي النمل والعنكبوت جاء بعد إسناد فعل إلى القوم، وهو قوله في الأولى :﴿ بل أنتم قوم تجهلون ﴾ ( النمل ٥٥ ) وفي الثانية :﴿ إنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر ﴾ ( العنكبوت ٢٩ ) فلذلك عطف الجواب على ما بعدهما بالفاء. وأما آية الأعراف فقد جاءت بعد جملة اسمية وهي قوله :﴿ بل أنتم قوم مسرفون ﴾ ( الأعراف ٨١ ) وإسناد صفة الإسراف إليهم فيها مقصود بالذات دون ما قبله من فعل الفاحشة الذي كان بتكراره علة لهذه الصفة وكان الإصرار عليه معلولا لها، وثم وجه آخر لعطف هذه بالواو مبني على ما استظهرناه من كون الأمر بإخراجه عليه السلام من بعضهم قد كان بعد الإنذار والوعيد به من آخرين منهم فكان بهذا في معنى المعطوف عليه فكأنه قال : فما كان جواب قومه إلا أن قال بعضهم : لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين وإن قال بعضهم أخرجوا آل لوط من قريتكم وردده آخرون أخرجوهم من قريتكم، وهذه الدقة في اختلاف التعبير في المواقع المتحدة أو المتشابهة لأمثال هذه النكت لا تجدها مطردة إلا في كتاب الله تعالى : وهي من إعجازه اللفظي، ولذلك يغفل عنها أكثر المفسرين.
بعد كتابة ما تقدم راجعت ( روح المعاني ) فإذا هو يقول : وإنما جيء بالواو في ( وما كان ) إلخ دون الفاء كما في النمل والعنكبوت لوقوع الاسم قبل الفعل هنا والفعل هناك، والتعقيب بالفعل بعد الفعل حسن دون التعقيب به بعد الاسم، وفيه تأمل اه ولعمري إنه جدير بالتأمل للفظه الذي أورده به أولا ولمعناه بعد فهمه ثانيا، فإن ظهر للمتأمل أن وجه الحسن في التعقيب ما بسطناه انتهى تعب التأمل بالقبول إن شاء الله ولم يكن عبثا، وإلا كان حظه منه كد الذهن وإضاعة الوقت معا، وما كتبت هذه النكتة، إلا لأقول فيها هذه الكلمة، وإني بذكاء أصحاب الإيجاز المخل من المعجبين، وإن قل من ينتفع بعلمهم من الصابرين، وسيقل عددهم في هذه الأمة كما قل في غيرها من الأمم التي عرفت قيمة العمل، فضنت به أن يضيع جله في حل رموز زيد وعمرو.
فإن قيل : إن المعهود من أهل الرذائل أن ينكروها أو يسموها بغير اسمها ويألمون ممن يعيرهم بها لما جبل الله عليه البشر من حب الكمال وكره النقص، فكيف علل قوم لوط إخراجه هو ومن معه بأنهم يتطهرون ويتنزهون من أدران الفواحش وهو شهادة لهم بالكمال وشهادة على أنفسهم بالنقص ؟
فالجواب : ما قال الزمخشري فيه وهو أنه : سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش وافتخارهم بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد اه ومثله معهود من المجاهرين بالفسق، وللنقص والرذائل دركات، كما أن للكمال والفضائل درجات، فأولاها أن يلم بالرذيلة وهو يشعر بقبحها، ويلوم نفسه عليها، ثم يتوب إلى ربه منها، ويليها أن يعود إليها المرة بعد المرة مستترا مستخفيا، ويليها أن يصر عليها، حتى يزول شعوره بقبحها ويليها أن يجهر بها، ويكون قدوة سيئة للمستعدين لها، ويليها أن يفاخر بها أهلها ويحتقر من يتنزهون عنها، وهذه أسفل الدركات، وهي دركة قوم لوط ولا يهبط إليها ولا يسف من يؤمن بالله واليوم الآخر بل وصف الله المؤمنين بأنهم إذا عملوا السيئات يعملونها بجهالة ثم يتوبون من قريب وأنهم لا يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون.
أجمع العلماء على أن اللواطة من كبائر المعاصي لأن الله تعالى سماها فاحشة وخبيثة وقد وردت عدة أحاديث في لعن فاعلها عند النسائي وابن حبان وصححه الطبراني والبيهقي وصحح بعضها الحاكم، وهي على كل حال يؤيد بعضها بعضا في أمر قطعي بالنص معلوم من الدين بالضرورة. وروى الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا " إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط " ٢ صححه الحاكم وقال الترمذي حسن غريب ومن حديثه عند الطبراني " إذا ظلم أهل الذمة كانت الدولة دولة العدو، وإذا كثر الزنا كثر السباء، وإذا كثر اللوطية رفع الله يده عن الخلق فلا يبالي في أي واد هلكوا " وإسناده ضعيف.
وروى أحمد وغير النسائي من أصحاب السنن من طريق عكرمة عن ابن عباس مرفوعا " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " ٣ قال الحافظ ابن حجر في التلخيص واستنكره النسائي ورواه ابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة وإسناده أضعف من الأول بكثير. ثم نقل عن ابن الطلاع في أحكامه تصحيح الحديث ورده بأن حديث أبي هريرة لا يصح وأن ابن ماجه رواه من طريق عاصم بن عمر العمري بلفظ " فارجموا الأعلى والأسفل " وقال عاصم متروك وحديث ابن عباس مختلف في ثبوته اهـ ملخصا. ولكن الشوكاني قال في حديث ابن عباس إن الحافظ قال : رجاله موثقون إلا أن فيه اختلافا، وأن الشيخين احتجا بعمرو بن أبي عمير الذي ضعف به، ثم ذكر عبارة ابن الطلاع وتعقب الحافظ لها. وأورد بعض الأخبار والآثار في ذلك ثم قال في أحكامها ما نصه :
" وقد اختلف أهل العلم في عقوبة الفاعل للواط والمفعول به بعد اتفاقهم على تحريمه وأنه من الكبائر للأحاديث المتواترة في تحريمه ولعن فاعله ( أي تواترا معنويا ) فذهب من ذكر من الصحابة ( يعني الذين استشارهم أبو بكر في المسألة ) وعلي ( وهو منهم وابن عباس ) إلى أن حده القتل ولو كان بكرا سواء كان فاعلا أو مفعولا وإليه ذهب الشافعي والناصر والقاسم بن إبراهيم، واستدلوا بما ذكره المصنف ( يعني صاحب المنتقى ) من حديث عكرمة عن ابن عباس في رجمه اللوطية، وذكرناه في هذا الباب وهو بمجموعه ينتهض للاحتجاج به. وقد اختلفوا في كيفية قتل اللوطي فروي عن علي أنه يقتل بالسيف ثم يحرق لعظم المعصية وإلى ذلك ذهب أبو بكر كما تقدم عنه ( أي عملا برأي علي في الشورى ) وذهب عمر وعثمان إلى أنه يلقى عليه حائط، وذهب ابن عباس إلى أنه يلقى من أعلى بناء في البلد ( أقول والروايتان ضعيفتان وأهونهما الثانية لأن أبنيتهم كانت واطئة جدا ) وقد حكى صاحب الشفاء إجماع الصحابة على القتل. وقد حكى البغوي عن الشعبي والزهري ومالك وأحمد وإسحاق أنه يرجم ثم ذكر قول من قالوا إن اللواطة كالزنا فحدهما واحد وبحث في تخصيص اللوطي بعقاب. وقفى عليه بقوله :
" وما أحق مرتكب هذه الجريمة، ومقارف هذه الرذيلة الذميمة، بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين، ويعذب تعذيبا يكسر شهوة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين، أن يصلى من العقوبة بما يكون في الشدة والشناعة مشابها لعقوبتهم وقد خسف الله تعالى بهم، واستأصل بذلك العذاب بكرهم وثيبهم. وذهب أبو حنيفة والشافعي في قول له والمرتضى والمؤيد بالله إلى أنه يعزر اللوطي فقط. ولا يخفى ما في هذا المذهب من المخالفة للأدلة المذكورة في خصوص اللوطي، والأدلة الواردة في الزاني على العموم اهـ.
أقول ومما قاله الحنفية في هذا التعزير أنه يكون بالجلد والحبس في أنتن بقعة وبالسجن حتى يموت أو يتوب. وقد تقدم في تفسير ﴿ واللائي يأتين الفاحشة من نسائكم ﴾ ( النساء ١٤ ) الآيتين إن أبا مسلم الخراساني فسر اللائي يأتين الفاحشة من النساء بالمساحقات واللذين يأتيانها من الرجال باللائط والملوط به، وإن الجلال قال إنها في الزنا واللواط جميعا. وبينا أن الأستاذ الإمام رجح قول أبي مسلم في الآيتين. وهو يوافق قول من قالوا إن عقاب اللواطة التعزير ولكن بما فيه إيذاء لا مطلقا، فالتعزير يكون بالقول والفعل وبما فيه تعذيب وما لا تعذيب فيه ( راجع ج ٤ ).
ابتلاء مترفي الحضارة بهذه الفاحشة
ليس لدينا أثارة من التاريخ في سبب ابتلاء قوم لوط بهذه الفاحشة ولكن روى ابن إسحاق عن بعض رواة ابن عباس أن إبليس تزيا لهم في صورة أجمل صبي رآه الناس فدعاهم إلى نفسه ثم جروا على ذلك. وهذا أثر لا يثبت به شيء. وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس أنه كانت لهم ثمار بعضها على ظهر الطريق وإنه أصابهم قحط وقلة ثمار فتواطؤوا على منع ثمارهم الظاهرة أن يصيب منها أبناء السبيل بأن يعاقبوا كل غريب يأخذونه في ديارهم بإتيانه وتغريمه أربعة دراهم. قالوا : فإن الناس لا يظهرون ببلادكم إذا فعلتم ذلك. ففعلوه فألفوه. وإنا لنعلم أن العرب كانت تنزه أنفسها عن هذه الفاحشة في الجاهلية وفي أول الإسلام بالأولى، وما أشرنا إليه آنفا من تشاور الصحابة في العقاب عليها كان سببه أن خالد بن الوليد رضي الله عنه كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه : أنه وجد رجلا في بعض ضواحي بلاد العرب ينكح كما تنكح المرأة. فجمع لذلك أبو بكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم في هذا الأمر إذ لم يسبق له مثل، فأشار علي كرم الله وجهه بأن يحرق بالنار أي بعد قتله كما تقدم فوافقه الصحابة وكتب أبو بكر إلى خالد بذلك فأمضاه. رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي من طريقه بإسناد جيد، والمراد بقول خالد رضي الله عنه ضواحي بلاد العرب ما يلي بلاد فارس منها إذ كان هناك، ولم نعلم جنس ذلك الرجل ولا بد أن يكون من الأعاجم. وروى البيهقي عن عائشة : أول من اتهم بالأمر القبيح تعني عمل قوم لوط رجل على عهد عمر فأمر عمر بعض شباب قريش أن لا يجالسوه أي لمجرد التهمة.
هذه الفاحشة من سيئات ترف الحضارة وهي تكثر في المسرفين في الترف ولاسيما حيث يتعسر الاستمتاع بالنساء، كثكنات الجند والمدارس التي لا تشتد المراقبة الدينية الأدبية فيها على التلاميذ. ومن أسباب ابتلاء بعض فساق المسلمين بها في عنفوان حضارتهم احتجاب النساء وعفتهن مع ضعف التربية الدينية، وكثرة المماليك من أبناء الأعاجم الحسان الصور والاتجار بهم. قال الفقيه ابن حجر في آخر الكلام على هذه الكبيرة من كتابه الزواجر ما نصه :
" وأجمعت الأمة على أن من فعل بمملوكه فعل قوم لوط من اللوطية المجرمين الفاسقين الملعونين، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وقد فشا ذلك في التجار والمترفين فاتخذوا حسان المماليك سودا وبيضا لذلك، فعليهم أشد اللعنة الدائمة الظاهرة، وأعظم الخزي والبوار والعذاب في الدنيا والآخرة، ما داموا على هذه القبائح الشنيعة الفظيعة، الموجبة للفقر وهلاك الأموال وانمحاق البركات والخيانة في المعاملات والأمانات. ولذلك تجد أكثرهم قد افتقر من سوء ما جناه، وقبيح معاملته لمن أنعم عليه وأعطاه، ولم يرجع إلى بارئه وخالقه، وموجده ورازقه، بل بارزه بهذه المبارزة المبنية على خلع جلباب الحياء والمروة، والتخلي عن سائر صفات أهل الشهامة والفتوة، والتحلي بصفات البهائم بل بأقبح وأفظع صفة وخلة، إذ لا نجد حيوانا ذكرا ينكح مثله، فناهيك برذيلة تعفف عنها الحمير، فكيف يليق فعلها بمن هو في صورة رئيس أو كبير ؟ كلا بل هو أسفل من قدره، وأشأم من خبره، وأنتن من الجيف، وأحق بالشرور والسرف، وأخو الخزي والمهانة، وخائن عهد الله وما له عنده من الأمانة فبعدا له وسحقا، وهلاكا في جهنم وحرقا اهـ.
وقال السيد الآلوسي في آخر تفسير هذه القصة من روح المعاني : وبعض الفسقة اليوم دمرهم الله تعالى يهونون أمرها ويتمنون بها ويفتخرون بالإكثار منها، ومنهم من يفعلها أخذا للثار ولكن من أين ؟ ومنهم من يحمد الله سبحانه عليها مبنية للمفعول، وذلك لأنهم نالوا الصدارة بأعجازهم نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة اهـ.
وأقول إن هذه الفتن بالمرد هي التي حملت بعض الفقهاء على تحريم النظر إلى الغلام الأمرد ولاسيما إذا كان جميل الصورة، أطلقه بعضهم وخصه آخرون بنظر الشهوة الذي هو ذريعة الفاحشة. روى ابن أبي الدنيا والبيهقي عن الوضين بن عطاء عن بعض التابعين قال : كانوا يكرهون أن يحد الرجل النظر إلى وجه الغلام الجميل وعن الحسن بن ذكوان أنه قال : لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم صورا كصور النساء وهم أشد فتنة من العذارى وعن النجيب بن السدي قال كان يقال : لا يبيت الرجل في بيت مع المرد وعن ابن سهل قال سيكون في هذه الأمة قوم يقال لهم اللوطيون على ثلاثة أصناف : صنف ينظرون، وصنف يصافحون، وصنف يعملون ذلك العمل.
وعن مجاهد قال : لو أن الذي يعمل ذلك العمل ( يعني عمل قوم لوط ) اغتسل بكل قطرة في السماء وكل قطرة في الأرض لم يزل نجسا. وأخرج البيهقي عن عبد الله بن المبارك قال دخل سفيان الثوري الحمام، فدخل عليه غلام صبيح فقال أخرجوه فإني أرى مع كل امرأة شيطانا ومع كل غلام بضعة عشر شيطانا. يعني أن الوسوسة والإغراء بالغلام الجميل يزيد على الإغراء بالمرأة بضعة عشر ضعفا لسهولة الوصول إليه وكثرة وسائله، وهل كان من الممكن أن تدخل المرأة الحمام على الرجال كما دخل فيه الغلام وكما يدخل النساء في غير بلاد المسلمين، حتى أنهن يتولين تنظيف الرجال في الحمامات. ومن وسائل الافتتان بالمرد التعليم والانتساب إلى طريقة المتصوفة فيجعل الخير وسيلة إلى الشر، وكم فتن أستاذ من هؤلاء وأولئك بمريده وتلميذه وأخفى هواه حتى فسدت حاله، وساء مآله، وكم تهتك متهتك ففضح سره، واشتهر أمره، كالشيخ مدرك الذي عشق عمرا النصراني أحد التلاميذ الذين كانوا يأخذون عنه علم الأدب، فكتم هواه زمنا حتى غلبه فباح به فانقطع الغلام عن مجلسه فكتب إليه قصيدته المزدوجة المشهورة التي قال فيها :
إن كان ذنبي عنده الإسلام | فقد سعت في نقضه الآثام |
واختلت الصـلاة والصيام | وجاز في الدين له الحرام |
وجملة القول في هذه الفاحشة أنها :
١- جناية على الفطرة البشرية.
٢- مفسدة للشبان بالإسراف في الشهوة لأنها تنال بسهولة.
٣- مذلة للرجال بما تحدثه فيهم من داء الأبنة، وقد أشرنا آنفا إلى ما فيه من خزي ومهانة.
٤- مفسدة للنساء اللواتي تصرف أزواجهن عنهن، حتى يقصروا فيما يجب عليهم من إحصانهن، حدثني تاجر أنه دخلت دكانه مرة امرأة بارعة الجمال فأسفرت عن وجهها فقام لخدمتها دون أعوانه، فلما رأته دهشا بروعة حسنها قالت له : انظر أتجد فيَّ عيبا ؟ قال : أنى ولم أر مثلك قط ؟ قالت : ولكن زوجي فلانا يتركني عامة لياليه كالشيء اللقا ( هو الذي يلقى ويرمى لعدم الانتفاع به ) في غرف الدار ويلهو عني في الدور السفلي بغلمان الشوارع حتى مساحي الأحذية، وهو لا يشكو مني شيئا من خلق ولا خلق ولا تقصير في عمل ولا خيانة في مال ولا عرض. على أنه يعلم أنني أعلم هذا ولا يبالي به ولا يحسب حسابا لعواقبه...
ومن البديهي أنه يقل في النساء من تصبر على هذا الظلم طويلا في مثل هذه البلاد ( المصرية ) التي تروج في مدنها أسواق الفسق بما له فيها من المواخير السرية والجهرية، وأما المدن التي يعسر فيها السفاح، واتخاذ الأخدان فكثيرا ما يستغني فيه
قصة لوط عليه السلام
خير ما يعرف به لوط عليه السلام أنه ابن أخي إبراهيم خليل الرحمن ( صلى الله على نبينا وعليهما وسلم ) كما في كتب الأنساب العربية وسفر التكوين وفيه أن اسم والده ( حاران ) وأنه ولد في ( أور الكلدانيين ) وهي في طرف الجانب الشرقي من جنوب العراق الغربي من ولاية البصرة وكانت تلك البقعة تسمى أرض بابل. وأنه بعد موت والده سافر مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى ما بين النهرين الذي كان يسمى جزيرة قورا ومنه ما يسمى الآن بجزيرة ابن عمر وهو مكان تحيط به دجلة فقط ( وهناك كانت مملكة أشور ) فإلى أرض كنعان من سوريا. ثم أسكنه إبراهيم في شرق الأردن باختياره لها لجودة مراعيها، وكان في ذلك المكان المسمى بعمق السديم بقرب البحر الميت الذي سمي ببحر لوط أيضا القرى أو المدن الخمس : سدوم وعمورة وأدمة وصبوبيم وبالع التي سميت بعد ذلك صوغر لصغرها، فسكن لوط عليه السلام في عاصمتها سدوم التي كانت تعمل الخبائث، ولا يعلم أحد الآن أين كانت تلك القرى من جوار حبر لوط إذ لم يوجد من الآثار ما يدل عليها، فمن المؤرخين من يظن أن البحر غمر موضعها ولا دليل على ذلك. وكانت عمورة تلي سدوم في الكبر وفي الفساد، وهما اللتان يحفظ اسمهما الناس إلى الآن.
واسم لوط مصروف وإن كان أعجميا لكونه ثلاثيا ساكن الوسط كنوح وقال بعض المفسرين إنه عربي من مادة لاط الشيء بالشيء لوطا أي لصق ولكن بعض أهل الكتاب يقول إن معنى كلمة لوط بالعبرانية " ستر " فهي من الكلمات التي تختلف معنى مادتها العربية عن مادتها العبرية والسريانية أختي العربية الصغريين، على أنه يقرب منه فإن اللصوق ضرب من الستر. ويراجع ما ذكرناه في لغة إبراهيم في تفسير الآية ( ٧٥س ٦ ) ( ج ٧ ).
﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِين ﴾ أي فأنجيناه وأهله بيته الذين آمنوا معه، ولذلك استثنى منهم امرأته فإنها لم تؤمن به بل خانته بولاية قومه الكافرين الفاسقين عليه، فكانت من جماعة الغابرين أي الهالكين أو الباقين الذين نزل بهم العذاب في الدنيا ويليه عذاب الآخرة. يقال غبر بمعنى بقي وبمعنى مضى وذهب وهلك. ومن قال من المفسرين إن أهله هو الذين آمنوا به سواء كانوا من ذوي قرابته أم لا فقد غفل عن قوله تعالى في سورة الذاريات :﴿ فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ﴾ ( الذاريات ٣٥- ٣٦ ).
أجمع العلماء على أن اللواطة من كبائر المعاصي لأن الله تعالى سماها فاحشة وخبيثة وقد وردت عدة أحاديث في لعن فاعلها عند النسائي وابن حبان وصححه الطبراني والبيهقي وصحح بعضها الحاكم، وهي على كل حال يؤيد بعضها بعضا في أمر قطعي بالنص معلوم من الدين بالضرورة. وروى الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا " إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط " ٢ صححه الحاكم وقال الترمذي حسن غريب ومن حديثه عند الطبراني " إذا ظلم أهل الذمة كانت الدولة دولة العدو، وإذا كثر الزنا كثر السباء، وإذا كثر اللوطية رفع الله يده عن الخلق فلا يبالي في أي واد هلكوا " وإسناده ضعيف.
وروى أحمد وغير النسائي من أصحاب السنن من طريق عكرمة عن ابن عباس مرفوعا " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " ٣ قال الحافظ ابن حجر في التلخيص واستنكره النسائي ورواه ابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة وإسناده أضعف من الأول بكثير. ثم نقل عن ابن الطلاع في أحكامه تصحيح الحديث ورده بأن حديث أبي هريرة لا يصح وأن ابن ماجه رواه من طريق عاصم بن عمر العمري بلفظ " فارجموا الأعلى والأسفل " وقال عاصم متروك وحديث ابن عباس مختلف في ثبوته اهـ ملخصا. ولكن الشوكاني قال في حديث ابن عباس إن الحافظ قال : رجاله موثقون إلا أن فيه اختلافا، وأن الشيخين احتجا بعمرو بن أبي عمير الذي ضعف به، ثم ذكر عبارة ابن الطلاع وتعقب الحافظ لها. وأورد بعض الأخبار والآثار في ذلك ثم قال في أحكامها ما نصه :
" وقد اختلف أهل العلم في عقوبة الفاعل للواط والمفعول به بعد اتفاقهم على تحريمه وأنه من الكبائر للأحاديث المتواترة في تحريمه ولعن فاعله ( أي تواترا معنويا ) فذهب من ذكر من الصحابة ( يعني الذين استشارهم أبو بكر في المسألة ) وعلي ( وهو منهم وابن عباس ) إلى أن حده القتل ولو كان بكرا سواء كان فاعلا أو مفعولا وإليه ذهب الشافعي والناصر والقاسم بن إبراهيم، واستدلوا بما ذكره المصنف ( يعني صاحب المنتقى ) من حديث عكرمة عن ابن عباس في رجمه اللوطية، وذكرناه في هذا الباب وهو بمجموعه ينتهض للاحتجاج به. وقد اختلفوا في كيفية قتل اللوطي فروي عن علي أنه يقتل بالسيف ثم يحرق لعظم المعصية وإلى ذلك ذهب أبو بكر كما تقدم عنه ( أي عملا برأي علي في الشورى ) وذهب عمر وعثمان إلى أنه يلقى عليه حائط، وذهب ابن عباس إلى أنه يلقى من أعلى بناء في البلد ( أقول والروايتان ضعيفتان وأهونهما الثانية لأن أبنيتهم كانت واطئة جدا ) وقد حكى صاحب الشفاء إجماع الصحابة على القتل. وقد حكى البغوي عن الشعبي والزهري ومالك وأحمد وإسحاق أنه يرجم ثم ذكر قول من قالوا إن اللواطة كالزنا فحدهما واحد وبحث في تخصيص اللوطي بعقاب. وقفى عليه بقوله :
" وما أحق مرتكب هذه الجريمة، ومقارف هذه الرذيلة الذميمة، بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين، ويعذب تعذيبا يكسر شهوة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين، أن يصلى من العقوبة بما يكون في الشدة والشناعة مشابها لعقوبتهم وقد خسف الله تعالى بهم، واستأصل بذلك العذاب بكرهم وثيبهم. وذهب أبو حنيفة والشافعي في قول له والمرتضى والمؤيد بالله إلى أنه يعزر اللوطي فقط. ولا يخفى ما في هذا المذهب من المخالفة للأدلة المذكورة في خصوص اللوطي، والأدلة الواردة في الزاني على العموم اهـ.
أقول ومما قاله الحنفية في هذا التعزير أنه يكون بالجلد والحبس في أنتن بقعة وبالسجن حتى يموت أو يتوب. وقد تقدم في تفسير ﴿ واللائي يأتين الفاحشة من نسائكم ﴾ ( النساء ١٤ ) الآيتين إن أبا مسلم الخراساني فسر اللائي يأتين الفاحشة من النساء بالمساحقات واللذين يأتيانها من الرجال باللائط والملوط به، وإن الجلال قال إنها في الزنا واللواط جميعا. وبينا أن الأستاذ الإمام رجح قول أبي مسلم في الآيتين. وهو يوافق قول من قالوا إن عقاب اللواطة التعزير ولكن بما فيه إيذاء لا مطلقا، فالتعزير يكون بالقول والفعل وبما فيه تعذيب وما لا تعذيب فيه ( راجع ج ٤ ).
ابتلاء مترفي الحضارة بهذه الفاحشة
ليس لدينا أثارة من التاريخ في سبب ابتلاء قوم لوط بهذه الفاحشة ولكن روى ابن إسحاق عن بعض رواة ابن عباس أن إبليس تزيا لهم في صورة أجمل صبي رآه الناس فدعاهم إلى نفسه ثم جروا على ذلك. وهذا أثر لا يثبت به شيء. وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس أنه كانت لهم ثمار بعضها على ظهر الطريق وإنه أصابهم قحط وقلة ثمار فتواطؤوا على منع ثمارهم الظاهرة أن يصيب منها أبناء السبيل بأن يعاقبوا كل غريب يأخذونه في ديارهم بإتيانه وتغريمه أربعة دراهم. قالوا : فإن الناس لا يظهرون ببلادكم إذا فعلتم ذلك. ففعلوه فألفوه. وإنا لنعلم أن العرب كانت تنزه أنفسها عن هذه الفاحشة في الجاهلية وفي أول الإسلام بالأولى، وما أشرنا إليه آنفا من تشاور الصحابة في العقاب عليها كان سببه أن خالد بن الوليد رضي الله عنه كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه : أنه وجد رجلا في بعض ضواحي بلاد العرب ينكح كما تنكح المرأة. فجمع لذلك أبو بكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم في هذا الأمر إذ لم يسبق له مثل، فأشار علي كرم الله وجهه بأن يحرق بالنار أي بعد قتله كما تقدم فوافقه الصحابة وكتب أبو بكر إلى خالد بذلك فأمضاه. رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي من طريقه بإسناد جيد، والمراد بقول خالد رضي الله عنه ضواحي بلاد العرب ما يلي بلاد فارس منها إذ كان هناك، ولم نعلم جنس ذلك الرجل ولا بد أن يكون من الأعاجم. وروى البيهقي عن عائشة : أول من اتهم بالأمر القبيح تعني عمل قوم لوط رجل على عهد عمر فأمر عمر بعض شباب قريش أن لا يجالسوه أي لمجرد التهمة.
هذه الفاحشة من سيئات ترف الحضارة وهي تكثر في المسرفين في الترف ولاسيما حيث يتعسر الاستمتاع بالنساء، كثكنات الجند والمدارس التي لا تشتد المراقبة الدينية الأدبية فيها على التلاميذ. ومن أسباب ابتلاء بعض فساق المسلمين بها في عنفوان حضارتهم احتجاب النساء وعفتهن مع ضعف التربية الدينية، وكثرة المماليك من أبناء الأعاجم الحسان الصور والاتجار بهم. قال الفقيه ابن حجر في آخر الكلام على هذه الكبيرة من كتابه الزواجر ما نصه :
" وأجمعت الأمة على أن من فعل بمملوكه فعل قوم لوط من اللوطية المجرمين الفاسقين الملعونين، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وقد فشا ذلك في التجار والمترفين فاتخذوا حسان المماليك سودا وبيضا لذلك، فعليهم أشد اللعنة الدائمة الظاهرة، وأعظم الخزي والبوار والعذاب في الدنيا والآخرة، ما داموا على هذه القبائح الشنيعة الفظيعة، الموجبة للفقر وهلاك الأموال وانمحاق البركات والخيانة في المعاملات والأمانات. ولذلك تجد أكثرهم قد افتقر من سوء ما جناه، وقبيح معاملته لمن أنعم عليه وأعطاه، ولم يرجع إلى بارئه وخالقه، وموجده ورازقه، بل بارزه بهذه المبارزة المبنية على خلع جلباب الحياء والمروة، والتخلي عن سائر صفات أهل الشهامة والفتوة، والتحلي بصفات البهائم بل بأقبح وأفظع صفة وخلة، إذ لا نجد حيوانا ذكرا ينكح مثله، فناهيك برذيلة تعفف عنها الحمير، فكيف يليق فعلها بمن هو في صورة رئيس أو كبير ؟ كلا بل هو أسفل من قدره، وأشأم من خبره، وأنتن من الجيف، وأحق بالشرور والسرف، وأخو الخزي والمهانة، وخائن عهد الله وما له عنده من الأمانة فبعدا له وسحقا، وهلاكا في جهنم وحرقا اهـ.
وقال السيد الآلوسي في آخر تفسير هذه القصة من روح المعاني : وبعض الفسقة اليوم دمرهم الله تعالى يهونون أمرها ويتمنون بها ويفتخرون بالإكثار منها، ومنهم من يفعلها أخذا للثار ولكن من أين ؟ ومنهم من يحمد الله سبحانه عليها مبنية للمفعول، وذلك لأنهم نالوا الصدارة بأعجازهم نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة اهـ.
وأقول إن هذه الفتن بالمرد هي التي حملت بعض الفقهاء على تحريم النظر إلى الغلام الأمرد ولاسيما إذا كان جميل الصورة، أطلقه بعضهم وخصه آخرون بنظر الشهوة الذي هو ذريعة الفاحشة. روى ابن أبي الدنيا والبيهقي عن الوضين بن عطاء عن بعض التابعين قال : كانوا يكرهون أن يحد الرجل النظر إلى وجه الغلام الجميل وعن الحسن بن ذكوان أنه قال : لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم صورا كصور النساء وهم أشد فتنة من العذارى وعن النجيب بن السدي قال كان يقال : لا يبيت الرجل في بيت مع المرد وعن ابن سهل قال سيكون في هذه الأمة قوم يقال لهم اللوطيون على ثلاثة أصناف : صنف ينظرون، وصنف يصافحون، وصنف يعملون ذلك العمل.
وعن مجاهد قال : لو أن الذي يعمل ذلك العمل ( يعني عمل قوم لوط ) اغتسل بكل قطرة في السماء وكل قطرة في الأرض لم يزل نجسا. وأخرج البيهقي عن عبد الله بن المبارك قال دخل سفيان الثوري الحمام، فدخل عليه غلام صبيح فقال أخرجوه فإني أرى مع كل امرأة شيطانا ومع كل غلام بضعة عشر شيطانا. يعني أن الوسوسة والإغراء بالغلام الجميل يزيد على الإغراء بالمرأة بضعة عشر ضعفا لسهولة الوصول إليه وكثرة وسائله، وهل كان من الممكن أن تدخل المرأة الحمام على الرجال كما دخل فيه الغلام وكما يدخل النساء في غير بلاد المسلمين، حتى أنهن يتولين تنظيف الرجال في الحمامات. ومن وسائل الافتتان بالمرد التعليم والانتساب إلى طريقة المتصوفة فيجعل الخير وسيلة إلى الشر، وكم فتن أستاذ من هؤلاء وأولئك بمريده وتلميذه وأخفى هواه حتى فسدت حاله، وساء مآله، وكم تهتك متهتك ففضح سره، واشتهر أمره، كالشيخ مدرك الذي عشق عمرا النصراني أحد التلاميذ الذين كانوا يأخذون عنه علم الأدب، فكتم هواه زمنا حتى غلبه فباح به فانقطع الغلام عن مجلسه فكتب إليه قصيدته المزدوجة المشهورة التي قال فيها :
إن كان ذنبي عنده الإسلام | فقد سعت في نقضه الآثام |
واختلت الصـلاة والصيام | وجاز في الدين له الحرام |
وجملة القول في هذه الفاحشة أنها :
١- جناية على الفطرة البشرية.
٢- مفسدة للشبان بالإسراف في الشهوة لأنها تنال بسهولة.
٣- مذلة للرجال بما تحدثه فيهم من داء الأبنة، وقد أشرنا آنفا إلى ما فيه من خزي ومهانة.
٤- مفسدة للنساء اللواتي تصرف أزواجهن عنهن، حتى يقصروا فيما يجب عليهم من إحصانهن، حدثني تاجر أنه دخلت دكانه مرة امرأة بارعة الجمال فأسفرت عن وجهها فقام لخدمتها دون أعوانه، فلما رأته دهشا بروعة حسنها قالت له : انظر أتجد فيَّ عيبا ؟ قال : أنى ولم أر مثلك قط ؟ قالت : ولكن زوجي فلانا يتركني عامة لياليه كالشيء اللقا ( هو الذي يلقى ويرمى لعدم الانتفاع به ) في غرف الدار ويلهو عني في الدور السفلي بغلمان الشوارع حتى مساحي الأحذية، وهو لا يشكو مني شيئا من خلق ولا خلق ولا تقصير في عمل ولا خيانة في مال ولا عرض. على أنه يعلم أنني أعلم هذا ولا يبالي به ولا يحسب حسابا لعواقبه...
ومن البديهي أنه يقل في النساء من تصبر على هذا الظلم طويلا في مثل هذه البلاد ( المصرية ) التي تروج في مدنها أسواق الفسق بما له فيها من المواخير السرية والجهرية، وأما المدن التي يعسر فيها السفاح، واتخاذ الأخدان فكثيرا ما يستغني فيه
قصة لوط عليه السلام
خير ما يعرف به لوط عليه السلام أنه ابن أخي إبراهيم خليل الرحمن ( صلى الله على نبينا وعليهما وسلم ) كما في كتب الأنساب العربية وسفر التكوين وفيه أن اسم والده ( حاران ) وأنه ولد في ( أور الكلدانيين ) وهي في طرف الجانب الشرقي من جنوب العراق الغربي من ولاية البصرة وكانت تلك البقعة تسمى أرض بابل. وأنه بعد موت والده سافر مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى ما بين النهرين الذي كان يسمى جزيرة قورا ومنه ما يسمى الآن بجزيرة ابن عمر وهو مكان تحيط به دجلة فقط ( وهناك كانت مملكة أشور ) فإلى أرض كنعان من سوريا. ثم أسكنه إبراهيم في شرق الأردن باختياره لها لجودة مراعيها، وكان في ذلك المكان المسمى بعمق السديم بقرب البحر الميت الذي سمي ببحر لوط أيضا القرى أو المدن الخمس : سدوم وعمورة وأدمة وصبوبيم وبالع التي سميت بعد ذلك صوغر لصغرها، فسكن لوط عليه السلام في عاصمتها سدوم التي كانت تعمل الخبائث، ولا يعلم أحد الآن أين كانت تلك القرى من جوار حبر لوط إذ لم يوجد من الآثار ما يدل عليها، فمن المؤرخين من يظن أن البحر غمر موضعها ولا دليل على ذلك. وكانت عمورة تلي سدوم في الكبر وفي الفساد، وهما اللتان يحفظ اسمهما الناس إلى الآن.
واسم لوط مصروف وإن كان أعجميا لكونه ثلاثيا ساكن الوسط كنوح وقال بعض المفسرين إنه عربي من مادة لاط الشيء بالشيء لوطا أي لصق ولكن بعض أهل الكتاب يقول إن معنى كلمة لوط بالعبرانية " ستر " فهي من الكلمات التي تختلف معنى مادتها العربية عن مادتها العبرية والسريانية أختي العربية الصغريين، على أنه يقرب منه فإن اللصوق ضرب من الستر. ويراجع ما ذكرناه في لغة إبراهيم في تفسير الآية ( ٧٥س ٦ ) ( ج ٧ ).
﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ﴾ أي أرسلنا عليهم مطرا عجيبا أمره وهو الحجارة التي رجموا بها قال الزمخشري في الكشاف : الفرق بين مطر وأمطر أن معنى مطرتهم السماء أصابتهم بالمطر كقولهم غاثتهم ووبلتهم وجادتهم ورهمتهم١ ويقال أمطرت عليهم كذا بمعنى أرسلته عليهم إرسال المطر اه وعن بعض أئمة اللغة أن مطر وأمطر بمعنى واحد كما في الصحاح وقال آخرون إن :" مطر " لا يستعمل إلا في الرحمة و " أمطر " لا يستعمل إلا في العذاب نقل هذا عن أبي عبيدة وتبعه الراغب والفيروزبادي في القاموس. والتحقيق أنه يقال : مطرتهم السماء وأمطرتهم وسماء ماطرة وممطرة قاله الزمخشري في حقيقة المادة من أساس البلاغة. ثم قال : ومن المجاز أمطر الله عليهم الحجارة اه فالأمطار حقيقة في المطر مجاز فيما يشبهه في الكثرة من خير وشر حسيين أو معنويين مما يجيء من السماء أو من الأرض. وما قال من قال إنه خاص بالشر إلا من تكرر الآيات في إرسال الحجارة على قوم لوط، وقوله تعالى حكاية عن بعض كفار قريش :﴿ وإذ قالوا اللهم إن كان هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ ( الأنفال ٣٢ ) وغفلوا عن قوله في سورة الأحقاف :﴿ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا ﴾ ( الأحقاف ٢٤ )
نحن نؤمن بهذه الآية كما وردت في سورة القرآن ولا نقول في حقيقتها وصفتها قولا جازما، ولكن يجوز عقلا أن يكون سبب إمطار الحجارة على قوم لوط إرسال إعصار من الريح حملتها وألقتها عليهم، ومثل هذا معهود وقد أخبرنا بعض أهل ساحل البحر أن السماء أمطرت عليهم مرة طينا ومرة سمكا أي مع المطر وسألوا من أين جاء ذلك ؟ فقلنا : أما التراب فأثارته السافياء من الريح فحملته إلى السحاب فنزل مع المطر طينا، وأما السمك فهذا الإعصار الذي يرى متدليا من السحاب إلى البحر أو مرتفعا من البحر إلى السحاب كعمود من الدخان وتسمونه التنين هو الذي يرفع الماء من البحر إلى السحاب، فاتفق أن كان فيما رفعه سمك حملته الريح إليكم لقربكم من البحر.
ويحتمل أن تكون تلك الحجارة من بعض النجوم المحطمة التي يسميها الفلكيون الحجارة النيزكية وهي بقايا كوكب محطم تجذبه الأرض إليها إذا صارت بالقرب منها وهي تحترق غالبا من سرعة الجذب وشدته وهي الشهب التي ترى في الليل فإذا سلم منها شيء من الاحتراق ووصل إلى الأرض ساخ فيها، وكان لسقوطه صوت شديد، وقد اهتدى الناس إلى بعض هذه الحجارة ووضعوها في المتاحف، ولم يعهد أن تكون كثيرة، والآيات تخالف المعهود وتخترق المعتاد وإن كانت موافقة لسنن خفية في الكون بفعل الله عز وجل. وفي سورتي هود والحجر أنها حجارة من سجيل مسومة. واختلف رواة التفسير في تفسير السجيل قال مجاهد هو بالفارسية أولها حجارة وآخرها طين، وفي قوله :" مسومة " قال معلمة. ومثله عن شيخه ابن عباس رضي الله عنه قال : حجارة فيها طين وقال السوم بياض في حمرة وقال الراغب : والسجيل حجر وطين مختلط وأصله فيما قيل فارسي معرب اه وهذا يرجح الوجه الأول وهو كون تلك الحجارة من الأرض وقلعتها أعاصير من أرض رطبة من المطر أو غيره. وحجارة النيازك لا تكون إلا جافة بل تسقط حامية من شدة الجذب ثم تبرد، وقال الأستاذ الإمام في تفسير سورة الفيل السجيل طين متحجر. والصواب الأول وأنه فارسي الأصل. وسنعوذ إلى هذا البحث في تفسير سورة هود إن شاء الله تعالى، وفيها أن الله تعالى جعل عالي تلك القرى سافلها، ونبين أن وقوع هذا وذاك بالسنن الإلهية الجلية أو الخفية لا ينافي كونها آية.
﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ الخطاب لكل من يسمع القصة أو يقرؤها من أهل النظر والاعتبار والمراد أن يعلم أن عاقبة القوم المجرمين لا تكون إلا وبالا وعقابا فإن الأمم تعاقب على ذنوبها في الدنيا قبل الآخرة باطراد. وقد بينا من قبل أن عقابها إما أن يكون أثرا طبيعيا للذنب كالترف والسرف في الفسق يفسد أخلاق الأمة ويذهب ببأسها أو يجعله بينها شديدا بتفرق كلمتها واختلاف أحزابها وتعاديهم، فيترتب على ذلك تسلط أمة أخرى عليها تستذلها بسلب استقلالها، وتسخيرها في منافعها، حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين بذهاب مقوماتها ومشخصاتها، أو اندغامها في الأمة الغالبة أو انقراضها، وإما أن يكون بما يحدث بسنن الله تعالى في الأرض من الجوائح الطبيعية كالزلازل والخسف وإمطار النار والمواد المصطهرة التي تقذفها البراكين من الأرض والأوبئة او الانقلابات الاجتماعية كالحروب والثورات والفتن. وهنالك نوع ثالث وهو ما كان من آيات الرسل ( ع. م ) وقد انقضى زمانه بختمهم بنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم راجع تفسير ﴿ قل هل القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم او يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ﴾ ( الأنعام ٦٥ ) ( ج ٧ ).
أجمع العلماء على أن اللواطة من كبائر المعاصي لأن الله تعالى سماها فاحشة وخبيثة وقد وردت عدة أحاديث في لعن فاعلها عند النسائي وابن حبان وصححه الطبراني والبيهقي وصحح بعضها الحاكم، وهي على كل حال يؤيد بعضها بعضا في أمر قطعي بالنص معلوم من الدين بالضرورة. وروى الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا " إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط " ٢ صححه الحاكم وقال الترمذي حسن غريب ومن حديثه عند الطبراني " إذا ظلم أهل الذمة كانت الدولة دولة العدو، وإذا كثر الزنا كثر السباء، وإذا كثر اللوطية رفع الله يده عن الخلق فلا يبالي في أي واد هلكوا " وإسناده ضعيف.
وروى أحمد وغير النسائي من أصحاب السنن من طريق عكرمة عن ابن عباس مرفوعا " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " ٣ قال الحافظ ابن حجر في التلخيص واستنكره النسائي ورواه ابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة وإسناده أضعف من الأول بكثير. ثم نقل عن ابن الطلاع في أحكامه تصحيح الحديث ورده بأن حديث أبي هريرة لا يصح وأن ابن ماجه رواه من طريق عاصم بن عمر العمري بلفظ " فارجموا الأعلى والأسفل " وقال عاصم متروك وحديث ابن عباس مختلف في ثبوته اهـ ملخصا. ولكن الشوكاني قال في حديث ابن عباس إن الحافظ قال : رجاله موثقون إلا أن فيه اختلافا، وأن الشيخين احتجا بعمرو بن أبي عمير الذي ضعف به، ثم ذكر عبارة ابن الطلاع وتعقب الحافظ لها. وأورد بعض الأخبار والآثار في ذلك ثم قال في أحكامها ما نصه :
" وقد اختلف أهل العلم في عقوبة الفاعل للواط والمفعول به بعد اتفاقهم على تحريمه وأنه من الكبائر للأحاديث المتواترة في تحريمه ولعن فاعله ( أي تواترا معنويا ) فذهب من ذكر من الصحابة ( يعني الذين استشارهم أبو بكر في المسألة ) وعلي ( وهو منهم وابن عباس ) إلى أن حده القتل ولو كان بكرا سواء كان فاعلا أو مفعولا وإليه ذهب الشافعي والناصر والقاسم بن إبراهيم، واستدلوا بما ذكره المصنف ( يعني صاحب المنتقى ) من حديث عكرمة عن ابن عباس في رجمه اللوطية، وذكرناه في هذا الباب وهو بمجموعه ينتهض للاحتجاج به. وقد اختلفوا في كيفية قتل اللوطي فروي عن علي أنه يقتل بالسيف ثم يحرق لعظم المعصية وإلى ذلك ذهب أبو بكر كما تقدم عنه ( أي عملا برأي علي في الشورى ) وذهب عمر وعثمان إلى أنه يلقى عليه حائط، وذهب ابن عباس إلى أنه يلقى من أعلى بناء في البلد ( أقول والروايتان ضعيفتان وأهونهما الثانية لأن أبنيتهم كانت واطئة جدا ) وقد حكى صاحب الشفاء إجماع الصحابة على القتل. وقد حكى البغوي عن الشعبي والزهري ومالك وأحمد وإسحاق أنه يرجم ثم ذكر قول من قالوا إن اللواطة كالزنا فحدهما واحد وبحث في تخصيص اللوطي بعقاب. وقفى عليه بقوله :
" وما أحق مرتكب هذه الجريمة، ومقارف هذه الرذيلة الذميمة، بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين، ويعذب تعذيبا يكسر شهوة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين، أن يصلى من العقوبة بما يكون في الشدة والشناعة مشابها لعقوبتهم وقد خسف الله تعالى بهم، واستأصل بذلك العذاب بكرهم وثيبهم. وذهب أبو حنيفة والشافعي في قول له والمرتضى والمؤيد بالله إلى أنه يعزر اللوطي فقط. ولا يخفى ما في هذا المذهب من المخالفة للأدلة المذكورة في خصوص اللوطي، والأدلة الواردة في الزاني على العموم اهـ.
أقول ومما قاله الحنفية في هذا التعزير أنه يكون بالجلد والحبس في أنتن بقعة وبالسجن حتى يموت أو يتوب. وقد تقدم في تفسير ﴿ واللائي يأتين الفاحشة من نسائكم ﴾ ( النساء ١٤ ) الآيتين إن أبا مسلم الخراساني فسر اللائي يأتين الفاحشة من النساء بالمساحقات واللذين يأتيانها من الرجال باللائط والملوط به، وإن الجلال قال إنها في الزنا واللواط جميعا. وبينا أن الأستاذ الإمام رجح قول أبي مسلم في الآيتين. وهو يوافق قول من قالوا إن عقاب اللواطة التعزير ولكن بما فيه إيذاء لا مطلقا، فالتعزير يكون بالقول والفعل وبما فيه تعذيب وما لا تعذيب فيه ( راجع ج ٤ ).
ابتلاء مترفي الحضارة بهذه الفاحشة
ليس لدينا أثارة من التاريخ في سبب ابتلاء قوم لوط بهذه الفاحشة ولكن روى ابن إسحاق عن بعض رواة ابن عباس أن إبليس تزيا لهم في صورة أجمل صبي رآه الناس فدعاهم إلى نفسه ثم جروا على ذلك. وهذا أثر لا يثبت به شيء. وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس أنه كانت لهم ثمار بعضها على ظهر الطريق وإنه أصابهم قحط وقلة ثمار فتواطؤوا على منع ثمارهم الظاهرة أن يصيب منها أبناء السبيل بأن يعاقبوا كل غريب يأخذونه في ديارهم بإتيانه وتغريمه أربعة دراهم. قالوا : فإن الناس لا يظهرون ببلادكم إذا فعلتم ذلك. ففعلوه فألفوه. وإنا لنعلم أن العرب كانت تنزه أنفسها عن هذه الفاحشة في الجاهلية وفي أول الإسلام بالأولى، وما أشرنا إليه آنفا من تشاور الصحابة في العقاب عليها كان سببه أن خالد بن الوليد رضي الله عنه كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه : أنه وجد رجلا في بعض ضواحي بلاد العرب ينكح كما تنكح المرأة. فجمع لذلك أبو بكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم في هذا الأمر إذ لم يسبق له مثل، فأشار علي كرم الله وجهه بأن يحرق بالنار أي بعد قتله كما تقدم فوافقه الصحابة وكتب أبو بكر إلى خالد بذلك فأمضاه. رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي من طريقه بإسناد جيد، والمراد بقول خالد رضي الله عنه ضواحي بلاد العرب ما يلي بلاد فارس منها إذ كان هناك، ولم نعلم جنس ذلك الرجل ولا بد أن يكون من الأعاجم. وروى البيهقي عن عائشة : أول من اتهم بالأمر القبيح تعني عمل قوم لوط رجل على عهد عمر فأمر عمر بعض شباب قريش أن لا يجالسوه أي لمجرد التهمة.
هذه الفاحشة من سيئات ترف الحضارة وهي تكثر في المسرفين في الترف ولاسيما حيث يتعسر الاستمتاع بالنساء، كثكنات الجند والمدارس التي لا تشتد المراقبة الدينية الأدبية فيها على التلاميذ. ومن أسباب ابتلاء بعض فساق المسلمين بها في عنفوان حضارتهم احتجاب النساء وعفتهن مع ضعف التربية الدينية، وكثرة المماليك من أبناء الأعاجم الحسان الصور والاتجار بهم. قال الفقيه ابن حجر في آخر الكلام على هذه الكبيرة من كتابه الزواجر ما نصه :
" وأجمعت الأمة على أن من فعل بمملوكه فعل قوم لوط من اللوطية المجرمين الفاسقين الملعونين، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وقد فشا ذلك في التجار والمترفين فاتخذوا حسان المماليك سودا وبيضا لذلك، فعليهم أشد اللعنة الدائمة الظاهرة، وأعظم الخزي والبوار والعذاب في الدنيا والآخرة، ما داموا على هذه القبائح الشنيعة الفظيعة، الموجبة للفقر وهلاك الأموال وانمحاق البركات والخيانة في المعاملات والأمانات. ولذلك تجد أكثرهم قد افتقر من سوء ما جناه، وقبيح معاملته لمن أنعم عليه وأعطاه، ولم يرجع إلى بارئه وخالقه، وموجده ورازقه، بل بارزه بهذه المبارزة المبنية على خلع جلباب الحياء والمروة، والتخلي عن سائر صفات أهل الشهامة والفتوة، والتحلي بصفات البهائم بل بأقبح وأفظع صفة وخلة، إذ لا نجد حيوانا ذكرا ينكح مثله، فناهيك برذيلة تعفف عنها الحمير، فكيف يليق فعلها بمن هو في صورة رئيس أو كبير ؟ كلا بل هو أسفل من قدره، وأشأم من خبره، وأنتن من الجيف، وأحق بالشرور والسرف، وأخو الخزي والمهانة، وخائن عهد الله وما له عنده من الأمانة فبعدا له وسحقا، وهلاكا في جهنم وحرقا اهـ.
وقال السيد الآلوسي في آخر تفسير هذه القصة من روح المعاني : وبعض الفسقة اليوم دمرهم الله تعالى يهونون أمرها ويتمنون بها ويفتخرون بالإكثار منها، ومنهم من يفعلها أخذا للثار ولكن من أين ؟ ومنهم من يحمد الله سبحانه عليها مبنية للمفعول، وذلك لأنهم نالوا الصدارة بأعجازهم نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة اهـ.
وأقول إن هذه الفتن بالمرد هي التي حملت بعض الفقهاء على تحريم النظر إلى الغلام الأمرد ولاسيما إذا كان جميل الصورة، أطلقه بعضهم وخصه آخرون بنظر الشهوة الذي هو ذريعة الفاحشة. روى ابن أبي الدنيا والبيهقي عن الوضين بن عطاء عن بعض التابعين قال : كانوا يكرهون أن يحد الرجل النظر إلى وجه الغلام الجميل وعن الحسن بن ذكوان أنه قال : لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم صورا كصور النساء وهم أشد فتنة من العذارى وعن النجيب بن السدي قال كان يقال : لا يبيت الرجل في بيت مع المرد وعن ابن سهل قال سيكون في هذه الأمة قوم يقال لهم اللوطيون على ثلاثة أصناف : صنف ينظرون، وصنف يصافحون، وصنف يعملون ذلك العمل.
وعن مجاهد قال : لو أن الذي يعمل ذلك العمل ( يعني عمل قوم لوط ) اغتسل بكل قطرة في السماء وكل قطرة في الأرض لم يزل نجسا. وأخرج البيهقي عن عبد الله بن المبارك قال دخل سفيان الثوري الحمام، فدخل عليه غلام صبيح فقال أخرجوه فإني أرى مع كل امرأة شيطانا ومع كل غلام بضعة عشر شيطانا. يعني أن الوسوسة والإغراء بالغلام الجميل يزيد على الإغراء بالمرأة بضعة عشر ضعفا لسهولة الوصول إليه وكثرة وسائله، وهل كان من الممكن أن تدخل المرأة الحمام على الرجال كما دخل فيه الغلام وكما يدخل النساء في غير بلاد المسلمين، حتى أنهن يتولين تنظيف الرجال في الحمامات. ومن وسائل الافتتان بالمرد التعليم والانتساب إلى طريقة المتصوفة فيجعل الخير وسيلة إلى الشر، وكم فتن أستاذ من هؤلاء وأولئك بمريده وتلميذه وأخفى هواه حتى فسدت حاله، وساء مآله، وكم تهتك متهتك ففضح سره، واشتهر أمره، كالشيخ مدرك الذي عشق عمرا النصراني أحد التلاميذ الذين كانوا يأخذون عنه علم الأدب، فكتم هواه زمنا حتى غلبه فباح به فانقطع الغلام عن مجلسه فكتب إليه قصيدته المزدوجة المشهورة التي قال فيها :
إن كان ذنبي عنده الإسلام | فقد سعت في نقضه الآثام |
واختلت الصـلاة والصيام | وجاز في الدين له الحرام |
وجملة القول في هذه الفاحشة أنها :
١- جناية على الفطرة البشرية.
٢- مفسدة للشبان بالإسراف في الشهوة لأنها تنال بسهولة.
٣- مذلة للرجال بما تحدثه فيهم من داء الأبنة، وقد أشرنا آنفا إلى ما فيه من خزي ومهانة.
٤- مفسدة للنساء اللواتي تصرف أزواجهن عنهن، حتى يقصروا فيما يجب عليهم من إحصانهن، حدثني تاجر أنه دخلت دكانه مرة امرأة بارعة الجمال فأسفرت عن وجهها فقام لخدمتها دون أعوانه، فلما رأته دهشا بروعة حسنها قالت له : انظر أتجد فيَّ عيبا ؟ قال : أنى ولم أر مثلك قط ؟ قالت : ولكن زوجي فلانا يتركني عامة لياليه كالشيء اللقا ( هو الذي يلقى ويرمى لعدم الانتفاع به ) في غرف الدار ويلهو عني في الدور السفلي بغلمان الشوارع حتى مساحي الأحذية، وهو لا يشكو مني شيئا من خلق ولا خلق ولا تقصير في عمل ولا خيانة في مال ولا عرض. على أنه يعلم أنني أعلم هذا ولا يبالي به ولا يحسب حسابا لعواقبه...
ومن البديهي أنه يقل في النساء من تصبر على هذا الظلم طويلا في مثل هذه البلاد ( المصرية ) التي تروج في مدنها أسواق الفسق بما له فيها من المواخير السرية والجهرية، وأما المدن التي يعسر فيها السفاح، واتخاذ الأخدان فكثيرا ما يستغني فيه
قصة شعيب عليه السلام
هو من أنبياء العرب المرسلين واسمه مرتجل وقيل مصغر شعب بفتح المعجمة أو كسرها، وما قيل من حظر تصغير أسماء لا يدخل فيه الوضع الأول بل المراد به تصغير الاسم المعروف بما يوهم الاحتقار كأن تقول في شعيب " شعيعيب " بناء على أنه غير مصغر في الأصل، وقصد الاحتقار لا يقع من مؤمن بأنه من رسل الله عليهم السلام.
أخرج ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر قال أخبرني عبيد الله بن زياد بن سمعان عن بعض من قرأ الكتب قال : إن أهل التوراة يزعمون أن شعيبا اسمه في التوراة ميكائيل واسمه بالسريانية خبري بن يشخر بن لاوي بن يعقوب ( ع. م ) وأخرج من طريقه عن الشرقي بن القطامي وكان نسابة عالما بالأنساب قال هو يتروب بالعبرانية وشعيب بالعربية بن عيفا بن يوبب بن إبراهيم عليه السلام. يوبب يوزن جعفر أوله مثناة تحتية وبعد الواو موحدتان اهـ من الدر المنثور ولعل يشخر فيه مصحف يشجر.
وأقول إن اليهود كانوا يغشون المسلمين فيما يروون لهم من كتبهم، والذي في توراتهم أن حمي موسى كان يدعي رعوئيل كما في سفر الخروج ( ٢ : ١٨ ) وسفر العدد ( ١٠ : ٩٩ ) وقالوا إن " رعو " معناه صديق فمعنى رعوئيل ( صديق الله ) أي الصادق في عبادته وفي ( ٣ : ١ خروج ) ان اسمه يثرون بالمثلثة والنون إذ قال وكان موسى يرعى غنم يثرون حميه كاهن مدين ومثله في ( ٤ : ١٨ منه ) وضبط في ترجمة الأمير كان بكسر الياء وسكون الثاء، وفي ترجمة الجزويت " يثرو " بفتح الياء وبدون نون وفي قاموس الكتاب المقدس للدكتور بوست الأميركاني : يثرون ( فضله ) كاهن أو أمير مديان وهو حمو موسى ( خر ٣ : ١ ) ويدعى أيضا رعوئيل ( خر ٢ : ١٨ ) ( وعد ١ : ٢٩ ) ويثر ( حاشية خر ٤ : ١٨ ) ويرجح أن يثرون كان لقبا لوظيفته وإنه كان من نسل إبراهيم وقطورة ( تك ٢٥ : ٢ ) أهو ذكر قبل ذلك يثر وفسره بفضل كما فسر يثرون لفضله أي فضل مضافا إلى ضمير الغائب ولعل مرجع الضمير إلى الله تعالى كضمير عده علما في زماننا ويختصرون به عبد الله.
وفي الفصل الخامس من سفر التكوين أن زوجة إبراهيم قطورة ولدت له ستة أولاد منهم مدان ومدين، وأهل الكتاب يكسرون ميم مدين وبعضهم بقول مديان، والمدينيون عرب، والعرب تفتح ميم الكلمة، وفي قاموس بوست أن معناها خصام، ونقل عن بعض المؤرخين أن أرضهم كانت تمتد من خليج العقبة إلى موآب وطور سيناء. وعن آخرين أنها كانت تمتد من شبه جزيرة سيناء إلى الفرات. وقال إن الإسماعيليين كانوا من سكان مدين. ثم ذكر أن أهل مدين حسبوا مع العرب والموآبيين.
وأما علماؤنا فقال بعضهم كأبي عبيدة من حملة اللغة والبخاري من المحدثين والمؤرخين أن مدين بلد وإن قوله تعالى :﴿ وإلى مدين ﴾ فيه حذف المضاف أي أهل مدين، وهو غلط. وأما شعيب فقد قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات : هو ابن مكييل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام. وقيل إن جده يشجر بن لاوي بن يعقوب ( ع. م ) وقال الحافظ في الفتح : هو شعيب بن ميكيل بن يشجر بن لاوي بن يعقوب. كذا قال ابن إسحاق ولا يثبت. وقيل هو شعيب ابن صفور ابن عنقا بن ثابت بن مدين، وكان مدين ممن آمن بإبراهيم لما أحرق.
وروى ابن حبان في حديث أبي ذر الطويل " أربعة من العرب هود وصالح وشعيب ومحمد " فعلى هذا هو من العرب الخلص وقيل إنه من بني عنزة بن أسد في حديث سلمة بن سعيد العنزي أنه قدم على النبي فانتسب إلى عنزة فقال صلى الله عليه وسلم " نعم الحي عنزة مبغي عليهم منصورون، رهط شعيب وأختان موسى " أخرجه الطبراني وفي إسناده مجاهيل اهـ قال الآلوسي : ومدين وسمع مديان في الأصل علم لابن إبراهيم الخليل عليه السلام ومنع صرفه للعلمية والعجمية ثم سميت به القبيلة وقيل هو عربي اسم لما كانوا عليه، وقيل اسم بلد ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث فلا بد من تقرير مضاف حينئذ اهـ ومما تقدم تعلم أن الراجح من هذه الثلاثة الأقوال هو الأول.
قال الله تعالى :
﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ قد تقدم مثله من كل وجه في قصة صالح ( ع. م ) إلا أنه ذكر هنا أنه قد جاءتهم بينة من ربهم، وذكر هنالك آية، وقد عين الآية بعد الإعلام بمجيئها وهي الناقة. ولم يذكر هنا ولا في سورة أخرى آية كونية معينة لشعيب عليه السلام، وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم " ما من الانبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " ١ رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة ومعناه أن كل نبي مرسل أعطاه الله من الآيات الدالة على صدقه وصحة دعوته ما شأنه أن يؤمن البشر بدلالة مثله، وقد يقال إن إنذار قومه بأن يصيبهم ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح إذا هم أصروا على شقاقه وعناده هو آية بينة على صدقه، وقد صدق إنذاره هذا وهو مبين في قصته من سورة هود. ولكن لا بد أن يكون له آية أخرى دالة على صدقه تقوم بها الحجة عليهم فإن ظهور صدق هذا الإنذار يكون بوقوع العذاب المانع من صحة الإيمان، فلا فائدة لهم من قيام الحجة به، على أن البينة كل ما يتبين به الحق فهي تشمل المعجزات الكونية والبراهين العقلية، والمعروف من أحوال الأمم القديمة أنها لم تكن تذعن إلا لخوارق العادات، ولو لم تكن البينة التي أيد الله تعالى بها شعيبا ( ع. م ) ملزمة للحجة قاطعة لألسنة العذر ومكابرة الحق لما ترتب عليها قوله :
﴿ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُم ﴾ فإن عطف هذا الأمر بالفاء لا يصح إلا إذا كان مبنيا على ما هو سبب له وهو البينة على صدقه ووجوب طاعته ولو كان معطوفا على قوله ( اعبدوا الله ) لعطف بالواو.
بدأ الدعوة بالأمر بالتوحيد في العبادة لأنه أساس العقيدة وركن الدين الأعظم وقفى عليه بالأمر بإيفاء الكيل والميزان إذا باعوا، والنهي عن بخس الناس أشياءهم إذا اشتروا، لأن هذا كان فاشيا فيهم أكثر من سائر المعاصي، فكان شأنه معهم كشأن لوط ( ع. م ) إذ بدأ بنهي قومه عن الفاحشة السوءى التي كانت فاشية فيهم. كان قوم شعيب من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس أو وزنوا عليهم لأنفسهم ما يشترون من المكيلات والموزونات يستوفون حقهم أو يزيدون عليه، وإذا كالوهم أو وزنوهم ما يبيعون لهم يخسرون الكيل والميزان أي ينقصونه، فيبخسونهم أشياءهم، وينقصونهم حقوقهم، والبخس أعم من نقص المكيل والموزون فإنه يشمل غيرهما من المبيعات كالمواشي والمعدودات، ويشمل البخس في المساومة والغش والحيل التي تنتقص بها الحقوق وكذا بخس الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل، وكل من البخسين فاش في هذا الزمان، وأكثر التجار باخسون مطففون مخسرون، فيما يبيعون وفيما يشترون وأكثر المشتغلين بالعلم والآداب وكتاب السياسة بخاسون لحقوق صنفهم، ونفاجون فيما يدعون لأنفسهم، يتشبعون بما لم يعطوا كلابس نوبي زور، وينكرون على غيرهم ما أعطاه الله باعث البغي والحسد والغرور.
وجملة " ولا تبخسوا الناس أشياءهم " تشعر بأنهم كانوا يتواطؤون على هضم الغريب وبخسه، وإن كانت تشمل بخس الأفراد بعضهم أشياء بعض، وهضم الشعب في جملته أشياء الغرباء الذين يعاملونهم، فقد روي أنهم كانوا إذ دخل الغريب يأخذون دراهمه ويقولون هذه زيوف، فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس يعني النقصان وهذه النقيصة فاشية بين الأمم والشعوب في هذا العصر فتجد بعضهم يدم بعضا وينكر فضله كالأفراد وترى تجار في عواصم أوروبا يغالون من الأسعار للغرباء ما يرخصون لأهل البلاد وترى بعض الغرباء يستحلون من نهب أموال المصريين بضروب الحيل والتلبيس ما لا يستحلون مثله في معاملة أبناء جلدتهم، وأما المصريون وأمثالهم من الشرقيين فهم في معاملة الإفرنج كما قال الشاعر :
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد | ليسوا من الشر في شيء وإن هانا٢ |
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة | ومن إساءة أهل السوء إحسانا |
﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ﴾ تقدم نص هذه الجملة في آية ( ٥٥ ) خطابا لأمتنا ففسرناها بما يناسب المقام. ونقول فيما يناسب المقام هنا إن الإفساد في الأرض يشمل إفساد نظم الاجتماع البشري بالظلم وأكل أموال الناس بالباطل والبغي والعدوان على الأنفس والإعراض، وإفساد الأخلاق والآداب بالإثم والفواحش الظاهرة والباطنة وإفساد العمران بالجهل وعدم النظام. وإصلاحها هو ما يصلح به أمرها وحال أهلها من العقائد الصحيحة المنافية لخرافات الشرك ومهانته، والأعمال الصالحة المزكية للأنفس من أدران الرذائل، والأعمال الفنية المرقية للعمران وحسن المعيشة فقد قال تعالى في أوائل هذه السورة ﴿ ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون ﴾ ( الأعراف ١٠ ) فقد أصلح الله تعالى حال البشر بنظام الفطرة وكمال الخلقة ومكنهم من إصلاح الأرض بما آتاهم من القوى العقلية والجوارح، وبما أودع في خلق الأرض من السنن الحكيمة، وبما بعث به الرسل من مكملات الفطرة، فالإفساد إزالة صلاح أو إصلاح، وقد كان قوم شعيب من المفسدين للدين والدنيا كما يعلم من هذه الآية وما بعدها، والإصلاح ما يكون بفعل فاعل، وهو إما الخالق الحكيم وحده، وإما من سخرهم للإصلاح من الأنبياء والعلماء والحكماء الذين يأمرون بالقسط، والحكام العادلين الذين يقيمون القسط وغيرهم من العاملين الذين ينفعون الناس في دينهم ودنياهم، كالزراع والصناع والتجار أهل الأمانة والاستقامة، وهذه الأعمال تتوقف في هذا العصر على علوم وفنون كثيرة فهي واجبة وفقا لقاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين ﴾ الإشارة إلى كل ما تقدم من أمر ونهي أي هو خير لكم في دينكم ودنياكم لا تكليف إعنات، فربكم لا يأمركم إلا بما هو نافع لكم ولا ينهاكم إلا عما هو ضار بكم، وهو على كل حال غني عنكم، ولو شاء لأعنتكم ولكنه رحيم لا يفعل ذلك، وإنما تتحقق لكم خبرية ما ذكر إن كنتم مؤمنين بوحدانيته وصفاته تعالى وبرسوله وما جاءكم به عنه سبحانه من الدين والشرع. وسيأتي تعليل ذلك بعد بيان ما قيل في هذا الإيمان.
وقد فسر بعضهم الإيمان هنا بالتصديق اللغوي أي اعتقاد صحة قوله عليه السلام لما هو معروف به عندهم من الصدق والأمانة والنصح. بناء على أن خيرية الأوامر والنواهي الدنيوية لا تتوقف على عبادة الله وحده والإيمان برسالة رسوله. وذهب بعض المفسرين إلى أن الإشارة إلى قوله :﴿ فأوفوا الكيل ﴾ وما بعده دون ما قبله من الأمر بعبادة الله تعالى وحده. وقال الطيبي إن مثل هذا الشرط إنما يجاء به في آخر الكلام للتأكيد. وقال القطب الرازي إن ذلك ليس شرطا للخيرية نفسها بل لفعلهم كأنه قيل فائتوا به إن كنتم مصدقين بي. فلا يرد أنه لا تتوقف للخيرية في الإنسانية على تصديقهم به. وقد أطالوا الاحتمالات في الآية حتى زعم الخيالي أن قوله :﴿ ذلكم خير لكم ﴾ جملة معترضة وهو من خيالاته الغريبة التي انفرد بها.
والصواب أن هذا التذييل كأمثاله في القرآن مقصود بالذات وأن المعنى ذلكم الذي أمرتكم به من عبادة الله وحده وعدم إشراك شيء من خلقه في عبادته لما ترون فيه من خير ترجونه أو ضر تخافونه ومن إيفاء الكيل والميزان بالقسط وما نهيتكم عنه من الإفساد في الأرض ذلكم كله خير لكم في معاشكم ومعادكم. وإنما تتحقق خيريته لكم إن كنتم مؤمنين بالله ورسوله وما جاءكم به من هذه الأوامر والنواهي وغيرها ذلك بأن الإيمان يقتضي الاتباع والامتثال والعمل بجميع ما جاء به الرسول من عند الله وإن خالف الهوى أو لم تظهر له فائدته ومنفعته بادي الرأي، بل يقتضيه حتى فيما يظن المؤمن أنه مناف لمصلحته، فتحصل له فوائده ومنافعه وإن لم يعلم أنه علة أو سبب لها بحسب حكمة الله وسننه التي أقام بها نظام العالم الإنساني. فكيف إذا علم ذلك بالتفقه في الدين والوقوف على حكمه وأسراره ككون التوحيد واجتناب نزغات الشرك ترفع قدر الإنسان، وتطهر عقله ونفسه من الخرافات والأوهام، وتعتق إرادته من العبودية والذلة لمخلوق مثله مساو له في كونه مخلوقا مسخرا لإرادة الخالق وسننه وإن فاقه في عظمة الخلق أو عظم المنفعة كالشمس، أو بعض الصفات أو الخصائص كالأنبياء والملائكة وغير ذلك مما عبد من دون الله، أو في الملك والسلطان، فإن بعض الناس قد عبدوا الملوك الجبارين فاتخذوهم آلهة وأربابا، ومنهم من لا يزال يذل لهم ويطيعهم ولو في الباطل والجور، خوفا منهم، أو رجاء في رفدهم، وليس هذا من شأن الموحدين، قال تعالى :﴿ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ﴾ ( آل عمران ١٧٥ ) فالمؤمن الموحد لا يخضع لأحد لذاته إلا لربه وإلهه، وإنما يطيع رسوله لأنه مبلغ عنه.
قال تعالى :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ ( النساء ٨٠ ) وقال خاتم رسله " إنما أنا بشر مثلكم إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر " ٣ رواه أحمد ومسلم من حديث رافع بن خديج ( رض ) وقال :" إنما أنا بشر مثلكم وإن الظن يخطئ ويصيب ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله " ٤ رواه أحمد وابن ماجه من حديث طلحة رضي الله عنه بسند صحيح. وقال :" إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها " ٥ رواه الجماعة كلهم من حديث أم سلمة رضي الله عنها وفي رواية " فلا يأخذه " بدل تخيير التهديد. وفي بعضها " من حق أخيه " بدلا من " يحق مسلم " وأجمع العلماء على أن هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. وأن الذمي والمعاهد كذلك.
ومعلوم أن الذمي هو الخاضع لأحكامنا من غير المسلمين، والمعاهد من بيننا وبينه أو بين قومه معاهدة على السلم. والمراد أن غير المسلم إذا لم يكن حربيا فهو مساو للمسلمين في احترام ماله ونفسه وعرضه وفي أحكام الشريعة التي تصدر بذلك. والشاهد المراد لنا من الحديث أن الحق في شرع الله تعالى مقصود لذاته، وأن حكم الحاكم ولو كان رسولا من رسل الله إنما ينفذ على الظاهر لأنه حكم بالظاهر دون الباطن، فإذا علم المحكوم له أنه خطأ في الواقع لم يحل له ديانة والحديث ليس نصا في وقوع الخطأ أو جوازه منه صلى الله عليه وسلم إذ يصح أن يكون ما قاله على سبيل الفرض حتى لا يستعين أحد بخلابة اللسان لدى الحكام على القضاة له بالباطل.
والذين قالوا بجواز خطأ الأنبياء في اجتهادهم قالوا إن الله تعالى لا يقرهم عليه. على أن الحكم هنا بالبينة وهي إنما تكون بحسب الظاهر لا محض الاجتهاد وهذه المباحث ليست من موضوعنا هنا.
هذا م
٢ البيتان من البسيط والبيت الأول لقريط بن أنيق أحد شعراء بلعنبر في خزانة الأدب ٧/٤٤١ وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٣٠ وشرح وشواهد المغني ١/٦٩ والمقاصد النحوية ٣/٧٢ وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧/١١٠ وشرح شواهد المغنى ٢/٦٤٢ ومجالس ثعلب ومغني اللبيب ١/٢٥٧..
٣ أخرجه مسلم في الفضائل حديث ٤٠..
٤ أخرجه ابن ماجه في الرهون باب ١٥ وأحمد في المسند ١/١٦٣..
٥ أخرجه البخاري في الشهادات باب ٢٧ والحيل باب ١٠ والأحكام باب ٢٠ ومسلم في الأقضية حديث باب ٧ والأدب باب ٨٧ والترمذي في الأحكام باب ١١- ١٨ والنسائي في القضاة باب ١٢- ٣٣ وابن ماجه في الأحكام باب ٥ ومالك في الأقضية حديث ١ وأحمد في المسند ٢/٢٣٢- ٦/ ٢٠٣- ٣٠٧- ٣٠٨- ٣٢٠..
قصة شعيب عليه السلام
هو من أنبياء العرب المرسلين واسمه مرتجل وقيل مصغر شعب بفتح المعجمة أو كسرها، وما قيل من حظر تصغير أسماء لا يدخل فيه الوضع الأول بل المراد به تصغير الاسم المعروف بما يوهم الاحتقار كأن تقول في شعيب " شعيعيب " بناء على أنه غير مصغر في الأصل، وقصد الاحتقار لا يقع من مؤمن بأنه من رسل الله عليهم السلام.
أخرج ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر قال أخبرني عبيد الله بن زياد بن سمعان عن بعض من قرأ الكتب قال : إن أهل التوراة يزعمون أن شعيبا اسمه في التوراة ميكائيل واسمه بالسريانية خبري بن يشخر بن لاوي بن يعقوب ( ع. م ) وأخرج من طريقه عن الشرقي بن القطامي وكان نسابة عالما بالأنساب قال هو يتروب بالعبرانية وشعيب بالعربية بن عيفا بن يوبب بن إبراهيم عليه السلام. يوبب يوزن جعفر أوله مثناة تحتية وبعد الواو موحدتان اهـ من الدر المنثور ولعل يشخر فيه مصحف يشجر.
وأقول إن اليهود كانوا يغشون المسلمين فيما يروون لهم من كتبهم، والذي في توراتهم أن حمي موسى كان يدعي رعوئيل كما في سفر الخروج ( ٢ : ١٨ ) وسفر العدد ( ١٠ : ٩٩ ) وقالوا إن " رعو " معناه صديق فمعنى رعوئيل ( صديق الله ) أي الصادق في عبادته وفي ( ٣ : ١ خروج ) ان اسمه يثرون بالمثلثة والنون إذ قال وكان موسى يرعى غنم يثرون حميه كاهن مدين ومثله في ( ٤ : ١٨ منه ) وضبط في ترجمة الأمير كان بكسر الياء وسكون الثاء، وفي ترجمة الجزويت " يثرو " بفتح الياء وبدون نون وفي قاموس الكتاب المقدس للدكتور بوست الأميركاني : يثرون ( فضله ) كاهن أو أمير مديان وهو حمو موسى ( خر ٣ : ١ ) ويدعى أيضا رعوئيل ( خر ٢ : ١٨ ) ( وعد ١ : ٢٩ ) ويثر ( حاشية خر ٤ : ١٨ ) ويرجح أن يثرون كان لقبا لوظيفته وإنه كان من نسل إبراهيم وقطورة ( تك ٢٥ : ٢ ) أهو ذكر قبل ذلك يثر وفسره بفضل كما فسر يثرون لفضله أي فضل مضافا إلى ضمير الغائب ولعل مرجع الضمير إلى الله تعالى كضمير عده علما في زماننا ويختصرون به عبد الله.
وفي الفصل الخامس من سفر التكوين أن زوجة إبراهيم قطورة ولدت له ستة أولاد منهم مدان ومدين، وأهل الكتاب يكسرون ميم مدين وبعضهم بقول مديان، والمدينيون عرب، والعرب تفتح ميم الكلمة، وفي قاموس بوست أن معناها خصام، ونقل عن بعض المؤرخين أن أرضهم كانت تمتد من خليج العقبة إلى موآب وطور سيناء. وعن آخرين أنها كانت تمتد من شبه جزيرة سيناء إلى الفرات. وقال إن الإسماعيليين كانوا من سكان مدين. ثم ذكر أن أهل مدين حسبوا مع العرب والموآبيين.
وأما علماؤنا فقال بعضهم كأبي عبيدة من حملة اللغة والبخاري من المحدثين والمؤرخين أن مدين بلد وإن قوله تعالى :﴿ وإلى مدين ﴾ فيه حذف المضاف أي أهل مدين، وهو غلط. وأما شعيب فقد قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات : هو ابن مكييل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام. وقيل إن جده يشجر بن لاوي بن يعقوب ( ع. م ) وقال الحافظ في الفتح : هو شعيب بن ميكيل بن يشجر بن لاوي بن يعقوب. كذا قال ابن إسحاق ولا يثبت. وقيل هو شعيب ابن صفور ابن عنقا بن ثابت بن مدين، وكان مدين ممن آمن بإبراهيم لما أحرق.
وروى ابن حبان في حديث أبي ذر الطويل " أربعة من العرب هود وصالح وشعيب ومحمد " فعلى هذا هو من العرب الخلص وقيل إنه من بني عنزة بن أسد في حديث سلمة بن سعيد العنزي أنه قدم على النبي فانتسب إلى عنزة فقال صلى الله عليه وسلم " نعم الحي عنزة مبغي عليهم منصورون، رهط شعيب وأختان موسى " أخرجه الطبراني وفي إسناده مجاهيل اهـ قال الآلوسي : ومدين وسمع مديان في الأصل علم لابن إبراهيم الخليل عليه السلام ومنع صرفه للعلمية والعجمية ثم سميت به القبيلة وقيل هو عربي اسم لما كانوا عليه، وقيل اسم بلد ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث فلا بد من تقرير مضاف حينئذ اهـ ومما تقدم تعلم أن الراجح من هذه الثلاثة الأقوال هو الأول.
﴿ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾ قلنا إنه عليه السلام قد بدأ بدعوتهم إلى توحيد العبادة لأنه ركن الدين الأعظم الذي هدمته الوثنية، وثنى بالأوامر والنواهي المتعلقة بحالهم الغالبة عليهم. وأما هذا النهي عن قطعهم الطرق على من يغشى مجلسه عليه السلام ويسمع دعوته ويؤمن به فلم يؤخره لأن اقترافه دون اقتراف التطفيف في الكيل والميزان وبخس الحقوق، بل لأنه متأخر عنها في الزمن، فالدعوة قد وجهت أولا إلى أقرب الناس إليه في بلده ثم إلى الأقرب فالأقرب منهم وممن يزور أرضهم، وقد كان الأقربون دارا هم الأبعدين استجابة له في الأكثر وتلك سنة الله في الخلق. فلما رأوا غيرهم يقبل دعوته ويعلقها ويهتدي بها شرعوا يصدون الناس عنه فلا يدعون طريقا توصل إليه إلا قعد بها من توعد سالكيها إليه ويصدونهم عن سبيل الله يدعوهم إليها، ويطلبون بالتمويه والتضليل أن يجعلوا استقامتها عوجا وهداها ضلالا، وتقدم مثل هذه الجملة ( في الآية ٤٤ من هذه السورة فيراجع ).
روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله :﴿ ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ﴾ قال كانوا يجلسون في الطريق فيقولون لمن أتى عليهم إن شعيبا كذاب فلا يفتنكم عن دينكم. وفي رواية عنه كل صراط طريق توعدون قال تخوفون الناس أن يأتوا شعيبا وهذا تفسير للصراط بالطريق الحسي الحقيقي وروي عن مجاهد تفسيره بالسبيل المجازي قال :﴿ بكل صراط ﴾ بكل سبيل حق إلخ وروي أنهم كانوا يخوفون الناس بالقتل إذا آمنوا به.
والحاصل أنه نهاهم هنا عن ثلاثة أشياء : أولها : قعودهم على الطرقات التي توصل إليه يخوفون من يجيئه ليرجع عنه قبل أن يراه ويسمع دعوته ثانيها : صدهم من وصل إليه وآمن بصرفه عن الثبات على الإيمان والإسلام والاستقامة على سبيل الله تعالى الموصلة إلى سعادة الدارين ثالثها : ابتغاؤهم جعل سبيل الله المستقيمة ذات عوج بالطعن وإلقاء الشبهات المشككة فيها أو المشوهة لها كقولهم له عليه السلام الذي حكاه الله تعالى عنهم في سورة هود ( أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا } ( هود ٦٢ ). ﴿ أو نفعل في أموالنا ما نشاء ﴾ ( هود ٨٧ ) ؟
فهاهنا ضلالتان ضلالة التقليد والعصبية للآباء والأجداد ولا تزال تكأة أكثر الضالين في أصل الدين وفي فهمه وفي الاهتداء به وضلالة الغلو في الحرية الشخصية التي لم تكن فتنتها في زمن ما أشد وأعم منها في هذا الزمن بما بث الإفرنج الفاتنون المفتونون لدعوتها في كل الأمم حتى أن حكومة كالحكومة المصرية تبيح الزنا لشعب يدين أكثر أهله بالإسلام وأقله بالنصرانية واليهودية وكلهم يحرمون الزنا وإنما أباحته بإغواء أساتذتها وسادتها من الإفرنج وقد خنع الشعب المستذل المستضعف لها، وسكت علماؤه ومرشدوه الدينيون فلا ينكرون عليها أفرادا ولا جماعات، ولا يتظاهرون على الاحتجاج على عملها بالخطب الدينية والاجتماعية ولا بالنشر في الصحف العامة، وقد أدى السكوت عن هذا وما أشبهه إلى أن صار المنكر معروفا يكثر أنصاره والمستحسنون له، ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن استحلال الزنا وإباحته كفر وردة. وعلماء الدين يتحدثون فيما بينهم بكفر واضعي أمثال هذه الأحكام والقوانين والمستبيحين لها من سواهم، ولكنهم قلما يتجاوزون التناجي في ذلك بينهم إما لضعفهم أو لأن أرزاقهم من الأوقاف ومنصب القضاء في أيدي هؤلاء الحكام، كما بيناه في مواضع ومن مفاسد هذا السكوت عن إنكار المنكر بأن بعض المسلمين يحتجون به على شرعية كل ما يسكت عنه علماء الدين.
﴿ وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ ﴾ أي وتذكروا ذلك الزمن الذي كنتم فيه قليلي العدد فكثركم الله تعالى بما بارك في نسلكم فاشكروا له ذلك بعبادته وحده واتباع وصاياه في الحق والعدل وترك الفساد في الأرض.
﴿ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ من الشعوب المجاورة لكم كقوم لوط وقوم صالح وغيرهم، وكيف أهلكهم الله تعالى بفسادهم، فيجب أن يكون لكم عبرة في ذلك.
قصة شعيب عليه السلام
هو من أنبياء العرب المرسلين واسمه مرتجل وقيل مصغر شعب بفتح المعجمة أو كسرها، وما قيل من حظر تصغير أسماء لا يدخل فيه الوضع الأول بل المراد به تصغير الاسم المعروف بما يوهم الاحتقار كأن تقول في شعيب " شعيعيب " بناء على أنه غير مصغر في الأصل، وقصد الاحتقار لا يقع من مؤمن بأنه من رسل الله عليهم السلام.
أخرج ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر قال أخبرني عبيد الله بن زياد بن سمعان عن بعض من قرأ الكتب قال : إن أهل التوراة يزعمون أن شعيبا اسمه في التوراة ميكائيل واسمه بالسريانية خبري بن يشخر بن لاوي بن يعقوب ( ع. م ) وأخرج من طريقه عن الشرقي بن القطامي وكان نسابة عالما بالأنساب قال هو يتروب بالعبرانية وشعيب بالعربية بن عيفا بن يوبب بن إبراهيم عليه السلام. يوبب يوزن جعفر أوله مثناة تحتية وبعد الواو موحدتان اهـ من الدر المنثور ولعل يشخر فيه مصحف يشجر.
وأقول إن اليهود كانوا يغشون المسلمين فيما يروون لهم من كتبهم، والذي في توراتهم أن حمي موسى كان يدعي رعوئيل كما في سفر الخروج ( ٢ : ١٨ ) وسفر العدد ( ١٠ : ٩٩ ) وقالوا إن " رعو " معناه صديق فمعنى رعوئيل ( صديق الله ) أي الصادق في عبادته وفي ( ٣ : ١ خروج ) ان اسمه يثرون بالمثلثة والنون إذ قال وكان موسى يرعى غنم يثرون حميه كاهن مدين ومثله في ( ٤ : ١٨ منه ) وضبط في ترجمة الأمير كان بكسر الياء وسكون الثاء، وفي ترجمة الجزويت " يثرو " بفتح الياء وبدون نون وفي قاموس الكتاب المقدس للدكتور بوست الأميركاني : يثرون ( فضله ) كاهن أو أمير مديان وهو حمو موسى ( خر ٣ : ١ ) ويدعى أيضا رعوئيل ( خر ٢ : ١٨ ) ( وعد ١ : ٢٩ ) ويثر ( حاشية خر ٤ : ١٨ ) ويرجح أن يثرون كان لقبا لوظيفته وإنه كان من نسل إبراهيم وقطورة ( تك ٢٥ : ٢ ) أهو ذكر قبل ذلك يثر وفسره بفضل كما فسر يثرون لفضله أي فضل مضافا إلى ضمير الغائب ولعل مرجع الضمير إلى الله تعالى كضمير عده علما في زماننا ويختصرون به عبد الله.
وفي الفصل الخامس من سفر التكوين أن زوجة إبراهيم قطورة ولدت له ستة أولاد منهم مدان ومدين، وأهل الكتاب يكسرون ميم مدين وبعضهم بقول مديان، والمدينيون عرب، والعرب تفتح ميم الكلمة، وفي قاموس بوست أن معناها خصام، ونقل عن بعض المؤرخين أن أرضهم كانت تمتد من خليج العقبة إلى موآب وطور سيناء. وعن آخرين أنها كانت تمتد من شبه جزيرة سيناء إلى الفرات. وقال إن الإسماعيليين كانوا من سكان مدين. ثم ذكر أن أهل مدين حسبوا مع العرب والموآبيين.
وأما علماؤنا فقال بعضهم كأبي عبيدة من حملة اللغة والبخاري من المحدثين والمؤرخين أن مدين بلد وإن قوله تعالى :﴿ وإلى مدين ﴾ فيه حذف المضاف أي أهل مدين، وهو غلط. وأما شعيب فقد قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات : هو ابن مكييل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام. وقيل إن جده يشجر بن لاوي بن يعقوب ( ع. م ) وقال الحافظ في الفتح : هو شعيب بن ميكيل بن يشجر بن لاوي بن يعقوب. كذا قال ابن إسحاق ولا يثبت. وقيل هو شعيب ابن صفور ابن عنقا بن ثابت بن مدين، وكان مدين ممن آمن بإبراهيم لما أحرق.
وروى ابن حبان في حديث أبي ذر الطويل " أربعة من العرب هود وصالح وشعيب ومحمد " فعلى هذا هو من العرب الخلص وقيل إنه من بني عنزة بن أسد في حديث سلمة بن سعيد العنزي أنه قدم على النبي فانتسب إلى عنزة فقال صلى الله عليه وسلم " نعم الحي عنزة مبغي عليهم منصورون، رهط شعيب وأختان موسى " أخرجه الطبراني وفي إسناده مجاهيل اهـ قال الآلوسي : ومدين وسمع مديان في الأصل علم لابن إبراهيم الخليل عليه السلام ومنع صرفه للعلمية والعجمية ثم سميت به القبيلة وقيل هو عربي اسم لما كانوا عليه، وقيل اسم بلد ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث فلا بد من تقرير مضاف حينئذ اهـ ومما تقدم تعلم أن الراجح من هذه الثلاثة الأقوال هو الأول.
﴿ وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين ﴾ أي إن كان بعضكم قد آمن بما أرسلني الله به إليكم من التوحيد والعبادة والأحكام المقررة للإصلاح المانعة من الإفساد وبعضكم لم يؤمن به بل أصروا على شركهم وإفسادهم فستكون عاقبتكم كعاقبة من قبلكم، فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وبينكم بالفعل، وهو خير الحاكمين لأنه يحكم بالحق والعدل، لتنزهه عن الباطل والجور، فإن لم يعتبر كفاركم بعاقبة من قبلهم، فسيرون ما يحل بهم. فالأمر بالصبر تهديد ووعيد.
حكم الله بين عباده نوعان : حكم شرعي يوحيه إلى رسله، وحكم فعلي يفصل فيه بين الخلق بمقتضى عدله وسننه، فمن الأول قوله تعالى في أول سورة المائدة :﴿ إن الله يحكم ما يريد ﴾ ( المائدة١ ) فإنه جاء بعد الأمر بالوفاء بالعقود وإحلال بهيمة الأنعام إلا ما استثني منها بعد تلك الآية. ومن الثاني ما حكاه تعالى هنا عن رسوله شعيب عليه السلام. ومثله قوله تعالى في آخر سورة يونس خطابا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ﴾ ( يونس ١٠٩ ) وفي معناه ما ختمت به سورة الأنبياء وهو في موضوع تبليغ دعوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء، وأن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين قال رب احكم بالحق. وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون ﴾ ( الأنبياء ١٠٨- ١١٢ ) وإنما حكمه تعالى بين الأمم بنصر أقربها إلى العدل والإصلاح في الأرض وحكمه هو الحق ولا معقب لحكمه فليعتبر المسلمون بهذا قبل كل أحد وليعرضوا حالهم وحال دولهم على القرآن وعلى أحكام الله لهم وعليهم، لعلهم يثوبون إلى رشدهم ويتوبون إلى ربهم، فيعيد إليهم ما سلب منهم، ويرفع مقته وغضبه عنهم. اللهم تب علينا وعافنا واعف عنا، واحكم لنا لا علينا، إنك على كل شيء قدير.
هذه الآيات وما بعدها تتمة قصة شعيب عليه السلام. مبدوءة بجواب قومه له عما أمرهم به من البر ونهاهم عنه من المنكرات والآثام، وأنذرهم إياه من الانتقام بقوله :﴿ فاصبروا حتى يحكم الله بيننا ﴾، ورد بأسلوب الاستئناف البياني كأمثاله من مراجعة الكلام، وتولاه الملأ منهم أي كبراء رجالهم كدأب الجماعات والأقوام، وهو :
﴿ قال الملأ الّذين استكبروا من قومه لنخرجنّك يا شعيب والّذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملّتنا ﴾ أي قال أشراف قومه وأكابرهم الذين استكبروا عن الإيمان له وعتوا عما أمرهم به ونهاهم عنه اتباعا لأهوائهم –وقد استضعفوه – : نقسم لنخرجنك يا شعيب أنت والذين آمنوا معك من قريتنا الجامعة أو من بلادنا كلها – فلفظ القرية والبلد يطلق أحيانا على القطر أو المملكة – أو لتعودن وترجعن إلى ملتنا وما ندين به من تقاليدنا الموروثة عن آبائنا، فتكون ملة لكم ومحيطة بكم معنا. ضمَّن العود معنى الظرفية، وهو يتعدى باللام وإلى وفي ومنه ﴿ أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى ﴾ [ الإسراء : ٦٩ ] يعني البحر إذ الخطاب قبله لمن مسهم الضر فيه وليس فيه من معنى الظرفية ما في قوله :﴿ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ﴾ [ طه : ٢٠ ] يعني الأرض.
والمعنى : نقسم ليكونن أحد هذين الأمرين : إخراجكم أو عودتكم في الملة، فاختاروا لأنفسكم.
قيل إن التعبير بالعود يقتضي أنهم كانوا على ملتهم ثم خرجوا منها. وهو يصدق بالمجموع فلا ينافي القول بعصمة الأنبياء من الكفر حتى قبل النبوة، على أن شعيبا عليه السلام لم يكن قبل النبوة على ملة أخرى غير ملة قومه فيمنعهم ذلك من التعبير في شأنه بالعودة، وكونه لم يشاركهم في شركهم ولا في بخس الناس أشياءهم وهضم حقوقهم أمر سلبي لا يلتفت إليه جمهورهم، ولا يعدونه به خارجا عنهم، وقال الراغب : العود الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه إما انصرافا بالذات أو بالقول والعزيمة اه. ومنه ذمه والدعوة إلى غيره، ولا يقتضي هذا المعنى سبق الكون فيه ولا عدمه، فلا حاجة إذن إلى تصحيح التعبير بما قيل من تفسير العود بالمصير، وفيه من التكلف ما ليس في القول بالتغليب، ولاسيما في جوابه عليه السلام.
﴿ قال أولو كنّا كارهين ﴾ يعني العودة في ملتكم على كل حال من الأحوال حتى حال الكراهة لها الناشئة عن اعتقاد بطلانها وقبحها وما يترتب عليها من الفساد في الدنيا والعذاب في الآخرة ؟ فالاستفهام للإنكار و " لو " للغاية.
أو أتأمروننا أن نعود فيها، وتهددوننا بالنفي من وطننا، والإخراج من ديارنا إن لم نفعل، ولو كنا كارهين لكل من الأمرين ؟ -على الأصل فيما يحذف متعلقه، وهو أن يتناول كل ما يصلح له، فالاستفهام للتعجب من صنيعهم واستنكار طلبهم ورفضه بدون مبالاة.
ووجه كل من الإنكار والتعجب جهل هؤلاء الملأ بكنه الدين والملة، وكونه عقيدة يدان الله بها، وأعمالا يتقرب إليه بأدائها وإن كان غنيا عنها، وإنما شرعها لتكمل الفطرة البشرية بالتزامها، وجهلهم بكون حب الوطن وإلف السكن لا يبلغ هذه المنزلة. ولجهلهم هذا ظنوا أن شعيبا عليه السلام قد يؤثر هو ومن آمن معه التمتع بالإقامة في وطنه ومجاراة أهله في كفرهم ورذائلهم على مرضاة الله تعالى بالتوحيد المطهر للنفس من أدران الخرافات، وبالفضائل المرقية للنفس في معارج الكمال، ذلك بأن الملة عند أولئك الملأ الخاسرين رابطة تقليدية، وعصبية قومية، يجري أصحابها فيها على قول الشاعر :
وهل أنا إلا من غزيّة إن غوت | غويت وإن ترشد غزية أرشد |
وقد قدر بعض المفسرين الفعل المحذوف من الجملة ومتعلق الكراهة هكذا : قال أتخرجوننا من وطننا بغير ذنب يقتضي الإخراج ولو كنا كارهين لمفارقته حريصين على الإقامة فيه ؟ وهو تخصيص لا وجه له، فاللفظ يقتضي تقدير كراهة كل من الأمرين لحذف متعلق الكراهة، والمقام يجوز تخصيصه بالعود في ملتهم لأنه الأهم عند الأنبياء، والمناسب لبقية جوابه عليه السلام.
وأنت ترى أن التنجية أدل من العود على إثبات أنهم كانوا على ملة قومهم حقيقة. وقد علمت أن المفسرين يجعلونه تغليبا لاستثنائه عليه السلام. ونقول بناء على ما قررناه من أن عدهم إياه من أهل ملتهم لا يقتضي أنه كان يعبد ما يعبدون، ويفعل من التطفيف وبخس الناس أشياءهم ما كانوا يفعلون، إنه يصح أن يشمله إنجاء الله تعالى إياه منها بمعنى إنجائه من الانتماء إلى ملة ما كان يؤمن بعقيدتها، ولا يعمل عمل أهلها، ولا كان يهتدي بعقله ورأيه إلى ملة خير منها، فكان موقفه الحيرة في شأنها، كما يؤخذ من قوله تعالى في خطاب النبي الخاتم الأعظم، صلى الله عليه وسلم ﴿ ووجدك ضالاّ فهدى ﴾ [ الضحى : ٧ ] وتفسيره بقوله :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نّشاء من عبادنا ﴾ [ الشورى : ٥٢ ].
﴿ وما يكون لنا أن نّعود فيها إلّا أن يشاء الله ربّنا ﴾ هذا رفض آخر للعود في ملتهم مؤكد أبلغ التأكيد معطوف على مناسبه، والتعبير يدل على نفي الشأن، وهو أبلغ من نفي الفعل، لأنه نفي له بالدليل وهو كونه غير مستطاع، ولا جار على سنن الله في الاجتماع، والمعنى ليس من شأننا أن نعود فيها في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله ربنا، المتصرف في جميع شؤوننا، فهو وحده القادر على ذلك لا يقدر عليه غيره لا أنتم ولا نحن أيضا، لأننا موقنون بأن ملّتكم باطلة ضارة مفسدة، وملتنا هي الحق، التي بها صلاح الناس وعمران الأرض، والموقن لا يستطيع إزالة يقينه ولا تغييره، وإنما ذلك بيد مقلّب القلوب سبحانه ورهن مشيئته.
﴿ وسع ربّنا كل شيء علما ﴾ فعنده من العلم بأسباب الإيمان والكفر والهدى والضلال والصلاح والفساد ما ليس عندكم ولا عند أحد من الخلق، ومشيئته تجري بحسب علمه وحكمته في خلقه. ومما كان يعلمه عليه السلام من حكمته تعالى وسننه في خلقه أنه يقيم حجته بأهل الحق على أهل الباطل وينصرهم عليهم بالقول والفعل ما داموا ناصرين له وقائمين بما هداهم إليه منه، فكأنه يقول لهم : إذا كان الأمر كذلك فلا تطمعوا إذاً أن يشاء ربنا الحفي بنا عودتنا في ملتكم بعد إذ نجانا بفضله منها وأقام الحجة عليكم بنا، وما كان تعالى ليدحض حجته، ويبطل سنته.
فهذا الاستثناء موئس للملأ من قوم شعيب من عودته عليه السلام مع من آمن معه في ملتهم، لأنه بعد أن نفى وقوع العود منهم باختيارهم نفيا مؤكدا بأنه ليس من شأنهم ولا مما يجيء من قبلهم في حال ما من الأحوال التي تطرأ عليهم كالترغيب والترهيب والرجاء في المنافع والخوف من المضار، ومنها الإخراج من الديار، استثنى حالا واحدة وهي مشيئة الله تعالى وحده، فدل على عموم النفي فيما عدا المستثنى وقد يستعمل لتوكيده من غير ملاحظة لمتعلق المشيئة هل هو ممكن يجوز أن يقع أم لا، كقوله تعالى :﴿ سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ﴾ [ الأعلى : ٦، ٧ ] أو للتنبيه على النفي بكرم الله وفضله لا بالإيجاب عليه وهو الوجه الذي اختاره شيخنا رحمه الله تعالى في تفسير سورة الأعلى.
ولا يخل بتوكيد عموم النفي جواز تعلق المشيئة بالمنفي في كلام شعيب عليه السلام، والقرائن اللفظية والمعنوية تدل على عدم وقوع هذا الجائز وهو أنه تعالى لا يشاء عودته مع من آمن معه في ملة قومهم. فهو قد قرر أن هذا شيء لا يقدر عليه إلا الله تعالى فطلبه من غيره عبث، يؤكد ذكر الرب مضافا إلى ضمير المتكلم ومن معه، فأفاد بدلالة الالتزام أو الاقتضاء أنه لا يشاء لهم إلا ما عودهم بحسن تربيته إياهم ولطفه وعنايته بهم، إذ أنجاهم من تلك الملة الباطلة، وهو تأييد عصمة رسولهم وحفظ جماعتهم من العود فيها، فكان هذا بمعنى قول عبد أمين أراد أن يغويه بعض المغوين ويغريه بخيانة سيده الحفي به وصرف بعض ماله فيما يضره هو ويفسد عليه نفسه : ليس هذا من شأني ولا مما يدخل في تصرفي إلا أن يشاء سيدي الصالح المصلح المعتني بشأني، وهو أعلم مني بأمري.
فالتعبير ليس مسوقا لتقرير حجة الأشاعرة على جواز مشيئة الله لكفرهم بالفعل، ولا حجة المعتزلة على وجوب رعاية الصلاح والأصلح لهم ولغيرهم بالعقل، ولكنه يدل بطريق الالتزام على ما ذكرنا من عناية الرب سبحانه وتعالى برسله وأتباعهم المستقيمين على دينهم، ومضي سنته ووعده بتأييدهم، المصرح به في آيات أخرى كقوله تعالى :﴿ إنّا لننصر رسلنا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾ [ غافر : ٥١ ] وقوله :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين* إنّهم لهم المنصورون* وإن جندنا لهم الغالبون ﴾ [ الصافات : ١٧١ -١٧٣ ] فهو لن يشاء كفرهم بالفعل، بل يختار لهم الأصلح بحكمته وفضله لا بإيجاب العقل.
وقد روى ابن جرير وغيره عن السدي أنه قال في الآية : وما كان ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله إلا أن يشاء الله ربنا، والله لا يشاء الشرك، ولكن يقول إلا أن يكون الله قد علم شيئا فإنه وسع كل شيء علما اه. ولعله يريد أنه لا يشاء ذلك لأنه مخالف لسننه الحكيمة وفضله العظيم على رسله ومن آمن بهم وإن كان لا يقع من أهل الشقاء بسوء اختيارهم إلا بإرادته ومقتضى سنته، وسننه في الفريقين مختلفة كما شرحناه مرارا.
وقد سبق مثل هذا الاستثناء في سورة الأنعام، حكاية عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، إذ قال لقومه ﴿ ولا أخاف ما تشركون به إلّا أن يشاء ربّي شيئا وسع ربّي كل شيء علما أفلا تذكرون ﴾ [ الأنعام : ٨٠ ] وقد اخترنا هنالك أنه استثناء من عموم الأوقات وأنه منقطع معناه : لكن إن شاء ربي أن يصيبني في وقت من الأوقات مكروه من قبل ما تشركون به كوقوع صنم عليّ يشجني، فإنه يقع بقدرته تنفيذا لمشيئته، لا بقدرة شركائكم ولا بمشيئتهم لأنهم لا قدرة لهم ولا مشيئة، ثم علل ذلك بمثل ما علله به بعده شعيب عليهما الصلاة والسلام وعلى نبينا وآله فقال :﴿ وسع ربّي كل شيء علما ﴾ أي ومعبوداتكم لا تعلم شيئا، الخ واخترنا هنا جعل الاستثناء من أعم الأحوال لا الأوقات وإن جاز الجمع بينهما، لأن الوقت لا شأن له هنا، على أن عموم الأحوال يستلزم عموم الأوقات.
ثم أكد عليه السلام ذلك كله بقوله :﴿ على الله توكّلنا ﴾ أي إليه وحده وكلنا أمرنا، مع قيامنا بكل ما أوجبه علينا من المحافظة على الدين الذي شرعه لنا، فهو يكفينا أمر تهديدكم، وكل ما لم يجعله في استطاعتنا من جهادكم. وذلك أن من أصول المعرفة بالله عز وجل التي يعرفها جميع رسله أن من توكل عليه كفاه ﴿ ومن يتوكل على الله فهو حسبه ﴾ [ الطلاق : ٣ ] وأن من شروط التوكل الصحيح في الأمر القيام بكل ما أوجبه الله تعالى فيه من الأحكام الشرعية، ومراعاة ما اقتضته حكمته فيه من الأسباب والسنن الكونية والاجتماعية. فمن يترك العمل بالأسباب فهو جاهل مغرور، لا متوكل منصور ولا مأجور، قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله أيترك ناقته سائبة ويتوكل على الله تعالى ( اعقلها وتوكل ) ١ رواه الترمذي، وقال تعالى لرسوله بعد أمره بمشاورة أصحابه في غزوة أحد ﴿ فإذا عزمت فتوكل على الله ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ] وإنما يكون العزم بعد الأخذ بالأسباب ومنها مظاهرته صلى الله عليه وسلم يومئذ بلبس درعين. وقد بينا ذلك مفصلا في مواضع من هذا التفسير.
والخلاصة أنه عليه السلام بدأ جوابه للملأ من قومه بالتعجب من تهديدهم وإنذارهم، وإقامة الأدلة الدينية والعقلية على امتناع عودهم إلى ملة الكفر باختيارهم. وعدم استطاعة أحد على إجبارهم عليه غير الله تعالى الفعال لما يريد، والاستدلال على أن هذا مما لا يريده – وثنى ببيان توكلهم على الله تعالى الذي يكفي من توكل عليه ما أهمه وهو فوق كسبه واختياره، فتجتمع له العناية الكسبية والوهبية – ثم ثلث بالدعاء الذي لا يكون شرعيا مرجوّ الإجابة إلا بعد القيام بما في الطاقة من العمل الكسبي، والتوكل القلبي، فقال :
﴿ ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين ﴾ المعنى لمادة ( الفتح ) كما حققه الراغب إزالة الإغلاق والإشكال، وهو ضربان أحدهما : ما يدرك بالبصر كفتح العين والقفل والغلق والمتاع من صندوق وغرارة وخرج وعلبة، والثاني : هو ما يدرك بالبصيرة كفتح أبواب الرزق، والمغلق من مسائل العلم، والمبهم من قضايا الحكم، والنصر في وقائع الحرب، وفي آيات القرآن استعمالات من الضربين كليهما، ولك أن تقسمه إلى حسي ومعنوي – ومن الأول الفتح الذي يكون بالكلام كحكم القاضي، وفتح المأموم على الإمام في الصلاة وهو أن يقرأ الآية التي أخطأ فيها أو وقف عن القراءة ناسيا لما بقي منها – وإلى حقيقي ومجازي، ومن مجاز الأساس : فتح على فلان إذا جُد وأقبلت عليه الدنيا، وفتح الله عليه- نصره. وفتح الحاكم بينهم، وما أحسن فتاحته أي حكمه، قال :
ألا أبلغ بني وهب رسولا | بأني عن فتاحتهم غنيُّ٢ |
والمعنى : ربنا احكم وافصل بيننا وبين قومنا بالحق الذي مضت به سنتك في التنازع بين المرسلين والكافرين، وبين سائر المحقين المصلحين، والمبطلين المفسدين في الأرض، وأنت خير الحاكمين، لإحاطة علمك بما يقع به التخاصم وتنزهك عن الظلم، واتباع الهوى في ال
٢ يروي البيت:
ألا من مبلغ عمرا رسولا | فإني عن فتاحتكم غني |
لمّا يئس الملأ من قوم شعيب من دعوته في ملتهم، وعلموا أنه ثابت على مقارعتهم، خافوا أن يكثر المهتدون به من قومهم، فحذروهم ذلك بما حكاه الله تعالى عنهم بقوله :﴿ وقال الملأ الّذين كفروا من قومه لئن اتّبعتم شعيبا إنّكم إذا لخاسرون ﴾.
هذا عطف على ﴿ قال الملأ الذين استكبروا ﴾ وليس جوابا لشعيب عليه السلام ولا داخلا في هذه المراجعة بينه وبينهم إذ لو كان كذلك لفصل ولم يعطف، بل ذلك ما قالوه له والمناسب فيه وصفهم بالاستكبار فهو الذي جرأهم على تهديده وإنذاره الإخراج من قريتهم المشعر بأنهم هم أصحاب السلطان فيها، وهذا ما قالوه لقومهم إغواء لهم بصدهم عن الإيمان له، والأخذ بما جاء به، والمناسب فيه وصفهم بالكفر، فهو الحامل لهم عليه، سواء كان سببه الاستكبار عن اتباعه أو غيره، بل لو علم أولو الرأي من قومهم أن سبب صدّهم عنه هو الاستكبار والعتو لما أطاعوهم، ولذلك عللوا لهم صدهم عنه بما يوهمهم أنه هو المصلحة لهم إذ قالوا لهم بصيغة القسم لئن اتبعتم شعيبا إنكم في هذه الحالة لخاسرون، وحذف متعلق الخسار ليعم كل ما يصلح له، أي خاسرون لشرفكم ومجدكم، بإيثار ملته على ملة آبائكم وأجدادكم، ومناط عزكم وفخركم، واعترافكم بأنهم كانوا كافرين ضالين وأنهم معذبون عند الله تعالى – وخاسرون لثروتكم وربحكم من الناس بما حذفتموه من تطفيف الكيل والميزان وبخس الغرباء أشياءهم لابتزاز أموالهم، وأي خسارة أكبر من خسارة الشرف والثروة ؟
فمعلوم أن اللام في قولهم :" لئن " موطئة للقسم وهي أقوى مؤكد للكلام، والجملة الاسمية وتصديرها بإن وقرن خبرها باللام وتوسيط " إذا " التي هي جواب وجزاء بين طرفيها، كل ذلك من المؤكدات لمضمونها الخادعة لسامعيها، وأن مثلها مما يروج بين أمثالهم في كل زمان، ولاسيما زمن التفاخر بالآباء، والتعصب للأقوام والأوطان، فإننا ابتلينا في دعوتنا إلى الإصلاح بمن كانوا يصدون الناس عنا وعن نصيحتنا لأهل ملتنا بأننا لم نولد في بلادهم، ولا ننتمي إلى أحد من أجدادهم، على أننا ننتمي بفضل الله تعالى إلى آل بيت نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأن منهم من لا يعرف له نسب، ومنهم من ليس من القبط ولا العرب، وأننا نرى أشد الشعوب عصبية للوطن لا يجعلونها سببا للصد عن العلوم والفنون ولا الدين ومذاهبه، وإنما التنافس بينهم في جعل كل واحد منهم وطنه أعز وأقوى وأغنى وأقنى ولو باقتباس العلم من الآخر : نرى رجال الدين الكاثوليكي من الألمان والفرنسيس أعوانا على نصر الكثلكة ونشرها في بلادهم وغيرها، كما نرى مثل هذا بين رجال البروتستانية من الألمان والإنكليز، كدأبهم وسيرتهم في العلم، فعلماء كل شعب يتسابقون إلى اقتباس ما يظهر عند الآخر من اختراع أو كشف عن حقيقة علمية أو اهتداء لسنة كونية أو منفعة للخلق، ويعزون كل أمر إلى صاحبه، ويقولون إن العلم لا وطن له.
وإنما يقع التغاير والتفرق بين البشر في مثل هذا في إبان ضعفهم وغلبة الجهل عليهم، وفشو التحاسد وسائر الأخلاق الرديئة فيهم، واعتبر ذلك في الأمة الإسلامية في إبان ارتقائها العلمي حتى القرن الخامس والسادس إذ كان مثل أبي حامد الغزالي يجيء بغداد عاصمة العلم والملك الكبرى في الأرض فيكون رئيسا لأعظم مدرسة فيها بل في العالم ( وهي النظامية ) ولا يحول دون ذلك كونه من قرية طوس في بلاد الفرس – وفيما بعده إذ تغيرت الحال، كما بيناه في مواضع من المنار، ونحمد الله أن تلك النزعة الشيطانية تكاد تزول من مصر بارتقاء العلم والعمران على كون النزعة الوطنية العصرية تزداد قوة وانتشارا.
وفي سورة الشعراء أن الله تعالى أرسل شعيبا إلى أصحاب الأيكة وهم غير مدين فإنه وصفه في سورة الأعراف بأنه أخو مدين أي في النسب كما تقدم ولم يصفه في سورة الشعراء بذلك كما وصف من ذكر قبله : نوحا وهودا وصالحا ولوطا عليهم السلام وقد أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس في قوله تعالى – من سورة الشعراء ﴿ كذّب أصحاب الأيكة المرسلين ﴾ [ الشعراء : ٢٦ ] قالوا كانوا أصحاب غيضة بين ساحل البحر إلى مدين الخ فأفاد هذا أن الله تعالى أرسله إلى قومه أهل مدين وإلى من اتصل بهم إلى ساحل البحر الأحمر وأن حال الفريقين في الكفر والمعاصي كانت واحدة وكان ينذرهم متنقلا بينهم في زمن واحد، فلا يبعد حينئذ أن يكون العذاب قد أخذ الفريقين في وقت واحد أو وقتين متقاربين، فكان عذاب مدين بالرجفة والصيحة المصاحبة لها، وعذاب أصحاب الأيكة بالسموم وشدة الحر الذي انتهى بظلة من السحاب فزعوا إليها يتبردون بظلها، فأطبقت عليهم فاختنقوا بها أجمعون، وذهب بعض المفسرين إلى أن عقاب الفريقين واحد وسيأتي بيان ذلك في تفسير سورة الشعراء إن شاء الله تعالى.
والآية بيان مستأنف من قبل الله عز وجل ناقض لقول الملأ من قوم شعيب لقومهم ﴿ لئن اتّبعتم شعيبا إنّكم إذا لخاسرون ﴾ وقولهم قبله ﴿ لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا ﴾ كأن سائلا يسأل عنهم باعتبار كل من الحالين كيف انتهى الأمر فيها وكيف كان عاقبة أهلها ؟ فأجيب عن الأول بقوله : الذين كذبوا شعيبا وهددوه وأنذروه الإخراج من قريتهم قد هلكوا وهلكت قريتهم فحرموها كأن لم يقيموا ولم يعيشوا فيها مطلقا أو في ذلك العيش الرغيد، والأمد المديد، فمتى انقضى الشيء صار كأنه لم يكن.
وأجيب عن الثاني بقوله : الذين كذبوا شعيبا وزعموا أن من يتبعه يكون خاسرا وأكدوا زعمهم بأقوى المؤكدات كانوا هم الخاسرين لما يعتزون به من تقاليد ملتهم، ومن مالهم ووطنهم، ولما كانوا موعودين به من سعادة الدنيا والآخرة لو آمنوا – دون الذين اتبعوه فإنهم كانوا هم الفائزين المفلحين، فالجملة تفيد حصر الخسار في المكذبين له بالنص، وتقتضي نفيه عن المتبعين له بالأولى، ومناسبة الجزاء للذنب بجعل الحرص على التمتع بالوطن والاستبداد فيه على أهل الحق سببا للحرمان الأبدي منه، وجعل الحرص على الربح بأكل أموال الناس بالباطل سببا للخسران بالحرمان منه ومن غيره.
واختار بعضهم في نكتة الفصل والتكرار وجها آخر وهو أنه بيان مستأنف من الله تعالى جاء بأسلوب الخطابة العربية المؤثرة في الوعظ والتوبيخ وما في معناهما نحو : أنت الذي جنيت علينا، أنت الذي سلطت علينا أعداءنا، أنت الذي فرقت كلمتنا، أنت الذي أوقعت الشقاق بينا.
وقال الزمخشري في الكشاف : إن في هذا الاستئناف وتكرير الموصول والصلة مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيها لرأيهم، واستهزاء بنصحهم لقومهم، واستعظاما لما جرى عليهم اه. وقد خفيت على بعض العلماء الأذكياء دلالة العبارة على هذه المعاني كلها لعدم تأملها : فأما المبالغة في الرد فظاهرة لما يدركه كل من الفرق في نفسه بين ما مثلنا به آنفا لأسلوب الخطابة وبين ذكر تلك المسندات بالعطف، وسببه أن تكرار ذكر المسند إليه بصيغة الموصول والصلة المؤذن بعلة الجزاء يعيد صورة كل منهما في الذهن، ويكون حكما جديدا بعد حكم، وللحكمين من التأثير في النفس ما ليس للحكم الواحد. وأما تسفيه الرأي، والاستهزاء بذلك النصح، فهو تابع لهذا التأثير، المتضمن لما ذكر من التصوير والتمثيل.
سنن الله وحكمه في هذه القصص وأمثالها، والاعتبار بها
من سنة القرآن الحكيم أنه يبين العقائد بدلائلها، والأحكام مؤيدة بحكمها وعللها، والقصص مقرونة بوجوه العبرة والموعظة بها وسنن الاجتماع فيها، كما ترى في هذه الآيات التسع التي قفى بها على قصص القوم المهلكين.
﴿ وما أرسلنا في قرية من نبيّ إلّا أخذنا أهلها بالبأساء والضّرّاء لعلّهم يضّرّعون ﴾ الواو في أول الآية لعطف الجملة وما بعدها إلى آخر السياق الذي وضعنا له العنوان على مجموع ما قبلهن من القصص لمشاركته إياه في كونه حكما له وعبرا مستفادة منه – فعطف الجمل يشمل الكثير منها ( كالسياق برمته )، ولا وجه للفصل هنا. والقرية المدينة الجامعة لزعماء الأمة ورؤسائها التي يعبر عنها في عرف هذا العصر بالعاصمة كما تقدم مرارا. وكان الأنبياء يبعثون في القرى الجامعة لأن سائر البلاد تتبع أهلها إذا آمنوا. والبأساء الشدة والمشقة كالحرب والجدب وشدة الفقر، والضراء ما يضر الإنسان في بدنه أو نفسه أو معيشته، والأخذ بها جعلها عقابا، وقد تكون تجربة وتربية نافعة. وتقدم مثل هذا في قوله تعالى من سورة الأنعام ﴿ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ﴾ [ الأنعام : ٤٢ ] فيراجع ( في ج٧ تفسير ) فإنه بمعنى ما هنا ولكن السياق مختلف، فلما كان ما هنا قد ورد عقب قصص طائفة من الرسل جعل هذا المعنى قاعدة كلية وسنة مطردة في الرسل مع أقوامهم ليعتبر به كل من سمعه أو قرأه في عصر التنزيل وما بعده. ولما كان ما هنالك قد ورد في سياق تبليغ خاتم الرسل للدعوة ومحاجة قومه جعل خطابا خبريا له لتسليته وتثبيت قلبه من جهة ولتخويف كفار قريش وإنذارهم من جهة أخرى –وهذا ملاحظ هنا أيضا ولكن بالتبع للاعتبار بالسنة العامة لا بالقصد الأول.
والمعنى : ذلك شأن الرسل مع أقوامهم الهالكين، وما أرسلنا نبيا في قوم إلا وقد أنزلنا بهم الشدائد والمصائب بعد إرساله أو قبيله لنعدّهم ونؤهلهم بها للتضرع وهو إظهار الضراعة أي الضعف والخضوع لنا، والإخلاص في دعائنا بكشفها، فلعل تفيد الإعداد للشيء وجعله مرجواً. ومما ثبت بالتجارب وتقرر عند علماء النفس والأخلاق أن الشدائد وملاحج الأمور مما يربي الناس ويصلح من فسادهم، فالمؤمن قد يشغله الرخاء وهناء العيش فينسيه ضعفه وحاجته إلى ربه، والشدائد تذكره به، والكافر بالنعم قد يعرف قيمتها بفقدها، فينقلب شاكرا بعد عودها، بل الكافر بالله عز وجل قد تنبه الشدائد والأهوال مركز الشعور بوجود الرب الخالق المدبر لأمور الخلق في دماغه، وتذكره بما أودع في فطرته من وجود مصدر لنظام الكون وأقداره، كما وقع كثيرا، والآيات في هذا كثيرة تقدم بعضها، وقد روي لنا أن الحرب العظمى قد كان لها هذا التأثير حتى في أقل الناس تدينا وهم أهل مدينة باريس فكانت المعابد ترى مكتظة بالمصلين في أثناء شدائد الحرب.
ومن مباحث البلاغة أن نكتة خلو جملة " أخذنا أهلها " الحالية من الواو وقد –هي أن الأصل في المقترنة بهما أن يكون مضمونها مقدما على العامل فيها كالجملة الاسمية. فإذا قلت ما فعل زيد كذا إلا وقد أعد له عدته – كان المتبادر أنه أعدها قبل الشروع في فعله لأجله كقوله تعالى في الجملة الاسمية ﴿ وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ﴾ [ القصص : ٥٩ ] أي متلبسون بالظلم من قبل لا حال الإهلاك فقط، وإذا قيل : ما فعله إلا أعد له عدته – شمل إعدادها قبله لأجله وهي الحال السابقة، وإعدادها عند الشروع فيه وهي الحال المقارنة، بل هذه المتبادرة إلى الذهن هنا كقولك : ما سألته إلا أجابني، أي عند السؤال، ولا يصح أن تقول إلا وقد أجابني، ويصح أن تقول ما سألته إلا وقد أذن لي، أي قبل السؤال.
فإن قلنا إنه يتعين أن تكون الحال مقارنة في الآية اقتضى ذلك أن يكون ما أفادته هي وما بعدها من الابتلاء بالسيئة ثم بالحسنة ثم بما يترتب عليها من الكثرة وكفر النعمة واقعا كله بعد إرسال الأنبياء وفي عهدهم وهو قد يصدق في قوم نوح دون من بعده فلذلك قلنا إنها تشمل الحال السابقة والمقارنة، فليتأمل فإننا لم نر لأحد بحثا في هذه المسألة. ولكن الإمام عبد القاهر الجرجاني حقق أن الحال المفردة تفيد المقارنة والجملة الحالية تفيد سبق مضمونها وفرق بعض الفقهاء بين قولك عليّ أن أعتكف صائما وقولك علي أن أعتكف وأنا صائم وقد بينا هذا في تفسير ﴿ ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا ﴾ [ النساء : ٤٣ ] الآية ( فراجعه في ج ٥ تفسير ).
ومن الشواهد على هذا الابتداء في القصص التي قفى عليها بهذه العبر قول هود عليه السلام لقومه ﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ﴾ [ الأعراف : ٦٩ ] وقول صالح عليه السلام لقومه ﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم في الأرض تتّخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء اللّه ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾ [ الأعراف : ٧٤ ] وقول شعيب عليه السلام لقومه ﴿ واذكروا إذ كنتم قليلا فكثّركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ [ الأعراف : ٨٦ ] ولكن لم تزد الآلاء هؤلاء الكافرين إلا بغيا وبطرا وفسادا في الأرض.
﴿ وقالوا قد مسّ آباءنا الضّرّاء والسّرّاء ﴾ أي وقالوا مع ذلك قولا يدل على فساد فطرتهم، وانطماس بصيرتهم، وفقدهم الاستعداد للاتعاظ والاعتبار بأحداث الزمان، وتغير أحوال الإنسان، وتقلب شؤون العمران، قالوا قد مس آباءنا من قبلنا ما يسوء وما يسر، وتناوبهم ما ينفع وما يضر، ونحن مثلهم يصيبنا ما أصابهم، فتلك عادة الزمان في أبنائه، فلا الضراء عقاب من الخالق الحكيم على معاصي تقترف ورذائل ترتكب، ولا السراء جزاء منه على صالحات تعمل، وفضائل تلتزم. والمراد أنهم جهلوا سنته تعالى في أسباب الصلاح والفساد في البشر وما يترتب عليهما من السعادة والشقاء، المعبر عنها بقوله تعالى :﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ [ الأنفال : ٥٣ ] فلما ذكرهم رسلهم بها لم يتذكروا ولم يعتبروا، بل نسوا وأعرضوا وأنكروا.
﴿ فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ﴾ أي فكان عاقبة ذلك أن أخذناهم بالعذاب فجأة وهم فاقدون للشعور بما سيحل بهم، لأنهم كانوا يجهلون سنن الله تعالى في الاجتماع البشري فلا هم عرفوها بعقولهم، ولا هم صدقوا الرسل في نذرهم، وهذا معنى قوله تعالى في سياق سورة الأنعام الذي ذكرناه آنفا ﴿ فلمّا نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ﴾ [ الأنعام : ٤٤ ] وذلك شأن الكافرين والجاهلين : إذا مسهم الشر يئسوا وابتأسوا، وإذا مسهم الخير أشروا وبطروا، فإذا كان ذلك الخير قوة وسلطة بغوا في الأرض، وأهلكوا الحرث والنسل.
أصاب أهل بيت في إحدى المدن السورية نفخة من جاه الشيخ محمد أبي الهدى الصيادي أحد المقربين من السلطان عبد الحميد في عصره، فنهبوا بجاهه الأموال وانتهكوا الأعراض، وبغوا في الأرض الفساد، فكنا نتحدث مرة في أمرهم فقلنا : ألم يكن خيرا لهؤلاء لو اغتنموا هذه الفرصة باصطناع الناس بالمعروف، وعمل البر النافع للوطن، فإن جاه أبي الهدى ليس له دوام، ونحوا من هذا الكلام. فقال السيد الوالد رحمه الله تعالى : إن أمثال هؤلاء لا يفهمون هذه الحكم ولا يعقلونها، ولقد أصاب والدهم من قبلهم رياسة إدارية صغيرة كواحد منهم فبغى وبطر وتكبر وتجبر وآذى الناس، فنصحت له إذ كان يوادني ويحترمني وذكرته بتغير الأحوال، فقال لي يا سيد : إن لكل أحد يوما يرقص له فيه الزمان فينبغي له أن يستمتع فيه ولا يضيع الفرصة على نفسه.
وقد قال الله تعالى في هذا المعنى ﴿ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسّه الشّرّ كان يئوسا قل كلّ يعمل على شاكلته فربّكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ﴾ [ الإسراء : ٨٣، ٨٤ ] وقال :﴿ وإنّا إذا أذقنا الإنسان منّا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيّئة بما قدّمت أيديهم فإنّ الإنسان كفور ﴾ [ الشورى : ٤٨ ] المراد بالفرح ما كان عن بطر وغرور، وقال :﴿ هو الّذي يسيّركم في البرّ والبحر حتّى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيّبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كلّ مكان وظنّوا أنّهم أحيط بهم دعوا اللّه مخلصين له الدّين : لئن أنجيتنا من هذه لنكوننّ من الشّاكرين * فلمّا أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحقّ ﴾ [ يونس : ٢٢، ٢٣ ] اقرأ تتمة الآية وما بعدها.
وأما المؤمنون بالله وما جاء به رسله حقا فهم الذين تكون الشدائد والمصائب تربية لهم وتمحيصا، كما تكون للكافرين عقابا وإبلاسا، وقد بين الله تعالى ذلك في مواضع من كتابه أظهرها بيانه إياه بالتفصيل في قصة أحد من سوره آل عمران إذ قضت حكمته بأن يقصر المسلمون في سبب من أسباب النصر في الحرب فيظهر عليهم المشركون فينزل تلك الآيات الحكيمة المبينة للحقائق وسنن الاجتماع في الحروب والشدائد التي أولها ﴿ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا ﴾ [ آل عمران : ١٣٧ ] إلى قوله ﴿ وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ﴾ [ آل عمران : ١٤١ ] ومنها قوله :﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس ﴾ [ آل عمران : ١٤٠ ] ولكن شأن المؤمن أن يعرف هذه المداولات بأسبابها وحكمها ويتحرى الاتعاظ وتربية نفسه بها، لا كما يراها الكافرون الجاهلون بظواهرها وصورها، والآيات التي بعدما أشرنا إليه منها تتمة وإيضاح لها، فيراجع تفسيرها في الجزء الرابع من التفسير. وفي معناها أحاديث كقوله صلى الله عليه وآله سلم ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن : إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) ١ رواه أحمد ومسلم من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه.
فإن قيل : إننا نرى غير المسلمين يعلمون في هذا العصر ما لا يعلم المسلمون من هذه السنن الاجتماعية التي أرشد إليها القرآن ويستفيدون منها عبرا وتقوى للمضار يظهر أثرها باستعدادهم للمصائب قبل وقوعها، حتى لا يأخذهم بغتة، وحتى يتلافوا شرورها بعد وقوعها بقدر الطاقة، ويرى أكثر المسلمين جاهلين وغافلين عن ذلك، وقد فتن بعضهم بهؤلاء الإفرنج وحسبوا أنهم لا يكونون مثلهم في استمتاعهم واستعدادهم لدفع الشدائد، والاستفادة من الأحداث والوقائع، إلا إذا تركوا الإسلام، ونبذوا هداية القرآن ! ! كما فتنوا هم بالمسلمين باحتقارهم لدينهم تبعا لاحتقارهم لهم، وطعنا فيه بما يظنون من تأثيره في إذلالهم وإضعافهم، فما قولك في ظلم الفريقين له، وفي انتهاء الحرب العامة الأخيرة باستيلاء غير المؤمنين، على أقطار عظيمة من بلاد المسلمين ؟ وكون أشد أهل هذه الأقطار استسلاما للذل وخضوعا للقهر، هم الذين يدعون أنهم أصح إيمانا، وأحسن إسلاما ؟ حتى كان ذلك فتنة لبعض زعماء شعب سلم من الهلاك بعد أن كاد يحاط به، فظنوا أن التقيد بالإسلام سبب الهلكة، والإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، وأن في الانسلال منها المنجاة وارتقاء المملكة ؟
( قلنا ) إننا كشفنا أمثال هذه الشبهات، في تفسير كثير من الآيات، وفي غير التفسير من المنار، وبينا مرارا أن المسلمين قد تركوا هداية القرآن في حكوماتهم ومصالحهم العامة، وفوضوا أمورهم إلى حكامهم الذين يندر أن يوجد منهم من له إلمام بتفسيره أو علم السنة، حتى من سلموا لهم بمنصب خلافة النبوة – كما تركوا هداية الكتاب والسنة في أعمال الأفراد، فأكثرهم لا يعرف من دينه إلا ما يسمعه ويراه ممن يعيش معهم من قومه وفيه الحق والباطل والسنة والبدعة، وأقلهم يتلقى عن بعض الشيوخ بعض كتب الكلام الجدلية التي ألفت للرد على فلسفة نسخت وبدع باد أهلها، وكتب الفقه التقليدية الخالية من جل هداية القرآن والسنة في مثل موضوع الآيات التي نحن بصدد تفسيرها، وما أشرنا إليه في هذا التفسير من آيات الشواهد. حتى بلغ الجهل من المسلمين في أم المسائل الخاصة بحياتهم السياسية التي هي مناط دولتهم وبقاء ملكهم أو زواله ( وهي مسألة الإمامة العظمى ) أن يكتب الأفراد والجماعات من علمائهم فيها ما هو مخالف لجميع أئمتهم ومذاهبهم ولإجماع سلفهم، على تهافت ظاهر، واختلاف فاضح.
على أن العلماء المتقدمين قد قصروا في هذه المسألة وهم الذين كان العلم صفة من صفاتهم وملكة من ملكاتهم، لا ورقة شهادة يحملونها ممن سبق الإجماع على أن مثلهم من المقلدين لا يعد عالما في خاصة نفسه، حتى يعتد بشهادته لغيره، بله ما عرف عن بعضهم من شهادة الزور، وقول الكذب وأكل السحت، وقد استفسر بعض مجاوري الأزهر المقدمين لامتحان شهادة العالمية واحدا منهم لعرض الرشوة على الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى ليساعدهم في الامتحان فضربه الأستاذ رحمه الله بيديه، ورفسه برجليه، وقال له : يا عدو الله أتريد أن أغش المسلمين بك وبأمثالك من الجاهلين بعد هذه الشيبة وانتظار لقاء الله، فأكون مما يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ؟ ولو كنت ممن يطّبيهم المال، ويحفلون بجمعه ولو من الحلال، لكنت من أغنى الأغنياء ؟
ولما كان القرآن هو الذي هدى المسلمين إلى أنواع العلم، وأعطاهم الحكمة والحكم، كان تركهم لهدايته هو الذي سلبهم ذلك حتى انقلب الأمر، وانعكس الوضع، واتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذرعا بذراع – كما صح في الحديث- فالسواد الأعظم الجاهل اتبع سنن أهل الكتاب في شر ما كانوا عليه في طور جهلهم من الخرافات، وابتداع الاحتفالات، وتقليد الآباء والأجداد، واتخاذ الأرباب والأنداد، كإعطاء حق التحريم والتحليل للأحبار والرهبان، وطلب النفع ودفع الضر من دجالي الأحياء وقبور الأموات، فغشيهم ما غشي أولئك من ظلمات الجهل، وجعل الدين عدوا للعلم والعقل، والنابتة العصرية المتفرنجة اتبعت سنن المرتدين والفاسقين منهم، في شر ما صاروا إليه في طور فساد حضارتهم، وقلدوهم حتى فيما لا ينطبق على أحوالهم ومصالحهم، كذلك ضل الفريقان عن هداية القرآن، واشتركا في إضاعة ما بقي من ملك الإسلام.
لا عالم الشرق بدينه ولا | مقتبس العلم من الغرب هدى |
فعلم بما ذكر وبغيره أن العلم بسنن الاجتماع والعمران لا يغني عن هداية الدين التي توقف أهواء البشر ومطامعهم أن تجمح إلى ما لا غاية له من الشر، أو لولا أن عند بعض أمم أوربة بقية قليلة منها تتفاوت في أفرادهم قوة وضعفا، لحشرتهم المطامع والأحقاد صفا صفا، فدكوا معالم أرضهم التي بلغت منتهى العمران دكا دكا، فجعلوها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، بل لج
لما بين سبحانه أخذه لأهل القرى الذين كذبوا الرسل بما كان من كفرهم وظلمهم لأنفسهم وللناس بين لأهل أم القرى " مكة " ولسائر الناس ما كان يكون من إغداق نعمه تعالى عليهم لو آمنوا بالرسل، واعتبروا بالسنن، فقال :
﴿ ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتّقوا ﴾ أي آمنوا بما دعاهم إليه رسلهم من عبادة الله وحده بما شرعه من الأعمال الصالحة واتقوا ما نهوهم عنه من الشرك والفساد في الأرض بالظلم والمعاصي كارتكاب الفواحش، وأكل أموال الناس بالباطل، ﴿ لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾ قرأ الجمهور فتحنا بالتخفيف من الفتح وقرأها ابن عامر بالتشديد من التفتيح الدال على الكثرة، والمعنى لفتحنا عليهم أنواعا من بركات السماء والأرض لم يعهدوها مجتمعة ولا متفرقة، فإذا أريد ببركات السماء معارف الوحي العقلية، وأنوار الإيمان الروحانية، ونفحات الإلهامات الربانية، فالمعنى أن فائدة الإيمان واتباع الرسل عليهم السلام تكون تكميل الفطرة البشرية روحا وجسدا، وغايته سعادة الدارين الدنيا والآخرة، وإذا أريد ببركات السماء المطر وببركات الأرض النبات كما قيل فالمعنى أنها أبواب نعم تكون بركات لهم غير التي عهدوا في صفتها ونمائها وثباتها وحالتهم فيها وأثرها فيهم، وبذلك تكون بركات فإن مادة البركة تدل على السعة والذكاء من بركة الماء، وعلى الثبات والاستقرار من برك البعير، ألم تقرأ أو تسمع قوله تعالى من سورة هود ﴿ قيل يا نوح اهبط بسلام منّا وبركات عليك وعلى أمم ممّن معك وأمم سنمتّعهم ثمّ يمسّهم منّا عذاب أليم ﴾ [ هود : ٤٨ ] فخص المؤمنين بالبركات وجعل نعمة الدنيا متاعا موقتا للكافرين يتلوه العذاب، ولذلك لم يعطفهم على من قبلهم. روي عن محمد كعب القرظي أنه دخل في تلك البركات كل مؤمن ومؤمنة، وفي ذلك المتاع والعذاب الأليم كل كافر وكافرة. وعن الضحاك قال :﴿ وعلى أمم ممن معك ﴾ يعني ممن لم يولد أوجب لهم البركات لما سبق لهم في علم الله من السعادة ﴿ وأمم سنمتعهم ﴾ يعني متاع الحياة الدنيا ﴿ ثم يمسهم منا عذاب أليم ﴾ لما سبق لهم في علم الله من الشقاوة.
فالقاعدة المقررة في القرآن أن الإيمان الصحيح ودين الحق سبب لسعادة الدنيا ونعمتها بالحق والاستحقاق وأن الكفار قد يشاركونهم في الماديّ منها كما قال تعالى فيهم من سورة الأنعام ﴿ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ﴾ [ الأنعام : ٤٤ ] فذلك الفتح ابتلاء واختبار لحالهم كان أثره فيهم فرح البطر والأشر بدلا من الشكر، وترتب عليه العقاب الإلهي فكان نقمة لا نعمة، وفتنة لا بركة.
وأما المؤمنون فإن ما يفتح عليهم يكون بركة ونعمة ويكون أثره فيهم الشكر لله عليه والرضا منه والاغتباط بفضله، واستعماله في سبيل الخير دون الشر وفي الإصلاح دون الإفساد، ويكون جزاؤهم عليه من الله تعالى زيادة النعم ونموها في الدنيا وحسن الثواب عليها في الآخرة، فالفارق بين الفتحين يؤخذ من جعل هذا من البركات الربانية، ومن تنكيره الدال على أنواع لم يعهدها الكفار.
ومما ورد في الآيات الأخرى الدالة على أن غاية هداية الإيمان الجمع بين سعادة الدنيا والآخرة، كقوله تعالى خطابا للبشر موجها لأبويهم من قصة آدم في سورة طه ﴿ فإمّا يأتينّكم منّي هدى فمن اتّبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ﴾ [ طه : ١٢٣، ١٢٤ ] وقوله في خطاب بني آدم من هذه السورة بعد ذكر قصته المبينة لخواص هذا النوع وحكم الله في خلقه والأصول العامة لدين الرسل الذي يبعثهم لهدايته ﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنّه لا يحبّ المسرفين * قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده والطّيّبات من الرّزق قل هي للّذين آمنوا في الحياة الدّنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصّل الآيات لقوم يعلمون ﴾ [ الأعراف : ٣١، ٣٢ ] فراجع تفسيرهما في الجزء الثامن من التفسير.
فهذا بيان لكون أصل الدين يقتضي سعادة الدنيا قبل الآخرة من أول النشأة البشرية في عهد آدم وتقدم آنفا ما أنزله تعالى على نوح وهو الأب الثاني للبشر وقال تعالى حكاية عن هود في سورته ﴿ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السّماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ﴾ [ هود : ٥٢ ] وهذه الآيات كلها حجج على أعداء الإسلام من المنتمين إليه ومن غيرهم الزاعمين أنه –وكذا كل دين إلهي- سبب للضعف والفقر ! !.
﴿ ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ﴾ من أعمال الشرك الخرافية والمعاصي المفسدة لنظام الاجتماع البشري، فكان أخذهم بالعقاب أثرا لازما لكسبهم بحسب سنن الكون، وعبرة لأمثالهم إن كانوا يعقلون.
هذه الآيات الأربع إنذار لأمة الدعوة المحمدية عربها وعجمها من عصر النور الأعظم إلى يوم القيامة لتعتبر بما نزل بغيرها. كما ترشد إليه الرابعة منها. وأهل القرى فيها يراد به الجنس أي الأمم، ويحتمل أن يكون المراد به من ذكر حالهم فيما تقدم. وضع المظهر فيه موضع المضمر ليدل على أن مضمونها ليس خاصا بأقوام بأعيانهم فيذكر ضميرهم بل هو قواعد عامة في أحوال الأمم، فيراد بالاسم المظهر العنوان العام لها، لا آحاد ما ذكر منها، ولو ذكرها بضميرها أو اسم الإشارة الذي يعينها، لدل على أن العقاب كان خاصا بها لا داخلا في أفراد سنة عامة، وهذا عين ما كان يصرف الأقوام الجاهلة الكافرة عن الاعتبار بعقاب من كان قبلها، ويحتمل أن يكون المراد به أهل أم القرى عاصمة قوم الرسول الخاتم وعشيرته الأقربين وسائر قرى الأمم التي بعث صلى الله عليه وسلم إلى أهلها من حيث إن بعثته عامة.
﴿ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون ﴾ الاستفهام للتذكير والتعجيب من أمر ليس من شأنه أن يقع من العاقل والفاء عطف على محذوف تقديره على الوجه الأول. أغر أهل تلك القرى ما كانوا فيه من نعمة حين كذبوا الرسل فأمنوا أن يأتيهم بأسنا ؟ الخ وعلى الثاني أجهل أهل مكة وغيرها من القرى التي بلغتها الدعوة – ومثلها من ستبلغها – ما نزل بمن قبلهم وغرهم ما هم فيه من نعمة فأمنوا أن يأتيهم عذابنا وقت بياتهم – أو إتيان بيات- وهو الهجوم على العدو ليلا وهو بائت فقوله :" وهم نائمون " حال مبينة لغاية الغفلة وكون الأخذ على غرة كما قال فيمن عذبوا " فأخذتهم بغتة " وليراجع تفسير الآية ٣ من هذه السورة ﴿ وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ﴾.
هذه الآيات الأربع إنذار لأمة الدعوة المحمدية عربها وعجمها من عصر النور الأعظم إلى يوم القيامة لتعتبر بما نزل بغيرها. كما ترشد إليه الرابعة منها. وأهل القرى فيها يراد به الجنس أي الأمم، ويحتمل أن يكون المراد به من ذكر حالهم فيما تقدم. وضع المظهر فيه موضع المضمر ليدل على أن مضمونها ليس خاصا بأقوام بأعيانهم فيذكر ضميرهم بل هو قواعد عامة في أحوال الأمم، فيراد بالاسم المظهر العنوان العام لها، لا آحاد ما ذكر منها، ولو ذكرها بضميرها أو اسم الإشارة الذي يعينها، لدل على أن العقاب كان خاصا بها لا داخلا في أفراد سنة عامة، وهذا عين ما كان يصرف الأقوام الجاهلة الكافرة عن الاعتبار بعقاب من كان قبلها، ويحتمل أن يكون المراد به أهل أم القرى عاصمة قوم الرسول الخاتم وعشيرته الأقربين وسائر قرى الأمم التي بعث صلى الله عليه وسلم إلى أهلها من حيث إن بعثته عامة.
﴿ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهو يلعبون ﴾ قرأ نافع وابن كثير وابن عامر " أو " بسكون الواو، والمعنى بحسب أصل اللغة أأمنوا ذلك الإتيان أو هذا ؟ وهو لا يمنع الجمع بين الأمنين- وقرأ الباقون بفتح الواو على أن الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف كالذي قبله، وقد أعيد الاستفهام وما يتعلق به لنكتة وضع المظهر موضع المضمر التي بيناها آنفا. والضحى انبساط الشمس وامتداد النهار ويسمى به الوقت، أو ضوء الشمس في شباب النهار، واختاره الأستاذ الإمام. واللعب بفتح اللام وكسر العين ما لا يقصد فاعله بسبب منفعة ولا دفع مضرة بل يفعله لأنس له به أو لذة فيه كلعب الأطفال، وما يقصد به العقلاء رياضة الجسم قد يخرج عن حقيقة اللعب ويكون إطلاقه عليه مجازيا بحسب صورته، وكم من عمل صورته لعب أو هزل، وحقيقته حكمة وجد، وكم من عمل هو عكس ذلك كالعمل الفاسد الذي يقصد به ما يظن أنه نافع وهو ضار وما يتوهم أنه حكمة وهو عبث وخرق، وقد يكون إطلاق اللعب على أعمال هؤلاء الجاهلين الغافلين من هذا الباب : أي أو أمن أهل القرى أن يأتيهم عذابنا في وقت الضحى وهم منهمكون في أعمالهم التي تعد من قبيل لعب الأطفال لعدم فائدة تترتب عليها مطلقا أو بالنسبة إلى ما كان يجب تقديمه عليها من سلوك سبيل السلامة من العذاب ؟
فأما أهل القرى من الغابرين فالظاهر ما حكاه الله تعالى عنهم أنهم كانوا آمنين إتيان هذا العذاب ليلا ونهارا فكان إتيانه إياهم فجأة في وقت لا يتسع لتلافيه وتداركه فالاستفهام لا يظهر في شأنهم إلا بتأول لا يحتاج إلى مثله في أهل القرى الحاضرين، ومن سيكون في حكمهم من الآيتين، والمراد أنه لم يكن لهم أن يأمنوا لو كانوا يعلمون، فإن وجود النعم ليس دليلا على دوامها، فكم من نعمة زالت بكفر أهلها، وهذا ما كان يجهله الذين قالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء، فرأوا صورة الواقع وجهلوا أسبابه. وأما الحاضرون فلا يعذرون بالجهل، بعد أن بين لهم القرآن كنه الأمر، وسنن الله في الخلق، ولكن أدعياء القرآن، قد صاروا أجهل البشر بما جاء به القرآن، ويدعي بعضهم أن سبب جهلهم الانتماء إلى دين القرآن ! ! !
هذه الآيات الأربع إنذار لأمة الدعوة المحمدية عربها وعجمها من عصر النور الأعظم إلى يوم القيامة لتعتبر بما نزل بغيرها. كما ترشد إليه الرابعة منها. وأهل القرى فيها يراد به الجنس أي الأمم، ويحتمل أن يكون المراد به من ذكر حالهم فيما تقدم. وضع المظهر فيه موضع المضمر ليدل على أن مضمونها ليس خاصا بأقوام بأعيانهم فيذكر ضميرهم بل هو قواعد عامة في أحوال الأمم، فيراد بالاسم المظهر العنوان العام لها، لا آحاد ما ذكر منها، ولو ذكرها بضميرها أو اسم الإشارة الذي يعينها، لدل على أن العقاب كان خاصا بها لا داخلا في أفراد سنة عامة، وهذا عين ما كان يصرف الأقوام الجاهلة الكافرة عن الاعتبار بعقاب من كان قبلها، ويحتمل أن يكون المراد به أهل أم القرى عاصمة قوم الرسول الخاتم وعشيرته الأقربين وسائر قرى الأمم التي بعث صلى الله عليه وسلم إلى أهلها من حيث إن بعثته عامة.
﴿ أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾ قال الراغب المكر صرف الغير عما تقصده بحيلة. وقسمه إلى محمود ومذموم. وأصح منه وأدق قولنا في تفسير ﴿ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ﴾ [ آل عمران : ٥٤ ] : المكر في الأصل التدبير الخفي المفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسب. وقفينا على هذا التعريف ببيان السيئ والحسن من المكر ولو الأكثر فيه أن يكون سيئا كالشأن غيره من الأمور التي يتحرى إخفاؤها، وفيه أن مكر الله تعالى وهو تدبيره الذي يخفى على الناس إنما يكون بإقامة سننه وإتمام حكمه، وكلها خير في أنفسها وإن قصر كثير من الناس في الاستفادة منها بجهلهم وسوء اختيارهم اه والمراد بالجهل ما يتعلق بصفات الله تعالى وسننه اغترارا بالظواهر، كأن يغتر القوي بقوته، والغني بثروته، والعالم بعلمه والعابد بعبادته، فيخطئ تقديره ما قدره الله تعالى فيظن أن ما عنده يبقى، وما يترتب عليه من الآثار في ظنه لا يتخلف، كما أخطأ الألمان في تقدير قوتهم وقوة من يقاتلهم من الدول فلم يحسبوا أن تكون دولة الولايات المتحدة منهم.
والمعنى أكان سبب أمنهم إتيان بأسنا بياتا أو ضحى وهم غافلون أنهم أمنوا مكر الله بهم بإتيانهم من حيث لم يحتسبوا ولم يقدروا ؟ إن كان الأمر كذلك فقد خسروا أنفسهم فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. وقد سبق الكلام في خسران النفس في غير هذا الموضع.
وإذا كان أمن العالم المدبر والصالح المتعبد من مكر الله تعالى جهلا يورث الخسر، فكيف حال من يأمن مكر الله وهو مسترسل في معاصيه اتكالا على عفوه ومغفرته ورحمته ؟ قال تعالى :﴿ وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ﴾ [ فصلت : ٢٣ ] فأعلم الناس بالله وأعبدهم له وأقربهم إليه هم أبعد خلقه عن الأمن من مكره، إذ لا يصح أن يأمن منه إلا من أحاط بعلمه ومشيئته وليس هذا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، ﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ﴾ [ طه : ١١٠ ] ألم تر إلى الرسل الكرام كيف كانوا يستثنون مشيئته حتى فيما عصمهم منه ؟ كقول شعيب الذي حكاه الله عنه قبيل هذه الآيات ﴿ قد افترينا على اللّه كذبا إن عدنا في ملّتكم بعد إذ نجّانا اللّه منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلّا أن يشاء اللّه ربّنا وسع ربّنا كلّ شيء علما على اللّه توكّلنا ﴾ [ الأعراف : ٨٩ ] وقد كان أصلح البشر وخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء بقوله " يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك " ١ كما ثبت في الصحاح وقد ذكر تعالى أن الراسخين في العلم يدعونه بقوله :﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ﴾ [ آل عمران : ٨ ] وقال :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾ [ فاطر : ٢٨ ] ويقابل الأمن من مكر الله ضده وهو اليأس من رحمة الله. فكل منهما مفسدة تتبعها مفاسد كثيرة.
هذه الآيات الأربع إنذار لأمة الدعوة المحمدية عربها وعجمها من عصر النور الأعظم إلى يوم القيامة لتعتبر بما نزل بغيرها. كما ترشد إليه الرابعة منها. وأهل القرى فيها يراد به الجنس أي الأمم، ويحتمل أن يكون المراد به من ذكر حالهم فيما تقدم. وضع المظهر فيه موضع المضمر ليدل على أن مضمونها ليس خاصا بأقوام بأعيانهم فيذكر ضميرهم بل هو قواعد عامة في أحوال الأمم، فيراد بالاسم المظهر العنوان العام لها، لا آحاد ما ذكر منها، ولو ذكرها بضميرها أو اسم الإشارة الذي يعينها، لدل على أن العقاب كان خاصا بها لا داخلا في أفراد سنة عامة، وهذا عين ما كان يصرف الأقوام الجاهلة الكافرة عن الاعتبار بعقاب من كان قبلها، ويحتمل أن يكون المراد به أهل أم القرى عاصمة قوم الرسول الخاتم وعشيرته الأقربين وسائر قرى الأمم التي بعث صلى الله عليه وسلم إلى أهلها من حيث إن بعثته عامة.
﴿ أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ﴾ يقال هداه السبيل أو الشيء وهداه له وهداه إليه – إذا دله عليه وبينه له، وأهل الغور من العرب كانوا يقولون هدى له الشيء بمعنى بينه له، نقله في ( لسان العرب ) وذكر أنه قد فسر به ما في الآية وأمثالها. وهذا التعبير ورد في سياق النفي والاستفهام. ومثله في سورة طه ﴿ أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إنّ في ذلك لآيات لأولي النّهى ﴾ [ طه : ١٢٨ ] وفي سورة ﴿ ألم السجدة ﴾ ﴿ أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إنّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون ﴾ [ السجدة : ٢٦ ] والسياق الذي وردت فيه آية الأعراف التي نفسرها مثل السياق الذي وردت فيه آيتا طه والسجدة. والاستفهام هنا داخل على فعل محذوف عطف عليه ما بعده كما سبق في نظائره وللتقدير وجوه كلها تقيد العبرة فهو مما تذهب النفس فيه مذاهب من أقربها أن يقال : أكان مجهولا ما ذكر آنفا عن أهل القرون وسنة الله تعالى فيهم، ولم يبيَّن للذين يرثون الأرض من بعد أهلها قرنا بعد قرن وجيلا في أثر جيل – أو لم يتبين لهم به- أن شأننا فيهم كشأننا فيمن سبقهم : وهوانهم خاضعون لمشيئتنا فلو نشاء أن نصيبهم ونعذبهم بسبب ذنوبهم أصبناهم كما أصبنا أمثالهم من قبلهم بمثلها ؟ وقوله تعالى :﴿ ونطبع على قلوبهم ﴾ معطوف على " أصبناهم " لأنه بمعنى نصيبهم، إذ الكلام في الذين يرثون الأرض في العصر الحالي أو المستقبل على الإطلاق وليس في قوم معينين طبع الله على قلوبهم بالفعل كما ظن الزمخشري وغيره فمنعوا هذا العطف وقالوا المعنى : ونحن نطبع على قلوبهم. والمراد أنه ينبغي لمن يستخلفهم الله في الأرض، ويرثون ما كان لمن قبلهم من الملك والملك، أن يتقوا الله ولا يكونوا من المفسدين الظالمين، ولا من المترفين الفاسقين، وأن يعلموا أن من المحتم عقاب الأمم على السيئات وقد خلت من قبلهم المثلات، فلم يكن ما حل بمن قبلهم من المصادفات، بل هو من السنن المطردة بالمشيئة والاختيار، فلا هوادة ولا ظلم ولا محاباة.
والناس في ذلك فريقان : فريق يصاب بذنبه، فيتعظ ويتوب إلى ربه، وفريق يصر عليه حتى يطبع على قلبه، وهو مستعار من طبع السكة ونقشها بصورة أو كتابة لا تقبل غيرها أو من الطبع الذي بمعنى الختم كقوله تعالى :﴿ ختم الله على قلوبهم ﴾ [ البقرة : ٧ ] والطابع والخاتم ( بفتح الباء والتاء ) واحد. وقيل إنه مأخوذ من الطبع ( بالتحريك ) وهو الصدأ الشديد يعرض للسيف ونحوه فيفسده. يقال طبع الطباع السيف والدرهم –أي ضربه، وطبع الكتاب وعلى الكتاب وختمه إذا ضرب عليه الطابع والخاتم بعد إتمامه ووضعه في ظرفه حتى لا يدخل فيه شيء آخر. ومنه الطبع والطبيعة وهي الصفة الثابتة للشيء أو الشخص، فالسجية نقش النفس بصورة ثابتة لا تتغير لأن ما يتغير لا يسمى طبيعة. ومنه طبع الكتب في الآلة المعروفة بالمطبعة سمي بذلك لأنه لا يقبل المحو والتغيير كالخط، على أن الناس قد صنعوا أحبارا لا تمحى أيضا.
ولا يستعمل الطبع على القلوب إلا في الشر والمراد به إنها وصلت من الفساد إلى حالة لا تقبل معها خيرا كالهدى والإيمان والعلم النافع الذي هو فقه الأمور ولبابها، وإنما يحصل بالإصرار على الشرور والمعاصي استحلالا واستحسانا لها، حتى لا يعود في النفس موضع لغيرها، قال تعالى في اليهود :﴿ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات اللّه وقتلهم الأنبياء بغير حقّ وقولهم قلوبنا غلف بل طبع اللّه عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلّا قليلا ﴾ [ النساء : ١٥٥ ] أي إلا قليلا منهم وهم الذين لم يطبع على قلوبهم. وقال تعالى في المنافقين ﴿ وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ﴾ [ التوبة : ٨٧ ] ومثله في سورتهم. وقال هنا ﴿ فهم لا يسمعون ﴾ أي فهم بهذا الطبع لا يسمعون الحكم والنصائح سماع تفقه وتدبر واتعاظ، ﴿ وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ﴾ [ يونس : ١٠١ ] ما يراد هنا، لأن قلوبهم قد ملئت بما يشغلهم عنها، من آراء وأفكار وشهوات ملكت عليها أمرها، حتى صرفتهم عن غيرها، فجعلتهم من ﴿ الأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ﴾ [ الكهف : ١٠٣، ١٠٤ ].
وجه الخطاب في هاتين الآيتين إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأجل تسليته وتثبيت فؤاده بما في قصص أولئك الرسل مع أقوامهم من العبر والسنن التي بين فقهها وما فيها من الحكم في الآيات السبع التي قبلهما.
قال تعالى :﴿ تلك القرى نقصّ عليك من أنبائها ﴾ كلام مستأنف قفى به على جملة قصص الرسل عليهم السلام التي تقدمت وما عطف عليها من بيان حكمها وفقهها فكانت كالفذلكة لها، فالقرى هنا هي المعهودة في هذه القصص، وحكمة تخصيصها بالذكر أنها كانت في بلاد العرب وما جاورها وكان من بعد قوم نوح من العرب، وكان أهل مكة وغيرهم من العرب الذين هم أول من وجهت إليهم دعوة الإسلام يتناقلون بعض أخبارها مبهمة مجملة، وكانت على هذا كله قد طبعت على غرار واحد في تكذيب الرسل، والتماري فيم جاءوا به من النذر، إلى أن حل بهم النكال، وأخذوا بعذاب الاستئصال، فالعبرة فيها كلها واحدة.
وليس كذلك قوم موسى فإنهم آمنوا. وإنما كذب فرعون وملؤه فعذبوا، ولذلك أخر قصته. والمعنى : تلك القرى التي بعد عهدها، وطال الأمد على تاريخها، وجهل قومك أيها الرسول حقيقة حالها، نقص عليك الآن بعض أنبائها، وهو ما فيه العبرة منها، وإنما قال نقص لا قصصنا لأن هذه الآية نزلت مع تلك القصص لا بعدها.
﴿ ولقد جاءتهم رسلهم بالبيّنات فما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا من قبل كذلك ﴾ أي ولقد جاء أهل تلك القرى رسلهم بالبينات الدالة على صدق دعوتهم، وبالآيات التي اقترحوها عليهم لإقامة حجتهم، بأن جاء كل رسول قومه بما أعذر به إليهم، فلم يكن من شأنهم أن يؤمنوا بعد مجيء البينات بما كانوا كذبوا به من قبل مجيئها عند بدء الدعوة إلى توحيد الله تعالى وعبادته وحده بما شرعه وترك الشرك والمعاصي. وقيل إن الباء للسببية والمعنى فما كانوا ليؤمنوا بعد بعثته بسبب تعودهم تكذيب الحق قبلها، وهو تأويل واه جدا، فإن قوله فما كانوا نفي للشأن، وليس من شأن كل من كذب بشيء أن يصر عليه بعد ظهور البينات على خطئه فيه، ولكن شأن بعض المكذبين عنادا أو تقليدا أن يصروا عليه بعد إقامة البينة لأنها لا قيمة لها عندهم، فهم إما جاحد معاند ضل على علم، وإما مقلد يأبى النظر والعلم. على أن ما قالوه لا يفهم من الآية إلا بتكلف يخالفه المتبادر من اللفظ فالعجب ممن اقتصر عليه ولم يفهم غيره. وسيأتي في سورة يونس بعد ذكر خلاصة نوح عليه السلام ﴿ ثمّ بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبيّنات فما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين ﴾ [ يونس : ٧٤ ] فالمراد بهؤلاء الرسل الذين بعثوا بعد نوح : مَن ذكروا في سورة الأعراف، ولذلك قال هنا وهناك ﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى ﴾ وحينئذ يحتمل أن يقال في آية الأعراف إن أهل تلك القرى في جملتهم ومجموعهم لم يكن من شأنهم أن يؤمن المتأخر منهم بما كذب به المتقدم وهم قوم نوح بالنسبة إلى الجميع ثم قوم هود بالنسبة إلى قوم صالح الخ والراجح المختار هو الأول – ويليه هذا- والثاني باطل البتة.
﴿ كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ﴾ أي مثل هذا الذي وصف من عناد هؤلاء وإصرارهم على ضلالهم، وعدم تأثير الدلائل والبينات في عقولهم، يكون الطبع على قلوب الذين صار الكفر صفة لازمة لهم، بحسب سنة الله تعالى في أخلاق البشر وشؤونهم، وذلك بأن يأنسوا بالكفر وأعماله حتى تستحوذ أوهامه على أفكارهم، ويملأ حب شهواته جوانب قلوبهم، ويصير وجدانا تقليديا لهم، لا يقبلون فيه بحثا، ولا يسمعون فيه نقدا، فيكون كالسكة التي طبعت في أثناء لين معدنها بصهره وإذابته ثم جمدت فلا تقبل نقشا ولا شكلا آخر.
ومن وجوه تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بالآية إعلامه أن من وصلوا بالإصرار على الجحود والعناد أو التقليد إلى هذه الدرجة من فساد الفطرة وإهمال استعمال العقل لا يؤمنون بالبينات وإن وضحت، ولا بالآيات وإن اقترحت، فقد كان كفار مكة يقترحون عليه الآيات وكان يتمنى أن يؤتيه الله ما اقترحوا منها حرصا على إيمانهم، حتى بين الله تعالى له هذه الحقائق من طباع البشر وأخلاقهم، وتقدم هذا البيان في آيات من أوائل سورة الأنعام وأثنائها، ومما يناسب ما هنا منها قوله تعالى :﴿ وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها قل إنّما الآيات عند اللّه وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾ [ الأنعام : ١٠٨، ١٠٩ ] فقوله تعالى :﴿ كما لم يؤمنوا به أول مرة ﴾ بمعنى قوله هنا ﴿ فما كانوا ليؤمنون بما كذبوا به من قبل ﴾.
وجه الخطاب في هاتين الآيتين إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأجل تسليته وتثبيت فؤاده بما في قصص أولئك الرسل مع أقوامهم من العبر والسنن التي بين فقهها وما فيها من الحكم في الآيات السبع التي قبلهما.
﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد ﴾ العهد الوصية بمعنى إنشائها وبمعنى متعلقها وهو يوصي به الموصي، وعهدت إليه بكذا وصيته بفعله أو حفظه. ويكون بين طرفين وهو المعاهدة كما يكون من طرف واحد وهو من يعهد إليك بشيء، ومن تلتزم له شيئا. والميثاق العهد الموثق بضرب من ضروب التأكيد. قال تعالى :﴿ وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ﴾ [ البقرة : ٤٠ ] أي أوفوا بما عهدت به إليكم أوف لكم بما وعدتكم به من الجزاء على ذلك. وكل منهما يسمى عهد الله وقال الراغب : عهد الله تارة يكون بما ركزه في عقولنا وتارة يكون بما أمرنا به في الكتاب وبألسنة رسله، وتارة بما نلتزمه وليس بلازم في أصل الشرع كالنذور وما يجري مجراها اه.
والمراد من الأول العهد الذي تقتضيه فطرة الله التي فطر الناس عليها، فهي عهد منه يطالب الناس به ويحاسبهم عليه، ومنه الحنيفية، وأصلها الميل عن جانب الباطل والشر إلى جانب الحق والخير، فقد فطر الله أنفس البشر على الشعور بسلطان غيبي فوق جميع قوى العالم – على إيثار ما تراه حسنا واجتناب غيره – وعلى حب الكمال وكراهة النقص. ولكنهم يخطئون في تحديد هذه المعاني ويحتاجون إلى بيانها بوحي من الله تعالى وهو عهد الله المفصل الذي يرسل به رسله لمساعدة الفطرة على تزكية النفس وإزالة ما يطرأ عليها من الفساد بالجهل وسوء الاختيار. ومن الأصول العامة لعهد الله العام، على ألسنة الرسل عليهم السلام، ما بينه تعالى في أوائل هذه السورة بعد بيان النشأة الآدمية، والنشأة الشيطانية، وما بينهما من التنافر والتعادي، أعني تلك المناداة التي نادى بها بني آدم في الآيات العشر من ٢٥ إلى ٣٤ ومنها التحذير من فتنة الشيطان وهو ما عهده بقوله :﴿ ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان ﴾ ( ومنها ) الوصايا العشر التي هي أصول الدين وقواعده الكبرى في الآيات الثلاث ١٥١-١٥٣ من سورة الأنعام وفي الثانية منها قوله تعالى :﴿ وبعهد الله أوفوا ﴾.
وقد فسر بعض السلف العهد بالميثاق الفطري العام الذي يأتي بيانه في قوله تعالى من هذه السورة :﴿ وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] الخ رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية وابن المنذر عن أبي بن كعب، وهما وابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد وروى أبو الشيخ عن قتادة قال لما ابتلاهم بالشدة والجهد والبلاء ثم أتاهم بالرخاء والعافية ذم الله أكثرهم عند ذلك فقال :﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾ ويعني ما تقدم من شأن الفطرة في الرجوع إلى الله عند الشدة وكون هؤلاء لم تؤدبهم البأساء والضراء. وهذا فرع من فروع العهد الفطري، وقيل إنه أراد به أنهم كانوا يعاهدون الله تعالى عند الضيق بأن يشكروا له ويوحدوه إذا أنجاهم كما حكي عن بعضهم في عدة سور.
وروي عن ابن مسعود تفسير العهد بالإيمان أخذ من قوله تعالى :﴿ إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا ﴾ [ مريم : ٨٧ ] وهو يتفق مع القول الأول وإن لم يصرح به كما قال الحافظ ابن كثير في تفسير الجملة : وما وجدنا لأكثرهم أي لأكثر الأمم الماضية من عهد.
( ثم قال ) والعهد الذي أخذه هو الذي جبلهم عليه وفطرهم عليه وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو، وأقروا بذلك وشهدوا على أنفسهم به، وخالفوه وتركوه وراء ظهورهم وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة، لا من عقل ولا من شرع، وفي الفطر السليمة خلاف ذلك، وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن ذلك كما جاء في صحيح مسلم " يقول الله : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحلت لهم " ١ وفي الصحيحين " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " ٢ الحديث. اه.
والصواب أن العهد يعم هنا كل ما يصلح له من عهد فطري وشرعي وعرفي مما يلتزمه الناس بعضهم مع بعض في تعاهدهم وتعاقدهم لأنه جاء نكرة في سياق النفي مع تأكيد النفي بمن، كأنه قال : وما وجدنا لأكثر أولئك الأقوام عهدا ما يفون به ﴿ وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾ أي وأن الشأن الذي وجدنا عليه أكثرهم هو التمكن من الفسوق وهو الخروج عن كل عهد فطري وشرعي بالنكث والغدر، وغير ذلك من المعاصي. وإنما حكم على الأكثر لأن بعضهم قد آمن والتزم كل عهد عاهد الله عليه أو عاهده الله عليه أو تعاهد عليه مع الناس، ومنهم من كان يفي ببعض ذلك حتى في حال الكفر إذ لا تتفق أفراد أمة كبيرة على الشر والباطل في كل شيء، وهذا من دقة القرآن في تحديد الحقائق بالصدق الذي لا تشوبه شبهات المبالغة بما يسلب أحدا حقه أو يعطي أحدا غير حقه، وقد نوهنا بهذه الدقة من قبل، وغفل عنها بعض المفسرين فزعموا هنا أن المراد بالأكثر الكل في الكل.
والفسق في الأصل أعم من نكث العهد ويتساوى مفهومهما بما فسرنا به عموم العهد هنا. ففي التعبير من محاسن الكلام الطرد والعكس، باعتبار مدلول اللفظ، إذ الأول يقرر بمنطوقه مفهوم الثاني الذي يقرر بمفهومه منطوق الأول. وفيه الجناس التام بين وجدنا الأولى وهي بمعنى ألفينا والثانية وهي بمعنى علمنا – والمقابلة بين النفي والإثبات في سلب الوجود الأول وإثبات الثاني.
٢ أخرجه البخاري في الجنائز باب ٨٠، ٩٣، وتفسير سورة ٣٠، باب١، ومسلم في القدر حديث ٢٢، ٢٥، وأحمد في المسند ٢/٢٣٣، ٢٧٥، ٣٩٣..
قصة موسى عليه الصلاة والسلام
هو موسى بن عمران بكسر العين وأهل الكتاب يضبطون اسم والده بالميم في آخره ( عمرام ) وبفتح أوله، وجميع الأمم القديمة والحديثة تتصرف في نقل الأسماء من لغات غيرها إلى لغتها. ومعنى كلمة " موسى " المنتاش من الماء أي الذي أنقذ منه، وروى أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال : إنما سمي موسى لأنه ألقي بين ماء وشجر، فالماء بالقبطية " مو " والشجر " سى ". وذلك أن أمه وضعته بعد ولادته في تابوت ( صندوق ) أقفلته إقفالا محكما وألقته في اليم ( بحر النيل ) خوفا من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه إذ كانوا يذبحون ذكور بني إسرائيل عند ولادتهم ويتركون إناثهم – وقالت لأخته قصيه أي تتبعيه لنعلم أين ينتهي ومن يلتقطه، حتى لا يخفى عليها أمره، فما زالت أخته تراقب التابوت على ضفاف اليم حتى رأت آل فرعون ملك مصر يلتقطونه إلى آخر ما قصه الله تعالى من خبره في سورة القصص.
وقد ذكرت قصته في عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة أولها هذه السورة ( الأعراف ) فهي أول السور المكية في ترتيب المصحف التي ذكرت فيها قصته، ومثلها في استقصاء قصته طه والشعراء ويليها سائر الطواسين الثلاثة ( النمل والقصص ) وقد ذكر بعض العبر من قصته في سور أخرى كيونس وهود والمؤمنين، وذكر اسمه في سور كثيرة غيرها بالاختصار ولاسيما المكية وتكرر ذكره في خطاب بني إسرائيل من سورة البقرة المدنية وذكر في غيرها من الطول والمئين والمفصل حتى زاد ذكر اسمه في القرآن على ١٣٠ مرة فلم يذكر فيه نبي ولا ملك كما ذكر اسمه.
وسبب ذلك أن قصته أشبه قصص الرسل عليهم السلام بقصة خاتم الأنبياء محمد صلوا الله وسلامه عليه وعلى آله من حيث إنه أوتي شريعة دينية دنيوية، وكون الله تعالى به أمة عظيمة ذات ملك ومدنية، وسنبين ما فيها وفي غيرها من حكم التكرار واختلاف التعبير في مواضعها إن شاء الله تعالى.
قال الله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه ﴾ هذه القصة معطوفة على جملة ما قبلها من القصص من قوله تعالى :﴿ لقد أرسلنا نوحا ﴾ إلى قوله :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا ﴾ القصة. فهي نوع وهن نوع آخر، والفرق بين النوعين أن تلك القصص متشابهة في تكذيب الأقوام فيها لرسلهم ومعاندتهم إياهم وإيذائهم لهم، وفي عاقبة ذلك بإهلاك الله تعالى إياهم بعذاب الاستئصال. ولذلك عطف كل واحدة منهن على الأولى بدون إعادة ذكر الإرسال للإيذان بأنها نوع واحد فقال :﴿ وإلى عاد أخاهم هودا ﴾ ﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا ﴾ ﴿ ولوطا ﴾ ﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا ﴾ وقد أعاد في قصة موسى ذكر الإرسال للتفرقة ولكن بلفظ البعث وهو أخص وأبلغ من لفظ الإرسال لأنه يفيد معنى الإثارة والإزعاج إلى الشيء المهم، ولم يذكر في القرآن إلا في بعث الموتى وفي الرسالة العامة أي بعث عدة من الرسل، وفي بعثة نبينا وموسى خاصة، وكذا في بعث نقباء بني إسرائيل وبعث من انتقم منهم وعذبهم وسباهم حين أفسدوا في الأرض.
فالتعبير بلفظ البعث هنا يؤكد ما أفادته إعادة العامل من التفرقة بين نوعي الإرسال –أعني أن لفظه الخاص مؤكد لمعناه العام –كما يؤكدها عطف هذه القصة على أولئك ثم التي تدل على الفصل والتراخي إما في الزمان وإما في النوع أو الرتبة والأخير هو المراد هنا. وبيانه أن هذا الإرسال وما ترتب عليه وأعقبه في قوم موسى مخالف لجملة ما قبله مخالفة تضاد فقد أنقذت به أمة من عذاب الدنيا وهو تعبيد فرعون وملئه لها وسومهم إياها أنواع الخزي والنكال، واهتدت إلى عبادة الله تعالى وحده وإقامة شرعه فأعطاها في الدنيا ملكا عظيما، وجعل منها أنبياء وملوكا، وأعد بذلك المهتدين منها لسعادة الآخرة الباقية فأين هذا الإرسال من ذلك الإرسال، الذي أعقب أقوام أولئك الرسل في الدنيا عذاب الاستئصال، وفي الآخرة ما هو أشد وأبقى من الخزي والنكال ؟
وقد يظهر للتراخي الزماني وجه باعتبار كون العطف على قصة نوح، فإن ما عطف عليها من قصص ومن بعده قد جعل تابعا ومتمما لها بعدم إعادة العامل " أرسلنا " كما تقدم آنفا، وإلا فإن شعيبا وهو آخر أولئك الرسل كان في زمن موسى وهو حموه، وقد أوحى الله تعالى إلى موسى وهو لديه مع زوجه وأولاده في سيناء وأرسله منها إلى فرعون وملئه لإنقاذ بني إسرائيل من حكمه وظلمه.
ويؤيد ذلك كله أن الله تعالى ذكر إرسال نوح في سورة يونس وقفى عليه بقوله :﴿ ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم ﴾ [ يونس : ٧٤ ] الخ وقال بعد هذا ﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه ﴾ [ يونس : ٧٥ ] ومن المعلوم عقلا واستنباطا أن التراخي بين بعثة نوح ومن بعده من الرسل زماني إذ كان بعد تناسل الذين نجوا معه في السفينة وتكاثرهم وصيرورتهم شعوبا وقبائل، وهذا الإجمال في سورة يونس في الرسل مبني على التفصيل الذي سبقه في سورة الأعراف التي نزلت قبلها أو هو أعم منه فإن الأمم قد كثرت بين نوح وموسى عليهما السلام وقد قال تعالى :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ﴾ [ النحل : ٣٦ ] وقال لخاتم رسله ﴿ منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ﴾ [ غافر : ٧٨ ] وقد بينا حكمة تخصيص من ذكر في هذه السورة منهم بالذكر وكذا من ذكر في سورة الأنعام وغيرها.
والمعنى : ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى بآياتنا التي تدل على صدقه فيما يبلغه عنا إلى فرعون وملئه. أما فرعون فهو لقب لملوك مصر القدماء كلقب قيصر لملوك الروم وكسرى لملوك الفرس الأولين و " الشاه " لملوك الإيرانيين في هذا العصر، وكانوا يطلقون على فرعون لقب الملك أيضا. واختلف في اشتقاق كلمة فرعون ومعناه. وفي اسم فرعون موسى وزمنه، وليس في الآثار المصرية ما يبين هذا وأما ملؤه فهم أشراف قومه ورجال دولته، ولم يقل إلى فرعون وقومه لأن الملك ورجال الدولة هم الذين كانوا مستعبدين لبني إسرائيل وبيدهم أمرهم وليس لسائر المصريين من الأمر شيء لأنهم كانوا مستعبدين أيضا، ولكن الظلم على بني إسرائيل الغرباء كان أشد، وإنما بعث الله تعالى موسى لإنقاذ قومه بني إسرائيل من فرعون ورجال دولته وإقامة دين الله تعالى بهم في بلاد أجدادهم، ولو آمن فرعون وملؤه لآمن سائر قومهم لأنهم كانوا تبعا لهم بل كان هذا شأن جميع الأقوام مع ملوكهم المستبدين الجائرين.
وقد علم الله تعالى أن فرعون وملأه لا يؤمنون بموسى وأن قومه تبع له لا اختيار لهم وأكثرهم مقلدون ولذلك قتل السحرة لما آمنوا بموسى، وإنما آمنوا لأنهم كانوا علماء مستقلي العقل أصحاب فهم ورأي، وكان السحر من علومهم وفنونهم الصناعية التي تتلقى بالتعليم وليس كالآيات التي جاء بها موسى فإنها من خوارق العادات التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى.
وقد أقام الله تعالى الحجة بآيات موسى على فرعون وملئه ﴿ فظلموا بها ﴾ أي فظلموا أنفسهم وقومهم بالكفر بها كبرا وجحودا فكان عليهم إثم ذلك وإثم قومهم الذين حرموا من الإيمان باتباعهم لهم، كما كان يكون لهم مثل أجورهم لو آمنوا بالتبع لهم. وجملة القول أن موسى عليه السلام كان مرسلا إلى قومه بني إسرائيل بالذات وإلى فرعون وملئه بالتبع، ولك أن تقول إن الإرسال إلى بني إسرائيل مقصد وإلى فرعون وملئه وسيلة. وقد عدي الظلم في الجملة بالباء لتضمينه معنى الكفر فصار جامعا للمعنيين ولا يصح تفسيره بأحدهما، إذ لو أريد أحدهما لعبر به ولم يكن للتضمين فائدة. وقيل إن الباء في قوله فظلموا بها للسببية أي فظلموا أنفسهم وقومهم بسبب هذه الآيات ظلما جديدا وهو ما ترتب على الجحود من العذاب بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ثم بالغرق كما سيجيء في محله. والأول أظهر وأبلغ على أنه لا تنافي بينهما في المعنى.
﴿ فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ أي فانظر أيها الرسول – أو أيها السامع والتالي بعين العقل والفكر – كيف كان عاقبة فرعون وملئه المفسدين في الأرض بالظلم واستعباد البشر حين جحدوا آيات الله وظلموا بها عملا بمقتضى فسادهم. وهذا تشويق لتوجيه النظر لما سيقصه تعالى من عاقبة أمرهم إذ نصر عبده ورسوله موسى عليهم وهو فرد من شعب مستضعف مستعبد لهم، وهم أعظم أهل الأرض دولة وصولة وقوة، نصره عليهم أولا بإبطال سحرهم وإقناع علمائهم وسحرتهم بصحة رسالته وكون آياته من الله تعالى، ثم نصره بإرسال أنواع العذاب على البلاد ثم بإنقاذ قومه وإغراق فرعون ومن اتبعه من ملئه وجنوده. وهذه عبرة ظاهرة وحجة قائمة مدة الدهر، على القائلين إنما الغلب للقوة المادية على الحق، ولاسيما المغرورين بعظمة دول أوربة الظالمة لمن استضعفتهم من أهل الشرق، وعلى أولئك الباغين بالأولى، فأولى لهم أولى، ثم أولى لهم أولى.
قصة موسى عليه الصلاة والسلام
هو موسى بن عمران بكسر العين وأهل الكتاب يضبطون اسم والده بالميم في آخره ( عمرام ) وبفتح أوله، وجميع الأمم القديمة والحديثة تتصرف في نقل الأسماء من لغات غيرها إلى لغتها. ومعنى كلمة " موسى " المنتاش من الماء أي الذي أنقذ منه، وروى أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال : إنما سمي موسى لأنه ألقي بين ماء وشجر، فالماء بالقبطية " مو " والشجر " سى ". وذلك أن أمه وضعته بعد ولادته في تابوت ( صندوق ) أقفلته إقفالا محكما وألقته في اليم ( بحر النيل ) خوفا من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه إذ كانوا يذبحون ذكور بني إسرائيل عند ولادتهم ويتركون إناثهم – وقالت لأخته قصيه أي تتبعيه لنعلم أين ينتهي ومن يلتقطه، حتى لا يخفى عليها أمره، فما زالت أخته تراقب التابوت على ضفاف اليم حتى رأت آل فرعون ملك مصر يلتقطونه إلى آخر ما قصه الله تعالى من خبره في سورة القصص.
وقد ذكرت قصته في عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة أولها هذه السورة ( الأعراف ) فهي أول السور المكية في ترتيب المصحف التي ذكرت فيها قصته، ومثلها في استقصاء قصته طه والشعراء ويليها سائر الطواسين الثلاثة ( النمل والقصص ) وقد ذكر بعض العبر من قصته في سور أخرى كيونس وهود والمؤمنين، وذكر اسمه في سور كثيرة غيرها بالاختصار ولاسيما المكية وتكرر ذكره في خطاب بني إسرائيل من سورة البقرة المدنية وذكر في غيرها من الطول والمئين والمفصل حتى زاد ذكر اسمه في القرآن على ١٣٠ مرة فلم يذكر فيه نبي ولا ملك كما ذكر اسمه.
وسبب ذلك أن قصته أشبه قصص الرسل عليهم السلام بقصة خاتم الأنبياء محمد صلوا الله وسلامه عليه وعلى آله من حيث إنه أوتي شريعة دينية دنيوية، وكون الله تعالى به أمة عظيمة ذات ملك ومدنية، وسنبين ما فيها وفي غيرها من حكم التكرار واختلاف التعبير في مواضعها إن شاء الله تعالى.
بعد هذا التشويق والتنبيه قص تعالى علينا ما كان من مبدأ أمر أولئك المفسدين الذي انتهى إلى تلك العاقبة فقال :﴿ وقال موسى يا فرعون إنّي رسول من ربّ العالمين * حقيق على أن لا أقول على اللّه إلّا الحقّ قد جئتكم ببيّنة من ربّكم فأرسل معي بني إسرائيل ﴾ نبدأ بما في هذه الآية من المباحث اللفظية والقراءات ونكت البلاغة لتفهم عبارتها كما يجب ويكون سياق القصة بعد ذلك متصلا بعضه ببعض، وفيها بحثان دقيقان أحدهما بدء القصة بالعطف وكونه بالواو، والثاني قول موسى عليه السلام ﴿ حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق ﴾ لم أر من تكلم على وجه بدء الآية بالعطف وبيان المعطوف عليه والتفرقة بينها وبين مثلها من سياق القصة في سورة طه إذ قال بعد أمر موسى بالذهاب مع أخيه هارون إلى فرعون وتبليغه الدعوة مبينا كيف كان امتثالها للأمر ﴿ إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ﴾ [ طه : ٤٨ ] فجاء به مفصولا على وجه الاستئناف البياني غير موصول بالواو ولا بالفاء، ومثله في الفصل قوله تعالى في القصص التي قبل قصة موسى من هذه السورة ﴿ وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ﴾ [ الأعراف : ٦٥ ] وكذا ما بعده من قصة صالح ولوط وشعيب، ولم يقل فقال أو وقال ولكنه عطف تبليغ نوح عليه السلام قبلها بالفاء ﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ﴾ [ الأعراف : ٥٩ ] الآية وقد بينا الفرق بين هذا الوصل وما بعده من الفصل في قصة هود عليه السلام.
والحاصل أن لدينا هنا عطفا بالفاء في قصة نوح وعطفا بالواو في قصة موسى وفصلا بيانيا في القصص التي بينهما يشبهه الفصل في قصة موسى في سور أخرى وله نظائر كثيرة. فأما الأول فعطف التبليغ فيه على الإرسال بالفاء لإفادة التعقيب وعدم جواز تأخير تبليغ الدعوة. وأما الفصل في القصص بعده فلأنه لما صار هذا معلوما وكان ما جرى من أمر قوم نوح عبرة لقوم هود وكانا معا عبرة لقوم صالح وهلمّ جرا – حسُنَ في كل قصة من هذه الفصلُ على أنه جواب لسؤال مقدر، كأن قائلا يقول في كل منها : ماذا كان من أمر هذا النبي مع قومه ؟ كما تقدم بيانه. وأما الأخير الذي نحن بصدده فوجه العطف فيه وكونه بالواو هو أنه قد قفى في قصة موسى هنا على ذكر إرساله إلى فرعون وملئه بذكر نتيجة هذا الإرسال وعاقبته بالإجمال وهو قوله تعالى :﴿ فظلموا بها ﴾ الخ.
وبدأت القصة بعده بتفصيل ذلك الإجمال ومقدمات تلك النتيجة، فكان المناسب أن يعطف عليها لا أن يستأنف استئنافا بيانيا لما هو ظاهر من الاشتراك بين المقدمات والنتيجة، أو بين التفصيل والإجمال، وأن يكون العطف بالواو لا بالفاء لأن الفاء تدل على التعقيب والترتيب وهو لا يصح هنا، لأنه يقتضي أن تكون المقدمات متأخرة عن النتيجة وذلك باطل بالبداهة، فتعين أن يكون العطف بالواو، وهذه دقة في البلاغة لا يهتدي إلى مثلها إلا غوّاصو بحر البيان، ولا يكادون يجدون فرائدها إلا في أسلوب القرآن، وأعجب للإمام الزمخشري كيف غفل عنها إذ لم يتعرض للمسألة من أصلها. وحكمة بدء القصة بذكر نتيجتها والعبرة المقصودة منها، هي –والله أعلم- أن تكون متصلة بما يناسبها من العبرة في القصص التي قبلها، من حيث إهلاك معاندي الرسل عليهم السلام جحودا واستكبارا، وقد ذكرت هذه العبرة بعد جملة تلك القصص لتشابهها مبدأ وغاية كما تقدم، وقصة موسى عليه السلام طويلة فهي تساويها في هذا من حيث رسالته إلى فرعون وملئه فقط. وفيها عبر أخرى فيما تشابه به أمر خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم من حيث إرساله إلى بني إسرائيل وإرسال محمد خاتم النبيين إلى العرب وسائر البشر وتوفيق الله قومهما للإيمان ونشر شريعتها فيمن أرسلا إليهم، إلى آخر ما بيناه آنفا في نكتة عطفها على ما قبلها ب( ثم ) ونكتة التعبير ب( بعثنا )، ولذلك ذكر في أواخرها تبشير موسى وكذا عيسى بالنبي الأمي الخاتم محمد صلوات الله عليهم أجمعين.
قصة موسى عليه الصلاة والسلام
هو موسى بن عمران بكسر العين وأهل الكتاب يضبطون اسم والده بالميم في آخره ( عمرام ) وبفتح أوله، وجميع الأمم القديمة والحديثة تتصرف في نقل الأسماء من لغات غيرها إلى لغتها. ومعنى كلمة " موسى " المنتاش من الماء أي الذي أنقذ منه، وروى أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال : إنما سمي موسى لأنه ألقي بين ماء وشجر، فالماء بالقبطية " مو " والشجر " سى ". وذلك أن أمه وضعته بعد ولادته في تابوت ( صندوق ) أقفلته إقفالا محكما وألقته في اليم ( بحر النيل ) خوفا من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه إذ كانوا يذبحون ذكور بني إسرائيل عند ولادتهم ويتركون إناثهم – وقالت لأخته قصيه أي تتبعيه لنعلم أين ينتهي ومن يلتقطه، حتى لا يخفى عليها أمره، فما زالت أخته تراقب التابوت على ضفاف اليم حتى رأت آل فرعون ملك مصر يلتقطونه إلى آخر ما قصه الله تعالى من خبره في سورة القصص.
وقد ذكرت قصته في عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة أولها هذه السورة ( الأعراف ) فهي أول السور المكية في ترتيب المصحف التي ذكرت فيها قصته، ومثلها في استقصاء قصته طه والشعراء ويليها سائر الطواسين الثلاثة ( النمل والقصص ) وقد ذكر بعض العبر من قصته في سور أخرى كيونس وهود والمؤمنين، وذكر اسمه في سور كثيرة غيرها بالاختصار ولاسيما المكية وتكرر ذكره في خطاب بني إسرائيل من سورة البقرة المدنية وذكر في غيرها من الطول والمئين والمفصل حتى زاد ذكر اسمه في القرآن على ١٣٠ مرة فلم يذكر فيه نبي ولا ملك كما ذكر اسمه.
وسبب ذلك أن قصته أشبه قصص الرسل عليهم السلام بقصة خاتم الأنبياء محمد صلوا الله وسلامه عليه وعلى آله من حيث إنه أوتي شريعة دينية دنيوية، وكون الله تعالى به أمة عظيمة ذات ملك ومدنية، وسنبين ما فيها وفي غيرها من حكم التكرار واختلاف التعبير في مواضعها إن شاء الله تعالى.
وأما قوله :﴿ حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق ﴾ على قراءة الجمهور فقد جاء على غير المشهور عن العرب في هذه الكلمة إذ يقولون : أنت حقيق بكذا، وأنت حقيقة بأن تفعلي كذا، كما يقولون أنت جدير به وخليق به، ولم ينقل عنهم استعماله ب( على )، ولكن ورد في كلامهم استعمال " على " بمعنى الباء كقولهم : أركب على اسم الله، وهو الذي اعتمده ابن هاشم في المغني في تخريج الآية عند ذكر المعنى السابع من معاني " على " الجارة وأيده بقراءة أبي بن كعب رضي الله عنه ( حقيق بأن لا أقول ) ومثلها قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ( حقيق أن لا أقول... ) لأن المتبادر أن الجار المحذوف من أن هو الباء وحذف الجار من أن الخفيفة وأن المشددة قياسي معروف. وقد سبقه إلى هذا الاختيار بعض المفسرين : قال الحافظ ابن كثير في الجملة عن بعضهم : معناه حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق، أي جدير بذلك وحري به قالوا والباء وعلى يتعاقبان يقال رميت بالقوس وعلى القوس وجاء على حال حسنة وبحال حسنة.
وقال بعض المفسرين معناه حريص على أن لا أقول على الله إلا الحق اه والمراد من القول الثاني أن حقيقا قد ضمن معنى الحرص وهو منقول عن الفراء النحوي المفسر المشهور، وقد بينا مرارا أن التضمين جمع بين المعنى الأصلي للكلمة والمعنى الذي أفادته التعدية فيكون المراد من العبارة : إني رسول من رب العالمين حقيق وجدير بأن لا أقول على الله إلا الحق وحريص على ذلك فلن أخلّ به. وما قيل من أنه من باب قلب الحقيقة إلى المجاز أو من باب الإغراق في وصف موسى نفسه بالصدق حتى جعل قول الحق كأنه يسعى ليكون هو قائله والقائم به ولا يرضى أن ينطق به غيره – فلا يخلو من تكلف وإن قال الزمخشري في الأخير إنه هو الأوجه الأدخل في نكت القرآن.
وقرأ نافع " حقيق عليّ أن لا أقول على الله إلا الحق " أي واجب وحق عليّ أن لا أخبر عنه تعالى إلا بما هو حق وصدق لما أعلم من عز جلاله وعظيم شأنه – كما قال الحافظ ابن كثير.
إذا علم هذا فنقول في تفسير الآيات :
بلغ موسى عليه السلام فرعون أنه رسول من رب العالمين كلهم –أي سيدهم ومالكهم ومدير جميع أمروهم- وأنه بمقتضى هذه الرسالة لا يقول على الله إلا الحق، إذ لا يمكن أن يبعث الله رسولا يكذب عليه، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، فهو حقيق بالصدق والتزام الحق في التبليغ عن ربه ومعصوم من الكذب والخطأ فيه، وشديد الحرص عليه بما له من الكسب والاختيار –فاشتمل كلامه على عقيدة الوحدانية وهي أن للعالمين كلهم ربا واحدا، وعقيدة الرسالة المؤيدة منه تعالى بالعصمة في التبليغ والهداية، وقد ناقشه فرعون البحث في وحدانية الربوبية العامة لله تعالى كما هو مبين في سورة الشعراء فوصفه موسى بما يليق به تعالى، ويوضح المعنى المراد في أجوبة عدة أسئلة أوردها عليه، وقد سأله هو وهارون عن ربهما في سياق سورة طه، وجاء فيما حكاه الله تعالى عنهما فيها ذكر البعث والجزاء. وكان قدماء المصريين يؤمنون بالبعث كما يؤمنون بالرب الإله الغيبي ولكنهم شابوا العقيدتين بنزعات الشرك وبعض الخرافات الناشئة عنه.
فعلم من هذا أن موسى قد بلغ فرعون وملأه أصول الإيمان الثلاثة : التوحيد والرسالة والبعث والجزاء، وفي كل سياق في قصة موسى المكررة في عدة سور فوائد في ذلك وفي غيره لا توجد في الأخرى. وأبسطها وأوسعها بيانا هذه السورة ( الأعراف ) وطه والشعراء والقصص –وإنما التكرار لجملة القصة لا التفصيل لهما كما سيأتي.
ثم ذكر أن الله تعالى أيده ببينة تدل على صدقه في دعواه وتبليغه عنه ورتب عليه ما هو مقصود له بالذات أو بالقصد الأول فقال حكاية عنه :﴿ قد جئتكم ببيّنة من ربّكم فأرسل معي بني إسرائيل ﴾ أي قد جئتكم ببينة عظيمة الشأن، ظاهرة الحجة في بيان الحق، فتنكير البينة للتفخيم، والتصريح بكون هذه البينة المعجزة من عند ربهم نص على أنهم مربوبون، وأن فرعون ليس ربا ولا إلها، وعلى أنها أي البينة ليست من كسب موسى ولا مما يستقل به عليه السلام –وبنى على هذا قوله : فأرسل معي بني إسرائيل أي بأن تطلقهم من أسرك، وتعتقهم من رق قهرك، ليذهبوا معي إلى دار غير ديارك، ويعبدوا فيها ربهم وربك. وبم أجاب فرعون ؟
قصة موسى عليه الصلاة والسلام
هو موسى بن عمران بكسر العين وأهل الكتاب يضبطون اسم والده بالميم في آخره ( عمرام ) وبفتح أوله، وجميع الأمم القديمة والحديثة تتصرف في نقل الأسماء من لغات غيرها إلى لغتها. ومعنى كلمة " موسى " المنتاش من الماء أي الذي أنقذ منه، وروى أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال : إنما سمي موسى لأنه ألقي بين ماء وشجر، فالماء بالقبطية " مو " والشجر " سى ". وذلك أن أمه وضعته بعد ولادته في تابوت ( صندوق ) أقفلته إقفالا محكما وألقته في اليم ( بحر النيل ) خوفا من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه إذ كانوا يذبحون ذكور بني إسرائيل عند ولادتهم ويتركون إناثهم – وقالت لأخته قصيه أي تتبعيه لنعلم أين ينتهي ومن يلتقطه، حتى لا يخفى عليها أمره، فما زالت أخته تراقب التابوت على ضفاف اليم حتى رأت آل فرعون ملك مصر يلتقطونه إلى آخر ما قصه الله تعالى من خبره في سورة القصص.
وقد ذكرت قصته في عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة أولها هذه السورة ( الأعراف ) فهي أول السور المكية في ترتيب المصحف التي ذكرت فيها قصته، ومثلها في استقصاء قصته طه والشعراء ويليها سائر الطواسين الثلاثة ( النمل والقصص ) وقد ذكر بعض العبر من قصته في سور أخرى كيونس وهود والمؤمنين، وذكر اسمه في سور كثيرة غيرها بالاختصار ولاسيما المكية وتكرر ذكره في خطاب بني إسرائيل من سورة البقرة المدنية وذكر في غيرها من الطول والمئين والمفصل حتى زاد ذكر اسمه في القرآن على ١٣٠ مرة فلم يذكر فيه نبي ولا ملك كما ذكر اسمه.
وسبب ذلك أن قصته أشبه قصص الرسل عليهم السلام بقصة خاتم الأنبياء محمد صلوا الله وسلامه عليه وعلى آله من حيث إنه أوتي شريعة دينية دنيوية، وكون الله تعالى به أمة عظيمة ذات ملك ومدنية، وسنبين ما فيها وفي غيرها من حكم التكرار واختلاف التعبير في مواضعها إن شاء الله تعالى.
﴿ قال إن كنت جئت بآية ﴾ أي قال فرعون لموسى عليه السلام : إن كنت جئت مصحوبا ومؤيدا بآية من عند من أرسلك كما تدعي –والشرط ب( أن ) يدل على الشك في مضمون الجملة الشرطية أو الجزم بنفيها- ﴿ فأت بها إن كنت من الصادقين ﴾ فأتني بها بأن تظهرها لدي إن كنت من أهل الصدق، الملتزمين لقول الحق، وهذا شك آخر في صدقه، بعد الشك في مجيئه بالآية.
قصة موسى عليه الصلاة والسلام
هو موسى بن عمران بكسر العين وأهل الكتاب يضبطون اسم والده بالميم في آخره ( عمرام ) وبفتح أوله، وجميع الأمم القديمة والحديثة تتصرف في نقل الأسماء من لغات غيرها إلى لغتها. ومعنى كلمة " موسى " المنتاش من الماء أي الذي أنقذ منه، وروى أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال : إنما سمي موسى لأنه ألقي بين ماء وشجر، فالماء بالقبطية " مو " والشجر " سى ". وذلك أن أمه وضعته بعد ولادته في تابوت ( صندوق ) أقفلته إقفالا محكما وألقته في اليم ( بحر النيل ) خوفا من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه إذ كانوا يذبحون ذكور بني إسرائيل عند ولادتهم ويتركون إناثهم – وقالت لأخته قصيه أي تتبعيه لنعلم أين ينتهي ومن يلتقطه، حتى لا يخفى عليها أمره، فما زالت أخته تراقب التابوت على ضفاف اليم حتى رأت آل فرعون ملك مصر يلتقطونه إلى آخر ما قصه الله تعالى من خبره في سورة القصص.
وقد ذكرت قصته في عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة أولها هذه السورة ( الأعراف ) فهي أول السور المكية في ترتيب المصحف التي ذكرت فيها قصته، ومثلها في استقصاء قصته طه والشعراء ويليها سائر الطواسين الثلاثة ( النمل والقصص ) وقد ذكر بعض العبر من قصته في سور أخرى كيونس وهود والمؤمنين، وذكر اسمه في سور كثيرة غيرها بالاختصار ولاسيما المكية وتكرر ذكره في خطاب بني إسرائيل من سورة البقرة المدنية وذكر في غيرها من الطول والمئين والمفصل حتى زاد ذكر اسمه في القرآن على ١٣٠ مرة فلم يذكر فيه نبي ولا ملك كما ذكر اسمه.
وسبب ذلك أن قصته أشبه قصص الرسل عليهم السلام بقصة خاتم الأنبياء محمد صلوا الله وسلامه عليه وعلى آله من حيث إنه أوتي شريعة دينية دنيوية، وكون الله تعالى به أمة عظيمة ذات ملك ومدنية، وسنبين ما فيها وفي غيرها من حكم التكرار واختلاف التعبير في مواضعها إن شاء الله تعالى.
﴿ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ﴾
أي فلم يلبث موسى أن ألقى عصاه التي كانت بيمينه أمام فرعون فإذا هي ثعبان –وهو الذكر العظيم من الحيات –مبين أي ظاهر بيّن لا خفاء في كونه ثعبانا حقيقيا يسعى وينتقل من مكان إلى آخر تراه الأعين من غير أن يسحرها ساحر فيخيل إليها أنها تسعى كما سيأتي من أعمال سحرة فرعون.
وفي التفسير المأثور روايات في صفة الثعبان الذي تحولت إليه عصا موسى عليه السلام وفي تأثيره لدى فرعون ما هي إلا من الإسرائيليات التي لا يصح لها سند ولا يوثق منها بشيء، ومنها قول وهب بن منبه : إن العصا لما صارت ثعبانا حملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا وقام فرعون منهزما. قال ابن كثير : رواه ابن جرير والإمام أحمد وابن أبي حاتم وفيه غرابة في سياقه والله أعلم اه وقد اقتصرت على هذه الرواية لأقول إنني أرجح تضعيف عمرو بن الفلاس لوهب على توثيق الجمهور له، بل أنا أسوأ فيه ظنا على ما روي من كثرة عبادته، ويغلب على ظني أنه كان له ضلع مع قومه الفرس الذين كانوا يكيدون للإسلام وللعرب ويدسون لهم من باب الرواية ومن طريق التشيع، فقد ذكر الإمام أحمد أن والده منبها فارسي أخرجه كسرى إلى اليمن فأسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأن ابنه وهبا كان يختلف من بعده إلى بلاده بعد فتحها وههنا موضع الشبهة في الغرائب المروية عنه وهي كثيرة –ومثله عندي كعب الأحبار الإسرائيلي- كلاهما كان تابعيا كثير الرواية للغرائب التي لا يعرف لها أصل معقول ولا منقول، وقومهما كانوا يكيدون للأمة الإسلامية العربية التي فتحت بلاد الفرس وأجلت اليهود من الحجاز، فقاتل الخليفة الثاني فارسي مرسل من جمعية سرية لقومه، وقتلة الخليفة الثالث كانوا مفتونين بدسائس عبد الله بن سبأ اليهودي. وإلى جمعية السبئيين وجمعيات الفرس ترجع جميع الفتن السياسية وأكاذيب الرواية في الصدر الأول.
قصة موسى عليه الصلاة والسلام
هو موسى بن عمران بكسر العين وأهل الكتاب يضبطون اسم والده بالميم في آخره ( عمرام ) وبفتح أوله، وجميع الأمم القديمة والحديثة تتصرف في نقل الأسماء من لغات غيرها إلى لغتها. ومعنى كلمة " موسى " المنتاش من الماء أي الذي أنقذ منه، وروى أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال : إنما سمي موسى لأنه ألقي بين ماء وشجر، فالماء بالقبطية " مو " والشجر " سى ". وذلك أن أمه وضعته بعد ولادته في تابوت ( صندوق ) أقفلته إقفالا محكما وألقته في اليم ( بحر النيل ) خوفا من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه إذ كانوا يذبحون ذكور بني إسرائيل عند ولادتهم ويتركون إناثهم – وقالت لأخته قصيه أي تتبعيه لنعلم أين ينتهي ومن يلتقطه، حتى لا يخفى عليها أمره، فما زالت أخته تراقب التابوت على ضفاف اليم حتى رأت آل فرعون ملك مصر يلتقطونه إلى آخر ما قصه الله تعالى من خبره في سورة القصص.
وقد ذكرت قصته في عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة أولها هذه السورة ( الأعراف ) فهي أول السور المكية في ترتيب المصحف التي ذكرت فيها قصته، ومثلها في استقصاء قصته طه والشعراء ويليها سائر الطواسين الثلاثة ( النمل والقصص ) وقد ذكر بعض العبر من قصته في سور أخرى كيونس وهود والمؤمنين، وذكر اسمه في سور كثيرة غيرها بالاختصار ولاسيما المكية وتكرر ذكره في خطاب بني إسرائيل من سورة البقرة المدنية وذكر في غيرها من الطول والمئين والمفصل حتى زاد ذكر اسمه في القرآن على ١٣٠ مرة فلم يذكر فيه نبي ولا ملك كما ذكر اسمه.
وسبب ذلك أن قصته أشبه قصص الرسل عليهم السلام بقصة خاتم الأنبياء محمد صلوا الله وسلامه عليه وعلى آله من حيث إنه أوتي شريعة دينية دنيوية، وكون الله تعالى به أمة عظيمة ذات ملك ومدنية، وسنبين ما فيها وفي غيرها من حكم التكرار واختلاف التعبير في مواضعها إن شاء الله تعالى.
﴿ ونزع يده فإذا هي بيضاء للنّاظرين ﴾ ونزع يده أي أخرجها من جيب قميصه بعد أن وضعها فيه بعد إلقاء العصا فإذا هي بيضاء ناصعة البياض تتلألأ للناظرين إليه، وهم فرعون وملؤه أو لكل من ينظر، والنظارة هم الذين يجتمعون عادة لرؤية الأمور الغريبة. وقد وصف الله تعالى بياضها في طه والنمل والقصص بأنه ( من غير سوء ) أي من غير علة كالبرص.
قصة موسى عليه الصلاة والسلام
هو موسى بن عمران بكسر العين وأهل الكتاب يضبطون اسم والده بالميم في آخره ( عمرام ) وبفتح أوله، وجميع الأمم القديمة والحديثة تتصرف في نقل الأسماء من لغات غيرها إلى لغتها. ومعنى كلمة " موسى " المنتاش من الماء أي الذي أنقذ منه، وروى أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال : إنما سمي موسى لأنه ألقي بين ماء وشجر، فالماء بالقبطية " مو " والشجر " سى ". وذلك أن أمه وضعته بعد ولادته في تابوت ( صندوق ) أقفلته إقفالا محكما وألقته في اليم ( بحر النيل ) خوفا من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه إذ كانوا يذبحون ذكور بني إسرائيل عند ولادتهم ويتركون إناثهم – وقالت لأخته قصيه أي تتبعيه لنعلم أين ينتهي ومن يلتقطه، حتى لا يخفى عليها أمره، فما زالت أخته تراقب التابوت على ضفاف اليم حتى رأت آل فرعون ملك مصر يلتقطونه إلى آخر ما قصه الله تعالى من خبره في سورة القصص.
وقد ذكرت قصته في عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة أولها هذه السورة ( الأعراف ) فهي أول السور المكية في ترتيب المصحف التي ذكرت فيها قصته، ومثلها في استقصاء قصته طه والشعراء ويليها سائر الطواسين الثلاثة ( النمل والقصص ) وقد ذكر بعض العبر من قصته في سور أخرى كيونس وهود والمؤمنين، وذكر اسمه في سور كثيرة غيرها بالاختصار ولاسيما المكية وتكرر ذكره في خطاب بني إسرائيل من سورة البقرة المدنية وذكر في غيرها من الطول والمئين والمفصل حتى زاد ذكر اسمه في القرآن على ١٣٠ مرة فلم يذكر فيه نبي ولا ملك كما ذكر اسمه.
وسبب ذلك أن قصته أشبه قصص الرسل عليهم السلام بقصة خاتم الأنبياء محمد صلوا الله وسلامه عليه وعلى آله من حيث إنه أوتي شريعة دينية دنيوية، وكون الله تعالى به أمة عظيمة ذات ملك ومدنية، وسنبين ما فيها وفي غيرها من حكم التكرار واختلاف التعبير في مواضعها إن شاء الله تعالى.
﴿ قال الملأ من قوم فرعون إنّ هذا لساحر عليم ١٠٩ يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون ١١٠ ﴾.
فصل في حقيقة السحر وأنواعه
كان السحر فنا من فنون قدماء المصريين يتعلمونه في مدارسهم العالية مع سائر علوم الكون، وكان كذلك عند أقرانهم من البابليين، وكذا الهنود وغيرهم، ولا يزال يؤثر عن الوثنيين منهم أعمال سحرية غريبة اهتدى علماء الإنكليز وغيرهم من الإفرنج إلى تعليل بعضها أو كشف حقيقته ولا يزالون يجهلون تعليل بعض. والمعنى الجامع للسحر أنه أعمال غريبة من التلبيس والحيل تخفى حقيقتها على جماهير الناس لجهلهم بأسبابها فمتى عرف سبب شيء منها بطل إطلاق اسم السحر عليه، ولذلك كان الأقوام الجاهلون يعدون آيات الرسل الكونية التي يؤيدهم الله تعالى بها من قبيل السحر ويجعلون هذا مانعا من دلالتها على صدقهم وتأييد الله تعالى لهم، لأن السحر صنعة تتلقى بالتعليم والتمرين فيمكن لكل أحد أن يكون ساحرا إذا أتيح له من يعلمه السحر. ومن المعلوم في التاريخ القديم والحديث أن السحر لا يروج إلا بين الجاهلين وله المكانة المهيبة المخيفة بين أعرق القبائل في الهمجية، ولا يكاد يوجد في البلاد التي ينتشر فيها العلم والعرفان بل يسمى أهله بأسماء أخرى كالمشعوذين والمحتالين والدجالين.
وقد سبق لنا بيان حقيقة السحر في قصة هاروت وماروت من جزء التفسير الأول وفي بعض مجلدات المنار وخلاصته أنه ثلاثة أنواع أحدها : ما يعمل بالأسباب الطبيعية من خواص المادة المعروفة للعامل المجهولة عند من يسحرهم بها ومنها الزئبق الذي قيل إن سحرة فرعون وضعوه في حبالهم وعصيهم كما سيأتي. ولو شاء علماء الطبيعة والكيمياء في هذا العصر أن يجعلوا أنفسهم سحرة في بلاد أواسط إفريقية الهمجية وأمثالها. من البلاد الجاهلة التي يروج فيها السحر العتيق لأروهم من عجائب الكهرباء وغيره ما يخضعونهم به لعبادتهم لو ادعوا الألوهية فيهم، دع دعوى النبوة أو الولاية. وقد اجتمع السحرة في بعض هذه البلاد على بعض السياح الغربيين ليرهبوهم بسحرهم وكانوا في مكان بارد والفصل شتاء فأخذ بعض هؤلاء السياح قطعة من الجليد وجعلها بشكل عدسي بقدر ما يرى من قرص الشمس وقال لهم إنني أعلم منكم بالسحر وإنني أقدر به أن أجعل في يدي شمسا كشمس السماء ثم وجه عدسيته إلى الشمس عند بزوغها واكتمال ضوئها فصارت بانعكاس النور فيها كالشمس لم يستطع السحرة أن يثبتوا نظرهم إليها فخضعوا له ولمن معه وكفوا شرهم عنهم خوفا منهم.
النوع الثاني : الشعوذة التي مدار البراعة فيها على خفة اليدين في إخفاء بعض الأشياء وإظهار بعض، وإراءة بعضها بغير صورها، وغير ذلك مما هو معروف في هذه البلاد وغيرها من بلاد الحضارة بكثرة المكتسبين بها من الوطنيين والغرباء. ولم يبق أحد في هذه البلاد يسميها سحرا.
النوع الثالث : ما مداره على تأثير الأنفس ذوات الإرادة القوية في الأنفس الضعيفة ذات الأمزجة العصبية القابلة للأوهام والانفعالات التي تسمى في عرف علماء هذا العصر بالهستيرية، وهذا النوع قيل إن أصحابه يستعينون على أعمالهم بأرواح الشياطين، ومنهم الذين يكتبون الأوفاق والطلمسات للحب والبغض وغير ذلك. ومن يقول إن للحروف خواص وتأثيرات ذاتية يخرج عمل الأوفاق والنشرات وما في معناها من السحر. ومن هذا النوع ما استحدث في هذا العصر من التنويم المغناطيسي وأخباره مشهورة.
ومما سبق لنا بيانه في هذا الباب تخطئة من قال من المتكلمين إن السحر من خوارق العادات الذي هو الجنس الجامع لمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، وفاتهم أن السحر صناعة تتلقى بالتعليم كما ثبت بنص القرآن وبالاختبار الذي لم يبق فيه خلاف بين أحد من علماء الكون في هذا العصر.
ولعلمائنا كلام كثير في السحر بعضه صحيح وبعضه أوهام وإننا ننقل هنا كلام بعض كبار محققي المفسرين فيه. ومن أحضره وأفيده قول ابن فارس : هو إخراج الباطل في صورة الحق. وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته لغريب القرآن ما نصه :
تعريف السحر ومأخذه من اللغة : السحر طرف الحلقوم والرئة وقيل انتفخ سحره وبعير سحر عظيم السحر والسحارة ( بالضم ) ما ينزع من السحر عند الذبح فيرمى به وجعل بناؤه بناء النفاية والسقاطة وقيل منه اشتق السحر وهو إصابة السحر. والسحر يقال على معان :
الأول : خداع وتخييلات لا حقيقة لها نحو ما يفعله المشعوذ بصرف الأبصار عما يفعله لخفة يد وما يفعله النمام بقول مزخرف عائق للأسماع وعلى ذلك قوله تعالى :﴿ سحروا أعين الناس واسترهبوهم ﴾ [ الأعراف : ١١٦ ] وقال :﴿ يخيل إليه من سحرهم ﴾ [ طه : ٦٦ ] وبهذا النظر سموا موسى عليه السلام ساحرا فقالوا :﴿ يا أيها الساحر ادع لنا ربك ﴾ [ الزخرف : ٤٩ ].
والثاني : استجلاب معاونة الشياطين بضرب من التقرب إليهم كقوله تعالى :﴿ هل أنبّئكم على من تنزّل الشّياطين ؟ * تنزّل على كلّ أفّاك أثيم ﴾ [ الشعراء : ٢٢١، ٢٢٢ ] وعلى ذلك قوله تعالى :﴿ ولكن الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ].
والثالث : ما يذهب إليه الأغتام وهو اسم لفعل يزعمون أنه من قوته يغير الصور والطبائع فيجعل الإنسان حمارا ولا حقيقة لذلك عند المحصلين. وقد تصور من السحر تارة حسنه فقيل " إن من البيان لسحرا " وتارة دقة فعله حتى قالت الأطباء الطبيعة ساحرة وسموا الغذاء سحرا من حيث إنه يدق ويلطف تأثيره. اه.
وقد عقد الشيخ أبو بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص من أئمة الحنفية في القرن الرابع بابا خاصا من تفسيره الجليل ( أحكام القرآن ) لبيان معنى السحر وحكم الساحر عند كلامه على قوله تعالى :﴿ واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ] قال في أوله " الواجب أن نقدم القول في السحر لخفائه على كثير من أهل العلم فضلا عن العامة ثم نعقبه بالكلام في حكمه في مقتضى الآية في المعاني والأحكام فنقول :
إن أهل اللغة يذكرون أن أصله في اللغة لما لطف وخفي سببه والسحر عندهم بالفتح هو الغذاء لخفائه ولطف مجاريه، قال لبيد :
أرانا موضعين لأمر غيب | ونسحر بالطعام وبالشراب١ |
فإن تسألينا فيم نحن فإننا | عصافير من هذا الأنام المسحّر٢ |
( وههنا ذكر الجصاص روايته لهذا الحديث وهو في الصحيح وأطال الكلام عليه في زهاء ورقة كبيرة ذكر في أثنائه سحر سحرة موسى لأعين الناس وتخييلهم إن حبالهم وعصيهم تسعى ولم تكن تسعى، وذكر ما قيل من حيلتهم في ذلك بوضع الزئبق فيها وتحريك النار الخفية للزئبق فكان سبب حركتها، وسيأتي نقل ذلك عنه قريبا. ثم ذكر قصة تاريخية في أصل السحر ببابل وقفى عليها ببيان أنواعه فقال ) :
كلام الجصاص في السحر وأنواعه :
وإذ قد بينا أصل السحر في اللغة وحكمه عند الإطلاق والتقييد، فلنقل في معناه في التعارف والضروب الذي يشتمل عليها هذا الاسم وما يقصد به كل فريق من منتحليه، والغرض الذي يجري إليه مدعوه، فنقول : وبالله التوفيق إن ذلك ينقسم إلى أنحاء مختلفة.
( فمنها سحر أهل بابل ) الذي ذكرهم الله تعالى في قوله :﴿ يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ] وكانوا قوما صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويسمونها آلهة. ويعتقدون أن حوادث العالم كلها من أفعالها، وهم معطلة لا يعترفون بالصانع الواحد المبدع للكواكب وجميع أجرام العالم، وهم الذين بعث الله تعالى إليهم إبراهيم خليله صلوات الله عليه فدعاهم إلى الله تعالى وحاجهم بالحجاج الذي بهرهم به وأقام عليهم الحجة من حيث لم يمكنهم دفعه، ثم ألقوه في النار فجعلها الله بردا وسلاما. ثم أمره الله تعالى بالهجرة إلى الشام. وكان أهل بابل وإقليم العراق والشام ومصر والروم على هذه المقالة إلى أيام بيوراسب الذي تسميه العرب الضحاك. وإن أفريدون وكان من أهل دُنباوند استجاش عليه بلاده وكاتب سائر من يطيعه وله قصص طويلة حتى أزال ملكه وأسره.
وجهال العامة من النساء عندنا يزعمون إن أفريدون حبس بيوارسب في جبل دنباوند العالي على الجبال وإنه حي هناك مقيد، وإن السحرة يأتونه هناك فيأخذون عنه السحر، وإنه سيخرج فيغلب على الأرض وأنه هو الدجال الذي أخبر به النبي عليه السلام وحذرناه، وأحسبهم أخذوا ذلك من المجوس. وصارت مملكة إقليم بابل للفرس، فانتقل بعض ملوكهم إليها في بعض الأزمان فاستوطنوها، ولم يكنوا عبدة أوثان، بل كانوا موحدين مقرين بالله وحده، إلا أنهم مع ذلك يعظمون العناصر الأربعة الماء والنار والأرض والهواء لما فيها من منافع الخلق، وإن بها قوام الحيوان، وإنما حدثت المجوسية فيهم بعد ذلك في زمان كشتاسب حين دعاه زرداشت فاستجاب له على شرائط يطول شرحها، وإنما غرضنا في هذا الموضع الإبانة عما كانت عليه سحرة بابل. ولما ظهرت الفرس على هذا الإقليم كانت تتدين بقتل السحرة وإبادتها ولم يزل ذلك فيهم ومن دينهم بعد حدوث المجوسية فيهم وقبله إلى أن زال عنهم الملك.
وكانت علوم أهل بابل قبل ظهور الفرس عليهم الحيل والنيرنجيات وأحكام النجوم، وكانوا يعبدون أوثانا قد عملوها على أسماء الكواكب السبعة وجعلوا لكل واحد منها هيكلا فيه صنمه ويتقربون إليها بضروب من الأفعال على حسب اعتقاداتهم من موافقة ذلك للكوكب الذي يطلبون منه بزعمهم فعل خير أو شر، فمن أراد شيئا من الخير والصلاح بزعمه يتقرب إليه بما يوافق المشتري من الدخن والرقى والعقد والنفث عليها، ومن طلب شيئا من الشر والحرب والموت والبوار لغيره تقرب بزعمه إلى زحل بما يوافقه من ذلك. ومن أراد البرق والحرق والطاعون تقرب بزعمه إلى المريخ بما يوافقه من ذلك من ذبح بعض الحيوانات. وجميع تلك الرقى بالنبطية تشتمل على تعظيم تلك الكواكب إلى ما يريدون من خير أو شر ومحبة وبغض فيعطيهم ما شاءوا من ذلك فيزعمون أنهم عند ذلك يفعلون ما شاءوا في غيرهم من غير مماسة ولا ملامسة سوى ما قدموه من القربات للكوكب الذي طلبوا ذلك منه. فمن العامة من يزعم أنه يقلب الإنسان حمارا أو كلبا ثم إذا شاء أعاده، ويركب البيضة والمكنسة والخابية ويطير في الهوا
٢ البيت من الطويل، وهو للبيد في ديوانه ص٥٦، ولسان العرب (سحر)، وتهذيب اللغة ٤/٢٩٢، وديوان الأدب ٢/٣٥٣، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص٥١١، ومقاييس اللغة ٣/١٣٨، ومجمل اللغة ٣/١٢٣، وكتاب العين ٣/١٣٥، والمخصص ١/٢٧..
٣ روي الحديث بلفظ: "قبضه الله بين سحري ونحري"، أخرجه بهذا اللفظ: البخاري في الجنائز باب ٩٦، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٨٤، وأحمد في المسند ٦/١٢١، ٢٠٠..
٤ أخرجه البخاري في الطب باب ٥١، في الترجمة والنكاح باب ٤٧، ومسلم في الجمعة حديث ٤٧، وأبو داود في الأدب باب ٨٦، ٨٧، والترمذي في البر باب ٧٩، والدارمي في الصلاة باب ١٩٩، ومالك في الكلام حديث ٧، وأحمد في المسند ١/٢٦٩، ٢٧٣، ٣٠٣، ٣٠٩، ٣١٣، ٣٢٧، ٣٣٢، ٣٩٧، ٤٥٤، ٢/١٦، ٥٩، ٦٢، ٩٤، ٣/٤٧٠، ٤/٢٦٣.
.
قصة موسى عليه الصلاة والسلام
هو موسى بن عمران بكسر العين وأهل الكتاب يضبطون اسم والده بالميم في آخره ( عمرام ) وبفتح أوله، وجميع الأمم القديمة والحديثة تتصرف في نقل الأسماء من لغات غيرها إلى لغتها. ومعنى كلمة " موسى " المنتاش من الماء أي الذي أنقذ منه، وروى أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال : إنما سمي موسى لأنه ألقي بين ماء وشجر، فالماء بالقبطية " مو " والشجر " سى ". وذلك أن أمه وضعته بعد ولادته في تابوت ( صندوق ) أقفلته إقفالا محكما وألقته في اليم ( بحر النيل ) خوفا من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه إذ كانوا يذبحون ذكور بني إسرائيل عند ولادتهم ويتركون إناثهم – وقالت لأخته قصيه أي تتبعيه لنعلم أين ينتهي ومن يلتقطه، حتى لا يخفى عليها أمره، فما زالت أخته تراقب التابوت على ضفاف اليم حتى رأت آل فرعون ملك مصر يلتقطونه إلى آخر ما قصه الله تعالى من خبره في سورة القصص.
وقد ذكرت قصته في عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة أولها هذه السورة ( الأعراف ) فهي أول السور المكية في ترتيب المصحف التي ذكرت فيها قصته، ومثلها في استقصاء قصته طه والشعراء ويليها سائر الطواسين الثلاثة ( النمل والقصص ) وقد ذكر بعض العبر من قصته في سور أخرى كيونس وهود والمؤمنين، وذكر اسمه في سور كثيرة غيرها بالاختصار ولاسيما المكية وتكرر ذكره في خطاب بني إسرائيل من سورة البقرة المدنية وذكر في غيرها من الطول والمئين والمفصل حتى زاد ذكر اسمه في القرآن على ١٣٠ مرة فلم يذكر فيه نبي ولا ملك كما ذكر اسمه.
وسبب ذلك أن قصته أشبه قصص الرسل عليهم السلام بقصة خاتم الأنبياء محمد صلوا الله وسلامه عليه وعلى آله من حيث إنه أوتي شريعة دينية دنيوية، وكون الله تعالى به أمة عظيمة ذات ملك ومدنية، وسنبين ما فيها وفي غيرها من حكم التكرار واختلاف التعبير في مواضعها إن شاء الله تعالى.
﴿ يريد أن يخرجكم من أرضكم ﴾ أي قد وجه إرادته لسلب ملككم منكم وإخراجكم من أرضكم بسحره بأن يستميل به الشعب المصري فيتبعه فينتزع منكم الملك ويستبد به دونكم، ويلي ذلك إخراج الملك وعظماء رجاله من البلاد لئلا يناوئوه لاستعاذة الملك منه، كما فعل متغلبة الترك في هذه الأيام بعد إسقاط الدولة العثمانية فإنهم أخرجوا جميع أفراد الأسرة السلطانية من البلاد التركية التي بقيت لهم. وفي معنى هذا القول من فرعون ورجال دولته ما حكى الله تعالى عنهم من مراجعتهم لموسى وأخيه في سورة يونس ﴿ قالوا أجئتنا لتلفتنا عمّا وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض ؟ وما نحن لكما بمؤمنين ﴾ [ يونس : ٧٨ ].
وما قال الملأ من قوم فرعون هذا القول إلا تبعا لقوله هو الذي حكاه تعالى عنه في سورة الشعراء ﴿ قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم* يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون ﴾ [ الأعراف : ١٠٩، ١١٠ ] أي رددوا قوله وصار يلقيه بعضهم إلى بعض كدأب الناس في نقل كلام ملوكهم ورؤساءهم وترديده إظهارا للموافقة عليه، وتعميما لتبليغه. وإنما لم يصرحوا بكلمة " بسحره " كما صرح هو لأنهم كانوا دونه خوفا وانزعاجا، وأقل منه حرصا على الطعن في دعوة موسى، ولكن ذكرها السحرة في تناجيهم مع فرعون وهو أجدر بذكرها فحكاها الله تعالى عنهم بقوله من سورة طه :﴿ فتنازعوا أمرهم بينهم وأسرّوا النّجوى * قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى * فأجمعوا كيدكم ثمّ ائتوا صفّا وقد أفلح اليوم من استعلى ﴾ [ طه : ٦٢- ٦٤ ].
والأمر في قول فرعون لهم وقول بعضهم لبعض ﴿ فماذا تأمرون ﴾ ليس هو المقابل للنهي بل هو بمعنى الإدلاء بالرأي في الشورى، قال الزمخشري في الأساس : وتآمر القوم وائتمروا، مثل تشاوروا واشتوروا. ومرني بمعنى أشر عليّ. قال بعض فتاكهم :
ألم تر أني لا أقول لصاحب *** إذا قال مرني : أنت ما شئت فافعل١
ولكنني أفري له فأريحه | ببزلاء تنجيه من الشك فيصل |
إني إذا شغلت قوما فروجهم | رحب المسالك نهاض ببزلاء٢ |
٢ البيت من البسيط، وهو بلا نسبة في لسان العرب (بزل)، وديوان الأدب ٢/١٠، ومقاييس اللغة ١/٢٤٥، وأساس البلاغة (بزل)، وفصل المقال ص١٤٧، وتاج العروس (بزل)..
قصة موسى عليه الصلاة والسلام
هو موسى بن عمران بكسر العين وأهل الكتاب يضبطون اسم والده بالميم في آخره ( عمرام ) وبفتح أوله، وجميع الأمم القديمة والحديثة تتصرف في نقل الأسماء من لغات غيرها إلى لغتها. ومعنى كلمة " موسى " المنتاش من الماء أي الذي أنقذ منه، وروى أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال : إنما سمي موسى لأنه ألقي بين ماء وشجر، فالماء بالقبطية " مو " والشجر " سى ". وذلك أن أمه وضعته بعد ولادته في تابوت ( صندوق ) أقفلته إقفالا محكما وألقته في اليم ( بحر النيل ) خوفا من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه إذ كانوا يذبحون ذكور بني إسرائيل عند ولادتهم ويتركون إناثهم – وقالت لأخته قصيه أي تتبعيه لنعلم أين ينتهي ومن يلتقطه، حتى لا يخفى عليها أمره، فما زالت أخته تراقب التابوت على ضفاف اليم حتى رأت آل فرعون ملك مصر يلتقطونه إلى آخر ما قصه الله تعالى من خبره في سورة القصص.
وقد ذكرت قصته في عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة أولها هذه السورة ( الأعراف ) فهي أول السور المكية في ترتيب المصحف التي ذكرت فيها قصته، ومثلها في استقصاء قصته طه والشعراء ويليها سائر الطواسين الثلاثة ( النمل والقصص ) وقد ذكر بعض العبر من قصته في سور أخرى كيونس وهود والمؤمنين، وذكر اسمه في سور كثيرة غيرها بالاختصار ولاسيما المكية وتكرر ذكره في خطاب بني إسرائيل من سورة البقرة المدنية وذكر في غيرها من الطول والمئين والمفصل حتى زاد ذكر اسمه في القرآن على ١٣٠ مرة فلم يذكر فيه نبي ولا ملك كما ذكر اسمه.
وسبب ذلك أن قصته أشبه قصص الرسل عليهم السلام بقصة خاتم الأنبياء محمد صلوا الله وسلامه عليه وعلى آله من حيث إنه أوتي شريعة دينية دنيوية، وكون الله تعالى به أمة عظيمة ذات ملك ومدنية، وسنبين ما فيها وفي غيرها من حكم التكرار واختلاف التعبير في مواضعها إن شاء الله تعالى.
﴿ قالوا أرجه١وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين ﴾ أي قال الملأ لفرعون حين استشارهم بقوله :" فماذا تأمرون " ؟ : أرجه أي أرجئ وأخر أمره وأمر أخيه ولا تفصل فيه بادي الرأي وأرسل في مدائن ملكك رجالا أو جماعات من الشرطة والجند حاشرين أي جامعين سائقين للسحرة منها –فالحشر الجمع والسوق- وإنما يوجد السحرة في المدائن الجامعة الآلهة بدور العلم والصناعة، فإن ترسلهم ﴿ يأتوك بكل ساحر عليم ﴾.
قصة موسى عليه الصلاة والسلام
هو موسى بن عمران بكسر العين وأهل الكتاب يضبطون اسم والده بالميم في آخره ( عمرام ) وبفتح أوله، وجميع الأمم القديمة والحديثة تتصرف في نقل الأسماء من لغات غيرها إلى لغتها. ومعنى كلمة " موسى " المنتاش من الماء أي الذي أنقذ منه، وروى أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال : إنما سمي موسى لأنه ألقي بين ماء وشجر، فالماء بالقبطية " مو " والشجر " سى ". وذلك أن أمه وضعته بعد ولادته في تابوت ( صندوق ) أقفلته إقفالا محكما وألقته في اليم ( بحر النيل ) خوفا من فرعون وحكومته أن يعلموا به فيقتلوه إذ كانوا يذبحون ذكور بني إسرائيل عند ولادتهم ويتركون إناثهم – وقالت لأخته قصيه أي تتبعيه لنعلم أين ينتهي ومن يلتقطه، حتى لا يخفى عليها أمره، فما زالت أخته تراقب التابوت على ضفاف اليم حتى رأت آل فرعون ملك مصر يلتقطونه إلى آخر ما قصه الله تعالى من خبره في سورة القصص.
وقد ذكرت قصته في عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة أولها هذه السورة ( الأعراف ) فهي أول السور المكية في ترتيب المصحف التي ذكرت فيها قصته، ومثلها في استقصاء قصته طه والشعراء ويليها سائر الطواسين الثلاثة ( النمل والقصص ) وقد ذكر بعض العبر من قصته في سور أخرى كيونس وهود والمؤمنين، وذكر اسمه في سور كثيرة غيرها بالاختصار ولاسيما المكية وتكرر ذكره في خطاب بني إسرائيل من سورة البقرة المدنية وذكر في غيرها من الطول والمئين والمفصل حتى زاد ذكر اسمه في القرآن على ١٣٠ مرة فلم يذكر فيه نبي ولا ملك كما ذكر اسمه.
وسبب ذلك أن قصته أشبه قصص الرسل عليهم السلام بقصة خاتم الأنبياء محمد صلوا الله وسلامه عليه وعلى آله من حيث إنه أوتي شريعة دينية دنيوية، وكون الله تعالى به أمة عظيمة ذات ملك ومدنية، وسنبين ما فيها وفي غيرها من حكم التكرار واختلاف التعبير في مواضعها إن شاء الله تعالى.
﴿ يأتوك بكل ساحر عليم ﴾. بفنون السحر ماهر فيها وهم يكشفون لك كنه ما جاء به موسى فلا يفتتن به أحد.
قرأ الجمهور ( ساحر ) بصيغة اسم الفاعل، وحمزة والكسائي هنا وفي يونس ( سحار ) بصيغة المبالغة له وجاء ذلك بالإمالة وعدمها –وبها قرأ الجميع في الشعراء.
ورسمهما في المصحف الإمام واحد هكذا ( سحر ) ليحتمل القراءتين ووجههما أن فرعون لما طلب كل ساحر عليم في مدائن البلاد خص بالذكر المهرة المتمرنين في السحر المكثرين منه-أو أن بعض ملئه طلب هؤلاء فقط لأنهم أجدر بإتيان موسى بمثل ما جاء به من الأمر العظيم كما حكى الله تعالى عن فرعون في سورة طه :﴿ قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله ﴾ [ طه : ٥٧، ٥٨ ] وطلب آخرون حشر جميع السحرة الراسخين في العلم لعله يوجد عند بعض المقتصدين أو المقلين من السحر ما لا يوجد عند المكثرين منه –فبينت القراءتان كل ما قيل مع الإيجاز البليغ.
﴿ وجاء السّحرة فرعون قالوا إنّ لنا لأجرا إن كنّا نحن الغالبين ﴾ أي وجاء فرعون السحرة الذين حشرهم له أعوانه وشرطته ولم يذكر الكتاب الحكيم ولا الرسول المعصوم عددهم إذ لا فائدة منه وكل ما روي فيهم من أنهم عشرات الألوف فهو من الإسرائيليات التي لا أصل لها عندنا ولا في التوراة التي بين أيديهم. فلما جاءوا قالوا لفرعون إن لنا لأجرا وجزاء عظيما يكافئ ما يطلب منا من العمل العظيم إن كنا نحن الغالبين لموسى. ذكر قولهم هنا بأسلوب الاستئناف البياني كأنه جواب سائل : ماذا قالوا ؟ وجاء في سورة الشعراء بصيغة الشرط والجزاء ﴿ فلما جاء السحرة فرعون قالوا ﴾ [ الأعراف : ١١٣ ] وهو تفنن في العبارة. قرأ ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم ﴿ إن لنا لأجرا ﴾ بهمزة واحدة قيل إنه على الإخبار الدال على إيجاب الأجر وكونه لا بد منه. وقيل إنه على حذف همزة الاستفهام الذي يكثر في كلام العرب، وهو المتبادر والمختار ليوافق قراءة ابن عامر بإثباتها هنا وهو ما اتفقوا عليه في سورة الشعراء.
وفي سورة الشعراء زيادة " إذن " أي وأنكم في هذه الحالة وهي كونكم أنتم الغالبين دون موسى لمن المقربين وحذفها من هذه السورة دليل على أنه قالها مرة دون أخرى فأفاد أنه كرر لهم الإجابة والوعد وذلك تأكيد آخر.
وذهب الزمخشري ومن تبعه إلى أن هذا التعبير عن إلقائهم يدل على رغبتهم في البدء بما ينبئ عنه تغييرهم للنظم بتعريف الخبر وتوسيط ضمير الفصل " نحن " وتوكيد الضمير المستتر به. وفي سورة طه ﴿ إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى ﴾ [ طه : ٦٥ ] وفيه من التوكيد ما يدل على الرغبة في الأولية التي صرحوا بذكرها هنا. فلا فرق بين التعبيرين في المعنى فلا بأس حينئذ بجعل الاختلاف اللفظي في الحكاية عنهم لمراعاة الفواصل، وقد اختلف فيه على أقوال ثالثها وهو الصحيح المعتمد أنه جائز وواقع فيما لا يخل بأداء المعنى، ولا ينافي البلاغة العليا، فكيف إذا كان مزيد تفنن قد يصل إلى حد الإعجاز فيها، وذلك أن تأدية دقائق المعاني مكررة بألفاظ مختلفة في منتهى العسر وكثيرا ما يكون متعذرا، فلو لم يؤكد الضمير المتصل هاهنا بالضمير المنفصل " نحن " لما أفاد معنى الرغبة في أولية الإلقاء المصرح به في سورة طه، وبذلك علم أن مراعاة الفاصلتين في الموضعين هو الذي وحد بينهما بجعل كل منهما دالا على رغبة السحرة في التقدم والأولية، فأي خطيب أو كاتب يقدر على إفادة هذا المعنى بأسلوبين مختلفين في اللفظ من غير تصريح به، وأي مترجم تركي أو إفرنجي يفقه هذا ويؤديه في ترجمته للقرآن ؟
وقد قيل كيف أمرهم موسى عليه السلام بإلقاء ما عندهم وهو من السحر المنكر ؟ وأجيب بأنه لم يأمر بفعل السحر ابتداء وإنما أمر بأن يتقدموه فيما جاءوا لأجله ولا بد لهم منه، وأراد التوسل به إلى إظهار بطلان السحر لا إثباته، وإلى بناء ثبوت الحق على بطلانه، ولم يكن ثم وسيلة لإبطاله إلا بذلك، وقد صرح به فيما حكاه تعالى عنه في سورة يونس ﴿ قال موسى ما جئتم به السّحر إنّ اللّه سيبطله إنّ اللّه لا يصلح عمل المفسدين * ويحقّ اللّه الحقّ بكلماته ولو كره المجرمون ﴾ [ يونس : ٨١، ٨٢ ] ومثله توسل إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا وآلهما إلى إظهار حقيقة التوحيد لعبدة الكواكب من قومه لما رأى كلا من الكواكب والقمر والشمس بازغا فقال :" هذا ربي " ثم تعقبه بما يدل على كونه لا يصح أن يكون ربا وإسماعه إياهم بعد إبطال ربوبيتها كلها حقيقة التوحيد بقوله :﴿ إنّي وجّهت وجهي للّذي فطر السّماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ﴾ [ الأنعام : ٧٩ ].
﴿ فلمّا ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ﴾ أي فلما ألقوا ما ألقوا من حبالهم وعصيهم كما في سورتي الشعراء وطه سحروا أعين الناس الحاضرين ومنهم موسى عليه السلام ففي سورة طه ﴿ فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ﴾ [ طه : ٦٦ ] واسترهبوهم أي أوقعوا في قلوبهم الرهب والخوف كما قال تعالى :﴿ فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ﴾ [ طه : ٦٧، ٦٨ ] وأصل الاسترهاب محاولة الإرهاب وطلب وقوعه بأسبابه، وقد قصدوا ذلك فحصل. وجاءوا بسحر عظيم أي مظهره كبير، وتأثيره في أعين الناس عظيم، قال الحافظ ابن كثير : أي خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة في الخارج ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال. ثم ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا " قال " فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
ثم ذكر عن ابن إسحاق أن السحرة كانوا خمسة عشر ألف ساحر وأن الحيات التي أظهروها بخيال سحرهم كانت كأمثال الجبال قد ملأت الوادي – وعن السدي أن السحرة كانوا بضعا وثلاثين ألفا، وعن القاسم بن أبي بزة ٧٠ ألفا. وذكر غيره ما هو أعظم من ذلك من المبالغة والتهويل ولا يصح شيء من ذلك في خبر مرفوع وإنما هي من الإسرائيليات الباطلة المروية عن اليهود كما تقدم، على أنه ليس في توراتهم منها شيء وإنما جاء في الفصل السابع من سفر الخروج منها أن فرعون دعا الحكماء والسحرة " ففعل عرّافو مصر أيضا بسحرهم كذلك : طرحوا كل واحد عصاه فصارت العصي ثعابين ولكن عصا هارون ابتلعت عصيهم ".
وقد ذكر بعض المفسرين سر صناعتهم في ذلك بما أراه استنباطا علميا لا نقلا تاريخيا. قال الإمام الجصاص في أحكام القرآن : قال الله تعالى :﴿ سحروا أعين الناس ﴾ يعني موهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى، وقال :﴿ يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ﴾ فأخبروا أن ما ظنوه سعيا منها لم يكن سعيا وإنما كان تخيلا. وقد قيل إنها كانت عصيا مجوفة قد ملئت زئبقا وكذلك الحبال كانت معمولة من أدم ( أي جلد ) محشوة زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا وجعلوا أزواجا ملؤها نارا فلما طرحت عليه وحمي الزئبق حركها لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فأخبر الله أن ذلك كان مموها على غير حقيقته، والعرب تقول لضرب من الحلي مسحور أي مموه على من رآه مسحور به اه. فعلى هذا يكون سحرهم لأعين الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية إذا صح خبرها، ويحتمل أن يكون بحيلة أخرى كإطلاق أبخرة أثرت في الأعين فجعلتها تبصر ذلك أو بجعل العصي والحبال على صورة الحيات وتحريكها بمحركات خفية سريعة لا تدركها أبصار الناظرين، وكانت هذه الأعمال من الصناعات وتسمى السيمياء.
﴿ وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون ﴾ أي أوحينا إليه بأن ألق عصاك فقد جاء وقتها فألقاها كما أمر فإذا هي تلقف ما يأتون به من الإفك. ذكر هنا وفي سورة طه أمره تعالى لموسى بالإلقاء وفي سورة الشعراء أنه فعل الإلقاء الذي أمر به ولم يذكر الأمر فحذف من كل سورة ما أثبت مقابله في الأخرى وهو من قبيل الاحتباك في السور والإيجاز المؤدي للمعاني المتعددة بأخصر عبارة. قرأ حفص تلقف بالتخفيف من الثلاثي والباقون بالتشديد وأصله تتلقف وهو يدل على لقف شيء بعد شيء.
ما معنى لقف العصا للإفك ؟ الإفك بالكسر اسم لما يؤفك أي يصرف ويحول عن شيء إلى غيره ويستعمل في التلبيس والشر وقلب الحقائق، وبالفتح مصدر أفك " بالفتح كجلس وضرب " ويقال إفك بالكسر " كتعب " قال في الأساس : أفكه عن رأيه صرفه، وفلان مأفوك عن الخير. وقال الراغب الإفك كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب مؤتفكة قال تعالى :﴿ وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة ﴾ [ الحاقة : ٩ ] وقال تعالى :﴿ والمؤتفكة أهوى ﴾ [ النجم : ٥٣ ] وقوله تعالى :﴿ قاتلهم الله أنى يؤفكون ﴾ [ التوبة : ٣٠ ] أي يصرفون عن الحق في الاعتقاد إلى الباطل، وعن الصدق في المقال إلى الكذب، وعن الجميل في الفعل إلى القبيح. ومنه قوله تعالى :﴿ يؤفك عنه من أفك ﴾ [ الذاريات : ٩ ] ﴿ أنى يؤفكون ﴾ [ التوبة : ٣٠ ] وقوله :﴿ أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا ﴾ [ الأحقاف : ٢٢ ] فاستعملوا الإفك في ذلك لما اعتقدوا أن ذلك صرف عن الحق إلى الباطل – فاستعمل ذلك في الكذب لما قلنا اه. ويعلم منه ومن سائر استعمال المادة في القرآن وغيره أن الإفك يكون بالقول ومنه الكذب وما يؤدي المراد من الكذب كالإيهام والتدليس والتجوزات والكنايات والمعاريض التي توهم السامع أو القارئ لها ما يخالف الحق، وقد يكون بالفعل كعمل سحرة فرعون.
وأما لقف الشيء وتلقفه بالتشديد فهو تناوله بحذق وسرعة كما قال الشاعر :
كرة حذفت بصوالجة *** فتلقفها رجلٌ رجلُ١
قال الراغب لقفت الشيء ألقفه " أي من باب علم " وتلقفته تناولته بالحذق سواء في ذلك تناوله بالفم أو اليد قال :﴿ فإذا هي تلقف ما يأفكون ﴾ اه ومن مجازه تلقف العلم أي تلقيه بسرعة وحذق. وما في قوله تعالى " ما يأفكون " إما موصولة وإما مصدرية وعلى الأول يتخرج ما نقل عن ابن عباس وقتادة والحسن والسدي من كون عصا موسى عليه السلام التقمت حبال السحرة وعصيهم واسترطتها أي ابتلعتها فهو مما يحتمله اللفظ، والراجح أنه مأخوذ عن اليهود لما علمت آنفا من نص سفر الخروج فيه. وينافيه كونها مصدرية إذ المعنى عليه أنها تناولت عملهم هذا فأتت عليه بما أظهرت من بطلانه وحقيقة الأمر في نفسه بسرعة، فإن كان إفكهم عبارة عن تأثير أحدثوه في الأعين فلقفها إياه عبارة عن إزالته وإبطاله ورؤية الحبال والعصي على حقيقتها –وإن كان تحريكا لها بمحركات خفية سريعة فكذلك –وإن كان قد حصل بجعلها مجوفة محشوة بالزئبق وتحريكه إياها بفعل الحرارة سواء كانت نارا أعدت لها أو الشمس حين أصابتها فلقفها لذلك يجوز أن يكون بعمل من الحية أخرجت به الزئبق من الحبال والعصي فانكشفت به الحيلة.
قال الشيخ محيي الدين بن العربي ما معناه أو محصله على ما نتذكر إن إبطالها لسحر السحرة أنه ترتب على إلقائها أن رأى الناس تلك الحبال والعصي على أصلها ولو ابتلعتها لبقي الأمر ملتبسا على الناس إذ قصاراه أن كلا من السحرة وموسى قد أظهر أمرا غريبا ولكن أحد الغريبين كان أقوى من الآخر فأخفاه على وجه غير معلوم ولا مفهوم وهذا لا ينافي كونهما من جنس واحد. ولكن زوال غشاوة السحر وتخييله حتى رأى الناس أن الحبال والعصي التي ألقاها السحرة ليست إلا حبالا وعصيا لا تسعى ولا تتحرك، وأن عصا موسى لم تزل حية تسعى- هو الذي ماز الحق من الباطل، وعرفت به الآية الإلهية، والحيلة الصناعية. وكل ما في الأمر أن عصا موسى أزالت هذا التخييل بسرعة وهو معنى اللقف ولكن لا نعلم بم كان لها هذا التأثير لأنها آية إلهية حقيقة لا أمر صناعي حتى نعرف صفته وحقيقته.
فإن قيل : ولم قال هنا ( وألقي ) ولم يقل " فألقي " ليدل على التعقيب أيضا فالجواب : أن ألقي هنا عطف على قوله تعالى :﴿ فغلبوا ﴾ فهو يشاركه بما تفيده فاؤه من معنى التعقيب وكونه مثله أثرا لبطلان سحر السحرة ووقوع الحق بثبوت آية موسى عليه السلام، ولو عطف عليه بالفاء لدل على كون السجود أثرا للغلب والصغار لا لظهور الحق وبطلان كيد السحر، وحينئذ يكون منافيا لما في سورتي طه والشعراء.
فإن قيل : ولم لم يذكر في سورة طه إيمانهم برب العالمين ؟ ولم أخر فيها اسم موسى وقدم اسم هارون ؟ فالجواب : عنهما أن سبب ذلك مراعاة فواصل السور بما لا يعارض غيره مما ورد في غيرها، ولاسيما وقد نزل قبلها، فالإيمان برب هارون وموسى هو الإيمان برب العالمين لأنهما قالا لفرعون ﴿ إنا رسول رب العالمين ﴾ [ الشعراء : ١٦ ] وقد بينا مرارا أن القرآن ليس كتاب تاريخ تدون فيه القصص بحكايتها كلها كما وقعت ويذكر كل ما قيل فيها بنصه أو بترجمته الحرفية –وإنما هو كتاب هداية وموعظة، فهو يذكر من القصص ما يثبت به الإيمان، ويتزكى الوجدان، وتحصل العبرة، وتؤثر الموعظة، ولا بد في ذلك من تكرار المعاني مع التفنن في الأسلوب والتنويع في نظم الكلام وفواصل الآي، وتوزيع الفوائد وتفريقها، بحيث يوجد في كل قصة ما لا يوجد في غيرها.
فإن قيل : ولم لم يذكر في سورة طه إيمانهم برب العالمين ؟ ولم أخر فيها اسم موسى وقدم اسم هارون ؟ فالجواب : عنهما أن سبب ذلك مراعاة فواصل السور بما لا يعارض غيره مما ورد في غيرها، ولاسيما وقد نزل قبلها، فالإيمان برب هارون وموسى هو الإيمان برب العالمين لأنهما قالا لفرعون ﴿ إنا رسول رب العالمين ﴾ [ الشعراء : ١٦ ] وقد بينا مرارا أن القرآن ليس كتاب تاريخ تدون فيه القصص بحكايتها كلها كما وقعت ويذكر كل ما قيل فيها بنصه أو بترجمته الحرفية –وإنما هو كتاب هداية وموعظة، فهو يذكر من القصص ما يثبت به الإيمان، ويتزكى الوجدان، وتحصل العبرة، وتؤثر الموعظة، ولا بد في ذلك من تكرار المعاني مع التفنن في الأسلوب والتنويع في نظم الكلام وفواصل الآي، وتوزيع الفوائد وتفريقها، بحيث يوجد في كل قصة ما لا يوجد في غيرها.
بعد ما كان من إيمان السحرة كان أول ما يخطر في البال، ويتوجه إليه السؤال، ما فعل فرعون وما قال ؟ وهاك البيان :
﴿ قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم ﴾ قرأ حفص آمنتم بصيغة الخبر ويحتمل فيه تقدير همزة الاستفهام فهو قياسي يعتمد في فهمه على صفة الأداء وجرس الصوت فيه. وبذلك يوافق سائر القراء في المعنى فهو عندهم استفهام إنكاري توبيخي أثبت همزته حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وروي عن يعقوب، وروي في إثباتها تحقيق الهمزتين بالنطق بهما وتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين، وقرئ بذلك في أمثالها. والمعنى أآمنتم بموسى أو برب موسى وهارون قبل أن آذن لكم وآمركم بذلك ؟ وفي سورة طه ﴿ قال آمنتم له ﴾ [ طه : ٧١ ] والضمير فيه لموسى قطعا لأن تعدية الإيمان باللام تضمين يفيد معنى الاتباع والخضوع. المعنى : وأآمنتم به متبعين له إذعانا لرسالته قبل أن آذن لكم ؟ ولذلك يتعين استعمال هذا التضمين في الإيمان بالرسل والاتباع لهم كقوله تعالى حكاية عن فرعون ﴿ أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون ﴾ [ المؤمنون : ٤٧ ] وقد اقتبس المعري هذا الاستدلال في قوله :
أعبّاد المسيح يخاف صحبي | ونحن عبيد من خلق المسيحا |
﴿ فسوف تعلمون ﴾ ما يحل بكم من العذاب، جزاء على هذا المكر والخداع، وبين ذلك بقوله :﴿ لأقطّعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلّبنّكم أجمعين ﴾.
مباحث لغوية بيانية فيما اختلف فيه التعبير من قصة موسى
في السور المتعددة
ومن مباحث المقابلة والتنظير بين سياق هذه السورة في القصة وسياق غيرها أنه زاد في سورة الشعراء اللام في حرف التسويف فقال :﴿ فلسوف تعلمون ﴾ [ الشعراء : ٤٩ ] ولم يذكر هذا التسويف في سورة طه. قال الإسكافي في هذه اللام إنها تدل على تقريب ما خوفهم به حتى كأنه حاضر موجود قال :" واللام للحال والجمع بينها وبين سوف التي للاستقبال إنما هو تحقيق الفعل وإدناؤه من الوقوع كما قال تعالى :﴿ وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة ﴾ [ النحل : ١٢٤ ] فجمع بين اللام وبين يوم القيامة على ما قاله تعالى :﴿ وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب ﴾ [ النحل : ٧٧ ] وقد بينا أن سورة الشعراء أكثر اقتصاصا لأحوال موسى عليه السلام في بعثه وابتداء أمره وانتهاء حاله مع عدوه فجمعت لفظ الوعيد المبهم مع اللفظ المقرب له المحقق وقوعه – إلى اللفظ المفصح بمعناه، ثم وقع الاقتصار في السورة التي لم يقصد بها من اقتصاص الحال ما ذكر في سورة الشعراء على نقص ما في موضع البسط والشرح وهو التعريض بالوعيد مع الإفصاح به.
قال :" فأما في سورة طه فإنه اقتصر فيها على التصريح بما أوعدهم به وترك " فسوف تعلمون " وقال :﴿ فلأقطّعنّ أيديكم... ﴾ [ طه : ٧١ ] إلا أنه جاء بدل هذه الكلمة ما يعادلها، ويقارب ما جاء في سورة الشعراء التي هي مثلها في اقتصاص أحواله من ابتدائها إلى حين انتهائها، وهو قوله بعده ﴿ ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى ﴾ [ طه : ٧١ ] فاللام والنون في " لتعلمن " لإدناء الفعل وتوكيده كما أتى باللام في قوله :﴿ فلسوف تعلمون ﴾ لإدناء الفعل وتقريبه، فقد تجاوز ما في السورتين المقصود فيهما إلى اقتصاص الحالين من إعلاء الحق وإزهاق الباطل ) اه.
أقول : من المعلوم أن هذه اللام لام الابتداء وأن فائدتها الأولى المتفق عليها توكيد مضمون الجملة وقد سكت الإسكافي عن التعليل بها على ظهورها وعدم خفاء شيء من شواهدها واقتصر على توجيه ما ذكروا لهذه اللام من معنى الحال إذ قالوا إن الفائدة الثانية لها تخليص معنى المضارع للحال، نقله ابن هشام في المغني وقال إن ابن مالك اعترضه بقوله تعالى :﴿ وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة ﴾ [ النحل : ١٢٤ ] وبقول يعقوب عليه السلام فيما حكاه الله عنه ﴿ إني ليحزنني أن تذهبوا به ﴾ [ يوسف : ١٣ ] فإن الذهاب كان مستقبلا فلو كان الحزن حالا لزم تقدم الفعل في الوجود على فاعله مع أنه أثره قال : والجواب عن الأول أن الحكم في ذلك اليوم واقع لا محالة فنزل منزلة الحاضر المشاهد – وأن التقدير في الثاني قصد أن تذهبوا به والقصد حال اه.
وأنت ترى أن تعبير الإسكافي في هذه الفائدة أوسع من التعبير الذي ذكره ابن هشام وغيره وأبعد عن الإشكال فقد قال هو إن معنى الحال فيها عبارة عن تحقيق الفعل وإدنائه من الوقوع. وهو يصدق بجعل المضارع للحال حقيقة أو بجعل معنى الاستقبال فيه قريبا جدا حتى كأنه حال، ولا يرد على هذا ما يرد على قولهم : تخليص معنى المضارع للحال. وجوابهم عن الآيتين لا يظهر في تعبيرهم كما يظهر في تعبيره هو بغير تكلف ما.
ثم إنه لابد في صدق التعبير بقوله :﴿ فلسوف ﴾ من كون فرعون ذكر في وعيدهم المستقبل أنه قريب وأنه قطعي لا مردّ له، سواء قاله على سبيل الإيضاح أو على سبيل الاستدراك. ورب جملة أو جمل طويلة تؤدى في القرآن بجملة قصيرة أو كلمة أو حرف في كلمة كاللام هنا، وهذا من دقائق إيجاز القرآن وهو ضرب من ضروب إعجازه اللفظية في غير الأسلوب والنظم، وكلها دون إعجازه في بيان حقائق الشرع والعلم، فكيف يمكن لبشر أن يؤدي هذه الدقائق بالترجمة ؟ ومثله في هذا ما سبق وما يأتي من تتمة هذه المباحث.
( ومنها ) – أي مباحث المقابلة والتنظير بين السور – أنه قال هنا ﴿ ثم لأصلّبنّكم ﴾ وقال في طه والشعراء ﴿ ولأصلّبنّكم ﴾ [ طه : ٧١ ] ولا تعارض بين العاطفين فإن العطف بالواو مطلق يصدق بالتعقيب الذي تدل عليه الفاء والتراخي الذي تدل عليه ثم وليس مقيدا بإحداهما، وغايته أنه أفاد بثم معنى خاصا وهو ما تدل عليه من التراخي في الزمن أو الرتبة وكلاهما جائز هنا فإنه بعد أن أفاد بقوله :﴿ فلسوف ﴾ وقوله :﴿ فلأقطّعنّ ﴾ [ طه : ٧١ ] أن الوعيد سينفذ حالا في المجلس بقطع الأيدي والأرجل من خلاف –أفاد بقوله :﴿ ثم لأصلّبنّكم ﴾ أن التصليب نوع آخر ومرتبة ثانية من التنكيل بهم، أو سيتأخر عن التقطيع في الزمن بأن يظلوا بعده مطروحين على الأرض إهانة لهم ثم يعلقون على جذوع النخل، ويجوز الجمع بينهما، وكون التصليب في جذوع النخل فائدة أخرى زادها في سورة طه وتخصيصها بها مناسب لنظمها ولعلك تدرك ذلك بالذوق كما تدرك به التفرقة بين بحور الشعر.
أوردنا هذا البحث الفني وأمثاله من هذه القصة على اجتنابنا للاصطلاحات الفنية والعلمية في الغالب لثلاثة أسباب :
١- إن هذه المسائل مما يقع فيه الاشتباه ولم نر لها بيانا في التفاسير المتداولة حتى التي تمتاز بالعناية بمثلها.
٢- بيان ما فيها من الدقة في تحديد المعاني، وغرائب الإيجاز، والاتفاق في مظنة الاختلاف، وهو المعهود في كل موضوع طويل يعبر عنه بعبارات مختلفة ﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾ إذ ليس في استطاعة بشر أن يحكي قصة كقصة موسى بعبارات مختلفة بمثل هذا التحديد للمعاني مع سلامتها كلها من التعارض والتناقض وغيرها من أنواع الاختلاف وإن كتب ذلك كتابة وقابل بعضه ببعض منقحا له ومصححا، فكيف إذا كان يرتجل الكلام ارتجالا في أوقات مختلفة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كالمرتجل له، وإنما كان يلقاه فيؤديه كما تلقاه فيعجل به خائفا أن ينسى منه شيئا حتى لقن فيه نبأ عصمته من نسيان شيء منه، وأنه تعالى كفل حفظه ﴿ سنقرئك فلا تنسى ﴾ [ الأعلى : ٦ ] ﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه ﴾ [ القيامة : ١٦، ١٧ ] ﴿ ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ﴾ [ طه : ١١٤ ] وتلك ضروب من إعجازه اللفظي، ولضروب إعجازه المعنوي أكبر.
٣- إثبات عجز البشر عن ترجمة القرآن بلغة أخرى تؤدي معانيه كلها، وإذا كان من المتعذر أداؤها بمثلها من لغتها، فترجمتها بلغة أخرى أولى.
وقد تصدى بعض المغرورين في هذه الأيام لترجمته باللغة الفقيرة الملفقة من عدة لغات لأجل أن يستعين بهذه الترجمة الملاحدة من زعماء الترك على ما يبتغون من سل الشعب التركي من الإسلام بأن يحمله على الاستغناء بهذه الترجمة عن كتاب الله المنزل من عند الله تعالى :﴿ بلسان عربي مبين ﴾ كما ثبت في عدة آيات، فإن انخدع هذا الشعب المسلم بهذا سهل على هؤلاء الملاحدة أن يحولوا بينه وبين السنة النبوية العربية أيضا لأنها في المرتبة الثانية، ثم أن يحولوا بينه وبين آثار الصحابة والتابعين فإنها في المرتبة الثالثة –ثم أن يحولوا بينه وبين ما كتبه أئمة العلماء في التفسير وشرح الحديث وما استنبط منهما في أمور الدين من العقائد والآداب وأحكام العبادات والمعاملات، وبعد هذا يتحكمون في تفسير هذه الترجمة له بما شاءوا، ويوردون الشبهات على الإسلام المشوّه المأخوذ من ترجمتهم القابلة لذلك –وحينئذ يتم لهم ما يريدون من جعل الترك أمة لا دينية. ولكن لن يتم لهم ذلك إن شاء الله تعالى فالشعب التركي راسخ في الإسلام، ومتى عرف كيد هؤلاء الملاحدة المضلين فإنه ينبذهم نبذ النواة.
وههنا يرد سؤال : ماذا كان من أمر السحرة عندما سمعوا هذا التهديد والوعيد ؟ وبم أجابوا ذلك الجبار العتيد ؟ وجوابه هنا ﴿ قالوا إنّا إلى ربنا منقلبون ﴾ يجوز أن يكونوا قد عنوا بقولهم هذا أنفسهم وحدها وأرادوا أنهم لا يبالون ما يكون من قضائه فيهم وقتله لهم لأنهم راجعون إلى ربهم، راجون مغفرته ورحمته بهم، وحينئذ يكون تعجيل قتلهم سببا لقرب لقائه، والتمتع بحسن جزائه. ويجوز أن يكونوا قد عنوا أنفسهم وفرعون جميعا وأرادوا أننا وإياك سننقلب إلى ربنا، فلئن قتلتنا فما أنت بخالد بعدنا، وسيحكم عز وجل بعدله بينك وبيننا، وفيه تعريض بكذبه في دعوى الربوبية، وتصريح بإيثار ما عند الله تعالى على ما عنده من الشهوات الدنيوية، وفي سورة الشعراء ﴿ قالوا لا ضير إنّا إلى ربّنا منقلبون * إنّا نطمع أن يغفر لنا ربّنا خطايانا أن كنّا أوّل المؤمنين ﴾ [ الشعراء : ٥٠، ٥١ ] وهو يؤيد المعنى الأول ولا ينافي الثاني لأنه يشمل الأول.
وما ذكره السحرة من نقم فرعون منهم كان بالقول وهو الاستنكار التوبيخي لإيمانهم والتهمة فيه والوعيد عليه. والظاهر أنه نفذ الوعيد بالانتقام بالفعل واستنبط بعض المفسرين من قوله تعالى لموسى وهارون ﴿ أنتما ومن اتبعكما الغالبون ﴾ [ القصص : ٣٥ ] أن فرعون لم يقدر على تنفيذ الوعيد فيهم. وأجيب عن هذا بأن المراد الغلبة بالحجة والبرهان وفي عاقبة الأمر ونهايته وإلا لم يقتل أحد من أتباع الرسل عليهم السلام، وهو صريح قوله تعالى في أول هذه القصة الذي ذكرنا أنه بيان لنتيجتها ووجه العبرة فيها ﴿ فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ [ الأعراف : ١٠٣ ] يعني فرعون وملأه، ويؤيده ما ورد في معناه من الآيات الكثيرة كقوله تعالى حكاية عن شعيب في قصته التي مرت في هذه السورة أيضا ﴿ وانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ [ الأعراف : ١٠٣ ] وقوله قبله في قصة لوط منها ﴿ فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ﴾ [ الأعراف : ٨٤ ] وقوله تعالى في مكذبي الرسل عامة بعد ذكر تكذيب قوم خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم ﴿ كذلك كذّب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ﴾ [ يونس : ٣٩ ] ويجوز أن يراد بمن اتبع موسى وهارون قومهما خاصة وهم الذين بشرهم موسى بأن العاقبة لهم بعد وعيد فرعون لهم عقب خبر السحرة وهو ما تراه في الآية الثانية بعد هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها. وهذه العاقبة قد بينها الله تعالى بقوله :﴿ فأخذناه ﴾ – يعني فرعون – ﴿ وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ﴾ [ القصص : ٤٠ ].
وقد ختم تعالى ما قصه هنا من كلام السحرة بهذا الدعاء فنذكره تالين داعين ﴿ ربّنا أفرغ علينا صبرا وتوفّنا مسلمين ﴾ أي ربنا هب لنا صبرا واسعا تفيضه وتفرغه علينا إفراغا بتثبيتك إيانا على الإيمان وتأييدنا بروحك فيه كما يفرغ الماء من القرب، حتى لا يبقى في قلوبنا شيئا من خوف غيرك، ولا من الرجاء فيما سوى فضلك ونوالك. وتوفنا إليك حال كوننا مسلمين لك مذعنين لأمرك ونهيك مستسلمين لقضائك، غير مفتونين بتهديد فرعون، وغير مطيعين له في قول ولا فعل. جمعوا بدعائهم هذا بين كمال الإيمان والإسلام.
يدل على ما قررناه من المبالغة في طلب كمال الصبر –تنكيره والتعبير عن إيتائه بالإفراغ وهو صب الماء الكثير من الدلو ونحوه وأما تصويرنا لحصول ذلك بقوة الإيمان فمأخذه من العقل والتجارب أن الصبر من صفات النفس وهو عبارة عن قوة فيها على احتمال الآلام والمكاره بغير تبرم ولا حرج يحملها على ما لا ينبغي من ترك الحق أو اجتراح الباطل، ولا شيء كالإيمان بالله والخوف منه والرجاء فيه يقوي هذه الصفة في النفس، ومأخذه من النقل آيات كقوله تعالى في بيان المؤمنين الذين عملوا الصالحات فوجبت لهم الجنة ﴿ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ﴾ [ النحل : ٤٢ ] وقوله فيهم ﴿ وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ﴾ [ العصر : ٣ ] ومما يناسب المقام قوله :﴿ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ﴾ [ آل عمران : ١٧٥ ].
ولدينا من نقول التاريخ القديم والحديث ما يؤيد ذلك وقد صرح الذين كتبوا أخبار الحروب الأخيرة بعللها وفلسفتها أن المؤمنين بالله وباليوم الآخر من جميع الملل أعظم شجاعة وأشد صبرا على مشاق الحرب من غيرهم، ولذلك يحرص أوسع الناس علما بسنن الخلق، وأشدهم عناية بفنون الحرب، - كالشعب الألماني – بالمحافظة على الدين في جيشهم. وللبرنس بسمارك مؤسس وحدتهم ووزيرهم الأعظم بل أكبر ساسة أوروبة في عصره كلمة في هذا المعنى أثبتناها في المجلد الأول من المنار من ترجمة الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى عن كتاب ( وقائع بسمارك ومذكراته ) التي نشرها كاتم سره مسيو بوش بعد موته نكتفي منه هنا بقوله :" جلس البرنس بسمارك على مائدة الطعام فرأى بقعة من الدهن على غطاء المائدة فقال لأصحابه : كما تنتشر هذه البقعة في النسيج شيئا فشيئا كذلك ينفذ الشعور باستحسان الموت في سبيل الدفاع عن الوطن في أعماق قلوب الشعب، ولو لم يكن هنالك أمل في الجزاء والمكافأة ( أي في الدنيا ) ذلك لما استكنّ في الضمائر من بقايا الإيمان –ذلك لما يشعر به كل أحد من أن واحدا مهيمنا يراه وهو يجالد ويموت وأن لم يكن قائده يراه.
فقال بعض المرتابين أتظن سعادتكم أن العساكر يلاحظون في أعمالهم تلك الملاحظة ؟ فأجابه البرنس : ليس هذا من قبيل الملاحظات، وإنما هو شعور ووجدان، هو بوادر تسبق الفكر، هو ميل في النفس وهوى فيها كأنه غريزة لها، ولو لاحظوا لفقدوا ذلك الميل وأضلوا ذلك الوجدان، هل تعلمون أنني لا أفهم كيف يعيش قوم وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من الواجبات، أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليه – إن لم يكن لهم إيمان بدين جاء به وحي سماوي، واعتقاد باله يحب الخير، وحاكم ينتهي إليه الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة ؟ ".
ثم أطال في ذلك بأسلوب آخر صرح فيه بأنه لولا عقيدته الدينية لما خدم سلطانه وعاهله ( الإمبراطور ) ساعة من الزمان الخ ما قاله، فيراجع في محله١.
خاف ملأ فرعون عاقبة تركه لموسى حرا مطلقا في مصر فكلموه في ذلك وقد أخبرنا الله تعالى بما قالوه له وما أجابهم به وما كان من تأثير جوابه في موسى وقومه من نصحه لهم وما دار بين موسى وبينهم في ذلك فقال :﴿ وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ﴾ أي قالوا له أتترك موسى وقومه أحرارا آمنين لتكون عاقبتهم أن يفسدوا قومك عليك في أرض مصر بإدخالهم في دينهم، أو جعلهم تحت سلطانهم ورياستهم، ويتركك مع آلهتك كالشيء اللقا، فيظهر للمصريين عجزك وعجزها، وقد رأيت ما كان من أمر إيمان السحرة – إذ الظاهر من السياق أن هذا القول كان بعد قصة السحرة- وسيأتي ما فيه. وجمهور المفسرين على المراد بتركه وآلهته عدم عبادته وعبادتها، وقرأ ابن عباس " وإلاهتك " أي عبادتك. ومن المعلوم من التاريخ المستمد من العاديات المستخرجة من أرض مصر أنه كان للمصريين آلهة كثيرة منها الشمس واسمها في لغتهم ( رع ) وهو متضمن في لقب فرعون فهو عندهم سليل الشمس وابنها، وسننقل بعد جوابه لهم أثرا يدل على ذلك ويذكر فيه بعض هذه الآلهة.
﴿ قال سنقتّل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنّا فوقهم قاهرون ﴾ أي قال مجيبا للملأ سنقتل أبناء قومه تقتيلا ما تناسلوا– فتعبيره بالتقتيل يدل على التكثير والتدريج- ونستبقي نساءهم أحياء كما كنا نفعل من قبل ولادته حتى ينقرضوا. ﴿ وإنّا فوقهم قاهرون ﴾ وإنا مستعلون عليهم بالغلبة والسلطان قاهرون لهم كما كنا من قبل فلا يستطيعون إفسادا في أرضنا، ولا خروجا من حظيرة تعبيدنا. وفي سورة المؤمن ﴿ وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربّه إنّي أخاف أن يبدّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ﴾ [ غافر : ٢٦ ] وهو يدل على أنه كان لديه من يدافع عن موسى ممن آمن به سرا وممن كان يحبه وإن لم يؤمن به فقد قال تعالى :﴿ وألقيت عليك محبة مني ﴾ [ طه : ٣٩ ] وفيه تصريح بما كان له في أنفس المصريين من المحبة والاحترام.
وقد حكى الله تعالى لنا دفاع واحد ممن آمن به فقال :﴿ وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربّي اللّه وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الّذي يعدكم إنّ اللّه لا يهدي من هو مسرف كذّاب ﴾ [ غافر : ٢٨ ] والمرجح عند المتأخرين من المؤرخين الواقفين على العاديات المصرية أن فرعون موسى هو الملك ( منفتاح ) وكان يلقب بسليل الإله ( رع ) وقد جاء في آخر الأثر المصري الوحيد الذي ذكر فيه بنو إسرائيل ( وهو المعروف برقم ٢٥. ٣٤ المحفوظ في متحف مصر ) أن مصر هي السليلة الوحيدة للمعبود ( رع ) منذ وجود الآلهة وأن " منفتاح " سليله أيضا وهو الجالس على سدة المعبود " شو " وأن الإله " رع " التفت إلى مصر فولد " منفتاح " ملك مصر وشِيءَ له أن يكون مناضلا عنها فتخنع له الولاة ولا يرفع أحد من البدو رأسه، فخضع له القيروانيون والحيثيون والكنعانيون وعسقلان وجزال وينعمام.
وفيه : وانفك الإسرائيليون فلا بزر لهم وأصبحت فلسطين خلية لمصر١ والأراضي كلها مضمومة في حفظه، وكل اسم وعفه " أضعفه وأذله " الصيدن القبّ " منفتاح " سليل الشمس معطي المعيشة كل نهار مثل الشمس٢ اه.
وما ذكر لا ينافي ادعاءه الانفراد بالألوهية والربوبية العليا بعد. وقوله : فلا برز لهم هو بمعنى قولنا انقطع دابرهم يستعمل في الحقيقة وفي المجاز من باب المبالغة أو بالنظر إلى المآل.
٢ تراجع ترجمة هذا الأثر في ص ٣٨٧ م١٨ من المنار (المؤلف)..
﴿ قال عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ﴾ أي قال موسى عليه السلام إن المرجوّ من فضل ربكم أن يهلك عدوكم الذي سخركم وآذاكم بظلمه ويجعلكم خلفاء في الأرض التي وعدكم إياها، ويمنعكم فرعون من الخروج إليها، فينظر سبحانه كيف تعملون بعد استخلافه إياكم فيها : هل تشكرون النعمة أم تكفرون ؟ وهل تصلحون في الأرض أم تفسدون ؟ ليجازيكم في الدنيا وفي الآخرة بما تعملون.
وقد عبر بعسى ولم يقطع بالوعد لئلا يتكلوا ويتركوا ما يجب من العمل أو لئلا يكذبوه لضعف أنفسهم بما طال عليهم من الذل والاستخذاء لفرعون وقومه واستعظامهم لملكه وقوته وفي التوراة ما يؤيد هذا وما قبله.
جاء في آخر الفصل الخامس من سفر الخروج بعد ما نقلناه آنفا ما نصه : ٢٢- " فرجع موسى إلى الرب وقال يا رب لماذا ابتليت هؤلاء الشعب لماذا بعثتني " ٢٣- " فإني منذ دخلت على فرعون لأتكلم باسمك أساء إلى هؤلاء الشعب وأنت لم تنقذ شعبك ".
وفي أول الصف السادس منه " ١- فقال الرب لموسى : الآن ترى ما أصنع بفرعون إنه بيد قديرة سيطلقهم وبيد قديرة سيطردهم من أرضه " –وأعلمه بأنه أعطى إبراهيم وإسحاق عهدا بأن يعطيهم أرض كنعان وأنه سمع أنين إسرائيل الذين استبعدهم المصريون فذكر عهده.
ثم قال : ٦- " لذلك قل لبني إسرائيل أنا الرب لأخرجنكم من تحت أثقال المصرين وأخلصكم من عبوديتهم وأفديكم بذراع مبسوطة وأحكام عظيمة " ٧- " وأتخذكم لي شعبا وأكون لكم آلها وتعلمون أنني أنا الرب آلهكم المخرج لكم من تحت أثقال المصريين " ٨- " وسأدخلهم الأرض التي رفعت يدي مقسما أن أعطيها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب فأعطيها لكم ميراثا أنا الرب " ٩- " فكلم موسى بذلك بني إسرائيل فلم يسمعوا لموسى لضيق أرواحهم وعبوديتهم الشاقة " اه المراد منه، وهو من ترجمة اليسوعيين كالذي قبله.
ويليه عودة موسى إلى فرعون ومطالبته بإخراج بني إسرائيل وامتناعه وإظهار الرب الآيات له واحدة بعد أخرى كما يأتي مجملا في الآيات التالية فإن قيل : ظاهر ترتيب الآيات هنا يفيد أن هذه المراجعة بين فرعون وملئه من جهة وبين موسى وبني إسرائيل من جهة أخرى وقعت بعد قصة السحرة، وسياق التوراة صريح في وقوعها قبلها وبعد تبليغ أصل الدعوة – فهل يجب أن نقول إن ظاهر السياق هنا غير مراد وهو معطوف بالواو التي لا تدل على الترتيب –أعني قوله :﴿ وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ﴾ الخ ليوافق التوراة وتتم به الحجة على رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم من هذا الوجه وهو أنه كان أميا لا اطلاع له على التوراة ولا غيرها من كتب أهل الكتاب ولا غيرهم وأنه لم يعلمه إلا بوحي الله إليه ؟ كما قال له تعالى عقب قصة نوح ﴿ ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ﴾ [ هود : ٤٩ ] وما في معناه من قصة موسى في سورة القصص ؟
قلنا : إنه لا مانع من هذا الجمع ولا تتوقف الحجة عليه، فإن القرآن مشتمل على حجج كثيرة من هذا النوع ومن غيره تدل على كونه وحيا من الله تعالى لا يقدر على مثله محمد الأميّ صلى الله عليه وسلم ولا غيره من القارئين الكاتبين أيضا وهو على كونه كما قال مصدقا لكون تلك الكتب من عند الله تعالى أي في الأصل قد قال أيضا إن أهل التوراة أوتوا نصيبا منها ونسوا حظاً آخر وأنهم حرفوا بعض ما عندهم منها، وإنه هو أي القرآن مهيمن عليها، فما أقره منها فهو الذي لا شك فيه، وما صححه بإيراده مخالفا لما عندهم فهو الصحيح سواء كان بإيراده إياه مخالفا لما فيها من بعض الوجوه ككون موسى هو الذي ألقى العصا فإذا هي حية وإذا هي تلقف ما يأفكون لا هارون كما في التوراة، أو دلت قواعده أو نصوصه على امتناعه كما جاء في أول الفصل الثامن من سفر الخروج من أن الرب جعل موسى إلها لفرعون ويكون أخوه هارون نبيه ! !
فأصول القرآن وكذا التوراة – تمنع أن يكون إله غير الله عز وجل. وقد ثبت في تواريخ أهل الكتاب وغيرهم أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد فقدت وأن عزرا الكاتب هو الذي كتب الأسفار المقدسة بعد السبي البابلي في القرن الخامس قبل الميلاد وهو الذي استبدل الحروف الكلدانية بالعبرانية، على أن ما كتبه عزرا قد فقد أيضا ولكن جميع نسخ التوراة الموجودة في العالم مستمدة مما كتبه وفيها تحريف كثير لا يمكن أن يكون من الأصل ويسمونه مشكلات يتكلفون الأجوبة عنها وقد بينا نموذجا منها من قبل ومنها أن الفصل الأخير من سفر التثنية وهو الأخير من التوراة قد ذكر فيه وفاة موسى عليه السلام وأنه لم يقم بعده نبي مثله والمرجح عندهم أن يشوع هو الذي كتبه على أن فيه ذكر يشوع.
ومما يوضح معجزة القرآن فيما أخبر به عن التوراة ويؤكدها خطأ المفسرين الكثيرين من المتقدمين والمتأخرين في تفسير بعضه وتعيين المراد منه لعدم اطلاعهم على ما عند أهل الكتاب منها ومن سائر كتبهم المقدسة وغيرها من التواريخ والعاديات المستخرجة من آثار قدماء المصريين والبابليين وإنما كان جل ما يعرفون عن بني إسرائيل ما سمعوه ممن أسلم منهم وما كل من أسلم منهم بحفيظ عليم، ولا بصادق أمين. ثم ما أخذوه عن كتب تاريخية غير موثوق بها، فكان أكثر ما كتبوه في التفسير منها مشوها له وحجة لأهل الكتاب علينا –فإذا كان هذا حال علمائنا في أخبار أهل الكتاب بعد انتشار العلوم في الإسلام فكيف حال أهل مكة عند ظهوره ولم يكن فيها كتاب يقرأ ولا أحد يقرأ ويكتب قيل إلا ستة نفر من التجار كانوا ممن يقال فيهم اليوم " يفكون الخط " فأنى لمن كان أبعدهم عن ذلك وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أن يعرف هذه الدقائق المفصلة السالمة من الشوائب التي لا يصدقها العقل أو لا تتفق مع توحيد الأنبياء وفضائلهم لولا ما أنزل عليه من الوحي الإلهي ؟
هذه الآيات تفصيل لمقدمات الهلاك الموعود به فيما قبلها وإنجاز وعد الله تعالى لبني إسرائيل بالاستخلاف في الأرض.
﴿ ولقد أخذنا آل فرعون بالسّنين ونقص من الثّمرات لعلّهم يذّكّرون ﴾ صدرت الجملة بالقسم الدالة عليه لامه لتأكيد مضمونها وتعظيم شأنه وكيف لا وهو من أظهر آياته سبحانه على تأييد رسله وقدرته على الادلة للمظلومين المستضعفين من الأقوياء الظالمين. وقد كثر استعمال مادة " الأخذ " في العذاب وما في معناه كقوله تعالى :﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة أن أخذه أليم شديد ﴾ [ هود : ١٠٢ ] ﴿ فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ﴾ [ القمر : ٤٢ ] ﴿ فأخذناه أخذا وبيلا ﴾ [ المزمل : ١٦ ] ( يعني فرعون موسى ) ﴿ فأخذناهم أخذة رابية ﴾ [ الحاقة : ١٠ ] وآل فرعون قومه كما أطلقه المفسرون، أو خاصته وأعوانه في أمور الدولة وهم الملأ من قومه الذين كثر ذكرهم في قصته، ووجهه أنهم هم المذنبون المعاندون لموسى وإنما وقوع العذاب على غيرهم بالتبع لهم لأنهم كانوا موافقين ومقرين لهم على ظلمهم وقد قال تعالى :﴿ واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّة ﴾ [ الأنفال : ٢٥ ] وهذه سنة من سنن الاجتماع العامة وسيأتي توجيه القول الأول.
وأصل اللغة أن آل الرجل أهل بيته وأقاربه الذين يضافون إلى اسمه، وهو لا يضاف إلا إلى أعلام شرفاء قومهم وكبرائهم كالأنبياء والملوك والرؤساء ثم أطلق على أهل الاختصاص بهم أو جميع أتباعهم، ومن هنا قال بعض العلماء أن آل النبي صلى الله عليه وسلم يطلق على جميع أتباعه وإن هذا هو المراد بالصلاة على آل النبي في التشهد وغيره. قال الراغب : الآل قيل مقلوب عن الأهل ويصغر على أهيل إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة يقال آل فلان ولا يقال آل رجل ولا آل زمان كذا أو موضع كذا ولا يقال آل الخياط بل يضاف إلى الأشرف الأفضل يقال آل الله وآل السلطان، والأهل يضاف إلى الكل يقال أهل الله وأهل الخياط كما يقال أهل زمن كذا وبلد كذا.
وقيل هو في الأصل اسم الشخص ويصغر أويلا ويستعمل فيمن يختص بالإنسان اختصاصا ذاتيا إما بقرابة قريبة أو بموالاة قال عز وجل :﴿ وآل إبراهيم وآل عمران ﴾ [ آل عمران : ٣٣ ] وقال :﴿ أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ﴾ [ غافر : ٤٦ ] قيل وآل النبي عليه الصلاة والسلام أقاربه وقيل المختصون به من حيث العلم وذلك أن أهل الدين ضربان ضرب متخصص بالعلم المتقن والعمل المحكم فيقال لهم آل النبي وأمته وضرب يختصون بالعلم١ على سبيل التقليد ويقال لهم أمة محمد عليه الصلاة والسلام ولا يقال لهم آله، فكل آل للنبي أمة له وليس كل أمة له آله.
وقيل لجعفر الصادق رضي الله عنه : الناس يقولون المسلمون كلهم آل النبي عليه الصلاة والسلام، فقال كذبوا وصدقوا، فقيل ما معنى ذلك ؟ فقال كذبوا في أن الأمة كافتهم آله وصدقوا في أنهم إذا قاموا بشرائط شريعته آله. وقوله تعالى :﴿ رجل مؤمن من آل فرعون ﴾ [ غافر : ٢٨ ] أي من المختصين به وبشريعته وجعله منهم من حيث النسب أو المسكن أو من حيث تقدير القوم أنه على شريعتهم اه.
بعد هذا نقول إن " آل فرعون " أطلق في القرآن على آل بيته خاصة في موضع واحد لا يحتمل غيرهم وفي موضع آخر محتمل لغيرهم فالأول قوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ﴾ [ القصص : ٨ ] والثاني قوله " ﴿ وقال رجل مؤمن من آل فرعون ﴾ [ غافر : ٢٨ ] وأطلق كثيرا بمعنى ملئه وخاصة أتباعه أو جملتهم كقوله :﴿ وأغرقنا آل فرعون ﴾ [ البقرة : ٥٠ ] ﴿ أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ﴾ [ غافر : ٤٦ ] ﴿ وإذ نجيناكم من آل فرعون ﴾ [ البقرة : ٤٩ ] ﴿ وحاق بآل فرعون سوء العذاب ﴾ [ غافر : ٤٥ ] ﴿ ولقد جاء آل فرعون النذر ﴾ [ القمر : ٤١ ] كذلك كثر ذكر ملأ فرعون في إرسال موسى إليهم وما دار بين فرعون وبينه وهم أشراف قومه ورجال دولته كما تقدم ولولا أن ورد ذكر قومه في بعض الآيات لحملنا الآل في الآية التي نحن بصدد تفسيرها وفي أمثالها عليهم دون سائر قومه فقد قال تعالى في أول قصة موسى من سورة الشعراء :﴿ وإذ نادى ربّك موسى أن ائت القوم الظّالمين ﴾ [ الشعراء : ١٠ ] ﴿ قوم فرعون ألا يتّقون ﴾ [ الشعراء : ١١ ] وقال في سورة الدخان ﴿ ولقد فتنّا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم ﴾ [ الدخان : ١٧ ] الخ.
ومن الواضح أن عامة قوم فرعون ينالهم من عذاب الأخذ بالسنين ونقص الثمرات ما لا ينال فرعون وأهل بيته وخاصة ملئه فالمراد بآله قومه وهم أهل مصر في عهده، وهم مؤاخذون بظلمه وطغيانه لأن قوته المالية والجندية منهم، وقد خلقهم الله أحرارا وكرمهم بالعقل والفطرة التي تكره الظلم والطغيان بالغريزة فكان حقا عليهم أن لا يقبلوا استعباده لهم وجعلهم آلة لطغيانه وإرضاء كبريائه وشهواته ولاسيما بعد بعثة موسى ووصول دعوته إليهم ورؤيتهم لما أيده الله به من الآيات.
وأما السنون فهي جمع سنة وهي بمعنى الحول ولكن أكثر ما تستعمل في الحول الذي فيه الجدب كما قال الراغب وغيره أي إلا إذا ذكرت في مقام العدد والإحصاء. والأخذ بالسنين صريح في إرادة العقاب بالجدب والضيق ويؤيده نقص الثمرات، وهل يدخل نقص الثمرات في عموم المراد من السنين أم هي خاصة بنقص الغلال التي عليها مدار الأوقات دون الفاكهة التي لا تكفي للقوت وإن كان منها النخيل والأعناب ؟ وجهان. ونقص الثمرات نص على شدة الضيق في كل حال، وهذا إجمال يفسره قوله تعالى :﴿ فأرسلنا عليهم الطوفان ﴾ [ الأعراف : ١٣٣ ] وما هو ببعيد.
وجملة معنى الآية أنه تعالى أخذ آل فرعون بالجدب وضيق المعيشة لعلهم يتذكرون ضعفهم أمام قوة الله وعجز ملكهم الجبار المتغطرس وعجز آلهتهم ولعلهم إذا تذكروا اعتبروا واتعظوا فرجعوا عن ظلمهم لبني إسرائيل وأجابوا دعوة موسى عليه السلام، فإن الشدائد من شأنها أن ترقق القلوب وتهذب الطباع وتوجه الأنفس إلى مرضاة رب العالمين والتضرع له دون غيره من المعبودات التي اتخذت في الأصل وسائل إليه وشفعاء عنده، ثم صار ينسى في وقت الرخاء لأنه غيب لا يرى، وتذكر هي لأنها مشاهدة مجانسة لعابديها، بل هي أو أكثرها دونهم لو كانوا يعقلون، فإذا بلغ الشرك من الناس أن ينسوا الله تعالى حتى في أوقات الشدائد فذلك هو الضلال البعيد.
هذه الآيات تفصيل لمقدمات الهلاك الموعود به فيما قبلها وإنجاز وعد الله تعالى لبني إسرائيل بالاستخلاف في الأرض.
كذلك كان دأب آل فرعون بعد إنذار موسى إياهم ﴿ فإذا جاءتهم الحسنة ﴾ من خصب ورخاء وهو الغالب ﴿ قالوا لنا هذه ﴾ دون غيرنا ونحن المستحقون لها بما لنا من التفوق على الناس ﴿ وإن تصبهم سيئة يطّيّروا بموسى ومن معه ﴾ أي وإن اتفق إن أصابتهم سيئة أي حالة تسوءهم كجدب أو جائحة أو مصيبة أخرى في الأبدان أو الأرزاق تشاءموا بموسى ومن معه من الأنصار كأخيه هارون أو جميع قومه ويرون أنهم إنما أصيبوا بشؤمه وشؤمهم، ويغفلون عن سيئات أنفسهم وظلمهم لقوم موسى لأن هذا عندهم من الحقوق، كما هو شأن الإفرنج في ظلمهم لمن يستضعفونهم من أهل الشرق.
أصل يطيروا يتطيروا فأدغمت التاء في الطاء وسبب استعمال التطير بمعنى التشاؤم أن العرب كانت تتوقع الخير والشر مما تراه من حركة الطير حتى أنها تزجرها إذا لم تمر من تلقاء نفسها فإذا طارت من جهة اليمين تيمنت أي رجت وقوع اليمن والبركة والخير –وإذا طارت من جهة الشمال تشاءمت وتوقعت الشر والمصيبة، ويسمى الطائر الأول السانح والآخر البارح، ثم إنهم سموا الشؤم طيرا وطائرا والتشاؤم تطيرا، ولذلك قال تعالى في رد خرافتهم :
﴿ ألا إنّما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ ابتدأ الرد عليهم بأداة الافتتاح " ألا " للاهتمام به إذ المراد بها توجيه ذهن القارئ لما يلقى بعدها حتى لا يفوته شيء منه، أي ألا فليعلموا أن الشؤم الذي نسبوه إلى موسى وعدوه من آثار وجوده فيهم هو عند الله تعالى لا عند موسى ومن معه، فهو تعالى قد جعل لكل شيء قدرا من حسنة وسيئة بمعنى أنه وضع لنظام الكون سننا تكون فيها المسببات على قدر الأسباب، ولكل منها حكم، فبمقتضى هذه السنن والأقدار ينزل البلاء عليهم، وهو امتحان واختبار لهم بما يسوءهم، ليتوبوا ويرجعوا عن ظلمهم وبغيهم على بني إسرائيل وطغيانهم وإسرافهم في كل أمورهم، ولكن أكثرهم لا يعلمون حكم التصرف الرباني في الخلق ولا أسباب الخير والشر الصورية ولا المعنوية وكون كل شيء في هذا الكون بمشيئته تعالى وتدبيره.
وفي الآية من نكت البلاغة أنه عبر عن مجيء الحسنة بإذا الدالة على تحقق الوقوع وعرّفها لإفادة أنها الأصل الثابت الغالب بغلبة رحمة الله وفضله على سخطه وعقابه، وعبر بإصابة السيئة بإن التي هي أداة الشك – أي إن شرطها إما مشكوك في وقوعه وإما منزل منزلة المشكوك فيه لندرته أو لسبب آخر –ونكر السيئة لإفادة أن وقوعها قليل وخلاف الأصل الغالب. وأفاد بالتعبيرين أن القوم لم يتربوا بالحسنات ولا بالسيئات، وأن الحسنة على عظمتها وكثرتها ما زادتهم إلا غرورا بحالهم، وتماديا في ظلمهم وإصرارا على بغيهم، وأن السيئة لم تفدهم عظة ولا عبرة ولم تحدث لهم توبة.
﴿ وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين ١٣٢ فأرسلنا عليهم الطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع والدّم آيات مفصّلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ١٣٣ ﴾
قلنا إن القوم لم يتربوا بالحسنات ولا السيئات. ولم يذعنوا لما أيد الله به تعالى موسى من الآيات، بل أصروا بعد إيمان كبار السحرة على عد آيتي موسى من السحر ﴿ وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين ﴾ " مهما " اسم شرط يدل على العموم، والمعنى إنك إن تجئنا بكل نوع من أنواع الآيات التي تستدل بها على حقية دعوتك لأجل أن تسحرنا بها أي تصرفنا بها بدقة ولطف في التأثير عما نحن عليه من ديننا ومن تسخيرنا لقومك في خدمتنا وضرب اللبن لمبانينا- فما نحن لك بمصدقين، ولا لرسالتك بمتبعين.
جاء في سورة الإسراء – أو بني إسرائيل- أن الله تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات وقد عد هنا منها خمسا وهي مذكورة في التوراة على غير هذا الترتيب وهو غير مراد وعطف بعضها على بعض بالواو لا يقتضيه :
فأما الطوفان فمعناه في اللغة ما طاف بالشيء وغشيه وغلب في طوفان الماء سواء كان من السماء أو الأرض وكذا كل ما ينزل من السماء بكثرة تغشى الأرض قال ابن كثير اختلفوا في معناه فعن ابن عباس في روايات كثيرة : الأمطار المغرقة المتلفة للزرع والثمار وبه قال الضحاك بن مزاحم، وعن ابن عباس رواية أخرى هو كثرة الموت وكذا قال عطاء، وقال مجاهد الطوفان الماء والطاعون على كل حال، وقال ابن جرير : حدثنا ابن هشام الرفاعي حدثنا يحيى بن هيمان حدثنا المنهال بن خليفة عن الحجاج عن الحكم بن مينا عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الطوفان الموت )، وكذا رواه ابن مردويه من حديث يحيى بن هيمان به وهو حديث غريب. وقال ابن عباس في رواية أخرى هو أمر من الله طاف بهم ثم قرأ ﴿ فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ﴾ [ القلم : ٦٨ ] اه.
أقول أما حديث عائشة المرفوع فهو ضعيف لا يثبت بمثله قول ومخالف للمتبادر من اللغة- فيحيى بن هيمان الذي انفرد به هو الكوفي العجلي كان من العباد، ضعفه الإمام أحمد وقال حدث عن الثوري بعجائب وقال غيره : إنه كان صدوقا لا يتعمد الكذب ولكنه كثير الخطأ والنسيان وقد أصيب بالفالج فتغير حفظه وهذا هو الصواب.
والمنهال بن خليفة العجلي الكوفي الذي روى عنه ضعفه ابن معين وغيرهما وقال البخاري حديثه منكر وقال ابن حبان كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير فلا يجوز الاحتجاج به. وهذا طعن مبين السبب فهو مقدم على توثيق البزار له وكذلك الحجاج وهو ابن أرطأة الكوفي القاضي مدلس ضعيف لا يحتج به، وأولى الآثار بالقبول قول ابن عباس الأول الموافق للمتبادر من اللغة أي طوفان المطر، وما عدا ذلك فمن الإسرائيليات وأولاها بالقبول ما لا يخالف القرآن من أسفار التوراة نفسها وهو ما ننقله عنها :
جاء في الفصل التاسع من سفر الخروج : ١٣- " ثم قال الرب لموسى بكر في الغداة وقف بين يدي فرعون وقل له : كذا قال الرب إله العبرانيين أطلق شعبي ليعبدوني ١٤- فإني في هذه المرة منزل جميع ضرباتي على قلبك وعلى عبيدك وشعبك لكي تعلم أنه ليس مثلي في جميع الأرض ١٥- وأنا الآن أمد يدي وأضربك أنت وشعبك بالوباء فتضمحل من الأرض١ ١٦- غير أني لهذا أبقيك لكي أريك قوتي ولكن يخبر باسمي من جميع الأرض ١٧- وأنت لم تزل مقاوما لشعبي ١٨- ها أنا ( ؟ ) ممطر في مثل هذا الوقت من غد بردا عظيما جدا لم يكن مثله في مصر منذ يوم أسست إلى الآن " ثم ذكر وقوع البرد مع نار من السماء ووصف عظمته وشموله لجميع بلاد مصر وأن فرعون طلب موسى وهارون واعترف لهما بخطئه وطلب منهما أن يشفعا إلى الرب ليكف هذه النكبة عن مصر ووعدهما بإطلاق بني إسرائيل وقال في ختام ذلك :
٣٣ – " فخرج موسى من المدينة من لدن فرعون وبسط يديه إلى الرب فكفت الرعود والبرد ولم يعد المطر يهطل على الأرض " اه ولم يذكر المطر عند الوعيد بل ذكر هنا عند كف النكبة.
وأما الجراد فهو معروف وقد ذكر في التوراة بعد الطوفان ففيها بعدما تقدم أن فرعون قسا قلبه فلم يطلق بني إسرائيل، فأخبر الرب موسى كما في الفصل العاشر بأنه قسى قلبه وقلوب عبيده ليريهم آياته ولكي يقص موسى على ابنه وابن ابنه ( كذا ) ما فعل بالمصريين وأمره بأن ينذره بإرسال الجراد عليهم فيأكل ما سلم من النبات والشجر فلم يحسه البرد ويملأ بيوته وبيوت عبيده وسائر بيوت المصريين ففعل – فرضي فرعون أن يذهب الرجال من بني إسرائيل ليعبدوا ربهم دون النساء والأولاد والمواشي فمد موسى عصاه بأمر الرب على أرض مصر فأرسل الرب ريحا شرقية ساقت الجراد على أرض مصر ١٥- " فغطى جميع وجه الأرض حتى أظلمت الأرض وأكل جميع عشبها وجميع ما تركه البرد من ثمر الشجر حتى لم يبق شيء من الخضرة في الشجر ولا في عشب الصحراء في جميع أرض مصر " وفيه أن فرعون استدعى موسى وهارون واعترف لهما بخطئه وطلب منهما الصفح والشفاعة إلى الرب آلهتهما أن يرفع عنه هذه التهلكة ففعلا فأرسل الله ريحا غربية فحملت الجراد كله فألقته في بحر القلزم.
وأما القُمّل بضم القاف وتشديد الميم المفتوحة فعن ابن عباس هو السوس الذي يخرج من الحنطة وعنه أنه الدُّبي وهو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة وعن الحسن وسعيد بن جرير أنه دواب سود صغار، وعن ابن جرير أنها دابة تشبه القمل تأكل الإبل، ونقل عن بعض علماء اللغة البصريين أن القمل عند العرب الحمنان واحدتها حمنانه وهي صغار القردان – ذكر هذا كله ابن كثير. وجزم الراغب بأن القمل صغار الذباب وهو موافق لما في التوراة ففيها أن البعوض والذبان كان من الضربات العشر التي ضرب الرب بها فرعون وقومه ليرسلوا بني إسرائيل مع موسى. ففي الفصل الثامن من سفر الخروج أن موسى أنذر فرعون أن الذبان سيدخل بيوته وبيوت عبيده وسائر قومه فيفسدها، ولا يدخل في بيوت بني إسرائيل المقيمين في أرض جاسان وأن ذلك وقع وفسدت الأرض من تأثير الذبان.
وأما الضفادع فهي المعروفة لا خلاف فيها، وفي أول الفصل الثامن من سفر الخروج ١- " وقال الرب لموسى ادخل على فرعون وقل له كذا قال الرب أطلق شعبي ليعبدوني ٢- وإن أبيت أن تطلقهم فها أنا ( ذا ) ضارب جميع تخومك بالضفادع ٣- فيفيض النهر ضفادع فتصعد وتنتشر في بيتك وفي مخدع فراشك وعلى سريرك وفي بيوت عبيدك وشعبك وفي تنانيرك ومعاجنك " الخ وكذلك كان ولكن فيها أن السحرة فعلوا مثل ذلك وأصعدوا الضفادع، وإن فرعون طلب من موسى أن يشفع له عند ربه برفع الضفادع فأجابه إلى ذلك قال : ١٣- " ففعل الرب كما قال موسى وماتت الضفادع من البيوت ( ؟ ) والأقبية والحقول ١٤- فجمعوها أكواما وأنتنت الأرض منها ".
وأما الدم ففسره زيد بن أسلم بالرعاف، وأكثر أهل التفسير المأثور أنه دم كان في مياه المصريين وهو موافق لما جاء في التوراة وهو فيها أول الضربات العشر التي أنزلها الله على فرعون وقومه بعد انقلاب العصا ثعبانا ففي الفصل السابع من سفر الخروج أن الرب أمر موسى أن ينذر فرعون ذلك ففعل ١٩- ثم قال الرب لموسى قل لهارون خذ عصاك ومد يدك على مياه المصريين وأنهارهم وخلجهم ومنافعهم وسائر مجامع مياههم فتصير دما ويكون دم في جميع أرض مصر وفي الخشب وفي الحجارة " وفيه أن موسى وهارون –فعلا ذلك وأن سمك النهر مات وأنتن النهر فلم يستطع المصريون أن يشربوا منه، وفيه أن سحرة مصر فعلوا مثل ذلك ( ؟ ؟ ) وأن الدم دام سبعة أيام.
هذه الخمس جملة ما ذكره القرآن من الآيات التسع التي أيد بها عبده ورسوله موسى عليه السلام وليس فيها شيء من المبالغات التي في التوراة فلا هو ينفيها ولا يؤيدها، ومقتضى أصول الإسلام الوقف فيها إلا ما دل دليل من القرآن على نفيه كما تقدم. وفيها أن من تلك الآيات أو الضربات ( البعوض ) وذلك أن هارون ضرب بأمر الرب تراب الأرض " فكان البعوض على الناس والبهائم، وكل تراب الأرض ( ؟ ) صار بعوضا في جميع أرض مصر " ( كذا في ٨ : ١٧ خر ) وفيها أن السحرة فعلوا مثل ذلك ! !
( ومنها الوباء ) وقع على دواب المصريين وأنعامهم فماتت كلها من دون مواشي الإسرائيليين فإنه لم يمت منها شيء ( ومنها البثور والقروح المنتفخة ) أصابت الناس والبهائم- ومن أين جاءت البهائم بعد أن ماتت بأسرها ؟ ( ومنها الظلام ) غشي جميع المصريين ثلاثة أيام كان الإسرائيليون فيها يتمتعون بالنور وحدهم ( ومنها إماتة جميع أبكار الناس والبهائم ) وهي الضربة العاشرة ففيها " وقال موسى كذا قال الرب إني نحو نصف الليل أجتاز في وسط مصر فيموت كل بكر في أرض مصر من بكر فرعون الجالس على عرشه إلى بكر الأمة التي وراء الرحى وجميع أبكار البهائم ( من أين جاءت بعد أن ماتت منذ أيام ؟ ) ويكون صراخ عظيم في جميع أرض مصر لم يكن مثله ولن يكون مثله ( ١١ : ٤-٦ خر ).
.
بعد بيان تلك الآيات ذكر ما كان من تأثيرها وتأويلها معطوفا عليها فقال عز وجل.
﴿ ولمّا وقع عليهم الرّجز قالوا يا موسى ادع لنا ربّك بما عهد عندك لئن كشفت عنّا الرّجز لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل ﴾ قال في الأساس : ارتجز الرعد إذا تداوك صوته كارتجاز الراجز.. والبحر يرتجز بآذيه أي موجه... فمادة الرجز تدل في أصل اللغة على الاضطراب كما قال الراغب وهو يكون في النفس كما يكون في الأجسام ومنه قوله تعالى في وصف الماء الذي أنزله على المسلمين في بدر ﴿ ويذهب عنكم رجز الشيطان ﴾ [ الأنفال : ١١ ] أي وسوسته لهم بأن يأخذهم العطش فلا يستطيعون الصبر على القتال وقيل غير ذلك. وقد يكون في الصوت ومنه الرجز في الشعر سمي بما كان لهم من اضطراب الصوت في إنشاده، وقد سمي عذاب قوم لوط رجزا بقوله تعالى في سورة العنكبوت :﴿ إنّا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السّماء بما كانوا يفسقون ﴾ [ العنكبوت : ٣٤ ] وفي سورتي سبأ والجاثية إنذار للكافرين بعذاب من رجز أليم.
وفسر الرجز هنا بالعذاب وروي عن قتادة وفيه حديث مرفوع عن عائشة عند ابن مردويه، وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أن المراد به الطاعون. وكأنهما أخذاه من حديث أسامة بن زيد مرفوعا ( الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل –أو على من كان قبلكم- فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ) ١ رواه مسلم عنه بهذا اللفظ وألفاظ أخرى بمعناه منها ( الطاعون آية الرجز ابتلى الله به عز وجل أناسا من عباده ) ٢ الخ وفي رواية له ( هو عذاب أو رجز أرسله الله على طائفة من بني إسرائيل أو ناس كانوا قبلكم ) ٣ الخ وأوله في بعضها ( إن هذا الطاعون ) الخ ورواه أحمد والنسائي ومصنفو التفسير المأثور عنه وعن سعيد بن مالك وخزيمة بن ثابت، ووجهه في اللغة أن الطاعون من الأوبئة التي تضطرب لها القلوب لشدة فتكها وذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى من سورة البقرة :﴿ وإذا قلنا ادخلوا هذه القرية ﴾ – إلى قوله- ﴿ فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ﴾ [ البقرة : ٥٩ ] وهو يصدق بطائفة من بني إسرائيل وقد نزل الطاعون بهم كغيرهم مرارا.
ولا يوجد حديث مرفوع يدل على أن الطاعون هو المراد بالرجز في الآية التي نفسرها وضربة القروح المذكورة في التوراة يجوز أن تكون هي الطاعون، وموت الأبكار يحتمل أن يكون بالطاعون أيضا.
والمتبادر من عبارة الآية أن المراد من الرجز جنسه وهو كل عذاب تضطرب له القلوب أو يضطرب له الناس في شؤونهم ومعايشهم وهو يشمل كل نقمة وجائحة أنزلها الله تعالى على قوم فرعون كالخمس المبينة في هذا السياق وفي التوراة أن فرعون كان يقول لموسى عند نزول كل منها ادع لنا ربك واشفع لنا عنده أن يرفع عنا هذه، ويعده بأن يرسل معه بني إسرائيل ليعبدوا ربهم ويذبحوا له ثم ينكث، فإذا أريد بالرجز أفراده وافق التوراة في أن فرعون وملأه كانوا يطلبون من موسى عند كل فرد منها أن يدعو ربه بكشفها عنهم، ولفظ " لما " لا يمنع من ذلك كما صرح به المفسرون الذين قالوا بهذا، وإن أريد به جملته ومجموع أفراده أو فرد آخر غير ما تقدم فالمتبادر أن يكون طلب كشفه قد وقع مرة واحدة، والأول أظهر ويرجحه التعبير عن نكثهم بصيغة المضارع ( ينكثون ) فإنه يدل على الاستمرار.
ومعنى النظم الكريم : ولما وقع على فرعون وقومه ذلك العذاب المذكور في الآية السابقة فاضطربوا اضطراب الأرشية في البئر البعيدة القعر، وحاصوا حيصة الحمر فوقعوا في حيص بيص- وهو ما يدل عليه تسمية ذلك العذاب بالرجز- قالوا عند نزول كل نوع منه بهم : يا موسى ادع لنا ربك واسأله بما عهد عندك من أمر إرسالك إلينا لإنقاذ قومك ليعبدوه وحده – فالنبوة والرسالة عهد من الرب تعالى لمن اختصه بذلك يدل عليه قوله تعالى لإبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ إنّي جاعلك للنّاس إماما قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظّالمين ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ] –أو ادعه بالذي عهد به إليك أن تدعوه به فيعطيك الآيات ويستجيب لك الدعاء- أن يكشف عنا هذا الرجز، ونحن نقسم لك لئن كشفته عنا لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل قال تعالى :﴿ فلمّا كشفنا عنهم الرّجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ﴾
٢ أخرجه مسلم في السلام حديث ٩٣..
٣ أخرجه مسلم في السلام حديث ٩٤، ٩٥، وأحمد في المسند ١/١٨٢، ٥/٢١٣..
أي فانتقمنا منهم عند بلوغ الأجل المضروب لهم بأن أغرقناهم في اليم- وهو البحر في اللغة المصرية الموافقة للعربية في الألوف من مفرداتها١ وهو يطلق على النيل وغيره- والفاء الداخلة على انتقمنا تفسيرية كقوله تعالى :﴿ ونادى نوح ربه فقال... ﴾ [ هود : ٤٥ ] وعلل هذا الانتقام كما علل أمثاله بأنهم كذبوا بآيات الله، وتكرر هذا اللفظ في قصص الأنبياء من هذه السورة أكثر من غيرها وإن لم يؤت بعضهم غير آية واحدة، فإن تكذيب الواحدة كتكذيب الكثير ويقتضيه باتحاد العلة، كما أن تكذيب أحد الرسل كتكذيب الجميع إذا كان بعد ظهور آيته، وقيام الحجة على دعوته.
وكذلك تكرر في القرآن كون الغفلة على الحق ودلائله من صفات الكفار. وأما جمع الآيات هنا فلأنها متعددة. وأما عطف الانتقام بالفاء فليس تعليلا آخر وإنما هو تعقيب على كونه وقع بعد التكذيب بتلك الآيات كلها، والمعنى أنهم كانوا يظهرون الإيمان عند كل آية من آيات العذاب ثم يكذبون حتى إذا انقضى الأجل المضروب لهم انتقمنا منهم بسبب أنهم كذبوا بها كلها وكانوا غافلين عما تقتضيه وتستلزمه من عذاب الدنيا والآخرة، إذا كانت في نظر أكثرهم من قبيل السحر والصناعة، وكانوا قد بلغوا فيهما الغاية، ولذلك كانوا يكابرون أنفسهم في كل آية، ويحاولون أن يأتي سحرتهم وعلماؤهم بمثلها، ويحملون عجزهم على تفوق موسى عليهم فيها ويعدون إسناده كل شيء إلى ربه من قبيل إسنادهم الأمور إلى آلهتهم الباطلة بحسب التقاليد التي لم يكن حكماؤهم يؤمنون بها، وإنما يحافظون عليها لأجل خضوع عامة الشعب لها، وأما من ظهرت لهم دلالة آيات موسى على الحق فمنهم من آمن جهرا ككبار السحرة ومن آمن فكتم إيمانه كالذي عارض فرعون وملأه في قتل موسى بالحجة والبرهان- كما في سورة غافر وذكرناه في هذا السياق- ومنهم من جحد بها لمحض العلوّ والكبرياء، كفرعون وأكابر الوزراء والرؤساء.
ومن العبرة في مجاراة الحكومة الفرعونية للعوام خرافاتهم أن حكومات هذا العصر توافق العامة على كل ما يعدونه من الدين وإن لم يكن منه، كما تفعل الحكومة المصرية في بعض الاحتفالات الموسمية المبتدعة في الإسلام كالموالد بالتبع لجمهور الشعب من كبار علمائه إلى أجهل عوامه، وهي مشتملة على كثير من المعاصي المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة التي يعد مستحلها مرتدا عن الإسلام باتفاق المذاهب، والجمهور غافلون عن ضرب هذه البدع التي جعلت من قبيل شعائر الإسلام بالاحتفال بها وشد الرجال إليها، وإنفاق الأموال العظيمة في سبيلها، وتعطيل كبرى شعائر الإسلام وهي الصلاة وإبطال دروس العلوم الدينية من المساجد التي تقام فيها لأجلها كالمسجد الأحمدي في طنطا والمسجد الإبراهيمي في دسوق. وإن أكبر ضررها تشويه الإسلام في نظر العقلاء من أولي العلوم الاستقلالية حتى كثر فيهم المرتدون عنه، وصد غير المسلمين عن الإسلام لأن القاعدة التي يجري عليها عرف الأمم أن دين كل قوم ما هم عليه من التعبدات والشعائر، وقد تكرر منا إقناع بعض مستقلي الفكر من غير المسلمين بحقية دين الإسلام المقرر في القرآن الحكيم والسنة السنية وتنزهه عن هذه البدع، فاقتنعوا بأن ما قررناه لهم حق ولم يقتنعوا بأنه دين الإسلام الذي عليه المسلمون، وقد سبق أن نقلت عن رجل من فضلاء الإنكليز منهم إنه قال لي إن كان الإسلام ما ذكرت فأنا مسلم. وكان نعوم بك شقير المؤرخ السوري يقول لي اكتب عقيدتك وأنا أمضي عليها بخطي أنها عقيدتي.
لما ذكر تعالى عاقبة تلك الآيات وتأويلها في المصريين عطف عليه ببيان عاقبتها وتأويلها في بني إسرائيل بهذه الآية الجامعة البالغة فقال عز وجل :
﴿ وأورثنا القوم الّذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها الّتي باركنا فيها ﴾ تعدد في القرآن التعبير عن استخلاف الله قوما في أرض قوم بالإيراث أي وأعطينا القوم الذين كانوا يستضعفون في مصر بما تقدم بيانه جميع الأرض التي باركنا فيها بالخصب والخير الكثير مشارقها من حدود الشام ومغاربها من حدود مصر، تحقيقا لوعدنا ﴿ ونريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين * ونمكّن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ﴾ [ القصص : ٥، ٦ ].
روي عن الحسن البصري وقتادة أنهما قالا في تفسير ﴿ مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ﴾ هي أرض الشام، وعن زيد بن أسلم قال : هي قرى الشام، وعن عبد الله بن شوذب : فلسطين، وعن كعب الأحبار قال إن الله بارك في الشام من الفرات إلى العريش. ويؤيد هذه الروايات قوله تعالى في إبراهيم عليه الصلاة والسلام ﴿ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ٧١ ] وقوله تعالى :﴿ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها ﴾ [ الأنبياء : ٨١ ] وقوله عز وجل :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ﴾ [ الإسراء : ١ ].
وروي عن الليث بن سعد أنها أرض مصر التي كان فيها بنو إسرائيل وأطلق بعض المفسرين القول بأنها أرض مصر وفلسطين جميعا. وربما يتراءى أن إرادة أرض مصر هي الظاهر المتبادر من قوله تعالى في قوم فرعون من سورة الشعراء ﴿ فأخرجناهم من جنّات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك -وأورثناها بني إسرائيل ﴾ [ الشعراء : ٥٧- ٥٩ ] وقوله فيهم من سورة الدخان ﴿ كم تركوا من جنّات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين ﴾ [ الدخان : ٢٤- ٢٨ ] لأن فرعون خرج بمن معه من الملأ والجند من مصر وتركوا ما كانوا فيه من النعيم، إلى الغرق المؤدي إلى الجحيم، ولكن هذا الوصف أظهر في بلاد الشام ذات الجنات الكثيرة، والعيون الجارية، ومعنى إخراج المصريين منها إزالة سيادتهم وسلطانهم عنها وحرمانهم من التفكه بنعيمها فقد كانت بلاد فلسطين، إلى الشام تابعة لمصر، وكان من عادة فراعنة مصر كغيرهم من الأمم المستعمرة أن يقيموا في البلاد التي يستولون عليها حكاما وجنودا لئلا تنتقض عليهم، وأن يسكنها كثيرون منهم يتمتعون بخيراتها. وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى :﴿ عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض ﴾ [ الأعراف : ١٢٩ ] جملة من الأثر المصري القديم الوحيد الذي وجد فيه ذكر لبني إسرائيل تنطق بأن هذه البلاد كانت تابعة لمصر.
على أنه وجد في بعض التواريخ القديمة ما يدل على صحة ما قاله بعض مفسرينا من أن موسى استولى على مصر وتمتع هو وقومه بالسيادة فيها طائفة من الزمن نذكره للاعتبار به وإن كان صدق الآيات غير مقصورة على صحة مضمونه وهو ما جاء في حاشية لأحد مباحث الدكتور محمد توفيق صدقي ( رحمه الله تعالى ) في كتب العهد الجديد وعقائد النصرانية، وهذا نصه ( كما في ص ٤٤٦ و٤٤٧ من مجلد المنار السادس عشر ) :
«جاء في كتاب " الأصول البشرية " صفحة ٨٨ لمؤلفه لينج أن يوسيفوس المؤرخ اليهودي الشهير نقل عن " مانيثو " هذه الرواية المصرية القديمة التي ملخصها ( أن موسى بعد هزم فرعون مصر- الذي فر إلى بلاد الحبشة- حكم مصر ١٣ سنة وبعد ذلك عاد إليه فرعون هو وابنه ومعهما جيش عظيم فقهروه وأخرجوه منها إلى بلاد الشام ) وجاء في قاموس الكتاب المقدس لبوست مجلد ١ ص ٤١٠ أن هيرودوتس المؤرخ اليوناني في القرن الخامس عشر قبل الميلاد قال :( إن ابن سيسوسترس ضرب بالعمى مدة عشر سنين لأنه رمى رمحه في النهر وقد ارتفعت أمواجه وقت فيضه بسبب نوء شديد إلى علو غير اعتيادي ) اه ويقول المؤرخون أن ابن سيسوسترس هذا ( وهو مفتاح الثاني ) هو فرعون الخروج ويتخذون هذه العبارة إشارة إلى غرقه في زمن موسى. ولكن يرى القارئ منها أنها لو كانت إشارة إلى الغرق لكان الغرق في النيل ومن الرواية الأولى يعلم أن موسى حكم بعد فرعون ١٣ سنة في مصر.
«وهاتان الروايتان هما من أقدم الروايات المصرية وأصحها وربما كانتا الوحيدتين في هذه المسألة، ولعل المصريين استغاثوا بمملكة الحبشة فأرسلت إليهم جيشا فأوحى الله إلى موسى بالخروج حينئذ من مصر وتركها لأهلها، وعليه يجوز أن المصريين كتموا خبر غرق ملكهم واستبدلوا به دعوى تقهقره إلى الحبشة وقالوا إنه هو الذي عاد بعد ذلك وأخرج موسى بالقوة سترا لخزيهم وخذلانهم وإرضاء لملوكهم وأسر ( جمع أسرة بالضم ) هؤلاء الملوك وربما أنه لولا عظم هذه الحادثة وشهرتها بينهم لأنكروها بالمرة.
«ومن ذلك تعلم أن الخروج لم يكن عقب غرق المصريين مباشرة كما يفهم من التوراة ولم يكن السبب فيه هذه الحادثة التي غرق فيها فرعون وجيشه بل كان بعد ذلك ببعض سنين.
«ويرى المطلع على القرآن الشريف أن هاتين الروايتين صادقتان في مسألة غرق فرعون في النيل ومسألة حكم موسى في مصر ١٣ سنة. وأما الغرق في النيل فيفهم من قول القرآن مثلا في سورة طه ﴿ إذ أوحينا إلى أمّك ما يوحى * أن اقذفيه في التّابوت فاقذفيه في اليمّ ﴾ [ طه : ٣٨، ٣٩ ] ثم قوله في آخر هذه القصة ﴿ فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم ﴾ [ طه : ٧٨ ] فالمتبادر من ذلك أن فرعون غرق في نفس اليم الذي ألقي فيه موسى وهو النيل، ومثل ذلك أيضا ما جاء في سورة القصص وهو قوله :﴿ فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ﴾ [ القصص : ٧ ] ثم قوله فيها بعد :﴿ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ﴾ [ القصص : ٤٠ ].
«وأما مسألة حكم موسى في مصر والتمتع بها هو وقومه مدة من الزمن بعد الغرق فهو أيضا المتبادر من نحو قوله تعالى :﴿ فأراد أي فرعون أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ﴾ - إلى قوله- ﴿ وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض ﴾ وقوله :﴿ فأخرجناهم من جنّات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بني إسرائيل ﴾ ويجوز أن الشريعة أعطيت لموسى في الطور قبل تركه حكم مصر.
«وفي زمن موسى أعطى الله بني إسرائيل- بدلا عن مصر التي أمرهم بتركها- الممالك التي في شرق الأردن كما في كتبهم وفي زمن يشوع أعطاهم كل أرض كنعان إلا بعض أجزاء منها ( يش ١٣ : ١ ) وهذه الأرض التي أعطيت لهم من أخصب أراضي العالم وأحسنها وهي المسماة عندهم بأرض الموعد لأنهم كانوا وعدوا بها من قبل.
«فأنى لمحمد صلى الله عليه وسلم علم ما بيناه من ذلك التاريخ وهو أجنبي عنه وعن قومه ومغاير للتوراة ومخالف لما يعتقده جميع اليهود والنصارى من قديم الزمان ولكنه موافق لأقدم الروايات المصرية وأصحها التي لا يعرفها- حتى الآن- إلا واسعوا الإطلاع من محققي المؤخرين ؟
«وأما مانيثو ( Manetho ) المذكور هنا الذي وافقت روايته ما جاء في القرآن الشريف فكان كاهنا لمعبد من أقدم المعابد وأشهرها، وقد كتب تاريخ مصر بأمر بطليموس فيلادلفوس في القرن الثالث قبل المسيح وكان من أدق مؤرخي القدماء وأصدقهم وقد أخذ بأوثق المصادر وأصحها في كتابة تاريخه، إلا أن هذا التاريخ فقد مع ما فقد في حريق مكتبة الإسكندرية، ولم يبق منه سوى مقتطفات في بعض الكتب القديمة اليونانية وقد أيد أكثر هذه المقتطفات ما اكتشف حديثا من الآثار المصرية والمكتوبات العتيقة مع أن آباء النصرانية كيوسيبيوس حرفوا كعادتهم كثيرا مما نقلوه منها لتطابق نصوص العهد القديم كما ذكره العلامة لينج في كتابه " الأصول البشرية " ص١١ منه » اه.
﴿ وتمّت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ﴾ تمام الشيء وصوله إلى آخر حده، وكلمة الله وعده لبني إسرائيل بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض. وفي مجاز الأساس : وتم على أمر مضى عليه وتم على أمرك، وتم إلى مقصدك. والمعنى نفذت كلمة الله ومضت على بني إسرائيل تامة كاملة بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه، إذ كان وعد الله تعالى إياهم بما وعدهم مقرونا بأمرهم بالصبر والاستعانة به والتقوى له كما أمرهم نبيهم عليه السلام تبليغا عنه تعالى راجع ﴿ وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا ﴾ –الآية- من هذا السياق. وإذا كان قد تم وعد الله تعالى لهم بذلك ثم سلبهم الله تلك الأرض بظلمهم لأنفسهم وللناس فلم يبق من مقتضى الوعد أن يعودوا إليها مرة أخرى لأنه قد تم ونفذ صدقا وعدلا.
﴿ ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ﴾ التدمير إدخال الهلاك على السالم والخراب على العامر، والعرش رفع المباني والسقائف للنبات والشجر المتسلق كعرائش العنب ومنه عرش الملك. والمراد بما كان يصنع فرعون وقومه أولا وبالذات ما له تعلق بظلم بني إسرائيل والكيد لموسى عليه السلام، فالأول كالمباني التي كانوا يبنونها للمصريين أو يصنعون اللبن لها ومنها الصرح الذي أمر هامان ببنائه له ليرقى به إلى السماء فيطلع إلى إله موسى، والثاني كالمكايد السحرية والصناعية التي كان يصنعها السحرة لإبطال آياته أو التشكيك فيها كما قال تعالى :﴿ إنما صنعوا كيد ساحر ﴾ [ طه : ٦٩ ] ﴿ وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب ﴾ [ غافر : ٣٦ ] –أسباب السماوات- ﴿ فأطّلع إلى إله موسى وإنّي لأظنّه كاذبا وكذلك زيّن لفرعون سوء عمله وصدّ عن السّبيل وما كيد فرعون إلّا في تباب ﴾ [ غافر : ٣٧ ] والتباب بمعنى الدمار.
وأما أسباب هذا التدمير لذلك الصنع والعروش فأولها الآيات التي أيد الله تعالى بها موسى عليه السلام من الطوفان والجراد وغيرهما- وتسمى في التوراة الضربات وفيها من المبالغة في ضررها وتخريبها ما أشرنا إليه وذكرنا بعضه- ويليها إنجاء بني إسرائيل وحرمان فرعون وقومه من استعبادهم في أعمالهم، وثالثها هلاك من غرق من قوم فرعون وحرمان البلاد وسائر الأمة من ثمرات أعمالهم في العمران- هذا هو المعروف منها، وما ظلمهم الله تعالى بذلك ولكنهم ظلموا أنفسهم فقد أنذرهم موسى عليه السلام كل ذلك ليتقوا سوء عاقبته فكذبوا بالآيات، وأصروا على الجحود والإعنات.
والعبرة في هذه الآيات من وجهين الأول : أن يتفكر تالي القرآن في تأثير الإيمان والوحي في موسى وهارون عليهما السلام إذ تصديا لأعظم ملك في أعظم دولة في الأرض قاهرة لقومهما ومعبدة لهم في خدمتها منذ قرون كثيرة فدعواه إلى الرجوع عن الكفر والظلم والطغيان وتعبيد بني إسرائيل وأنذراه وهدداه، وما زالا يكافحانه بالحجج والآيات البينات حتى أظفرهما الله تعالى به وأنقذوا قومهما من ظلمه وظلم قومه.
فجدير بالمؤمنين بالله تعالى ورسله من المسلمين أن ينتقلوا من التفكر في هذا إلى التفكر في وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر كما وعد المرسلين إذا هم قاموا بما أمرهم تعالى به على ألسنتهم – وأن لا يستعظموا في هذه السبيل قوة الدولة الظالمة لهم، فإن قوة الحق التي نصرها الله تعالى برجل أو رجلين على أعظم الدول لا تغلب إذا نصرناها ونحن مئات الملايين والله تعالى يقول :{ إن تن
قصة موسى مع بني إسرائيل
هذه الآيات وما بعدها شروع في قصة موسى عليه السلام مع قومه بني إسرائيل معطوفة على قصته مع فرعون وقومه على أكمل وجوه العبرة مع السلامة من لغو القصص والتاريخ.
قال عز وجل :
﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ﴾ جاز الشيء وجاوزه وتجاوزه عداه وانتقل عنه. والعكوف على الشيء الإقبال عليه وملازمته على سبيل التعظيم ومنه العكوف والاعتكاف في المسجد وهو ملازمته لأجل العبادة. قرأ حمزة والكسائي يعكفون بكسر الكاف من باب جلس يجلس والباقون بضمها من باب قعد يقعد. والأصنام جمع صنم وهو ما يصنع من الخشب أو الحجر أو المعدن مثالا لشيء حقيقي أو خيالي أو مذكرا به ليعظم تعظيم العبادة، واتخذ بعض العرب في الجاهلية صنما من عجوة التمر فعبدوه ثم جاعوا فأكلوه.
والفرق بينه وبين التمثال أن هذا لابد أن يكون مثالا لشيء –وأنه قد يكون للعبادة وحينئذ يسمى صنما وقد يكون للزينة كالذي تراه على جدران بعض القصور المشيدة أو أبوابها أو في حدائقها، وقد يكون للتعظيم والتكريم غير الديني كالتماثيل التي تنصب لبعض الملوك وكبار علماء الدنيا أو القواد والزعماء للتذكير بتاريخهم وأعمالهم للاقتداء بها، ويكثر هذا في بلاد الإفرنج وقلدهم بعض بلاد الشرق كمصر فنصبت حكومتها تماثيل لبعض أمراء بيت الملك الحاضر وغيرهم من رجالهم. والفرق بين هذا التعظيم السياسي أو العلمي وبين تعظيم العبادة : أن الغرض من الأول إما رفعة شأن الدولة وتمكين سلطانها في أنفس الأمة بمشاهدة صور ملوكها وكبراء رجالهم وتماثيلهم وهو قصد سياسي صحيح عند أهله- وإما بعث شعور حب العلم والاقتداء بالعلماء والأدباء والزعماء الذين نفعوا أمتهم عسى أن يوجد في المستعدين من يكون مثلهم أو خيرا منهم، وهو قصد اجتماعي صحيح عند علماء التربية وأما تعظيم العبادة فالغرض منه التقرب من المعبود وطلب ثوابه بدفع ضرر أو جلب منفعة من طريق الغيب لا الكسب والتعاون عليه من طريق الأسباب العامة.
فتعظيم الشيء الذي يعتقد أن له سلطة غيبية أو تعظيم ما يذكر به من صورة أو تمثال أو قبر أو ثوب أو غير ذلك من آثاره لأجل التقرب إليه وقصد الانتفاع به في الأمور التي لا تنال بالأسباب العامة- وهي ما لا يطلب إلا من الله تعالى أو لأجل التقرب إلى الله تعالى بجاهه –كل ذلك عبادة ظاهرة، فإن قصد المعظم لذلك الشيء أو لما يذكر به الانتفاع به نفسه بما ذكر من التعظيم بالقول كالدعاء والاستغاثة أو بالفعل كالطواف بتمثاله أو قبره و تقبيله والتمرغ بأرضه –كانت العبادة خالصة له من دون الله، وإن قصد التقرب به إلى الله تعالى ليحمله بجاهه على إعطائه ما يريد كانت العبادة له ولله تعالى بالاشتراك، وهذا من مظاهر الشرك الجلي التي لا يخرجها تغيير التسمية عن كونها كفرا أو شركا.
استطراد فقهي
حظر الشرع الإسلامي نصب التماثيل لأنها إما شرك أو ذريعة أو تشبه بأهله. وهي على هذا الترتيب في التدلي : فأغلظها أولها وأخفها ثالثها. وللتشبه درجات في الحظر أشدها ما كان في أمور الدين فإنه قد يكون كفرا، وأهونها ما كان في العادات وأمور الدنيا فنجتنب منه ما لنا غنى عنه وما كان نافعا غير ضار بنفسه لا نأخذه بقصد التشبه فقط لأنه لا يكون إلا من تعظيم المتشبه لغير أهل ملته وهو يتضمن أو يستلزم احتقارهم والشعور بأنهم دونهم. وأما اقتباس العلم والحكمة والفنون والصناعات النافعة لأجل منفعتها بقدرها فليس من التشبه ولا من تفضيل المقتبس منهم على أهل ملته لأن هذه الأمور ليست من أمور الدين ولا اقتبست لأجل التعظيم بل لفائدتها، وقد تكون هذه الفائدة مما تعتز به ملة المقتبس المستفيد وأهلها.
ومن ذلك أخذ النبي صلى الله عليه وسلم عمل الخندق عن الفرس إذ أخبره سلمان رضي الله عنه عنهم بذلك وقد يكون هذا الأخذ واجبا شرعا ومنه أخذنا لفنون الحرب وصناعاتها وآلاتها عن الإفرنج إذ أتقنوها قبلنا، فهو فرض كفاية بلا نزاع فالأمة الحية تقتبس كل شيء نافع يغذي حياتها ويزيدها قوة وعزة، وتتقي في ذلك كل ما فيه ضعف لها في مقوماتها أو مشخصاتها ولاسيما إذا كان فيه تفضيل لخصومها أو غيرهم عليها، وقد فطن اليابان لهذه القاعدة فحافظوا على شؤونهم الملية والقومية عند اقتباسهم لعلوم الفرنجة وفنونها فصاروا مثلهم في ثلث قرن. وغفل عنه الترك والمصريون فأضاعوا من ملكهم.
وليس في نصب التماثيل فائدة ومنفعة ذات بال لا تحصل بغيرها تبيح للمسلمين تقليد الوثنيين والنصارى فيها ولو في جعلها لغير رجال الدين بعدا عن شبهة عبادتها، ومن ذا الذي يأمن هذا وقد عبدت قبور الأولياء وأئمة آل البيت كما عبد غلاة الشيعة من الباطنية أشخاصا منهم أحياء وأمواتا، ونرى الشيعة المعتدلين الذين استباحوا نصب التماثيل غير الدينية قد اتخذ بعضهم في هذه الأيام تمثالا لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه في بلاد إيران كما نقلت صحف الأخبار عنهم. وأما الصور فلها فوائد في الحرب وحفظ الأمن وتحقيق معاني اللغة وكثير من العلوم ولاسيما الطب والتشريح... فلا يحظر منها ما ليس عبادة ولا تشبها بعبادة الأصنام بدليل ما ثبت في السنة الصحيحة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهتك القرام ( الستار ) الذي نصبته ( عائشة ) في حجرتها إذ كان على هيئة الصور والتماثيل المعبودة فلما جعلت منه وسادة كان صلى الله عليه وسلم يستعملها وفيها الصور إذ كان الاتكاء والنوم عليها امتهانا لا تعظيما ولا يشبه التعظيم الوثني وقد حققنا هذا البحث ببيان ما ورد فيه من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء في فتاوى المنار مرارا.
عود إلى تفسير الآية :
معنى النظم الكريم :( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ) إنهم تجاوزوه بعنايته سبحانه وتأييده إياهم بفلق البحر، وتيسير الأمور، حتى كأنه كان معهم بذاته فجاوزه مصاحبا لهم، أو المعنى إننا أيدناهم ببعض ملائكتنا، فجاوز بهم البحر بأمرنا، فمن المعهود في اللغة أن ينسب إلى الملوك ورؤساء القواد ما ينفذه بعض أتباعهم بأمرهم، وما يقع بجاههم وقوة سلطانهم، ويجوز الجمع بين المعنيين. ففرق البحر بهم كان بعناية الله وقدرته. وفي آخر الفصل الثالث عشر من سفر الخروج ذكر خبر ارتحال بني إسرائيل وقال :( وكان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود من غمام ليهديهم الطريق وليلا في عمود من نار ليضيء لهم ليسروا نهارا وليلا* لم يبرح عمود الغمام نهارا وعمود النار ليلا من أمام الشعب ) ثم جاء في الفصل الرابع عشر منه بعد ذكر اتباع فرعون ومن معه بني إسرائيل ( فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر بني إسرائيل فصار وراءهم وانتقل عمود الغمام من أمامهم فوقف وراءهم* ودخل بين عسكر المصريين وعسكر إسرائيل، فكان من هنا غماما مظلما، وكان من هناك ينير الليل، فلم يقترب أحد من الفريقين طول الليل ).
وهذا بعض ما جاء في التوراة مما يصح أن يكون تفسيرا لقوله تعالى في القرآن ﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ﴾ فالباء هنا للمصاحبة كقولك سافرت به وجئت به، وإسناد المسير في عمود الغمام إلى الرب مجازي كقوله تعالى :﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ﴾ [ البقرة : ٢١٠ ] " فأتوا " عقب تجاوزهم إياه ودخولهم في بلاد العرب من البر الأسيوي ﴿ على قوم يعكفون على أصنام لهم ﴾ يعبدونها، فماذا كان من شأنهم إذ رأوهم يعبدون غير الله تعالى كالمصريين الذين أنقذهم الله تعالى منهم، وأراهم آياته على وحدانيته فيهم ؟ هل استهجنوا شركهم وأنكروه كما هو الواجب عليهم والمعقول ممن رأى ما رأوا من سوء مصير المشركين، وحسن عاقبة الموحدين ؟
الجواب أنهم لم ينكروه بألسنتهم ولا قلوبهم، بل ﴿ قالوا يا موسى اجعل لهم إلها كما لهم آلهة ﴾ حنينا منهم إلى ما ألفوا في مصر من عبادة آلهة المصريين وتماثيلها وأنصابها وقبورها، فعلم بهذا الطلب أنهم لم يكونوا فهموا التوحيد الذي جاء به موسى كما فهمه من آمن من سحرة المصريين، لأن السحرة كانوا من العلماء فأمكنهم التمييز بين آيات الله تعالى التي لا يقدر عليها غيره وبين السحر الذي هو من صناعات البشر وعلومهم، وأما هؤلاء الإسرائيليون فكانوا من العامة الجاهلين الذين بلد الذل أفهامهم، وإنما تبعوا موسى لإنقاذه إياهم من ظلم فرعون وتعبيده لهم، لا لفهمهم حقيقة التوحيد بالآيات الدالة عليه ولذلك قيل إنهم بعض القوم لا جميعهم، فالتوحيد المحض الخالص من شوائب الشرك والوثنية هو غاية ما يرتقي إليه عرفان البشر، وهو المراد من قوله تعالى :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ] على القول بأن اللام للغاية، وهو لا يقتضي حصوله لكل فرد منهم، ولو عقل جميع بني إسرائيل كنه التوحيد لما وقع من تبرمهم بالتكاليف وتمردهم على موسى عليه السلام ما قصه الله تعالى علينا في كتابه، وفي التوراة التي لديهم من الزيادة عليه والتفصيل له ما هو من مواطن العجب، وقد ابتلاهم الله تعالى ورباهم بالحسنات والسيئات، وحرم الأرض المقدسة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، حتى انقرض ذلك الجبل الذي نشأ في حجر الوثنية، وشب أو اكتهل أو شاخ في ذل العبودية الفرعونية.
وقد رأينا نموذجا لذلك في طوائف من أمتنا ولدوا في مهد الظلم، وشبوا في حجر النفاق والفسق، فسنحت لأعلمهم بشؤون الاجتماع والعمران فرص متعددة كان يرجى أن يحرروا فيها أنفسهم من رقها السياسي ويستقلوا بأمرهم، فأضاعوها واحدة بعد أخرى، وكان هذا من عبر التاريخ التي تثبت أن فلاح الأمم بأخلاقها وعقائدها، وأن العلم الناقص شر من الجهل المطلق، وأن العلم الصحيح في الرجل أو الشعب الفاسد الأخلاق كالسيف في يد المجنون ربما جنى به على صديقه أو على نفسه وربما نصر به عدوه.
ولم يبين لنا كتاب الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم شيئا من أمر القوم الذين أتى عليهم بنو إسرائيل عقب خروجهم من مصر إلى أرض العرب والظاهر أنهم من العرب الذين كانوا يقيمون بقرب حدود مصر : روي عن قتادة أنهم من عرب لخم وعن أبي عمران الجوني لخم وجذام. وعن ابن جريج أن أصنامهم كانت تماثيل بقر من نحاس، فلما كان عجل السامري شبه لهم أنه من تلك البقر فذاك كان أول شأن العجل لتكون لله عليهم حجة فينتقم منهم بعد ذلك أقول : ولم يكن ابن جريج يعلم أن قدماء المصريين كانوا يعبدون عجلا اسمه ( أبيس ) وكان بنو إسرائيل يعبدونه معهم كغيره من معبوداتهم، ويرون تماثيله منصوبة في معابدهم، وأن السامري لم يصنع لهم العجل بعد ذلك إلا لما كان من إلفهم لعبادته، وتأثر أعصابهم بما ورثوا من مظاهر روعته، ولذلك قال تعالى فيهم ﴿ وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ﴾ [ البقرة : ٩٣ ] والمراد عجل السامري وقد علل إشرابهم إياه في قلوبهم بما كان من كفرهم السابق أي بالوراثة المتغلغلة في النفس بطول الزمان وتعاقب الأجيال، فذلك الذي يطول تأثيره في الأعقاب والأنسال.
ألم تر إلى ما استحدثه بعض المبتدعة في الإسلام وقلدهم فيه بعض الملوك المنسوبين إلى السنة : من تشييد القبور، وتزيينها بالعمائم والستور، وبناء القباب فوقها، واتخاذها مساجد يصلي إليها أو لديها، وإيقاد السرج والشموع عليها، أنه قد جعل لها مكانة دينية كبيرة في قلوب عامة المسلمين، حتى صارت عندهم من شعائر الدين، بحيث يعدون من روى لهم الأحاديث الصحيحة في لعن الله ورسوله لمن يفعل ذلك مبتدعا فيه أو مارقا منه، وينبزونه في
قصة موسى مع بني إسرائيل
هذه الآيات وما بعدها شروع في قصة موسى عليه السلام مع قومه بني إسرائيل معطوفة على قصته مع فرعون وقومه على أكمل وجوه العبرة مع السلامة من لغو القصص والتاريخ.
وبعد أن ذكرهم بسوء حالهم من جهلهم وسفاهة أنفسهم بين لهم فساد ما طلبوه في نفسه عسى أن تستعد عقولهم لفهمه واستبانة قبحه فقال بأسلوب الاستئناف المفيد للتعليل والدليل ﴿ إن هؤلاء متبّر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ﴾ التبار والتبر الهلاك والتتبير الإهلاك والتدمير يقال تبر الشيء من بابي تعب ونصر وتبّره- بالتشديد : أهلكه ودمره. أي أن هؤلاء القوم الذين يعكفون على هذه الأصنام مقضي على ما هم فيه بالتبار، بما سيظهر من التوحيد الحق في هذه الديار، وباطل ما كانوا يعملون من الأصنام، وعبادة غير الله ذي الجلال والإكرام، أي هالك وزائل لا بقاء له، فإنما بقاء الباطل في ترك الحق له أو بعده عنه، وهذا يتضمن البشارة منه عليه السلام بزوال الوثنية من تلك الأرض وكذلك كان.
قال البغوي في تفسيره إن طلب بني إسرائيل للآلهة لم يكن عن شك منهم بوحدانية الله تعالى وإنما كان غرضهم إلها يعظمونه ويتقربون بعظمته إلى الله تعالى وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة وكان ذلك جهلهم كما آذنت به الآيات.
وقال الرازي : اعلم من المستحيل أن يقول العاقل لموسى ﴿ اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ﴾ وخالقا مدبرا، لأن الذي يحصل بجعل موسى وتدبيره لا يمكن أن يكون خالقا للعالم مدبرا له، ومن شك في ذلك لم يكن كامل العقل، والأقرب أنهم طلبوا من موسى أن يعين لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى، وهذا القول هو الذي حكاه الله تعالى عن عبدة الأوثان حيث قالوا :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] إذا عرفت هذا فلقائل أن يقول : لم كان هذا القول كفرا ؟ فنقول : أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر سواء اعتقد في ذلك الغير في كونه إلها للعالم أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى –لأن العبادة نهاية التعظيم، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام والإكرام.
ثم قال بعد أن جزم بأن هذا القول صدر عن بعضهم لا كلهم وأنه كان فيهم من يترفع عنه ما نصه : ثم إن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه أجابهم فقال :﴿ إنكم قوم تجهلون ﴾ وتقرير هذا الجهل ما ذكر من أن العبادة هي غاية التعظيم فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل وخلق الأشياء المنتفع بها، والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى فوجب أن لا تليق العبادة إلا به، ( فإن قالوا ) إذا كان مرادهم بعبادة تلك الأصنام التقرب بها إلى تعظيم الله تعالى فما الوجه في قبح هذه العبادة ؟ ( قلنا ) فعلى هذا الوجه لم يتخذوها آلهة أصلا وإنما جعلوها كالقبلة، وذلك ينافي قولهم ﴿ اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ﴾ اه.
أقول : من العجب أن يقع إمام النظار في علم العقائد على طريقة الفلسفة والكلام في مثل هذا الخطأ في أسئلته وأجوبته والتناقض في كلامه، ومنشأ هذا الخطأ الغفلة عن مدلول ألفاظ القرآن في اللغة العربية واستعمالها بلوازم معناها العرفية كلفظ " الإله " فإن معناه في اللغة المعبود مطلقا لا الخالق ولا المدبر لأمر العالم كله ولا بعضه، ولم يكن أحد من العرب الذين سموا أصنامهم وغيرها من معبوداتهم آلهة يعتقد أن اللات أو العزى أو هبلا خلق شيئا من العالم أو يدبر أمرا من أموره، وإنما تدبير أمور العالم يدخل في معنى لفظ الرب. والشواهد على هذا في القرآن كثيرة ناطقة بأنهم كانوا يعتقدون ويقولون إن خالق السماوات والأرض ومدبر أمورهما هو الله تعالى وإن آلهتهم ليس لها من أمر الخلق والتدبير شيء، وإن شركهم لأجل التقرب إليه تعالى وابتغاء الشفاعة عنده بعبادة ما عبدوه، ولذلك كانوا يقولون في طوافهم : لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك ولذلك يحتج القرآن عليهم في مواضع بأن غير الخالق المدبر لا يصح أن يكون إلها يعبد مطلقا. وهو معنى قول بعض المحققين إنه يحتج بما يعترفون به من توحيد الربوبية، على ما ينكرون من توحيد الإلهية، وإذ كنا بينا هذا مرارا بالشواهد نكتفي بهذا التذكير هنا.
ثم إن عبارة طلاب الأصنام من بني إسرائيل لم تنقل إلينا بنصها في لغتهم فنبحث فيها أخطأ أم صواب، وإنما حكاها الله تعالى لنا بلغة كتابه، فمعناها صحيح قطعا : فإن الإله في هذه اللغة هو المعبود بالذات أو بالواسطة وإن كان مصنوعا، وإنما جهّلهم موسى بطلب عبادة أحد مع الله لا بتسمية ما طلبوا منه صنعه إلها، فإنه هو سمى المعبود المصنوع إلها أيضا في قوله للسامري الذي حكاه الله عنه في سورة طه ﴿ وانظر إلى إلهك الّذي ظلت عليه عاكفا لنحرّقنّه ﴾ [ طه : ٩٧ ] الآية وإنما كان عجل السامري من صنعه- وإن جميع من عبدوا الأصنام من قبلهم ومن بعدهم كانت أصنامهم مجعولة مصنوعة متخذة من هذه المخلوقات كالحجر والخشب والمعدن. أنَسي إمام النظار وصاحب التفسير الكبير ما حكاه الله تعالى من تسمية قوم إبراهيم لأصنامهم بالآلهة ؟ أم نسي ما حكاه الله من حجته عليهم بقوله :﴿ قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ﴾ [ الصافات : ٩٥، ٩٦ ] ومن محاجته إياهم بقوله :﴿ واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظلّ لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرّون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ﴾ [ الشعراء : ٦٩، ٧٠ ] ( سورة الشعراء ) وجملة القول إن هذا القول الذي قاله الرازي من أظهر هفواته الكثيرة بطلانا، وسببه امتلاء دماغه عفا الله عنه بنظريات الكلام وجدل الاصطلاحات الحادثة، وغفلته عن معنى الإله في أصل اللغة وعن آيات القرآن الكثيرة فيه، ومنها قوله تعالى :﴿ قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضّلكم على العالمين ﴾.
قصة موسى مع بني إسرائيل
هذه الآيات وما بعدها شروع في قصة موسى عليه السلام مع قومه بني إسرائيل معطوفة على قصته مع فرعون وقومه على أكمل وجوه العبرة مع السلامة من لغو القصص والتاريخ.
﴿ قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضّلكم على العالمين ﴾ أي قال لهم موسى أأطلب لكم معبودا غير الله رب العالمين وخالق السماوات والأرض وكل شيء والحال أنه فضلكم على العالمين، لما جدد فيكم من التوحيد وهداية الدين، على ملة إبراهيم وسنة المرسلين ؟ فماذا تبغون من عبادة غيره معه أو من دونه ؟ والاستفهام في الآية للإنكار المشرب معنى التعجب، وإنما وهو إنكار ابتغاء إله غير الله المستحق وحده للعبادة لا إنكار تسمية المعبود المصنوع إلها. وأبغي ينصب مفعولين بنفسه كقوله تعالى :﴿ يبغونكم الفتنة ﴾ [ التوبة : ٤٧ ].
بدأ موسى عليه السلام جوابه لقومه بإثبات جهلهم بربهم وبأنفسهم، وثنى ببيان فساد ما طلبوه وكونه عرضة للتبار والزوال، وباطلا في نفسه على كل حال، فلا الطالب على علم وعقل فيما طلب، ولا المطلوب مما يصح أن يطلب، ( ضعف الطالب والمطلوب ) فهذا ملخص معنى الآية السابقة.
ثم انتقل في هذه الآية إلى المطلوب منه جعل الإله لهم – وهو عليه السلام- والمطلوب لأجله هذا الجعل –وهو الله تعالى- وموسى على الحق والله تعالى هو الحق والذي يحق الحق، وبين هذين الحقين وذينك الباطلين غاية المباينة فلذلك كان هذا جوابا مستقلا مباينا لما قبله بحيث لا ينبغي أن يعطف عليه عطفا، ولا أن يعد معه عدا، ولهذا أعاد فيه كلمة " قال " كما سنبينه. وقد قدم فيه ذكر الأهم الأفضل المقصود بالذات من هذين الحقين فقال ( أغير الله ) فغير الله أعم الألفاظ الدالة على المحدثات فهو يشمل أخس المخلوقات وأعجزها من النفع والضر كالأصنام، ويشمل أفضلها وأكلمها كالملائكة والنبيين عليهم السلام، ليثبت أنه لا يوجد مخلوق يستحق العبادة مع الله تعالى وإن علا قدره، وعظم أمره، وإن تجهيلهم بما طلبوا لا لأن المطلوب كالأصنام خسيس وباطل في نفسه، وعرضة للتبار فلا فائدة فيه لغيره، -لا لهذا فقط- بل لأن العبادة لا يصح أن تكون لغير الله تعالى البتة، مهما يكن غيره مكرما عنده، ومفضلا على كثير من خلقه، على أن طلب عبادة الأخس، دليل على منتهى الخسة والجهل، إذ لا شبهة توهم قدرته على الإثابة أو التقريب من الله عز وجل، كشبهة من عبدوا الملائكة وبعض النبيين والصالحين، زاعمين أنهم بكرامتهم عند الله يقربون إليه من قصر به إيمانه وعمله أن يتقرب إليه بنفسه، مع إصراره على خبثه ورجسه، جاهلين أن الله تعالى أمر المشركين والفاسقين، أن يتوبوا أي يرجعوا إليه لا إلى غيره من عباده المكرمين، وأن يدعوه وحده كدعائهم مخلصين له الدين، وإن يخصوه مثلهم بالعبادة والاستعانة وذلك ما فرضه علينا في صلاتنا بقوله :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ [ الفاتحة : ٥ ].
وبعد أن قدم المقصود بالذات من الإنكار وهو جعل غير الله إلها ذكر من أرادوا أن يكون الواسطة في هذا الجعل، الذي دعا إليه ذلك الجهل، وهو نفسه عليه السلام بقوله ﴿ أبغيكم إلها ﴾ ليعلمهم أن طلب هذا الأمر والشيء والمنكر الفظيع منه عليه السلام جهل قيمته، وبمعنى رسالته، وبما رأوه من جهاده لفرعون وقومه، من غير حول ولا قوة له في شخص أخيه ولا في شخصه، بالاتكال على حول الله وقوته، ولولا إرادة إنكار الأمرين معا : طلب إله مع الله، وكونه بجعله عليه السلام –لقال : أغير الله تبغون إلها. كقوله تعالى :﴿ أفغير دين الله يبغون ﴾ [ آل عمران : ٨٣ ].
ثم أيد هذا الإنكار بما يعرفون من آيات الله تعالى فيهم، وهو تفضيلهم على أهل زمانهم، فقد كان أرقى الناس في ذلك العصر فرعون وقومه بما أوتوا من العلم والقوة والحضارة وسعة الملك ومن السيادة على بعض الشعوب، وقد فضل الله بني إسرائيل عليهم، برسالة موسى وهارون منهم، وتجديد ملة إبراهيم فيهم، وإيتائهما من الآيات ما تقدم بيانه وأثره في السياق الذي قبل هذا، وقيل إن المراد تفضيلهم على العالمين مطلقا بكثرة الأنبياء والمرسلين منهم، والأول أظهر، لأنه عليه السلام احتج عليهم بما عرفوا فيبعد أن يراد به تفضيلهم على القرون الأولى وأقوام رسلهم وعلى من سيأتي بعدهم، وحال كل منهما مجهول عنده وعندهم، فقد سأل فرعون موسى عن القرون الأولى فقال ﴿ علمها عند ربي ﴾ والقرون الآخرة بذلك أولى. وأنت إذا قلت لغني أو عالم إنك أغنى أو أعلم الناس، أو لملك : إنك أقوى الملوك، أو في شعب إنه أرقى الشعوب –فإن أحدا لا يفهم من مثل هذا تفضيل من ذكر على غير أهل زمانهم، ولاسيما من يأتي بعدهم، وأهل الحضارة في زماننا يعتقدون أن الأجيال الآتية سيكنون خيرا من هذا الجيل، وكان موسى يعلم أن هداية الدين، سترتقي إلى أن تكمل برسالة خاتم النبيين، ولكنه أوتي هذا العلم بما أوحاه الله إليه في التوراة ولم يكن نزل منها شيء عند طلب بني إسرائيل منه ما ذكر.
قصة موسى مع بني إسرائيل
هذه الآيات وما بعدها شروع في قصة موسى عليه السلام مع قومه بني إسرائيل معطوفة على قصته مع فرعون وقومه على أكمل وجوه العبرة مع السلامة من لغو القصص والتاريخ.
والدليل على أن المراد بتفضيلهم على العالمين ما ذكرنا أنه عطف عليه أعظم مظاهره الحديثة العهد بقوله :﴿ وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتّلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربّكم عظيم ﴾ قرأ ابن عامر ( وإذ نجاكم ) على أنه من مقول موسى عليه السلام قطعا والباقون ( أنجيناكم ) وذكروا فيه احتمالين :
أحدهما : وهو الأظهر والمتبادر أن يكون مسندا إلى الله تعالى متمما لكلام موسى ومبينا للمراد منه على طريقة الالتفات عن الحكاية عنه، ولهذا الالتفات نظائر في التنزيل وفي كلام بلغاء العرب، ومنه قوله تعالى في قصة موسى من سورة طه ﴿ الّذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السّماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتّى ﴾ [ طه : ٢٠ ] الخ فأول الآية من قول موسى في جواب فرعون وقوله " فأخرجنا " التفات عن الحكاية وانتقال إلى كلامه تعالى عن نفسه، خاطب به من أنزل إليهم هذا الوحي من خلقه، تنبيها لهم بتلوين الكلام، وبما في مخاطبة الرب لهم كفاحا من التأثير الخاص، إلى كونه هو المسدي لهذا الإنعام. واقتصر بعض المفسرين على أن المخاطب بهذه القراءة من كان من بني إسرائيل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأفادت قراءة ابن عامر أن موسى قالها لقومه في ذلك الوقت، وأفادت قراءة الآخرين أن محمدا صلى الله عليه وسلم ذكر بها قوم موسى في زمنه كما تقدم في سورة البقرة وهذه فائدة الجمع بين القراءتين وهي من إعجاز إيجاز القرآن.
الثاني : أن قراءة الالتفات من جملة الحكاية عن موسى عليه السلام أسند الإنجاء فيها إلى الله تعالى مع حذف القول للعلم به من القرينة أو بدونه أو إلى نفسه وحده أو مع أخيه للإشارة إلى جعله تعالى هذا الإنجاء بسبب رسالتهما وتأييده تعالى لهما بتلك الآيات.
والمعنى واذكروا إذا أنجاكم الله تعالى بفضله –أو إذا أنجيناكم بإرساله تعالى إيانا لأجل ذلك ومما أيدنا به من الآيات –من آل فرعون حال كونهم يسومونكم سوء العذاب بجعلكم عبيدا مسخرين لخدمتهم كالبهائم فلا يعدونكم منهم، وخص بالذكر من هذا العذاب شر أنواعه بقوله : يقتلون ما يولد لكم من الذكور –ويستبقون نساءكم بترك الإناث لكم لتزدادوا ضعفا بكثرتهن- وهذا بدل بعض من كل. وفي ذلكم العذاب والإنجاء منه بفضل الرب الواحد عليكم وتفضيله إياكم على أولئك العالين في الأرض وعلى غيرهم كسكان البلاد المقدسة التي سترثونها بلاء عظيم، أي اختبار لكم من ربكم المنفرد بتربيتكم، وتدبير أموركم ليس وراءه بلاء واختبار، فإن أجدر الناس بالاعتبار والاستفادة من أحداث الزمان، من يعطى النعمة بعد النقمة، وأحق الناس بمعرفة وحدانية الله تعالى وإخلاص العبادة له من يرى من آياته في نفسه وفي الآفاق ما يوقن به أنه لا يمكن أن يكون لغيره شركة فيه، أي فكيف تطلبون بعد هذا كله ممن رأيتم هذه الآيات على يده وليس لها فيها أقل تأثير أن يجعل لكم إلها من أخس المخلوقات تجعلونه واسطة بينكم وبين الله تعالى وهو قد فضلكم عليها وعلى عابديها ومن هم أرقى منهم ؟
وقد غفل الشهاب الخفاجي عن كون تفضيلهم على العالمين لم يكن إلا بدعوة التوحيد المؤيد بتلك الآيات، فزعم أن الاحتجاج به خطابي، لا برهان عقلي، واعتذر عن عدم احتجاج موسى ببرهان التمانع بأنه من العوام، وهو لا ينكر أن تلك المعجزات من البراهين القطعية، وإن اختلف المتكلمون في دلالتها هل هي عقلية أو وضعية، ... وغفل أيضا عن كون برهان التمانع إنما يحتج به على المشركين في الربوبية دون العبادة فقط. وقد تعقبه في هذا الألوسي فقال : وفي إقامة برهان التمانع على الوثنيين القائلين ﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] والمجيبين إذا سئلوا : من خلق السماوات والأرض ؟ يخلقهن الله- خفاء، والظاهر إقامته على الثنوية كما لا يخفى اه ووجهه أن الثنوية يقولون بوجود ربين إلهين اشتركا في خلق العالم وتدبير أمره : أحدهما رب النور والخير، والثاني رب الظلمة والشر، ويحتج عليهم بأنه لو كان في العالم خالقان مدبران أو أكثر لامتنع أن يوجد فيه نظام يصلح به أمره إذا فرض جواز وجوده، لأن تعدد المدبرين لأمر الشيء كتعدد الخالقين يقتضي تعدد العلم والإرادة والقدرة التي يكون بها التدبير، والخلق والتقدير، وتعددها يقتضي التغاير والاختلاف فيها وإلا فلا تعدد، وهذا الاختلاف يقتضي التعارض في متعلقاتها بأن يتعلق بعضها بغير ما تعلق به الآخر من ضد ونقيض، وأي فساد في النظام وموجب للاختلال أشد من هذا ؟ وإنما قلنا إذا جاز وجوده لأن الإشارة إلى البرهان في قوله تعالى :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ] قد بني على أن السماوات والأرض موجودتان والنظام فيهما مشاهد بالأبصار والبصائر، وكما يمتنع استقامة النظام وصلاح التدبير الصادر عن علوم وإرادات وقدر مختلفة متعارضة، كذلك يمتنع صدور الكون نفسه عنها بالأولى.
وفي الآية التي قبل الأخيرة من نكت البلاغة أنه أعيد لفظ " قال " في أولها لما أشرنا إليه من أن هذا جواب مستقل لا يشترك مع ما قبله فيعطف عليه، ولا هو معه من قبيل سرد الصفات أو الإعداد التي يطلب فيها الفصل، أي كقوله تعالى :﴿ التّائبون العابدون الحامدون السّائحون الرّاكعون السّاجدون ﴾ [ التوبة : ١١٢ ] الخ وقولهم : الأول كذا- الثاني كذا الخ فلم يبق إلا إعادة " قال " لامتناع الفصل والوصل كليهما بدونها، وأن تكون " قال " مفصولة لا معطوفة لإفادة هذا الاستقلال في الجواب، إذ لا فرق بين عطف القول وعطف الجملة الاستفهامية بدونه في أن كلا منهما يقتضي الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه كما حققه عبد القاهر في دلائل الإعجاز.
ولما كان كل من له ذوق في أساليب هذه اللغة يشعر بأن البدء بهذا الاستفهام هنا بدون " قال " غير مستعذب ولا مستساغ وإن لم يعرف سبب هذا ونكتته –بحث طلاب نكت البلاغة في التفسير عن نكتة هذه الإعادة فلمح بعضهم ما قررناه ولم يتبينه واضعا ليبينه : قال الألوسي : قيل هذا هو الجواب وما قبله تمهيد له ولعله لذلك أعيد لفظ قال اه فنقل هذه النكتة بصيغة التمريض " قيل " إذا كانت أخفى عنده منها عند صاحبها الذي قال : ولعله... فلم يجزم –ثم نقل عن أبي السعود قوله في هذا الجواب : هو شروع في بيان شؤون الله تعالى الموجبة لتخصيص العبادة به سبحانه بعد بيان أن ما طلبوا عبادته مما لا يمكن طلبه أصلا، لكونه هالكا باطلا أصلا، ولذلك وسط بينهما " قال " مع كون كل منهما كلام موسى عليه السلام اه : ثم نقل تعليلا آخر للشهاب وهو : أعيد لفظ قال مع اتحاد ما بين القائلين ( ؟ ) لأن هذا دليل خطابي بتفضيلهم على العالمين ولم يستدل بالتمانع العقلي لأنهم عوام انتهى.
وأقول إن العبارة الأولى أصح وأسلم من هذين القولين المعترضين على أنهما مبنيان على لمح ما لمح صاحبها إذ لو سلم للأول أن الآية في بيان شؤون الله الخ وللثاني أنها دليل خطابي لا برهاني لما كان هذا ولا ذاك مقتضيا لإعادة فعل القول لذاته وإنما العبرة بموقعه وامتناع كل من فصله بدون القول ووصله بالعطف على ما قبله كما علم مما بيناه والحمد لملهم الصواب، وقد بينا بطلان قول الشهاب آنفا، وضعف قول أبي السعود لا يحتاج إلى بيان.
هذه الآيات نزلت في بيان بدء وحي الشريعة لموسى عليه السلام وقد بدأ الوحي المطلق إليه في جانب الطور الأيمن من سيناء منصرفه من مدين إلى مصر، وإنما المذكور هنا بدء وحي كتاب التوراة بعد أن أنجى الله قومه بني إسرائيل من العبودية وجعلهم أمة حرة مستقلة قادرة على القيام بما يشرعه الله لها من العبادات وأحكام المعاملات، والأمة المستعبدة للأجنبي لا تقدر على ذلك، ألم تر أن جميع أحكام المعاملات الدنيوية من شريعتنا المطهرة وأكثر أحكام العبادات لم تشرع إلا بعد الهجرة ؟ وأن الصلاة التي هي عبادة بدنية لما شرعت في مكة كأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي هو ومن آمن به في البيوت سرا اتقاء أذى المشركين الذين كانوا يمنعونهم من الصلاة في المسجد الحرام وقد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم مرة فجاء المشركون بسلا جزور- أي كرش بعير برفثه- فوضعوه عليه وهو ساجد فلم يستطع رفع رأسه حتى جاءت ابنته السيدة فاطمة عليها السلام فألقته عن ظهره ؟ وهمَّ أبو جهل مرة أن يجلس عليه وهو ساجد فكفه الله عنه ؟
قال تعالى :﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلة ﴾ هذا السياق الذي قبله المبدوء بقوله تعالى :﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ﴾ الآيات. قرأ أبو عمرو ويعقوب ( وعدنا ) من الوعد والباقون ( واعدنا ) من المواعدة فقيل إنها هنا بمعنى الوعد وقيل إن فيها معنى صيغة المفاعلة باعتبار أن الله تعالى ضرب لموسى عليه السلام موعدا لمكالمته وإعطائه الألواح المشتملة على أصول الشريعة فقبل ذلك ثم صعد جبل سيناء في أول الموعد وهبط في آخره، وفرق بين الاتفاق على الشيء بين اثنين أو أكثر كالتلاقي في مكان معين أو زمان معين وبين الوعد به من واحد لآخر لا يطلب منه شيء لأجل الوفاء كقولك لآخر سأدعو الله لك في البيت الحرام مثلا – فهذا وعد محض وذاك يحتمل الأمرين باعتبارين كعبارة الآية. والميقات أخص من الوقت فهو الوقت الذي قرر فيه عمل من الأعمال كمواقيت الحج. وفي سورة البقرة ﴿ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ﴾ [ البقرة : ٥١ ] وهو إجمال لما فصل هنا من قبل لأن الأعراف مكية والبقرة مدنية فهي متأخرة عنها في النزول والمراد بالليلة ما يشمل الليل والنهار في عرف العرب عند الإطلاق.
روى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية أن موسى قال لقومه : إن ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلف هارون فيكم، فلما وصل موسى إلى ربه زاده الله عشرا فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله – وذكر قصة عجل السامري- وروى الثاني عن أبي العالية في قوله :﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر ﴾ يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة فمكث على الطور أربعين ليلة وأنزل عليه التوراة في الألواح فقربه الرب نجيا وكلمه وسمع صريف القلم، وبلغنا أنه لم يحدث في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور، وفي معنى هذا روايات أخرى صريحة في أن هذا الزمن ضرب لمناجاة موسى ربه في الجبل منقطعا فيه عن بني إسرائيل، وهو الحق الموافق لما ورد في هذه السورة وغيرها من قصة السامري وعبادة العجل في غيبة موسى ومنه قولهم لهارون ﴿ لن نبرح عليه عاكفين حتّى يرجع إلينا موسى ﴾ [ طه : ٩١ ] وأخرج الديلمي عن ابن عباس رفعه " لما أتى موسى ربه وأراد أن يكلمه بعد الثلاثين يوما وقد صام ليلهن ونهارهن فكره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم فتناول من نبات الأرض فمضغه فقال له ربه : لم أفطرت ؟ وهو أعلم بما كان قال : أي رب، كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح، قال : أو ما علمت يا موسى إن فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك ؟ اذهب فصم عشرة أيام ثم ائتني. ففعل موسى الذي أمره " ربه " وهذا الحديث ضعيف السند ومتنه معارض بما أشرنا إليه من آيات قصة السامري ومن الروايات التي بمعناها.
ويستدل الصوفية بهذه الرواية على أيام خلوتهم التي يصومون أيامها الأربعين لا يفطرون إلا على حبات من الزبيب لما ورد في الأحاديث الصحيحة من النهي عن الوصال في الصيام١، والأولى أن يستأنس بالروايات الصحيحة للتفرغ لذكر الله ومناجاته بالصلاة أربعين يوما وليلة فيجعل مقصدا لا وسيلة.
وهذا ما ورد في التوراة الحاضرة في المسألة من سفر الخروج " ٢٤-١٢ وقال الرب لموسى اصعد إليّ إلى الجبل وكن هناك فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم ١٣- فقام موسى ويشوع خادمه وصعد موسى إلى جبل الله ١٤- وأما الشيوخ فقال لهم : اجلسوا ههنا، وهو ذا هارون وحور معكم، فمن كان صاحب دعوى فليتقدم إليهما ١٥- فصعد موسى إلى الجبل فغطى السحاب الجبل ١٦- وحل مجد الرب على جبل سيناء وغطاه السحاب ستة أيام وفي اليوم السابع دعي موسى من وسط السحاب ١٧- وكان منظر مجد الرب كنار آكلة على رأس الجبل أمام عيون بني إسرائيل، ودخل موسى في وسط السحاب وصعد إلى الجبل، وكان موسى في الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة اه.
وفي الفصل الرابع والثلاثين منه ما نصه أيضا :( ٣٤ : ٢٧ وقال الرب لموسى اكتب لنفسك هذه الكلمات قطعت عهدا معك ومع إسرائيل ٢٨- وكان هناك عند الرب أربعين نهارا أو أربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء، فكتب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر ) اه.
﴿ وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتّبع سبيل المفسدين ﴾ يعني أن موسى لما أراد الذاهب لميقات ربه استخلف عليهم أخاه الكبير هارون عليهما السلام للحكم بينهم والإصلاح فيهم، إذ كانت الرياسة فيهم لموسى وكان هارون وزيره ونصيره ومساعده كما سأل ربه بقوله :﴿ واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري ﴾ [ طه : ٢٩- ٣٢ ] وأوصاه بالإصلاح فيهم وفيما بينهم ونهاه عن اتباع سبيل المفسدين في الأرض.
والإفساد أنواع بعضها جلي وبعضها خفي ومن كل منهما وسيلة ومقصد، فمنها الحرام البين ومنها الذرائع المشتبهات التي يختلف فيها الاجتهاد، ويأخذ التقي فيها بالاحتياط، واتباع سبيل المفسدين يشمل مشاركتهم في أعمالهم، ومساعدتهم عليها، ومعاشرتهم والإقامة معهم في حال اقترافها، ولو بعد العجز عن إرجاعهم عنها، ومن ذلك ما يجوز وقوعه من الأنبياء عليهم السلام فيصح نهيهم عنه تحذيرا من وقوعهم فيه بضرب من الاجتهاد كالذي وقع الاختلاف فيه بين موسى وهارون عليهما السلام في قصة عجل السامري الذي حكاه تعالى عنه في سورة طه بقوله :﴿ قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا * ألّا تتّبعن أفعصيت أمري * قال يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إنّي خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ﴾ [ طه : ٩٢- ٩٤ ] فالرسالة كانت لموسى بالإصالة ولهارون بالتبع ليكون وزيرا لا رئيسا، وموسى هو الذي أعطى الشريعة ( التوراة ) وكان هارون مساعدا له على تنفيذها في بني إسرائيل كما كان مساعدا له على تبليغ فرعون الدعوة وإنقاذ بني إسرائيل.
وقد روى الشيخان وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله وجهه ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ) وذلك أنه استخلفه على المدينة في غزوة تبوك قبل خروجه فقال يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان ؟ فقاله٢. وفي رواية لأحمد أن عليا رضي الله عنه قال : رضيت رضيت، وإنما قال في النساء والصبيان لأنه لم يتخلف عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك غير النساء والصبيان ومن في حكمهم من ضعيف ومريض إلا من استأذن من المنافقين.
قال القاضي عياض في شرحه لمسلم : هذا الحديث مما تعلقت به الروافض والإمامية وسائر فرق الشيعة في أن الخلافة كانت حقا لعلي وأنه أوصى له بها. قال : ثم اختلف هؤلاء فكفرت الروافض سائر الصحابة في تقديمهم غيره وزاد بعضهم فكفر عليا لأنه لم يقم بطلب حقه. وهؤلاء أسخف مذهبا وأفسد عقلا من أن يرد عليهم الخ ما قال. وقد ذكرت هذا من قوله لأذكر القارئ بأن هذين الفريقين لم يقولا ما قالا عن اعتقاد بل كانوا من جمعيات المجوس والسبئيين الذين يبغون الفتنة لإبطال الإسلام وإزالة ملك العرب بالشقاق الديني. وأما الاستخلاف فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف على المدينة بعض الصحابة كلما خرج إلى غزوة ولم يكن يختار أفضلهم لذلك، وفي الحديث من المنقبة لعلي ما هو فوق استخلافه وهو جعله أخا للنبي صلى الله عليه سلم ولا يتضمن ذلك استخلافه بعده صلى الله عليه وسلم لأن هارون مات قبل موسى عليهما السلام قطعا.
٢ أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي باب ٩، والترمذي في المناقب باب ٢٠، وابن ماجه في المقدمة باب ١١، وأحمد في المسند ١/١٧٠، ١٧٧، ١٧٩، ١٨٢، ١٨٤، ١٨٥، ٣/٣٢..
هذه الآيات نزلت في بيان بدء وحي الشريعة لموسى عليه السلام وقد بدأ الوحي المطلق إليه في جانب الطور الأيمن من سيناء منصرفه من مدين إلى مصر، وإنما المذكور هنا بدء وحي كتاب التوراة بعد أن أنجى الله قومه بني إسرائيل من العبودية وجعلهم أمة حرة مستقلة قادرة على القيام بما يشرعه الله لها من العبادات وأحكام المعاملات، والأمة المستعبدة للأجنبي لا تقدر على ذلك، ألم تر أن جميع أحكام المعاملات الدنيوية من شريعتنا المطهرة وأكثر أحكام العبادات لم تشرع إلا بعد الهجرة ؟ وأن الصلاة التي هي عبادة بدنية لما شرعت في مكة كأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي هو ومن آمن به في البيوت سرا اتقاء أذى المشركين الذين كانوا يمنعونهم من الصلاة في المسجد الحرام وقد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم مرة فجاء المشركون بسلا جزور- أي كرش بعير برفثه- فوضعوه عليه وهو ساجد فلم يستطع رفع رأسه حتى جاءت ابنته السيدة فاطمة عليها السلام فألقته عن ظهره ؟ وهمَّ أبو جهل مرة أن يجلس عليه وهو ساجد فكفه الله عنه ؟
﴿ ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك ﴾ أي ولما جاء موسى للميقات الذي وقتناه له للكلام وإعطاء الشريعة وكلمه ربه عز وجل من وراء حجاب بغير واسطة الملك استشرفت نفسه الزكية العالية للجمع بين فضيلتي الكلام والرؤية فقال : رب أرني ذاتك المقدسة بأن تجعل لي من القوة على حمل تجليك ما أقدر به على النظر إليك ورؤيتك وكمال المعرفة بك بالقدر الممكن أي دون ما هو فوق إمكان المخلوقين من الإدراك والإحاطة المنفي بقوله تعالى :﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ﴾ [ الأنعام : ١٠٣ ] فيراجع تفسير هذه الآية من سورة الأنعام ( ج ٧ تفسير ).
﴿ قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني ﴾ أي إنك لا تراني الآن، ولا فيما تستقبل من الزمان، ثم استدرك تبارك وتعالى على ذلك بما يدل على تعليل النفي، ويخفف عن موسى شدة وطأة الرد، بإعلامه ما لم يكن يعلم من سنته، وهو أنه لا يقوى شيء في هذا الكون على رؤيته كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى عن مسلم ( حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) ١ فقال : ولكن انظر إلى الجبل فإنني سأتجلى له فإن ثبت لدى التجلي وبقي مستقرا في مكانه فسوف تراني، لمشاركتك له في مادة هذا العالم الفاني، وإذا كان الجبل في قوته ورسوخه لا يثبت ولا يستقر لهذا التجلي لعدم استعداد مادته لقوة تجلي خالقه وخالق كل شيء فاعلم أنك لن تراني أيضا وأنت مشارك له في كونك مخلوقا من هذه المادة وخاضعا للسنن الربانية في قوتها وضعف استعدادها ﴿ وخلق الإنسان ضعيفا ﴾ [ النساء : ٢٨ ] وقبولها للفناء.
روى عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة قال : لما سمع الكلام طمع في الرؤية وروى أبو الشيخ عن ابن عباس قال حين قال موسى لربه تبارك وتعالى :﴿ أرني أنظر إليك قال ﴾ له يا موسى إنك ( لن تراني ) قال يقول ليس تراني، لا يكون ذلك أبدا، يا موسى إنه لن يراني أحد فيحيا، قال موسى رب أنا أراك ثم أموت أحب إلي من أن لا أراك ثم أحيا. فقال الله يا موسى ( انظر إلى الجبل ) العظيم الطويل الشديد ( فإن استقر مكانه ) يقول فإن ثبت مكانه لم يتضعضع ولم ينهد لبعض ما يرى من عظمى ( فسوف تراني ) أنت لضعفك وذلتك، وإن الجبل تضعضع وانهد بقوته وشدته وعظمه فأنت أضعف وأذل اه.
﴿ فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّا وخرّ موسى صعقا ﴾ يقال جلا الشيء والأمر وانجلى وتجلى بنفسه أو بغيره وجلاه فتجلى- إذا انكشف وظهر ووضح بعد خفاء في نفسه ذاتي أو إضافي أو خفاء على مجتليه وطالبه. ويكون ذلك التجلي والظهور بالذات وبغير الذات من صفة أو فعل يزول به اللبس والخفاء، وفي صيغة التجلي ما ليس في صيغة الجلاء والانجلاء من معنى التدريج والكثرة النوعية أو الشخصية قال تعالى :﴿ والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ﴾ [ الليل : ١، ٢ ] فالليل يغشى النهار ويستره ثم يتجلى النهار ويظهر بالتدريج وفي الأحاديث إن للرب تعالى تجليات مختلفة كما سيأتي.
والدك الدق أو ضرب منه. قال في الأساس : دككته دققته، ودك الركية كبسها، وحمل أدك وناقة دكاء : لا سنام لهما، واندك السنام : افترش على الظهر ونزلنا بدكداك : رمل متلبد بالأرض اه. وأقول : إن الفرق بين الدق والدك كما يؤخذ من استعمال العالم الموروث عن العرب أن الدق ما يخبط به الشيء ليتفتت ويكون أجزاء دقيقة ومنه الدقيق. وكان القمح في عصور البداوة الأولى يدق بالحجارة فيكون دقيقا ثم اهتدوا إلى الأرحية التي تسحقه وتطحنه. وأما الدك فهو الهدم والخبط الذي يكون به الشيء المدكوك ملبدا ومستويا، يقال أرض مدكوكة وطريق مدكوكة، ودك الحفرة والركية ( أي البئر غير المطوية ) دفنها وطمها ولا تزال سلائل العرب تستعمل هذه المادة بهذا المعنى ويسمون ما يوضع في الحفرة أو الركية من الحصا والحصباء لأجل تسويتها " الدكة ". قرأ حمزة والكسائي ( جعله دكاء ) بالمد والتشديد غير منون أي أرضا مستوية كالناقة التي لا سنام لها والجمهور ( جعله دكا ) بالمصدر أي مدكوكاً دكاً، ومثله في السد من سورة الكهف.
والخرور والخر السقوط من علو والانكباب على الأرض ومنه ﴿ يخرون للأذقان سجدا ﴾ [ الإسراء : ١٠٧ ] والصعق بكسر العين صفة من الصعق وهو ما يكون من تأثير نزول الصاعقة من موت أو إغماء ثم توسع فيه بإطلاقه على ما يشبه ذلك. قال الفيومي في المصباح : صعق صعقا من باب تعب : مات، وصعق غشي عليه لصوت سمعه، والصعقة الأولى النفخة، والصاعقة النازلة من الرعد، والجمع صواعق، ولا تصيب شيئا إلا دكته وأحرقته اه.
وأحسن ما ورد في التفسير المأثور لهذه الآية مطابقا لمتن اللغة ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الرؤية عن ابن عباس ﴿ فلما تجلى ربه للجبل ﴾ قال : ما تجلى منه إلا قدر الخنصر ( جعله دكا ) قال ترابا ( وخر موسى صعقا ) قال مغشيا عليه اه وما رواه ابن المنذر عن عكرمة أنه – أي الجبل- كان حجرا أصم فلما تجلى له صار تلا ترابا دكا من الدكاوات –أي مستويا بالأرض. ولولا ذلك لجاز أن يقال إن صيرورته ترابا وإن كان بمعنى الدكاء والمدكوك لا ينافي استقرار الجبل مكانه وقد ورد في بعض الآثار والأحاديث المرفوعة أيضا أنه ساخ أي غاص في الأرض، وهو يتفق مع المعنى الأول، أي أنه رج بالتجلي رجا، بست بها حجارته بساً، وساخ في الأرض كله أو بعضه في أثناء ذلك حتى صار كما قال بعضهم ربوة دكاء كالرمل المتلبد.
والمعنى فلما تجلى ربه للجبل أقل التجلي وأدناه انهدَّ وهبط من شدته وعظمته وصار كالأرض المدكوكة أو الناقة الدكاء –وسقط موسى على وجهه مغشيا عليه كمن أخذته الصاعقة، والتجلي إنما كان للجبل دونه فكيف لو كان له ؟
وقد روي في تفسير هذه الآيات من الأخبار والآثار الواهية والموضوعة غرائب وعجائب أكثرها من الإسرائيليات. أمثل المرفوع منها ما روي من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ﴾ قال : ووضع الإبهام قريبا من طرف خنصره " فساخ الجبل " وفي لفظ زيادة ( وخر موسى صعقا ) فقال حميد الطويل لثابت : ما تريد إلى هذا ؟ فضرب صدره أي صدر حميد وقال من أنت يا حميد ؟ وما أنت يا حميد ؟ يحدثني أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أنت ما تريد إلى هذا ؟٢ رواه أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه وأبناء جرير والمنذر وأبي حاتم وعدي في الكامل وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الرؤية وقد انفرد به عند مصححيه حماد بن سلمة وهو من رجال مسلم إلا أنه قد تغير حفظه في آخر عمره كما هو معلوم وله طريقان آخران عند داود بن المحبر وابن مردويه لا يصحان كما قال الحافظ ابن كثير. والمراد من التمثيل بالإبهام والخنصر أن ذلك أقل التجلي وأدناه، وسيأتي من الصحيح ما يؤيد معناه.
ومن أنكر هذه الروايات وأوهاها ما روي عن أنس مرفوعا ( لما تجلى الله للجبل طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاث بالمدينة وثلاثة بمكة... ) وذكر أسماءها قال الحافظ ابن كثير وهذا حديث غريب بل منكر. أقول ولا يدخل من ألفاظ الآية ولا معناها في شيء.
﴿ فلمّا أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين ﴾ أي ( فلما أفاق ) موسى من غشيه والتعبير بالإفاقة يدل على صحة تفسير ابن عباس والجمهور للصعق بالغشي وبطلان تفسير قتادة له بالموت وقال به بعض شذاذ الصوفية وادّعوا أنه رأى ربه فمات، أو مات ثم رأى ربه، ولو مات لقال تعالى :( فلما بعث ) الخ قال في السبعين الذين اختارهم من قومه وذهبوا معه إلى الجبل وطلبوا منه أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فإنه قال :﴿ ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون ﴾ [ البقرة : ٥٦ ] كما في سورة البقرة، وسيأتي خبرهم في هذه القصة من هذه السورة- ( قال سبحانك ) أي تنزيها لك وتقديسا عما لا ينبغي في شأنك مما سألتك أو من لوازمه- أو كما حكى تعالى عن نوح عليه السلام ﴿ أن أسألك ما ليس لي به علم ﴾ [ هود : ٤٧ ] وأكثر مفسري أهل السنة يجعلون وجه التنزيه والتوبة أنه سأل الرؤية بغير إذن من الله تعالى ونفي العلم إنما يصح عندهم بمعنى إن ما سأله غير ممكن أو غير واقع في هذه الحياة الدنيا، لا أنه غير ممكن في نفسه وغير واقع البتة ولا في الآخرة. ومعنى التوبة الرجوع والمراد هنا الرجوع عما طلب، إلى الوقوف مع الرب تعالى عند منتهى حدود الأدب.
قال مجاهد ( تبت إليك ) أن أسألك الرؤية ( وأنا أول المؤمنين ) قال ابن عباس ومجاهد : أي من بني إسرائيل، في رواية أخرى عن ابن عباس : وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك أحد، ذكرهما الحافظ ابن كثير وقال : وكذا قال أبو العالية : قد كان قبله مؤمنون ولكن يقول أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة. قال : وهذا قول حسن له اتجاه. وقد ذكر محمد بن جرير في تفسيره هاهنا أثرا طويلا فيه غرائب وعجائب عن محمد بن إسحاق بن يسار وكأنه تلقاه من الإسرائيليات والله أعلم اه.
خلاصة معنى الآية أن موسى عليه السلام لما نال فضيلة تكليم الله تعالى له بدون واسطة فسمع ما لم يكن يسمع قبل ذلك وهو من الغيب الذي لا شبه له ولا نظير في هذا العالم طلب من الرب تبارك وتعالى أن يمنحه شرف رؤيته وهو يعلم حتما أنه تعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته التي منها كلامه عز وجل فكما أنه سمع كلاما ليس كمثله كلام بتخصيص رباني –استشرف لرؤية ذات ليس كمثلها شيء من الذوات، كما فهم من ترتيب السؤال على التكليم، فلم يكن عقل موسى- وهو في الذروة العليا من العقول البشرية بدليلي العقل والنقل- مانعا له من هذا الطلب، ولم يكن دينه وعلمه بالله تعالى وهما في الذروة العليا أيضا مانعين له منه. ولكن الله تعالى قال له :﴿ لن تراني ﴾ ولكي يخفف عليه ألم الرد وهو كليمه الذي قال له في أول العهد بالوحي إليه ﴿ واصطنعتك لنفسي ﴾ أراه بعينيه ومجموع إدراكه من تجليه للجبل بما لا يعلمه سواه أن المانع من جهته هو لا من جانب الجود الرباني، فنزه الله وسبحه وتاب إليه من هذا الطلب، فبشره الله تعالى بأنه اصطفاه على الناس برسالته وبكلامه أي دون رؤيته، وأمره بأن يأخذ ما أعطاه، ويكون من الشاكرين له.
في اختلاف المسلمين في الرؤية وكلام الرب تعالى وتحقيق الحق فيهما
كان جماعة الصحابة رضوان الله عليهم يفهمون هذه الآيات وأمثالها ولا يرون فيها إشكالا وهم أعلم العرب بلغة القرآن وبمراد الله تعالى من آياته فيه لتلقيهم إياها من الرسول المنزلة عليه المأمور فيها ببيانها للناس، ثم انتشر الإسلام ودخل فيه من الأعاجم من كانوا على أديان مختلفة وصاروا يتلقون لغته بالتلقين ويقتبسونها بمعاشرة العرب الخلص ثم بالتعليم الفني، ثم صارت السلائل العربية كذلك. ثم حدثت في الجميع الاصطلاحات العلمية والفنية لما وضعوا من العلوم الشرعية كأصول العقائد والفقه والحديث واللغوية كالنحو والصرف والبيان، ولما ترجموا من كتب علوم الأوائل وما زادوا فيها من الرياضيات والعقليات والوجدانيات وسائر سنن الموجودات، فامتزجت هذه الاصطلاحات بلغة القرآن والحديث فصارت آلات لفهمها، وسببا للخطأ في تعيين بعض المراد منها.
ثم حدث ما هو أدعى إلى الخطأ في الفهم وهو عصبية المذاهب والشيع التي فرقت بين المسلمين، على ما جاء في التفرق والتفريق من الوعيد الشديد، فصار كل منتم إلى شيعة وحزب لا ينظر في الكتاب والسنة إلا بالمنظار المعبر عنه بمذهب الحزب، وإن كان من أهل النظر والاستدلال، ومدعي الاجتهاد والاستقلال، والبداهة قاضية بالتضاد بين التقيد بالمذهب، والاستقلال الصحيح المسمى عندهم بالاجتهاد المطلق.
وهنالك سبب آخر وهو حشر الإسرائيليات والروايات الموضوعة والواهية في تفسير القرآن وكتب السنة وتقاصر الأكثرين عن تمحيصها، والتمييز بين حقها وباطلها، حتى أن بعض الإسرائيليات قد اشتبه بالأحاديث المرفوعة كما بينه بعض نقاد الحفاظ ومنهم ابن كثير في تفسيره.
فبهذه الأسباب أبطلوا مزية كتاب الله وخاصيته في رفع الخلاف والتفرق المفسديْن لأمر الملة والأمة اتباعا لسنن من قبلهم وهم لا يشعرون، لأنهم جعلوه هو موضع الخلاف أيضا، قال تعالى :﴿ كان النّاس أمّة واحدة فبعث اللّه النّبيّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلّا الّذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغيا بينهم ﴾ [ البقرة : ٢١٣ ] الآية. وقال تعالى :﴿ وما تفرّق الّذين أوتوا الكتاب إلّا من بعد ما جاءتهم البيّنة ﴾ [ البينة : ٩٨ : ٤ ] وقال تعالى :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى اللّه والرّسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ﴾ [ النساء : ٥٩ ].
فالرد إلى كتاب الله وما بينه من سنة رسوله لإزالة التنازع وحسم الخلاف تفاديا من التفريق والتفرق المنافي لوحدة الدين يتوقف على جعل الكتاب وبيان الرسول له فوق التنازع واختلاف المذاهب والشيع، وإلا كان الدواء عين الداء فإن قيل : إن القرآن ليس موضوع اختلاف بين الشيع والأحزاب المختلفين في المذاهب الإسلامية، فهم مجمعون على أن من رد شيئا منه كان مرتدا عن الإسلام – إن كان قد عد من أهله – وإنما الاختلاف في فهمه، وأما السنة فاختلفوا في رواية بعضها وفي فهم بعض، ومن صح عنده منها شيء يتعلق بأمر الدين وجب الأخذ به في كل مذهب من المذاهب التي يعتمد بإسلام أهلها. والاختلاف في فهم ما كان غير قطعي الدلالة ضروري لا يتناوله مثل قوله تعالى :﴿ ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾ [ آل عمران : ١٠٥ ].
ونجيب عن هذا – أولا- بأنهم إنما كانوا كذلك في ذلك قبل الفتن وعصبية المذاهب وأما بعدها فقد صرح بعض كبار فقهاء الحنفية بأن الأصل عندهم في كل حكم كلام أصحابهم فإن وجدوا آية تخالفه ( ! ! ) التمسوا لها ناسخا فإن لم يجدوا أوّلوها، وإن وجدوا حديثا مخالفا له ( ! ! ) بحثوا في إسناده فإن وجدوا فيه مطعنا نبذوه وإلا فعلوا في التفصي منه ما يفعلون في التفصي من القرآن ( ! ! ) وقد جرى على ذلك أهل كل مذهب إلا أفرادا من كبار النظار خالفوا المذهب في بعض المسائل الكلامية والأصولية بالدليل، وبعض كبار المحدثين رجحوا بعض الأحاديث الصحيحة الصريحة على المذهب، وإن شئت فراجع بعض الشواهد على ردهم لها في " كتاب أعلام الموقعين " للمحقق ابن القيم.
وثانيا- بأن الله تعالى يكلفهم أن لا يجعلوا ما ليس قطعي الدلالة سببا للتفرق والتعادي وتأليف الأحزاب والشيع التي يلقن أتباع كل منها فهم رجل أو رجال يسمونه مذهبهم ويتعلمون معه الرد على مخالفيهم وتفسيقهم أو تكفيرهم، وبهذا كان الاختلاف ضاراً ومفسداً على المسلمين ومن كان قبلهم من أهل الملل أمور دينهم ودنياهم، وهو المراد بقوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ إنّ الّذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ﴾ [ الأنعام : ١٥٩ ] الآية ولولاه لما كان أولئك العلماء الأعلام من المعتزلة والأشعرية يتنابزون بالألقاب، ويتبارون بالسباب، ويتهاجون بالأشعار، كقول الزمخشري المعتزلي بعد تفسيره لآية الأعراف التي نحن بصدد تفسيرها : ثم تعجب من المتَّسِمين بالإسلام، المتَسَمِّين بأهل السنة والجماعة، كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا ؟ ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة، فإنه من منصوبات أشياخهم- يعني بالبلكفة قولهم أنه تعالى يرى بلا كيف أي إن رؤيته ليست كرؤية أهل الدنيا بعضهم لبعض فيما يلزمها من كون المرئي جسما كثيفا تحيط به أشعة البصر – ثم قال : والقوم ما قال بعض العدلية فيهم :
وجماعة سموا هواهم سنة | لجماعة حمر لعمري موكفه |
قد شبهوه بخلقه وتخوفـوا | شنع الورى فتستروا بالبلكفه |
ولو أن الزمخشري وشاعر العدلية لم يقولا ما قالا من الطعن والهجو في أهل السنة بأن اكتفى الزمخشري في تأويل أحاديث الرؤية بما أولها به من كون الرؤية فيها عبارة عن كمال المعرفة الجلية لما جوزيا على ذلك بمثل ذنبهما أو أكثر كما قال أحمد بن المنير الإسكندري في ( الانتصاف ) حاشيته على الكشاف :
وجماعة كفروا برؤية ربهم | حقا ووعد الله ما لن يخلفه |
وتلقبوا عـدلية، قلنا أجـل | عدلـوا بربهم فحسبهم سفه |
وتلقبوا الناجين، كلا إنـهم | إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه |
فالحق الواقع أن المختلفين في فهم النصوص من المسلمين الصادقين يؤمنون بها ويعظمونها ولكن غلب على قوم ترجيح جانب التنزيه حتى انتهى ببعضهم إلى التعطيل، وجعل صفات الرب تعالى سلبية بضروب من التأويل، وغلب على قوم جانب الأخذ بالظاهر في ذلك حتى وقع بعضهم في التشبيه فعلا، كأن الكتاب والسنة خلو من المجاز والكناية في ذلك مع العلم بأن ما عدا اسم الجلالة من ألفاظ اللغة قد وضع قبل نزول القرآن للتعبير به عن المخلوقات وشؤونها، فالفريقان أرادا تعظيم الرب تعالى وسدّ ذريعة القول في ذاته وصفاته بغير الحق الذي يرضيه، هؤلاء خافوا التعطيل برد شيء من النصوص أو تحكم الأهواء في تأويلها- وأولئك خافوا الوقوع في تشبيه الرب سبحانه بخلقه، وسد ذريعة ما يعد نقصا في حقه.
فالنية كانت حسنة من الجانبين كما قال شيخنا الشيخ حسين الجسر الطرابلسي رحمه الله تعالى في درسه عند قراءة شرحي السنوسية والجوهرة ولكن الذين ضلوا بالتأويل والتعطيل كثيرون حتى خرجت به عدة فرق من الملة بعضهم باطنا وظاهرا وبعضهم باطنا لا ظاهرا كالباطنية الذين تركوا أركان الإسلام، من صلاة وزكاة وحج وصيام، زاعمين أن لها معاني غير ما عمل به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأجمع عليه المسلمون، وكغلاة الصوفية الذين ذهبوا في التأويل إلى ما وراء طور العقل والنقل وأساليب اللغة، فادعوا أنهم يرون الله تعالى عيانا في جميع الصور، ويتلقون عنه كالأنبياء، وأن فيهم من هم أفضل من الأنبياء وأعلم بالله تعالى، ومنهم من ادعى رفع التكليف عمن بلغ مقاماتهم في المعرفة، بل منهم من غلا في وحدة الوجود إلى ادعاء الربوبية للبشر والبقر، والحجر والمدر، وما يستحي أو يتنزه قلم المتدين الأديب عن ذكره- وإلى عدم التفرقة بين موحد ومشرك، ومؤمن وكافر، وبر وفاجر وعادل وحائر، وطيب وخبيث، ولا بين نافع وضار، وطهور ورجس. ويستدلون على عقائدهم أو مزاعمهم بالآيات والأحاديث، بضروب من التأويل، وقد قال بعضهم :
عقد الخلائق في الإله عقائدا | وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه |
٢ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٧، باب ١، وأحمد في المسند ٣/٢٠٩..
هذه الآيات نزلت في بيان بدء وحي الشريعة لموسى عليه السلام وقد بدأ الوحي المطلق إليه في جانب الطور الأيمن من سيناء منصرفه من مدين إلى مصر، وإنما المذكور هنا بدء وحي كتاب التوراة بعد أن أنجى الله قومه بني إسرائيل من العبودية وجعلهم أمة حرة مستقلة قادرة على القيام بما يشرعه الله لها من العبادات وأحكام المعاملات، والأمة المستعبدة للأجنبي لا تقدر على ذلك، ألم تر أن جميع أحكام المعاملات الدنيوية من شريعتنا المطهرة وأكثر أحكام العبادات لم تشرع إلا بعد الهجرة ؟ وأن الصلاة التي هي عبادة بدنية لما شرعت في مكة كأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي هو ومن آمن به في البيوت سرا اتقاء أذى المشركين الذين كانوا يمنعونهم من الصلاة في المسجد الحرام وقد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم مرة فجاء المشركون بسلا جزور- أي كرش بعير برفثه- فوضعوه عليه وهو ساجد فلم يستطع رفع رأسه حتى جاءت ابنته السيدة فاطمة عليها السلام فألقته عن ظهره ؟ وهمَّ أبو جهل مرة أن يجلس عليه وهو ساجد فكفه الله عنه ؟
﴿ قال يا موسى إنّي اصطفيتك على النّاس برسالاتي وبكلامي ﴾ الاصطفاء اختيار صفوة الشيء وصفوه أي خالصه الذي لا شائبة فيه، ومنه الصفّي من الغنيمة وهو ما يصطفيه الإمام أو القائد الأكبر منها ويختاره لنفسه كاختيار النبي صلى الله عليه وسلم السيف المعروف بذي الفقار من غنائم غزوة بدر. وتعدية الاصطفاء هنا بعلى لتضمنه معنى التفضيل، فالمعنى إني اصطفيتك مفضلاً إياك على الناس من أهل زمانك بالرسالة، قرأ ابن بشير ونافع " برسالتي " والباقون برسالاتي، فإفرادها بمعنى الاسم من الإرسال وجمعها باعتبار تعدد ما أرسل به من العقائد والعبادات والأحكام السياسية والحربية والمدنية والشخصية، وقيل بتعدد أسفار التوراة وهو ضعيف لأن التوراة ما أوحاه من الشريعة إلى موسى وهو موضوع رسالته وتسمية الأسفار الخمسة بالتوراة اصطلاحية وقد يطلقونها على جميع كتب أنبياء بني إسرائيل قبل عيسى عليهم السلام –واصطفيتك بكلامي أي بتكليمي لك بعد وحي الإلهام من غير توسط ملك وإن كان من وراء حجاب، وهو ما طلب رفعه لتحصيل الرؤية مع الكلام، ووحي الله تعالى ثلاثة أنواع بينها قوله :﴿ وما كان لبشر أن يكلّمه اللّه إلّا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنّه عليّ حكيم ﴾ [ الشورى : ٥١ ] فهذا النوع الأوسط هو الأعلى وقد أعطي لموسى عليه السلام بعد النوع الأول وقيل بالعكس، وقد بينا ما فيه من وجه الخصوصية في تفسير قوله تعالى ﴿ وكلم الله موسى تكليما ﴾ [ النساء : ١٦٤ ] من سورة البقرة.
﴿ فخذ ما آتيتك وكن من الشّاكرين ﴾ أي فخذ ما أعطيتك من الشريعة " التوراة " وكن من الراسخين في الشكر لنعمتي بها عليك وعلى قومك، وذلك بإقامتها بقوة وعزيمة والعمل بها، وكذا لسائر نعمي، فإن حذف متعلق الشكر يدل على عمومه، كما أن صيغة الصفة منه تدل على التمكن منه والرسوخ فيه.
في اختلاف المسلمين في الرؤية وكلام الرب تعالى وتحقيق الحق فيهما
كان جماعة الصحابة رضوان الله عليهم يفهمون هذه الآيات وأمثالها ولا يرون فيها إشكالا وهم أعلم العرب بلغة القرآن وبمراد الله تعالى من آياته فيه لتلقيهم إياها من الرسول المنزلة عليه المأمور فيها ببيانها للناس، ثم انتشر الإسلام ودخل فيه من الأعاجم من كانوا على أديان مختلفة وصاروا يتلقون لغته بالتلقين ويقتبسونها بمعاشرة العرب الخلص ثم بالتعليم الفني، ثم صارت السلائل العربية كذلك. ثم حدثت في الجميع الاصطلاحات العلمية والفنية لما وضعوا من العلوم الشرعية كأصول العقائد والفقه والحديث واللغوية كالنحو والصرف والبيان، ولما ترجموا من كتب علوم الأوائل وما زادوا فيها من الرياضيات والعقليات والوجدانيات وسائر سنن الموجودات، فامتزجت هذه الاصطلاحات بلغة القرآن والحديث فصارت آلات لفهمها، وسببا للخطأ في تعيين بعض المراد منها.
ثم حدث ما هو أدعى إلى الخطأ في الفهم وهو عصبية المذاهب والشيع التي فرقت بين المسلمين، على ما جاء في التفرق والتفريق من الوعيد الشديد، فصار كل منتم إلى شيعة وحزب لا ينظر في الكتاب والسنة إلا بالمنظار المعبر عنه بمذهب الحزب، وإن كان من أهل النظر والاستدلال، ومدعي الاجتهاد والاستقلال، والبداهة قاضية بالتضاد بين التقيد بالمذهب، والاستقلال الصحيح المسمى عندهم بالاجتهاد المطلق.
وهنالك سبب آخر وهو حشر الإسرائيليات والروايات الموضوعة والواهية في تفسير القرآن وكتب السنة وتقاصر الأكثرين عن تمحيصها، والتمييز بين حقها وباطلها، حتى أن بعض الإسرائيليات قد اشتبه بالأحاديث المرفوعة كما بينه بعض نقاد الحفاظ ومنهم ابن كثير في تفسيره.
فبهذه الأسباب أبطلوا مزية كتاب الله وخاصيته في رفع الخلاف والتفرق المفسديْن لأمر الملة والأمة اتباعا لسنن من قبلهم وهم لا يشعرون، لأنهم جعلوه هو موضع الخلاف أيضا، قال تعالى :﴿ كان النّاس أمّة واحدة فبعث اللّه النّبيّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلّا الّذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغيا بينهم ﴾ [ البقرة : ٢١٣ ] الآية. وقال تعالى :﴿ وما تفرّق الّذين أوتوا الكتاب إلّا من بعد ما جاءتهم البيّنة ﴾ [ البينة : ٩٨ : ٤ ] وقال تعالى :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى اللّه والرّسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ﴾ [ النساء : ٥٩ ].
فالرد إلى كتاب الله وما بينه من سنة رسوله لإزالة التنازع وحسم الخلاف تفاديا من التفريق والتفرق المنافي لوحدة الدين يتوقف على جعل الكتاب وبيان الرسول له فوق التنازع واختلاف المذاهب والشيع، وإلا كان الدواء عين الداء فإن قيل : إن القرآن ليس موضوع اختلاف بين الشيع والأحزاب المختلفين في المذاهب الإسلامية، فهم مجمعون على أن من رد شيئا منه كان مرتدا عن الإسلام – إن كان قد عد من أهله – وإنما الاختلاف في فهمه، وأما السنة فاختلفوا في رواية بعضها وفي فهم بعض، ومن صح عنده منها شيء يتعلق بأمر الدين وجب الأخذ به في كل مذهب من المذاهب التي يعتمد بإسلام أهلها. والاختلاف في فهم ما كان غير قطعي الدلالة ضروري لا يتناوله مثل قوله تعالى :﴿ ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾ [ آل عمران : ١٠٥ ].
ونجيب عن هذا – أولا- بأنهم إنما كانوا كذلك في ذلك قبل الفتن وعصبية المذاهب وأما بعدها فقد صرح بعض كبار فقهاء الحنفية بأن الأصل عندهم في كل حكم كلام أصحابهم فإن وجدوا آية تخالفه ( ! ! ) التمسوا لها ناسخا فإن لم يجدوا أوّلوها، وإن وجدوا حديثا مخالفا له ( ! ! ) بحثوا في إسناده فإن وجدوا فيه مطعنا نبذوه وإلا فعلوا في التفصي منه ما يفعلون في التفصي من القرآن ( ! ! ) وقد جرى على ذلك أهل كل مذهب إلا أفرادا من كبار النظار خالفوا المذهب في بعض المسائل الكلامية والأصولية بالدليل، وبعض كبار المحدثين رجحوا بعض الأحاديث الصحيحة الصريحة على المذهب، وإن شئت فراجع بعض الشواهد على ردهم لها في " كتاب أعلام الموقعين " للمحقق ابن القيم.
وثانيا- بأن الله تعالى يكلفهم أن لا يجعلوا ما ليس قطعي الدلالة سببا للتفرق والتعادي وتأليف الأحزاب والشيع التي يلقن أتباع كل منها فهم رجل أو رجال يسمونه مذهبهم ويتعلمون معه الرد على مخالفيهم وتفسيقهم أو تكفيرهم، وبهذا كان الاختلاف ضاراً ومفسداً على المسلمين ومن كان قبلهم من أهل الملل أمور دينهم ودنياهم، وهو المراد بقوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ إنّ الّذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ﴾ [ الأنعام : ١٥٩ ] الآية ولولاه لما كان أولئك العلماء الأعلام من المعتزلة والأشعرية يتنابزون بالألقاب، ويتبارون بالسباب، ويتهاجون بالأشعار، كقول الزمخشري المعتزلي بعد تفسيره لآية الأعراف التي نحن بصدد تفسيرها : ثم تعجب من المتَّسِمين بالإسلام، المتَسَمِّين بأهل السنة والجماعة، كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا ؟ ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة، فإنه من منصوبات أشياخهم- يعني بالبلكفة قولهم أنه تعالى يرى بلا كيف أي إن رؤيته ليست كرؤية أهل الدنيا بعضهم لبعض فيما يلزمها من كون المرئي جسما كثيفا تحيط به أشعة البصر – ثم قال : والقوم ما قال بعض العدلية فيهم :
وجماعة سموا هواهم سنة | لجماعة حمر لعمري موكفه |
قد شبهوه بخلقه وتخوفـوا | شنع الورى فتستروا بالبلكفه |
ولو أن الزمخشري وشاعر العدلية لم يقولا ما قالا من الطعن والهجو في أهل السنة بأن اكتفى الزمخشري في تأويل أحاديث الرؤية بما أولها به من كون الرؤية فيها عبارة عن كمال المعرفة الجلية لما جوزيا على ذلك بمثل ذنبهما أو أكثر كما قال أحمد بن المنير الإسكندري في ( الانتصاف ) حاشيته على الكشاف :
وجماعة كفروا برؤية ربهم | حقا ووعد الله ما لن يخلفه |
وتلقبوا عـدلية، قلنا أجـل | عدلـوا بربهم فحسبهم سفه |
وتلقبوا الناجين، كلا إنـهم | إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه |
فالحق الواقع أن المختلفين في فهم النصوص من المسلمين الصادقين يؤمنون بها ويعظمونها ولكن غلب على قوم ترجيح جانب التنزيه حتى انتهى ببعضهم إلى التعطيل، وجعل صفات الرب تعالى سلبية بضروب من التأويل، وغلب على قوم جانب الأخذ بالظاهر في ذلك حتى وقع بعضهم في التشبيه فعلا، كأن الكتاب والسنة خلو من المجاز والكناية في ذلك مع العلم بأن ما عدا اسم الجلالة من ألفاظ اللغة قد وضع قبل نزول القرآن للتعبير به عن المخلوقات وشؤونها، فالفريقان أرادا تعظيم الرب تعالى وسدّ ذريعة القول في ذاته وصفاته بغير الحق الذي يرضيه، هؤلاء خافوا التعطيل برد شيء من النصوص أو تحكم الأهواء في تأويلها- وأولئك خافوا الوقوع في تشبيه الرب سبحانه بخلقه، وسد ذريعة ما يعد نقصا في حقه.
فالنية كانت حسنة من الجانبين كما قال شيخنا الشيخ حسين الجسر الطرابلسي رحمه الله تعالى في درسه عند قراءة شرحي السنوسية والجوهرة ولكن الذين ضلوا بالتأويل والتعطيل كثيرون حتى خرجت به عدة فرق من الملة بعضهم باطنا وظاهرا وبعضهم باطنا لا ظاهرا كالباطنية الذين تركوا أركان الإسلام، من صلاة وزكاة وحج وصيام، زاعمين أن لها معاني غير ما عمل به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأجمع عليه المسلمون، وكغلاة الصوفية الذين ذهبوا في التأويل إلى ما وراء طور العقل والنقل وأساليب اللغة، فادعوا أنهم يرون الله تعالى عيانا في جميع الصور، ويتلقون عنه كالأنبياء، وأن فيهم من هم أفضل من الأنبياء وأعلم بالله تعالى، ومنهم من ادعى رفع التكليف عمن بلغ مقاماتهم في المعرفة، بل منهم من غلا في وحدة الوجود إلى ادعاء الربوبية للبشر والبقر، والحجر والمدر، وما يستحي أو يتنزه قلم المتدين الأديب عن ذكره- وإلى عدم التفرقة بين موحد ومشرك، ومؤمن وكافر، وبر وفاجر وعادل وحائر، وطيب وخبيث، ولا بين نافع وضار، وطهور ورجس. ويستدلون على عقائدهم أو مزاعمهم بالآيات والأحاديث، بضروب من التأويل، وقد قال بعضهم :
عقد الخلائق في الإله عقائدا | وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه |
هذه الآيات نزلت في بيان بدء وحي الشريعة لموسى عليه السلام وقد بدأ الوحي المطلق إليه في جانب الطور الأيمن من سيناء منصرفه من مدين إلى مصر، وإنما المذكور هنا بدء وحي كتاب التوراة بعد أن أنجى الله قومه بني إسرائيل من العبودية وجعلهم أمة حرة مستقلة قادرة على القيام بما يشرعه الله لها من العبادات وأحكام المعاملات، والأمة المستعبدة للأجنبي لا تقدر على ذلك، ألم تر أن جميع أحكام المعاملات الدنيوية من شريعتنا المطهرة وأكثر أحكام العبادات لم تشرع إلا بعد الهجرة ؟ وأن الصلاة التي هي عبادة بدنية لما شرعت في مكة كأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي هو ومن آمن به في البيوت سرا اتقاء أذى المشركين الذين كانوا يمنعونهم من الصلاة في المسجد الحرام وقد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم مرة فجاء المشركون بسلا جزور- أي كرش بعير برفثه- فوضعوه عليه وهو ساجد فلم يستطع رفع رأسه حتى جاءت ابنته السيدة فاطمة عليها السلام فألقته عن ظهره ؟ وهمَّ أبو جهل مرة أن يجلس عليه وهو ساجد فكفه الله عنه ؟
تتمة السياق في الرؤية والكلام.
أخبرنا الله تعالى في الآيات السابقة بأنه منع موسى رؤيته يعني في الدنيا وبشره بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالته وبكلامه، ثم أخبرنا فيها بما آتاه يومئذ بالإجمال فقال ﴿ وكتبنا له في الألواح من كلّ شيء موعظة وتفصيلا لكلّ شيء ﴾ أي إننا أعطيناه ألواحا كتبنا له فيها من كل نوع من أنواع الهداية موعظة من شأنها أن تؤثر في القلوب ترغيبا وترهيبا- وتفصيلا لكل نوع من أصول التشريع وهي أصول العقائد والآداب وأحكام الحلال والحرام، وتفصيلها ذكرها معدودة مفصولا بعضها من بعض. وإسناد الكتابة إليه تعالى إما على معنى أن ذلك كان بقدرته تعالى وصنعه لا كسب لأحد فيه، وإما على معنى أنها كتبت بأمره ووحيه سواء كان الكاتب لها موسى أو الملك ( عليهما السلام ). قال بعض المفسرين إن الألواح كانت مشتملة على التوراة وقال بعضهم بل كانت قبل التوراة. والراجح أنها كانت أول ما أوتيه من وحي التشريع فكانت أصل التوراة الإجمالي، وكانت سائر الأحكام التفصيلية من العبادات والمعاملات الحربية والمدنية والعقوبات تنزل عليه ويخاطبه الرب تعالى بها في أوقات الحاجة إليها كالقرآن. واختلفوا في عدد الألواح فقيل كانت عشرة وقيل سبعة وقيل اثنين، قال الزجاج يجوز أن يقال في اللغة للوحين ألواح. وهذا كل ما يصح أن يذكر من خلافهم فيها.
وأما تلك الروايات الكثيرة في جوهرها ومقدارها وطولها وعرضها وكتابتها وما كتب فيها فكلها من الإسرائيليات الباطلة التي بثها في المسلمين أمثال كعب الأحبار ووهب بن منبه، فاغتر بها بعض الصحابة والتابعين إن صحت الروايات عنهم وقد لخص السيوطي منها في الدر المنثور ثلاث ورقات- أي ست صفحات- واسعات من القطع الكبير، وليس منها شيء يصح أن يسمى درة، وإن كان منها أن الألواح من الياقوت أو من الزمرد أو من الزبرجد كما أن منها أنها من الحجر ومن الخشب. وقد أعجبني من الحافظ ابن كثير أنه لم يذكر من تلك الروايات شيئا على سعة اطلاعه، وقد تبع في هذا عمدته في التفسير ابن جرير رحمهما الله تعالى، ولكن ذكر بعضها الألوسي من المتأخرين تبعا لغيره كرواية الطبراني والبيهقي في الدلائل عن محمد بن يزيد الثقفي قال : اصطحب قيس بن خرشة وكعب الأحبار حتى إذا بلغا صفين وقف كعب ثم نظر ساعة ثم قال : ليراقن بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لا يراق ببقعة من الأرض مثله. فقال قيس : ما يدريك ؟ فإن هذا من الغيب الذي استأثر الله به، فقال كعب ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة التي أنزل الله على موسى ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة. واستدل به الألوسي على أن قوله تعالى :﴿ من كل شيء ﴾ على أوسع ما يحمله اللفظ من العموم وأنا أظن أن هذا القول موضوع على كعب وإن كنت أخالف الجمهور في مسألة تعديله، وتأول الألوسي له هذا القول الظاهر بطلانه بالبداهة بقوله : ولعل ذلك من باب الرمز كما ندعيه في القرآن اه.
وما ذكرت هذا إلا للتعجيب من فتنة هذه الروايات الباطلة إلى أي حد وأي زمن وصل تأثيرها السيء، حتى أن هذا النقادة قد اغتر بمثل هذا منها وتأويله بما هو باطل مثله، فإنه لم يصح عن أحد من أئمة المسلمين الذين يعتد بعلمهم بكتاب الله تعالى أنه ليس في العالم أو في الأرض شبر إلا وقد كتب فيه ( أي القرآن ) ما يقع فيه وما يخرج منه، وإنما قال مثل هذا بعض المجازفين والخياليين من الصوفية على أنه من الكشف الذي يدعونه. راجع تفسير ﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ] ( في ج٧ تفسير ).
هذا وأما ما ورد في التوراة الحاضرة في شأن الألواح فمنه ما جاء في سفر الخروج من ( ٢٣ : ١ ) ( وقال الرب لموسى اصعد إلى الجبل وكن هناك فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعلمهم الكلمات العشر ) وجاء في وصف اللوحين منه ( ٣٢ : ١٥ ) ( ثم انثنى موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده : لوحان مكتوبان على جانبيهما، من هنا ومن هناك كانا مكتوبين واللوحان هما صنعة الله والكتابة هي كتابة الله منقوشة على اللوحين ) وفيه أن موسى رمى باللوحين من يديه عندما رأى العجل الذي عبده قومه في أيام مناجاته الله تعالى، وفي أول الفصل ( ٤٣ : ١ ) ( ثم قال الرب لموسى انحت لك لوحي حجر كالأولين فاكتب عليهما الكلام الذي كان على الحجرين الأولين اللذين كسرتهما... -٤- فنحت لوحي حجر كالأولين وبكر موسى في الغداة وصعد إلى جبل سيناء كما أمره الرب وأخذ في يده لوحي الحجر ) ويليه أن الرب هبط في الغمام ووقف عنده هناك ومر قدامه ووعده ووصاه وأمره بأوامر ونهاه عن أمور ويلي ذلك ٢٧- ( وقال الرب لموسى اكتب لك هذا الكلام لأني بحسبه عقدت عهدا معك ومع بني إسرائيل ٢٨- وأقام هناك عند الرب أربعين يوما وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء فكتب على اللوحين كلام العهد الكلمات العشر ). وهاهنا يحتمل أن يرجع ضمير " فكتب " إلى الرب تعالى وأن يرجع إلى موسى، ولو لم يرد ما تقدم عن ( ٣٢ : ١٦ ) لكان هذا متعينا بقرينة قول الرب له قبله : اكتب لك هذا الكلام، وله نظائر. وأما الوصايا العشر فقد نقلنا نصها في تفسير ﴿ ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ﴾ [ الأنعام : ١٥٤ ] من سورة الأنعام عقب وصايا القرآن التي هي أجمع وأكمل منها ( ج٨ تفسير ).
ومن هذا الذي نقلناه هنا يعلم ما في تلك الإسرائيليات التي أوردها السيوطي في التفسير المأثور من المخالفة للتوراة، إذ من المعلوم أن ما كان من التحريف اللفظي في التوراة من نقص وزيادة وغلط قد كان قبل الإسلام، ولم يكن بعده إلا التحريف المعنوي- فما في تلك الروايات من تعيين جوهر الألواح ومساحتها وكتابتها وما كتب فيها من وصف أمة محمد صلى الله عليه وسلم وغيره مما يخالف هذه التوراة فهو باطل أراد به واضعوه أن يذكر المسلمون في تفسير القرآن وغيره من كتبهم ما يصد اليهود وغيرهم عن الإسلام، بأن دعوته مبنية على الكذب والبهتان، ولم يدر أولئك الذين كانوا يكتبون كل ما يسمعون شيئا من هذا الكيد والمكر اليهودي، ونحمد الله أنه لم يرج منه على جهابذة نقد الحديث إلا القليل.
وأما قوله تعالى :﴿ فخذها بقوّة ﴾ فهو مقول قول مقدر لأنه أمر لموسى والخطاب قبله للنبي الخاتم عليهما الصلاة والسلام- والمعنى كتبنا له في الألواح ما ذكر وقلنا له : خذها بقوة- أو وقلنا له هذه رسالتنا أو وصايانا وأصول شريعتنا وكلياتها فخذها بقوة أي حال كونك ملتبسا بجد وعزيمة وحزم، أو أخذا بقوة وعزم، وذلك أن المراد بها تكوين شعب جديد بتربية جديدة شديدة مخالفة كل المخالفة لما نشأ عليه من الذل والعبودية لفرعون وقومه والأنس بما كانوا عليه من الشرك والوثنية ومفاسدها، فإذا لم يكن المتولي تربية هؤلاء القوم والمرشد لهم صاحب عزيمة قوية وبأس شديد وعزم ثابت فإنه يعجز عن سياستهم وتربيتهم، ويفشل في تنفيذ أمر الله فيهم.
﴿ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ﴾ قيل إن ( أحسن ) هنا بمعنى ذي الحسن التام الكامل وليس فيه معنى تفضيل شيء على آخر، وهو ما يعبرون عنه بقولهم : اسم التفضيل على غير بابه- أي وأمر قومك بالاستمساك والاعتصام بهذه الموعظة والأحكام المفصلة في الألواح التي هي كاملة الحسن. وقيل إنه على الأصل فيه من تفضيل بعض المضاف إليه على بعض ومنه الحقيقي والاعتباري والإضافي، فأصول العقائد من الإيمان بالله تعالى وتوحيده وتنزيهه أفضل وأشرف من الأحكام العملية، ولكن لا يصح أن يراد هنا، وقيل إلا إذا أريد بالأخذ الشروع والابتداء- والأوامر أفضل من النواهي ويصح أن تراد في مثل الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن اتخاذ الصور والتماثيل وكلاهما من الوصايا التي كتبت في الألواح وذلك أن الإخلاص لله تعالى في العبادة أمر وجودي يتحلى به العقل وتتزكى به النفس، وترك اتخاذ الصور والتماثيل أمر سلبي محض إذا لم يكن أثرا للإخلاص في العبادة وسدا للذريعة فلا قيمة له، فإنه لم ينه عنه إلا لأنه من ذرائع الشرك، وإلا فقد يتركه المرء لعدم الداعية وإن كان مشركا والفرض أفضل من النقل، ولكن ليس في الوصايا العشر نوافل، ويقال مثله في قولهم، والعزيمة أفضل من الرخصة، ومثل هذا التعبير قوله تعالى :﴿ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ﴾ [ الزمر : ٥٥ ] والمجال فيه أوسع فإن القرآن أحسن ما أنزله الله تعالى إلى خلقه على ألسنة رسله بإكماله تعالى الدين وبغير ذلك من مزاياه، والخطاب فيه لأمة الدعوة أي للناس كافة لأنه معطوف على قوله :﴿ وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ﴾ [ الزمر : ٥٤ ] ثم إن فيما أنزله فيه العزيمة والرخصة وفيه من الندب ما هو أفضل من مقابله كالصدقة بالدين بدل إنظار المعسر به وهو واجب وكالعفو في مقابلة القصاص.
وقوله تعالى :﴿ سأوريكم دار الفاسقين ﴾ من حكاية خطابه لقوم موسى بالتبع له إذ وجه الأمر فيما قبله إليه وإليهم، فهو داخل في مقول القول الذي خوطب به نبينا صلى الله عليه وسلم من قصتهم، والجملة استئناف لبيان عاقبة الذين فسقوا عن أمر الله وجحدوا بآياته فلم يأخذوا بأحسنها، كأنه يقول إن لم تأخذوا ما أتيناكم بقوة وتتبعوا أحسنه كنتم فاسقين عن أمر ربكم فيحل بكم ما حل بالفاسقين من قوم فرعون الذين أنجاكم الله منهم ونصركم عليهم وسيريكم ما حل بهم بعدكم من الغرق، أو الفاسقين من سكان البلاد المقدسة والمباركة التي وعدكم إياها وسينصركم عليهم بطاعتكم له وأخذكم ميثاقه بقوة.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيرها : أي سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب. وقال ابن جرير وإنما قال :﴿ سأريكم دار الفاسقين ﴾ كما يقول القائل لمن يخاطبه : سأريك غدا ما يصير إليه حال من خالفني –على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره. ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد والحسن البصري. وقيل معناه سأريكم دار الفاسقين أي من أهل الشام وأعطيكم إياها، وقيل منازل قوم فرعون. والأول أولى والله أعلم، لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر، وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه، والله أعلم اه.
ومن مباحث رسم المصحف الإمام أن كلمة ( سأريكم ) زيد فيها واو قبل الراء لئلا تشتبه بسأراكم إذ كانوا يرسمونها بالياء غير منطوقة فالمراد بها ضبط الكلمة كالضمة، والله أعلم.
والعبرة التي يجب أن يتذكرها ويتدبرها كل قارئ لهذه الآية من وجوه
أحدها : أن الكتاب الإلهي يجب أخذه بقوة إرادة وجد عزيمة لتنفيذ ما هدى إليه من الإصلاح وتكوين الأمة تكوينا جديدا صالحا، ويتأكد ذلك في الرسول المبلغ له والداعي إليه والمنفذ له بقوله وعلمه، ليكون لقومه فيه أسوة حسنة. وتلك سنة الله تعالى في سائر الانقلابات والتجديدات الاجتماعية والسياسية وإن لم تكن بهداية الدين، والدين أحوج إلى القوة والعزيمة لأنه إصلاح للظاهر والباطن جميعا، وقد أمر الله تعالى بني إسرائيل بما أمر به رسولهم صلى الله عليه وسلم من أخذ الكتاب أو ميثاق الكتاب بقوة أمرا مقرونا بتهديدهم وتخويفهم من وقوع جبل الطور بهم، كما تقدم في سورة البقرة وسيأتي مثله في هذه السورة ( الأعراف ).
وقد أخذ سلفنا القرآن بقوة فسادوا به جميع الأمم التي كان لها من القوى العددية والحربية والنظامية والمالية والصناعية ما ليس لهم، وإنما سادوا بالعمل بهدايته كما أراد الله تعا
انتهى بالآية التي قبل هاتين الآيتين فصل من فصول قصة موسى عليه السلام وهاتان الآيتان استئناف مرتب على جملة ما تقدمه منها، بين الله فيه لخاتم رسله في الأولى منهما سنته في ضلال البشر بعد مجيء البينات في كل زمان ويدخل فيه قوم فرعون من الغابرين دخولا أوليا وينطبق على رؤساء كفار قريش المعاندين له صلى الله عليه وسلم من الحاضرين، وبين في الثانية جزاءهم على تكذيبهم وكفرهم.
قال :
﴿ سأصرف عن آياتي الّذين يتكبّرون في الأرض بغير الحقّ ﴾ هذا بيان لسنته تعالى في تكذيب البشر لدعاة الحق والخير من الرسل وورثتهم وسببه الأول التكبر فإن من شأن الكبر أن يصرف أهله عن النظر والاستدلال على الحق والهدى لأجل اتباعه فهم يكونون دائما من المكذبين بالآيات الدالة عليها الغافلين عنها، وتلك حال الملوك والرؤساء والزعماء الضالين كفرعون وملئه وإنما ذكرت هذه السنة العامة من أخلاق البشر بصيغة المستقبل لإعلام النبي صلى الله عليه وسلم بأن الطاغين المستكبرين من مشيخة قومه لن ينظروا في آيات القرآن الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة من وجوه كثيرة بيناها مرارا، والدالة على وحدانية الله تعالى بما أقامته عليها من البراهين الكثيرة ولا في غيرها مما أيده ويؤيده به من آياته الكونية لتكبرهم في الأرض بالباطل، فوجهة نظرهم تنحصر في تفضيل أنفسهم عليه صلى الله عليه وسلم بأنهم سادة قريش وكبراؤها وأغنياؤها وأقوياؤها فلا يليق بهم أن يتبعوا من هو دنوهم سنا وقوة وثروة وعصبية، والمعنى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق من قومك أيها الرسول ومن غيرهم في كل زمان ومكان كما صرفت فرعون وملأه عن آياتي التي آتيتها رسولي موسى.
- والتكبر صيغة تكلف أو تكثر من الكبر الذي هو غمط الحق بعدم الخضوع له واحتقار الناس، فهو شأن من يرى أنه أكبر من أن يخضع لحق، أو يساوي نفسه بشخص، والأصل الغالب في التكبر أن يكون بغير الحق وقد يتصور أن يتكلف الإنسان إعلاء نفسه على غيره أو إكثاره من الاستعلاء عليه بحق كالترفع عن المبطلين وإهانة الجبارين واحتقار المحاربين. فقوله تعالى ﴿ بغير الحق ﴾ يكون على هذا صلة للتكبر وهو قيد له، وإلا كان بيانا للواقع. أو المعنى أنهم يتكبرون حالة كونهم متلبسين بغير الحق أي منغمسين في الباطل فأمثال هؤلاء لا قيمة للحق في نفسه عندهم فهم لا يبطلونه ولا يبحثون عنه وقد تظهر لهم آياته ويجحدونها وهم بها موقنون، كما قال تعالى في آل فرعون :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوّا ﴾ [ النمل : ١٤ ] وقال في طغاة قريش ﴿ فإنّهم لا يكذّبونك ولكنّ الظّالمين بآيات اللّه يجحدون ﴾ [ الأنعام : ٣٣ ].
﴿ وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها ﴾ هذا إما عطف على جملة ( سأصرف... ) أي سأصرفهم عن آياتي المنزلة والكونية فينصرفون وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها- وأما عطف على ( يتكبرون ) فيكون هو وما بعده بيانا لصفات المتكبرين وأحوالهم وأولها أنهم إن يروا كل آية من الآيات التي تدل على الحق وتثبت وجوده لا يؤمنوا بها فإن كثرة الآيات بتعدد أنواعها وأفرادها إنما تفيد من كان طالبا للحق ولكنه جاهل أو شاك أو سيء الفهم فإذا خفيت عليه دلالة بعضها فقد تظهر له دلالة غيره، وفي هذا إعلام للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الذين يقترحون عليه الآيات من قومه إنما يقصدون التعجيز، لا استبانة الحق بالدليل، فهم إن أجيبوا إلى طلبهم لا يؤمنون، ولهذا نظائر تقدم بعضها في سورة الأنعام مفصلا تفصيلا.
﴿ وإن يروا سبيل الرّشد لا يتّخذوه سبيلا ﴾ الرشد الصلاح والاستقامة وضده الغي وهو الفساد، وفيه ثلاث لغات : ضم أوله وسكون ثانيه وبه قرأ الجمهور هنا- وفتحهما وبها قرأ حمزة والكسائي- والرشاد وقد وردت في سورة المؤمن حكاية عن فرعون ﴿ وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ﴾ [ غافر : ٢٩ ] ومثلها السقم والسقم والسقام –والمعنى أن من صفة هؤلاء الذين مرنوا على الضلال واستمرؤوا مرعى الغي والفساد، أن ينفروا من الهدى والرشاد، فإن رأى أحدهم سبيله واضحة جلية لا يختار لنفسه جعلها سبيلا له بإيثارها وتفضيلها على ما هو عليه، وما كل أحد يصل إلى هذه الدرجة من الغي لأن من الناس من يسلك سبيل الغي على جهل فإذا علم بما تنتهي به إليه من الفساد ورأى لنفسه مخرجا منها تركها، واختار سبيل الرشد عليها.
﴿ وإن يروا سبيل الغيّ يتّخذوه سبيلا ﴾ وهذه الحالة شر مما قبلها فإن هذه إيجابية وتلك سلبية، وبينهما حال أخرى وهي حال من ليس فيه من نور البصيرة وذكاء النفس ما يحمله على سلوك سبيل الرشد إذا رآه لضعف همته، ولكنه يكره الغي والفساد إذ لم يصل من اعتلال الفطرة وظلمة البصيرة إلى تفضيله على الرشد وإيثار سبيله واختيارها لنفسه إذا رآها بحيث لا يصرفه عن الفساد إلا جهل سبيله أو العجز عن سلوكها.
فمن اجتمعت له هذه الأحوال أو الصفات فهو الذي أضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فلم تبق له سبيل من أسباب الحق والرشد يسلكها، وقد علل ذلك سبحانه بقوله :﴿ ذلك بأنّهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ﴾ يعني أن الله تعالى لم يخلقهم مطبوعين على شيء مما ذكر طبعا، ولم يجبرهم ويكرههم عليه إكراها، بل كان ذلك بكسبهم واختيارهم للتكذيب بآياته الدالة على الحق، والصدود عن سبيله الموصلة إلى الرشد، وكانوا غافلين دون أهوائهم لا يعطونها حقها من النظر والتأمل والتفكر والتدبر، لاشتغالهم عن ذلك بأهوائهم، وعصبيتهم لأنفسهم ولآبائهم، وبذلك قطعوا على أنفسهم طريق الهدى، فالغفلة هنا هي الغفلة المطبوعة المانعة من أسباب العلم والفطنة، لا أي نوع من أنواع الغفلة، بل هي المبينة في قوله تعالى من أواخر هذه السورة ﴿ ولقد ذرأنا لجهنّم كثيرا من الجنّ والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ].
الضالون من هؤلاء الغافلين عن آيات الله تعالى وما تهدي إليه من معرفته والاستعداد للحياة الأخرى الباقية هم الذين يقول الله تعالى في وصفهم ﴿ أولئك في ضلال بعيد ﴾ [ إبراهيم : ٣ ] ويقول :﴿ قد ضلوا ضلالا بعيدا ﴾ [ النساء : ١٦٧ ] إذ كان لهم من الانهماك فيما هم فيه والغرور به واحتقار ما سواه ما يصدهم عن توجيه عقولهم إلى غيره، ومنهم متفرنجة المسلمين الجغرافيين في هذا العصر يحتقرون هداية الدين الروحية وما لها من التأثير العظيم في تهذيب النفس وحملها على الخير وصدها عن الشرور من الفواحش والمنكرات، وإنما غرهم وأضلهم أنهم في عصر وصل فيه الغربيون إلى غاية بعيدة من الفنون والصناعات، كأنهم يرون أن من عاش في هذا العصر يجب أن يكون مثلهم عبدا لشهواته، ومقتضى ذلك أنه كان الأفضل لبني إسرائيل أن لا يتبعوا موسى عليه السلام لأنه لم يكن عنده من زينة الدنيا وقوتها وصناعاتها وفنونها ما كان عند فرعون وقومه، ﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾ [ الحشر : ٢ ].
انتهى بالآية التي قبل هاتين الآيتين فصل من فصول قصة موسى عليه السلام وهاتان الآيتان استئناف مرتب على جملة ما تقدمه منها، بين الله فيه لخاتم رسله في الأولى منهما سنته في ضلال البشر بعد مجيء البينات في كل زمان ويدخل فيه قوم فرعون من الغابرين دخولا أوليا وينطبق على رؤساء كفار قريش المعاندين له صلى الله عليه وسلم من الحاضرين، وبين في الثانية جزاءهم على تكذيبهم وكفرهم.
ثم قال تعالى :﴿ والذين كذّبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلاّ ما كانوا يعملون ﴾ الآيات في الآية التي قبل هذه بمعنى الدلائل والبينات من براهين عقلية، نظرية كانت أو علمية أو كونية، كآياته تعالى في الأنفس والآفاق، ومنها معجزات الأنبياء عليهم السلام وأظهرها وأقواها القرآن العظيم، من حيث هو دال على صدق النبي الأمي في دعوى الرسالة من وجوه كثيرة تقدم بيانها- وأما الآيات المذكورة في هذه الآية فالظاهر المتبادر أنها الآيات المنزلة من حيث اشتمالها على الهداية والإصلاح بتزكية الأنفس من خرافات الشرك وفساد الأخلاق ومنكرات الأعمال. واللقاء مصدر لقي الشيء أو الشخص ولاقاه كالملاقاة إذا صادفه أو قابله أو انتهى إليه يقال لقي زيدا ولاقاه ولقي خيرا أو شرا ﴿ لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ﴾ [ الكهف : ٦٢ ] و ( من يلق خيرا يحمد الناس أمره ) ولقي جزاءه. قال الراغب : وملاقاة الله عز وجل عبارة عن القيامة وعن المصير إليه قال :﴿ واعلموا أنكم ملاقوه ﴾ [ البقرة : ٢٢٣ ] ﴿ وقال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله ﴾ [ البقرة : ٢٤٩ ].
والمعنى والذين كذبوا بآياتنا المنزلة بالحق والهدى على رسلنا فلم يؤمنوا لهم ولا اهتدوا بها، وكذبوا بلقاء الآخرة وما يكون فيها من الجزاء على الأعمال –على الخير بالثواب وعلى الشر بالعقاب فاتبعوا أهواءهم- لا يجزون هنالك إلا ما كان من تأثير أعمالهم النفسية والبدنية معا أو النفسية فقط كترك الواجبات في أرواحهم وأنفسهم من حق وخير زكاها وأصلحها أو من باطل وشر دسّاها وأفسدها- إن الله لا يظلم الناس في الجزاء مثقال ذرة وإنما مضت سنته بجعل الجزاء في الآخرة أثرا للعمل مرتبا عليه ترتب المسبب على السبب كأنه هو نفسه وقد شرحنا هذا المعنى مرارا.
قصة اتخاذ بني إسرائيل للعجل
في أثناء مناجاة موسى عليه السلام لربه عز وجل في جبل الطور اتخذ قومه من بني إسرائيل عجلا مصوغا من الذهب والفضة وعبدوه من دون الله تعالى لما كان رسخ في قلوبهم من فخامة مظاهر الوثنية الفرعونية في مصر، وقد ذكرت هذه القصة هنا معطوفة على ما قبلها من خبر المناجاة وألواح الشريعة لما بين السياقين من العلاقة والاشتراك في الزمن.
قال تعالى :
﴿ واتّخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلا جسدا له خوار ﴾ الحلي بالضم والتشديد جمع حلي بالفتح والتخفيف فهو كثديّ جمعا لثدي. وهذا الحلي استعاره نساء بني إسرائيل من نساء المصريين قبل خروجهم من مصر فملكوه بإذن الله تعالى، والعجل ولد البقرة سواء كانت من العراب أو الجواميس فهو كالحوار لولد الناقة والمهر لولد الفرس والحمل لولد الشاة والجدي لولد العنز الخ. والجسد الجثة وبدن الإنسان حقيقة ويطلق على غيره مجازا والأحمر كالذهب والزعفران والدم الجاف وقال في لسان العرب : الجسد جسم الإنسان ولا يقال لغيره من الأجسام المغتذية، ولا يقال لغير الإنسان جسد من خلق الأرض والجسد البدن تقول منه تجسد كما تقول من الجسم تجسم.
ابن سيده : وقد يقال للملائكة والجن جسد. غيره : وكل خلق لا يأكل ولا يشرب من نحو الملائكة والجن مما يعقل فهو جسد. وكان عجل بني إسرائيل جسدا يصيح لا يأكل ولا يشرب، وكذا طبيعة الجن، قال عز وجل :﴿ فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار ﴾ [ طه : ٨٨ ] " جسدا " بدل من عجل لأن العجل هنا هو الجسد، وإن شئت حملته على الحذف أي ذا جسد، وقوله :﴿ له خوار ﴾ يجوز أن تكون الهاء راجعة إلى العجل وأن تكون راجعة إلى الجسد، وجمعه أجساد. وقال بعضهم في قوله :﴿ عجلا جسدا ﴾ قال أحمر من ذهب. وقال أبو إسحاق في تفسير الآية : الجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز إنما معنى الجسد معنى الجثة فقط، وقال في قوله :﴿ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام ﴾ [ الأنبياء : ٨ ] قال جسد واحد يعني على جماعة، قال ومعناه وما جعلناهم ذوي أجساد إلا ليأكلوا الطعام وذلك أنهم قالوا ﴿ ما لهذا الرسول يأكل الطعام ﴾ [ الفرقان : ٧ ] فاعلموا أن الرسل أجمعين يأكلون الطعام وأنهم يموتون.
المبرد وثعلب : العرب إذا جاءت بين كلامين بجحدين كان الكلام إخبارا قالا : ومعنى الآية إنما جعلناهم جسدا ليأكلوا قالا : ومثله في الكلام : ما سمعت منك وما أقبل منك معناه إنما سمعت منك لأقبل منك قالا : وإن كان الجحد في أول الكلام كان الكلام مجحودا جحدا حقيقيا قالا : وهو كقولك : ما زيد بخارج. قال الأزهري : جعل الليث قول الله عز وجل :﴿ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام ﴾ كالملائكة قال : وهو غلط ومعناه الإخبار كما قال النحويون أي جعلناهم جسدا ليأكلوا الطعام قال : وهذا يدل على أن ذوي الأجساد يأكلون الطعام وأن الملائكة روحانيون لا يأكلون الطعام وليسوا جسدا فإن ذوي الأجساد يأكلون الطعام. ١ه وقولهم معناه الإخبار أي الإثبات.
والخوار صوت البقر وهو بضم أوله كأمثاله من أسماء الأصوات : رغاء الإبل وثغاء الغنم ويعار المعز ومواء الهر ونباح الكلب الخ.
وعلم من القصة في سورة طه أن السامري هو الذي أخذ منهم ما حملوه من أوزار زينة قوم فرعون فألقاها في النار فصاغ لهم منها عجلا أي تمثالا له صورة العجل وبدنه وصوته وإنما نسب ذلك هنا إليهم لأنه عمل برأي جمهورهم الذين طلبوا أن يكون لهم آلهة، قال الحافظ ابن كثير : وقد اختلف المفسرون في ذلك العجل هل صار لحما ودما له خوار أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر ؟ على قولين والله أعلم اه. روي القول الأول عن قتادة وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك أنه خار خورة واحدة ولم يثن. فمن قال إنه حلت فيه الحياة عللوه بأن السامري رأى جبريل حين جاوز ببني إسرائيل البحر وفي رواية عند نزوله على موسى عليهما السلام راكبا فرسا ما وطئ بها أرضا إلا حلت فيها الحياة واخضر النبات فأخذ من أثرها قبضة فنبذها في جوف تمثال العجل فصار حيا له خوار وفسروا بهذا ما حكاه الله تعالى عنه في سورة طه وسيأتي بيانه في تفسيرها.
ولكن قال بعض هؤلاء إن خواره كان بتأثير دخول الريح في جوفه وخروجها من فيه كقول الآخرين الذين قالوا إنه لم يكن حيا، والروايات في حياته لا يصح منها شيء ولذلك وقف الحافظ ابن كثير فلم يرجح أحد القولين على الآخر، وفي تفسير القصة من سورة طه روايات كثيرة من خرافات الإسرائيليات، فيها ضروب من الكذب والضلالات، سنعود إليها في تفسير سورة طه إن شاء الله وقدر لنا الحياة.
قال تعالى في بيان ضلالتهم، وتقريعهم على جهالتهم، ﴿ ألم يروا أنّه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلا ﴾ أي ألم يروا أنه فاقد لما يعرف به الإله الحق، وخاصة ما له من حق العبادة على الخلق، بما يكلم به من يختاره منهم لرسالته، ويعلمه ما يجب أن يعرفوه من صفاته وسبيل عبادته، كما يكلم رب العالمين رسوله موسى عليه السلام، ويهديه سبيل الشريعة التي تتزكى بها أنفسهم، وتقوم بها مصالحهم، فعلم بهذا أن من شأن الرب الإله الحق أن يكون متكلما، وأن يكلم عباده ويهديهم سبيل الرشاد باختصاصه من شاء منهم وإعداده لسماع كلامه، وتلقي وحيه وتبليغ أحكامه، وفي سورة طه :﴿ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ﴾ [ طه : ٨٩ ] فالمراد بالقول هداية الوحي، والمعنى أنه ليس له من صفات الرب الإله هداية الإرشاد التي مرجعها صفة الكلام، ولا الضر والنفع اللذين هما متعلق صفتي القدرة والإرادة.
ثم قال تعالى :﴿ اتّخذوه وكانوا ظالمين ﴾ أي اتخذوه وهم يرون أنه لا يكلمهم بما فيه صلاحهم، ولا يهديهم لما فيه رشادهم، ولا يملك دفع الضر عنهم، ولا إسداد النفع إليهم، أي أنهم لم يتخذوه عن دليل ولا شبهة دليل، بل عن تقليد لما رأوا عليه المصريين من عبادة العجل " أبيس " من قبل، ولما رأوه من العاكفين على أصنام لهم من بعد، وكانوا ظالمين لأنفسهم بهذا الاتخاذ الجهلي الذي يضرهم ولا ينفعهم بشيء.
قصة اتخاذ بني إسرائيل للعجل
في أثناء مناجاة موسى عليه السلام لربه عز وجل في جبل الطور اتخذ قومه من بني إسرائيل عجلا مصوغا من الذهب والفضة وعبدوه من دون الله تعالى لما كان رسخ في قلوبهم من فخامة مظاهر الوثنية الفرعونية في مصر، وقد ذكرت هذه القصة هنا معطوفة على ما قبلها من خبر المناجاة وألواح الشريعة لما بين السياقين من العلاقة والاشتراك في الزمن.
﴿ ولمّا سقط في أيديهم ﴾ يقال : سقط في يده وأسقط في يده- بضم أولهما على البناء للمفعول- وكذا بفتح أول الثلاثي على قلة في اللغة وشذوذ في القراءة- أي ندم، ويقولون فلان مسقوط في يده وساقط في يده أي نادم كما في الأساس ولكنه فسره في الكشاف بشدة الندم والحسرة وجعله من باب الكناية وفي اللسان : وسقط في يد الرجل –زل وأخطأ وقيل ندم، قال الزجاج يقال للرجل النادم على ما فعل الحسر على ما فرط منه : قد سقط في يده وأسقط... وفي التنزيل العزيز ﴿ ولما سقط في أيديهم ﴾ قال الفارسي : ضربوا بأكفهم على أكفهم من الندم، فإن صح ذلك فهو إذا من السقوط، وقد قرئ " سقط في أيديهم " كأنه أضمر الندم أي سقط الندم في أيديهم كما تقول لمن يحصل على شيء وإن كان مما لا يكون في اليد : قد حصل في يده من هذا مكروه، فشبه ما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين ١ه.
زاد الواحدي في تفسيره : وخصت اليد لأن مباشرة الأمور بها كقوله تعالى :﴿ ذلك بما قدمت يداك ﴾ [ الحج : ١٠ ] أو لأن الندم يظهر أثره بعد حصوله في القلب في اليد كعضها والضرب بها على أختها ونحو ذلك فقد قال سبحانه في النادم :﴿ فأصبح يقلب كفيه ﴾ [ الكهف : ٤٢ ] ﴿ ويوم يعض الظالم على يديه ﴾ [ الفرقان : ٢٧ ] وفي تاج العروس : وفي العباب هذا نظم لم يسمع قبل القرآن ولا عرفته العرب، والأصل فيه نزول الشيء من أعلى إلى أسفل ووقوعه على الأرض ثم اتسع فيه فقيل للخطأ من الكلام سقط لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه فيسقط، وذكر اليد لأن الندم يحدث في القلب وأثره يظهر في اليد كقوله تعالى :﴿ فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها ﴾ [ الكهف : ٤٢ ]، ولأن اليد هي الجارحة العظمى فربما يسند إليها ما لم تباشره كقوله تعالى :﴿ ذلك بما قدمت يداك ﴾ [ الحج : ٢٢ ] ١ه.
والمعنى أنهم لما اشتد ندمهم وحسرتهم على ما فعلوا ﴿ ورأوا أنّهم قد ضلّوا ﴾ أي وعلموا أنهم قد ضلوا بعبادة العجل أو تبين لهم ضلالهم به وتحقق بما قاله وفعله موسى حتى كأنهم رأوه رأي العين ﴿ قالوا لئن لم يرحمنا ربّنا ويغفر لنا ﴾ أي أقسموا أنه لا يسعهم بعد هذا الذنب إلا رحمة ربهم التي وسعت كل شيء، قائلين لئن لم يرحمنا بقبول توبتنا والتجاوز عن جريمتنا ﴿ لنكوننّ من الخاسرين ﴾ لسعادة الدنيا وهي الحرية والاستقلال في أرض الموعد ولسعادة الآخرة وهي دار الكرامة والرضوان.
وقد بحث بعض الغواصين على نكت البلاغة في تقديم الندم في الذكر على تبين الضلالة مع أن المعروف في العادة أن يندم الإنسان على ما علم من ذنبه فقال القطب الشيرازي ما معناه موضحا- أن الانتقال من الجزم بأن هذا الشيء أو الأمر حق إلى استبانة الجزم بضده أو نقيضه لا يكون دفعة واحدة في الأغلب بل الأغلب أنه ينتقل من الجزم بصحته أو حقيقته إلى الشك فيها ثم إلى الظن بالضد أو النقيض ثم إلى الجزم به ثم إلى تبينه واليقين فيه الذي يعبر عنه بالرؤية، والقوم كانوا جازمين بأن ما فعلوه صواب، والندم عليه ربما وقع لهم في حال الشك فيه فيكون تبين الضلال متأخرا عن الندم ١ه.
وأقول جاء في سياق القصة المفصل من سورة طه أنه لما أنكر عليهم هارون عليه السلام عبادة العجل وذكرهم بتوحيد الربوبية الدال على وجوب توحيد العبادة للرب وحده ﴿ قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ﴾ [ طه : ٩١ ] فلما رجع موسى وأنب هارون عليه السلام : قال : فيما قاله له ﴿ قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا * ألّا تتّبعن أفعصيت أمري ﴾ [ طه : ٩٢، ٩٣ ] لك ﴿ اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ﴾ ؟ [ الأعراف : ١٤٢ ] فعند تصريح موسى بأنهم ضلوا، ورؤيتهم ما كان من غضبه وإلقائه بالألواح حتى تكسرت وأخذه برأس أخيه هارون ولحيته وجره إليه ندموا على ما فعلوا، فإن كان هذا الندم عن تقليد وطاعة لموسى لا عن علم يقيني بأن عملهم ضلال فالراجح أن يكون العلم القطعي المعبر عنه بقوله :﴿ ورأوا أنهم قد ضلوا ﴾ قد حصل بعد تحريق موسى للعجل ونسفه في اليمّ.
فإن كان من قواعد النحو أن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب، فمن قواعد علم المعاني أن ما لا يجب الترتيب فيه بزمان ولا رتبة أن يقدم في سرده وفي نسقه الأهم، فإن لم يكن تقديم الندم هنا لسبقه في الزمن فالأظهر أنه للمبالغة في استشعارهم استحقاق العقاب كأنه يقول أنهم على ندمهم وتوبتهم التي من شأنها محو الذنب وترك العقاب وعلى كونهم صاروا على علم يقيني ببطلان عبادة العجل ووجوب تخصيص الرب بالعبادة- قالوا ذلك القول الدال على أن مجموع الأمرين لا يكفي لاستحقاق المغفرة إلا برحمة الله تعالى، ومن المعلوم أن العلم بالضلال وحده لا يقتضي العفو والمغفرة إلا إذا ترتب عليه العمل بمقتضاه وهو التوبة والرجوع إلى الله تعالى بالعمل فإن الذين ضلوا على علم ولم يتوبوا أشد الناس عقابا فعلم بذلك أن تقديم الندم أهم من تقديم العلم بالضلال، وهذا من فضل الله الذي لم نره لأحد، وقد علم منه وجه تقديم ذكر الرحمة على ذكر المغفرة وهو أنها سببها، فإن التوبة ومعرفة الحق لا يكفيان للمغفرة بدونها.
ولا غرو فقد ورد في الصحيحين عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لن يدخل أحدا عمله الجنة ) قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال :( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة فسددوا وقاربوا ) ١ الخ الحديث، وفي مسلم من حديث جابر ( لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار. ولا أنا إلا برحمة من الله ) ٢ وأمثل الأجوبة في الجمع بين الحديث وبين الآيات الكثيرة الصريحة في دخول الجنة بالعمل أن ذلك بفضل الله ورحمته فإن عمل أي عامل لا يستحق عليه لذاته ذلك النعيم الكامل الدائم، بل لا يفي عمل أحد ببعض نعم الله تعالى عليه في الدنيا. وأما قولهم إن دخول الجنة بالرحمة واقتسامها بالأعمال فهو لا يدفع التعارض بين الآيات والحديث فإن منها ﴿ ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ﴾ [ النحل : ٣٢ ].
٢ أخرجه مسلم في صفة القيامة والجنة والنار حديث ٧٧..
﴿ ولمّا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ﴾ ذكر في أول مادة ( أ س ف ) من لسان العرب أن الأسف شدة الحزن والغضب. والأكثرون لا يشترطون شدتهما قال في المصباح : أسف أسفا من باب تعب حزن وتلهف فهو أسف مثل تعب، وأسف مثل غضب وزنا ومعنى، ويعدى بالهمزة فيقال آسفته. وقال الراغب : الأسف الحزن والغضب معا، وقد يقال لكل منهما على الانفراد، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا، ولذلك سئل ابن عباس عن الحزن والغضب ؟ فقال مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غيظا وغضبا، ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزنا وجزعا. وبهذا النظر قال الشاعر :
* فحزن كل أخي حزن أخو الغضب*
ثم ذكر أن الأسف في الآية التي نفسرها هو الغضبان فهو إذاً مترادف، وقد فاته هنا ما نعهد من تحقيقه لمدلولات الألفاظ وما أظن أن ما نقله عن ابن عباس يصح فإن ما ذكر من المقابلة بين الغضب والحزن إنما يظهر بين الغضب والحقد، وإنما الحزن ألم النفس بفقد ما تحب من مال أو أهل أو ولد. وليس من شهوة الانتقام في شيء. ومن شواهد استعمال الأسف بمعنى الحزن قوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام ﴿ وقال يا أسفى على يوسف ﴾ [ يوسف : ٨٤ ] ومن شواهد استعماله بمعنى الغضب قوله تعالى :﴿ فلمّا آسفونا انتقمنا منهم ﴾ [ الزخرف : ٥٥ ] ولا يوصف تعالى بالحزن ولا يسند إليه. وغضبه سبحانه ليس كغضب البشر ألما في النفس، ولا أثرا لغليان دم القلب، تعالى عن هذه الانفعالات والآلام البشرية، وإنما هو صفة تليق به هي سبب العقاب. والجمع بين الغضبان والأسف في صفة موسى عليه السلام يدل على أن الأسف بمعنى الحزين.
والمعنى أنه لما رجع موسى من الطور إلى قومه غضبان على أخيه هارون إذ رأى أنه ضعف في سياسته لهم، ولم يكن ذا عزيمة في خلافته فيهم، حزينا على ما وقع منهم من كفر الشرك، وإغضاب الله عز وجل :﴿ قال بئسما خلفتموني من بعدي ﴾ أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعد ذهابي عنكم إلى مناجاة الرب تعالى من بعد ما كان من شأني معكم أن لقنتكم التوحيد وكففتكم عن الشرك وبينت لكم فساده وبطلانه وسوء عاقبة أمره حين رأيتم القوم الذين يعكفون على أصنام لهم من تماثيل البقر- فكان الواجب عليكم أن تخلفوني باقتفاء سيرتي ولكنكم خلفتموني بضدها إذ صنعتم لكم صنما كأصنام أولئك القوم أو كأحد أصنام المصريين فعبده بعضكم، ولم يردعكم عن ذلك سائركم- فالتوبيخ عام، وفيه تعريض خاص بهارون عليه السلام لأنه جعله خليفته فيهم كما تقدم.
﴿ أعجلتم أمر ربكم ﴾ قال في لسان العرب : وعجله سبقه، وأعجله استعجله. وفي التنزيل العزيز ﴿ أعجلتم أمر ربكم ﴾ أي استبقتم قال الفراء : تقول عجلت الشيء أي سبقته وأعجلته استحثثته ١ه. وقال في الكشاف : يقال عجل عن الأمر إذا تركه غير تام، ونقيضه تم عليه، وأعجله عنه غيره، ويضمن معنى سبق فيعدى تعديته فيقال عجلت الأمر : والمعنى أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به، فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجح إليكم فحدثتم أنفسكم بموتي فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. وروي أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل وقال :( هذا إلهكم وإله موسى ) إن موسى لن يرجع وإنه قد مات ١ ه.
وقال ابن كثير وقوله :﴿ أعجلتم أمر ربكم ﴾ أي استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله تعالى ١ه. وقد نقل الألوسي كلام الكشاف من غير عزو كعادة أكثر المؤلفين بعد سلف الأمة ثم قال. وذهب يعقوب إلى أن السبق معنى حقيقي له من غير تضمين. والأمر واحد الأوامر، وعن الحسن : أن المعنى أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين ؟ فالأمر عليه : واحد الأمور ١ه والمراد بالأربعين ما بينه من أنها الليالي التي واعد موسى ربه كما تقدم.
ثم قال :﴿ وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه ﴾ أي وطرح الألواح من يديه ليأخذ برأس أخيه مما كان من شدة غضبه لله تعالى وأسفه لما فعل قومه من الشرك به ولما ظن من تقصير أخيه وأخذ بشعر رأس أخيه يجره إليه بذؤابته، إذ كان الواجب عليه في اجتهاد موسى أن يردعهم ويكفهم عن عبادة العجل إن قدر كما فعل هو بتحريقه وإلقائه في اليم –وأن يتبعه إلى جبل الطور إن لم يقدر كما حكى الله تعالى عنه في سورة طه :﴿ قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا * ألّا تتّبعن أفعصيت أمري ﴾ [ طه : ٩٢، ٩٣ ] ؟
والاجتهاد يختلف باختلاف أحوال المجتهدين فالقوي الشديد الغضب للحق بالحق كموسى عليه السلام، يشعر بما لا يشعر به من يغلب عليه الحلم ولين العريكة كهارون عليه السلام. وقد بحث بعض المفسرين في إلقاء الألواح وما روي من تكسر بعضها هل يتضمن تقصيرا في تعظيم كلام الله تعالى ؟ وكيف يمكن أن يقع مثل ذلك من الرسول المعصوم ولو في حال الغضب الشديد ؟ بل توهم بعضهم أنه يتضمن في نفسه نوع إهانة للألواح فوجب بيان المخرج منه. والمختار عندنا في الجواب عن هذه الأوهام أن إلقاء الألواح لا يقتضي إهانة لها، كما أن إلقاء العصا لإقامة الحجة على السحرة لا يتضمن مثل ذلك، فالإلقاء في نفسه لا يقتضي ذلك لغة ولا عادة وإنما يقع ما يقع من مثل ذلك بقصد وهو ممتنع هنا قطعا- وإن كان الغضب مظنة له، فعلم بهذا أن ما أطال به بعضهم لا طائل تحته ولا حاجة إليه.
وماذا كان جواب هارون عليه السلام ﴿ قال ابن أمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ﴾ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم هنا وفي سورة طه :﴿ ابن أم ﴾ بكسر الميم على حذف ياء المتكلم للتخفيف وهي تطرح في المنادى المضاف، وقرأها الباقون بالفتح وعللوها بزيادة التخفيف وبالتشبيه بخمسة عشر، وقرئ في الشواذ " ابن أمي " بإثبات الياء على الأصل. قال في الكشاف : قيل كان أخاه لأبيه وأمه فإن صح فإنما أضافه إلى الأم إشارة إلى أنهما من بطن واحد، وذلك أدعى إلى العطف والرقة وأعظم للحق الواجب، ولأنها كانت مؤمنة فاعتد بنسبها، ولأنها هي التي قاست فيه المخاوف والشدائد فذكره بحقها ١ه. وهو حسن إلا قوله فاعتد بنسبها فإن النسب لا يتوقف على الإيمان. واسم أمهما ( يوكابد ) بنت لاوي كما في التوراة عندهم.
والمعنى يا ابن أمي لا تعجل بمؤاخذتي وتعنيفي فإنني لم آل جهدا في الإنكار على القوم والنصح لهم ولكنهم استضعفوني فلم يرعووا لنصحي ولم يمتثلوا أمري، بل قاربوا أن يقتلوني ﴿ فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظّالمين ﴾ أي فلا تفعل بي من المعاتبة والإهانة ما يشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين لأنفسهم بعبادة العجل بأني تلزني بهم في قرن من الغضب والمؤاخذة فلست منهم في شيء. والظاهر أنه يعني بالأعداء والظالمين فريقا واحدا وهم الذين عبدوا العجل فأنكر عليهم فوجدوا عليه وكادوا يقتلونه، وهذا دليل على أنه كان دون موسى في قوة الإرادة وشدة العزيمة، وهو ما اتفق عليه علماؤنا وعلماء أهل الكتاب.
برأ القرآن المجيد هارون عليه السلام من جريمة اتخاذ العجل ومن التقصير في الإنكار على متخذيه وعابديه من قومه، وهذا من أهم المواضع التي هيمن بها على كتب الأنبياء التي في أيدي أهل الكتاب فصحح أغلاط محرفيها، وهو يحثو التراب في أفواه الطاعنين فيه وفيمن جاء به " برأهما الله تعالى " بزعمهم أنه أخذ عن التوراة ما فيه من أخبار موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل، فإنه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله كان أميا لم يقرأ ولم يطلع على شيء من تلك الكتب ولم يكن في بلده من يعرف من تلك الكتب شيئا، وقد كان يقرأ على أعدى المعاندين له من قومه مثل قوله تعالى :﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ﴾ [ العنكبوت : ٤٨ ] وقوله :﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ﴾ [ هود : ٤٩ ] ولو كان يعلم أو كانوا يعلمون شيئا من تلك الكتب لكذبه في هذا أولئك الجاحدون والمعاندون وقد تقدم الاحتجاج بهذا، والغرض هنا إقامة حجة أخرى وهي أنه لو كان صلى الله عليه وسلم نقل عن التوراة لوافقها في كل ما نقله وهو قد خالفها في مواضع بما جعله منزله جل جلاله مهيمنا ورقيبا عليها، ومصححا لأهم ما وقع من التحريف فيها، ومنه تبرئة هارون وغيره من الرسل عليهم السلام من الذنوب والجرائم التي عزيت إليهم فيها فجعلتهم قدوة سيئة كجعل هارون عليه السلام وهو الصانع للعجل كما هو مفصل في الفصل الثاني والثلاثين من سفر الخروج قال :
( ١- ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له : قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه ٢- فقال لهم هارون : انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها ٣- فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي كانت في آذانهم وأتوا بها إلى هارون ٤- فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالأزميل وصنعه عجلا مسبوكا فقالوا : هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر ٥- فلما نظر هارون بنى مذبحا أمامه ونادى هارون وقال : غداً عيد للرب ٦- فبكروا في الغد وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب ٧- فقال الرب لموسى : اذهب انزل لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من أرض مصر ٨- زاغوا سريعا عن الطريق الذي أوصيتهم به صنعوا لهم عجلا مسبوكا وسجدوا له وذبحوا له وقالوا : هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر ).
وبعد هذا ذكر أن الرب قال لموسى إن هذا الشعب صلب الرقبة وأن غضبه اشتد عليهم ليفنيهم، وأن موسى استرحمه أن لا يفعل ولا يشمت بهم المصريين وذكره وعده سبحانه لإبراهيم وإسحاق ويعقوب بتكثير نسلهم، ثم ذكر مسألة عودة موسى إلى قومه وما فعل ثم قال :
( ١٩- وكان عندما اقترب إلى المحلة أنه أبصر العجل والرقص فحمي غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل ٢٠- ثم أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار وطحنه حتى صار ناعما وذراه على وجه الماء وسقى بني إسرائيل ٢١- وقال موسى لهارون ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطية عظيمة ٢٢- فقال هارون لا يحم غضب سيدي عليّ، أنت تعرف الشعب إنه في شر ٢٣- فقالوا لي اصنع لنا آلهة تسير أمامنا ) الخ.
ثم ذكر طلب موسى من الرب أن يغفر لقومه وأمر الرب إياهم بأن يقتل كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه وكل واحد قريبه- وأن بني لاوي فعلوا ذلك فقتل منهم في ذلك اليوم نحو من ثلاثة آلاف رجل. وقد تقدم ذكر هذه المسألة في سورة البقرة.
﴿ إنّ الّذين اتّخذوا العجل سينالهم غضب من ربّهم وذلّة في الحياة الدّنيا ﴾ في هذه الآية وجهان :
أحدهما أنها كلام مستأنف لبيان ما استحقه القوم من الجزاء على اتخاذ العجل قفى به على ما كان من شأن موسى مع هارون عليهما السلام في أمرهم، لأن من سمع ذاك أو قرأه تستشرف نفسه لمعرفة هذا- فهو إذا مما أوحاه الله تعالى يومئذ إلى موسى عليه السلام والمراد بالغضب الإلهي فيه ما اشترطه تعالى في قبول توبتهم من قتل أنفسهم وكان ذلك بعد عودة موسى إلى مناجاته في الجبل، والذلة ما يشعرون به من هوانهم على الناس وظنهم عند لقاء كل أحد أنه يتذكر برؤيتهم ما كان منهم فيحتقرهم، وقال بعضهم أن هذه الذلة خاصة بالسامري وهي ما حكم به عليه من القطيعة واجتناب الناس بقول موسى له ﴿ اذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس ﴾ [ طه : ٩٧ ] أي : لا أمس أحدا ولا يمسني أحد.
﴿ وكذلك نجزي المفترين ﴾ أي ومثل هذا الجزاء في الدنيا نجزي المفترين على الله تعالى في أزمنة الأنبياء أو في كل زمان إذا فضحوا بظهور افترائهم كما فضح هؤلاء، وجعله بعض مفسري السلف خاصا بافتراء البدع، قال الحسن البصري : إن ذل البدعة على اكتفائهم وإن هملجت بهم البغال وطقطقت بهم البراذين، وهكذا روى أيوب عن أبي قلابة أنه قرأ هذه الآية :﴿ وكذلك نجزي المفترين ﴾ وقال : هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة، وقال سفيان بن عيينة كل صاحب بدعة ذليل نقل ذلك ابن كثير في تفسيره، وهو مشروط بكون افتراء الابتداع في أزمنة الرسل عليهم السلام على ما قيدناه به لأن الله تعالى كفل لهم النصر، أو في دار الإسلام والعدل التي تقام فيها السنة، وأما البدعة في دار الكفر أو دار الظلم والبدع والفسق والظلم فهي كظلة من الدخان أو قزعة من السحاب تحدث في حندس ليلة مطبقة السحاب، حالكة الإهاب، لا تكاد تظهر، فيكون لأصحابها احتقار يذكر.
والوجه الثاني أن هذا كلام معترض في القصة خاطب الله به خاتم رسله لإنذار اليهود المجاورين له في المدينة ما سيكون من سوء عاقبتهم في افترائهم على الله وعداوتهم لرسوله، وإنكارهم ما في كتبهم من البشارة به، ووصفهم باتخاذ العجل لشبههم بهم وكونهم خلفا لهم في افتراء كل منهما على الله في عهد ظهور حجته على لسان رسوله. كما عيرهم في آيات أخرى بقتل النبيين بغير الحق وغير ذلك من جرائم سلفهم. وروي هذا الوجه عن عطية العوفي قال : المراد سينال أولاد الذين عبدوا العجل وهم الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأريد بالغضب والذلة ما أصاب بني النضير وقريظة من القتل والجلاء أو ما أصابهم من ذلك ومن ضرب الجزية عليهم ١ه وتوجيهنا أظهر. قال الزمخشري ويجوز أن يتعلق " في الحياة الدنيا " بالذلة وحدها ويراد سينالهم غضب في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا ﴿ وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ﴾ [ البقرة : ٦١ ] ١ه وأقول إن لم يكن هذا هو المراد فعذاب الآخرة مقدر في الكلام دل عليه ذكر الدنيا، على ما علم من اطراده بنصوص أخرى.
وأقول : إن طمع أكثر الفساق بالمغفرة قد ذهبت بحرمة الأمر والنهي من قلوبهم حتى استحل كثير منهم المحرمات، وكانوا شرا ممن قالوا :﴿ لن تمسنا النار إلاّ أياما معدودات ﴾ [ آل عمران : ٢٤ ] وما طمعهم بثمرة إيمان، بل أماني حمق وجدل على أطراف اللسان، قال صلى الله عليه وسلم ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) ١ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن شداد ابن أوس بسند صحيح.
ثم قص تعالى علينا ما كان من أمر موسى بعد غضبه فقال :
﴿ ولمّا سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للّذين هم لربّهم يرهبون ﴾ السكوت في أصل اللغة ترك الكلام فهو هنا مجاز تشبيه أو تمثيل مبني على تصوير الغضب بشخص ذي قوة ورياسة يأمر وينهى فيطاع قال الزمخشري : هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجر رأس أخيك إليك –فترك النطق بذلك وقطع الإغراء، قال : ولم يستحسن هذه الكلمة كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك ولأنه من قبيل شعب البلاغة، وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة ( ولما سكن عن موسى غضب ) ( وهي من الشواذ ) لا تجد النفس عندها شيئا من تلك الهزة، وطرفا من تلك الروعة ؟ ١ه.
والمعنى أنه لما سكن غضب موسى باعتذار أخيه ولجأ إلى رحمة الله وفضله يدعو ربه بأن يغفر لهما عاد إلى الألواح التي ألقاها فأخذها، وفي نسختها –أي ما نسخ وكتب منها فهي من النسخ كالخطبة من الخطاب- هدى وإرشاد من الخالق سبحانه للذين يرهبون ربهم ويخشون عقابه بالفعل أو بالاستعداد –أو يرهبون ما يغضب ربهم من الشرك والمعاصي.
﴿ واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ﴾ الاختيار صيغة تكلف من مادة الخير كالانتقاء من النقي ( بالكسر ) وحقيقته دهن العظام ومجازه لباب كل شيء والاصطفاء من الصفو- والانتخاب من النخب وأصله انتزاع الصقر وغيره من الجوارح قلب الطائر ثم صار يقال لكل من انتزع لب الشيء وخياره : نخبه وانتخبه وتطلق النخبة ( بالضم مع سكون الخاء وفتحها ) على الجيد المختار من كل شيء كما أطلقوا النخب والنخيب والمنتخب على الجبان الذي لا فؤاد له والأفين الذي لا رأي له، كأنه انتزع فؤاده وعقله بالفعل. والكلام معطوف على ما قبله، والمعنى : وانتخب موسى سبعين رجلا من خيار قومه للميقات الذي وقته الله تعالى له ودعاهم للذهاب معه إلى حيث يناجي ربه من جبل الطور، فالاختيار يكون من فاعل مختار وشيء مختار منه فيتعدى للثاني بمن وكأن نكتة حذف " من " الإشارة إلى كون أولئك السبعين خيار قومه كلهم لا طائفة منهم١.
﴿ فلمّا أخذتهم الرّجفة قال ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي ﴾ أي فلما أخذتهم رجفة الجبل وصعقوا قال موسى يا رب إنني أتمنى لو كانت سبقت مشيئتك أن تهلكهم من قبل خروجهم معي إلى هذا المكان فأهلكتهم وأهلكتني معهم حتى لا أقع في حرج شديد مع بني إسرائيل فيقولوا قد ذهبت بخيارنا لإهلاكهم – أي وإذا لم تفعل من قبل فأسألك برحمتك أن لا تفعل الآن- وهذا مفهوم التمني فقد أراده موسى ولا يبعد أن يكون قد نطق به إذا كانت لغته لا تدل عليه كلغتنا وكان من إيجاز القرآن الاكتفاء بذكر التمني الدال عليه.
واختلف المفسرون هل كان هذا بعد أن أفاق موسى من صعقة تجلي ربه للجبل عقب سؤاله الرؤية إذ كان من معه من شيوخ بني إسرائيل ينتظرونه في مكان وضعهم فيه غير مكان المناجاة كما تقدم ؟ أو كان بعد عبادة العجل ذهبوا للاعتذار وتأكيد التوبة وطلب الرحمة – وكما اختلفوا في هذا اختلفوا في سبب أخذ الرجفة إياهم هل كان طلبهم رؤية الله تعالى جهرة كما تقدم في سورة البقرة أو سببا آخر ؟
قال الحافظ ابن كثير : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسيره هذه الآية أن الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختار سبعين رجلا فوفد بهم ليدعوا ربهم وكان فيما دعوا الله أن قالوا : اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا من قبلنا ولا تعطه أحدا بعدنا، فكره الله ذلك دعائهم فأخذتهم الرجفة قال موسى رب لو شئت أهلكتهم – الآية. وقال السدي : إن الله تعالى أمر موسى أن يأتيه في أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعدهم موعدا فاختار موسى من قومه سبعين رجلا على عينه ثم ذهب بهم ليعتذروا فلما أتوا ذلك المكان قالوا لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة فإنك قد كلمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا فقام موسى يبكي ويقول يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم وقد أهلكت خياركم ؟ ﴿ ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي ﴾.
وقال محمد بن إسحاق : اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخير فالخير وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه يا موسى اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الليل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم ادنوا وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم فقالوا لموسى ﴿ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾ [ البقرة : ٥٥ ] فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فالتقت أرواحهم فماتوا جميعا فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول :﴿ رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ﴾ قد سفهوا أتهلك من ورائي من بني إسرائيل ١ه.
أقول كل ما نقل عن مفسري المأثور في هذه المسألة وأمثالها مأخوذ عن الإسرائيليات غير الموثوق بها إذ ليس فيه شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يرجح من بعدهم بعض أقوالهم على بعض بكونه أقرب إلى ظاهر نظم الآيات وأساليبها وتناسبها من غيره. وأما التوراة التي في أيدي أهل الكتاب فقد ذكرت خبر السبعين من شيوخ بني إسرائيل في سياق مناجاة موسى عليه السلام لربه كما تقدم وقد نقلنا المهم منها في ذلك ومجموع عباراتها مضطربة ففيها أن السبعين مع موسى وهارون وناداب وآبيهو ( رأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنفة من العقيق الأزرق الشفاف وكذات السماء في النقاوة ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل فرأوا الله وأكلوا وشربوا ) ( خروج ٢٤ : ١٠ و١١ ) وفيها أن الرب قال لموسى إذ طلب منه رؤية مجده ( لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش ) ثم ذكر له أنه أي الرب يضعه في نقرة صخرة ويستره بيده حتى يجتاز- أي الرب- قال :( ثم ارفع يدي فتنظر ورائي وأما وجهي فلا يرى ) ( خروج ٢٣ : ١٨-٢٣ ).
وفي سفر العدد وقائع ذكر فيها غضب الرب على بني إسرائيل لتمردهم وعنادهم واتهام اللاويين منهم لموسى وهارون بحب الرياسة والترفع عليهم وزعمهم أنهم كلهم مقدسون والرب في وسطهم وفيه أن الرب أهلك منهم خلقا كثيرا وكان موسى يستغيثه ليرفع الهلاك عنهم ويرحمهم ولا أذكر أن في شيء منها ذكر عدد السبعين ولكن في بعضها ذكر شيوخ إسرائيل وفي بعضها ذكر عدد ٢٥٠ رجلا وذلك في الفصل ١٦ من سفر العدد وهناك بعضه.
٢٠- وكلم الرب موسى وهارون قائلا.
٢١- افترزا من بين هذه الجماعة فإني أفنيهم في لحظة.
٢٢- فخرّا على وجهيهما وقالا اللهم إله أرواح جميع البشر هل يخطئ رجل واحد فتسخط على كل الجماعة.
٢٣- فكلم الرب موسى قائلا.
٢٤- اطلعوا من حوالي مسكن قورح وداثان وأبيرام.
٢٥- فقام موسى وذهب إلى داثان وأبيرام وذهب وراءه شيوخ إسرائيل.
٢٦- فكلم الجماعة قائلا اعتزلوا عن خيام هؤلاء القوم البغاة ولا تمسوا شيئا مما لهم لئلا تهلكوا بجميع خطاياهم.
٢٧- فطلعوا من حوالي مسكن قورح وداثان وأبيرام وخرج داثان وأبيرام ووقفا في باب خيمتيهما مع نسائهما وبنيهما وأطفالهما.
٢٨- فقال موسى بهذا تعلمون أن الرب قد أرسلني لأعمل كل هذه الأعمال وإنها ليست من نفسي.
٢٩- إن مات هؤلاء كموت كل إنسان وأصابتهم مصيبة كل إنسان فليس الرب قد أرسلني.
٣٠- ولكن إن ابتدع الرب بدعة وفتحت الأرض فاها وابتلعتهم وكل ما لهم فهبطوا أحياء إلى الهاوية تعلمون أن هؤلاء القوم قد ازدروا بالرب.
٣١- فلما فرغ من التكلم بكل هذا الكلام انشقت الأرض التي تحتهم.
٣٢- وفتحت الأرض فاها وابتلعتهم وبيوتهم وكل من كان لقورح مع كل الأموال.
٣٣- فنزلوا هم وكل من كان لهم أحياء إلى الهاوية وانطبقت عليهم الأرض فبادوا من بين الجماعة.
٣٤- وكل إسرائيل الذين حولهم هربوا من صوتهم لأنهم قالوا لعل الأرض تبتلعنا.
٣٥- وخرجت نار من عند الرب وأكملت المئتين والخمسين رجلا الذين قربوا البخور ) ١ه المراد منه ومبدأ هذه القصة في أول الفصل ١٦ وفي آخره أنه أخذهم الوباء إذ لم يتوبوا.
وما في سورة البقرة من ذكر مسألة عبادة العجل وذكر مسألة طلب بني إسرائيل لرؤية الله جهرة وأخذ الصاعقة إياهم يدل على أن هذه الواقعة غير الأولى ونقلنا هنالك عن الأستاذ الإمام اختيار استقلال كل منهما دون الآخر وقوله إنها مذكورة في كتبهم فإن كان يعني ما نقلناه آنفا عن سفر العدد أو ما في معناه وهو مما لم يذكر فيه عدد السبعين فلعله يريد أن ما ذكر في القرآن مختصر بقدر العبرة كسنته وأن السبعين هم الذين أهلكوا أولا وإن لم يذكر الكاتب عددهم ثم هلك غيرهم فكان الجميع ٢٥٠.
فإن كانت الآية تشير إلى هذه القصة فقول موسى ﴿ أتهلكنا بما فعل السّفهاء منّا ﴾ إشارة إلى قورح وجماعته من اللاويين المغرورين المتمردين، وهل هم الذين طلبوا من موسى رؤية الله تعالى جهرة لغرورهم بأنفسهم أم غيرهم ؟ وإن كانت في عابدي العجل فهي دليل على أن عقلاء بني إسرائيل وأصحاب الرؤية منهم لم يعبدوه وإنما عبده السفهاء وهم الأكثرون.
﴿ إن هي إلّا فتنتك تضلّ بها من تشاء وتهدي من تشاء ﴾ " إن " نافية والفتنة الاختيار والامتحان مطلقا أو بالأمور الشاقة والباء في " بها " للسببية، أي ما تلك الفعلة التي كانت سببا لأخذ الرجفة إياهم إلا محنتك وابتلاؤك الذي جعلته سببا لظهور استعداد الناس وما طويت عليه سرائرهم من ضلال وهداية، وما يستحقون عليه من عقوبة ومثوبة، وسنتك في جريان مشيئتك في خلقك بالعدل والحق، والنظام الحكيم في الخلق، تضل بمقتضاها من تشاء من عبادك ولست بظالم لهم في تقديرك، وتهدي من تشاء ولست بمحاب لهم في توفيقك، بل أمر مشيئتك دائر بين العدل والفضل، ولك الخلق والأمر.
﴿ أنت وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ﴾ أي أنت المتولي لأمورنا، والقائم علينا بما تكتسب نفوسنا، فاغفر لنا ما تترتب عليه المؤاخذة والعقاب من مخالفة سنتك، أو التقصير فيما يجب من ذكرك وشكرك وعبادتك، بأن تستر ذلك علينا، وتجعله بعفوك كأنه لم يصدر عنا، وارحمنا برحمتك الخاصة، فوق ما شملت به الخلق كلهم من رحمتك العامة، وأنت خير الغافرين حلما وكرما وجودا، فلا يتعاظمك ذنب، ولا يعارض غفرانك ما يعارض غفران سواك من عجز أو ضعف أو هوى نفس- وما ذكر في المغفرة يدل على اعتبار مثله في الرحمة لدلالته عليه- أي وأنت خير الراحمين رحمة وأوسعهم فيها فضلا وإحسانا، فإن رحمة جميع الراحمين من خلقك، نفحة مفاضة على قلوبهم من رحمتك، حذف ذكر الرحمة استغناء عنه بذكر المغفرة فإن ترتيب التذييل في الثناء عليه تعالى على طلب مغفرته ورحمته معا، يقتضي أن يكون هذا الثناء بهما معا، فاكتفى بذكر الأولى لدلالتها على الثانية قطعا، فهو من الإيجاز المسمى في علم البديع بالاكتفاء.
وقد غفل عن هذا من قال من المفسرين أنه اكتفى بذكر المغفرة لأنها الأهم، ولم لم يكتف بذكر الرحمة لأنها أعم، ولأنها قد تستلزم المغفرة دون العكس، فإن معنى المغفرة سلبي وهو عدم المؤاخذة على الذنب، والرحمة فوق ذلك فهي إحسان إلى المذنب لا يستحقه إلا بعد المغفرة ولذلك يقدم ذكر المغفرة على ذكر الرحمة، لأن التخلية كما يقولون مقدمة على التحلية، فلا يليق خلع الحلل النفسية، إ
ومنا الذي اختير الرجال سماحة | وجودا إذا هب الرياح الزعازع |
فقلت له اخترها قلوصا سمينة | ونابا علابا مثل نابك في الحيا |
وفي التنزيل ﴿ إنّا هدنا إليك ﴾ [ الأعراف : ١٥٦ ] أي تبنا إليك وهو قول مجاهد وسعيد ين جبير وإبراهيم. قال ابن سيده : عداه بإلى لأن فيه معنى رجعنا. ابن الأعرابي : هاد- إذا رجع من خير إلى شر أو من شر إلى خير، وداه إذا عقل، ويهود اسم القبيلة قال :
أولئك أولي من يهود بمدحةٍ | إذا أنت يوما قُلتها لم تؤنّب١ |
﴿ قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كلّ شيء ﴾ أي قد كان من سبق رحمتي غضبي أن أجعل عذابي خاصا أصيب به من أشاء من الكفار والعصاة المجرمين وأما رحمتي فقد وسعت كل شيء في العالمين، فهي من صفاتي القديمة الأزلية التي قام بها أمر العالم منذ خلقه، والعذاب ليس من صفاتي بل من أفعالي المرتبة على صفة العدل، ولهذا عبر عن التعذيب بالفعل المضارع وعن تعلق الرحمة بالفعل الماضي وهذه الرحمة هي العامة المبذولة لكل مخلوق ولولاها لهلك كل كافر وعاص عقب كفره وفجوره، ﴿ ولو يؤاخذ اللّه النّاس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة ﴾ [ فاطر : ٤٥ ].
وهنالك رحمة خاصة يوجبها ويكتبها تعالى لبعض المؤمنين المحسنين ويبذل ما شاء منها لمن شاء بغير كتابة منه، وما كتابته إلا فضل منه ورحمة، وأما العذاب فلم يرد في الكتاب ولا في خبر المعصوم أن الله تعالى كتبه على نفسه، ولكن أثبته وتوعد به فكان لابد من وقوعه، ولأنه من متعلقات صفتي العدل والحكمة، وقد أفرط قوم في النظر إلى عموم الرحمة وغفلوا عن النظر في مقتضى العدل والحكمة، والوعيد على الكفر والمعصية، فذهب بعضهم إلى عدم تعذيب أحد من المؤمنين، وآخرون إلى عدم تعذيب أحد من العالمين، ومن هؤلاء بعض غلاة التصوف الذين زعموا أن العذاب صوري لا حقيقي وأنه مشتق من العذوبة وأن في جهنم من هم أحب إلى الله تعالى من كثير من أهل الجنة- جعلهم الله منهم- وأفرط آخرون في النظر إلى مقتضى الحكمة فأوجبوا عليه تعالى تعذيب العصاة بارتكاب الكبائر لا الكفار فقط، ولولا أن صار هذا وذاك مذهبا لسهل جمع كلمة الفريقين على الأخذ بظواهر نصوص القرآن، في كل صفة من صفات الرحمان.
ولما قال مثل الزمخشري من جهابذة البيان، في تفسير قوله تعالى :﴿ عذابي أصيب به من أشاء ﴾ أي من وجب علي في الحكمة تعذيبه ولم يكن في العفو عنه مساغ لأنه مفسدة انتهى، فقد فسر من يشاء تعالى تعذيبه بمن وجب عليه تعذيبه، وجماعته يقولون أن هذا وجوب عقلي لا يدخل في الإمكان سواه ولا تتعلق القدرة بخلافه، وهذا المعنى ينافي المشيئة منافاة قطعية فكيف تفسر به ؟ يا ليت الزمخشري لم ينتحل مذهبا ولم ينظر في خلاف المذاهب، وإذا لكان كشافه حجة على جميع أصحابها ومرجعا لهم في تحرير معاني نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف إذ كان من أدق علماء هذه اللغة فهما وأحسنهم بيانا لما فهم، ومسألة الوجوب على الله تعالى نظرية فكرية لا لغوية، والجمع بين الحكمة والرحمة لا يقتضي أن يجب على الله تعالى شيء لذاته، وليس في النصوص ما يدل على هذا الوجوب إلا أن يوجبه تعالى بمشيئته، بمعنى كتابته وجعله أمرا مقضيا، وليس في إيجابه على نفسه بمشيئته ما في إيجاب عقول خلقه عليه من معنى استعلاء غيره عليه تعالى- أو من إيهام كونه عز وجل محكوما بما ينافي سلطانه الاختياري الذي هو فوق كل سلطان، بل لا سلطان سواه، وإنما سلطان غيره به ومنه، فلو لم يكن في اختلاف التعبير إلا مراعاة الأدب لكفى.
﴿ فسأكتبها للّذين يتّقون ويؤتون الزّكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ﴾ الخ أي وإذا كان الأمر كذلك فسأكتب رحمتي كتبة خاصة وأثبتها بمشيئتي إثباتا لا يحول دونه شيء للذين يتقون الكفر والمعاصي والتمرد على رسولهم، ويؤتون الصدقة المفروضة التي تتزكى بها أنفسهم، وغيرها من أركان الدين، وخص الزكاة بالذكر دون الصلاة وما دونها من الطاعات لأن فتنة حب المال تقتضي بنظر العقل والاختبار بالفعل أن يكون المانعون للزكاة أكثر من التاركين لغيرها من الفرائض. وفيه إشارة إلى شدة حب اليهود للدنيا وافتتانهم بجمع المال ومنع بذله في سبيل الله.
وقوله تعالى :﴿ والذين هم بآياتنا يؤمنون ﴾ معناه وسأكتبها كتبة خاصة للذين يصدقون بجميع آياتنا التي تدل على توحيدنا وصدق رسلنا تصديق إذعان، مبني على العلم والإيقان، دون التقليد للآباء وعصبيات الأقوام، ونكتة إعادة الموصول ( الذين ) مع الضمير ( هم ) إما جعل الموصول الأول عاما لقومه الذين دعا لهم، من استمروا على التزام التقوى وأداء الزكاة منهم وجعل الثاني خاصا بمن يدركون بعثة خاتم الرسل عليه السلام ويتبعونه كما يعلم مما بعده- وإما لبيان الفصل بين مفهوم الإسلام ومفهوم الإيمان والتعريض بأن الذين طلبوا من موسى أن يجعل لهم آلهة والذين عبدوا العجل والذين قالوا :﴿ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾ لم يكونوا مؤمنين بآيات الله العامة ولا الخاصة التي جاء بها نبيهم إذ لم يكونوا يعقلونها بل كانوا متبعين له لإنقاذهم من ظلم المصريين- وبيان أن كتابة الرحمة الخاصة إنما تكون لمن جمعوا بين الإسلام وهو اتباع الرسل بالفعل، والإيمان الصحيح بالآيات الإلهية المفيدة لليقين المانع من العودة إلى الشرك بمثل عبادة العجل والمقتضي لإتباع من يأتي من الرسل بمثل هذه الآيات، وفي هذا توطئة لما بعده، فهو بيان لصفة من يكتب تعالى لهم الرحمة على الإطلاق، ويدخل فيهم موسى عليه السلام ومن يصدق عليهم ما ذكر من قومه وذلك يفيد استجابة دعائه بشرطه، ويليه بيان أحق الأمم بهذه الرحمة ذكر على سبيل الاستطراد المقصود بالذات على سنة القرآن، في الانتقال من قصص الرسل إلى أمة خاتم الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام، وهو قوله عز وجل. ﴿ الذين يتّبعون الرّسول النبيّ الأميّ ﴾
والأمية آية من أكبر آيات نبوته فإنه جاء بعد النبوة بأعلى العلوم النافعة وهي ما يصلح ما فسد من عقائد البشر وأخلاقهم وآدابهم وأعمالهم وأحكامهم وعمل بها فكان لها من التأثير في العالم ما لم يكن ولن يكون لغيره من خلق الله. وتعريف الرسول والنبي الموصوف بالأمية كلاهما للعهد كما يعلم مما سنبينه من بشارات الأنبياء بنبينا صلى الله عليه وسلم. والرسول في اصطلاح الشرع أخص من النبي فكل رسول نبي وما كل نبي رسول، ولذلك جعل بعض المفسرين نكتة تقديم الرسول على النبي هنا كونه أهم وأشرف أو أنهما ذكرا هنا بمعناهما اللغوي كقوله :﴿ وكان رسولا نبيا ﴾ [ مريم : ٥١ ] وما أشرنا إليه من نكتة التقديم أظهر، وهو أن النبي الأمي وصف مميز للرسول الذي يجب على كل أحد اتباعه متى بعث، وأن الرسول هو المعروف الذي نزل فيه ﴿ وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه ﴾ [ آل عمران : ٨١ ] - الخ آيته المعروفة في سورة آل عمران.
والنبي في اللغة ( فعيل ) من مادة النبأ بمعنى الخبر المهم العظيم الشأن أو بمعنى الارتفاع وعلو الشأن والأول أظهر وأكثر العرب لا تهمزه بل نقل أنه لم يهمزه إلا أهل مكة ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على رجل قال له يا نبيء الله. وأما في الاصطلاح فالنبي من أوحى الله إليه وأنبأه بما لم يكن يعلم بكسبه من خبر أو حكم يعلم به علما ضروريا أنه من الله عز وجل، والرسول نبي أمره الله تعالى بتبليغ شرع ودعوة دين وبإقامته بالعمل، ولا يشترط في الوحي إليه أن يكون كتابا يقرأ وينشر، ولا شرعا جديدا يعمل به ويحكم بين الناس. بل قد يكون تابعاً لشرع غيره كله كالرسل من بني إسرائيل كانوا متبعين لشريعة التوراة عملا وحكما بين الناس كما قال تعالى :﴿ إنّا أنزلنا التّوراة فيها هدى ونور يحكم بها النّبيّون الّذين أسلموا للّذين هادوا ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] الآية.
وقد يكون ناسخا لبعضه كما نسخ عيسى عليه السلام بعض أحكام التوراة وأقر أكثرها كما يدل على ذلك مثل قوله تعالى حكاية لما خاطب به بني إسرائيل ﴿ ومصدّقا لما بين يديّ من التّوراة ولأحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم ﴾ [ آل عمران : ٥٠ ] وسيرته المأثورة عن الإنجليين الأربعة وغيرهم تدل على ذلك ففيها أنه ما جاء لينقض الناموس ( أي التوراة ) وإنما جاء ليتمم، وأنه أحل لهم بعض ما حرم عليهم حتى ما دل عليه عموم ترك العمل يوم السبت فخصه بغير العمل الصالح من أمور الدنيا بل نرى فريق النصارى الرسميين بعد تكوين نظام الكنيسة قد تركوا ما عدا الوصايا العشر من شريعة التوراة واستبدلوا بيوم الأحد السبت فيما حرمت الوصايا من العمل فيه وخالف الأكثرون وصية النهي عن اتخاذ الصور والتماثيل ولكن لا يستطيعون أن يأتوا بدليل على هذا من قول المسيح ولا من فعله.
وجملة القول إن الرسول أخص في عرف شرعنا من النبي، فكل رسول نبي ولا عكس، وإذا أطلق الرسول بالمعنى الذي يعم رسل الملائكة كان من هذا الوجه أعم من النبي لأن الله اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس، ولم يجعل فيهم أنبياء. فنبينا صلى الله عليه وسلم نبي رسول، وجبريل عليه السلام رسول غير نبي، وآدم عليه السلام نبي غير رسول كأكثر أنبياء بني إسرائيل، وهذا على قول المحققين في نص حديث الشفاعة في الصحيحين وغيرهما الناطق بأن نوحا أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وقد تقدم في الكلام على عدد الرسل من تفسير سورة الأنعام جواز تسميته رسولا في عرف بعض أهل الكلام، وأنهم لهذا العرف عدوه من الرسل الذين تجب معرفة رسالتهم وأول هؤلاء حديث الشفاعة تأويلات تجدها هنالك.
وصف الله الرسول الذي أوجب اتباعه على كل من أدركه من بني إسرائيل وغيرهم بصفات ونعوت أولها :( أنه هو النبي الأمي الكامل ).
ثانيها- قوله تعالى :﴿ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التّوراة والإنجيل ﴾ ومعناه الذي يجد الذين يتبعونه من بني إسرائيل صفته ونعته مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل، وإنما ذكر الإنجيل والسياق في قوم موسى لأن المخاطب به بالذات بنو إسرائيل، ومما هو مأثور عن المسيح عليه السلام في هذه الأناجيل : لم أبعث إلا إلى خراف إسرائيل الضالة. ولا يعارضه ما رووا عنه من أمره تلاميذه أن يكرزوا بالإنجيل في الخليقة كلها إذ يجمع بينهما أن يراد بالخليقة ما كانوا يسمونه ( اليهودية ) والعبارة الأولى نص بصيغة الحصر لا تحتمل التأويل. وقال أبو السعود الذي يجدونه مكتوبا باسمه ونعوته الشريفة بحيث لا يشكون أنه هو ولذلك عدل عن أن يقال يجدون نعته أو وصفه مكتوبا عندهم، والظرف ( عندهم ) لزيادة التقرير وأن شأنه عليه السلام حاضر عندهم لا يغيب عنهم اه وسيأتي بيان ذلك في فصل خاص.
ثالثها ورابعها- قوله :﴿ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ﴾ يحتمل أنه استئناف لبيان أهم ما يحتاجون إليه عند بعثته- ويحتمل أنه تفسير لما كتب. والمعروف ما تعرف العقول السليمة حسنه وترتاح القلوب الطاهرة له لنفعه وموافقته للفطرة والمصلحة بحيث لا يستطيع العاقل المنصف السليم الفطرة أن يرده أو يعترض عليه إذا ورد الشرع به. والمنكر ما تنكره العقول السليمة وتنفر منه القلوب وتأباه على الوجه المذكور أيضا. وأما تفسير المعروف بما أمرت به الشريعة والمنكر بما نهت عنه فهو من قبل تفسير الماء بالماء. وكون ما قلناه يثبت مسألة التحسين والتقبيح العقليين وفاقا للمعتزلة وخلافا للأشعرية، مردود إطلاقه بأننا إنما نوافق كلا منهما من وجه ونخالفه من وجه اتباعا لظواهر الكتاب والسنة وفهم السلف لهما فلا ننكر إدراك العقول لحسن الأشياء مطلقا ولا نقيد التشريع بعقولنا ولا نوجب على الله شيئا من عند أنفسنا بل نقول أنه لا سلطان لشيء عليه فهو الذي يوجب على نفسه ما شاء إن شاء كما كتب على نفسه الرحمة لمن شاء وإن من الشرع ما لم تعرف العقول حسنه قبل شرعه، وإن كل ما شرعه تعالى يطاع بلا شرط ولا قيد.
قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذا الأمر والنهي ما نصه : هذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة، وهكذا كانت حاله عليه السلام لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر قال عبد الله بن مسعود إذا سمعت الله يقول :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ فارعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه. ومن أهم ذلك وأعظمه ما بعثه الله به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له والنهي عن عبادة ما سواه كما أرسل به جميع الرسل قبله كما قال :﴿ ولقد بعثنا في كلّ أمّة رسولا أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطّاغوت ﴾ [ النحل : ٣٦ ] وقال الإمام أحمد- وذكر سنده إلى أبي حميد وأبي أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه ) ١ رواه أحمد رضي الله عنه بإسناد جيد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب.
خامسها وسادسها- قوله تعالى :﴿ ويحلّ لهم الطّيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ﴾ الطيب ما تستطيبه الأذواق من الأطعمة وتستفيد منه التغذية النافعة، ومن الأموال ما أخذ بحق وتراض في المعاملة. والخبيث من الأطعمة ما تمجه الطباع السليمة وتستقذره ذوقا كالميتة والدم المسفوح، أو تصد عنه العقول الراجحة لضرره في البدن كالخنزير الذي تتولد من أكله الدودة الوحيدة- أو لضرر في الدين كالذي يذبح للتقرب به إلى غير الله تعالى على سبيل العبادة، أي لا ما يذبح لتكريم الضيفان، من صغير وكبير أو أمير أو سلطان. والذي يحرم ذبحه أو أكله لتشريع باطل لم يأذن به الله كالبحيرة والوسيلة والحامي. والخبيث من الأموال ما يؤخذ بغير حق كالربا والرشوة والغلول والسرقة والخيانة والغصب والسحت وقد كان تعالى حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات عقوبة لهم كما قال :﴿ فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات أحلّت لهم ﴾ [ النساء : ١٦٠ ] الآية. وتقدم تفسيرها في سورة النساء. وحرموا هم على أنفسهم طيبات أخرى لم يحرمها الله تعالى عليهم، وأحلوا لأنفسهم أكل أموال غير الإسرائيليين بالباطل كما حكى الله تعالى عنهم بعد ذكر استحلال بعضهم أكل ما يأتمنهم عليه العرب ﴿ ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأمّيّين سبيل ويقولون على اللّه الكذب وهم يعلمون ﴾ [ آل عمران : ٧٥ ] وتقدم تفسيرها في سورة آل عمران.
سابعها- قوله تعالى :﴿ ويضع عنهم إصرهم والأغلال الّتي كانت عليهم ﴾ الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحراك لثقله، وهو مثل لثقل تكليفهم وصعوبته نحو اشتراط قتل الأنفس في صحة توبتهم. وكذلك الأغلال مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة، قالهما الزمخشري. وذكر للثاني عدة أمثلة من شدة أحكام التوراة. وقال ابن كثير : أي أنه جاء بالتيسير والسماحة كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( بعثت بالحنيفية السمحة ) ٢ وقال صلى الله عليه وسلم لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن ( بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، وتطاوعا ولا تختلفا ) ٣ والحديث رواه الشيخان وغيرهما وحاصل ما تقدم إن بني إسرائيل كانوا فيما أخذوا به من الشدة في أحكام التوراة من العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية والعقوبات كالذي يحمل أثقالا يئط منها وهو مع ذلك موثق بالسلاسل والأغلال في عنقه ويديه ورجليه.
وقد بينا في مواضع أخرى حكمة أخذ بني إسرائيل بالشدة في الأحكام وأن المسيح عليه السلام خفف عنهم بعض التخفيف في الأمور المادية وشدد عليهم في الأحكام الروحية لما كان من إفراطهم في الأولى وتفريطهم في الأخرى، وكل هذا وذاك قد جعله الله تعالى تربية موقوتة لبعض عباده ليكمل استعدادهم للشريعة الوسطى العادلة السمحة ا
٢ أخرجه أحمد في المسند ٥/٢٦٦، ٦/١١٦، ٢٣٣..
٣ روي الحديث بلفظ: (بشرا ولا تنفرا، ويسّرا، ولا تعسّرا)، أخرجه بهذا اللفظ: البخاري في الجهاد باب ١٦٤، والمغاري باب ٦٠، والأدب باب ٨٠، والأحكام باب ٢٢، ومسلم في الجهاد حديث ٧١، وأبو داود في الأدب باب ١٧، والدارمي في المقدمة باب ٢٤، وأحمد في المسند ٣/١٣١، ٢٠٩، ٤/٣٩٩، ٤١٢، ٤١٧..
ذكرت رسالة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في الآية التي قبل هذه من قصة موسى عليه السلام استطرادا بحسب نظم الكلام، ولكنها هي المقصودة بالذات من القصة ومن سائر قصص الرسل عليهم السلام، ولما كان ذكرها في سياق القصة لدعوة أهل الكتاب إلى الإسلام وإقامة الحجة عليهم بذكره صلى الله عليه وسلم في كتبهم والبشارة برسالته على ألسنة أنبيائهم، وبيان ما يكون لهم من الفلاح والفوز بالإيمان صلى الله عليه وسلم واتباعه ناسب أن يقفي على ذلك ببيان عموم بعثته صلى الله عليه وسلم ودعوة الناس كافة إلى الإيمان بالله تعالى وبه، فقال عز وجل مخاطبا له صلواته وسلامه عليه :﴿ قل يا أيّها النّاس إنّي رسول الله إليكم جميعا ﴾
﴿ قل يا أيّها النّاس إنّي رسول الله إليكم جميعا ﴾ هذا خطاب عام لجميع البشر من العرب والعجم وجهه إليه محمد بن عبد الله النبي العربي الهاشمي بأمر الله تعالى ينبئهم به أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعالى إليهم كافة، لا إلى قومه العرب خاصة كما زعمت العيسوية من اليهود، فهو كقوله تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ﴾ [ سبأ : ٢٨ ] وقول :﴿ وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ] أي وأنذر به كل من بلغه من الثقلين، فمن قال إنه يؤمن برسالته إلى العرب خاصة لا يعتد بإيمانه لأنه مكذب لهذه النصوص العامة القطعية مما جاء به. وما في معناها كقوله تعالى :﴿ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ﴾ [ الفرقان : ١ ] وقوله :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ] وهو يشمل عقلاء الجن.
وفي هذا المعنى أحاديث صحيحة ناطقة باختصاصه صلى الله عليه وسلم بالرسالة العامة كحديث جابر في الصحيحين وغيرهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة ) ١ وفي رواية كافة. ورواه آخرون عن غيره بألفاظ أخرى.
ولما كانت الشفاعة على إطلاقها غير خاصة به صلى الله عليه وسلم ذهب الجمهور إلى أن الخاص به الشفاعة العظمى لجميع الخلق بفصل القضاء فيهم ومحاسبتهم ليعلم مستقر كل منهم، وفي أحاديث الصحيحين وغيرهما أن أهل الموقف يرسلون الوفود إلى آدم فنوح فإبراهيم فموسى فعيسى عليهم السلام يطلبون منهم الشفاعة عند الله تعالى بفصل القضاء، فيعترف كل منهم بأن هذا ليس من شأنه ويقول :" لست هناكم " ويطلب النجاة لنفسه ويحيلهم على من بعده، حتى إذا أحالهم عيسى على محمد صلوات الله عليه وعليهم أجمعين أجابهم إلى طلبهم وقال " أنا لها " وفي رواية " أنا صاحبكم " فيشفع في فصل القضاء بين الخلق فتقبل شفاعته. وقيل إن المراد غير هذه الشفاعة وقيل ما يعمها وغيرها، والروايات في الشفاعة متداخلة مضطربة، ولسنا بصدد تحقيق القول فيها.
ثم وصف الله عز وجل نفسه في هذا المقام بتوحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وبالإحياء والإماتة فقال :﴿ الّذي له ملك السّماوات والأرض لا إله إلاّ هو يحيي ويميت ﴾ والمراد بملك السماوات والأرض التصرف والتدبير في العالم كله لما جرى عليه عرف البشر من أن السماوات هي العوالم التي تعلو هذه الأرض التي يعيشون فيها وصاحب الملك والتصرف والتدبير فيهما هو ربهما رب العالمين، وهو واحد، ولو كان لغيره تصرف لتعارض مع تصرفه وفسد النظام العام، فإن وحدة النظام في جملة المخلوقات وعدم التفاوت والتعارض فيها دليل على وحدة مصدرها وتدبيرها، وإذا كان رب الخلائق واحدا وجب أن يكون هو المعبود وحده، لا إله إلا هو، والتوحيد بقسميه : توحيد الربوبية بالإيمان وتوحيد الألوهية بالإيمان والعمل أي عبادة الله وحده- هما أصل الدين وأساسه، والركن الأول لعقائده، وقد اقترن برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي الركن الثاني، وأما وصفه تعالى بالإحياء والإماتة وهو بعض تصرف الرب في خلقه فيتضمن عقيدة البعث بعد الموت التي هي الركن الثالث من أركان الإيمان، فقد أدمجت في دعوى الرسالة أركان الدين الثلاثة- وهو من إيجاز القرآن الغريب- وبنى على ذلك الدعوة إلى الإيمان على طريقة التفريع على هذا الأصل بل الأصول، وذلك قوله عز من قائل.
﴿ فآمنوا بالله ورسوله النّبيّ الأميّ ﴾ أي فآمنوا يا أيها الناس من جميع الأمم بالله الواحد في ربوبيته وألوهيته الذي يحيي كل ما تحله الحياة في العالم، ويميت كل ما يعرض له الموت بعد الحياة، وهذا أمر يتجدد كل يوم فتشاهدونه ومثله البعث العام بعد الموت العام وخراب هذا العالم، وآمنوا برسوله المطلق الممتاز بأنه النبي الأمي الذي بعثه في الأميين ( العرب ) رسولا إلى الخلق أجمعين، يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويطهرهم من خرافات الشرك والرذائل والجهل والتفرق والتعادي بعصبيات الأجناس واللغات والأوطان ليكونوا بهدايته أمة واحدة يتحقق بها الإخاء البشري العام، وقد بشر به الأنبياء الكرام عليهم السلام، لأنه المتم المكمل لما بعثوا به من هداية الأقوام، وأميته صلى الله عليه وسلم من أعظم معجزاته، وأية آية على صحة دعوى الرسالة أقوى وأظهر من تعليم الأمي الذي لم يتعلم شيئا لجميع الأمم، ما فيه صلاحهم وفلاحهم من العلوم والحكم ؟
﴿ الّذي يؤمن بالله وكلماته ﴾ أي يؤمن بما يدعوكم إلى الإيمان به من توحيد الله تعالى وكلماته التشريعية التي أنزلها لهداية خلقه، وهي مظهر علمه وحكمته ورحمته، وكلماته التكوينية التي هي مظهر إرادته وقدرته وحكمته.
وبعد أمرهم بالإيمان أمرهم بالإسلام فقال :﴿ واتّبعوه لعلّكم تهتدون ﴾ أي واتبعوه بالإذعان الفعلي لكل ما جاءكم به من أمر الدين فعلا وتركا، رجاء اهتدائكم بالإيمان وباتباعه لما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة، فثمرة الإيمان والإسلام اهتداء صاحبهما ووصوله بالفعل لسعادة الدارين كما فصلناه في غير هذا الموضع، ودليله الفعلي في الدنيا ما آمن من قوم بنبي إلا وكانوا بعد الإيمان به خيرا مما كانوا قبله من هناء المعيشة والعزة والكرامة في دنياهم، وأظهر التواريخ وأقربها عهدا تاريخ الأمة المحمدية، ومن العجائب أن يصل بهم الجهل بعد ذلك إلى ترك هذه الهداية التي نالوا بها الملك العظيم والعز والسؤدد والغنى والحضارة، وأعجب منه أن يزول المعلول بزوال علته وهم لا يشعرون به فيعودوا إليه، وأعجب من هذين أن يصل بهم الجهل إلى أن يعتقد كثير منهم في هذا العصر أن هداية الإسلام التي سعدوا بها ثم شقوا بتركها هي سبب هذا الشقاء الأخير لا تركها.
فصل في معنى اتباع الرسول وموضوعه ولوازمه
قوله تعالى هنا ﴿ واتبعوه ﴾ أعم من قوله في الآية التي قبلها ﴿ واتبعوا النور الذي أنزله معه ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] فتلك في اتباع القرآن خاصة وهذه تشمل اتباعه صلى الله عليه وسلم فيما شرعه من الأحكام من تلقاء نفسه، على القول بأن الله تعالى أعطاه ذلك وأذن له به، واتباعه في اجتهاده واستنباطه من القرآن إذا كان تشريعا –كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها كالجمع بين الأختين المنصوص في القرآن- ولا يدخل فيه اتباعه فيما كان من أمور العادات كحديث ( كلوا الزيت وادهنوا به فإن طيب مبارك ) ٢ رواه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة والحاكم وصححه ورواه غيرهما بألفاظ أخرى وأسانيده ضعيفة، وحديث ( كلوا البلح بالتمر ) ٣ الخ رواه النسائي وابن ماجه والحاكم عن عائشة وصححوه، فإن هذا من أمور العادات التي لا قربة فيها ولا حقوق تقتضي التشريع، بخلاف حديث ( كلوا لحوم الأضاحي وادخروا ) ٤ رواه أحمد والحاكم عن أبي سعيد وقتادة بن النعمان وسنده صحيح. فإن الأضاحي من النسك، والأكل منها سنة فأمر المضحي به للندب، وادخارها جائز له، ولولا الأمر به لظن تحريمه أو كراهته لعلاقة الأضاحي بالعيد فهي ضيافة الله تعالى للمؤمنين في أيام العيد.
فالتشريع إما عبادة أمرنا بالتقرب إلى الله تعالى بها وجوبا أو ندبا، وإما مفسدة نهينا عنها اتقاء لضررها في الدين كدعاء غير الله فيما ليس من الأسباب التي يتعاون عليها الناس وكأكل المذبوح لغير الله وتعظيم غير الله بما شرع تعظيم الله به من الذبح له والحلف باسمه- أو لضررها في العقل أو الجسم أو المال أو العرض أو المصلحة العامة- وإما حقوق مادية أو معنوية أمرنا بأدائها إلى أهلها كالمواريث والنفقات ومعاشرة الأزواج بالمعروف، أو أمرنا بالتزامها لضبط المعاملات كالوفاء بالعقود وبإدخال حكم الاستحباب وحكم كراهة التنزيه في التشريع تتسع أحكامه في أمور العادات كما يعلم مما يأتي.
ليس من التشريع الذي يجب فيه امتثال الأمر واجتناب النهي ما لا يتعلق به حق لله تعالى ولا لخلقه لا جلب مصلحة ولا دفع مفسدة كالعادات والصناعات والزراعة والعلوم والفنون المبنية على التجارب والبحث وما يرد فيها من أمر ونهي يسميه العلماء إرشادا لا تشريعا إلا ما ترتب على النهي عنه وعيد كلبس الحرير، وقد ظن بعض الصحابة رضي الله عنهم أن إنكار النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الأمور الدنيوية المبينة على التجارب للتشريع كتلقيح النخل فامتنعوا عنه فاشاص ( خرج ثمره شيصا أي رديئا أو يابسا ) فراجعوه في ذلك فأخبرهم أنه قال ما قال عن ظن ورأي لا عن تشريع وقال لهم ( أنتم أعلم بأمر دنياكم ) ٥ والحديث معروف في صحيح مسلم وحكمته تنبيه الناس إلى أن مثل هذه الأمور الدنيوية والمعاشية كالزراعة والصناعة لا يتعلق بها لذاتها تشريع خاص بل هي متروكة إلى معارف الناس وتجاربهم.
وكانوا يراجعونه أيضا فيما يشتبه عليهم أهو من رأيه صلى الله عليه وسلم واجتهادة الدنيوي أو بأمر من الله تعالى وإن لم يكن تشريعا كسؤاله عن الموضع الذي اختاره للنزول فيه يوم بدر، قال الحباب بن المنذر رضي الله عنه : أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا متقدم عنه ولا متأخر ؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فلما أجابه بأنه رأي لا وحي وإن المعول فيه على المصلحة ومكايد الحرب أشار بغيره فوافقه صلى الله عليه وسلم.
وإذا اشتبه على بعض الصحابة بعض هذه المسائل فغيرهم أولى بأن يعرض لهم الاشتباه في كثير منها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبين لأولئك الحق فيما اشتبهوا فيه، ومن ذا يبين ذلك من بعده ؟ ولو لم يتخذ الناس اجتهاد العلماء من بعده دينا يوجبون اتباعه لهان الأمر، ولكن اتخاذه دينا قد كثرت به التكاليف، ووقع المسلمون به في حرج عظيم في الأزمنة التي ضعف فيها الاتباع، فثقلت على الطباع، فصاروا يتركون ما ثقل عليهم منها، وجرأهم ذلك على ترك المشروع القطعي الذي لا جرح ولا عسر فيه، ثم جرهم ذلك إلى ترك بعضهم للدين كله ودعوة غيرهم إلى ذلك، والجامدون من مقلدة الفقه المتشددين في إلزام الأمة التدين باجتهاد الفقهاء لا يشعرون بهذه العاقبة السوءى ولا يبالون إذا أشعرهم المصلحون.
مثال ما شدد به بعضهم من ذلك صبغ
٢ أخرجه الترمذي في الأطعمة باب ٤٣، وابن ماجه في الأطعمة باب ٣٤، والدارمي في الأطعمة باب ٢٠، وأحمد في المسند ٣/٤٩٧..
٣ أخرجه ابن ماجه في الأطعمة باب ٤٠..
٤ أخرجه أحمد في المسند ٣/٤٨، ٤/١٥، ٦/٣٨٤..
٥ تقدم الحديث مع تخريجه مرارا..
بين تعالى في الاستطراد الخاص بنبوة خاتم الرسل صلوات الله عليه وسلامه كتابة رحمته للذين يتبعونه من قوم موسى وعيسى عليهما السلام، وقال في متبعيه ﴿ أولئك هم المفلحون ﴾ أي دون غيرهم من الذين كفروا به ولم يتبعوا النور الذي أنزل معه بعد بعثته وبلوغ دعوته، وذلك لا ينافي كون المتبعين لموسى حق الاتباع قبل بعثته صلى الله عليه وسلم على هدى وحق وعدل وأنهم من المفلحين، فإن ما أفادته جملة ﴿ أولئك هم المفلحون ﴾ من الحصر إضافي لا حقيقي كما أشرنا إليه آنفا وبيناه في تفسير تلك الآية. ولذلك بين سبحانه في هذه الآية حال خواص أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا متبعين له حق الإتباع، عاطفا إياهم على المهتدين باتباع خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم فقال :
﴿ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾ أي ومن قوم موسى ( أيضا ) جماعة عظيمة يهدون الناس بالحق الذي جاءهم به من عند الله تعالى ويعدلون به دون غيره إذا حكموا بين الناس، لا يتبعون فيه الهوى، ولا يأكلون السحت والرشى، فالظاهر المتبادر أن هؤلاء ممن كانوا في عصره وبعد عصره حتى بعد ما كان من ضياع أصل التوراة ثم وجود النسخة المحرفة بعد السبي، فإن الأمم العظيمة لا تخلو من أهل الحق والعدل. وهذا من بيان القرآن للحقائق، وعدله في الحكم على الأمم، كقوله :﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلّا ما دمت عليه قائما ﴾ [ آل عمران : ٧٥ ] الآية وقيل في وجه التناسب والاتصال إنه ذكر هؤلاء من قومه في مقابل متخذي العجل للدلالة على أنهم كانوا بعض قومه لا كلهم، وهو جائز على بعد يقدر بقدر بعد هذه الآية عن قصة العجل، وما قلناه أظهر.
فإن قيل : إن قوله :" يهدون ويعدلون " للحال المفيد للاستمرار قلنا : إن أمثاله مما حكي فيه حال الغابرين وحدهم بصيغة المضارع كثير. ووجهه أن التعبير لتصوير الماضي في صورة الحاضر، وما هنا يشمل أهل الحق من قوم موسى إلى زمن نزول هذه السورة ممن لم تكن بلغتهم دعوة النبي الأمي خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وهم الذين كانوا كلما بلغت أحدا منهم الدعوة قبلها وأسلم وقد ورد في وصفهم آيات صريحة وحمل بعضهم هذه الآية التي نفسرها عليهم وحدهم.
قالوا : إن المراد بهؤلاء الأمة من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه. ونقول إنه نزل في هؤلاء آيات صريحة كقوله :﴿ وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن باللّه وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ﴾ [ آل عمران : ١٩٩ ] الآية وهذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها ليست صريحة في هذا بل السياق ينافيه لأنها جاءت بعد بيان حال الذين يؤمنون به صلى الله عليه وسلم، فالمتبادر فيها أنها في خواص قوم موسى في عهد موسى وبعد عهده ومنهم النبيون والربانيون والقضاة العادلون كما يعلم بالقطع من آيات أخرى. فالآيات في الخيار من أهل الكتاب ثلاثة أنواع :
١- الصريحة في الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا قبل إيمانهم أو بعده كقوله تعالى في سورة البقرة :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ﴾ [ البقرة : ١٢١ ] وقوله في سورة القصص :﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ﴾ [ القصص : ٥٢ ] إلى قوله :﴿ أولئك يؤتون أجرهم مرتين ﴾ [ القصص : ٥٥ ] الآيات ومثلهن في سور الأنعام والرعد والإسراء والقصص والعنكبوت الخ.
٢- الصريحة في الذين كانوا في عهد موسى عليه السلام واستقاموا معه ثم في عهده من بعده من أنبيائهم إلى عهد البعثة العامة قبل بلوغ دعوتها كالآية التي نحن بصدد تفسيرها.
٣- المحتملة للقسمين كقوله تعالى :﴿ من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله ﴾ [ آل عمران : ١١٣ ] الخ فراجع تفسيرهن ( في ج٤ تفسير ).
وفي تفسير الأمة هنا خرافات إسرائيلية ذكر بعضها ابن جرير عن ابن جريج أنه قال بلغني كذا وذكر أن سبطا من بني إسرائيل ساروا في نفق من الأرض فخرجوا من وراء الصين الخ وذكر عن ابن عباس ما يؤيد هذا بدون سند. وابن جريج على سعة علمه وروايته وعبادته شر المدلسين تدليسا لأنه لا يدلس عن ثقة وأئمة الجرح والتعديل لا يعتدون بشيء يرويه بغير تحديث، ونقل هذه الخرافة كثيرون وزادوا فيها ما عزوه إلى غيره أيضا وبحثوا فيها مباحث، ولا يستحق شيء من ذلك أن يحكى.
هذا سياق آخر من أخبار قوم موسى عليه السلام عطف على ما قبله لمشاركته إياه في كل ما يقصد به من العظات والعبر. قال تعالى :
﴿ وقطّعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما ﴾ أي وفرقنا قوم موسى الذين كان منهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، ومنهم الظالمون والفاسقون- كما سيأتي بعد بضع آيات- قطعناهم فجعلناهم اثنتي عشرة قطعة أي فرقة تسمى أسباطا أي أمما وجماعات يمتاز كل منها بنظام خاص في معيشته وبعض شؤونه، كما يأتي قريبا في مشارب مائهم. والمشهور من معنى السبط بكسر السين أنه ولد الولد مطلقا، وقد يخص بولد البنت. وأسباط بني إسرائيل سلائل أولاده العشرة- أي ما عدا لاوى- وسلائل ولدي ابنه يوسف وهما ( أفرايم ومنسي ) وأما سلالة لاوى فنيطت بها خدمة الدين في جميع الأسباط ولم تجعل سبطا مستقلا. وقد تقدم تفصيل ذلك، فالأسباط بيان للفرق والقطع التي هي أقسام بني إسرائيل ليعلم أنها سميت بذلك، كما سميت الفرق في العرب بالقبائل، والأمم بيان للمراد من معنى الأسباط الاصطلاحي. والأمة الجماعة التي لم تؤلف بين أفرادها رابطة أو مصلحة واحدة أو نظام واحد، وتقدم بيان ذلك أيضا.
﴿ وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا ﴾ تقدم في سورة البقرة مثل هذا مع تفسيره وهو ﴿ وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ﴾ [ البقرة : ٦٠ ] فأفاد ما هنا أن قومه استسقوه، وما هنالك أنه استسقى ربه لقومه. وكلاهما قد حصل. والاستسقاء طلب الماء للسقيا، وتعريف الحجر في هاتين السورتين المكية ( الأعراف ) والمدنية ( البقرة ) لتعظيم جرمه، وقد عبر عنه في التوراة بالصخر –أو تعظيم شأنه، أو كليهما، وكلاهما عظيم، وقد يكون للعهد كما تدل عليه عبارة التوراة إذ عينت مكانه من جبل حوريب. والانبجاس والانفجار واحد، يقال : بجسه أي فتحه فانبجس وبجّسه ( بالتشديد ) فتبجس، كما يقال : فجره ( كنصره ) إذا شقه فانفجر، وفجره ( بالتشديد ) فتفجر- وزعم الطبرسي أن الانبجاس خروج الماء بقلة، والانفجار خروجه بكثرة. وأنه عبر بهما لإفادة أنه خرج أولا قليلا ثم كثر. وأدق منه قول الراغب : الانبجاس أكثر ما يقال فيما يخرج من شيء ضيق، والانفجار يستعمل فيه وفيما يخرج من شيء واسع، فاستعمل حيث ضاق المخرج اللفظان- أي وهو حجر موسى- وقال :﴿ وفجرنا خلالهما نهرا ﴾ [ الكهف : ٣٣ ] ﴿ وفجرنا الأرض عيونا ﴾ [ القمر : ١٢ ] ولم يقل بجسنا اه.
أقول : ولكن رواة اللغة فسروا أحدهما بالآخر، وذكروا من الشواهد عليه ما يدل على الكثرة. قال في اللسان : البجس انشقاق في قربة أو حجر أو أرض ينبع منه الماء، فإن لم ينبع فليس بانبجاس وأنشد :
*** وكيف غْرَبيْ دالج تبجساً١***
والسحاب يتبجس بالمطر، والانبجاس عام، والنبوع للعين خاصة، وبجست الماء فانبجس أي فجرته فانفجر، وبجس بنفسه يبجس، يتعدى ولا يتعدى، وسحاب بُجّس، وتبجس أي تفجر اه وفي الأساس : انبجس الماء من السحاب والعين : انفجر، وتبجس : تفجر الخ... وسحائب بجس وبجسها الله. قال ابن مقبل :
له قائد دُهم الرباب وخلفه | روايا يُبجّسن الغمام الكنهورا٢ |
وقد اختلف علماء أهل الكتاب في مدلول لفظ ( حوريب ) الذي أمر الله موسى أن يذهب إلى صخر فيه فيجده- أي الرب- عنده أو عليه، وأن يضربه بعصاه فينفجر منه الماء : هل هو جبل سيناء نفسه أم بين اللفظين عموم وخصوص- ويزعم بعضهم أن الصخر المذكور في الوادي الذي يسمى ( وادي اللجاء ) ويعين بعض الرهبان مكانه.
ولا يعنينا شيء مما ذكر إلا أننا نجزم بأن ما في كتب التفسير عندنا من صفة ذلك الحجر وحجمه وشكله ككونه كرأس الشاة أو أكبر وكونه يوضع في الجوالق أو يحمل على ثور أو حمار كل ذلك من الخرافات الإسرائيلية التي كانوا يتلقونها بالقبول أيها أغرب. وقد نقل ابن كثير على احتراسه كثيرا منها.
وفي عرائس المجالس عن وهب بن منبه أن موسى كان يقرع لهم أقرب حجر فتنفجر منه عيون... فقالوا إن فقد موسى عصاه متنا عطشا فأوحى الله إليه بأن يكلم الحجارة فتطيعه، فقالوا كيف بنا إذا مضينا إلى الأرض التي ليس فيها حجارة ؟ فأمر الله موسى أن يحمل معه حجرا فحيثما نزل ألقاه ! الخ وهذا من الخرافات التي اختلقها وهب ليس لها أصل عند اليهود ولا عند المسلمين. ولولا جنون الرواة بكل ما يقال عن بني إسرائيل لما قبلوا من مثله أن يشرب مئات الألوف أو الملايين من حجر صغير يحمل كما قبلوا من مزاعمه أن رأس الرجل من قوم هود عليه السلام كان كالقبة العظيمة ! ! وقد عدوه مع أمثال هذه الخرافات ثقة في الرواية !
﴿ وظلّلنا عليهم الغمام ﴾ الغمام السحاب أو الأبيض أو الرقيق منه أي وسخرنا لهم الغمام يلقي عليهم ظله فيقيهم لفح حرارة الشمس من حيث لا يحرمون فائدة نورها وحرها المعتدل، وتسمى السحابة ظلة بالضم ككل ما أظلك من فوق. ولولا كثرة السحاب في التيه لأحرقتهم الشمس إذ لم يكن هنالك شجر يستظلون به.
﴿ وأنزلنا عليهم المنّ والسلوى ﴾ المن مادة بيضاء تنزل من السماء ( الجو ) كالطل حلوة الطعم تشبه العسل، وإذا جفت تكون كالصمغ، وقد كثر نزوله على بني إسرائيل في التيه وهو موصوف في التوراة بأن طعمه كطعم قطائف بالزيت ومنظره كمنظر المقل، وعبر عنه فيها بخبز السماء. وقد كان يقوم مقام الخبز. ويقول كثير من المفسرين إنه هو المعروف عند الأطباء بالترنجبين. وقال ( الدكتور بوست ) في قاموس الكتاب المقدس : لا يجوز أن يشتبه بين هذا المن والمن الطبي الذي هو عصير منعقد من شجرة الدردار ولا هو أيضا- المن الذي يتكون من شجرة الطرفاء وعلل ذلك بقوله :
١- إن الإسرائيليين لم يروه قبل رحلتهم ٢- لا يوجد المن العربي إلا تحت الطرفاء وفي أول الصيف فقط ٣- يمكن حفظه مدة طويلة ولا يدود ٤- لا يمكن طحنه أو دقه ٥- يتكون المن كل يوم من أيام الأسبوع مدة الفصل اه.
وفي قوله نظر لا حاجة إلى شرحه، وهو يريد به إثبات ما قاله من أن هذا المن كان " عجيبة " أي معجزة أو كرامة لموسى عليه السلام. ونحن لا ننكر ما آتى الله كليمه من الآيات البينات والحجج على قومه لإصلاحهم. وقد كان أفسدهم استعباد المصريين لهم ويكفي أن تكون المعجزة في نزولها بتلك الكثرة التي كانت تكفي تلك الألوف وتقوم عندهم مقام الخبز كما اعترف به هو في ( السلوى ) فقد وافق غيره في أنها هي طير السمان المعروف وقال : أنها كانت تهاجر من إفريقية ( ولاسيما مصر ) فتصل إلى سيناء تعبة فتقع على الأرض أو تسفّ فتؤخذ باليد. وقيل طير تشبه السمان ولكنها أكبر منها.
﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ هنا قول مقدر يكثر مثله في التنزيل وكلام العرب أي وقلنا لهم- أو أنزلنا ما ذكر عليهم قائلين : كلوا من طيبات ما رزقناكم، فوضع هذا الوصف للمن والسلوى موضع الضمير لتعظيم شأن المنة بهما. وإسناد الرزق إلى ضمير جمع العظمة تأكيد للتنبيه والتذكير بما يجب من شكره تعالى على ذلك. ويقدر مثل هذا في آية البقرة المدنية، وإن كانت خطابا لبني إسرائيل المجاورين للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ولمن بلغه من غيرهم، فإن الخطاب لهم هنالك إنما كان بما وقع لأجدادهم فهو بمعنى الحكاية في آية الأعراف إلا أن الكلام هنا كان موجها أولا إلى المشركين لأن السورة مكية، ولذلك اتحد عجز الآية في السورتين وهو :
﴿ وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ أي وما ظلمونا بكفرهم بهذه النعم ولكن كان دأبهم ظلم أنفسهم دون ربهم الذي لا يناله تأثير أحد بظلم ولا غيره فكانوا يجنون على أنفسهم بكفر النعم والجحود وغيرهما آنا بعد آن وجيلا بعد جيل، كما هو مبين في القرآن بالإجمال وفي التوراة بالتفصيل، فتقديم أنفسهم على يظلمون المفيد لقصر ظلمهم عليها إنما هو لبيان أن كفرهم بنعمه تعالى يضرهم ولا يضره تعالى كما في الحديث القدسي الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ) ٣ ومنه :( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ) ٤.
ولا يدخل في معنى القصر أنهم لا يظلمون الناس فإنه لم يكن معهم أحد في التيه فينفي عنهم ظلمه ولما اتصلوا بالناس بعد الخروج منه كان منهم العادلون ومنهم الظالمون ومن ظلم نفسه كان لغيره أظلم. وإن كان ظلمه لنفسه مما يجهل أنه ظلم لها لأنه يتجلى له في صورة المنفعة. وإنما تكون عاقبته المضرة، وهكذا شأن جميع الظالمين والمجرمين ينوون بظلمهم وإجرامهم نفع أنفسهم جهالة منهم. ولا يزال طوائف من بني إسرائيل يقدمون على ضروب من ظلم الناس يقصدون بها نفع أنفسهم وقومهم، وهي تنذر بخطر كبير، وشر مستطير، كالفتنة التي أثاروها في بلاد الروسية بتعاليم الاشتراكية المسرفة المعبر عنها بالبلشفية، ومحاولة انتزاع فلسطين من الأمة العربية، وهذا مما يدخل في مضمون التمادي والاستمرار على الظلم المعبر عنه بجملة ﴿ كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ إذ هي تفيد أن هذا صار دأبا وعادة لهم.
٢ البيت من الطويل، وهو لابن مقبل في ديوانه ص١٤٥، ولسان العرب (قود)، (كنهر)، وتهذيب اللغة ٩/٢٤٨، وأساس البلاغة (قود)، وتاج العروس (قود)، (كنهر)..
٣ أخرجه مسلم في البر حديث ٥٥، وأحمد في المسند ٥/١٦٠..
٤ أخرجه مسلم في البر حديث ٥٥..
تقدم مثل هاتين الآيتين في سورة البقرة وبين ما هنا وما هنالك فروق في التعبير نبينها هنا فنقول :
١و٢- قال تعالى هنا :﴿ وإذ قيل لهم ﴾ لأن القصة خطاب وجه أولا إلى أهل مكة، فالحكاية فيه عن بني إسرائيل حكاية عن غائب والأصل أن يذكر ضميره فيه ولذلك قال :" لهم " وفي سورة البقرة " وإذا قلنا " والمعنى واحد إذ المعلوم أن القائل هو الله تعالى، وقد روعي هنالك السياق في خطاب بني إسرائيل إذ قبلها ﴿ وإذ فرقنا بكم البحر... ﴾ [ البقرة : ٥٠ ] ﴿ وإذا واعدنا موسى... ﴾ [ البقرة : ٥١ ] فناسب أن يقول " وإذ قلنا " ولم يقل فيها " لكم " كما قال هنا " لهم " لأن القول كان لأجداد المخاطبين من ألوف السنين لا لهم أنفسهم، ولم يقل " لهم " أيضا لأن السياق لم يكن حكاية عن غائب مجهول يحتاج إلى تعيينه، بل هو تذكير الخلف بما تقوم به عليهم الحجة من شؤون السلف، لأنهم وارثو أخلاقهم وغرائزهم وعاداتهم، فهو إذن مشترك بين الخلف الحاضر، والسلف الغابر، وزيادة " لهم " تلصقه بالغائب وحده فتكون حكايته لبني إسرائيل كحكايته لعرب مكة وغيرهم، فتأمل :
٣- قال ههنا ﴿ اسكنوا هذه القرية ﴾ وفي سورة البقرة ﴿ ادخلوا ﴾ والفائدة ههنا أتم لأن السكنى تستلزم الدخول ولا عكس. وتظهر فائدة اختلاف التعبير في الفعلين بما يليهما من العطف عليهما وهو :
٤ و٥- قال ههنا ﴿ وكلوا منها حيث شئتم ﴾ وفي سورة البقرة ﴿ فكلوا منها حيث شئتم رغدا ﴾ فعطف الأمر بالأكل هنالك بالفاء لأن بدءه يكون عقب الدخول كأكل الفواكه والثمرات التي كانت توجد في كل ناحية من القرية –والسكنى أمر ممتد يكون الأكل في أثنائه لا عقبه، بل لا يقال عقب السكنى إلا فيمن يترك هذه السكنى، ولذلك عطف عليه هنا بالواو التي تفيد الجمع بين الأمرين مطلقا بلا ملاحظة ترتيب ولا تعقيب. وقد وصف هنالك الأكل بالرغد وهو الواسع الهنيء والتبشير به يناسب حال الدخول، إذ الأمر لدى الداخل مجهول.
٦- قال ههنا ﴿ وقولوا حطّة وادخلوا الباب سجدا ﴾ وقدم هنالك ما أخر هنا وأخر ما قدمه أي في الذكر، وهو لا يدل على طلب ترتيب بين الأمرين لأن العطف فيه بالواو الدالة على طلب الأمرين مطلقا، ولكن لو كان التعبير في الموضعين واحدا لفهم منه أن المقدم في الذكر أرجح أو أهم ولو في الجملة كما هي القاعدة في التقديم لذاته. فكان الاختلاف دالا على عدم الفرق بين تقديم هذا وتأخير ذلك وبين عكسه. لأن المراد منهما لا يقتضي ترتيبا بين ما دلت عليه كلمة ( حطة ) وهو الدعاء بأن تحط عنهم أوزارهم وخطاياهم كقولك اللهم غفرا وبين دخول باب القرية في حال التلبس بالتواضع والخشوع لله تعالى وتنكيس الرؤوس شكرا لجلاله على نواله، كما فعل النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة فاتحا.
٧- قال ههنا ﴿ نغفر لكم خطيئاتكم ﴾ قرأ نافع وابن عامر ويعقوب ( تغفر ) بالتاء والفاء المفتوحة ورفع ( خطيئاتكم ) وهو يناسب ( وإذ قيل لهم ) وقرأ الجمهور نغفر بالنون وكسر الفاء ونصب " خطيئاتكم " بكسر تائها وهو يناسب ما بعده وهو كون " سنزيد " للمتكلم المعظم. والمعنى فيهما واحد، لأن المخاطب الذي يغفر الذنوب واحد. وقرأ ابن عامر ( خطيئتكم ) بالإفراد. وهو بمعنى الجمع لأنه مضاف فيفيد العموم، ولعل فيه إشارة إلى خطيئة خاصة مشتركة. وقرأ أبو عمرو ( خطاياكم ) وبها قرأ الجمهور في آية البقرة، مع اختلافهم في فعل المغفرة كما هنا. وكتابة الكلمتين في المصحف الإمام تحتمل كل ما ذكر في الكلمتين، وفائدة الاختلاف بين قراءتي الإفراد والجمع للخطيئة أن هذه الذنوب تغفر لهم إذا فعلوا ما أمروا به من قول وفعل سواء كانت قليلة كواحدة أو كثيرة.
٨- قال ههنا ﴿ سنزيد المحسنين ﴾ بدون واو على الاستئناف البياني وهو جواب سؤال كأنه قيل : وماذا بعد المغفرة ؟ أي سنزيد المحسنين في عملهم جزاء حسنا على إحسانهم. وفي سورة البقرة ( وسنزيد ) بالعطف، والمعنى واحد. وقد يكون طرح الواو أدل على كون هذه الزيادة تفضل محض ليس مشاركا للمغفرة فيما جعل سببا لها من الخضوع والسجود والاستغفار والدعاء بحط الأوزار.
تقدم مثل هاتين الآيتين في سورة البقرة وبين ما هنا وما هنالك فروق في التعبير نبينها هنا فنقول :
قال ههنا ﴿ فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم ﴾ وفيه زيادة منهم : على مثله من سورة البقرة وسببها ما تقدم نظيره في قوله تعالى :﴿ وإذ قيل لهم ﴾ الخ من الحاجة إلى ذكر ضمير المحكي عنهم لربط الكلام، وهذه الحاجة منتفية في سورة البقرة كما علمت من الفرق السابع آنفا، وليس لزيادة البيان كما قيل، بل هو الأصل ههنا ولا حاجة إليه هنالك وإن كان حكاية عن الغائبين، لأنه لم يخرج عن سياق مخاطبة خلفهم الحاضرين.
وأما معنى تبديلهم قولا غير الذي قيل لهم فقد تقدم بيانه في تفسير آية البقرة، وملخصه أنهم عصوا بالقول والفعل. وخالفوا الأمر مخالفة تامة لا تحتمل الاجتهاد ولا التأويل، فلم يراعوا ظاهر مدلول لفظه، ولا فحواه والمقصد منه، حتى كأن المطلوب منهم غير الذي قيل لهم، ولو قال فبدلوا قولا بقول، أو فبدلوا ما قيل لهم، لم يدل على هذا المعنى كله.
ولا ثقة لنا بشيء مما روي في هذا التبديل من ألفاظ عبرانية ولا عربية، فكله من الإسرائيليات الوضعية، كما قاله الأستاذ الإمام هنالك. وإن خرج بعضه في الصحيح والسنن موقوفا ومرفوعا كحديث أبي هريرة المرفوع في الصحيحين وغيرهما ( قيل لبني إسرائيل ﴿ ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطّة ﴾ [ البقرة : ٥٨ ] فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا : حطة، حبة في شعرة ) ١ وفي رواية شعيرة. رواه البخاري في تفسير السورتين من طريق همام بن منبه أخي وهب وهما صاحب الغرائب في الإسرائيليات. ولم يصرح أبو هريرة بسماع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار إذ ثبت أنه روى عنه، وهذا مدرك عدم اعتماد الأستاذ رحمه الله تعالى على مثل هذا من الإسرائيليات وإن صح سنده ولكن قلما يوجد في الصحيح المرفوع شيء يقتضي الطعن في سندها.
١٠- ١٢- قال ههنا ﴿ فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون ﴾ وقال هنالك ﴿ فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ﴾ [ البقرة : ٥٩ ] فالاختلاف في ثلاثة مواضع أولها : بين الإرسال والإنزال وهو لفظي إذ الإرسال من فوق عين الإنزال ثانيها : بين المضمر " عليهم " والمظهر ( على الذين ظلموا ) والمراد منهما أن ذلك الرجز عذاب كان خاصا بالذين ظلموا عاما فحسن أن يقول في آية الأعراف " عليهم " لتصريحه بسببية الظلم بعده ولو قال " فأرسلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يظلمون " لكان تكرار التعليل بالظلم منافيا للبلاغة، وهذا التكرار منتف في آية البقرة لأن التعليل فيها بالفسق لا الظلم.
ثالثها : بين يظلمون ويفسقون وفائدته بيان أنهم كانوا جامعين بين الظلم الذي هو نقص للحق أو إيذاء للنفس أو للغير، وبين الفسق الذي هو الخروج عن الطاعة ولو في غير الظلم للنفس أو للناس. وحسن أن تكون هذه الزيادة في آية البقرة لأنها نزلت آخرا. والرجز العذاب الذي تضطرب له القلوب أو يضطرب له الناس في شؤونهم ومعايشهم كما تقدم تحقيقه في تفسير الآية ( ١٣٣ ) من هذه السورة وذكرنا فيها قول المفسرين إن الرجز الذي أرسله الله على الظالمين في قصة دخول القرية هو الطاعون وأنه جائز ولكن لم يثبت بنقل صحيح، وقد عزاه بعض المفسرين إلى وهب بن منبه.
إن الله تعالى أنزل القرآن هدى وموعظة، وجعل قصص الرسل فيه عبرة وتذكرة، لا تاريخ شعوب ومدائن، ولا تحقيق وقائع ومواقع. والعبرة في هذه القصة أن نتقي الظلم والفسق. ونعلم أن الله يعاقب الأمم على ذنوبها في الدنيا قبل الآخرة، وأنه قد عاقب بني إسرائيل بظلمهم، ولم يحل دون عقابه ما كان لهم من المزايا والفضائل، وكثرة وجود الأنبياء فيهم. ومنه السياق الآتي.
هذه الآيات تفصيل لقوله تعالى في سورة البقرة :﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السّبت ﴾ [ البقرة : ٦٥ ] إلى آخر الآيتين وقد تقدم تفسيرها، ولا أعلم للقصة ذكرا من كتب اليهود المقدسة ولكنها كانت معروفة عندهم، ولولا ذلك لبهتوا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة عندما نزل عليه ﴿ ولقد علمتم ﴾ أو لما آمن من آمن به من علمائهم إذا كانوا لا يعلمون ما حكى لهم عن الله تعالى أنهم يعلمونه مؤكدا بلام القسم، وإذا قال غير المسلم المؤمن : إنه اطلع على القصة في بعض كتبهم المقدسة أو التاريخية غير المقدسة أو سمعه من بعضهم- قلنا أولا : إن آيات سورة الأعراف هذه نزلت بمكة في أوائل الإسلام، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أحدا من اليهود- ومن المعلوم قطعا أنه كان أميا لم يقرأ الكتب كما قال تعالى :﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ﴾ [ العنكبوت : ٤٨ ] الخ. وثانيا : إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصدقهم بعد معاشرتهم في المدينة بكل ما يحكون عن كتبهم بل كذبهم عن الله تعالى في كثير منها، ولم يكن يصدقهم في كل ما يقولونه غير منقول عن كتبهم بالأولى : وهاك تفسير الآيات بمدلول ألفاظها، ولا نعتمد على شيء من الروايات فيها.
﴿ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ﴾ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والسؤال فيه للتقرير المتضمن للتقريع، والإدلال بعلم ماضيهم. والمعنى واسأل بني إسرائيل عن أهل المدينة التي كانت حاضرة البحر أي قريبة منه، راكبة لشاطئه ﴿ إذ يعدون في السبت ﴾ أي اسأل عن حالهم في الوقت الذي كانوا يعتدون في السبت، ويتجاوزون حكم الله بالصيد المحرم عليهم فيه. ﴿ إذ تأتيهم حيتانهم ﴾ أي سمكهم- ولا يزال أهل الحجاز يسمون السمكة حوتا كبيرة كانت أو صغيرة، وأهل سورية يخصون السمكة الكبيرة باسم الحوت- وقد أضيفت الحيتان إليهم لما كان من ابتلائهم بها، واحتيالهم على صيدها، وكانت تأتيهم ﴿ يوم سبتهم ﴾ أي تعظيمهم للسبت، فهو مصدر سبتت اليهود تسبت إذا عظمت السبت بترك العمل فيه وتخصيصه للعبادة. ﴿ شرّعا ﴾ أي ظاهرة على وجه الماء كما روي عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه ظاهرة من كل مكان- وهي جمع شارع، كالركع السجد جمع الراكع والساجد، من شرع عليه إذا دنا وأشرف ﴿ ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ﴾ أي ولا تأتيهم يوم لا يعظمون السبت فعلا وتركا. قيل : إنها اعتادت أن لا يتعرض أحد لصيدها يوم السبت، فأمنت وصارت تظهر فيه، وتخفى في الأيام التي لا يسبتون فيها لما اعتادت من اصطيادها فيها، فلما رأوا ظهورها وكثرتها في يوم السبت أغراهم ذلك بالاحتيال على صيدها ففعلوا.
﴿ كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ﴾ أي مثل هذا البلاء بظهور السمك لهم نبلوهم أي نختبرهم أو نعاملهم معاملة المختبر لحال من يريد إظهار كنه حاله ليترتب الجزاء على عمله بسبب فسقهم المستمر عن أمر ربهم، واعتدائهم حدود شرعه.
هذه الآيات تفصيل لقوله تعالى في سورة البقرة :﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السّبت ﴾ [ البقرة : ٦٥ ] إلى آخر الآيتين وقد تقدم تفسيرها، ولا أعلم للقصة ذكرا من كتب اليهود المقدسة ولكنها كانت معروفة عندهم، ولولا ذلك لبهتوا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة عندما نزل عليه ﴿ ولقد علمتم ﴾ أو لما آمن من آمن به من علمائهم إذا كانوا لا يعلمون ما حكى لهم عن الله تعالى أنهم يعلمونه مؤكدا بلام القسم، وإذا قال غير المسلم المؤمن : إنه اطلع على القصة في بعض كتبهم المقدسة أو التاريخية غير المقدسة أو سمعه من بعضهم- قلنا أولا : إن آيات سورة الأعراف هذه نزلت بمكة في أوائل الإسلام، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أحدا من اليهود- ومن المعلوم قطعا أنه كان أميا لم يقرأ الكتب كما قال تعالى :﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ﴾ [ العنكبوت : ٤٨ ] الخ. وثانيا : إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصدقهم بعد معاشرتهم في المدينة بكل ما يحكون عن كتبهم بل كذبهم عن الله تعالى في كثير منها، ولم يكن يصدقهم في كل ما يقولونه غير منقول عن كتبهم بالأولى : وهاك تفسير الآيات بمدلول ألفاظها، ولا نعتمد على شيء من الروايات فيها.
﴿ وإذ قالت أمّة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ﴾ أي واسألهم عن حال أهل تلك القرية في الوقت الذي قالت أمة وجماعة منهم كيت وكيت. تدل هذه الآية على أن الذين كانوا يعدون في السبت بعض أهل القرية لا كلهم وأن أهلها كانوا ثلاث فرق : فرقة العادين التي أشير إليها في الآية الأولى، وفرقة الواعظين الذين نهوا العادين عن العدوان، ووعظوهم ليكفوا عنه وهي التي أشير إليها في هذه الآية. وفرقة اللائمين للواعظين التي قالت لهم : لم تعظون قوما قضى الله عليهم بالهلكة أو العذاب الشديد، فهو إما مهلكهم بالاستئصال، أو بعذاب شديد دون الاستئصال، أو المعنى مهلكهم في الدنيا ومعذبهم في الآخرة- وأيا ما كان المراد ف " أو " هنا هي المانعة للخلو من وقوع أحد الجزاءين، لا المانعة لجمعهما، فهي لا تنفي اجتماعهما. وفي الآية من الإيجاز البليغ ما لا يوجد نظيره في غير القرآن.
﴿ قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ﴾ أي قال الواعظون للائمين : نعظهم وعظ عذر نعتذر به إلى ربكم عن السكوت على المنكر وقد أمرنا بالتناهي عنه، ورجاء في انتفاعهم بالموعظة، وحملها لهم على اتقاء الاعتداء الذي اقترفوه. أي فنحن لم نيأس من رجوعهم إلى الحق يأسكم.
هذه الآيات تفصيل لقوله تعالى في سورة البقرة :﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السّبت ﴾ [ البقرة : ٦٥ ] إلى آخر الآيتين وقد تقدم تفسيرها، ولا أعلم للقصة ذكرا من كتب اليهود المقدسة ولكنها كانت معروفة عندهم، ولولا ذلك لبهتوا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة عندما نزل عليه ﴿ ولقد علمتم ﴾ أو لما آمن من آمن به من علمائهم إذا كانوا لا يعلمون ما حكى لهم عن الله تعالى أنهم يعلمونه مؤكدا بلام القسم، وإذا قال غير المسلم المؤمن : إنه اطلع على القصة في بعض كتبهم المقدسة أو التاريخية غير المقدسة أو سمعه من بعضهم- قلنا أولا : إن آيات سورة الأعراف هذه نزلت بمكة في أوائل الإسلام، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أحدا من اليهود- ومن المعلوم قطعا أنه كان أميا لم يقرأ الكتب كما قال تعالى :﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ﴾ [ العنكبوت : ٤٨ ] الخ. وثانيا : إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصدقهم بعد معاشرتهم في المدينة بكل ما يحكون عن كتبهم بل كذبهم عن الله تعالى في كثير منها، ولم يكن يصدقهم في كل ما يقولونه غير منقول عن كتبهم بالأولى : وهاك تفسير الآيات بمدلول ألفاظها، ولا نعتمد على شيء من الروايات فيها.
﴿ فلما نسوا ما ذكّروا به ﴾ أي فلما نسي العادون المذنبون، ما ذكرهم ووعظهم به إخوانهم المتقون، بأن تركوه وأعرضوا عنه حتى صار كالمنسي في كونه لا تأثير له ﴿ أنجينا الذين ينهون عن السوء ﴾ أي عن العمل الذي تسوء عاقبته أي أنجيناهم من العقاب الذي استحقه فاعلو السوء بظلمهم ﴿ وأخذنا الذين ظلموا ﴾ وحدهم ﴿ بعذاب بئيس ﴾ أي شديد البأس وهو الشدة، أو البؤس وهو المكروه أو الفقر ﴿ بما كانوا يفسقون ﴾ أي بسبب فسقهم المستمر، لا بظلمهم في الاعتداء في السبت فقط. وذلك أن وصفهم بأنهم ظلموا تعليل لأخذهم بعذاب بئيس، على قاعدة كون بناء الحكم أو الجزاء على المشتق يدل على أن المشتق منه علة له.
ولكن الله تعالى لا يؤاخذ كل ظالم في الدنيا بكل ظلم يقع منه ولو كان قليلا في الصفة أو العدد- وإن شئت قلت في الكيف أو الكم- بدليل قوله :﴿ ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة ﴾ [ فاطر : ٤٥ ] وقوله :﴿ ويعفو عن كثير ﴾ [ المائدة : ١٥ ] وإنما يؤاخذ الأمم والشعوب في الدنيا قبل الآخرة بالظلم والذنوب التي يظهر أثرها فيها بالإصرار والاستمرار عليها، وهو ما أفاده هنا في هؤلاء اليهود قوله تعالى :﴿ بما كانوا يفسقون ﴾ وإنما يكون العقاب على بعض الذنوب دون بعض في الدنيا خاصا بالأفراد أو الجماعات الصغيرة من المذنبين كأهل هذه القرية الذين كانوا بعض أهل قرية من أمة كبيرة، وأما الأمم الكبيرة فهي التي تصدق عليها سنن الله في عقاب الأمم إذا غلب عليهم الفسق والظلم كقوله تعالى :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ [ الأنفال : ٢٥ ] إلا أن يقال إن الفاسقين من أهل تلك القرية كانوا أقل من الفريقين الآخرين. وقد عاقب الله بني إسرائيل كافة بتنكيل البابليين ثم النصارى بهم وسلبهم ملكهم، عندما عم فسقهم، ولم يدفع ذلك عنهم وجود بعض الصالحين فيهم، إذ لم يكونوا يخلون منهم.
والآية ناطقة بهلاك الظالمين الفاسقين، ونجاة الصالحين الذين نهوهم عن عمل السوء وارتكاب المنكر، وسكتت عن الفرقة التي أنكرت على الواعظين وعظهم وإنكارهم، فقيل : إنها لم تنج، لأنها لم تنه عن المنكر بل أنكرت على الذين نهوا، وقيل : بل نجت، لأنها كانت منكرة للمنكر مستقبحة له، ولذلك لم تفعله، وإنما لم تنه عنه ليأسها من فائدة النهي، وجزمها بأن القوم قد استحقوا عقاب الله بإصرارهم فلا يفيدهم الوعظ، وروي هذا عن ابن عباس كما روي عنه أنه كان مترددا في هذه الفرقة حتى أقنعه تلميذه عكرمة بنجاتها. وقد رجح الزمخشري وغيره هذا قال :
فإن قلت : الأمة الذين قالوا : لم تعظون ؟ من أي الفريقين هم ؟ أمن فريق الناجين أم المعذبين قلت : من فريق الناجين، لأنهم من فريق الناهين، وما قالوا ما قالوا إلا سائلين عن علة الوعظ والغرض فيه، حيث لم يروا فيه غرضا صحيحا لعلمهم بحال القوم، وإذا علم الناهي حال المنهي وأن النهي لا يؤثر فيه، سقط عنه النهي، وربما وجب الترك لدخوله في باب العبث. ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر، والجلادين المرتبين للتعذيب، لتعظهم وتكفهم عما هم فيه، كان ذلك عبثا منك، ولم يكن إلا سببا للتلهي بك. وأما الآخرون فإنما لم يعرضوا عنه إما لأن يأسهم لم يستحكم كما استحكم يأس الأولين، ولم يخبروهم كما خبروهم، أو لفرط حصرهم، وجدّهم في أمرهم، كما وصف الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام في قوله :﴿ فلعلك باخع نفسك ﴾ [ الكهف : ٦ ] اه.
أقول : إن ما ذكره من سقوط النهي عن المنكر أو وجوب تركه في حالة اليأس من تأثيره مرجوح ولاسيما إذا أخذ على إطلاقه، وإنما هو شأن أضعف الإيمان في حديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) ١ رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وإنما تكون هذه الحالة أضعف الإيمان عند عدم استطاعة ما قبلها، فإن استطاع النهي وسكت عنه لم يكن له عذر مطلقا، ولذلك اختلف في هؤلاء الساكتين. المحتملة حالهم للعذر وعدمه، واليأس قلما ينشأ إلا من ضعف في النفس أو الإيمان، وكأين من مكاس وجلاد ومدمن خمر تاب وأناب، والمحققون لم يجعلوا احتمال الأذى ولا يقينه موجبا لترك النهي عن المنكر ولا لتفضيله على الفعل بل قالوا في هذه الحالة بالجواز، واستدلوا على تفضيل النهي بحديث ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) ٢ رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
وفي ( بئيس ) عدة قراءات بين متواترة وشاذة، تتخرج على الخلاف في أصل صيغته، وعلى لغات العرب في التصرف في المهموز : فقرأها أبو بكر على خلاف عنه ( بيئس ) بوزن ضيغم- وابن عامر بكسر الباء وسكون الهمزة بناء على أنه أصله بئس بوزن حذر فنقلت حركة الهمزة إلى الفاء للتخفيف ككبد في كبد، ونافع ( بيس ) على قلب الهمزة ياء كذئب وذيب، أو على أنه فعل الذم وصف به فجعل اسما. ومن الشواذ بيّس كريس على قلب الهمزة ياء وإدغامها، وبيس كهين على تخفيف المشددة، وبائس بوزن فاعل.
٢ أخرجه أبو داود في الملاحم باب ١٧، والترمذي في الفتن باب ١٣، والنسائي في البيعة باب ٣٧، وابن ماجه في الفتن باب ٢٠، وأحمد في المسند ٣/١٩، ٦١، ٤/٣١٤، ٣١٥، ٥/٢٥١، ٢٥٦..
هذه الآيات تفصيل لقوله تعالى في سورة البقرة :﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السّبت ﴾ [ البقرة : ٦٥ ] إلى آخر الآيتين وقد تقدم تفسيرها، ولا أعلم للقصة ذكرا من كتب اليهود المقدسة ولكنها كانت معروفة عندهم، ولولا ذلك لبهتوا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة عندما نزل عليه ﴿ ولقد علمتم ﴾ أو لما آمن من آمن به من علمائهم إذا كانوا لا يعلمون ما حكى لهم عن الله تعالى أنهم يعلمونه مؤكدا بلام القسم، وإذا قال غير المسلم المؤمن : إنه اطلع على القصة في بعض كتبهم المقدسة أو التاريخية غير المقدسة أو سمعه من بعضهم- قلنا أولا : إن آيات سورة الأعراف هذه نزلت بمكة في أوائل الإسلام، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أحدا من اليهود- ومن المعلوم قطعا أنه كان أميا لم يقرأ الكتب كما قال تعالى :﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ﴾ [ العنكبوت : ٤٨ ] الخ. وثانيا : إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصدقهم بعد معاشرتهم في المدينة بكل ما يحكون عن كتبهم بل كذبهم عن الله تعالى في كثير منها، ولم يكن يصدقهم في كل ما يقولونه غير منقول عن كتبهم بالأولى : وهاك تفسير الآيات بمدلول ألفاظها، ولا نعتمد على شيء من الروايات فيها.
﴿ فلما عتوا عما نهوا عنه ﴾ أي فلما عتوا عن أمر ربهم عتو إباء واستكبار عن ترك ما نهاهم عنه الواعظون ﴿ قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ﴾ هذا القول للتكوين أي تعلقت إرادتنا بأن يكونوا قردة خاسئين أي صاغرين أذلاء فكانوا كذلك.
قيل : إن هذا بيان وتفصيل للعذاب البئيس في الآية السابقة، وقيل : هو عذاب آخر، وإن الله عاقبهم أولا بالبؤس والشقاء في المعيشة، لأن من الناس من لا يربيه ويهذبه إلا الشدة والبؤس، كما أن منهم من يربيه ويهذبه الرخاء والنعمة، وبكل يبتلي الله عباده ويمتحنهم كما قال :﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ] وقال في بني إسرائيل ﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ﴾ [ الأعراف : ١٦٨ ] ولكن هؤلاء القوم لم يزدهم البؤس والسوء إلا عتوا وإصرارا على الفسق والظلم فدمدم عليهم ربهم بذنبهم، ومسخهم مسخ خلق وبدن فكانوا قردة بالفعل، أو مسخ خلق ونفس، فكانوا كالقردة في طيشها وشرها، وإفسادها لما تصل إليه أيديها. والأول قول الجمهور والثاني قول مجاهد قال : مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفهم الحق.
هذه الآيات خاتمة قصة بني إسرائيل في هذه السورة، وما سيأتي من نبأ الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها مثل عام ليس فيه ما يدل على أنه كان منهم كما روى بعض المفسرين فهو لا يدخل في قصتهم، ومناسبة هذه لما قبلها مباشرة أنها بيان لجريان سنة الله العامة في عقاب الأمم وانطباقها على اليهود عامة.
بعد بيان عقابه تعالى لطائفة منهم قال عز وجل :
﴿ وإذ تأذّن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ﴾ تأذن صيغة تفعُّل من الإيذان، وهو الإعلام الذي يبلغ فيدرك بالآذان، ويتضمن هنا تأكيد القسم، ومعنى العهد المكتوب الملتزم، بدليل مجيء لام القسم ونون التوكيد في جوابه. والمعنى : واذكر أيها الرسول الخاتم العام إذ أعلم ربك هؤلاء القوم مرة بعد المرة أنه قد قضى في علمه وكتب على نفسه، وفاقا لما أقام عليه نظام الاجتماع البشري من سننه ليبعثن ويسلطن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، أي يريده ويوقعه بهم، عقابا على ظلمهم وفسقهم وفسادهم، وهو مجاز من سوم الشيء، كما يقال سامه خسفا. وسوء العذاب ما يسوء صاحبه ويذله، وهو هنا سلب الملك، وإخضاع القهر.
ومصداق هذا وتفصيله على ما قررنا قوله تعالى في أول سورة الإسراء ﴿ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ﴾ [ الإسراء : ٤ ] إلى قوله ﴿ وليتبروا ما علوا تتبيرا ﴾ [ الإسراء : ٧ ] قال :﴿ عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا ﴾ [ الإسراء : ٨ ] الآية أي وإن عدتم بعد عقاب المرة الآخرة إلى الإفساد، عدنا إلى التعذيب والإذلال، وقد عادوا فسلط الله عليهم النصارى فسلبوا ملكهم الذي أقاموه بعد نجاتهم من السبي البابلي، وقهروهم واستذلوهم، ثم جاء الإسلام فعاداه منهم الذين كانوا هربوا من الذل والنكال ولجؤوا إلى بلاد العرب فعاشوا فيها أعزاء آمنين، ولم يفوا للنبي صلى الله عليه وسلم بما عاهدهم عليه إذ أمنهم على أنفسهم وأموالهم وحرية دينهم، بل غدروا به وكادوا له، ونصروا المشركين عليه، فسلطه الله عليهم فقاتلهم فنصره عليهم، فأجلى بعضهم، وقتل بعضا، وأجلى عمر من بقي منهم، ثم فتح عمر سورية بعضها بالصلح كبيت المقدس، وبعضها عنوة، فصار اليهود من سيادة الروم الجائرة القاهرة فيها إلى سلطة الإسلام العادلة، ولكنهم ظلوا أذلة بفقد الملك والاستقلال. وقد بينا حقيقة حالهم، وما يحاولونه من استعادة ملكهم في هذا الزمان في غير هذا الموضع من هذا التفسير، وفي مواضع من المنار.
﴿ إن ربك لسريع العقاب ﴾ للأمم التي تفسق عن أمره وتفسد في الأرض فلا يتخلف عقابه عنها كما يتخلف عن بعض الأفراد ﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ﴾ [ الإسراء : ١٦ ] أي أمرناهم بالحق والعدل، والرحمة والفضل، فعصوا وفسقوا عن الأمر، وأفسدوا وظلموا في الأرض، فحق عليهم القول، بمقتضى سنته تعالى في الخلق، فحل بهم الهلاك على الفور.
﴿ وإنه لغفور رحيم ﴾ لمن تاب عقب الذنب، وأصلح ما كان أفسد في الأرض، قبل أن يحق عليه القول ﴿ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ﴾ [ طه : ٨٢ ] وهذا كما قال في اليهود بعد ذكر إفسادهم مرتين ﴿ عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا ﴾ [ الإسراء : ٨ ] وقلما ذكر الله عذاب الفاسقين المفسدين، إلا وقرنه بذكر المغفرة والرحمة للتائبين المحسنين، حتى لا ييأس صالح مصلح من رحمته بذنب عمله بجهالة، ولا يأمن مفسد من عقابه اغترارا بكرمه وعفوه وهو مصر على ذنبه.
هذه الآيات خاتمة قصة بني إسرائيل في هذه السورة، وما سيأتي من نبأ الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها مثل عام ليس فيه ما يدل على أنه كان منهم كما روى بعض المفسرين فهو لا يدخل في قصتهم، ومناسبة هذه لما قبلها مباشرة أنها بيان لجريان سنة الله العامة في عقاب الأمم وانطباقها على اليهود عامة.
ثم بين تعالى كيف كان بدء إذلال اليهود بإزالة وحدتهم، وتمزيق جامعتهم فقال :﴿ وقطعناهم في الأرض أمما ﴾ أي وفرقناهم في الأرض حال كونهم أمما بالتقدير، أو صيرناهم أمما متقطعة، بعد أن كانوا أمة متحدة ﴿ منهم الصالحون ﴾ كالذين نهوا الذي اعتدوا في السبت عن ظلمهم، والذين كانوا يؤمنون بأنبياء الله تعالى فيهم من بعد موسى إلى عهد عيسى عليهم السلام، والذين آمنوا بمحمد خاتم النبيين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ﴿ ومنهم دون ذلك ﴾ ومنهم ناس دون وصف الصلاح لم يبلغوه، وهم درجات أو دركات، منهم الغلاة في الكفر والفسق، كالذين كانوا يقتلون النبيين بغير حق، ومنهم السماعون للكذب الأكالون للسحت، إلى غير ذلك مما هو شأن الأمم الفاسدة في كل عصر، تفسد بالتدريج لا دفعة واحدة كما نراه في أمتنا الإسلامية.
﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ﴾ أي امتحناهم، وبلونا سرائرهم واستعدادهم، بالنعم التي تحسن، وتقر بها الأعين، وبالنقم التي تسوء صاحبها، وربما حسنت بالصبر والإنابة عواقبها، رجاء أن يرجعوا عن ذنبهم، وينيبوا إلى ربهم، فيعود برحمته وفضله عليهم.
هذه الآيات خاتمة قصة بني إسرائيل في هذه السورة، وما سيأتي من نبأ الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها مثل عام ليس فيه ما يدل على أنه كان منهم كما روى بعض المفسرين فهو لا يدخل في قصتهم، ومناسبة هذه لما قبلها مباشرة أنها بيان لجريان سنة الله العامة في عقاب الأمم وانطباقها على اليهود عامة.
﴿ فخلف من بعدهم خلف ﴾ أي فخلف من بعد أولئك الذين كان فيهم الصالح والطالح، والبر والفاجر، خلف سوء وبدل شر، قيل : إن الخلف بسكون اللام يغلب في الأشرار، وإنما يقال في الأخيار خلف بالتحريك كسلف و ﴿ ورثوا الكتاب ﴾ الذي هو التوراة عنهم، وقامت الحجة به عليهم فماذا كان شأنهم ؟ الجواب ﴿ يأخذون عرض هذا الأدنى ﴾ أي يأخذون عرض هذا الشيء الأدنى، أي هذا الحطام الحقير من متاع الدنيا، والمراد به ما كانوا يأكلونه من السحت والرشى، والاتجار بالدين والمحاباة في الحكم والفتوى.
﴿ ويقولون سيغفر لنا ﴾ أي سيغفر الله لنا، ولا يؤاخذنا بما أذنبنا، فإننا شعبه الخاص، وسلائل أنبيائه، ونحن أنباؤه وأحباؤه، وما هذه الأقوال إلا أماني، وغرور وأوهام، قال ابن كثير، وقال مجاهد : هم النصارى، وقد يكون أعم من ذلك اه وكل من القولين ينافيه مقتضى السياق، فأوائل النصارى كانوا صالحين، وسابق الكلام ولاحقه في اليهود وحدهم.
﴿ وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ﴾ أي يقولون ذلك والحال أنهم مصرون على ذنبهم إن يأتهم عرض آخر مثل الذي أخذوه أولا بالباطل يأخذوه لا يتعففون عنه وإنما وعد الله في كتبه بالمغفرة للتائبين الذين يتركون الذنوب ندما وخوفا من الله ورجاء فيه، ويصلحون ما كانوا أفسدوا، كما تكرر في القرآن، ومنه في سياق قصة موسى مع بني إسرائيل خطابا لهم من سورة طه ﴿ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ﴾ [ طه : ٨٢ ].
وقد رد الله تعالى عليهم زعمهم بقوله :﴿ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ﴾ الاستفهام للتقرير، أي قد أخذ عهد الله وميثاقه في كتابه بأن لا يقولوا عليه غير الحق الذي بينه فيه، فما بالهم يجزمون بأن الله سيغفر لهم مع إصرارهم على ذنوبهم على خلاف ما في الكتاب ﴿ ودرسوا ما فيه ﴾ أي من تحريم أكل أموال الناس بالباطل والكذب على الله كقولهم إنه سيغفر لهم وغير ذلك، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في العمل بكتابه كما في آخر سفر تثنية الاشتراع.
﴿ والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ﴾ ؟ أي والدار الآخرة وما أعده الله فيها للذين يتقون الرذائل والمعاصي خير من الحطام الفاني من عرض الدنيا بالرشوة والسحت وغير ذلك، أفلا تعقلون ذلك وهو ظاهر جلي لا يخفى على عقل لم يطمسه الطمع الباطل، في الحطام العاجل، فترجحون الخير على الشر، والنعيم العظيم الدائم، على المتاع الحقير الزائل، وقد علم من الآية إن الطمع في متاع الدنيا هو الذي استحوذ على بني إسرائيل فأفسد عليهم أمرهم، ولا يزال هذا التفاني فيها أخص صفاتهم.
وقد سرى شيء كثير من هذا الفساد إلى المسلمين، حتى رجال الدين الذين ورثوا الكتاب الكريم، والقرآن الحكيم، ودرسوا ما فيه، غلب على أكثرهم الطمع في حطام الدنيا القليل، وعرضها الدنيء، والغرور بالنسبة إلى الإسلام والتحلي بلقبه، والتعلل بأماني المغفرة مع الإصرار على الذنب والاتكال على المكفرات والشفاعات، وهم يقرؤون ما في الكتاب من النهي عن الأماني والأوهام، ومن نوط الجزاء بالأعمال، والمغفرة بالتوبة والإصلاح، وكون الشفاعة لا تقع إلا بإذن الله لمن رضي عنه كقوله :﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ] ولن يرضى الله عن فاسق ولا منافق ﴿ فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ﴾ [ التوبة : ٩٦ ] بل ما قص الله علينا مثل هذه الآيات من أخبار بني إسرائيل إلا لنعتبر بأحوالهم، ونتقي الذنوب التي أخذهم بها، ولكننا مع هذا كله اتبعنا سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، إلا أننا نحمد الله أن هذا الاتباع فينا غير عام، وأنه لا يزال فينا طائفة ظاهرة على الحق يطعن فيها الجماهير الذين صار الإسلام فيهم غريبا، وقد شرحنا ذلك مرارا بل صرحت الآيات بالتحذير من اتباع أهل الكتاب في أمانيهم وفي فسقهم كقوله تعالى :﴿ ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ﴾ [ النساء : ١٢٣ ] الخ وقوله :﴿ ألم يأن للّذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ﴾ [ الحديد : ١٦ ].
قرأ ( تعقلون ) بالتاء نافع وابن عامر وابن ذكوان وأبو جعفر وسهل ويعقوب وحفص فقيل إن الخطاب به لليهود المحكي عنهم بطريق الالتفات، وقيل بل هو خطاب لهذه الأمة لتعتبر بحالهم، وتجتنب ما كان سببا لسوء مآلهم، من الإصرار على سوء أعمالهم، وقرأ الآخرون ( يعقلون ) على الأصل في الحكاية، عن الغائبين، ولو صح ما قيل من أن هذه الآيات نزلت وحدها في المدينة لصح أن يقال إن الخطاب موجه إلى اليهود المجاورين لها، لأنهم آخر ذلك الخلف، الذي نزل فيه هذا الوصف في ذلك الوقت.
هذه الآيات خاتمة قصة بني إسرائيل في هذه السورة، وما سيأتي من نبأ الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها مثل عام ليس فيه ما يدل على أنه كان منهم كما روى بعض المفسرين فهو لا يدخل في قصتهم، ومناسبة هذه لما قبلها مباشرة أنها بيان لجريان سنة الله العامة في عقاب الأمم وانطباقها على اليهود عامة.
﴿ والذين يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين ﴾ قرأ الجمهور يمسكون بتشديد السين من مسك تمسيكا بمعنى تمسك تمسكا، ومثله قدم بمعنى تقدم، ومنه ( لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) وقرأ أبو بكر وحماد يمسكون بالتخفيف من الإمساك. - أي والذين يستمسكون بعروة الكتاب الوثقى ويعتصمون بحبله في جميع أحوالهم وأوقاتهم، وأقاموا الصلاة التي هي عماد الدين في أوقاتها ﴿ إنا لا نضيع أجر المصلحين ﴾ إنا لا نضيع أجرهم لأنهم هم المصلحون. والله لا يضيع أجر المصلحين، فهو خبر قرن بالدليل، ومثله قوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ﴾ [ الكهف : ٣٠ ].
هذه الآيات خاتمة قصة بني إسرائيل في هذه السورة، وما سيأتي من نبأ الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها مثل عام ليس فيه ما يدل على أنه كان منهم كما روى بعض المفسرين فهو لا يدخل في قصتهم، ومناسبة هذه لما قبلها مباشرة أنها بيان لجريان سنة الله العامة في عقاب الأمم وانطباقها على اليهود عامة.
﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلّة وظنوا أنه واقع بهم ﴾ لعل حكمة ختم قصة بني إسرائيل بهذه الآية هنا للتذكير ببدء حالهم في إنزال الكتاب عليهم في إثر بيان عاقبة أمرهم في مخالفته والخروج عنه، فإن في تلك الفاتحة إشارة إلى هذه الخاتمة، وذلك عندما أخذ عليهم الميثاق ليأخذن بالشريعة بقوة وعزم فإنه رفع فوقهم الطور وأوقع في قلوبهم الرعب من خوف وقوعه بهم، فلا غرو إذا آل أمرهم إلى ترك العمل به بعد طول الأمد وقساوة القلوب، والأنس بالذنوب، وقد تقدم في مضي هذه الآية آيتان من سورة البقرة وأشير إليه في سورة النساء. وذكرنا آية الأعراف هذه في سياق تفسير آية البقرة الأولى. والمعنى واذكر أيها الرسول النبي الأمي إذ نتقنا فوق هؤلاء الجبل جبل الطور أي رفعناه كما عبر به في الآيات الأخرى وهو المروي عن ابن عباس- أو زلزلناه وهو مرفوع فوقهم مظلل لهم- كما يقال نتق السقاء إذا هزه ونفضه ليخرج منه الزبدة. قال الجمهور أنه اقتلعه وجعله فوقهم.
فإن قيل : لو كان الأمر كذلك لكان ظلة بالفعل لا كالظلة، فإن الظلة كل ما أظلك من فوقك، ويصدق رفع الجبل فوقهم كالظلة وجودهم في سفحه واستظلالهم به، ( قلنا ) إنه وإن صح هذا التأويل فإن رفع الجبل على الوجه الأول إنما كان لإخافتهم لا لإظلالهم وأما ظنهم أنه واقع بهم فإنما جاء من زلزلته واضطرابه، على أن الله تعالى قادر على قلعه وجعله فوقهم وكم رأوا من آياته ما هو أدل على قدرته تعالى من ذلك.
﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾ وقلنا لهم في تلك الحالة : خذوا ما أعطيناكم من أحكام الشريعة بقوة عزيمة وعزم على احتمال مشاقه ﴿ واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ﴾ أي واذكروا ما فيه من الأحكام أوامرها ونواهيها، أو اعملوا به لئلا تنسوه- فإن ذلك يعدكم للتقوى ويجعلها مرجوة لكم، فإن الجد وقوة العزم في إقامة الدين يهذب النفس ويزكيها، والتهاون والإغماض فيه يدسيها ويغويها ﴿ قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ﴾ [ الشمس : ٩، ١٠ ].
هذه الآيات بدء سياق جديد في شؤون البشر العامة المتعلقة بهداية الله لهم بما أودع في فطرتهم وركب في عقولهم من الاستعداد للإيمان به وتوحيده وشكره، في إثر بيان هدايته لهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب في قصة بني إسرائيل، فالمناسبة بين هذا وما قبله ظاهرة ولذلك عطف عليه جملة على جملة، أو سياق على سياق.
قال تعالى :
﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ﴾ الظهور جمع ظهر وهو العمود الفقري لهيكل الإنسان الذي هو قوام بنيته، ومركز النخاع الشوكي الذي عليه مدار حياته، فيصح أن يعبر به عن جملة وجوده الجسدي الحيواني، والذرية سلالة الإنسان من الذكور والإناث. قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب ( ذرياتهم ) بالجمع والباقون ومعناهما واحد فإن المفرد المضاف يفيد العموم، ورسمها في المصحف الإمام واحد، وقوله ( من ظهورهم ) بدل من بني آدم بمعناه والجمهور على أنه بدل البعض من الكل، وهو الظاهر إذا لم يرد بهذا البعض ذلك الكل، وقال أبو البقاء هو بدل اشتمال.
والمعنى واذكر أيها الرسول في إثر ذكر أخذ ميثاق الوحي على بني إسرائيل خاصة، ما أخذه الله من ميثاق الفطرة والعقل على البشر عامة، إذ استخرج من بني آدم ذريتهم بطنا بعد بطن، فخلقهم على فطرة الإسلام، وأودع في أنفسهم غريزة الإيمان، وجعل من مدارك عقولهم الضرورية إن كل فعل لابد له من فاعل، وكل حادث لابد له من محدث، وإن فوق كل العوالم الممكنة القائمة على سنة الأسباب والمسببات، والعلل والمعلولات، سلطانا أعلى على جميع الكائنات، وهو الأول والآخر، وهو المستحق للعبادة وحده، -وقد بسطنا هذه المسألة- وهذا معنى قوله تعالى :﴿ وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] أي أشهد كل واحد من هذه الذرية المتسلسة على نفسه بما أودعه في غريزته واستعداد عقله قائلا قول إرادة وتكوين، لا قول وحي وتلقين، ألست بربكم ؟ فقالوا كذلك بلغة الاستعداد ولسان الحال، لا بلسان المقال : بل أنت ربنا والمستحق وحده لعبادتنا.
فهو من قبيل قوله تعالى بعد ذكر خلق السماء ﴿ فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ﴾ [ فصلت : ١١ ] وهذا النوع من التعبير والبيان يسمى في عرف علماء البلاغة بالتمثيل، وهو أعلى أساليب البلاغة وشواهده في القرآن الكريم وكلام البلغاء كثيرة.
بين سبحانه سبب هذا الإشهاد وعلته فقال :
﴿ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ﴾ أي فعلنا هذا منعا لاعتذاركم أو احتجاجكم يوم القيامة بأن تقولوا إذا أنتم أشركتم به : إنا كنا غافلين عن هذا التوحيد للربوبية وما يستلزمه من توحيد الإلهية بعبادة الرب وحده والمراد أنه تعالى لا يقبل منهم الاعتذار بالجهل.
( يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه قال تعالى :﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ﴾ [ الروم : ٣٠ ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل مولود يولد على الفطرة ) ١ وفي رواية ( على هذه الملة فأبواه يُهوّدانه وينصرانه ويمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ) ٢. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يقول الله : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم ) ٣ وقال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله : حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني السري بن يحيى أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات قال : فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد عليه ثم قال :( ما بال أقوام يتناولون الذرية ) ؟ فقال رجل : يا رسول الله أليسوا أبناء المشركين ؟ فقال :( إن خياركم أبناء المشركين، ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها، فأبواها يهوّدانها وينصرانها ) ٤ قال الحسن : والله لقد قال الله في كتابه ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ﴾ الآية، وقد رواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري به، وأخرجه النسائي في سننه من حديث هشيم بن يونس بن عبيد عن الحسن قال : حدثني الأسود بن سريع فذكره، ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك.
وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال. وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم، قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به ؟ قال : فيقول : نعم فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي ) ٥ أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد حدثنا جرير –يعني- ابن حازم عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم فتلا قال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا – إلى قوله- المبطلون ) ٦ وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من سننه عن محمد بن عبد الرحيم عن صاعقة عن حسين بن محمد المروزي به، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد به، إلا أن ابن أبي حاتم جعله موقوفا، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد وغيره عن جرير بن حازم عن كلثوم بن جبير به وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبير هكذا قال، وقد رواه عبد الوارث عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فوقفه، وكذا رواه إسماعيل بن علية ووكيع عن ربيعة بن كلثوم عن جبير عن أبيه، وكذا رواه عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله، وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس فهذا أكثر وأثبت والله أعلم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا أبي عن أبي هلال عن أبي حمزة الضبعي عن ابن عباس قال : أخرج الله ذرية آدم من ظهره كهيئة الذر وهو في أذي من الماء. وقال أيضا : حدثنا علي بن سهل حدثنا ضمرة بن ربيعة حدثنا أبو مسعود عن جبير : مات ابن الضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام قال : فقال يا جابر إذا أنت وضعت ابني في لحده فأبرز وجهه وحل عنه عقده، فإن ابني مجلس ومسؤول، ففعلت الذي به أمر، فلما فرغت قلت يرحمك الله عم يسأل ابنك ؟ من يسأله إياه ؟ قال : يسأل عن الميثاق الذي أقر به في صلب آدم، قلت : يا أبا القاسم وما هذا الميثاق الذي أقر به في صلب آدم ؟ قال : حدثني ابن عباس أن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. وتكفل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأول، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يقر به لم ينفعه الميثاق الأول، ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول، على الفطرة. فهذه الطرق كلها مما تقوي وقف هذا على ابن عباس والله أعلم.
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا عبد الرحمان بن الوليد حدثنا أحمد بن أبي ظبية عن سفيان بن سعيد عن الأجلح عن الضحاك عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ﴾ قال :( أخذ من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) أحمد بن أبي ظبية هذا هو أبو محمد الجرجاني قاضي قومس، كان أحد الزهاد، أخرج له النسائي في سننه وقال : أبو حاتم الرازي يكتب حديثه، وقال ابن عدي : حدث بأحاديث كثيرة غرائب. وقد روى هذا الحديث عبد الرحمان بن حمزة بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قوله، وكذا رواه جرير عن منصور به وهذا أصح والله أعلم.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا روح هو ابن عبادة حدثنا مالك وحدثنا إسحاق بن مالك عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمان بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا بلى ﴾ الآية قال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال :( إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ) فقال : يا رسول الله ففيم العمل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار ) ٧.
وهكذا رواه أبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة، والترمذي عن إسحاق بن موسى عن معن، وابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب، وابن جرير من حديث روح بن عبادة وسعيد بن عبد الحميد بن جعفر، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من رواية أبي مصعب الزبيري كلهم عن الإمام مالك بن أنس به قال الترمذي : وهذا حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع عمر، وكذا قاله أبو حاتم وأبو زرعة، زاد أبو حاتم وبينهما نعيم بن ربيعة، وهذا الذي قاله أبو حاتم رواه أبو داود في سننه عن محمد بن مصفى عن بقية عن عمرو بن جعثم القرشي عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمان بن زيد بن الخطاب عن مسلم بن يسار الجهني عن نعيم بن ربيعة قال : كنت عند عمر بن الخطاب وقد سئل عن هذه الآية ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ﴾ فذكره. وقال الحافظ الدارقطني : وقد تابع عمرو بن جعثم بن زيد بن سنان أبو فروة الرهاوي، وقولهما أولى بالصواب من قول مالك والله أعلم. ( قلت ) الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر نعيم بن ربيعة عمدا لما جهل حال نعيم ولم يعرفه، فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث، ولذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم، ولهذا يرسل كثيرا من المرفوعات، ويقطع كثيرا من الموصولات والله اعلم.
حديث آخر : قال الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا عبد بن حميد حدثنا أبو نعيم حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لما خلق آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور ثم عرضهم على آدم فقال : أي رب من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص عينيه قال : أي رب من هذا ؟ قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود قال : رب وكم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة قال : أي رب قد وهبت له من عمري أربعين سنة فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت قال : أو لم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال أو لم تعطها ابنك داود قال : فجحد آدم فجحدت آدم ذريته، ونسى آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته ) ٨ ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين به وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث عبد الرحمان بن زيد بن أسلم عن أبيه أنه حدثه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال :( ثم عرضهم على آدم فقال : يا آدم هؤلاء ذريتك، وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى وأنواع الأسقام فقال آدم : يا رب لم فعلت هذا بذريتي ؟ قال : كي تذكر نعمتي وقال آدم : يا رب من هؤلاء الذين أراهم أظهر الناس نورا ؟ قال : هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك ) ثم ذكر قصة داود كنحو ما تقدم.
حديث آخر : قال عبد الرحمان بن قتادة النضري عن أبيه عن هشام بن حكيم رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ابتدأ الأعمال أم قد قضى القضاء قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه ثم قال هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار ) رواه ابن جرير وابن مردويه من طرق عنه.
حديث آخر : روى جعفر بن الزبير – وهو ضعيف- عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لما خلق الله الخلق وقضى القضية أخذ أهل اليمين بيمينه، وأهل الشمال بشماله، فقال يا أصحاب اليمين فقالوا لبيك وسعيدك قال ألست بربكم قالوا بلى ثم خلط بينهم، فقال قائل له يا رب لم خلطت بينهم قال لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، ثم ردهم في صلب آدم ) رواه ابن مردويه.
أثر آخر : قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب في قوله تعالى :{ وإذ أخذ ربك من
هذه الآيات بدء سياق جديد في شؤون البشر العامة المتعلقة بهداية الله لهم بما أودع في فطرتهم وركب في عقولهم من الاستعداد للإيمان به وتوحيده وشكره، في إثر بيان هدايته لهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب في قصة بني إسرائيل، فالمناسبة بين هذا وما قبله ظاهرة ولذلك عطف عليه جملة على جملة، أو سياق على سياق.
﴿ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ﴾ جاهلين ببطلان شركهم، فلم يسعنا إلا الإقتداء بهم ﴿ أفتهلكنا بما فعل المبطلون ﴾ باختراع الشرك فتجعل عذابنا كعذابهم، مع عذرنا بتحسين الظن بهم، والمراد أن الله تعالى لا يقبل منهم الاعتذار بتقليد آبائهم وأجدادهم، كما أنه لم يقبل منهم الاعتذار بالجهل، بعد ما أقام عليهم من حجة الفطرة والعقل.
( يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه قال تعالى :﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ﴾ [ الروم : ٣٠ ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل مولود يولد على الفطرة ) ١ وفي رواية ( على هذه الملة فأبواه يُهوّدانه وينصرانه ويمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ) ٢. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يقول الله : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم ) ٣ وقال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله : حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني السري بن يحيى أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات قال : فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد عليه ثم قال :( ما بال أقوام يتناولون الذرية ) ؟ فقال رجل : يا رسول الله أليسوا أبناء المشركين ؟ فقال :( إن خياركم أبناء المشركين، ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها، فأبواها يهوّدانها وينصرانها ) ٤ قال الحسن : والله لقد قال الله في كتابه ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ﴾ الآية، وقد رواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري به، وأخرجه النسائي في سننه من حديث هشيم بن يونس بن عبيد عن الحسن قال : حدثني الأسود بن سريع فذكره، ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك.
وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال. وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم، قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به ؟ قال : فيقول : نعم فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي ) ٥ أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد حدثنا جرير –يعني- ابن حازم عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم فتلا قال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا – إلى قوله- المبطلون ) ٦ وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من سننه عن محمد بن عبد الرحيم عن صاعقة عن حسين بن محمد المروزي به، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد به، إلا أن ابن أبي حاتم جعله موقوفا، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد وغيره عن جرير بن حازم عن كلثوم بن جبير به وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبير هكذا قال، وقد رواه عبد الوارث عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فوقفه، وكذا رواه إسماعيل بن علية ووكيع عن ربيعة بن كلثوم عن جبير عن أبيه، وكذا رواه عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله، وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس فهذا أكثر وأثبت والله أعلم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا أبي عن أبي هلال عن أبي حمزة الضبعي عن ابن عباس قال : أخرج الله ذرية آدم من ظهره كهيئة الذر وهو في أذي من الماء. وقال أيضا : حدثنا علي بن سهل حدثنا ضمرة بن ربيعة حدثنا أبو مسعود عن جبير : مات ابن الضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام قال : فقال يا جابر إذا أنت وضعت ابني في لحده فأبرز وجهه وحل عنه عقده، فإن ابني مجلس ومسؤول، ففعلت الذي به أمر، فلما فرغت قلت يرحمك الله عم يسأل ابنك ؟ من يسأله إياه ؟ قال : يسأل عن الميثاق الذي أقر به في صلب آدم، قلت : يا أبا القاسم وما هذا الميثاق الذي أقر به في صلب آدم ؟ قال : حدثني ابن عباس أن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. وتكفل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأول، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يقر به لم ينفعه الميثاق الأول، ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول، على الفطرة. فهذه الطرق كلها مما تقوي وقف هذا على ابن عباس والله أعلم.
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا عبد الرحمان بن الوليد حدثنا أحمد بن أبي ظبية عن سفيان بن سعيد عن الأجلح عن الضحاك عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ﴾ قال :( أخذ من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) أحمد بن أبي ظبية هذا هو أبو محمد الجرجاني قاضي قومس، كان أحد الزهاد، أخرج له النسائي في سننه وقال : أبو حاتم الرازي يكتب حديثه، وقال ابن عدي : حدث بأحاديث كثيرة غرائب. وقد روى هذا الحديث عبد الرحمان بن حمزة بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قوله، وكذا رواه جرير عن منصور به وهذا أصح والله أعلم.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا روح هو ابن عبادة حدثنا مالك وحدثنا إسحاق بن مالك عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمان بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا بلى ﴾ الآية قال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال :( إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ) فقال : يا رسول الله ففيم العمل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار ) ٧.
وهكذا رواه أبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة، والترمذي عن إسحاق بن موسى عن معن، وابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب، وابن جرير من حديث روح بن عبادة وسعيد بن عبد الحميد بن جعفر، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من رواية أبي مصعب الزبيري كلهم عن الإمام مالك بن أنس به قال الترمذي : وهذا حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع عمر، وكذا قاله أبو حاتم وأبو زرعة، زاد أبو حاتم وبينهما نعيم بن ربيعة، وهذا الذي قاله أبو حاتم رواه أبو داود في سننه عن محمد بن مصفى عن بقية عن عمرو بن جعثم القرشي عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمان بن زيد بن الخطاب عن مسلم بن يسار الجهني عن نعيم بن ربيعة قال : كنت عند عمر بن الخطاب وقد سئل عن هذه الآية ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ﴾ فذكره. وقال الحافظ الدارقطني : وقد تابع عمرو بن جعثم بن زيد بن سنان أبو فروة الرهاوي، وقولهما أولى بالصواب من قول مالك والله أعلم. ( قلت ) الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر نعيم بن ربيعة عمدا لما جهل حال نعيم ولم يعرفه، فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث، ولذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم، ولهذا يرسل كثيرا من المرفوعات، ويقطع كثيرا من الموصولات والله اعلم.
حديث آخر : قال الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا عبد بن حميد حدثنا أبو نعيم حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لما خلق آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور ثم عرضهم على آدم فقال : أي رب من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص عينيه قال : أي رب من هذا ؟ قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود قال : رب وكم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة قال : أي رب قد وهبت له من عمري أربعين سنة فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت قال : أو لم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال أو لم تعطها ابنك داود قال : فجحد آدم فجحدت آدم ذريته، ونسى آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته ) ٨ ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين به وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث عبد الرحمان بن زيد بن أسلم عن أبيه أنه حدثه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال :( ثم عرضهم على آدم فقال : يا آدم هؤلاء ذريتك، وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى وأنواع الأسقام فقال آدم : يا رب لم فعلت هذا بذريتي ؟ قال : كي تذكر نعمتي وقال آدم : يا رب من هؤلاء الذين أراهم أظهر الناس نورا ؟ قال : هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك ) ثم ذكر قصة داود كنحو ما تقدم.
حديث آخر : قال عبد الرحمان بن قتادة النضري عن أبيه عن هشام بن حكيم رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ابتدأ الأعمال أم قد قضى القضاء قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه ثم قال هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار ) رواه ابن جرير وابن مردويه من طرق عنه.
حديث آخر : روى جعفر بن الزبير – وهو ضعيف- عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لما خلق الله الخلق وقضى القضية أخذ أهل اليمين بيمينه، وأهل الشمال بشماله، فقال يا أصحاب اليمين فقالوا لبيك وسعيدك قال ألست بربكم قالوا بلى ثم خلط بينهم، فقال قائل له يا رب لم خلطت بينهم قال لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، ثم ردهم في صلب آدم ) رواه ابن مردويه.
أثر آخر : قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب في قوله تعالى :{ وإذ أخذ ربك من
هذه الآيات بدء سياق جديد في شؤون البشر العامة المتعلقة بهداية الله لهم بما أودع في فطرتهم وركب في عقولهم من الاستعداد للإيمان به وتوحيده وشكره، في إثر بيان هدايته لهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب في قصة بني إسرائيل، فالمناسبة بين هذا وما قبله ظاهرة ولذلك عطف عليه جملة على جملة، أو سياق على سياق.
﴿ وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ﴾ أي ومثل هذا التفصيل البليغ نفصل لبني آدم الآيات والدلائل ليستعملوا عقولهم، ولعلهم يرجعون بها عن جهلهم وتقليدهم والآيات تدل على أن من لم تبلغه بعثة رسول لا يعذر يوم القيامة بالشرك بالله تعالى ولا بفعل الفواحش والمنكرات التي تنفر منها الفطرة السليمة، وتدرك ضررها وفسادها العقول المستقلة، وإنما يعذرون بمخالفة هداية الرسل فيما شأنه أن لا يعرف إلا منهم. وهو أكثر العبادات التفصيلية.
( يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه قال تعالى :﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ﴾ [ الروم : ٣٠ ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل مولود يولد على الفطرة ) ١ وفي رواية ( على هذه الملة فأبواه يُهوّدانه وينصرانه ويمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ) ٢. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يقول الله : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم ) ٣ وقال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله : حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني السري بن يحيى أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات قال : فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد عليه ثم قال :( ما بال أقوام يتناولون الذرية ) ؟ فقال رجل : يا رسول الله أليسوا أبناء المشركين ؟ فقال :( إن خياركم أبناء المشركين، ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها، فأبواها يهوّدانها وينصرانها ) ٤ قال الحسن : والله لقد قال الله في كتابه ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ﴾ الآية، وقد رواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري به، وأخرجه النسائي في سننه من حديث هشيم بن يونس بن عبيد عن الحسن قال : حدثني الأسود بن سريع فذكره، ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك.
وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال. وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم، قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به ؟ قال : فيقول : نعم فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي ) ٥ أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد حدثنا جرير –يعني- ابن حازم عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم فتلا قال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا – إلى قوله- المبطلون ) ٦ وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من سننه عن محمد بن عبد الرحيم عن صاعقة عن حسين بن محمد المروزي به، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد به، إلا أن ابن أبي حاتم جعله موقوفا، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد وغيره عن جرير بن حازم عن كلثوم بن جبير به وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبير هكذا قال، وقد رواه عبد الوارث عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فوقفه، وكذا رواه إسماعيل بن علية ووكيع عن ربيعة بن كلثوم عن جبير عن أبيه، وكذا رواه عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله، وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس فهذا أكثر وأثبت والله أعلم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا أبي عن أبي هلال عن أبي حمزة الضبعي عن ابن عباس قال : أخرج الله ذرية آدم من ظهره كهيئة الذر وهو في أذي من الماء. وقال أيضا : حدثنا علي بن سهل حدثنا ضمرة بن ربيعة حدثنا أبو مسعود عن جبير : مات ابن الضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام قال : فقال يا جابر إذا أنت وضعت ابني في لحده فأبرز وجهه وحل عنه عقده، فإن ابني مجلس ومسؤول، ففعلت الذي به أمر، فلما فرغت قلت يرحمك الله عم يسأل ابنك ؟ من يسأله إياه ؟ قال : يسأل عن الميثاق الذي أقر به في صلب آدم، قلت : يا أبا القاسم وما هذا الميثاق الذي أقر به في صلب آدم ؟ قال : حدثني ابن عباس أن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. وتكفل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأول، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يقر به لم ينفعه الميثاق الأول، ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول، على الفطرة. فهذه الطرق كلها مما تقوي وقف هذا على ابن عباس والله أعلم.
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا عبد الرحمان بن الوليد حدثنا أحمد بن أبي ظبية عن سفيان بن سعيد عن الأجلح عن الضحاك عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ﴾ قال :( أخذ من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) أحمد بن أبي ظبية هذا هو أبو محمد الجرجاني قاضي قومس، كان أحد الزهاد، أخرج له النسائي في سننه وقال : أبو حاتم الرازي يكتب حديثه، وقال ابن عدي : حدث بأحاديث كثيرة غرائب. وقد روى هذا الحديث عبد الرحمان بن حمزة بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قوله، وكذا رواه جرير عن منصور به وهذا أصح والله أعلم.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا روح هو ابن عبادة حدثنا مالك وحدثنا إسحاق بن مالك عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمان بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا بلى ﴾ الآية قال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال :( إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ) فقال : يا رسول الله ففيم العمل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار ) ٧.
وهكذا رواه أبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة، والترمذي عن إسحاق بن موسى عن معن، وابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب، وابن جرير من حديث روح بن عبادة وسعيد بن عبد الحميد بن جعفر، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من رواية أبي مصعب الزبيري كلهم عن الإمام مالك بن أنس به قال الترمذي : وهذا حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع عمر، وكذا قاله أبو حاتم وأبو زرعة، زاد أبو حاتم وبينهما نعيم بن ربيعة، وهذا الذي قاله أبو حاتم رواه أبو داود في سننه عن محمد بن مصفى عن بقية عن عمرو بن جعثم القرشي عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمان بن زيد بن الخطاب عن مسلم بن يسار الجهني عن نعيم بن ربيعة قال : كنت عند عمر بن الخطاب وقد سئل عن هذه الآية ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ﴾ فذكره. وقال الحافظ الدارقطني : وقد تابع عمرو بن جعثم بن زيد بن سنان أبو فروة الرهاوي، وقولهما أولى بالصواب من قول مالك والله أعلم. ( قلت ) الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر نعيم بن ربيعة عمدا لما جهل حال نعيم ولم يعرفه، فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث، ولذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم، ولهذا يرسل كثيرا من المرفوعات، ويقطع كثيرا من الموصولات والله اعلم.
حديث آخر : قال الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا عبد بن حميد حدثنا أبو نعيم حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لما خلق آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور ثم عرضهم على آدم فقال : أي رب من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص عينيه قال : أي رب من هذا ؟ قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود قال : رب وكم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة قال : أي رب قد وهبت له من عمري أربعين سنة فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت قال : أو لم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال أو لم تعطها ابنك داود قال : فجحد آدم فجحدت آدم ذريته، ونسى آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته ) ٨ ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين به وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث عبد الرحمان بن زيد بن أسلم عن أبيه أنه حدثه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال :( ثم عرضهم على آدم فقال : يا آدم هؤلاء ذريتك، وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى وأنواع الأسقام فقال آدم : يا رب لم فعلت هذا بذريتي ؟ قال : كي تذكر نعمتي وقال آدم : يا رب من هؤلاء الذين أراهم أظهر الناس نورا ؟ قال : هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك ) ثم ذكر قصة داود كنحو ما تقدم.
حديث آخر : قال عبد الرحمان بن قتادة النضري عن أبيه عن هشام بن حكيم رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ابتدأ الأعمال أم قد قضى القضاء قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه ثم قال هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار ) رواه ابن جرير وابن مردويه من طرق عنه.
حديث آخر : روى جعفر بن الزبير – وهو ضعيف- عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لما خلق الله الخلق وقضى القضية أخذ أهل اليمين بيمينه، وأهل الشمال بشماله، فقال يا أصحاب اليمين فقالوا لبيك وسعيدك قال ألست بربكم قالوا بلى ثم خلط بينهم، فقال قائل له يا رب لم خلطت بينهم قال لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، ثم ردهم في صلب آدم ) رواه ابن مردويه.
أثر آخر : قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب في قوله تعالى :{ وإذ أخذ ربك من
هذا مثل ضربه الله تعالى للمكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله صلى الله عليه وسلم على ما أيدها به من الآيات العقلية والكونية، وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها حافظا لقواعدها وأحكامها، قادرا على بيانها والجدل بها، ولكنه لم يؤت العمل مع العلم، بل كان عمله مخالفا لعلمه تمام المخالفة، فسلبها لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول فأشبه الحية التي تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض ( ويسمى هذا الجلد المسلاخ ) أو كان في التباين بين علمه وعمله كالمنسلخ من العلم التارك له كالثوب الخلق يلقيه صاحبه والثعبان يتجرد من جلده حتى لا يبقى له به صلة على حد قول الشاعر :
خلـقوا وما خلـقوا لـمكرمة | فكأنهم خلقوا وما خلقوا |
رزقوا وما رزقوا سماح يـد | فكأنهم رزقوا وما رزقوا |
وهاك تفسير الآيات بما يدل عليها نظمها العربي، ويتلوه ما ورد من الروايات فيها ونظرة فيه :
﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ التلاوة القراءة وإلقاء الكلام الذي يعاد ويكرر للاعتبار به، والضمير في عليهم للناس المخاطبين بالدعوة وأولهم كفار مكة. والسورة مكية، وقيل لليهود لأن المثل تابع لقصة موسى في السورة، والنبأ الخبر الذي له شأن، وهذا الذي آتاه الله آياته من مبهمات القرآن لم يبين الله ولا رسوله في حديث صحيح عنه اسمه ولا جنسه ولا وطنه لأن هذه الأشياء لا دخل لها فيما أنزل الله تعالى الآيات لبيانه. وانسلاخه منها تجرده وانسلاله منها وتركه إياها بحيث لا يلتفت إليها لاهتداء ولا اعتبار ولا عمل والتعبير بالانسلاخ المستعمل عند العرب في خروج الحيات والثعابين أحيانا من جلودها يدل على أنه كان متمكنا منها ظاهرا لا باطنا.
﴿ فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ﴾ أي فترتب على انسلاخه منها باختياره أن لحقه الشيطان فأدركه وتمكن من الوسوسة له إذ لم يبق لديه من نور العلم والبصيرة ما يحول دون قبول وسوسته، وأعقب ذلك أن صار من الغاوين أي الفاسدين المفسدين ﴿ ولو شئنا لرفعناه بها ﴾ أي ولو أردنا أن نرفعه بتلك الآيات إلى درجات الكمال والعرفان، التي تقرن فيها العلوم بالأعمال، ﴿ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ﴾ [ المجادلة : ١١ ] – لفعلنا بأن تخلق له الهداية خلقا، ونحمله عليها طوعا أو كرها، فإن ذلك لا يعجزنا، وإنما هو مخالف لسنتنا.
قال رحمه الله تعالى :
قوله تعالى :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ الآية أخرج الفريابي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن مسعود ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن أبر، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : هو بلعم بن باعوراء وفي لفظ : بلعام بن عامر الذي أوتي الاسم كان في بني إسرائيل.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ﴾، قال : رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعم تعلم اسم الله الأكبر، فلما نزل بهم موسى أتاه بنو عمه وقومه فقالوا : إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه، قال إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه مضت دنياي وآخرتي فلم يزالوا به حتى دعا عليهم فسلخ مما كان فيه وفي قوله :﴿ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ﴾ قال : إن حمل الحكمة لم يحملها، وإن ترك لم يهتد لخير كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طرد لهث.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه ﴾، قال هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت : اجعل لي منها واحدة، قال : فلك واحدة فما الذي تريدين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا الله فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا آخر فدعا الله أن يجعلها كلبة فصارت كلبة، فذهبت دعوتان فجاء بنوها فقالوا : ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليه، فدعا الله فعادت كما كانت، فذهبت الدعوات الثلاث وسميت البسوس.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو رجل يدعى بلعم من أهل اليمن آتاه الله آياته فتركها، وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال هو أمية بن أبي الصلت الثقفي، وفي لفظ نزلت في صاحبكم أمية بن أبي الصلت، وأخرج ابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : قدمت الفارعة أخت أمية بن أبي الصلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة فقال لها :( هل تحفظين من شعر أخيك شيئا ) قالت نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( يا فارعة إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ).
وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب قال : قال أمية بن أبي الصلت :
ألا رسول لنا منا يخبرنا | ما بعد غايتنا من رأس نجرانا١ |
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن نافع بن عاصم بن عروة بن مسعود قال : إني لفي حلقة فيها عبد الله بن عمرو فقرأ رجل من القوم الآية التي في الأعراف ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ فقال أتدرون من هو ؟ فقال بعضهم هو صيفي بن الراهب، وقال بعضهم هو بلعام رجل من بني إسرائيل، فقال لا، فقالوا من هو ؟ قال أمية بن أبي الصلت.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الشعبي في هذه الآية ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال : قال ابن عباس هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن باعورا، وكانت الأنصار تقول هو ابن الراهب الذي بني له مسجد الشقاق، وكانت ثقيف تقول هو أمية بن أبي الصلت. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو صيفي بن الراهب. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في الآية قال : هو نبي في بني إسرائيل يعني بلعم أوتي النبوة فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله :( فانسلخ منها ) قال نزع منه العلم وفي قوله :( ولو شئنا لرفعناه بها ) قال لرفعه الله بعلمه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مالك بن دينار قال : بعث نبي الله موسى بلعام بن باعورا إلى ملك مدين يدعوهم إلى الله وكان مجاب الدعوة وكان من علماء بني إسرائيل فكان موسى يقدمه في الشدائد فأقطعه وأرضاه فترك دين موسى وتبع دينه فأنزل الله ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾. وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب في قوله :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ﴾ قال كان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فأبى أن يقبله وتركه ( ولو شئنا لرفعناه بها )، قال لو شئنا لرفعناه بإيتائه الهدى فلم يكن للشيطان عليه سبيل، ولكن الله يبتلي من يشاء من عباده، ﴿ ولكنه أخلد إلى الأرض وأتبع هواه ﴾ قال أبى أن يصحب الهدى فمثله ﴿ كمثل الكلب ﴾، قال هذا مثل الكافر ميت الفؤاد كما أميت فؤاد الكلب.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال أناس من اليهود والنصارى والحنفاء ممن أعطاهم الله من آياته وكتابه فانسلخ منها فجعله مثل الكلب.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله :﴿ ولو شئنا لرفعناه بها ﴾ قال لدفعنا عنه بها، ولكنه أخلد إلى الأرض، قال سكن ﴿ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ﴾ إن تطرده بدابتك ورجليك وهو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله :﴿ ولكنه أخلد إلى الأرض ﴾ قال ركن، نزع. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله :﴿ إن تحمل عليه ﴾ قال : إن تسع عليه. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله إن تحمل عليه يلهث قال الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له مثل الذي يترك الهدى، لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع كان ضالا قبل أو بعد.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن المعتمر قال : سئل أبو المعتمر عن هذه الآية ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ فحدث عن سيار أنه كان رجلا يقال له بلعام وكان قد أوتي النبوة وكان مجاب الدعوة، ثم إن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام فرعب الناس منه رعبا شديدا فأتوا بلعام فقالوا : ادع الله على هذا الرجل، قال حتى أؤامر ربي فآمر في الدعاء عليهم فقيل له لا تدع عليهم، فإن فيهم عبادي، وفيهم نبيهم. فقال لقومه : قد آمرت في الدعاء عليهم وإني قد نهيت، قال فأهدوا إليه هدية فقبلها، ثم راجعوه فقالوا : ادع الله عليهم، فقال حتى أؤامر فآمر فلم يحار إليه شيء، فقال قد آمرت فلم يحار إليّ شيء، فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك المرة الأولى فأخذ يدعو عليهم فإذا دعا جرى على لسانه الدعاء على قومه، فإذا أرسل أن يفتح على قومه جرى على لسانه أن يفتح على موسى وجيشه فقالوا ما نراك إلا تدعو علينا قال : ما يجري على لساني إلا هكذا، ولو دعوت عليهم ما استجيب لي، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم إن الله يبغض الزنا، وإن هم وقعوا بالزنا هلكوا فأخرجوا النساء فإنهم قوم مسافرون فعسى أن يزنوا فيهلكوا فأخرجوا النساء تستقبلهم فوقعوا بالزنا فسلط الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا.
وأخرج أبو الشيخ عن معبد بن جبير في قوله :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال : كان اسمه بلعلم وكان يحسن اسما من أسماء الله فغزاهم موسى في سبعين ألفا فجاءه قومه، فقالوا : ادع الله عليهم، وكانوا إذا غزاهم أحد أتوه فدعا عليهم فهلكوا، وكان لا يدعو حتى ينام فينظر ما يؤمر به في منامه فنام، فقيل له ادع الله لهم ولا تدع عليهم، فاستيقظ فأبى أن يدعو عليهم، فقال لهم زينوا لهم النساء فإنهم إذا رأوهن لم يصبروا حتى يصيبوا من الذنوب فتدالوا عليهم اهـ.
ذلك ما لخصه السيوطي عن رواة التفسير المأثور، وكله مما انخدع به بعض الصحابة والتابعين من الإسرائيليات إن صحت الروايات عنهم، وبعضها قوي السند. وقد أورد الحافظ ابن عساكر في تاريخه جل هذه الروايات وزاد عليها وانتقد بعضها وذكر أن من رواتها كعب الأحبار ووهب بن منبه. ومما عزاه إلى رواية وهب وفيه مخالفة لغيره أن قصة بلعام كانت في قتال فرعون من الفراعنة لأمة موسى بعد وفاته وأن بلعام من أنبياء بني إسرائيل، وذكر عنه رواية أخرى وقال بعد سياق طويل للقصة لا حاجة إلى نقله ما نصه :
وحكيت هذه القصة عن كعب وفيها أن معسكر موسى عليه السلام كان بأرض كنعان من الشام بين أريحا وبين الأردن وجبل البلقاء والتيه فيما بين هذه المواضع، ثم ساق القصة على نمط ما تقدم إلا أن فيها بدل " اندلع لسانه " وجاءته لمعة فأخذت بصره فعمي.
وحكي عن وهب أنه قال : إن بلعام أخذ أسيرا فأتي به إلى موسى فقتله قال : وهكذا كانت سنتهم أنهم يقتلون الأسرى قال : فقوله تعالى ﴿ فانسلخ منها ﴾ يقول : الاسم الأعظم الذي أعطاه الله عز وجل إياه.
وروى محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( كان مثل بلعم بن باعورا في بني إسرائيل كمثل أمية بن أبي الصلت في هذه الأمة ) ( قال ابن عساكر ) قلت والحديث موقوف على ابن المسيب، فتأمل ؟ ؟
قال :( وأقول في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر العدد من التوراة ذكر بلعام وقصته مطولة وهي أشبه برواية وهب غير أن الذين دوَّنوا التوراة الموجودة اليوم برؤوا بلعام فقالوا إنه ذهب إلى منزله و
هذا مثل ضربه الله تعالى للمكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله صلى الله عليه وسلم على ما أيدها به من الآيات العقلية والكونية، وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها حافظا لقواعدها وأحكامها، قادرا على بيانها والجدل بها، ولكنه لم يؤت العمل مع العلم، بل كان عمله مخالفا لعلمه تمام المخالفة، فسلبها لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول فأشبه الحية التي تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض ( ويسمى هذا الجلد المسلاخ ) أو كان في التباين بين علمه وعمله كالمنسلخ من العلم التارك له كالثوب الخلق يلقيه صاحبه والثعبان يتجرد من جلده حتى لا يبقى له به صلة على حد قول الشاعر :
خلـقوا وما خلـقوا لـمكرمة | فكأنهم خلقوا وما خلقوا |
رزقوا وما رزقوا سماح يـد | فكأنهم رزقوا وما رزقوا |
﴿ ولو شئنا لرفعناه بها ﴾ أي ولو أردنا أن نرفعه بتلك الآيات إلى درجات الكمال والعرفان، التي تقرن فيها العلوم بالأعمال، ﴿ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ﴾ [ المجادلة : ١١ ] – لفعلنا بأن تخلق له الهداية خلقا، ونحمله عليها طوعا أو كرها، فإن ذلك لا يعجزنا، وإنما هو مخالف لسنتنا.
﴿ ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ﴾ أي ولكنه اختار لنفسه التسفل المنافي لتلك الرفعة بأن أخلد ومال إلى الأرض وزينتها وجعل كل حظه من حياته التمتع بما فيها من اللذائذ الجسدية، فلم يرفع إلى العالم العلوي رأسا، ولم يوجه إلى الحياة الروحية الخالدة عزما، واتبع هواه في ذلك فلم يراع فيه الاهتداء بشيء مما آتيناه من آياتنا، وقد مضت سنتنا في خلق نوع الإنسان بأن يكون مختارا في عمله، المستعد له في أصل فطرته، ليكون الجزاء عليه بحسبه، وأن نبتليه ونمتحنه بما خلقنا في هذه الأرض من الزينة والمستلذات ﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ﴾ [ الكهف : ٧ ] ونولي كل إنسان منهم ما تولى :﴿ من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك وما كان عطاء ربّك محظورا * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ﴾ [ الإسراء : ١٨- ٢١ ].
وقد مضت سنتنا أيضا بأن اتباع الإنسان لهواه بتحريه وتشهيه ما تميل إليه نفسه في كل عمل من أعماله دون ما فيه المصلحة والفائدة له من حيث هو جسد وروح يضله عن سبيل الله الموصلة إلى سعادة الدنيا والآخرة، ويتعسف به في سبل الشيطان المردية المهلكة قال تعالى لخليفته داود عليه السلام ﴿ ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ﴾ [ ص : ٢٦ ] وقال تعالى في أول ما أوحاه إلى كليمه موسى عليه السلام بعد ذكر الساعة ﴿ فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى ﴾ [ طه : ١٦ ] وقال جل جلاله لخاتم أنبيائه عليه صلواته وسلامه ﴿ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ﴾ [ الجاثية : ٢٣ ] ﴿ أفأنت تكون عليه وكيلا ﴾ [ الفرقان : ٤٣ ] والآيات في ذم الهوى والنهي عنه كثيرة وحسبك منها قوله :﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ﴾ [ المؤمنون : ٧١ ].
وحاصل معنى الشرط والاستدراك أن من شأن من أوتي آيات الله تعالى أن ترتقي نفسه، وترتفع في مراقي الكمال درجته، لما فيها من الهداية والإرشاد والذكرى، وإنما يكون ذلك لمن أخذ هذه الآيات وتلقاها بهذه النية ﴿ وإنما لكل امرئ ما نوى ﴾ وأما من لم ينو ذلك ولم تتوجه إليه نفسه وإنما تلقى الآيات الإلهية اتفاقا بغير قصد، أو بنية كسب المال والجاه، ووجد مع ذلك في نفسه ما يصرفه عن الاهتداء بها فلن يستفيد منها، وأسرع به أن ينسلخ منها، فهو يقول لو شئنا لرفعناه بها لأنها في نفسها هدى ونور، ولكن تعارض المقتضي والمانع وهو إخلاده إلى الأرض واتباع هواه :
قالوا فلان عالم فاضل | فأكرموه مثلما يقتضي |
فقلت لما لم يكن عاملا | تعارض المانع والمقتضي |
فما قضى أحد منها لبانته | ولا انتهى أرب إلا إلى أرب |
فكان مثلهم مثل الذي أوتي الآيات فانسلخ منها، وذلك لا يعيب الآيات وإنما يعيب أهل الأهواء الذين حرمهم سوء اختيارهم الانتفاع بها، وكأين من إنسان حرم الانتفاع بمواهبه الفطرية بعدم استعماله إياها فيما يرفعه درجات في العلم والعمل، وكأي من إنسان استعمل حواسه في الضر، وعقله وذكاءه في الشر، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
﴿ فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ﴾ أي فاقصص أيها الرسول قصص ذلك الرجل المشابهة حاله لحال هؤلاء المكذبين بما جئت به من الآيات البينات في مبدأ أمره وغايته، ومعناه وصورته، رجاء أن يتفكروا فيه فيحملهم سوء حالهم وقبح مثلهم، على التفكر والتأمل، فإذا هم تفكروا في ذلك تفكروا في المخرج منه، ونظروا في الآيات، وما فيها من البينات، بعين العقل والبصيرة، لا بعين الهوى والعداوة، ولا طريق لهدايتهم غير هذه. والآية تدل على تعظيم شأن ضرب الأمثال في تأثير الكلام وكونه أقوى من سوق الدلائل والحجج المجردة، ويدل على تعظيم شأن التفكر، وكونه مبدأ العلم وطريق الحق، ولذلك حث الله عليه في مواضع من كتابه وبين أن الآيات والدلائل إنما تساق إلى المتفكرين لأنهم هم الذين يعقلونها وينتفعون بها.
وقد تكرر قوله تعالى :﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ [ الرعد : ٣ ] في عدة سور من القرآن. وقد قال تعالى ضاربا مثلا للحياة الدنيا والغرور بها يناسب سياقنا هذا ﴿ إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّيّنت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصّل الآيات لقوم يتفكرون ﴾ [ يونس : ٢٤ ] وقد قال بعض علماء الغرب : إن الفارق الحقيقي بين الإنسان المدني، والإنسان الوحشي هو التفكر. اه فبقدر التفكر في آيات الله تعالى المنزلة على رسوله وآياته في الأنفس والآفاق، وسننه وحكمه في البشر وسائر المخلوقات، يكون ارتقاء الناس في العلوم والأعمال، من دينية ودنيوية.
قال رحمه الله تعالى :
قوله تعالى :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ الآية أخرج الفريابي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن مسعود ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن أبر، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : هو بلعم بن باعوراء وفي لفظ : بلعام بن عامر الذي أوتي الاسم كان في بني إسرائيل.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ﴾، قال : رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعم تعلم اسم الله الأكبر، فلما نزل بهم موسى أتاه بنو عمه وقومه فقالوا : إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه، قال إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه مضت دنياي وآخرتي فلم يزالوا به حتى دعا عليهم فسلخ مما كان فيه وفي قوله :﴿ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ﴾ قال : إن حمل الحكمة لم يحملها، وإن ترك لم يهتد لخير كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طرد لهث.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه ﴾، قال هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت : اجعل لي منها واحدة، قال : فلك واحدة فما الذي تريدين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا الله فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا آخر فدعا الله أن يجعلها كلبة فصارت كلبة، فذهبت دعوتان فجاء بنوها فقالوا : ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليه، فدعا الله فعادت كما كانت، فذهبت الدعوات الثلاث وسميت البسوس.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو رجل يدعى بلعم من أهل اليمن آتاه الله آياته فتركها، وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال هو أمية بن أبي الصلت الثقفي، وفي لفظ نزلت في صاحبكم أمية بن أبي الصلت، وأخرج ابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : قدمت الفارعة أخت أمية بن أبي الصلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة فقال لها :( هل تحفظين من شعر أخيك شيئا ) قالت نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( يا فارعة إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ).
وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب قال : قال أمية بن أبي الصلت :
ألا رسول لنا منا يخبرنا | ما بعد غايتنا من رأس نجرانا١ |
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن نافع بن عاصم بن عروة بن مسعود قال : إني لفي حلقة فيها عبد الله بن عمرو فقرأ رجل من القوم الآية التي في الأعراف ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ فقال أتدرون من هو ؟ فقال بعضهم هو صيفي بن الراهب، وقال بعضهم هو بلعام رجل من بني إسرائيل، فقال لا، فقالوا من هو ؟ قال أمية بن أبي الصلت.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الشعبي في هذه الآية ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال : قال ابن عباس هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن باعورا، وكانت الأنصار تقول هو ابن الراهب الذي بني له مسجد الشقاق، وكانت ثقيف تقول هو أمية بن أبي الصلت. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو صيفي بن الراهب. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في الآية قال : هو نبي في بني إسرائيل يعني بلعم أوتي النبوة فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله :( فانسلخ منها ) قال نزع منه العلم وفي قوله :( ولو شئنا لرفعناه بها ) قال لرفعه الله بعلمه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مالك بن دينار قال : بعث نبي الله موسى بلعام بن باعورا إلى ملك مدين يدعوهم إلى الله وكان مجاب الدعوة وكان من علماء بني إسرائيل فكان موسى يقدمه في الشدائد فأقطعه وأرضاه فترك دين موسى وتبع دينه فأنزل الله ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾. وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب في قوله :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ﴾ قال كان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فأبى أن يقبله وتركه ( ولو شئنا لرفعناه بها )، قال لو شئنا لرفعناه بإيتائه الهدى فلم يكن للشيطان عليه سبيل، ولكن الله يبتلي من يشاء من عباده، ﴿ ولكنه أخلد إلى الأرض وأتبع هواه ﴾ قال أبى أن يصحب الهدى فمثله ﴿ كمثل الكلب ﴾، قال هذا مثل الكافر ميت الفؤاد كما أميت فؤاد الكلب.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال أناس من اليهود والنصارى والحنفاء ممن أعطاهم الله من آياته وكتابه فانسلخ منها فجعله مثل الكلب.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله :﴿ ولو شئنا لرفعناه بها ﴾ قال لدفعنا عنه بها، ولكنه أخلد إلى الأرض، قال سكن ﴿ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ﴾ إن تطرده بدابتك ورجليك وهو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله :﴿ ولكنه أخلد إلى الأرض ﴾ قال ركن، نزع. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله :﴿ إن تحمل عليه ﴾ قال : إن تسع عليه. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله إن تحمل عليه يلهث قال الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له مثل الذي يترك الهدى، لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع كان ضالا قبل أو بعد.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن المعتمر قال : سئل أبو المعتمر عن هذه الآية ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ فحدث عن سيار أنه كان رجلا يقال له بلعام وكان قد أوتي النبوة وكان مجاب الدعوة، ثم إن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام فرعب الناس منه رعبا شديدا فأتوا بلعام فقالوا : ادع الله على هذا الرجل، قال حتى أؤامر ربي فآمر في الدعاء عليهم فقيل له لا تدع عليهم، فإن فيهم عبادي، وفيهم نبيهم. فقال لقومه : قد آمرت في الدعاء عليهم وإني قد نهيت، قال فأهدوا إليه هدية فقبلها، ثم راجعوه فقالوا : ادع الله عليهم، فقال حتى أؤامر فآمر فلم يحار إليه شيء، فقال قد آمرت فلم يحار إليّ شيء، فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك المرة الأولى فأخذ يدعو عليهم فإذا دعا جرى على لسانه الدعاء على قومه، فإذا أرسل أن يفتح على قومه جرى على لسانه أن يفتح على موسى وجيشه فقالوا ما نراك إلا تدعو علينا قال : ما يجري على لساني إلا هكذا، ولو دعوت عليهم ما استجيب لي، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم إن الله يبغض الزنا، وإن هم وقعوا بالزنا هلكوا فأخرجوا النساء فإنهم قوم مسافرون فعسى أن يزنوا فيهلكوا فأخرجوا النساء تستقبلهم فوقعوا بالزنا فسلط الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا.
وأخرج أبو الشيخ عن معبد بن جبير في قوله :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال : كان اسمه بلعلم وكان يحسن اسما من أسماء الله فغزاهم موسى في سبعين ألفا فجاءه قومه، فقالوا : ادع الله عليهم، وكانوا إذا غزاهم أحد أتوه فدعا عليهم فهلكوا، وكان لا يدعو حتى ينام فينظر ما يؤمر به في منامه فنام، فقيل له ادع الله لهم ولا تدع عليهم، فاستيقظ فأبى أن يدعو عليهم، فقال لهم زينوا لهم النساء فإنهم إذا رأوهن لم يصبروا حتى يصيبوا من الذنوب فتدالوا عليهم اهـ.
ذلك ما لخصه السيوطي عن رواة التفسير المأثور، وكله مما انخدع به بعض الصحابة والتابعين من الإسرائيليات إن صحت الروايات عنهم، وبعضها قوي السند. وقد أورد الحافظ ابن عساكر في تاريخه جل هذه الروايات وزاد عليها وانتقد بعضها وذكر أن من رواتها كعب الأحبار ووهب بن منبه. ومما عزاه إلى رواية وهب وفيه مخالفة لغيره أن قصة بلعام كانت في قتال فرعون من الفراعنة لأمة موسى بعد وفاته وأن بلعام من أنبياء بني إسرائيل، وذكر عنه رواية أخرى وقال بعد سياق طويل للقصة لا حاجة إلى نقله ما نصه :
وحكيت هذه القصة عن كعب وفيها أن معسكر موسى عليه السلام كان بأرض كنعان من الشام بين أريحا وبين الأردن وجبل البلقاء والتيه فيما بين هذه المواضع، ثم ساق القصة على نمط ما تقدم إلا أن فيها بدل " اندلع لسانه " وجاءته لمعة فأخذت بصره فعمي.
وحكي عن وهب أنه قال : إن بلعام أخذ أسيرا فأتي به إلى موسى فقتله قال : وهكذا كانت سنتهم أنهم يقتلون الأسرى قال : فقوله تعالى ﴿ فانسلخ منها ﴾ يقول : الاسم الأعظم الذي أعطاه الله عز وجل إياه.
وروى محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( كان مثل بلعم بن باعورا في بني إسرائيل كمثل أمية بن أبي الصلت في هذه الأمة ) ( قال ابن عساكر ) قلت والحديث موقوف على ابن المسيب، فتأمل ؟ ؟
قال :( وأقول في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر العدد من التوراة ذكر بلعام وقصته مطولة وهي أشبه برواية وهب غير أن الذين دوَّنوا التوراة الموجودة اليوم برؤوا بلعام فقالوا إنه ذهب إلى منزله و
هذا مثل ضربه الله تعالى للمكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله صلى الله عليه وسلم على ما أيدها به من الآيات العقلية والكونية، وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها حافظا لقواعدها وأحكامها، قادرا على بيانها والجدل بها، ولكنه لم يؤت العمل مع العلم، بل كان عمله مخالفا لعلمه تمام المخالفة، فسلبها لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول فأشبه الحية التي تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض ( ويسمى هذا الجلد المسلاخ ) أو كان في التباين بين علمه وعمله كالمنسلخ من العلم التارك له كالثوب الخلق يلقيه صاحبه والثعبان يتجرد من جلده حتى لا يبقى له به صلة على حد قول الشاعر :
خلـقوا وما خلـقوا لـمكرمة | فكأنهم خلقوا وما خلقوا |
رزقوا وما رزقوا سماح يـد | فكأنهم رزقوا وما رزقوا |
﴿ ساء مثلا القوم الذين كذّبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ﴾ أي ساء مثل أولئك القوم الذين كذبوا بآياتنا في الأمثال، وقبحت صفتهم في الصفات، وما كانوا بما اختاروه لأنفسهم من الإعراض عن التفكر في الآيات، ومن النظر إليها نظر العدو الشانئ يظلمون أحدا وإنما يظلمون أنفسهم وحدها بحرمانها من الاهتداء بها، وبما يعقب ذلك من حرمان سعادة الدنيا والآخرة.
قال رحمه الله تعالى :
قوله تعالى :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ الآية أخرج الفريابي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن مسعود ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن أبر، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : هو بلعم بن باعوراء وفي لفظ : بلعام بن عامر الذي أوتي الاسم كان في بني إسرائيل.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ﴾، قال : رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعم تعلم اسم الله الأكبر، فلما نزل بهم موسى أتاه بنو عمه وقومه فقالوا : إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه، قال إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه مضت دنياي وآخرتي فلم يزالوا به حتى دعا عليهم فسلخ مما كان فيه وفي قوله :﴿ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ﴾ قال : إن حمل الحكمة لم يحملها، وإن ترك لم يهتد لخير كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طرد لهث.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه ﴾، قال هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت : اجعل لي منها واحدة، قال : فلك واحدة فما الذي تريدين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا الله فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا آخر فدعا الله أن يجعلها كلبة فصارت كلبة، فذهبت دعوتان فجاء بنوها فقالوا : ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليه، فدعا الله فعادت كما كانت، فذهبت الدعوات الثلاث وسميت البسوس.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو رجل يدعى بلعم من أهل اليمن آتاه الله آياته فتركها، وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال هو أمية بن أبي الصلت الثقفي، وفي لفظ نزلت في صاحبكم أمية بن أبي الصلت، وأخرج ابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال : قدمت الفارعة أخت أمية بن أبي الصلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة فقال لها :( هل تحفظين من شعر أخيك شيئا ) قالت نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( يا فارعة إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ).
وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب قال : قال أمية بن أبي الصلت :
ألا رسول لنا منا يخبرنا | ما بعد غايتنا من رأس نجرانا١ |
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن نافع بن عاصم بن عروة بن مسعود قال : إني لفي حلقة فيها عبد الله بن عمرو فقرأ رجل من القوم الآية التي في الأعراف ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ فقال أتدرون من هو ؟ فقال بعضهم هو صيفي بن الراهب، وقال بعضهم هو بلعام رجل من بني إسرائيل، فقال لا، فقالوا من هو ؟ قال أمية بن أبي الصلت.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الشعبي في هذه الآية ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال : قال ابن عباس هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن باعورا، وكانت الأنصار تقول هو ابن الراهب الذي بني له مسجد الشقاق، وكانت ثقيف تقول هو أمية بن أبي الصلت. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو صيفي بن الراهب. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في الآية قال : هو نبي في بني إسرائيل يعني بلعم أوتي النبوة فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله :( فانسلخ منها ) قال نزع منه العلم وفي قوله :( ولو شئنا لرفعناه بها ) قال لرفعه الله بعلمه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مالك بن دينار قال : بعث نبي الله موسى بلعام بن باعورا إلى ملك مدين يدعوهم إلى الله وكان مجاب الدعوة وكان من علماء بني إسرائيل فكان موسى يقدمه في الشدائد فأقطعه وأرضاه فترك دين موسى وتبع دينه فأنزل الله ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾. وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب في قوله :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ﴾ قال كان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فأبى أن يقبله وتركه ( ولو شئنا لرفعناه بها )، قال لو شئنا لرفعناه بإيتائه الهدى فلم يكن للشيطان عليه سبيل، ولكن الله يبتلي من يشاء من عباده، ﴿ ولكنه أخلد إلى الأرض وأتبع هواه ﴾ قال أبى أن يصحب الهدى فمثله ﴿ كمثل الكلب ﴾، قال هذا مثل الكافر ميت الفؤاد كما أميت فؤاد الكلب.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال أناس من اليهود والنصارى والحنفاء ممن أعطاهم الله من آياته وكتابه فانسلخ منها فجعله مثل الكلب.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله :﴿ ولو شئنا لرفعناه بها ﴾ قال لدفعنا عنه بها، ولكنه أخلد إلى الأرض، قال سكن ﴿ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ﴾ إن تطرده بدابتك ورجليك وهو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله :﴿ ولكنه أخلد إلى الأرض ﴾ قال ركن، نزع. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله :﴿ إن تحمل عليه ﴾ قال : إن تسع عليه. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله إن تحمل عليه يلهث قال الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له مثل الذي يترك الهدى، لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع كان ضالا قبل أو بعد.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن المعتمر قال : سئل أبو المعتمر عن هذه الآية ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ فحدث عن سيار أنه كان رجلا يقال له بلعام وكان قد أوتي النبوة وكان مجاب الدعوة، ثم إن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام فرعب الناس منه رعبا شديدا فأتوا بلعام فقالوا : ادع الله على هذا الرجل، قال حتى أؤامر ربي فآمر في الدعاء عليهم فقيل له لا تدع عليهم، فإن فيهم عبادي، وفيهم نبيهم. فقال لقومه : قد آمرت في الدعاء عليهم وإني قد نهيت، قال فأهدوا إليه هدية فقبلها، ثم راجعوه فقالوا : ادع الله عليهم، فقال حتى أؤامر فآمر فلم يحار إليه شيء، فقال قد آمرت فلم يحار إليّ شيء، فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك المرة الأولى فأخذ يدعو عليهم فإذا دعا جرى على لسانه الدعاء على قومه، فإذا أرسل أن يفتح على قومه جرى على لسانه أن يفتح على موسى وجيشه فقالوا ما نراك إلا تدعو علينا قال : ما يجري على لساني إلا هكذا، ولو دعوت عليهم ما استجيب لي، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم إن الله يبغض الزنا، وإن هم وقعوا بالزنا هلكوا فأخرجوا النساء فإنهم قوم مسافرون فعسى أن يزنوا فيهلكوا فأخرجوا النساء تستقبلهم فوقعوا بالزنا فسلط الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا.
وأخرج أبو الشيخ عن معبد بن جبير في قوله :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ﴾ قال : كان اسمه بلعلم وكان يحسن اسما من أسماء الله فغزاهم موسى في سبعين ألفا فجاءه قومه، فقالوا : ادع الله عليهم، وكانوا إذا غزاهم أحد أتوه فدعا عليهم فهلكوا، وكان لا يدعو حتى ينام فينظر ما يؤمر به في منامه فنام، فقيل له ادع الله لهم ولا تدع عليهم، فاستيقظ فأبى أن يدعو عليهم، فقال لهم زينوا لهم النساء فإنهم إذا رأوهن لم يصبروا حتى يصيبوا من الذنوب فتدالوا عليهم اهـ.
ذلك ما لخصه السيوطي عن رواة التفسير المأثور، وكله مما انخدع به بعض الصحابة والتابعين من الإسرائيليات إن صحت الروايات عنهم، وبعضها قوي السند. وقد أورد الحافظ ابن عساكر في تاريخه جل هذه الروايات وزاد عليها وانتقد بعضها وذكر أن من رواتها كعب الأحبار ووهب بن منبه. ومما عزاه إلى رواية وهب وفيه مخالفة لغيره أن قصة بلعام كانت في قتال فرعون من الفراعنة لأمة موسى بعد وفاته وأن بلعام من أنبياء بني إسرائيل، وذكر عنه رواية أخرى وقال بعد سياق طويل للقصة لا حاجة إلى نقله ما نصه :
وحكيت هذه القصة عن كعب وفيها أن معسكر موسى عليه السلام كان بأرض كنعان من الشام بين أريحا وبين الأردن وجبل البلقاء والتيه فيما بين هذه المواضع، ثم ساق القصة على نمط ما تقدم إلا أن فيها بدل " اندلع لسانه " وجاءته لمعة فأخذت بصره فعمي.
وحكي عن وهب أنه قال : إن بلعام أخذ أسيرا فأتي به إلى موسى فقتله قال : وهكذا كانت سنتهم أنهم يقتلون الأسرى قال : فقوله تعالى ﴿ فانسلخ منها ﴾ يقول : الاسم الأعظم الذي أعطاه الله عز وجل إياه.
وروى محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( كان مثل بلعم بن باعورا في بني إسرائيل كمثل أمية بن أبي الصلت في هذه الأمة ) ( قال ابن عساكر ) قلت والحديث موقوف على ابن المسيب، فتأمل ؟ ؟
قال :( وأقول في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر العدد من التوراة ذكر بلعام وقصته مطولة وهي أشبه برواية وهب غير أن الذين دوَّنوا التوراة الموجودة اليوم برؤوا بلعام فقالوا إنه ذهب إلى منزله و
هاتان الآيتان مقررتان لمضمون المثل في الآيات قبلها، وهو أن أسباب الهدى والضلال إنما ينتهي كل نوع منها بالمرء المستعد إلى كل من الغايتين، والعرضة لسلوك كل من النجدتين، بتقدير الله والسير على سننه في استعمال مواهبه وهداياته الفطرية من العقل والحواس في أحد السبيلين، ﴿ إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ﴾ [ الإنسان : ٣ ].
وقد أجمل تعالى هذا المعنى في الآية الأولى وفصله في الثانية بإيجاز بديع فقال :﴿ من يهد الله فهو المهتدي ﴾ أي من يوفقه الله سبحانه وتعالى لسلوك سبيل الهدى باستعمال عقله وحواسه بمقتضى سنة والفطرة وإرشاد الدين فهو المهتدي الشاكر لنعمه تعالى الفائز بسعادة الدنيا والآخرة ﴿ ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ﴾ أي ومن يخذله بالحرمان من هذا التوفيق فيتبع هواه وشيطانه في ترك استعمال عقله وحواسه في فقه آياته تعالى وشكر نعمه فهو الضال الكفور الخاسر لسعادة الدنيا والآخرة- لأنه يخسر بذلك مواهب نفسه التي كان بها إنسانا مستعدا للسعادة فتفوته هذه السعادة فوتا إضافيا في الدنيا وحقيقيا في الآخرة.
وفي الآية من محاسن البديع الاحتباك وهو حذف الفوز والفلاح من الجملة الأولى للعلم به من إثبات نظيره ومقابله وهو الخسران في الجملة الثانية، وحذف الضال من الجملة الثانية لإثبات مقابله وهو المهتدي في الجملة الأولى. وأفرد المهتدي في الأولى مراعاة للفظ ( من ) وجمع الخاسرين في الثانية مراعاة لمعناها فإنها من صيغ العموم. وحكمة إفراد الأول الإشارة به إلى أن الحق المراد من الهداية الإلهية نوع واحد وهو الإيمان المثمر للعمل الصالح وحكمة جمع الثاني الإشارة إلى تعدد أنواع الضلال كما تقدم بيانه مفصلا في تفسير قوله تعالى من سورة الأنعام ﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ] وتفسير قوله تعالى من سورة البقرة :﴿ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ].
هاتان الآيتان مقررتان لمضمون المثل في الآيات قبلها، وهو أن أسباب الهدى والضلال إنما ينتهي كل نوع منها بالمرء المستعد إلى كل من الغايتين، والعرضة لسلوك كل من النجدتين، بتقدير الله والسير على سننه في استعمال مواهبه وهداياته الفطرية من العقل والحواس في أحد السبيلين، ﴿ إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ﴾ [ الإنسان : ٣ ].
ثم فصل تعالى ما في هذه الآية ( ١٧٨ ) من الإجمال بقوله :﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ﴾.
الذرء : فسروه بالخلق، وذرأنا خلقنا كما قال ابن عباس وغيره وهو تفسير مراد ولكل مادة معنى خاص وقد تقدم معنى مادة خلق وسنعيده. وقال الراغب : الذرء إظهار الله تعالى ما أبداه يقال ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم وذكر هذه الآية وغيرها وقال : وقرئ تذرؤه الرياح. وفي اللسان بعد تفسير الذرء بالخلق والاستشهاد بالآية : وقال عز وجل :﴿ خلق لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ﴾ [ الشورى : ١١ ] قال أبو إسحاق : المعنى يذرؤكم به أي يكثركم بجعله منكم ومن الأنعام أزواجا.. ثم قال :( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ ) ١ وكأن الذرء مختص بخلق الذرية. وفي حديث عمر رضي الله عنه كتب إلى خالد : وأني لأظنكم آل المغيرة ذرء النار- يعني خلقها الذين خلقوا لها، ويروى ذرو النار، يعني الذين يفرقون فيها، من ذرت الريح التراب إذا فرقته اه المراد منه. وفي الأساس : ذرأنا الأرض وذروناها، وذرأ الله الخالق وبرأ الخ.
فإذا تأملت مع هذه الأقوال استعمال القرآن لهذا الحرف في النبات والحيوان والإنسان خاصة علمت من الذرء في أصل اللغة بمعنى بث الأشياء وبذرها وتفريقها وتكثيرها وأن إسنادها إلى الله تعالى بمعنى خلق ذلك أي إيجاده، كما أن أصل معنى الخلق التقدير ويسند إلى الله تعالى بمعنى إيجاد الأشياء بتقدير ونظام لا جزافا، ولهذا عطف الذرء والبرء على الخلق في حديث الدعاء المتقدم.
والجن : الأحياء العاقلة المكلفة الخفية غير المدركة بحواس البشر، ولعل تقديمهم هنا في الذكر على الإنس أنهم أكثر أهل جهنم لأنهم أجدر وأعرق في الصفات الآتية التي هي سبب استحقاقها، وكون خلق أصل نوعهم وأوله من مارج من نار لا يقتضي عدم تألمهم من النار كما قد يتوهم، فإن بين حقيقة نوع البشر وحقيقة الطين الذي خلق أبوهم منه بونا عظيما يقاس عليه الجن.
والقلوب : جمع قلب وهو يطلق في اللغة العربية على المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من جسد الإنسان إذا كان موضوع الكلام جسد الإنسان ويطلق عند الكلام في نفس الإنسان وإدراكه وعلمه وشعوره وتأتي ذلك في أعماله على الصفة النفسية واللطيفة الروحية التي هي محل الحكم في أنواع المدركات، والشعور الوجداني للمؤلمات والملائمات، أعني أنه يطلق بمعنى العقل وبمعنى الوجدان الروحي، الذي يعبر عنه في عرف هذا العصر بالضمير وهو تعبير صحيح. واشتقاق العقل من عقل البعير لمنعه من السير، وفي معنى القلب اللب الذي هو جوهر الشيء ويكثر في التنزيل. ومنه النهية وجمعها نهى ومنه قوله تعالى في سورة طه :﴿ إن في ذلك لآيات لأولي النهى ﴾ [ طه : ٥٤ ].
ومن استعماله في معنى العقل قوله تعالى في سورة الحج :﴿ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ﴾ [ الحج : ٤٦ ] وهي بمعنى الآية التي نفسرها وحذف منها- أو أعين يبصرون بها- استغناء عنه بدلالة ما بعده عليه، والآيات المبصرة بالأعين في السياحة في الأرض أكثر من المسموعة، ومن استعماله في معنى الوجدان النفسي قوله تعالى في سورة الزمر :﴿ وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾ [ الزمر : ٤٥ ] وقوله في سورة آل عمران والأنفال :﴿ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ [ الأنفال : ١٢ ] وقوله في النازعات :﴿ قلوب يومئذ واجفة ﴾ [ النازعات : ٨ ] فالاشمئزاز والرعب والوجيف شعور وجداني، لا حكم عقلي، وقد يستعمل في المعنيين معا والأقرب أن منه فقه القلوب هنا فإن الفقه لا يحصل إلا بنوع من الإدراك يصحبه وجدان يبعث على العمل كما يعلم مما نذكره في تحقيق معناه وقد يتعارض مقتضى العقل والوجدان كوجدان اللذة والألم والحب والبغض التي تحمل على أعمال مخالفة لحكم العقل في المنافع والمضار.
وسبب استعمال القلب بمعنى الوجدان الحسي والمعنوي وهو الضمير ما يشعر به المرء من انقباض أو انشراح عند الخوف والاشمئزاز أو السرور والابتهاج، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لوابصة حين جاء يسأله عن البر والإثم وقد علم صلى الله عليه وسلم ذلك قبل السؤال ( استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك ) ٢ رواه الإمام أحمد والدارمي بإسناد حسن ومسلم مختصرا. ثم توسعوا في استعماله فاستعملوه بمعنى الإدراك العقلي المؤثر في النفس لا مطلق التصور والتصديق. فهو لا ينافي كون مركزهما الدماغ، على أن الاستعمالات اللغوية، لا يجب أن توافق الحقائق العلمية.
والفقه : قد فسروه بالعلم بالشيء والفهم له- وكذا بالفطنة كما في جل المعاجم أو كلها، وقالوا فقه ( كعلم وفهم وزنا ومعنى ) وقالوا فقه ( ككرم وضخم ) فقاهة أي صار الفقه وصفا وسجية له، وقال الراغب الفقه هو التوصل بعلم شاهد إلى علم غائب. قال السيوطي بعد نقله فهو أخص من العلم.
وقال ابن الأثير في النهاية إن اشتقاقه من الشق والفتح. أي هذا معناه الأصلي فهو كالفقء بالهمزة وهي تتعاقب مع الهاء لاتحاد مخرجهما، وذكر الحكيم الترمذي هذا واستدل به على أن الفقه بالشيء هو معرفة باطنه والوصول إلى أعماقه، فمن لا يعرف من الأمور إلا ظواهرها لا يسمى فقيها. وذكر أصحاب المعاجم أن اسم الفقه غلب على علم فروع الشريعة، أي من العبادات والمعاملات وهو اصطلاح حادث لا يفسر به ما ورد في الكتاب والسنة من هذه المادة والتحقيق أنهم لم يكونوا يسمون كل من يعرف هذه الفروع فقيها كما ترى من عبارة الغزالي الآتية ولغيره ما هو أوضح منها، فقد اشترطوا فيه معرفتها بدلائلها.
وذكر الغزالي في ( بيان ما بدل من ألفاظ العلوم ) أي لفظ الفقه تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل إذ خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى والوقوف على دقائق عللها... قال : ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقا على طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس، ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب ويدلك عليه قوله تعالى :﴿ ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ﴾ [ التوبة : ١٢٢ ] وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة، فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف، بل التجرد له على الدوام يقسي القلب وينزع الخشية منه، كما نشاهد الآن من المتجردين له. وقال تعالى :﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] وأراد به معاني الإيمان دون الفتوى اه وروي عن أبي حنيفة تفسيره بمعرفة النفس ما لها وما عليها.
وأقول ذكرت هذه المادة في عشرين موضعا من القرآن تسعة عشر منها تدل على أن المراد به نوع خاص من دقة الفهم، والتعمق في العلم، الذي يترتب عليه الانتفاع به، وأظهره نفي الفقه عن الكفار والمنافقين، لأنهم لم يدركوا كنه المراد مما نفى فقهه عنهم، ففاتتهم المنفعة من الفهم الدقيق والعلم المتمكن من النفس ومنه قول قوم نوح لنبيهم ﴿ ما نفقه كثيرا مما تقول ﴾ [ هود : ٩١ ] وإن تراءى لغير الفقيه أنه ليس منه، فإنهم كانوا يفهمون كل ما يقول فهما سطحيا ساذجا لأنه يكلمهم بلغتهم، ولكن لم يكونوا يبلغون ما في أعماق بعض الحكم والمواعظ من الغايات البعيدة لعدم تصديقهم إياه، وعدم احترامهم له، ولأنه مخالف لتقاليدهم وأهوائهم الصادة لهم عن التفكير فيه والاعتبار به. وأما الموضع العشرون فهو قوله تعالى حكاية عن نبيه موسى ﴿ واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ﴾ [ طه : ٢٧، ٢٨ ] وهو لا ينافي ما ذكر لأن فصاحة لسان الداعية إلى الدين والواعظ المنذر تعين على تدبر ما يقول وفقهه.
إذا تمهد هذا فقوله تعالى :﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ﴾ معناه نقسم أننا قد خلقنا وبثثنا في العالم كثيرا من الجن والإنس لأجل سكنى جهنم والمقام فيها، أي كما ذرأنا للجنة مثل ذلك، وهو مقتضى استعداد الفريقين ﴿ فمنهم شقي وسعيد ﴾ [ هود : ١٠٥ ] ﴿ فريق في الجنة وفريق في السعير ﴾ [ الشورى : ٧ ] وبماذا كان هؤلاء معدين لجهنم دون الجنة وما صفاتهم المؤهلة لذلك ؟
الجواب : ذلك بأن لهم قلوبا لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها الخ أي لا يفقهون بقلوبهم ما تصلح وتتزكى به أنفسهم من توحيد الله المطهر لها من الخرافات والأوهام، ومن المهانة والصغار، فإن من يعبد الله تعالى وحده عن إيمان ومعرفة تعلو نفسه، وتسمو بمعرفة ربه رب العالمين، ومدبر الكون بتقديره وسننه، فلا تذل نفسه بدعاء غيره، والخوف منه، والرجاء فيه، والاتكال عليه، بل يطلب كل ما يحتاج إليه من ربه وحده، فإن كان مما أقدر الله تعالى عليه خلقه بإعلامهم بأسبابه وتمكينهم منها طلبه بسببه، مراعيا في طلبه ما علمه من مقادير الخلق وسننه، وذلك عين الطلب من الله تعالى ولاسيما في نظر العالم بما ذكر، وإن لم يكن كذلك توجه إلى الله وحده لهدايته إلى العلم بما لا يعلم من سببه، وإقداره على ما لا يقدر عليه من وسائله، أو تسخير من شاء من خلقه لمساعدته عليه، أو إيصاله إليه، ممن أعطاهم من أسبابه ما لم يعطه، كالأطباء لمداواة الأمراض، وأقوياء الأبدان لرفع الأثقال، والعلماء الراسخين لبيان الحقيقة وحل الإشكال، ولا يتوجه مثل هذا العارف الموحد في طلب شيء إلى غير ما يعرف البشر من الأسباب المطردة، والوسائل المعقولة المجربة، كالرقى٣ والنشرات٤، والتناجيس٥ والطلسمات٦، والعزائم٧ والتبخيرات ولا كرامات الصالحين من الأحياء والأموات، دع التقرب إليهم بما يعد من العبادات، كالدعاء الذي هو مخ العبادة والركن الأعظم فيها كما ورد في الحديث والله تعالى يقول :﴿ فلا تدعوا مع الله أحدا ﴾ [ الجن : ١٨ ] -ويقول- ﴿ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إن شاء وتنسون ما تشركون ﴾ [ الأنعام : ٤١ ] ويقول :﴿ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ﴾ [ آل عمران : ١٧٥ ] - ويقول- ﴿ أتخشونهم ؟ فالله أحق أن تخشوه ﴾ [ التوبة : ١٣ ] –ويقول- ﴿ فلا تخشوهم واخشوني ﴾ [ البقرة : ١٥٠ ] الخ ويقول :﴿ وعلى الله فتوكلوا ﴾ [ المائدة : ٢٣ ] –ويقول- ﴿ وعلى الله فليتوكل المتوكلون ﴾ [ إبراهيم : ١٢ ].
ذلك بأن لهم قلوبا لا يفقهون بها أن ترك الشرور والمنكرات، والحرص على أعمال الخيرات، وإن شئت فقل- واجتناب الرذائل، والتحلي بالفضائل- مناط سعادة الدنيا، وبها مع الإيمان بالله واليوم الآخر يتم الاستعداد لسعادة الآخرة، وأنها لا يمكن أخذ الناس بها فعلا وتركا، وسرا وجهرا، إلا بالتربية الدينية الصحيحة، ولذلك نرى أعلمهم بصفات النفس البشرية وأخلاقها، وقوانين التربية الصورية وآدابها، يجنون على أجسادهم وأنفسهم بالإسراف في الشهوات، والاحتيال على كثرة المقتنيات، والتعالي على الأقران واللذات، فيجترحون فواحش الزنا واللواط، ويقترفون جريمتي الرشوة والقمار، ويستحلون منكرات الحسد والاستكبار، ومنهم أكثر الخونة أعوان الأجانب على استعباد أمتهم، وامتلاك أوطانهم.
ذلك بأن لهم قلوبا لا يفقهون بها معنى الحياة الر
٢ أخرجه الدارمي في البيوع باب ٢، واحمد في المسند ٤/٢٢٧، ٢٢٨..
٣ الرقى، بالضم: دمع رقية (كغرف جمع غرفة) وهي ما يقرأ على الملدوغ أو المريض ليبرأ أو يخف ألمه، ومنه ما يفيد، ولا سيما أصحاب الأمزجة العصبية الذين يؤثر فيهم الوهم والاعتقاد، وهي جائزة لذلك إذا كان المقروء حقا كالقرآن وذكر، ومحرمة إذا كان فيه شيء منكر أو مجهول. ولما كان الانتفاع بالرقية غير مطرد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الاسترقاء مانعا من دخول الجنة بغير حساب ومنافيا للتوكل على الله تعالى، بخلاف التداوي..
٤ النشرة: ما يكتب للمريض ويحرق أو يشرب ماؤه بعد أن يذاب ليشفى، وقد حرمها الفقهاء بالمجهول..
٥ التناجيس: ما يعلق على الأطفال وغيرهم من عظم وخرز وغير ذلك لمنع تأثير العين وإلهام الشياطين..
٦ الطلسمات: جمع طلسم، بكسر الطاء وتشديد اللام، والأشهر بفتح فكسر وجمعه طلاسم، وهو خرافة يكتبون لها أرقام في أشكال هندسية للتأيد الخارق للعادة..
٧ العزائم: أقسام يقسم بها على الجن لتخرج من المصروع أو لتحمل على عمل آخر، ويحرقون في أثناء تلاوتها النجور..
بين الله تعالى لنا في الآية السابقة حال المخلوقين لجهنم في عدم استعمال عقولهم ومشاعرهم في الاعتبار بآيات الله والتفقه في تزكية أنفسهم بالعلم الصحيح الذي يترتب عليه العمل الصالح، وأن ذلك الإهمال أعقبهم الغفلة التامة عن أنفسهم وما فيه صلاحها من ذكر الله تعالى وشكره والثناء عليه بما هو أهله من صفات الكمال –وقفى على ذلك في هذه الآية بدواء هذه الغفلة وأقرب الوسائل للمخرج منها إلى ضدها فقال :
﴿ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ﴾ الأسماء جمع اسم وهو اللفظ الدال على الذات فقط أو على الذات مع صفة من صفاتها سواء كان مشتقا كالرحمان الرحيم الخالق الرازق أو مصدرا كالرب والسلام والعدل. والحسنى جمع الأحسن، والمعنى : ولله دون غيره جميع الأسماء الدالة على أحسن المعاني وأكمل الصفات، فادعوه أي سموه واذكروه ونادوه بها لمجرد الثناء وعند السؤال وطلب الحاجات، فمن الذكر لمحض الثناء آية الكرسي ﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] الخ وآخر سورة الحشر ﴿ هو اللّه الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو اللّه الذي لا إله إلا هو الملك القدّوس السّلام المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبّر سبحان اللّه عما يشركون * هو اللّه الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى يسبّح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ﴾ [ الحشر : ٢٢- ٢٤ ] وقد ورد في السنة الدعاء بهذه الآيات وأن يقول قبلها " أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم- ثلاث مرات " ١رواه الترمذي والدارمي وابن السني من حديث معقل بن يسار.
وللذكر المحض فوائد كثيرة في تغذية الإيمان ومراقبة الله تعالى وحبه والخشوع له والرغبة فيما عنده واحتقار مصائب الدنيا وقلة المبالاة والتألم لما يفوت المؤمن من نعيمها، ولذلك ورد في الحديث الصحيح ( من نزل به غم أو كرب أو أمر مهم فليقل : لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض ورب العرش الكريم ) ٢ رواه الشيخان والترمذي والنسائي.
ومن الذكر بصيغة النداء ما رواه الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلا وهو يقول ( يا ذا الجلال والإكرام ) فقال ( قد استجيب لك فسل ) ٣ وروى الحاكم في المستدرك من حديث أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة ( ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به، أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت : يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وأقره الحافظ الذهبي على ذلك.
والأدعية بأسماء الله تعالى نداء أو غير نداء كثيرة تراجع في كتاب الأذكار للنووي، وكتاب الحصن الحصين لابن الجزري وغيرهما من كتب السنة.
وأسماء الله كثيرة وكلها حسنى بدلالة كل منها على منتهى كمال معناه وتفضيلها على ما يطلق منها على المخلوقين كالرحيم والحكيم والحفيظ والعليم.
وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة ) ٤ هذا لفظ البخاري في كتاب الشروط وكتاب التوحيد ومسلم في الذكر ( قال مسلم ) وزاد همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إنه وتر يحب الوتر ) ٥ وفي الرواية الأخرى له ( إن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة وإن الله وتر يحب الوتر ) ( قال ) وفي رواية ابن أبي عمر ( من أحصاها ) اه ورواه البخاري في كتاب الدعوات٦ بلفظ ( لله تعالى تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدة من حفظها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر ) وقوله إلا واحدة بالتأنيث وجهه ابن مالك بأنه أنث باعتبار التسمية أو الصفة أو الكلمة.
ورواه الترمذي٧ والحاكم من طريق الوليد بن مسلم وسردا فيه الأسماء التسعة والتسعين ورواه غيرهما أيضا من طريقه وفي سرد الأسماء اختلاف في الروايات وقد اختلف المحدثون في سرد الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج في الحديث من بعض الرواة ؟ والراجح أنه مدرج لا مرفوع، ولم يخرجه الشيخان لتفرد الوليد به والاختلاف عليه فيه وتدليسه واحتمال الإدراج كما قال الحافظ في الفتح، وروي من طريق أخرى أضعف من هذه. وهذا سرد الأسماء في أمثل الطرق عن الوليد من جامع الترمذي كما قال الحافظ :
هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمان، الرحيم الملك القدوس السلام، المؤمن المهيمن، العزيز الجبار المتكبر، الخالق البارئ المصور، الغفار القهار، الوهاب الرزاق، الفتاح العليم، القابض الباسط، الخافض الرافع، المعز المذل، السميع البصير، الحكم العدل، اللطيف الخبير، الحليم العظيم، الغفور الشكور، العلي الكبير، الحفيظ المقيت، الحسيب الجليل، الكريم الرقيب المجيب، الواسع الحكيم، الودود المجيد، الباعث الشهيد، الحق الوكيل، القوي المتين، الولي الحميد، المحصي المبدئ المعيد، المحيي المميت، الحي القيوم، الواجد الماجد، الواحد الصمد. القادر المقتدر، المقدم المؤخر، الأول الآخر، الظاهر الباطن، الوالي المتعالي، البر التواب، المنتقم العفو الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط الجامع، الغني المغني المانع، الضار النافع، النور الهادي، البديع الوارث، الرشيد الصبور ).
أورد هذه الأسماء الحافظ ابن حجر في الفتح وذكر اختلاف الروايات فيها وإنكار بعض كبار العلماء لرفعها كابن حزم والداودي والقاضي أبي بكر بن العربي، والأقوال في حصرها ومأخذها ثم قال :
( وإذا تقرر رجحان أن سرد الأسماء ليس مرفوعا فقد اعتنى جماعة بتتبعها من القرآن من غير تقييد بعدد فروينا في كتاب المائتين لأبي عثمان الصابوني بسنده إلى محمد بن يحيى الذهلي أنه استخرج الأسماء من القرآن، وكذا أخرج أبو نعيم عن الطبراني عن أحمد بن عمر، والخلال عن ابن أبي عمر، وحدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين : سألت أبا جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء الحسنى فقال هي في القرآن، وروينا في فوائد تمام من طريق أبي الطاهر بن السرح عن حبان بن نافع عن سفيان بن عيينة الحديث، يعني حديث ( إن لله تسعة وتسعين اسما ) قال فوعدنا سفيان أن يخرجها لنا من القرآن فأبطأ، فأتينا أبا زيد فأخرجها لنا فعرضناها على سفيان فنظر فيها أربع مرات وقال : نعم هي هذه.
( وهذا سياق ما ذكره جعفر وأبو زيد قالا : ففي الفاتحة خمسة : الله، رب، الرحمان الرحيم مالك، وفي البقرة : محيط، قدير، عليم، حكيم، علي، عظيم، تواب، بصير، ولي، واسع، كاف، رؤوف، بديع، شاكر، واحد سميع، قابض، باسط، حي، قيوم، غني، حميد، غفور، حليم. وزاد جعفر : إله قريب مجيب، عزيز، نصير، قوي شديد، سريع، خبير قال وفي آل عمران : وهاب، قائم، زاد جعفر الصادق : باعث منعم متفضل، وفي النساء : رقيب حسيب شهيد مقيت وكيل، زاد جعفر علي كبير. وزاد سفيان : عفو. وفي الأنعام : فاطر قاهر، زاد جعفر : مميت غفور برهان. وزاد سفيان : لطيف خبير قادر، وفي الأعراف : محيي مميت. وفي الأنفال : نعم المولى ونعم النصير، وفي هود : حفيظ مجيد ودود، فعال لما يريد، زاد سفيان قريب مجيب، وفي الرعد : كبير متعال، وفي إبراهيم : منان، زاد جعفر : صادق وارث، وفي الحجر : خلاق، وفي مريم : صادق وارث، زاد جعفر : فرد، وفي طه عند جعفر وحده : غفار، وفي المؤمنين : كريم، وفي النور : حق مبين، زاد سفيان : نور.
وفي الفرقان : هاد، وفي سبأ : فتاح، وفي الزمر : عالم، عند جعفر وحده وفي المؤمن : غافر قابل ذو الطول، زاد سفيان : شديد، وزاد جعفر : رفيع، وفي الذاريات : رزاق ذو القوة المتين، بالتاء، وفي الطور : بر، وفي اقتربت : مقتدر زاد جعفر : مليك، وفي الرحمان، ذو الجلال والإكرام، زاد جعفر ( رب المشرقين ورب المغربين ) باق معين، وفي الحديد : أول آخر ظاهر باطن وفي الحشر : قدوس سلام مؤمن مهيمن عزيز جبار متكبر خالق بارئ مصور، زاد جعفر : ملك، وفي البروج : مبدئ معيد، وفي الفجر : وتر. عند جعفر وحده، وفي الإخلاص : أحد صمد. هذا آخر ما رويناه عن جعفر وأبي زيد وتقرير سفيان من تتبع الأسماء من القرآن وفيها اختلاف شديد وتكرار وعدة أسماء لم ترد بلفظ الاسم وهي صادق منعم متفضل منان مبدئ معيد باعث قابض برهان معين مميت باق.
( ووقفت في كتاب المقصد لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الزاهد أنه تتبع الأسماء من القرآن فتأملته فوجدته كرر أسماء وذكر مما لم أره فيه بصيغة الاسم : الصادق والكاشف والعلام، وذكر من المضاف الفالق من قوله :﴿ فالق الحب والنوى ﴾ [ الأنعام : ٩٥ ] وكان يلزمه أن يذكر القابل من قوله قابل التوب.
( وقد تتبعت ما بقي من الأسماء مما ورد في القرآن بصيغة الاسم مما لم يذكر في رواية الترمذي وهي الرب الإله المحيط، القدير الكافي، الشاكر الشديد، القائم الحاكم، الفاطر الغافر القاهر، المولى النصير، الغالب الخالق، الرفيع المليك، الكفيل الخلاق- الأكرم الأعلى، المبين- بالموحدة، الحفي- بالحاء المهملة والفاء- القريب، الأحد الحافظ. فهذه سبعة وعشرون اسما إذا انضمت إلى الأسماء التي وقعت في رواية الترمذي مما وقعت في القرآن بصيغة الاسم تكمل بها التسعة والتسعون وكلها من القرآن لكن بعضها بإضافة كالشديد ﴿ من شديد العقاب ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ] والرفيع من ﴿ رفيع الدرجات ﴾ [ غافر : ١٥ ] والقائم من قوله :﴿ قائم على كل نفس بما كسبت ﴾ [ الرعد : ٣٣ ] والفاطر من ﴿ فاطر السماوات ﴾ [ فاطر : ١ ] والقاهر من ﴿ وهو القاهر فوق عباده ﴾ [ الأنعام : ١٨ ] والمولى والنصير من ﴿ نعم المولى ونعم النصير ﴾ [ الأنفال : ٤٠ ] والعالم من ﴿ عالم الغيب ﴾ [ الأنعام : ٧٣ ] والخالق من قوله :﴿ خالق كل شيء ﴾ [ الأنعام : ١٠٢ ] والغافر من ﴿ غافر الذنب ﴾ [ غافر : ٣ ] والغالب من ﴿ والله غالب على أمره ﴾ [ يوسف : ٢١ ] والرفيع من ﴿ رفيع الدرجات ﴾ [ غافر : ١٥ ] والحافظ من قوله :﴿ فالله خير حافظا ﴾ [ يوسف : ٦٤ ] ومن قوله :﴿ وإنا له لحافظون ﴾ [ يوسف : ١٢ ] وقد وقع نحو ذلك من الأسماء التي في رواية الترمذي وهي المحيي من قوله :﴿ المحيي الموتى ﴾ والمالك من قوله :﴿ مالك الملك ﴾ [ آل عمران : ٢٦ ] والنور من قوله :﴿ نور السماوات والأرض ﴾ [ النور : ٣٥ ] والبديع من قوله :﴿ بديع السماوات والأرض ﴾ [ البقرة : ١١٧ ] والجامع من قوله :﴿ جامع الناس ﴾ [ آل عمران : ٩ ] والحكم من قوله :﴿ أفغير الله أبتغي حكما ﴾ [ الأنعام : ١١٤ ] والوارث من قوله :﴿ ونحن الوارثون ﴾ [ الحجر : ٢٣ ].
والأسماء التي تقابل هذه مما وقع في رواية الترمذي مما لم تقع في القرآن بصيغة الاسم وهي سبعة وعشرون اسما : القابض الباسط، الخافض الرافع، المعز المذل، العدل الجليل، الباعث المحصي، المبدئ المعيد المميت، الواجد الماجد، المقدم المؤخر، الوالي ذو الجلال والإكرام، المقسط المغني، المانع الضار، النافع الباقي، الرشيد الصبور.
( فإذا اقتصر من رواية الترمذي على ما عدا هذه الأسماء وأبدلت بالسبعة والعشرين التي ذكرتها خرج من ذلك تسعة وتسعون اسما وكلها في القرآن واردة بصيغة الاسم ومواضعها كلها ظاهرة من القرآن إلا قوله ( الحفيّ ) فإنه في سورة مريم في قول إبراهيم { سأستغفر لك ربي إنه ك
٢ أخرجه البخاري في الدعوات باب ٢٧، ومسلم في الذكر حديث ٦٠، والترمذي في الدعوات باب ٣٩، والوتر باب ١٧..
٣ أخرجه الترمذي في الدعوات باب ٩٣..
٤ أخرجه البخاري في الدعوات باب٦٩، ومسلم في الذكر حديث ٥، ٦..
٥ أخرجه البخاري في الدعوات باب ٦٩..
٦ باب ٦٩..
٧ كتاب الوتر، باب ٢..
بعد الانتهاء من قصة موسى مع قومه التي ختمت بها قصص الرسل من هذه السورة بين الله تعالى لنا في بضع آيات منها شيئا من شؤون البشر العامة في الإيمان والشرك والهدى والضلال، وما لفساد الفطرة وإهمال مواهبها من العقل والحواس من سوء المآل، وأرشدنا في آخرها إلى ما يصلح فساد الفطرة من دعائه بأسمائه الحسنى، وإلى ما للإلحاد فيها من سوء الجزاء في العقبى. ثم قفى على هذه البضع الآيات ببضع آيات أخرى في شأن الأمة المحمدية بدأها بوصف أمة الإجابة، وثنى بذكر المكذبين من أمة الدعوة، وثلث بتفنيد ما عرض لهم من الشبهة، فالإرشاد إلى التفكر الموصل إلى فقه الأمور وما في حقائقها من العبرة، وإلى النظر الهادي إلى مآخذ البرهان والحجة، لمعرفة صدق الرسول وما في القرآن من الهداية والعلم والحكمة، فالموعظة الحسنة المؤثرة في النفس المستعدة بالتذكير بقرب الأجل، والاحتياط للقاء الله عز وجل، وختمها ببيان عدم الطمع في هداية من قضت سنة الله بضلاله، وتركه يعمه في طغيانه.
قال تعالى :
﴿ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾ هذه الجملة معطوفة على جملة ﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] وكلتاهما تفصيل لإجماله قوله تعالى :﴿ من يهد الله فهو المهتد ﴾ [ الأعراف : ١٧٨ ] الخ بدأه ببيان حال من أضلهم وهم الذين أهملوا استعمال قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم في فقه آيات الله، وأنهم كثيرون، ولكنه ما سماهم أمة، لأنهم لا تجمعهم في الضلال جامعة، ولأن الباطل كثير وسبله متفرقة. ثم ذكر هنا حال من هداهم الله تعالى وهو أنهم أمة أي جماعة كبيرة، مؤلفة من شعوب وقبائل كثيرة، يهدون بالحق وبه دون غيره يعدلون، فسبيلهم واحدة لأن الحق واحد لا يتعدد، وهؤلاء هم أمة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد تقدم تفسير هذا التركيب في قوله تعالى :﴿ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾ [ الأعراف : ١٥٩ ] فليراجع فهو قريب فهاتان الآيتان متقابلتان لقرب الشبه بين أمة موسى وأمة محمد عليهما الصلاة والسلام كقرب الشبه بينهما وقد تقدم بيانه أيضا وإنما قال :﴿ وممن خلقنا ﴾ الخ لمناسبة قوله في مقابله ﴿ ولقد ذرأنا ﴾ أي خلقنا، فهنالك يقول ذرأنا لجهنم من صفتهم كذا، وهنا يقول وممن خلقنا أي للجنة أمة صفتهم كذا وكذا.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جرير في قوله تعالى :﴿ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق ﴾ قال ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( هذه أمتي، بالحق يحكمون ويقضون، ويأخذون ويعطون ) وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة فيها قال : بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأها ( هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها :﴿ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾ وأخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال : لتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة : يقول الله :﴿ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾ فهذه هي التي تنجو من هذه الأمة. اه ومعلوم أن الشق الأول من هذا الأثر مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكره علي رضي الله عنه ليفسر به الفرقة الناجية. وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات بأنها هي التي تستقيم على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه، ومعنى التفسيرين واحد في مآلهما والمراد منه أمة الإجابة لدعوته صلى الله عليه وسلم.
من تحقيق المباحث اللفظية في الآيات كلمتا التفكر والنظر العقلي وقد عبر هنا بالتفكر في موضوع استبانة كون النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون كما زعم بعض غواتهم، وبالنظر في جملة الملكوت وجزئياته في موضوع الإيمان بما جاءهم به الرسول من كتاب الله تعالى، فنبين ذلك بما تظهر به نكتة الفرق بين التعبيرين، ويتجلى تفسير الآيتين :
الفكر بالكسر عبارة عن التأمل في المعاني وتدبرها وهو اسم من فكر يفكر فكرا ( من باب ضرب ) وفكر بالتشديد وتفكر : ومثله الفكرة والفكري. وفسروه أيضا بإعمال الخاطر وإجالته في الأمور، وقال الراغب : الفكرة مطرقة للعلم إلى العلوم، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل.... ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب ولهذا روي ( تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله ) إذ كان منزها أن يوصف بصورة. ثم أورد الشواهد من الآيات ومنها آية الأعراف هذه. ثم نقل عن بعض الأدباء أن الفكر مقلوب عن الفرك لكنه يستعمل في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها اهـ.
وقال علماء المنطق الفكر ترتيب أمور معلومة للتوصل إلى مجهول تصوري أو تصديقي، وهو ينافي الحكم على ظواهر الأشياء أو فيها بادي الرأي من غير تمحيص ولا تقدير. واستعمال القرآن للتفكر والتفكير يدل على أنهما في العقليات المحضة أو في العقليات التي مبادئها حسيات، فالإنسان يفكر فيما ينبغي أن يقوله في المواقف التي تميز الأقوال، وفيما ينبغي أن يفعله حيث تنتقد الأفعال، ويفكر في أقوال الناس وأفعالهم، ويفكر في الأمور الاجتماعية والأدبية والدينية والسياسية، ويفكر أيضا في المبصرات كالمسموعات والمعقولات، وأكثر ما استعمله التنزيل في آيات الله ودلائل وجوده ووحدانيته وحكمته ورحمته.
وأما النظر فقد قال الراغب في تعريفه : هو تقليب البصر أو البصيرة في إدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص وهو الروية، يقال نظرت فلم تنظر أي لم تتأمل ولم تترو. وقوله تعالى :﴿ قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ﴾ [ يونس : ١٠١ ] أي تأملوا واستعمال النظر في البصر أكثر عند العامة، وفي البصيرة أكثر عند خاصة. اهـ وقد اختلف علماء المعقول من المناطقة والمتكلمين في الفكر والنظر هل هما مترادفان أو أحدهما أخص من الآخر ولهم كلام طويل في ذلك أكثره اصطلاحي غير مقيد باستعمال اللغة.
واستعمال القرآن يدل على أن النظر العقلي مبدأ من مبادئ الفكر والتفكير، كما أن مبدأه هو النظر الحسي في الغالب كقوله تعالى :﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ﴾ [ الغاشية : ١٧ ] ؟ الخ وقوله :﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها ﴾ [ ق : ٦ ] الخ ومنه النظر في عاقبة الأمم برؤية آثارها في عدة آيات والشواهد على ذلك في التنزيل معروفة فلا نطيل في سردها. والآيات التي نحن بصدد تفسيرها جمعت بين المبدأ الحسي وهو ملكوت السماوات والأرض والمبدأ الفكري وهو اقتراب الأجل، وهما وما في معناهما يدلان على بناء الدين الإسلامي على قاعدتي النظر العقلي والتفكر اللذين يمتاز بهما الأفراد والأمم بعضها على بعض والله أعلم وأحكم.
بعد الانتهاء من قصة موسى مع قومه التي ختمت بها قصص الرسل من هذه السورة بين الله تعالى لنا في بضع آيات منها شيئا من شؤون البشر العامة في الإيمان والشرك والهدى والضلال، وما لفساد الفطرة وإهمال مواهبها من العقل والحواس من سوء المآل، وأرشدنا في آخرها إلى ما يصلح فساد الفطرة من دعائه بأسمائه الحسنى، وإلى ما للإلحاد فيها من سوء الجزاء في العقبى. ثم قفى على هذه البضع الآيات ببضع آيات أخرى في شأن الأمة المحمدية بدأها بوصف أمة الإجابة، وثنى بذكر المكذبين من أمة الدعوة، وثلث بتفنيد ما عرض لهم من الشبهة، فالإرشاد إلى التفكر الموصل إلى فقه الأمور وما في حقائقها من العبرة، وإلى النظر الهادي إلى مآخذ البرهان والحجة، لمعرفة صدق الرسول وما في القرآن من الهداية والعلم والحكمة، فالموعظة الحسنة المؤثرة في النفس المستعدة بالتذكير بقرب الأجل، والاحتياط للقاء الله عز وجل، وختمها ببيان عدم الطمع في هداية من قضت سنة الله بضلاله، وتركه يعمه في طغيانه.
ثم ذكر حال المكذبين من أمة الدعوة فقال :
﴿ والذين كذّبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ﴾ الاستدراج مأخوذ من الدرج مصدر درج أو من الدرجة وهي المرقاة، يقال درج الكتاب والثوب وأدرجه إذا طواه ويعبر بالدرج وهو المصدر عن المدروج أي المطوي، ويقال درج فلان بمعنى مات، وهذه آثار قوم درجوا أي انقرضوا، جعله الراغب مجازا بالاستعارة، ولكن الزمخشري ذكره في حقيقة الأساس وقال واستدرجه : رقاه من درجة إلى درجة، وقيل استدعى هلكته من درج إذا مات. وقال الراغب في سنستدرجهم من الآية : قيل معناه سنطويهم طي الكتاب عبارة عن إغفالهم نحو ﴿ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ﴾ [ الكهف : ٢٨ ] وقيل معناه سنأخذهم درجة بعد درجة وذلك إدناؤهم من الشيء شيئا فشيئا كالمراقي والمنازل في ارتقائها ونزولها اه.
أقول : والمراد على هذا أنهم يسترسلون في غيهم وضلالهم، من حيث لا يدرون شيئا من عاقبة أمرهم، لجهلهم سنن الله تعالى في المنازعة بين الحق والباطل، والمصارعة بين الضار والنافع، وكون الحق يدمغ الباطل، وما ينفع الناس يصرع ما يضرهم، كما قال تعالى :﴿ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ﴾ [ الأنبياء : ١٨ ] وقوله تعالى :﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ﴾ [ الرعد : ١٧ ].
وأما المعنى على القول الأول فهو إنذار لهم بهذه العاقبة وهو أن الله تعالى سيأخذهم بالعقاب وينصر رسوله عليهم ولكن بالتدريج وكذلك كان.
والجمع بين معنيي الاستدراج جائز هنا لظهوره فيمن نزل فيهم أولا وبالذات وهم كفار قريش الجاحدون والمبالغون في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانوا مغترين بكثرتهم لا يعتدون به ولا بغيره ممن آمن به أولا وأكثرهم من الضعفاء الفقراء فمازالوا يتدرجون في عداوتهم له وقتالهم إياه حتى أظهره الله تعالى عليهم في غزوة بدر فلم يعتبروا، ثم زادهم غرورا ظهورهم في آخر معركة أحد وقال قائدهم أبو سفيان : يوم بيوم بدر- إلى أن كان الفتح الأعظم فهذا كله استدراج بمعنى التنقل في مدارج الغرور وبمعنى أخذ الله إياهم وإظهار رسوله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه عليهم من حيث لا يعلمون سنته تعالى في هذا ولا ذاك.
وقد فسر السدي الاستدراج بالمعنى الثاني فجعله خاصا بأخذهم في غزوة بدر وفسر بعض المتقدمين الاستدراج بمعناه العام في اللغة كاغترار العصاة بالنعم التي تنسيهم التوبة وتلهيهم عن شكر المنعم. واقتصارهم عليه غفلة عن سبب النزول ومن أنزل فيهم. فهو كقوله تعالى في سورة القلم :﴿ فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ﴾ [ القلم : ٤٤ ] وقفى عليها بمثل ما هنا- والسورتان مكيتان- وهو قوله تعالى :﴿ وأملي لهم إن كيدي متين ﴾.
من تحقيق المباحث اللفظية في الآيات كلمتا التفكر والنظر العقلي وقد عبر هنا بالتفكر في موضوع استبانة كون النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون كما زعم بعض غواتهم، وبالنظر في جملة الملكوت وجزئياته في موضوع الإيمان بما جاءهم به الرسول من كتاب الله تعالى، فنبين ذلك بما تظهر به نكتة الفرق بين التعبيرين، ويتجلى تفسير الآيتين :
الفكر بالكسر عبارة عن التأمل في المعاني وتدبرها وهو اسم من فكر يفكر فكرا ( من باب ضرب ) وفكر بالتشديد وتفكر : ومثله الفكرة والفكري. وفسروه أيضا بإعمال الخاطر وإجالته في الأمور، وقال الراغب : الفكرة مطرقة للعلم إلى العلوم، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل.... ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب ولهذا روي ( تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله ) إذ كان منزها أن يوصف بصورة. ثم أورد الشواهد من الآيات ومنها آية الأعراف هذه. ثم نقل عن بعض الأدباء أن الفكر مقلوب عن الفرك لكنه يستعمل في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها اهـ.
وقال علماء المنطق الفكر ترتيب أمور معلومة للتوصل إلى مجهول تصوري أو تصديقي، وهو ينافي الحكم على ظواهر الأشياء أو فيها بادي الرأي من غير تمحيص ولا تقدير. واستعمال القرآن للتفكر والتفكير يدل على أنهما في العقليات المحضة أو في العقليات التي مبادئها حسيات، فالإنسان يفكر فيما ينبغي أن يقوله في المواقف التي تميز الأقوال، وفيما ينبغي أن يفعله حيث تنتقد الأفعال، ويفكر في أقوال الناس وأفعالهم، ويفكر في الأمور الاجتماعية والأدبية والدينية والسياسية، ويفكر أيضا في المبصرات كالمسموعات والمعقولات، وأكثر ما استعمله التنزيل في آيات الله ودلائل وجوده ووحدانيته وحكمته ورحمته.
وأما النظر فقد قال الراغب في تعريفه : هو تقليب البصر أو البصيرة في إدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص وهو الروية، يقال نظرت فلم تنظر أي لم تتأمل ولم تترو. وقوله تعالى :﴿ قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ﴾ [ يونس : ١٠١ ] أي تأملوا واستعمال النظر في البصر أكثر عند العامة، وفي البصيرة أكثر عند خاصة. اهـ وقد اختلف علماء المعقول من المناطقة والمتكلمين في الفكر والنظر هل هما مترادفان أو أحدهما أخص من الآخر ولهم كلام طويل في ذلك أكثره اصطلاحي غير مقيد باستعمال اللغة.
واستعمال القرآن يدل على أن النظر العقلي مبدأ من مبادئ الفكر والتفكير، كما أن مبدأه هو النظر الحسي في الغالب كقوله تعالى :﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ﴾ [ الغاشية : ١٧ ] ؟ الخ وقوله :﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها ﴾ [ ق : ٦ ] الخ ومنه النظر في عاقبة الأمم برؤية آثارها في عدة آيات والشواهد على ذلك في التنزيل معروفة فلا نطيل في سردها. والآيات التي نحن بصدد تفسيرها جمعت بين المبدأ الحسي وهو ملكوت السماوات والأرض والمبدأ الفكري وهو اقتراب الأجل، وهما وما في معناهما يدلان على بناء الدين الإسلامي على قاعدتي النظر العقلي والتفكر اللذين يمتاز بهما الأفراد والأمم بعضها على بعض والله أعلم وأحكم.
بعد الانتهاء من قصة موسى مع قومه التي ختمت بها قصص الرسل من هذه السورة بين الله تعالى لنا في بضع آيات منها شيئا من شؤون البشر العامة في الإيمان والشرك والهدى والضلال، وما لفساد الفطرة وإهمال مواهبها من العقل والحواس من سوء المآل، وأرشدنا في آخرها إلى ما يصلح فساد الفطرة من دعائه بأسمائه الحسنى، وإلى ما للإلحاد فيها من سوء الجزاء في العقبى. ثم قفى على هذه البضع الآيات ببضع آيات أخرى في شأن الأمة المحمدية بدأها بوصف أمة الإجابة، وثنى بذكر المكذبين من أمة الدعوة، وثلث بتفنيد ما عرض لهم من الشبهة، فالإرشاد إلى التفكر الموصل إلى فقه الأمور وما في حقائقها من العبرة، وإلى النظر الهادي إلى مآخذ البرهان والحجة، لمعرفة صدق الرسول وما في القرآن من الهداية والعلم والحكمة، فالموعظة الحسنة المؤثرة في النفس المستعدة بالتذكير بقرب الأجل، والاحتياط للقاء الله عز وجل، وختمها ببيان عدم الطمع في هداية من قضت سنة الله بضلاله، وتركه يعمه في طغيانه.
﴿ وأملي لهم إن كيدي متين ﴾ الإملاء الإمداد في الزمن والإمهال والتأخير مشتق من الملوة والملاوة وهي الطائفة الطويلة من الزمن، والملوان الليل والنهار قال الراغب : وحقيقته تكررهما وامتدادهما، يقال أملى له إذا أمهله طويلا. وأملى للبعير إذا أرخى له الزمام ووسع له في القيد ليتسع له المرعى. ﴿ واهجرني مليا ﴾ [ مريم : ٤٦ ] أي زمنا طويلا. والملا بالقصر المفازة الواسعة الممتدة، وأما الإملاء للكاتب بمعنى تلقينه ما يكتب فأصله أملل. فهو ليس من هذه المادة.
والكيد كالمكر هو التدبير الذي يقصد به غير ظاهره بحيث ينخدع المكيد له بمظهره فلا يفطن له حتى ينتهي إلى ما يسوءه من مخبره وغايته، وأكثره احتيال مذموم، ومنه المحمود الذي يقصد له المصلحة ككيد يوسف لأخذ أخيه الشقيق من إخوته لأبيه برضاهم ومقتضى شريعتهم، ولذلك أسند وأضيف إلى الله عز وجل في مثل هذين الموضعين. والجمهور على أن إضافة الكيد والمكر أو إسنادهما إليه تعالى في القرآن من باب المشاكلة أو متأول بمعنى العقاب والجزاء وما بيناه أدق، والمتين القوي الشديد.
ومعنى الآية وأمهل هؤلاء المكذبين المستدرجين في العمر وأمد لهم في أسباب المعيشة والقدرة على الحرب بمقتضى سنتي في نظام الاجتماع للبشر كيدا لهم ومكرا بهم، لا حبا فيهم ونصرا لهم، ﴿ فذرهم في غمرتهم حتى حين أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ﴾ [ المؤمنون : ٥٤- ٥٦ ] وإن تسأل عن كيدي فهو قوي متين : قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي موسى ( إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) ١ فمعنى هذا الإملاء أن سنة الله تعالى في الأمم والأفراد قد مضت بأن يكون عقابهم بمقتضى الأسباب التي قام بها نظام الخلق، فالمخذول إذا بغى وظلم ولم ينزل به العقاب الإلهي عقب ظلمه يزداد بغيا وظلما ولا يحسب للعواقب حسابا فيسترسل في ظلمه إلى أن تحيق به عاقبة ذلك بأخذ الحكام له أو بتورطه في مهلكة أخرى، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
وقد نقلنا في أوائل هذا التفسير عن شيخنا الأستاذ الإمام أن عذاب الأمم في الدنيا مطرد، وأما عذاب الأفراد فقد يتخلف ويرجأ إلى الآخرة. وحققنا في مواضع أخرى أن عقاب الأمم وبعض عقاب الأفراد أثر طبيعي لذنوبهم فالأمم والشعوب الباغية الظالمة لابد أن يزول سلطانها وتدول دولتها، والسكير والزناء لا يسلمان من الأمراض التي سببها السكر والزنا. والمقامر قلما يموت إلا فقيرا معدما الخ.
وقد سردنا الشواهد في مواضع أخرى على عقاب الأمم من الآيات التي صدقتها شواهد التاريخ الماضي والحاضر وستصدقها في المستقبل، وما كانت الحرب الأخيرة العظمى إلا بعض عقاب الله تعالى للذين صلوا نارها ببغيهم وفسوقهم، وسيرون ما هو شر منها إذا لم يرجعوا عن غيهم.
من تحقيق المباحث اللفظية في الآيات كلمتا التفكر والنظر العقلي وقد عبر هنا بالتفكر في موضوع استبانة كون النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون كما زعم بعض غواتهم، وبالنظر في جملة الملكوت وجزئياته في موضوع الإيمان بما جاءهم به الرسول من كتاب الله تعالى، فنبين ذلك بما تظهر به نكتة الفرق بين التعبيرين، ويتجلى تفسير الآيتين :
الفكر بالكسر عبارة عن التأمل في المعاني وتدبرها وهو اسم من فكر يفكر فكرا ( من باب ضرب ) وفكر بالتشديد وتفكر : ومثله الفكرة والفكري. وفسروه أيضا بإعمال الخاطر وإجالته في الأمور، وقال الراغب : الفكرة مطرقة للعلم إلى العلوم، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل.... ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب ولهذا روي ( تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله ) إذ كان منزها أن يوصف بصورة. ثم أورد الشواهد من الآيات ومنها آية الأعراف هذه. ثم نقل عن بعض الأدباء أن الفكر مقلوب عن الفرك لكنه يستعمل في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها اهـ.
وقال علماء المنطق الفكر ترتيب أمور معلومة للتوصل إلى مجهول تصوري أو تصديقي، وهو ينافي الحكم على ظواهر الأشياء أو فيها بادي الرأي من غير تمحيص ولا تقدير. واستعمال القرآن للتفكر والتفكير يدل على أنهما في العقليات المحضة أو في العقليات التي مبادئها حسيات، فالإنسان يفكر فيما ينبغي أن يقوله في المواقف التي تميز الأقوال، وفيما ينبغي أن يفعله حيث تنتقد الأفعال، ويفكر في أقوال الناس وأفعالهم، ويفكر في الأمور الاجتماعية والأدبية والدينية والسياسية، ويفكر أيضا في المبصرات كالمسموعات والمعقولات، وأكثر ما استعمله التنزيل في آيات الله ودلائل وجوده ووحدانيته وحكمته ورحمته.
وأما النظر فقد قال الراغب في تعريفه : هو تقليب البصر أو البصيرة في إدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص وهو الروية، يقال نظرت فلم تنظر أي لم تتأمل ولم تترو. وقوله تعالى :﴿ قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ﴾ [ يونس : ١٠١ ] أي تأملوا واستعمال النظر في البصر أكثر عند العامة، وفي البصيرة أكثر عند خاصة. اهـ وقد اختلف علماء المعقول من المناطقة والمتكلمين في الفكر والنظر هل هما مترادفان أو أحدهما أخص من الآخر ولهم كلام طويل في ذلك أكثره اصطلاحي غير مقيد باستعمال اللغة.
واستعمال القرآن يدل على أن النظر العقلي مبدأ من مبادئ الفكر والتفكير، كما أن مبدأه هو النظر الحسي في الغالب كقوله تعالى :﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ﴾ [ الغاشية : ١٧ ] ؟ الخ وقوله :﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها ﴾ [ ق : ٦ ] الخ ومنه النظر في عاقبة الأمم برؤية آثارها في عدة آيات والشواهد على ذلك في التنزيل معروفة فلا نطيل في سردها. والآيات التي نحن بصدد تفسيرها جمعت بين المبدأ الحسي وهو ملكوت السماوات والأرض والمبدأ الفكري وهو اقتراب الأجل، وهما وما في معناهما يدلان على بناء الدين الإسلامي على قاعدتي النظر العقلي والتفكر اللذين يمتاز بهما الأفراد والأمم بعضها على بعض والله أعلم وأحكم.
بعد الانتهاء من قصة موسى مع قومه التي ختمت بها قصص الرسل من هذه السورة بين الله تعالى لنا في بضع آيات منها شيئا من شؤون البشر العامة في الإيمان والشرك والهدى والضلال، وما لفساد الفطرة وإهمال مواهبها من العقل والحواس من سوء المآل، وأرشدنا في آخرها إلى ما يصلح فساد الفطرة من دعائه بأسمائه الحسنى، وإلى ما للإلحاد فيها من سوء الجزاء في العقبى. ثم قفى على هذه البضع الآيات ببضع آيات أخرى في شأن الأمة المحمدية بدأها بوصف أمة الإجابة، وثنى بذكر المكذبين من أمة الدعوة، وثلث بتفنيد ما عرض لهم من الشبهة، فالإرشاد إلى التفكر الموصل إلى فقه الأمور وما في حقائقها من العبرة، وإلى النظر الهادي إلى مآخذ البرهان والحجة، لمعرفة صدق الرسول وما في القرآن من الهداية والعلم والحكمة، فالموعظة الحسنة المؤثرة في النفس المستعدة بالتذكير بقرب الأجل، والاحتياط للقاء الله عز وجل، وختمها ببيان عدم الطمع في هداية من قضت سنة الله بضلاله، وتركه يعمه في طغيانه.
بعد هذا أرشدهم إلى المخرج من أكبر شبهة لهم على الرسالة فقال عز وجل :﴿ أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنّة ﴾ الجنة بالكسر النوع الخاص من الجنون فهو اسم هيئة، واسم للجن أيضا ولا يصح هنا إلا بتقدير مضاف، أي من مس جنة – وقد حكى الله تعالى عن قوم نوح أول رسله إلى قوم مشركين أنهم اتهموه بالجنون فقالوا بعد قولهم إنه بشر مثلهم يريد أن يتفضل عليهم ﴿ إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين ﴾ [ المؤمنون : ٢٥ ] وفي سورة القمر عنهم ﴿ كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ﴾ [ القمر : ٩ ] وفي سورة الشعراء حكاية عن فرعون لعنه الله في موسى عليه السلام ﴿ قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم المجنون ﴾ [ الشعراء : ٢٦ ] وقال تعالى عنه في سورة الذاريات ﴿ فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون ﴾ [ الذاريات : ٣٩ ] ثم بين تعالى في هذه السورة أن جميع الكفار كانوا يقولون هذا القول في رسلهم فقال :﴿ كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون ﴾ [ الذاريات : ٥٢، ٥٣ ].
وفي معنى آية الأعراف في خاتم النبيين والمرسلين عدة آيات منها : قوله تعالى في كفار مكة من سورة المؤمنين ﴿ أفلم يدّبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين * أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون * أم يقولون به جنّة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ﴾ [ المؤمنون : ٦٩- ٧١ ] ومثله في سورة سبأ :﴿ وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبّئكم إذا مزّقتم كل ممزّق إنكم لفي خلق جديد * أفترى على اللّه كذبا أم به جنّة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ﴾ [ سبأ : ٧، ٨ ] ثم قال فيها :﴿ قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا للّه مثنى وفرادى ثم تتفكّروا ما بصاحبكم من جنّة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ﴾ [ سبأ : ٤٦ ] وهذه شبيهة بآية الأعراف. وفي أول سورة الحجر :﴿ قالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ﴾ [ الحجر : ٦، ٧ ] وفي سورة الصافات :﴿ ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ﴾ [ الصافات : ٣٥ ] وفي سورة الطور من الرد عليهم ﴿ فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ﴾ [ الطور : ٢٧ ] ومثله :﴿ ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ﴾ [ القلم : ١، ٢ ] وفي آخرها ﴿ ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين ﴾ [ القلم : ٥١، ٥٢ ].
وفي سورة التكوير بعد وصف ملك الوحي :﴿ وما صاحبكم بمجنون ﴾ [ التكوير : ٢٢ ] روى أبناء حميد وجرير والمنذر وأبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قام على الصفا فدعا قريشا فخذا فخذا : يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون : بات يهوّت ( أي يصيح ) حتى أصبح. فأنزل الله ﴿ أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ﴾.
قد علمنا بما سبق أن جميع الكفار كانوا يرمون رسلهم بالجنون لأنهم ادعوا أن الله تعالى خصهم برسالته ووحيه على كونهم بشرا كغيرهم لا يمتازون على سائر الناس بما يفوق أفق الإنسانية كما علم من نشأتهم ومعيشتهم، ولأنهم ادعوا ما لا يعهد له عندهم نظير، وليس مما تصل إليه عقولهم بالتفكير، وهو أن الناس يبعثون بعد الموت والبلى خلقا جديدا، ولأن كلا منهم كان يدعي أن الناس مخطئون وهو المصيب، وضالون وهو المهتدي، وخاسرون وهو المفلح، إلا من اتبعه منهم- ولأنهم نهوا عن عبادة الآلهة وأنكروا أنها بالدعاء والتعظيم والنذور لها تقرب المتوسلين بها إلى الله زلفى وتشفع لهم عنده، وأثبتوا أن الشفاعة لله وحده لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، من رضي له لمن رضي عنه، فلا استقلال لهؤلاء الآلهة بالشفاعة عنده لمن توسل بهم- وشرعوا أنه لا يدعى مع الله أحد من ملك كريم، ولا صالح عظيم، فضلا عن صورهم وتماثيلهم المذكرة بهم، وقبورهم المشرفة برفاتهم، مع أن المذنب العاصي لا يليق به في رأي المشركين أن يدعو الله تعالى بغير واسطة ولا وسيلة لتدنسه بالذنوب فيحتاج إلى من يقربه إليه من أولئك الطاهرين، وشبهتهم أن الملوك العظام في الدنيا لا يدخل أحد عليهم إلا بإذن وزرائهم وحجابهم.
ومن الغريب أن هذه الشبهة الشركية لا تزال متسلسلة في جميع المشركين، حتى من أشرك من أهل الكتاب والمسلمين، الذين خالفوا نصوص الكتب الإلهية وسنة الرسل إلى أعمال الوثنيين ؟ ولا يرون بأسا في تشبيه رب العالمين وأرحم الراحمين، بالملوك الظالمين المستبدين.
وأما معنى الآية فالاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ وهو داخل على فعل حذف للعلم به من سياق القول كما تقدم في أمثاله والتقدير : أكذبوا الرسول ولم يتفكروا في حاله من أول نشأته، وفي حقيقة دعوته، ودلائل رسالته، وآيات وحدانية ربه، وقدرته على إعادة الخلق كما بدأهم وحكمته في ذلك- فإن حذف معمول التفكر يؤذن بعموم ما يدل عليه المقام مما تقتضيه الحال كما هي القاعدة المعروفة في علم المعاني-.
ألا فليتفكروا، فالمقام مقام تفكر وتأمل، أنهم إن تفكروا أوشك أن يعرفوا الحق، وما الحق ؟ ﴿ ما بصاحبهم من جنة ﴾ جملة مستأنفة لبيان الحق في أمر الرسول نفيا وإثباتا فهي نافية لما رموه به من الجنون كقوله تعالى :﴿ ما أنت بنعمة ربك بمجنون ﴾ [ القلم : ٢ ] وقوله :﴿ وما صاحبكم بمجنون ﴾ [ التكوير : ٢٢ ] ومثلها آية سبأ ﴿ ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة ﴾ [ سبأ : ٤٧ ] ولذلك ختمتا بنفي كل صفة عنه في موضوع رسالته إلا كونه منذرا مبلغا عن ربه فقال هنا ﴿ إن هو إلا نذير مبين ﴾ الإنذار تعليم وإرشاد مقترن بالتخويف من مخالفته أي ليس بمجنون : ليس إلا منذرا ناصحا، ومبلغا عن الله مبينا، ينذركم ما يحل بكم من عذاب الدنيا والآخرة إذا لم تستجيبوا له، وقد دعاكم لما يحييكم في الدنيا بجمع كلمتكم، وإصلاح أفرادكم ومجتمعكم، والسيادة على غيركم، ويحييكم في الدنيا بجمع كلمتكم، وإصلاح أفرادكم ومجتمعكم، والسيادة على غيركم، ويحييكم في الآخرة بلقاء ربكم. وقال هنالك ﴿ إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ﴾ [ سبأ : ٤٦ ].
وقد عبر عنه في هاتين الآيتين وفي آية التكوير بالصاحب لهم لتذكيرهم بأنهم يعرفونه من أول نشأته إلى أن تجاوز الأربعين من عمره، فما عليهم إلا أن يتفكروا حق التفكر في سيرته الشريفة المعقولة ليعلموا أن الشذوذ ومجافاة المعقول ليس من دأبه ولا مما عهد عنه، وكذلك الكذب كما قال بعض زعمائهم من أهل مكة : إن محمدا لم يكذب قط على أحد من الناس أفيكذب على الله ؟ وقد قال تعالى في أولئك الزعماء ﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ [ الأنعام : ٣٣ ].
وقد بينا في تفسيرنا هذا شبهة المشركين على الرسل بكونهم بشرا مع الرد عليها، كذلك شبهاتهم على البعث مع الرد عليها.
ولو تفكر مشركو مكة في نشأة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه وما جربوا من أمانته وصدقه من صبوته إلى أن اكتهل، ثم تفكروا فيما قام يدعوهم إليه من توحيد الله بعبادته وحده ومن كون حكمته في خلقه السماوات والأرض بالحق تقتضي تنزهه عن العبث ومنه : أن يكون هذا الإنسان السميع البصير العاقل البحاث عن حقائق الأشياء من ماض وحاضر وآت، ينتهي وجوده بالعدم المحض الذي هو في نفسه محال، ثم لو تفكروا في سوء حالهم الدينية ( كعبادة الأصنام ) والأدبية والمدنية والاجتماعية وما دعاهم إليه من إصلاحها كلها- لعلموا أن هذا الإصلاح الديني والأدبي والاجتماعي والسياسي لا يثمر إلا بالسيادة والسعادة، وأنه لا يمكن أن يكون مصدره جنون من دعا إليه، بل إذا كان فيه شيء غير معقول فهو أنه لا يمكن أن يكون هذا العلم العالي والإصلاح الكامل من رأي محمد بن عبد الله الأمي الناشئ بين الأميين- ولا أن تكون هذه البلاغة المعجزة للبشر في أسلوب القرآن ونظمه من كسب محمد الذي بلغ الأربعين ولم ينظم قصيدة ولا أرتجل خطبة- وأن هذه الحجج البالغة على كل ما يدعو إليه القرآن، والبراهين العقلية والعلمية الكونية لا يتأتى أن تأتي فجأة من ذي عزلة لم يناظر ولم يفاخر ولم يجادل أحدا فيما مضى من عمره كمحمد بن عبد الله- فإذا تفكروا في هذا كله جزموا بأن هذا كله وحي من الله تعالى ألقاه في روعه، ونزل من لدنه على روحه، وعلموا أن استبعادهم لذلك جهل منهم، فالله تعالى القادر على كل شيء يختص برحمته من يشاء. لهذا حثهم على التفكر في هذا المقام من هذه السورة وغيرها وذكر بعدها كونه نذيرا مبينا، ونذيرا بين يدي عذاب شديد.
من تحقيق المباحث اللفظية في الآيات كلمتا التفكر والنظر العقلي وقد عبر هنا بالتفكر في موضوع استبانة كون النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون كما زعم بعض غواتهم، وبالنظر في جملة الملكوت وجزئياته في موضوع الإيمان بما جاءهم به الرسول من كتاب الله تعالى، فنبين ذلك بما تظهر به نكتة الفرق بين التعبيرين، ويتجلى تفسير الآيتين :
الفكر بالكسر عبارة عن التأمل في المعاني وتدبرها وهو اسم من فكر يفكر فكرا ( من باب ضرب ) وفكر بالتشديد وتفكر : ومثله الفكرة والفكري. وفسروه أيضا بإعمال الخاطر وإجالته في الأمور، وقال الراغب : الفكرة مطرقة للعلم إلى العلوم، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل.... ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب ولهذا روي ( تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله ) إذ كان منزها أن يوصف بصورة. ثم أورد الشواهد من الآيات ومنها آية الأعراف هذه. ثم نقل عن بعض الأدباء أن الفكر مقلوب عن الفرك لكنه يستعمل في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها اهـ.
وقال علماء المنطق الفكر ترتيب أمور معلومة للتوصل إلى مجهول تصوري أو تصديقي، وهو ينافي الحكم على ظواهر الأشياء أو فيها بادي الرأي من غير تمحيص ولا تقدير. واستعمال القرآن للتفكر والتفكير يدل على أنهما في العقليات المحضة أو في العقليات التي مبادئها حسيات، فالإنسان يفكر فيما ينبغي أن يقوله في المواقف التي تميز الأقوال، وفيما ينبغي أن يفعله حيث تنتقد الأفعال، ويفكر في أقوال الناس وأفعالهم، ويفكر في الأمور الاجتماعية والأدبية والدينية والسياسية، ويفكر أيضا في المبصرات كالمسموعات والمعقولات، وأكثر ما استعمله التنزيل في آيات الله ودلائل وجوده ووحدانيته وحكمته ورحمته.
وأما النظر فقد قال الراغب في تعريفه : هو تقليب البصر أو البصيرة في إدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص وهو الروية، يقال نظرت فلم تنظر أي لم تتأمل ولم تترو. وقوله تعالى :﴿ قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ﴾ [ يونس : ١٠١ ] أي تأملوا واستعمال النظر في البصر أكثر عند العامة، وفي البصيرة أكثر عند خاصة. اهـ وقد اختلف علماء المعقول من المناطقة والمتكلمين في الفكر والنظر هل هما مترادفان أو أحدهما أخص من الآخر ولهم كلام طويل في ذلك أكثره اصطلاحي غير مقيد باستعمال اللغة.
واستعمال القرآن يدل على أن النظر العقلي مبدأ من مبادئ الفكر والتفكير، كما أن مبدأه هو النظر الحسي في الغالب كقوله تعالى :﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ﴾ [ الغاشية : ١٧ ] ؟ الخ وقوله :﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها ﴾ [ ق : ٦ ] الخ ومنه النظر في عاقبة الأمم برؤية آثارها في عدة آيات والشواهد على ذلك في التنزيل معروفة فلا نطيل في سردها. والآيات التي نحن بصدد تفسيرها جمعت بين المبدأ الحسي وهو ملكوت السماوات والأرض والمبدأ الفكري وهو اقتراب الأجل، وهما وما في معناهما يدلان على بناء الدين الإسلامي على قاعدتي النظر العقلي والتفكر اللذين يمتاز بهما الأفراد والأمم بعضها على بعض والله أعلم وأحكم.
بعد الانتهاء من قصة موسى مع قومه التي ختمت بها قصص الرسل من هذه السورة بين الله تعالى لنا في بضع آيات منها شيئا من شؤون البشر العامة في الإيمان والشرك والهدى والضلال، وما لفساد الفطرة وإهمال مواهبها من العقل والحواس من سوء المآل، وأرشدنا في آخرها إلى ما يصلح فساد الفطرة من دعائه بأسمائه الحسنى، وإلى ما للإلحاد فيها من سوء الجزاء في العقبى. ثم قفى على هذه البضع الآيات ببضع آيات أخرى في شأن الأمة المحمدية بدأها بوصف أمة الإجابة، وثنى بذكر المكذبين من أمة الدعوة، وثلث بتفنيد ما عرض لهم من الشبهة، فالإرشاد إلى التفكر الموصل إلى فقه الأمور وما في حقائقها من العبرة، وإلى النظر الهادي إلى مآخذ البرهان والحجة، لمعرفة صدق الرسول وما في القرآن من الهداية والعلم والحكمة، فالموعظة الحسنة المؤثرة في النفس المستعدة بالتذكير بقرب الأجل، والاحتياط للقاء الله عز وجل، وختمها ببيان عدم الطمع في هداية من قضت سنة الله بضلاله، وتركه يعمه في طغيانه.
ثم إنه دعاهم بعد هذا إلى النظر والاستدلال العقلي فقال :
﴿ أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ﴾ الملكوت الملك العظيم كما تدل عليه صيغة ( فعلوت ) والمراد بملكوت السماوات والأرض مجموع العالم لأن الاستدلال به على قدرة الله تعالى وصفاته ووحدانيته أظهر، فإن العالم في جملته لا يمكن أن يكون قديما أزليا ولا نزاع بين علماء الكون في إمكانه ولا في حدوث كل شيء منه وإنما يختلفون في مصدره ومم وجد. وهو لا يمكن أن يكون من عدم محض لأن العدم المحض لا حقيقة له في الخارج بل هو أمر فرضي فلا يعقل أن يصدر عنه وجود- ولا يمكن أن يكون بعضه قد أوجد البعض الآخر وهذا بديهي ولذلك لم يقل به أحد، فلا بد إذا من أن يكون صادرا عن وجود آخر غيره وهو الله واجب الوجود. ثم إن هذا النظام العام في الملكوت الأعظم يدل على أن مصدره واحد وتدبيره راجع إلى علم عليم واحد وحكمة حكيم واحد، سبحانه وتعالى ﴿ أم خلقوا من غير شيء ؟ أم هم الخالقون ؟ أم خلقوا السماوات والأرض ؟ بل لا يوقنون ﴾ [ الطور : ٣٥، ٣٦ ].
ومعنى الآية أكذبوا الرسول المشهور بالأمانة والصدق، وقالوا : إنه لمجنون وهو المعروف عندهم بالروية والعقل، وحتى جعلوا تحكيمه في تنازعهم على رفع الحجر الأسود هو الحكم الفصل – ولم ينظروا نظر تأمل واستدلال في مجموع ملكوت السماوات والأرض على عظمته، والنظام العام الذي قام بجملته، وما خلق الله من شيء في كل منهما وإن دق وصغر، وخفي واستتر، ففي كل شيء من خلقه له آية تدل على علمه وقدرته، ومشيئته وحكمته، وفضله ورحمته، وكونه لم يخلق شيئا عبثا، ولا يترك الناس سدى، تدل على ذلك بوجود ذلك الشيء بعد أن لم يكن، وبترجيح كل وصف من أوصافه على ما يقابله، وبما فيها من فائدة ومنفعة، فكيف بالملكوت الأعظم في جملته، والنظام البديع الذي قام هو به ؟ أكذبوا وقالوا ما قالوا ولم ينظروا في العالم الأكبر، ولا في ذرات العالم الأصغر، نظر تأمل واعتبار، وتفكر واستدلال، ولا فيما عسى أن يكون عليه الشأن من اقتراب أجلهم، وقدومهم على الله تعالى بسوء عملهم، فأجل الأفراد مهما يطل قصير، ومهما يبعد أملهم فيه فهو في الحق والواقع قريب، ولو نظروا في الملكوت أو في شيء ما منه، واعتبروا بخلق الله تعالى إياه، لاهتدوا بدلائله إلى تصديق الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ولو نظروا في توقع قرب أجلهم لاحتاطوا لأنفسهم ورأوا أن من العقل والروية أن يقبلوا إنذاره صلى الله عليه وسلم لهم، لأن خيريته لهم في الدنيا ظاهرة لم يكونوا ينكرونها، وأما خيريته في الآخرة فهي أعظم إذا صدق ما يقرره من أمر البعث والجزاء وهو صدق وحق، وإن صح إنكارهم له- وما هو بصحيح- فلا ضرر عليهم من الاحتياط له، كما قال الشاعر :
قال المنجم والطبيب كلاهما | لا تبعث الأموات قلت إليكما |
إن صح قولكما فلست بخاسر | أو صح قولي فالخسار عليكما |
﴿ فبأي حديث بعده يؤمنون ﴾ وردت هذه الآية بنصها في آخر سورة المرسلات ( ٧٧ ) التي أقيمت فيها الدلائل على البعث والجزاء وتهديد المكذبين بالويل والهلاك بعد تقرير كل نوع منها. وورد في الآية الخامسة من سورة الجاثية ( ٤٥ ) بعد التذكير بآيات الله للمؤمنين وآياته لقوم يوقنون وآياته لقوم يعقلون قوله :﴿ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ﴾ [ الجاثية : ٦ ] ؟ والحديث في الجميع كلام الله الذي هو القرآن، يدل عليه هنا قوله تعالى في رسوله ﴿ إن هو إلا نذير مبين ﴾ [ الأعراف : ١٨٤ ] وفي آية المرسلات القرينة في تهديد المكذبين له. وفي آية الجاثية افتتاح السورة بذكر الكتاب فيكون معناها فبأي حديث بعد كتاب الله المذكور في الآية الأولى وآياته المشار إليها بعدها يؤمنون ؟
والمراد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم نذير مبين عن الله تعالى وإنما أنذر الناس بهذا الحديث أي القرآن كما أمره أن يقول :﴿ وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ] وهو أكمل كتب الله بيانا، وأقواها برهانا، وأقهرها سلطانا، فمن لم يؤمن به فلا مطمع في إيمانه بغيره، ومن لم يرو ظمأه الماء النقاح المبرد فأي شيء يرويه ؟ ومن لم يبصر في نور النهار ففي أي نور يبصر ؟
من تحقيق المباحث اللفظية في الآيات كلمتا التفكر والنظر العقلي وقد عبر هنا بالتفكر في موضوع استبانة كون النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون كما زعم بعض غواتهم، وبالنظر في جملة الملكوت وجزئياته في موضوع الإيمان بما جاءهم به الرسول من كتاب الله تعالى، فنبين ذلك بما تظهر به نكتة الفرق بين التعبيرين، ويتجلى تفسير الآيتين :
الفكر بالكسر عبارة عن التأمل في المعاني وتدبرها وهو اسم من فكر يفكر فكرا ( من باب ضرب ) وفكر بالتشديد وتفكر : ومثله الفكرة والفكري. وفسروه أيضا بإعمال الخاطر وإجالته في الأمور، وقال الراغب : الفكرة مطرقة للعلم إلى العلوم، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل.... ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب ولهذا روي ( تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله ) إذ كان منزها أن يوصف بصورة. ثم أورد الشواهد من الآيات ومنها آية الأعراف هذه. ثم نقل عن بعض الأدباء أن الفكر مقلوب عن الفرك لكنه يستعمل في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها اهـ.
وقال علماء المنطق الفكر ترتيب أمور معلومة للتوصل إلى مجهول تصوري أو تصديقي، وهو ينافي الحكم على ظواهر الأشياء أو فيها بادي الرأي من غير تمحيص ولا تقدير. واستعمال القرآن للتفكر والتفكير يدل على أنهما في العقليات المحضة أو في العقليات التي مبادئها حسيات، فالإنسان يفكر فيما ينبغي أن يقوله في المواقف التي تميز الأقوال، وفيما ينبغي أن يفعله حيث تنتقد الأفعال، ويفكر في أقوال الناس وأفعالهم، ويفكر في الأمور الاجتماعية والأدبية والدينية والسياسية، ويفكر أيضا في المبصرات كالمسموعات والمعقولات، وأكثر ما استعمله التنزيل في آيات الله ودلائل وجوده ووحدانيته وحكمته ورحمته.
وأما النظر فقد قال الراغب في تعريفه : هو تقليب البصر أو البصيرة في إدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص وهو الروية، يقال نظرت فلم تنظر أي لم تتأمل ولم تترو. وقوله تعالى :﴿ قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ﴾ [ يونس : ١٠١ ] أي تأملوا واستعمال النظر في البصر أكثر عند العامة، وفي البصيرة أكثر عند خاصة. اهـ وقد اختلف علماء المعقول من المناطقة والمتكلمين في الفكر والنظر هل هما مترادفان أو أحدهما أخص من الآخر ولهم كلام طويل في ذلك أكثره اصطلاحي غير مقيد باستعمال اللغة.
واستعمال القرآن يدل على أن النظر العقلي مبدأ من مبادئ الفكر والتفكير، كما أن مبدأه هو النظر الحسي في الغالب كقوله تعالى :﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ﴾ [ الغاشية : ١٧ ] ؟ الخ وقوله :﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها ﴾ [ ق : ٦ ] الخ ومنه النظر في عاقبة الأمم برؤية آثارها في عدة آيات والشواهد على ذلك في التنزيل معروفة فلا نطيل في سردها. والآيات التي نحن بصدد تفسيرها جمعت بين المبدأ الحسي وهو ملكوت السماوات والأرض والمبدأ الفكري وهو اقتراب الأجل، وهما وما في معناهما يدلان على بناء الدين الإسلامي على قاعدتي النظر العقلي والتفكر اللذين يمتاز بهما الأفراد والأمم بعضها على بعض والله أعلم وأحكم.
بعد الانتهاء من قصة موسى مع قومه التي ختمت بها قصص الرسل من هذه السورة بين الله تعالى لنا في بضع آيات منها شيئا من شؤون البشر العامة في الإيمان والشرك والهدى والضلال، وما لفساد الفطرة وإهمال مواهبها من العقل والحواس من سوء المآل، وأرشدنا في آخرها إلى ما يصلح فساد الفطرة من دعائه بأسمائه الحسنى، وإلى ما للإلحاد فيها من سوء الجزاء في العقبى. ثم قفى على هذه البضع الآيات ببضع آيات أخرى في شأن الأمة المحمدية بدأها بوصف أمة الإجابة، وثنى بذكر المكذبين من أمة الدعوة، وثلث بتفنيد ما عرض لهم من الشبهة، فالإرشاد إلى التفكر الموصل إلى فقه الأمور وما في حقائقها من العبرة، وإلى النظر الهادي إلى مآخذ البرهان والحجة، لمعرفة صدق الرسول وما في القرآن من الهداية والعلم والحكمة، فالموعظة الحسنة المؤثرة في النفس المستعدة بالتذكير بقرب الأجل، والاحتياط للقاء الله عز وجل، وختمها ببيان عدم الطمع في هداية من قضت سنة الله بضلاله، وتركه يعمه في طغيانه.
ثم قال تعالى :﴿ من يضلل الله فلا هادي له ﴾ هذا استئناف بياني مقرر لجملة هذا السياق، ومعنى الجملة المراد أن الله تعالى قد جعل هذا القرآن أعظم أسباب الهداية وإنما جعله هدى للمتقين، لا للجاحدين المعاندين، وجعل الرسول المبلغ له أكمل الرسل وأقواهم برهانا في حاله وعقله وأخلاقه وكونه أميا- فمن فقد الاستعداد للإيمان والهدى بهذا الكتاب على ظهور آياته وقوة بيناته، وبهذا الرسول المتحدي به- فهو الذي أضله الله، أي قضت سنته في نظام خلق الإنسان، وارتباط المسببات في أعماله بالأسباب، بأن يكون ضالا راسخا في الضلال، وإذا كان ضلاله بمقتضى سنن الله، فمن يهديه من بعد الله ؟ ولا قدرة لأحد من خلقه على تغيير سننه ولا تبديلها.
﴿ ويذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾ أي وهو تعالى يترك هؤلاء الضالين في طغيانهم كالشيء اللقا الذي لا يبالى به حالة كونهم يعمهون فيه أي يترددون تردد الحيرة والغمة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وفي هذا بيان لسبب ضلالهم من كسبهم، وهو الطغيان أي تجاوز الحد في الباطل والشر من الكفر والظلم والفجور الذي ينتهي بالعمه وهو التردد في الحيرة، والارتكاس في الغمة. وقد روعي في إفراد الضمير أولا لفظ " من يضلل " وفي جمعه آخرا معناها وهو الجمع، ونظائره كثيرة.
وقد علم مما قررناه أن إسناد الإضلال إلى الله تعالى ليس معناه أنه أجبرهم على الضلال إجبارا، وأعجزهم بقدرته عن الهدى فكان اضطرارا لا اختيارا، بل معناه أنهم مارسوا الكفر والضلال وأسرفوا فيهما حتى وصلوا إلى حد العمه في الطغيان، ففقدوا بهذه الأعمال الاختيارية ما يضادها من الهدى والإيمان.
وقرأ حمزة والكسائي يذرهم بإسكان الراء فقيل هو للتخفيف وقيل للإعراب بالعطف على جواب الشرط وقرأه بعض القراء بالنون على الالتفات.
من تحقيق المباحث اللفظية في الآيات كلمتا التفكر والنظر العقلي وقد عبر هنا بالتفكر في موضوع استبانة كون النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون كما زعم بعض غواتهم، وبالنظر في جملة الملكوت وجزئياته في موضوع الإيمان بما جاءهم به الرسول من كتاب الله تعالى، فنبين ذلك بما تظهر به نكتة الفرق بين التعبيرين، ويتجلى تفسير الآيتين :
الفكر بالكسر عبارة عن التأمل في المعاني وتدبرها وهو اسم من فكر يفكر فكرا ( من باب ضرب ) وفكر بالتشديد وتفكر : ومثله الفكرة والفكري. وفسروه أيضا بإعمال الخاطر وإجالته في الأمور، وقال الراغب : الفكرة مطرقة للعلم إلى العلوم، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل.... ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب ولهذا روي ( تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله ) إذ كان منزها أن يوصف بصورة. ثم أورد الشواهد من الآيات ومنها آية الأعراف هذه. ثم نقل عن بعض الأدباء أن الفكر مقلوب عن الفرك لكنه يستعمل في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها اهـ.
وقال علماء المنطق الفكر ترتيب أمور معلومة للتوصل إلى مجهول تصوري أو تصديقي، وهو ينافي الحكم على ظواهر الأشياء أو فيها بادي الرأي من غير تمحيص ولا تقدير. واستعمال القرآن للتفكر والتفكير يدل على أنهما في العقليات المحضة أو في العقليات التي مبادئها حسيات، فالإنسان يفكر فيما ينبغي أن يقوله في المواقف التي تميز الأقوال، وفيما ينبغي أن يفعله حيث تنتقد الأفعال، ويفكر في أقوال الناس وأفعالهم، ويفكر في الأمور الاجتماعية والأدبية والدينية والسياسية، ويفكر أيضا في المبصرات كالمسموعات والمعقولات، وأكثر ما استعمله التنزيل في آيات الله ودلائل وجوده ووحدانيته وحكمته ورحمته.
وأما النظر فقد قال الراغب في تعريفه : هو تقليب البصر أو البصيرة في إدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص وهو الروية، يقال نظرت فلم تنظر أي لم تتأمل ولم تترو. وقوله تعالى :﴿ قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ﴾ [ يونس : ١٠١ ] أي تأملوا واستعمال النظر في البصر أكثر عند العامة، وفي البصيرة أكثر عند خاصة. اهـ وقد اختلف علماء المعقول من المناطقة والمتكلمين في الفكر والنظر هل هما مترادفان أو أحدهما أخص من الآخر ولهم كلام طويل في ذلك أكثره اصطلاحي غير مقيد باستعمال اللغة.
واستعمال القرآن يدل على أن النظر العقلي مبدأ من مبادئ الفكر والتفكير، كما أن مبدأه هو النظر الحسي في الغالب كقوله تعالى :﴿ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ﴾ [ الغاشية : ١٧ ] ؟ الخ وقوله :﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها ﴾ [ ق : ٦ ] الخ ومنه النظر في عاقبة الأمم برؤية آثارها في عدة آيات والشواهد على ذلك في التنزيل معروفة فلا نطيل في سردها. والآيات التي نحن بصدد تفسيرها جمعت بين المبدأ الحسي وهو ملكوت السماوات والأرض والمبدأ الفكري وهو اقتراب الأجل، وهما وما في معناهما يدلان على بناء الدين الإسلامي على قاعدتي النظر العقلي والتفكر اللذين يمتاز بهما الأفراد والأمم بعضها على بعض والله أعلم وأحكم.
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنها إرشاد إلى النظر والتفكر في أمر الساعة التي ينتهي بها أجل جميع الناس، في إثر الإرشاد إلى النظر والتفكر في اقتراب أجل من كانوا في عصر التنزيل وعهد نزول هذه السورة منهم، وبعبارة أخرى أنها كلام في الساعة العامة، بعد الكلام في الساعة الخاصة. قال تعالى :
﴿ يسألونك عن الساعة أيان مرساها ﴾ الساعة في اللغة جزء قليل غير معين من الزمان، وتسمى ساعة زمانية، ومنه قوله تعالى في أوائل هذه السورة :﴿ لا يستأخرون عنه ساعة ﴾ [ سبأ : ٣٠ ] وفي اصطلاح الفلكيين جزء من ٢٤ جزءا متساوية من اليوم والليلة وهي تنقسم إلى ٦٠ دقيقة والدقيقة إلى ستين ثانية- وقد صار هذا التقسيم عرفا عاما في جميع البلاد الحضرية يضبط بآلة تسمى الساعة وكان معروفا عند العرب وثبت في الحديث ( يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة ) ١ يعني نهارها.
وفي لسان العرب : الساعة جزء من أجزاء الليل والنهار والجمع ساعات وساع وجاءنا بعد سَوْع من الليل وبعد سُواع. أي بعد هدء منه- أو بعد ساعة. والساعة الوقت الحاضر. وقوله تعالى :﴿ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ﴾ [ الروم : ٥٥ ] يعني بالساعة الوقت الذي تقوم فيه القيامة فلذلك ترك أن يعرف أي ساعة هي. فإن سميت القيامة ساعة فعلى هذا. والساعة القيامة. وقال الزجاج اسم للوقت الذي تصعق فيه العباد والوقت الذي يبعثون فيه وتقوم فيه القيامة، سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة فيموت الخلق كلهم عند الصيحة الأولى التي ذكرها الله عز وجل فقال :﴿ إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ﴾ [ يس : ٢٩ ].
ثم ذكر أنه تكرر ذكرها في القرآن والحديث وأنها تطلق في الأصل بمعنيين وهما ما ذكرنا أولا من الساعة الزمانية والساعة الفلكية، وقال في المعنى الأول : يقال جلست عندك ساعة من النهار أي وقتا قليلا منه ثم استعير لاسم يوم القيامة. قال الزجاج : معنى الساعة في كل القرآن الوقت الذي تقوم فيه القيامة- يريد أنها ساعة خفيفة يحدث فيها أمر عظيم، فلقلة الوقت الذي تقوم فيه سماها ساعة اه.
أقول : الصواب أنها استعملت في القرآن منكرة بمعنى الساعة الزمانية ومعرفة بالألف واللام العهدية بمعنى الساعة الشرعية، وهي ساعة خراب هذا العالم وموت أهل الأرض، وجمع بينهما في قوله تعالى :﴿ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ﴾ [ الروم : ٥٥ ] وقيل إن هذا القول هو وجه تسميتها بالساعة.
والغالب في استعمال القرآن التعبير بيوم القيامة عن يوم البعث والحشر الذي يكون بعد الموت الذي يكون فيه الحساب وما يتلوه من الجزاء- والتعبير بالساعة عن الوقت الذي يموت فيه الأحياء في هذا العالم ويضطرب نظامه ويخرب بما يكون فيه من الأهوال يتلو بعضها بعضا، فالساعة هي المبدأ والقيامة هي الغاية ففي الأولى الموت والهلاك، وفي الآخرة البعث والجزاء. وبعض التعبيرات في كل منهما يحتمل حلوله محل الآخر في الغالب، وفي المعنى المشترك الذي يعم المبدأ والغاية.
وحمل بعض المفسرين الآيات على القيامة الصغرى لكل فرد وهي ساعة موته، وزاد بعضهم القيامة الوسطى وهي هلاك الجيل أو القرن، وفسروا به حديث ( إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ) ٢ رواه البخاري من حديث أبي هريرة. وقد يراد بالساعة هنا ساعة زوال الدولة لأن هذا من شؤونها واستدلوا عليه بحديث ( إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته ) رواه الديلمي عن أنس مرفوعا. وفي حديث عائشة من صحيح مسلم : كان الأعراب يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال ( إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم ) ٣ ومثله من حديث أنس عنده أيضا وهو أصرح من حديث أبي هريرة لإضافة الساعة إليهم.
قال الداوودي هذا الجواب من معاريض الكلام فإنه لو قال لهم. لا أدري- ابتداء مع ما هم فيه من الجفاء وقبل تمكن الإيمان في قلوبهم- لارتابوا فعدل إلى إعلامهم بالوقت الذي ينقرضون هم فيه. وقال الكرماني إن هذا الجواب من الأسلوب الحكيم، أي دعوا السؤال عن وقت القيامة الكبرى فإنها لا يعلمها إلا الله، واسألوا عن الوقت الذي يقع فيه انقراض عصركم فهو أولى لكم لأن معرفتكم تبعثكم على ملازمة العمل الصالح قبل فوته لأن أحدكم لا يدري من الذي يسبق الآخر اه وقال ابن الجوزي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بأشياء على سبيل القياس وهو دليل معمول به فكأنه لما نزلت عليه الآيات في قرب الساعة كقوله تعالى :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه ﴾ [ النحل : ١ ] وقوله :﴿ وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب ﴾ [ النحل : ٧٧ ] حمل ذلك على أنها لا تزيد على مضي قرن واحد، ومن ثم قال في الدجال ( إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه ) ٤ فجوز خروج الدجال في حياته. قال وفيه وجه آخر- وذكر مثل ما تقدم عن الداوودي ورجحه الحافظ في الفتح.
ومما اختلفوا في تفسير الساعة فيه بالوجوه الثلاثة المذكورة قوله تعالى :﴿ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها ﴾ [ الأنعام : ٣١ ] وقوله تعالى :﴿ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ﴾ [ الأنعام : ٤٠ ] ؟ ويراجع تفسيرهما في الجزء السابع.
وحيث يذكر قيام الساعة كآيات سورة الروم الثلاث ( ١٠ و١٢ و٥٣ ) وآية سورة غافر :﴿ ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ﴾ [ غافر : ٤٦ ] فالمتبادر منه غايتها يوم البعث والحساب والجزاء- وحيث يذكر التكذيب بها أو المماراة فيها فالمراد المعنى العام لكل ما وعد الله به وأوعد من أمر مبدئها وغايتها.
وحيث يذكر اقتراب الساعة أو مجيئها وإثباتها ولاسيما إذا قرن ببغتة فالمتبادر منه مبدأ القيامة وخراب العالم الذي نعيش فيه ومن هذا القبيل السؤال عنها فإن السؤال يكون عن أول الأمر المنتظر في الغالب ومنه آية الأعراف التي نحن بصدد تفسيرها.
فقوله تعالى :﴿ أيان مرساها ﴾ معناه يسألونك أيها الرسول عن الساعة قائلين أيان مرساها أي متى إرساؤها وحصولها واستقرارها- أو يسألونك عنها من حيث زمن مجيئها وثبوتها بالوقوع والحصول. فأيان ظرف زمان، ومرساها مصدر معناه إرساؤها يقال رسا الشيء يرسو ثبت، وإرساء غيره، ومنه إرساء السفينة وإيقافها بالمرساة التي تلقى في البحر فتمنعها من الجريان، قال تعالى :﴿ بسم الله مجراها ومرساها ﴾ [ هود : ٤١ ] وقال :﴿ والجبال أرساها ﴾ [ النازعات : ٣٢ ].
وفي السؤال عن زمن وقوعها بحرف الإرساء الدال على استقرار ما شأنه الحركة والجريان أو الميدان والاضطراب نكتة دقيقة هي في أعلى درج البلاغة. وهو أن قيام الساعة عبارة عن انتهاء أمر هذا العالم وانقضاء عمر هذه الأرض التي تدور بمن فيها من العوالم المتحركة المضطربة، فعبر بإرسائها عن منتهى أمرها ووقوف سيرها، والساعة زمن وهو أمر مقدر، لا جسم سائر أو مسير، وما يقع فيها ويعبر بها عنه فهو حركة اضطراب وزلزال، لا رسوّ ولا إرساء، وهو أمر مستقبل لا حاصل، ومتوقع لا واقع، وقوله تعالى :﴿ إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع ﴾ [ الطور : ٦ ] معناه أنه سيقع حتما، ولذلك علق به بيان ما يقع فيه بقوله :﴿ يوم تمور السماء مورا * وتسير الجبال سيرا * ويل يومئذ للمكذبين ﴾ [ الطور : ٨-١٠ ] فلم يبق لإرسائها معنى إلا إرساء حركة هذا العالم فيها. وأنه لتعبير بليغ، لم يعهد له في كلام البلغاء نظير، ولم أر أحدا نبه لهذا. وذكر الساعة أولا والاستفهام عن زمن وقوعها ثانيا على قاعدة تقديم الأهم وهو المقصود بالذات.
قيل إن المراد بالسائلين هنا اليهود سألوه عنها امتحانا قالوا إن كان نبيا فإنه لا يعين لها زمنا لأن الله تعالى لم يطلع على ذلك أحدا من رسله، وقيل قريش ويرجحه أن السورة مكية ولم يكن في مكة أحد من اليهود، وصيغة يسألونك المتبادر منها الحال لا الاستقبال البعيد. وفي آية الأحزاب ﴿ يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ﴾ [ الأحزاب : ٦٣ ] وهذه مدنية.
قال ابن كثير بعد ترجيح كون السائلين من قريش : وكانوا يسألونك عن وقت الساعة استبعادا لوقوعها وتكذيبا بوجودها كما قال تعالى :﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ﴾ [ يونس : ٤٨ ] وقال تعالى :﴿ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا أن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ﴾ [ الشورى : ١٦ ] وقوله :﴿ أيان مرساها ﴾ قال علي بن طلحة عن ابن عباس : منتهاها أي متى محطها وأيان آخر مدة الدنيا الذي هو أول وقت الساعة اه.
﴿ قل إنما علمها عند ربي ﴾ قل أيها النذير إن علم الساعة عند ربي وحده ليس عندي ولا عند غيري من الخلق من شيء منه- وهذا ما يدل عليه لفظ " إنما " من الحصر كما قال تعالى في الآية التي فسر بها النبي صلى الله عليه وسلم مفاتح الغيب ﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام ﴾ [ لقمان : ٣٤ ] أي عنده لا عند أحد سواه- ومثله قوله تعالى :﴿ إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها ﴾ [ فصلت : ٤٦ ] الآية أي يرد إليه وحده لا إلى غيره. وأشبه الآيات الدالة على استئثار علم الله تعالى بالساعة بآية الأعراف آيتان آية الأحزاب [ الآية : ٦٣ ] وذكرناها آنفا- وآية أواخر النازعات وما بعدها :﴿ يسألونك عن الساعة أيّان مرساها * فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاها * إنما أنت منذر من يخشاها * كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشيّة أو ضحاها ﴾ [ النازعات : ٤٢- ٤٦ ] أي إلى ربك وحده من دونك ودون سائر خلقه منتهى أمر الساعة الذي يسألونك عنه، وإنما أنت منذر لأهل الإيمان الذين يخشونها ويستعدون لها لا تعدو وظيفة الإنذار والتعليم والإرشاد.
فهذه الآيات كآية الأعراف سؤالا وجوابا فالسؤال عن الساعة من حيث إرساؤها ومنتهى أمرها، والجواب رد ذلك إلى الرب مضافا إلى ضمير رسوله فما أخبره به في قوله :﴿ إلى ربك منتهاها ﴾ هو ما أمره أن يجيب به في قوله :﴿ قل إنما علمها عند ربي ﴾ وفيه إيذان بأن ما هو من شأن الرب، لا يكون للعبد، فهو تعالى قد رباه ليكون منذرا ومبشرا، لا للإخبار عن الغيوب بأعيانها وأوقاتها، والإنذار إنما يناط بالإعلام بالساعة وأهوالها، والنار وسلاسلها وأغلالها، ولا تتم الفائدة منه إلا بإبهام وقتها، ليخشى أهل كل زمن إتيانها فيه. والإعلام بوقت إتيانها وتحديد تاريخها ينافي هذه الفائدة بل فيه مفاسد أخرى، فلو قال الرسول للناس أن الساعة تأتي بعد ألفي سنة من يومنا هذا، مثلا- وألفا سنة في تاريخ العالم وآلاف السنين تعد أجلا قريبا- لرأى المكذبين يستهزئون بهذا الخبر ويلحون في تكذيبه، والمرتابين يزدادون ارتيابا، حتى إذا ما قرب الأجل وقع المؤمنون في رعب عظيم ينغص عليهم حياتهم، ويوقع الشلل في أعضائهم، والتشنج في أعصابهم، حتى لا يستطيعون عملا، ولا يسيغون طعاما ولا شرابا، ومنهم من يخرج من ماله وما يملكه، من حيث يكون الكافرون آمنين، يسخرون من المؤمنين، وقد وقع في أوروبة أن أخبر بعض رجال الكنيسة الذين كان يقلدهم الجمهور بأن القيامة تقوم في سن
٢ أخرجه البخاري في العلم باب ٢..
٣ أخرجه مسلم في الفتن حديث ١٣٦..
٤ أخرجه مسلم في الفتن حديث ١١٠، وأبو داود في الملاحم باب ١٤، والإمارة باب ٣٣، والترمذي في الفتن باب ٥٩، وابن ماجه في الفتن ٣٣، وأحمد في المسند ٤/١٨١، ٦/٤٥٤، ٤٥٦..
هذه الآية من أعظم أصول الدين وقواعد عقائده ببيانها لحقيقة الرسالة والفصل بينها وبين الربوبية والألوهية، وهدمها لقواعد الشرك ومباني الوثنية من أساسها.
ومناسبتها لما قبلها أن الله تعالى أمر خاتم رسله فيما قبلها أن يجيب السائلين له عن الساعة بأن علمها عند الله تعالى وحده وأمرها بيده وحده- وأمره في هذه أن يبين للناس أن كل الأمور بيد الله تعالى وحده، وأن علم الغيب كله عنده، وأن ينفي كلا منهما عن نفسه صلى الله عليه وسلم وذلك أن الذين كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن الساعة من المسلمين كانوا يظنون أن منصب الرسالة قد يقتضي علم الساعة وغيرها من علم الغيب وربما كان يظن بعض حديثي العهد بالإسلام أن الرسول قد يقدر على ما لا يصل إليه كسب البشر من جلب النفع ومنع الضر عن نفسه وعمن يحب أن يشاء، أو منع النفع وإحداث الضر بمن يكره أو بمن يشاء. فأمره الله تعالى أن يبين للناس أن منصب الرسالة لا يقتضي ذلك، وإنما وظيفة الرسول التعليم والإرشاد، لا الخلق والإيجاد، وأنه لا يعلم من الغيب إلا ما يتعلق بذلك مما علمه الله بوحيه، وأنه فيما عدا تبليغ الوحي عن الله تعالى كسائر الناس ﴿ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ ﴾ [ الكهف : ١١٠ ] قال عز وجل :
﴿ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا ﴾ أي قل أيها الرسول للناس فيما تبلغه من أمر دينهم إنني لا أملك لنفسي – أي ولا لغيري بالأولى- جلب نفع ما في وقت ما، ولا دفع ضرر ما في وقت ما، فوقوع كلمتي النفع والضر نكرتين منفيتين يفيد العموم حسب القاعدة المعروفة، ونفي عموم الفعل يقتضي نفي عموم الأوقات له. ولكن هذا العموم مشكل بما هو معلوم بالضرورة من تمكن كل إنسان سليم الأعضاء من نفع نفسه وغيره في بعض الأمور الكسبية ودفع بعض الضرر عنهما : ولذلك حرمت الشريعة الضرر والضرار.
ويجاب عن هذا الإشكال من وجهين : أحدهما : أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا مستقلا بقدرته وإنما يملك ما يملكه من ذلك بتمليك الرب الخالق جلت قدرته وهو المراد بالاستثناء أي لا أملك منهما ﴿ إلا ما شاء الله ﴾ من نفع أقدرني على جلبه وضر أقدرني على منعه وسخر لي أسبابهما، أو إلا وقت مشيئته سبحانه أن يمكنني من ذلك. فالمعنى المراد على هذا هو بيان عجز المخلوق الذاتي وكون كل شيء أوتيه فهو بمشيئة الله تعالى لا يستقل العبد بشيء منه استقلالا مطلقا ولا هو يملكه بذاته لذاته، بل بمشيئة الله تعالى، فالاستثناء على هذا متصل بما قبله مخصص لعمومه مقيد لإطلاقه.
الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم لا يملك بمقتضى منصب الرسالة نفعا ولا ضرا لنفسه بمنطوق الجملة ولا لغيره بمفهومها الأولى، مما يعجز عنه غيره بمقتضى بشريته وما أقدره الله تعالى عليه بمقتضى سنته في عالم الأسباب والمسببات، كما أنه لا يملك شيئا من علم الغيب الذي هو شأن الخالق دون المخلوق كما يأتي بيانه في تفسير الجملة التالية. والاستثناء على هذا منفصل عما قبله مؤكد لعمومه، أي لكن ما شاء الله تعالى من ذلك كان، فهو كقوله تعالى :﴿ سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ﴾ [ الأعلى : ٦، ٧ ] وقوله حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام ﴿ ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا ﴾ [ الأنعام : ٨٠ ] وقوله في خطاب كليمه موسى عليه السلام ﴿ إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء ﴾ [ النمل : ١٠، ١١ ] الآية.
وهذا الوجه المختار عندنا، لأن الناس قد فتنوا منذ قوم نوح بمن اصطفاهم الله ووفقهم لطاعته وولايته من الأنبياء ومن دون الأنبياء من الصالحين، فجعلوهم شركاء الله تعالى فيما يرجوه عباده من نفع يسوقه إليهم، وما يخشونه من شر يمسهم فيدعونه ليكشفه عنهم، وصاروا يدعونهم كما يدعونه لذلك إما استقلالا، وإما إشراكا، إذ منهم من يظن أنه تعالى قد أعطاهم القدرة على التصرف في خلقه بما هو فوق الأسباب التي منحها الله تعالى لسائر الناس فصاروا يستقلون بالنفع والضر منحا ومنعا، وإيجابا وسلبا، ومنهم من يعتقد أن التصرف الغيبي الأعلى الذي هو فوق الأسباب الكسبية الممنوحة للبشر خاص بربهم لا يقدر عليه غيره ولكنهم يظنون مع هذا أن هؤلاء الأنبياء والأولياء عند الله تعالى كوزراء الملوك وحجابهم وبطانتهم، وسطاء بينهم وبين من لم يصل إلى رتبتهم، فالملك المستبد بسلطانه يعطي هذا ويعفو عن ذنب هذا بوساطة هؤلاء الوزراء والحجاب المقربين عنده، وكذلك رب العالمين يعطي ويمنع ويغفر ويرحم وينتقم بوساطة أنبيائه وأوليائه بزعمهم، فهم شفعاء للناس عنده تعالى يقربونهم إليه زلفى كما حكاه التنزيل عن المشركين، وبيناه في مواضع من هذا التفسير.
وفي مثل هذا التشبيه الوثني وتمثيل تصرف الرب العظيم الغني عن عباده بتصرف الملوك المستبدين الجاهلين الذين يحتاجون إلى وزرائهم وبطانتهم في حمله على ما ينبغي له فيهم- قال تعالى :﴿ فلا تضربوا لله الأمثال ﴾ [ النحل : ٧٤ ] وبين في هذه الآية وأمثالها أن رسل الله تعالى وهم صفوة خلقه لا يشاركون الله تعالى في صفة من صفاته، ولا تأثير لأحد منهم في علمه ولا في مشيئته، لأنها كاملة أزلية لا يطرأ عليها تغير، وأن الرسالة التي اختصهم الله تعالى بها لا يدخل في معناها إقدارهم على النفع والضر بسلطان فوق الأسباب المسخرة لسائر البشر ولا منحهم علم الغيب وإنما هي تبليغ وحي الله تعالى وبيانه للناس بالقول والفعل والحكم.
ودليلنا على اختيار هذا الوجه أن مدار العبودية على توجه العباد إلى المعبود فيما يرجون من نفع ويخافون من ضر، فاستعمل اللفظان في التنزيل في بيان أن الرب المستحق للعبادة هو من يملك الضر والنفع، غير خاضع ولا مقيد بالأسباب العادية، كقوله تعالى :﴿ قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ﴾ [ المائدة : ٧٦ ] وقوله في عجل بني إسرائيل ﴿ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ﴾ [ طه : ٨٩ ] وقوله :﴿ قل فمن يملك لكم من اللّه شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا ﴾ [ الفتح : ١١ ] وقوله :﴿ قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دون الله أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ﴾ [ الرعد : ١٦ ] وقوله :﴿ واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ﴾ [ الفرقان : ٣ ] الآية.
فلما كان ملك الضر والنفع بهذا الإطلاق خاصا برب العباد وخالقهم، وكان طلب النفع أو كشف الضر عبادة لا يجوز أن يوجه إلى غيره من عباده مهما يكن فضله تعالى عظيما عليهم- أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصرح بالبلاغ عنه أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا، وقد تكرر هذا الأمر له في القرآن مبالغة في تقريره وتوكيده فقال تعالى في سورة يونس :﴿ قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ﴾ [ يونس : ٤٩ ] وقال في سورة الجن :﴿ قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ﴾ [ الجن : ٢٠ ] وهذه الآية أبلغ وأشمل مما في معناها بما فيها من إيجاز واحتباك بحذف ما يقابل الضر والرشد المذكورين وهما ضدهما بدلالتهما عليهما والتقدير : لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، ولا رشدا ولا غواية – فهذه الآيات بمعنى ما هنا تؤيد اختيارنا.
ثم أمره تعالى أن ينفي عن نفسه علم الغيب مستدلا عليه بانتفاء أظهر منافعه القريبة فقال :﴿ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ﴾ الخير ما يرغب الناس فيه من المنافع المادية والمعنوية كالمال والعلم، والسوء ما يرغبون عنه مما يسوءهم ويضرهم، ويراد بهما هنا الجنس الذي يصدق ببعض أفراده وهو الخير الذي يمكن تداركه وتحصيله، والسوء الذي يمكن الاستعداد لدفعه بعلم ما يأتي به الغد. والجملة استدلال على نفي علم النبي صلى الله عليه وسلم الغيب كأنه يقول لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا ولا أعلم الغيب، ولو كنت أعلم الغيب- وأقربه ما يقع في مستقبل أيامي في الدنيا- لاستكثرت من الخير كالمال وأعمال البر التي تتوقف على معرفة ما يكون في المستقبل من عسرة وغلاء مثلا وتغير الأحوال، ولما مسني السوء الذي يمكن الاحتياط لدفعه بعلم الغيب كشدة الحاجة مثلا، ومن أمثلته في العبادة قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت )١ رواه الشيخان وغيرهما، يعني لو أنه علم صلى الله عليه وسلم ما يحصل من انفراده دون أصحابه بسوقه الهدي إلى الحرم من مشقة فسخهم الحج إلى عمرة دونه، إذ لا يباح الفسخ والتحلل بالعمرة لمن معه الهدي، لما ساق الهدي ليوافق الجمهور في تمتعهم بالعمرة إلى الحج. ومن أمثلته في الإدارة وسياسة الحرب ما عاتبه الله تعالى عليه من الإعراض عن الأعمى والتصدي للأغنياء، ومن أخذ الفداء من أسرى بدر، ومن الإذن بتخلف المنافقين في غزوة تبوك سنة العسرة، ولم أر أحدا نبه على هذا النوع من المفسرين.
وفيه وجه آخر أنه مستأنف غير معطوف على ما قبله، ومعناه وما مسني الجنون كما زعم الجاهلون، فيكون حاصل معنى الآية نفي رفعه إلى رتبة الربوبية الذي افتتن بمثله الغلاة، ونفي وضعه في أدنى مرتبة البشرية الذي زعمته الغواة العتاة. وبيان حقيقة أمره، وما رفع الله تعالى من قدره، بجعله فوق جميع البشر بوحيه، ووساطته بينه وبين خلقه، لكن في التبليغ والإرشاد، لا في الخلق والإيجاد، ولا في التدبير بأمور العباد، فإن هذا شأن الربوبية، وإنما هو صلوات الله عليه وسلامه في أعلى مقام العبودية.
ومن نكت البلاغة في القرآن بتقديم اللفظ على ما يقابله في آية وتأخيره في أخرى : تقديم النفع على الضر في هذه الآية وتأخيره وتقديم الضر عليه في آية سورة يونس المذكورة آنفا. والفرق المحسن لذلك أن آية الأعراف جاءت بعد السؤال عن الساعة أيان مرساها ؟ وأكبر فوائد العلم بالساعة وهو من علم الغيب الاستعداد لها بالعمل الصالح واتقاء أسباب العقاب فيها، فاقتضى ذلك البدء بنفي ملك النفع لنفسه بمثل هذا الاستعداد وتأخير ملك الضر المراد به ملك دفعه واتقاء وقوعه، وأن يستدل على ذلك بما ذكر من أنه لو كان يعلم الغيب حتى فيما دون الساعة زمنا وعظم شأن لاستكثر من الخير الذي يتعلق بالاستعداد للمستقبل، واتقى أسباب ما يمسه من السوء فيه كالأمثلة التي ذكرناها.
وأما آية سورة يونس فقد وردت في سياق تماري الكفار فيما أوعدهم الله من العقاب على التكذيب بما جاءهم به رسوله من البينات والهدى واستعجالهم إياه تهكما ومبالغة في الجحود، فناسب أن يذكر في جوابهم أنه لا يملك لنفسه ولا لهم ضرا كتعجيل العذاب الذي يكذبون به، ولا نفعا كالنصر الذي يترتب على تعجيل العذاب لهم في الدنيا، فقد أمره الله تعالى أن يبلغهم أن أمر عذابهم تعديلا أو تأخيرا لله تعالى وحده كما أمره أن ينفي عن نفسه القدرة على ما اقترحوه من الآيات، ومن ذلك ما ذكره تعالى من مقترحاتهم في سورة الإسراء من تفجير ينبوع في مكة وإيجاد جنة تتفجر الأنهار خلالها تفجيرا- أو إسقاط السماء عليهم كسفا ( وهو من العذاب ) الخ ومن أمره تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم عن ذلك بقوله :{ قل سبحان ربي هل كنت إلا
افتتحت هذه السورة بدعوة القرآن إلى دين التوحيد والأمر باتباع ما أنزل الله، والنهي عن اتباع أولياء من دونه، وتلاه التذكير بنشأة الإنسان الأولى في الخلق والتكوين، والعداوة بينه وبين الشيطان، ثم اختتمت بهذه المعاني، وهو التذكير بالنشأة الأولى والنهي عن الشرك واتباع وسوسة الشيطان، والأمر بالتوحيد واتباع القرآن.
قال تعالى :
﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ أي خلقكم من جنس واحد أو حقيقة واحدة صورها بشرا سويا، ﴿ وجعل منها زوجها ليسكن إليها ﴾ سكونا زوجيا، أي جعل لها زوجا من جنسها فكانا زوجين ذكرا وأنثى كما قال تعالى :﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ﴾ [ الحجرات : ١٣ ] كما أنه خلق من كل جنس وكل نوع من الأحياء زوجين اثنين قال عز وجل :﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ﴾ [ الذاريات : ٤٩ ] وإننا نشاهد أن كل خلية من الخلايا التي ينمي بها الجسم الحي تنطوي على نويّتين ذكر وأنثى يقترنان فيولد بينهما خلية أخرى، وهلم جرا، ونعلم أيضا كيف يتكون في الأرحام كل من الزوجين كما قال تعالى :﴿ وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى ﴾ [ النجم : ٤٥، ٤٦ ] ولكننا لا ندري كيف ازدوجت النفس الأولى بعد وحدتها فكانت ذكرا وأنثى، قال تعالى :﴿ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ﴾ [ الكهف : ٥١ ].
وفي التوراة التي عند أهل الكتاب أن حواء خلقت من ضلع من أضلاع آدم وقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن لا نصدق أهل الكتاب ولا نكذبهم أي فيما لا نص فيه عندنا لاحتماله، فنحن نعمل بأمره صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر وإن حمل عليه بعض المفسرين وغيرهم حديث ( استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء )١ رواه الشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعا، فإن المتبادر منه الذي اعتمده الشراح في تفسيره أن المراد بخلقها منه أنها ذات اعوجاج وشذوذ تخالف به الرجل كما يشير إليه ما رواه ابن حبان عن أبي هريرة ( أن المرأة خلقت من ضلع أعوج ) فهو على حد قوله تعالى :﴿ خلق الإنسان من عجل ﴾ [ الأنبياء : ٣٧ ].
وقال الحافظ في شرحه من الفتح : قيل فيه إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم الأيسر وقيل من ضلعه القصير. أخرجه ابن إسحاق وزاد : اليسرى من قبل أن يدخل الجنة وجعل مكانه لحم، ومعنى خلقت أي أخرجت كما تخرج النخلة من النواة اه فتأمل لجعل الحافظ المسألة من باب الإشارة، وحكايته لها بصيغة التضعيف، وما ذكره من تفسيرها الغريب بتشبيه خلق الإنسان بخلق النبات، وظاهره أنه لم يطلع على سعة حفظه على قول لمن يعتد بأقوالهم من علماء السلف ومحققي الخلف في المسألة، وتذكر أن الله تعالى خاطب الناس في عصر التنزيل بمثل ما حكاه لهم في هذه الآية عن نشأة جنسهم في كونه تعالى خلق لهم أزواجا من أنفسهم فقال في بيان آياته من سورة الروم :﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة ﴾ [ الروم : ٢١ ] فهذا المعنى عام لا خاص بالإنسان الأول.
عبر التنزيل عن ميل الزوج الجنسي إلى زوجه هنا وفي سورة الروم بالسكون وذلك أن المرء إذا بلغ سن الحياة الزوجية يجد في نفسه اضطرابا خاصا لا يسكن إلا إذا اقترن بزوج من جنسه واتحدا ذلك الاقتران والاتحاد الذي لا تكمل حياتهما الجنسية المنتجة إلا به، ولذلك قال بعده ﴿ فلما تغشّاها ﴾ الخ الغشاء غطاء الشيء الذي يستره من فوقه، والغاشية الظلة تظله من سحابة وغيرها ﴿ والليل إذا يغشى ﴾ [ الليل : ١ ] أي يحجب الأشياء ويسترها بظلامه، وتغشاها أتاها كغشيها ويزيد ما تعطيه صيغة التفعل من جهد، وهو كناية نزيهة عن أداء وظيفة الزوجية تشير إلى أن مقتضى الفطرة وأدب الشريعة فيها الستر، ولفظ النفس مؤنث فأنث في أول الآية، ولفظ الزوج يطلق على الذكر والأنثى ولهذا ذكّر هنا فاعل التغشي وأنث مفعوله.
أي فلما تغشى الزوج الذي هو الذكر الزوج التي هي الأنثى ﴿ حملت حملا خفيفا ﴾ أي علقت منه وهو الحبل، والحمل بالفتح يطلق على المصدر وعلى المحمول والمشهور أنه خاص بما كان في بطن أو على شجرة وأن ما حمل على ظهر ونحوه يسمى حملا بكسر الحاء. والحمل هاهنا يحتمل المعنيين وهو يكون في أول العهد خفيفا لا تكاد المرأة تشعر به، وقد تستدل عليه بارتفاع حيضتها ﴿ فمرت به ﴾ أي فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق كما قاله الزمخشري أو استمرت في أعمالها وقضاء حاجتها من غير مشقة ولا استئصال.
﴿ فلما أثقلت ﴾ أي حان وقت ثقل حملها وقرب وضعها ﴿ دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ﴾ أي توجها إلى الله تعالى ربهما يدعوانه فيما انحصر همها فيه بعد تمام الحمل على سلامة بأن يعطيهما ولدا صالحا أي سويا تام الخلق يصلح للقيام بالأعمال البشرية النافعة- ولا ينبغي أن يدعو العبد غير ربه، فيما لا يملك هو ولا غيره من العبيد أسبابه، دعواه مخلصين مقسمين له على ما وطنا عليه أنفسهما من الشكر له على هذه النعمة قائلين لئن أعطيتنا ولدا صالحا لنكونن من القائمين لك بحق الشكر قولا وعملا واعتقادا وإخلاصا، كما يدل عليه الوصف المعرّف.
افتتحت هذه السورة بدعوة القرآن إلى دين التوحيد والأمر باتباع ما أنزل الله، والنهي عن اتباع أولياء من دونه، وتلاه التذكير بنشأة الإنسان الأولى في الخلق والتكوين، والعداوة بينه وبين الشيطان، ثم اختتمت بهذه المعاني، وهو التذكير بالنشأة الأولى والنهي عن الشرك واتباع وسوسة الشيطان، والأمر بالتوحيد واتباع القرآن.
﴿ فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما ﴾ أي فلما أعطاهما ولدا صالحا لا نقص في خلقه، ولا فساد في تركيبه، جعلا له شركاء في إعطائه أو فيما أعطاه بأن كان سببا لوقوع الشرك منهما أو ظهور ما هو راسخ في أنفسهما منه، وسنبين معناه وقرأ نافع وأبو بكر " جعلا له شِركاً " أي شركة أو ذوي شرك، فالمعنى واحد.
﴿ فتعالى الله عما يشركون ﴾ أي تعالى شأنه عن شركهم، فإنه هو معطي النسل بما خلقه لكل من الزوجين من أعضاء، وقدر لهما في العلوق والوضع من أسباب، لا فعل لغيره في ذلك البتة. وجمع الضمير هنا بعد تثنيته الأفعال قبله لأن المراد فيه بالزوجين الجنس لا فردين معينين : وقال الزمخشري : إن الضمير في ( آتيتنا ) و ( لنكونن ) لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما. والآية على كل من القولين بيان لحال البشر فيما طرأ عليهم من نزعات الشرك الخفي والجلي في هذا الشأن وأمثاله، والجنس يصدق ببعض أنواعه وببعض أفراده.
فمثال الشرك الخفي في إنعام الله عليهم بالنسل ما يسندونه إلى الأسباب في سلامة الحامل من الأمراض في أثناء الحمل أو في حالة الوضع، وفي سلامة الطفل عند الوضع وعقبه وفيما بعد ذلك من الموت أو التشويه أو الأمراض، كقولهم : لولا أن فعلنا كذا لكان كذا، ولولا فلان أو فلانة من طبيب أو مرشد أو قابلة لهلك الولد أو لأجهضت أمه إجهاضا، أو جاءت بسقط لم يستهل، أو لمات عقب إسقاطه لعدم استعداده للحياة. وينسون في هذه الأحوال فضل الله تعالى عليهم بما منّ به من العافية والتوفيق وتسخير الأسباب من البشر وغيرهم، وإن كانوا ممن يذكرونها ولا ينكرونها إذا ذكروا بها- ذلك شأن كثير من الناس في كل نعمة تمسهم، أو نقمة يدفعها الله تعالى عنهم، وهذا الشرك ليس خروجا من الملة، ولكنه نقص في شكر المنعم، ويحتمل أن يكون المراد بالشرك هنا ترجيح حب الأولاد على حب الله تعالى وشغلهم للوالدين عن ذكره وشكره، وإيثارهم لهم على طاعته والتزام ما شرعه من أحكام الحلال والحرام، وهو كسابقه نقص في التوحيد لا نقض له، وغفلة عنه لا جحد به.
ومثال الشرك الجلي إسناد هذه النعم إلى غيره تعالى ممن يدعونهم من دونه ومعه من الأولياء والقديسين، أو الأنبياء والمرسلين، أو ما يذكر بهم أو يمثلهم من القبور أو الأصنام والتماثيل، يقولون : لولا سيدي فلان ولولا مولانا علان لما كان كذا مما نحب، أو لكان كذا وكذا مما نكره، يعتقدون أن لهم فيما كان من نفع ومنه ضرر تأثيرا غيبيا يستقلون به هو فوق تأثير الأسباب المذكورة عن القسم الأول كما تقدم شرحه مرارا أقربها ما في تفسير الآية السابقة.
﴿ فتعالى الله عما يشركون ﴾ أي وارتفع مجده، وتعالى جده، تنزها عن شرك هؤلاء الأغبياء أو عن شركائهم أن يكون لهم تصرف في خلقه، أو تأثير في صفاته وأفعاله.
كنت قرأت منذ سنين جل ما قال المفسرون في تفسير هذه الآيات من كتبهم التي بين أيدينا من مأثور وغيره، وما أوردوه فيها من الإشكال، وما لهم في الجواب عنه والتفصي منه من أقوال، ولما أردت كتابة تفسيرها الآن لم أجد مما في ذهني منه شيئا مرضيا يطمئن به قلبي، فتوجهت إلى الله تعالى وفكرت في معناها الذي يعطيه الأسلوب العربي وينطبق على سنة الله في البشر، وفي بيان كتابه لحقائق أحوالهم، فكرت في ذلك قبل النوم وأنا في فراشي، ثم كتبت ما تقدم في آخر النهار، ثم بحثت فيما عندي من كتب التفسير لأكتب خلاصة ما قيل فيها، وانظر فيما عساه يؤيده، وأجيب عما ربما يفنده، فإذا أنا بصاحب الانتصاف يقول بعد ذكر ما نقلناه آنفا من كلمة الزمخشري في ضميري الجمع ما نصه : وأسلم من هذين التفسيرين أن يكون المراد جنسي الذكر والأنثى لا يقصد فيه إلى معين، وكان المعنى والله أعلم : خلقكم جنسا واحدا وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس الآخر الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت. وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون لأن المشركين منهم كقوله تعالى :﴿ ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا ﴾ [ مريم : ٦٦ ] ﴿ قتل الإنسان ما أكفره ﴾ [ عبس : ١٧ ] ﴿ إن الإنسان لفي خسر ﴾ [ العصر : ٢ ] ١ه.
وأما الإشكال الذي أشرنا إليه فهو ما روي عن بعض الصحابة والتابعين وفي حديث مرفوع أيضا من أن الآية في آدم وحواء فقد أخرج أحمد والترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه غيرهم من حديث سمرة بن جندب مرفوعا قال :( لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان ) وهو على كثرة مخرجيه غريب وضعيف كما سيأتي، وقد جاءت الآثار في هذا المعنى مفصلة ومطولة، وفيها زيادات خرافية، تشهد عليها بأنها من الدسائس الإسرائيلية، وهذه الآثار يعدها بعض العلماء من قبيل الأحاديث المرفوعة لأنها لا تقال بالرأي، والذي نعتقده وجرينا عليه من التفسير أن كل ما هو منها مظنة للإسرائيليات المتلقاة عن مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه فهي لا يوثق بها، فإن كانت مع ذلك مشتملة على ما ينكره الدين أو العلم الصحيح قطعنا ببطلانها وكونها دسيسة إسرائيلية، ومنها ما نحن فيه لأن فيه طعنا صريحا في آدم وحواء عليهما السلام ورميا لهما بالشرك، ولذلك رفضها بعض المفسرين وتكلف آخرون في تأويلها بما تنكره اللغة. وقد اعتمد بعض المتأخرين كصاحب فتح البيان وصاحب روح المعاني الأخذ بحديث سمرة دون آثار الصحابة والتابعين التي فيها ما ليس فيه من رمي آدم بالشرك الصريح، وظنا أنه حجة ووصفاه تبعا للترمذي والحاكم بالحسن وبالصحيح، وما هو بحسن ولا صحيح، على أنه لم يرد تفسيرا للآية كتلك الآثار.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الخطاب في الآية لقريش وأن المراد فيها بالنفس الواحدة قصي جدهم، وأن المراد بجعل زوجها منها أنها قرشية أو عربية لما روي أنها من خزاعة لا من قريش، وأن المراد بشركهما تسمية أبنائهما الأربعة عبد مناف وعبد شمس وعبد العزى وعبد الدار- يعني دار الندوة- وفيه نظر من وجوه ذكرها بعض المفسرين لا نضيع الوقت بذكرها. وإنما الذي يصح أن يذكر ويبين بطلانه فهو الروايات التي انخدع بها ولا يزال ينخدع بها الكثيرون، وعمدتنا في تمحيصها، وبيان عللها الحافظ ابن كثير فقد قال في تفسيره ما نصه :
( ذكر المفسرون ههنا آثارا وأحاديث سأوردها وأبين ما فيها ثم نتبع ذلك ببيان الصحيح في ذلك إن شاء الله وبه الثقة. قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن إبراهيم حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره )١ وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار عن بندار عن عبد الصمد بن عبد الوارث به، ورواه الترمذي٢ في تفسير هذه الآية عن محمد بن المثنى عن عبد الصمد به وقال هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعا ثم قال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض عن عمر بن إبراهيم به مرفوعا، وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث شاذ بن فياض عمر بن إبراهيم به مرفوعا ( قلت ) وشاذ هو هلال وشاذ لقبه، والغرض أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن عمر بن إبراهيم هذا هو المصري وقد وثقه ابن معين، ولكن قال أبو حاتم الرازي لا يحتج به ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتم عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعا فالله أعلم.
الثاني : أنه قد روي من قول سمرة نفسه ليس مرفوعا كما قال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا المعتمر عن أبيه حدثنا بكر بن عبد الله عن سليمان التيمي عن عبد الأعلى بن الشخير عن سمرة بن جندب قال : سمى آدم ابنه عبد الحارث.
الثالث : أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعا لما عدل عنه.
قال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو عن الحسن ( جعلا له شركاء فيما آتاهما ) قال كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم، وحدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا محمد بن نور عن معمر قال : قال الحسن عنى بها ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده، يعني جعلا له شركاء فيما آتاهما، وحدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال كان الحسن يقول : هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا. وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله عنه أنه فسر الآية بذلك وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدل عنه هو ولا غيره لاسيما مع تقواه لله وورعه. فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب من آمن منهم مثل كعب أو وهب بن منبه وغيرهما كما سيأتي بيانه إن شاء الله، ألا إننا برئنا من عهدة المرفوع، والله أعلم.
فأما الآثار فقال محمد بن إسحاق بن يسار عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : كانت حواء تلد لآدم عليه السلام أولادا فيعبّدهم لله ويسميهم عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس فقال : إنكما لو سميتماه بغير الذي تسميانه به لعاش، قال فولدت له رجلا فسماه عبد الحارث ففيه أنزل الله يقول :﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ إلى قوله ﴿ جعلا له شركاء فيما آتاهما ﴾ إلى آخر الآية، وقال العوفي عن ابن عباس قوله في آدم ﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ إلى قوله ﴿ فمرت به ﴾ شكت أحملت أم لا ؟ ﴿ فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ﴾ فأتاهما الشيطان فقال هل تدريان ما يولد لكما ؟ أم هل تدريان ما يكون أبهيمة أم لا ؟ وزين لهما الباطل إنه غوي مبين، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا فقال لهما الشيطان إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سويا ومات كما مات الأول فسميا ولدهما عبد الحارث فذلك قول الله :﴿ فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما ﴾ الآية.
وقال عبد الله بن المبارك عن شريك عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله :﴿ فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما ﴾ قال : قال الله تعالى :﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها ﴾ آدم حملت فأتاهما إبليس لعنه الله فقال إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعاني أو لأجعلن له قرني أيّل فيخرج من بطنك فيشقه ولأفعلن ولأفعلن- يخوفهما- فسمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا، ثم حملت الثانية فأتاهما أيضا فقال : أنا صاحبكما الذي فعلت ما فعلت لتفعلن أو لأفعلن- يخوفهما- فأبيا أن يطيعا فخرج ميتا ثم حملت الثالثة فأتاهما أيضا فذكر لهما فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث فذلك قوله تعالى :﴿ جعلا له شركاء فيما آتاهما ﴾ رواه ابن أبي حاتم.
وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة، ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف، ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة، وكأنه والله أعلم أصل
٢ كتاب التفسير، تفسير سورة ٧..
افتتحت هذه السورة بدعوة القرآن إلى دين التوحيد والأمر باتباع ما أنزل الله، والنهي عن اتباع أولياء من دونه، وتلاه التذكير بنشأة الإنسان الأولى في الخلق والتكوين، والعداوة بينه وبين الشيطان، ثم اختتمت بهذه المعاني، وهو التذكير بالنشأة الأولى والنهي عن الشرك واتباع وسوسة الشيطان، والأمر بالتوحيد واتباع القرآن.
ثم بين تعالى سخافة عقولهم وأفن آرائهم بهذا الشرك فقال :﴿ أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ﴾ الاستفهام للإنكار والتجهيل، أي يشركون به سبحانه وتعالى وهو الخالق لهم ولأولادهم ولكل شيء ما لا يخلق شيئا من الأشياء مهما يكن حقيرا كقوله تعالى :﴿ إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ﴾ [ الحج : ٧٣ ] وليس قصارى أمرهم أن الخلق لا يقع منهم، بل هو يقع عليهم، فهم يخلقون آنا بعد آن، ولا يليق بسليم العقل أن يجعل المخلوق العاجز، شريكا للخالق القادر ؟ والآية وما بعدها حكاية لشرك عباد الأصنام والتماثيل كافة، ومنهم مشركو مكة وأمثالهم ممن نزل القرآن في عهدهم ومن يجيء بعدهم، فقوله :﴿ ما لا يخلق شيئا ﴾ يراد به أصنامهم لأن " ما " لما لا يعقل ولفظا مفرد وهو من صيغ العموم فأفرد الضمير في " يخلق " مراعاة للفظ ثم جمع في " يخلقون " مراعاة للمعنى، وجعله ضمير العقلاء من قبيل الحكاية لاعتقادهم، والتعبير بفعل المضارع " يخلقون " لتصوير حدوث خلقهم، وكون مثله مما يتجدد فيهم وفي أمثالهم من المشركين، وهذا أسوأ فضائحهم في الشرك.
افتتحت هذه السورة بدعوة القرآن إلى دين التوحيد والأمر باتباع ما أنزل الله، والنهي عن اتباع أولياء من دونه، وتلاه التذكير بنشأة الإنسان الأولى في الخلق والتكوين، والعداوة بينه وبين الشيطان، ثم اختتمت بهذه المعاني، وهو التذكير بالنشأة الأولى والنهي عن الشرك واتباع وسوسة الشيطان، والأمر بالتوحيد واتباع القرآن.
﴿ ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون ﴾ أي وهم على كونهم مخلوقين غير خالقين لشيء لا يستطيعون لعابديهم نصرا على أعدائهم، ولا يستطيعون لأنفسهم نصرا على من يتعدى عليها بإهانة لها، أو وأخذ شيء من طيبها أو حليها، كما قال :﴿ وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ﴾ [ الحج : ٧٣ ] أي فهم يحتاجون إليكم في تكريمهم وأنتم لا تحتاجون إليهم، بل أنتم الذين تدفعون عنهم وتنصرونهم بالنضال دونهم.
افتتحت هذه السورة بدعوة القرآن إلى دين التوحيد والأمر باتباع ما أنزل الله، والنهي عن اتباع أولياء من دونه، وتلاه التذكير بنشأة الإنسان الأولى في الخلق والتكوين، والعداوة بينه وبين الشيطان، ثم اختتمت بهذه المعاني، وهو التذكير بالنشأة الأولى والنهي عن الشرك واتباع وسوسة الشيطان، والأمر بالتوحيد واتباع القرآن.
﴿ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتّبعوكم ﴾ قرأ نافع " لا يتْبعوكم " بالتخفيف والباقون بالتشديد أي وإن تدعوهم إلى ما هو الهدى والرشاد في نفسه لا يتبعوكم، فلا هم ينفعونكم ولا هم ينتفعون منكم، أو المعنى وإن تدعوهم إلى إفادتكم لا يستجيبون لكم ﴿ سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ﴾ أي مستوٍ عندكم دعاؤكم إياهم وبقاؤكم على صمتكم، ولعله لم يقل : صمتم، أو تصمتون، لأن إشراكهم بهم كان قد وهن بحيث لم يكونوا يدعونهم عند الاضطرار وكوارث الخطوب بل يدعون الله وحده، وإنما كانوا يتحدثون بتقاليدهم الوثنية فيهم والرجاء بشفاعتهم في أوقات الرخاء، التي لا يشعر فيها الإنسان بالحاجة إلى الدعاء ﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ] ومنه الدعاء بالولد الصالح عند قرب وضع الحامل، والشرك بعد وجود الولد الصالح، فالتعبير بالوصف " صامتون " لإفادة كون إحداث الدعاء واستصحاب الحال الثابتة قبله واستمرارها سواء، وهي تصدق بنفي شعورهم بالحاجة إلى دعائهم وعدم خطورهم بالبال عند الشدائد، والشعور بحاجة المخلوق إلى الرب الخالق.
ولو قال :" أم صمتم " أو " أم أنتم تصمتون " لما كانت المقابلة بين وجود وعدم، وإيجاب وسلب، لأنه يصدق : بتكلف الصمت وكف النفس عن دعائهم ولو للتجربة مع الشعور بالحاجة إلى الدعاء. والأول أبلغ في المراد من كون وجود هذه الأصنام وعدمها سواء، ومن كون دعائها مساويا لترك الدعاء، ولو مع انصراف القلب عنها، ولو كانت وسائل تشفع عند الله وتقرب إليه زلفى كما كان يقول أولو الوثنية الكاسية الحالية، أو تنفع وتضر بنفسها أو بما أعطاها الله تعالى من التصرف في الكون باستقلالها كما يعتقد أصحاب الوثنية العارية العاطلة- لكان الإعراض عن دعائها ضارا بهم، أو مضيعا بعض المنافع عليهم.
وقد يظن من أشرك بعض الأولياء مع الله تعالى هذا النوع من الإشراك أن هذا التوبيخ لا يوجه إليهم، وأن هذه الحجة لا تقوم عليهم، لأن أولئك كانوا يدعون جمادا أو شجرا لا يعقل، وهم يدعون أولياء وصلحاء، لأمواتهم حكم الشهداء في الحياة، وهم يقصدون قبورهم ويعظمونها، لأن لأرواحهم اتصالا بها، وإنما جاءت هذه التفرقة من جهلهم بأن أكثر هذه الأصنام لم تنصب إلا للتذكير بأناس من الأولياء الصالحين كما رواه البخاري عن ابن عباس في أصنام قوم نوح التي انتقلت إلى العرب، وقد كانت اللات صخرة لرجل عليها السويق ويطعمه الناس. فالأصنام والتماثيل والقبور التي تعظم تعظيما دينيا لم يأذن به الله كلها سواء في كونها وضعت للتذكير بأناس عرفوا بالصلاح، وكانوا هم المقصودين بالدعاء لما تخيلوا فيه من التأثير في إرادة الله، أو التصرف الغيبي في ملك الله، وهو أفحش الشرك بالله، على أنه لا فرق في المسألة بين إشراك الصنم والوثن، وإشراك الولي أو النبي أو الملك، فاقرأ الآيات في اتخاذ الولد لله من الملائكة والمسيح في سورة الأنبياء [ ٢١ : ٢٦- ٢٩ ].
هذه الآيات تتمة لما قبلها من آيات التوحيد مقررة ومؤكدة لمضمونها، لأن توحيد العبادة ونفي الشرك فيها هو أس الإسلام، ولا يتقرر في الأذهان، ويثبت في الجنان، ويكمل بالوجدان، إلا بتكرار الآيات فيه نفيا وإثباتا لمضمون كلمة ( لا إله إلا الله ).
﴿ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ﴾ الدعاء مخ العبادة وركنها الأعظم فلا يصح توحيد أحد لله إلا بدعائه وحده وعدم دعاء أحد معه كما قال :﴿ فلا تدعوا مع الله أحدا ﴾ [ الجن : ١٨ ] والمفسرون يقولون إن الدعاء في مثل هذه الآيات معناه العبادة من باب تسمية الكل باسم الجزء فصاروا يفسرون " تدعون " بتعبدون فضلَّ بعض العوام من القارئين وغيرهم في هذا التعبير وظنوا أن المرء لا يكون عابدا لغير الله تعالى إلا إذا كان يصلي له الصلاة المعروفة ويصوم لأجله، وأنه لا ينافي توحيد الله تعالى أن يدعى غيره معه أو يدعى من دونه بقصد التوسل إليه والاستشفاع لديه، إذا كان لا يصلي ولا يصوم له. وقال بعضهم : إن الدعاء هنا بمعنى التسمية فيكون الإنكار فيه خاصا بتسميتهم لأصنامهم وغيرهم من معبوداتهم آلهة. وكل من هذا وذاك ضرب من ضروب الاحتمالات اللفظية التي يتعلق بها من أشرك بالله جاهلا بمعنى الشرك ممن يدعون الموتى من الصالحين لدفع الضر عنهم أو جلب الخير لهم، من غير طريق الأسباب التي هي من تناول كسبهم وسعيهم، ولكنهم لا يسمونهم آلهة. وهذا هو الشرك الأكبر الذي نعي على المشركين من قبلهم لا مجرد التسمية التي لا تكون بدونه صحيحة.
والحق الذي لا معدل عنه أن الدعاء هنا هو النداء لدفع الضر أو جلب النفع الموجه إلى من يعتقد الداعي أن له سلطانا يمكنه به أن يجيبه إلى ما طلبه بذاته أو بحمله للرب الخالق على ذلك بحيث يجيب دعاء الداعي لأجله.
يقول تعالى : إن الذين تدعونهم من دون الله هم عباد الله أمثالكم في كونهم مخلوقين لله تعالى خاضعين لسننه في خلقه، وإذا كانوا أمثالكم امتنع عقلا أن تطلبوا منهم ما لا تستطيعون نيله بأنفسكم ولا بمساعدة أمثالكم لكم فيما يتوقف على التعاون في اتخاذ الأسباب له. وإنما يدعى لما وراء الأسباب المشتركة بين الخلق الرب الخالق المسخر للأسباب الذي تخضع لإرادته الأسباب وهو لا يخضع لها، ولا لإرادة أحد يحمله على ما يشاؤه منها.
وهذه المماثلة إنما تظهر فيمن يدعى من دون الله تعالى من الملائكة أو الأنبياء أو الصلحاء، دون ما اتخذ لهم تذكيرا بهم من التماثيل أو القبور أو الأصنام، وقد صار بعض هذه المذكرات يقصد لذاته، جهلا بما كانت اتخذت لأجله، وفي هذه الحالة تدخل في المماثلة بطريقة تنزيلها منزلة ما وضعت لأجله، كأنه يقول إن قصارى أمرها أن تكون من الأحياء العقلاء أمثالكم، فكيف ترفعونها عن هذه المثلية، إلى مقام الربوبية ؟
﴿ فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ﴾ أي إن كنتم صادقين في زعمكم أنهم يقدرون على ما تقدرون عليه بقواكم البشرية من نفع أو ضر بذواتهم فادعوهم فليستجيبوا لكم بأنفسهم، أو ليحملوا الرب تبارك وتعالى على إعطائكم ما تطلبون منهم إن كنتم صادقين في قولكم :﴿ هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ [ يونس : ١٨ ] وقولكم ﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ].
ثم بين لهم أنهم أحط رتبة منهم لا أمثالا لهم، فقال :﴿ ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها ﴾.
هذه الآيات تتمة لما قبلها من آيات التوحيد مقررة ومؤكدة لمضمونها، لأن توحيد العبادة ونفي الشرك فيها هو أس الإسلام، ولا يتقرر في الأذهان، ويثبت في الجنان، ويكمل بالوجدان، إلا بتكرار الآيات فيه نفيا وإثباتا لمضمون كلمة ( لا إله إلا الله ).
﴿ ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها ﴾ هذا تقريع موجه إلى الوجدان، في إثر احتجاج وجه قبله إلى الجنان، والاستفهام فيه للإنكار، وهو خاص بالأصنام والأوثان، ومعناه أنهم لفقدهم لجوارح الكسب، التي يناط بها في عالم الأسباب النفع والضر، قد هبطوا عن درجة مماثلتكم من كل وجه، فليس لهم أرجل يسعون بها إلى دفع ضر أو جلب نفع، وليس لهم أيد يبطشون بها فيما ترجون منهم من خير أو تخافون من شر، وليس لهم أعين يبصرون بها حالكم، وليس لهم آذان، يسمعون بها أقوالكم، ويعرفون بها مطالبكم، فأنتم تفضلونهم في الصفات والقوى التي أودعها الله في الخلق، فلماذا ترفعونهم عن مماثلتكم، وهم بدليل المشاهدة والاختبار دونكم ؟ وها أنتم أولاء تستكبرون عن قبول الهدى والرشاد من الرسول وتعللون ذلك بأنه بشر مثلكم، فيقول بعضكم لبعض ﴿ ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ﴾ [ المؤمنون : ٣٣، ٣٤ ] أفتأبون قبول الحق والخير من مثلكم، وقد فضله الله بالعلم والهدى عليكم، وهو لا يستذلكم بادعاء أنه ربكم أو إلهكم، ثم ترفعون ما دونه ودونكم إلى مقام الألوهية، مع انحطاطه وتسفله عن هذه المثلية ؟
﴿ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ﴾ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المرزوئين بعقولهم، المحتقرين لنعم الله تعالى عليهم، نادوا شركاءكم الذين اتخذتموهم أولياء، وزعمتم أنهم فيكم شفعاء، ثم تعاونوا على كيدي جميعا، وأجمعوا مكركم الخفي لإيقاع الضر بي سريعا، فلا تنظرون أي لا تؤخروني ساعة من نهار، بعد إحكام المكر الكبَّار. وحكمة مطالبتهم بهذا أن العقائد والتقاليد الموروثة تتغلغل في أعماق الوجدان، حتى يتضاءل دونها كل برهان، ويظل صاحبها مع ظهور الدليل على بطلانها يتوهم أنها تضر وتنفع، وتقرب من الله وتشفع، فطالبهم بأمر عملي يستل هذا الوهم من أعماق قلوبهم، ويمتلخ الشعور به من خبايا صدورهم، وهو أن ينادوا هؤلاء الشركاء نداء استغاثة واستنجاد لإبطال دعوة الداعي إلى الكفر بها، وإثباته العجز لها، وبذل الجهد فيما ينسبون إليها من التأثير الباطن، والتدبير الكامن، الذي هو عندهم أمر غيبي، يدخل في معنى الكيد الخفي. فإن كان لها شيء ما من السلطان الغيبي في أنفسها أو عند الله تعالى فهذا وقت ظهوره، فإن لم يظهر لإبطال عبادتها وتعظيمها، ونصر عابديها ومعظمي شأنها، فمتى يظهر وينتفعون به ؟ وهم منكرون للبعث، وكل ما يرجونه أو يخافونه منها فهو خاص بما يكون في هذه الأرض ؟
هذه الآيات تتمة لما قبلها من آيات التوحيد مقررة ومؤكدة لمضمونها، لأن توحيد العبادة ونفي الشرك فيها هو أس الإسلام، ولا يتقرر في الأذهان، ويثبت في الجنان، ويكمل بالوجدان، إلا بتكرار الآيات فيه نفيا وإثباتا لمضمون كلمة ( لا إله إلا الله ).
﴿ إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ﴾ هذا تعليل لجزمه صلى الله عليه وسلم بما ذكر من عجز هذه المعبودات وتحقير أمرها وأمر عابديها على ما كان من ضعفه بمكة عند نزول هذه السورة. يقول إن ناصري ومتولي أمري هو الذي نزل علي هذا الكتاب الناطق بوحدانيته في ربوبيته، وبما يجب من عبادته ودعائه في المهمات والملمات وحده، وبأن عبارة غيره باطلة، وأن دعاء هذه الأوثان هزؤ باطل، وسخف لا يرضاه بنفسه إلا جاهل سافل، وهو يتولى نصر الصالحين من عباده، وهم الذين صلحت أنفسهم بالعقائد الصحيحة السالمة من الخرافات والأوهام، والأعمال التي تصلح بها الأفراد وشؤون الجماعات، فينصرهم على الخرافيين الفاسدي العقائد والمفسدين في الأعمال ﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ﴾ [ الرعد : ١٧ ].
هذه الآيات تتمة لما قبلها من آيات التوحيد مقررة ومؤكدة لمضمونها، لأن توحيد العبادة ونفي الشرك فيها هو أس الإسلام، ولا يتقرر في الأذهان، ويثبت في الجنان، ويكمل بالوجدان، إلا بتكرار الآيات فيه نفيا وإثباتا لمضمون كلمة ( لا إله إلا الله ).
﴿ والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون ﴾ أي وأما الذين تدعونهم لنصركم ولغير النصر من منافعكم ودفع الضر عنكم، فهم عاجزون لا يستطيعون أن ينصروكم، ولا أن ينصروا أنفسهم على من يحقر أمرهم، أو يسلبهم شيئا مما وضع من الطيب أو الحلي عليهم، وقد كسر إبراهيم صلى الله عليه وسلم الأصنام فجعلهم جذاذا فما استطاعوا أن يدفعوه عن أنفسهم، ولا أن ينتقموا منه لها. وروي عن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما وكانا شابين من الأنصار قد أسلما لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أنهما كانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتخذانها حطبا للأرامل ليعتبر قومهما بذلك، وكان لعمرو بن الجموح- وكان سيد قومه- صنم يعبده فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه ويلطخانه بالعذرة فيجيء فيرى ما صنع به فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا ويقول له انتصر حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت ودلياه بحبل في بئر فلما رآه كذلك علم بطلان عبادته وأسلم وفيه يقول :
تالله لو كنت إلها مستدن | لم تك والكلب جميعا في قرن |
هذه الآيات تتمة لما قبلها من آيات التوحيد مقررة ومؤكدة لمضمونها، لأن توحيد العبادة ونفي الشرك فيها هو أس الإسلام، ولا يتقرر في الأذهان، ويثبت في الجنان، ويكمل بالوجدان، إلا بتكرار الآيات فيه نفيا وإثباتا لمضمون كلمة ( لا إله إلا الله ).
وبعد أن نفى قدرتهم على النصر، قفى عليه بنفي قدرتهم على الإرشاد إليه فقال :﴿ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا ﴾. أي وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى ما تنصرون به من أسباب خفية أو جلية لا يسمعوا دعاءكم مطلقا، فكيف يستجيبون لكم ؟ على أنهم لو سمعوا لما استجابوا لعجزهم عن الفعل، كفقدهم للسمع، ﴿ وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ﴾ أي وهم فاقدون لحاسة البصر كفقدهم لحاسة السمع، وتراهم أيها المخاطب ينظرون إليك بما وضع لهم من الأعين الصناعية، والحدق الزجاجية أو الجواهرية، وجعلها موجهة إلى الداخل عليها كأنها تنظر إليه، وهم لا يبصرون بها لأن الإبصار لا يحل بالصناعة، بل هو من خواص الحياة التي استأثر الله سبحانه بها، وإذا كانوا لا يسمعون دعاء ولا نداء من عابدهم ولا من غيره، ولا يبصرون حاله وحال خصمه، فأنى يرجى منهم نصره وشد أزره ؟
وفي الآية وجه آخر ذهب إليه بعضهم وهو أن الخطاب فيها للمؤمنين والرسول في مقدمتهم بناء على أن الكلام في الأصنام قد تم فيما قبلها وعاد الكلام في عابديها، أي وإن تدعوا أيها المؤمنون هؤلاء الأغبياء من المشركين، الذين لم يعقلوا هذه الحجج والبراهين، إلى هدى الله وهو التوحيد الإسلام لا يسمعوا دعوتكم سماع فهم واعتبار، وتراهم أيها الرسول ينظرون إليك وهم لا يبصرون ما أوتيت من سمت الجلال والوقار، الذي يميز به صاحب البصيرة بين أولي الجد والعزم، والصدق في القول والفعل، وبين أهل العبث والهزل. ولقد كان بعض ذوي الفطرة السليمة ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيعرف من شمائله وسيماه في وجهه، أنه حر صادق، غير مخادع ولا مماذق، فيقول والله ما هذا الوجه وجه كاذب.
وما زال من المعهود بين الناس أن أصحاب البصيرة والفضيلة من الناس يعرف بعضهم بعضا بذلك من أول العهد، بالتلاقي بما يتوسمون من ملامح الوجه ومعارفه ثم من موضوع الحديث وتأثيره في نفس المتكلم والسامع ثم يكمل ذلك بالمعاشرة. كما يعرفون حال الأشرار والمنافقين بذلك ﴿ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ﴾ [ محمد : ٣٠ ] بهذه البصيرة النيرة عرفت السيدة خديجة فضلى عقائل قريش فضائل محمد بن عبد الله قبل بعثته، فاستمالته وخطبته لنفسها على غناها وفقره، بعد أن رفضت أناسا من كبراء قريش خطبوها بعد موت زوجها الأول، ثم كانت أول من جزم برسالته عندما حدثها بأول ما رآه من بدء الوحي وخاف على نفسه منه، وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أول رجل دعاه الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلى الإسلام بحسن فراسته فيه فلم يتوقف ولم يتمكث ولم يتريث أن أجاب الدعوة منشرح الصدر قرير العين لأنه كان أجدر الناس بمعرفة حقيقتها وحقيقة من دعا إليها. وأمثلة هذا كثيرة في كل زمان.
وكان أظهرها في قرننا هذا تعلق الشيخ محمد عبده بالسيد جمال الدين الأفغاني من أول ليلة رآه فيها لازمه إلى أن فارق هذه الديار، فلم يعرفه حق المعرفة غيره على كثرة المكبرين له والمعجبين به، وقد كان الكثيرون من أهل الأزهر يفرون منه ويصدون عنه، فأين هم وأين آثارهم في العلم أو الدين ؟ فبأمثال هذه العبر الواقعة تفهم معنى قوله تعالى :﴿ وتراهم ينظرون إليك وهو لا يبصرون ﴾ على الوجه الأخير في تفسيرها، لا بمجرد تسمية هذا التعبير استعارة شبه فيها كذا بكذا. ثم اقرأ في معناه قوله تعالى :﴿ ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمى ولو كانوا لا يبصرون ﴾ [ يونس : ٤٢ ].
هذه الآية بيان لأصول الفضائل الأدبية وأساس التشريع، وهي التي تلي في المرتبة أصول العقيدة المبنية على التوحيد، الذي تقرر فيما قبلها من الآيات بأبلغ التوكيد، فقوله تعالى ﴿ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ﴾ يأمر فيه بثلاثة أشياء هي أصول كلية للقواعد الشرعية والأداب النفسية والأحكام العلمية.
الأصل الأول : العفو وهو يطلق في اللغة على خالص الشيء وجيده، وعلى الفضل الزائد فيه أو منه، وعلى السهل الذي لا كلفة فيه، وعلى ما يأتي بدون طلب أو بدون إحفاء ومبالغة في الطلب، وهذه المعاني متقاربة وهي وجودية، ومن معانيه السلبية إزالة الشيء كعفت الرياح الديار والآثار، أو إزالة أثره كالعفو عن الذنب وهو منع ما يترتب عليه من العقاب، فمعاني العفو الوجودية والعدمية أو الموجبة والسالبة كلها إحسان ورفق، وقد ورد عن مفسري السلف في تفسير العفو هنا أقوال كلها ترجع إلى هذه المعاني، فرواية العوفي عن ابن عباس في تفسير ( خذ العفو ) خذ ما عفا لك من أموالهم- أي ما فضل وما أتوك به من شيء. وكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها، وبذلك قال السدي وزعم أنها نسخت بآية الزكاة- وفي رواية الضحاك عنه : أنفق الفضل، ومثلها عن سعيد بن جبير. وفي عدة روايات عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عمه عبد الله بن الزبير أن معناها خذ العفو من أخلاق الناس ومثله وفي رواية لهشام عن عروة عن خالته عائشة أم المؤمنين مثل ذلك وبه قال مجاهد.
وروي عن عبد الرحمان بن زيد بن أسلم أن العفو هنا الصفح عن المشركين وكان عشر سنين فنسخ بآية السيف، وهذا ضعيف لأن العفو بهذا المعنى لا يعبر عنه بالأخذ لأنه أمر عدمي هو بالإعطاء أشبه، ولا بالقبول لأنه لم يطلب. وأحسن الزمخشري ما شاء في تصويره معنى العفو بما تعطيه اللغة فقال : العفو ضد الجهد أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم وتسهل من غير كلفة، ولا تداقهم ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى ينفروا كقوله صلى الله عليه وسلم ( يسروا ولا تعسروا ) ١ قال٢ :
خذي العفو مني تستديمي مودتي***ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وقيل خذ الفضل وما تسهل من صدقاتهم، وذلك قبل نزول آية الزكاة. فلما نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعا أو كرها اه نقول وبقيت الآية محكمة في صدقة التطوع.
والمختار عندنا أن العفو يشمل هذا وذاك فالمراد به أن من أصول آداب هذا الدين قواعد شرعه اليسر وتجب الحرج وما يشق على الناس. وقد تقدم تفصيل في ذلك في تفسير آية الوضوء من سورة المائدة. وقد خالف هذه القاعدة الأساسية أهل الفقه المقلوب فجعلوا العسر والحرج من أهم قواعد الدين وأصول الشرع فعلا لا تسمية. وقد صح في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما٣، وترى هؤلاء لا يخير أحدهم بين أمرين إلا اختار أعسرهما، ولاسيما العسر على الأمة بأسرها، وأما فتاوى الأفراد فقد قال بعض المصنفين منهم في المسألة فيها قولان مصححان : نحن مع الدراهم قلة وكثرة ! ! يعني في الفتوى بأحدهما.
الأصل الثاني : الأمر بالعرف وهو ما تعارفه الناس من الخير وفسروه بالمعروف وفي اللسان المعروف ضد المنكر والعرف ضد النكر ( قال ) والعرف والعارفة والمعروف واحد ضد النكر وهو كل ما تعرفه النفس من الخير وتبسأ٤ به وتطمئن إليه ( قال ) وقد تكرر ذكر المعروف في الحديث وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس وكل ما ندب إليه ونهي عنه من المحسنات والمقبحات وهو من الصفات الغالبة أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه، والمعروف النصفة وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم، والمنكر ضد ذلك جميعه اه.
والقول الجامع إن العرب تطلق المعروف على ضد المنكر وعلى ضد المجهول، والمنكر هو المستقبح عند الناس الذي ينفرون منه لقبحه أو ضرره ويذمونه ويذمون أهله. والأمر به في هذه السورة المكية التي نزلت في أصول الدين وكليات التشريع تثبت لنا أن العرف أو المعروف أحد هذه الأركان للآداب الدينية والتشريع الإسلامي وهو مبني على اعتبار عادات الأمة الحسنة وما تتواطأ عليه من الأمور النافعة في مصالحها حتى أن كتاب الله عز وجل قد قيد طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بالمعروف في عقد مبايعته صلى الله عليه وسلم للنساء، قال عز وجل في سورة الممتحنة ﴿ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن باللّه شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن اللّه إن اللّه غفور رحيم ﴾ [ الممتحنة : ١٢ ] ومن المعلوم أن عقد المبايعة أعظم العقود في الأمم والدول فتقييد طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بالمعروف دليل على أن التزام المعروف من أعظم أركان هذا الدين وشرعه ومن المعلوم في السنة أن مبايعته صلى الله عليه وسلم للرجال كانت مبنية على أصل مبايعته للنساء المنصوص في هذه الآية. وقال صلى الله عليه وسلم ( إنما الطاعة في المعروف )٥ وهو في مواضع من الصحيح.
وقد تقدم من هذه السورة ( الأعراف ) وصف النبي صلى الله عليه وسلم في بشارة التوراة والإنجيل بأنه ( يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ) وورد ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما حكاه تعالى من وصية لقمان في السورة المسماة باسمه، وهي مكية كالأعراف، ثم تكرر ذكر المعروف في السور المدنية، وأكثرها في بيان الأحكام الشرعية العملية، وذلك في عشرات من الآيات بعضها في صفة الأمة الإسلامية وحكومتها وأكثرها في الأحكام الزوجية والمالية. فمن النوع الأول قوله تعالى في تعليل الإذن للمسلمين بالقتال من سورة الحج، فذكر من صفات المأذون لهم به أنهم ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق لأجل توحيده الله تعالى ثم قال :﴿ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ﴾ [ الحج : ٤١ ] ومنه قوله تعالى في سورة آل عمران :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ﴾ [ آل عمران : ١٠٣ ] وقوله بعدها :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ﴾ [ آل عمران : ٩ ] وقوله عز وجل في سورة التوبة :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ [ التوبة : ٧١ ] الآية ثم قوله في صفاتهم منها ﴿ التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ﴾ [ التوبة : ١١٢ ] فهذه الآيات أصول لا مندوحة للأمة عن التزامها في آدابها وتشريعها.
ومن النوع الثاني وهو ما ورد في الأحكام الفرعية قوله تعالى في الحقوق الزوجية من سورة البقرة :﴿ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ﴾ [ البقرة : ٢٢٨ ] وهذه الآية ركن من أركان الحقوق الزوجية يفضل به الإسلام جميع الشرائع والقوانين في العدل والمصلحة، ولم تنل النساء مثله في أمة من الأمم. ومنها قوله في أحكام الطلاق ﴿ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ] وقوله بعده ﴿ فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ﴾ [ البقرة : ٢٣١ ] ومثلها في سورة الطلاق- وقوله بعدها في المطلقات الرجعيات ﴿ فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ﴾ [ البقرة : ٢٣١ ] وقوله بعدها فيهن إذا كن مرضعات ﴿ وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ] إلى قوله ﴿ فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ] وقوله في الآية التي بعدها في معتدات الوفاة ﴿ فإذا بلغن أجهلن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ﴾ [ البقرة : ٢٣٤ ] وقوله بعد آية أخرى في المطلقات :﴿ ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ﴾ [ البقرة : ٢٣٦ ] وقوله بعد أربع آيات أخرى ﴿ وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ﴾ [ البقرة : ٢٤١ ] وكقوله في معاشرة الأزواج من سورة النساء ﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾ [ النساء : ١٩ ] وهنالك آيات أخرى في العفو عن القصاص وفي الوصية للوالدين والأقربين وفي أكل الوصي من مال اليتيم قيدت بالمعروف.
فأنت ترى أن المعروف في هذه الآيات معتبر في هذه الأحكام المهمة، وأن المعروف فيها هو المعهود بين الناس في المعاملات والعادات، ومن المعلوم بالضرورة أنه يختلف باختلاف الشعوب والبيوت والبلاد والأوقات، فتحديده وتعيينه باجتهاد بعض الفقهاء بدون مراعاة عرف الناس مخالف لنص كتاب الله تعالى. ولشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من فقهاء الحديث والحنابلة أقوال حكيمة في المعروف، منها أنه يجب على كل من الزوجين من أعمال البيت والأسرة ما جرى العرف به، وأنه إذا كان من المعروف عن بعض البيوت أنهن لا يزوجن بناتهن لمن يتزوج عليهن ويضارهن كان هذا كالشرط فلا يجوز للرجل أن يتزوج على المرأة منهن.
فإن قلت : إن بعض العلماء قالوا إن المراد بالعرف والمعروف في الآيات هو المنصوص في الشرع، كقول صاحب لباب التأويل في قوله :﴿ وأمر بالعرف ﴾ وأمر بكل ما أمرك الله به وعرفته بالوحي. فالجواب أن مثل هذا القول مخالف لما ذكرنا وما لم نذكر من أقوال السلف والخلف، ولا يمكن أن يراد من كل آية ولا من مجموع الآيات المتقدمة وما يحتمله منها كآيات الأمر والنهي المدنية لابد أن يكون اللفظ فيها عاما يشمل المعروف في الشرع وفي العادات والمعاملات ولا يظهر هذا في آية الأعراف التي هي الأصل الأول لأنها الأولى في الموضوع، ولم يكن قد نزل قبلها أحكام يفسر بها العرف ويحال عليها فيه- فما قاله صاحب لباب التأويل هو من قشره لا من لبابه، وأول ما يرد عليه أنه إذا كان المراد من العرف المعروف بالوحي يقال فيه إنه لم يكن قبل الأمر به معروفا وبعد الأمر به صار من قبيل تحصيل الحاصل.
نعم إن ما يتقرر بنص الشرع يصير من جملة المعروف الذي هو ضد المجهول كما أنه يكون بالضرورة من المعروف الذي هو ضد المنكر. ويبقى تحكيم العرف والمعروف بالمعنى اللغوي العام معتبرا فيما لا نص فيه بخصوصه وللأمة فيه عرف غير معارض بنص، ولا يستقيم نظام الأمة على أساس ثابت إذا كان أمر العرف والمعروف فيها فوضى وغير مقيد بأصول وأحكام وفضائل ثابتة، فلا بد من شيء ثابت وهو ما لا تختلف فيه المصالح والمنافع باختلاف الزمان والمكان وأحوال المعيشة، ولابد من شيء يحكم فيه العرف وهو ما يقابله، ولذلك جاء الشرع الحكيم بهما معا، ولا يضر مع هذا اختلاف الناس فيما يعرفون وينكرون فليكن المعروف كما قال الجصاص من أئمة الحنفية : ما يستحسن في العقل فعله ولا تنكره العقول الصحيحة. فيكفي المسلمين المحافظة على النصوص الثابتة إذ لا يمكن أن يستنكر المؤمن ما جاء عن الله ورسوله نصا حتما لا اجتهاد فيه، وليكن للجماعة بعده رأي فيما يعرفون وينكرون، ويستحسنون ويستهجنون، يكون عمدتهم فيه جمهور العقلاء والعلماء وأهل الأدب والفضيلة في
٢ البيت من الطويل، وهو بلا نسبة، في لسان العرب (عفا)، وتاج العروس (عفا)..
٣ روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في المناقب باب ٢٧، والأدب باب ٨٠، والحدود باب ١٠، ومسلم في الفضائل حديث ٧٧، ٧٨، وأبو داود في الأدب باب ٤، ومالك في حسن الخلق حديث ٢، وأحمد في المسند ٦/٨٥، ١١٤، ١٣٠، ١٦٢، ١٨٢، ١٨٩، ١٩١، ٢٠٩، ٢٢٣، ٢٢٩، ٢٣٢، ٢٦٢، ٢٨١..
٤ بسأ به وبسئ: أنس وارتاح..
٥ أخرجه البخاري في الأحكام باب ٤، والآحاد باب ١، والمغازي باب ٥٩، ومسلم في الإمارة حديث ٣٩، ٤٠، وأبو داود في الجهاد باب ٨٧، والنسائي في البيعة باب ٣٤، وأحمد في المسند ١/٨٢، ٩٤، ١٢٤..
بين الله تعالى في الآية التي قبل هذه الآيات أفضل ما يعامل البشر به بعضهم بعضا من الوصايا الثلاث التي لا يمكن شرح التعامل بها تفصيلا إلا بسفر كبير، ولو عمل الناس بهذه الوصايا لصلحت أحوالهم ولم يجد الفساد إليهم سبيلا- ثم قفى عليها بهذه الثلاث الآيات في الوصية باتقاء إفساد الشيطان أي جنسه لجنس البشر، والمراد هنا شياطين الجن المستترة، فالتناسب القريب بينهن وبين ما قبلهن المقابلة بين معاملة البشر ومعاملة الجن، ومن فروعه التناسب بين الجاهلين أي السفهاء الذين أمرت الآية السابقة بالإعراض عنهم اتقاء لشرهم، وبين الشياطين التي أمرت هذه الآيات بالاستعاذة بالله منهم اتقاء لشرهم، وبعبارة أخرى : اتقاء شر شياطين الإنس وشياطين الجن، فإن الشيطان هو الشرير المفسد من الفريقين كما تقدم في سورة الأنعام، ومن فسر آيات ﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ [ الأعراف : ١٨٩ ] الخ بما مر من أن شرك الأبوين آتاهما الله من الولد الصالح كان بإغواء الشيطان يرجعون إليه في التناسب بين الآيات، ويقولون إن الآية بينت لنا أن وسوسة الشيطان لأبوينا كانت سبب ما وقع لهما من الشرك فيما آتاهما من الولد- والأولى إرجاع التناسب في هذه المسألة إلى ما بين في أوائل السورة من خلق آدم وحواء ووسوسة الشيطان لهما- وما بين في خواتيمها من الإرشاد إلى اتقاء نزغ الشيطان ومسه- وهو ما أشرنا إليه في بدء سياق هذه الخاتمة.
قوله تعالى :﴿ وإما ينزغنّك من الشيطان ﴾ قال الراغب النزغ دخول في أمر لإفساده. واستشهد له بقول يوسف عليه السلام ﴿ من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ]. وفي الأساس : نزغه مثل نسغه إذا طعنه ونخسه. ومن المجاز : نزغه الشيطان- كأنه ينخسه ليحثه على المعاصي. ونزغ بين الناس –أفسد بينهم بالحث على الشر اه فالنزغ كالنسغ والنخس والنخز والنغز والنكز والوكز والهمز ألفاظ متقاربة المعنى وأصله إصابة الجسد برأس شيء محدد كالإبرة والمهماز والرمح أو ما يشبه المحدد كالأصبع. والمراد من نزغ الشيطان إثارته داعية الشر والفساد في النفس بداعية غضب أو شهوة حيوانية أو معنوية بحيث تتقحم بصاحبها إلى العمل بتأثيرها كما تنخس الدابة بالمهماز لتسرع. وغلب استعماله في الشر فقط، وإنما قال ينزغنك نزغ والمراد نازغ لأن إسناد الفعل إلى المصدر أبلغ.
والشيطان تقدم الكلام فيه وفي الجن مرارا أوسعها ما ورد في تفسير قوله تعالى :﴿ وإما ينسينك الشيطان ﴾ [ الأنعام : ٦٨ ] الآية وتفسيره قوله تعالى :﴿ كالذي استهوته الشياطين في الأرض ﴾ [ الأنعام : ٧١ ] الآية وكلتاهما من سورة الأنعام وتفسير قصة آدم من هذه السورة والذي يناسب منها ما هنا وهو إغواء الناس بالوسوسة قوله تعالى حكاية عن الشيطان ﴿ قال فبما أغويتني ﴾ [ الأنفال : ١٥ ] الخ وقوله تعالى :﴿ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان ﴾ [ الأنفال : ٢٦ ] الخ.
وملخص ما يجب اعتقاده أنه ثبت في وحي الله تعالى إلى رسله أن في عالم الغيب خلقا خفيا اسمه الشيطان لا تدركه حواسنا له أثر في أنفسنا فهو يتصل بها ويقوي داعية الشر فيها بما سماه الوحي وسواسا ونزغا ومسا، ونحن نجد أثر ذلك في أنفسنا وإن لم ندرك مصدره، وقد شبهنا تأثير هذه الشياطين الخفية في الأرواح بتأثير النسم الخفية المادية المسماة بالبكتيريا وبالميكروبات في الأجساد، فقد مرت القرون التي لا يحصيها إلا رب العالمين والناس يجهلون هذا النسم الخفية ويجهلون فعلها لعجز الأبصار عن إدراكها بنفسها وعن رؤية فعلها لدقتها وتناهيها في اللطف والصغر إلى أن اخترعت في هذا العصر المرايا أو النظارات المكبرة التي ترى الجسم أضعاف أضعاف جرمه فبها رؤيت وعلم ما يحدث بسببها في المواد السائلة والرخوة وكل ذات رطوبة من التحول والتغير كالاختمار والفساد وغيرهما، ومن الأمراض المعدية في الإنسان والحيوان كما فصلناه من قبل.
وحكمة إخبار الله تعالى إيانا على ألسنة رسله عليهم السلام بهذا العالم الغيبي المعادي لنا الضار بأرواحنا كضرر نسم الأمراض بأجسادنا أن نراقب أفكارنا وخواطرنا ولا نغفل عنها، كما نراقب ما يحدث في أجسادنا من تغير في المزاج، وخروج الصحة عن الاعتدال، فنبادر إلى علاجه- فمتى فطنا بميل من أنفسنا إلى الشر أو الباطل عالجناه بما وصفه الله تعالى لنا من العلاج في هذه الآية، وهو قوله عز وجل :﴿ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ﴾ أي فالجأ إلى الله وتوجه إليه ليعيذك من شر هذا النزغ، فلا يحملنك على ما يزعجك إليه من الشر، الجأ إلى الله بقلبك، وعبر عن ذلك بلسانك، فقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : إنه تعالى سميع لما تقول عليم بما تتوجه إليه، فهو يصرف عنك تأثير نزغه بتزيين الشر. ومن المجرب أن الالتجاء إلى الله تعالى وذكره بالقلب واللسان، يصرف عن القلب وسوسة الشيطان ﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ﴾ [ النحل : ٩٨، ٩٩ ] الخ.
والخطاب في هذه الآية وأمثالها من آيات التشريع والتأديب موجه إلى كل مكلف يبلغه، وأولهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن المفسرين من يقول إنه هنا للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. وقد تقدم الخلاف في ذلك في تفسير ﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان ﴾ [ الأنعام : ٦٨ ] الآية فقد اختلف مفسروها في ترجيح توجيه الخطاب فيها. وذكرنا هنالك آية الأعراف هذه وأن ظاهر السياق فيها أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان يأتي فيه الوجوه الأخرى في مثلها، ولكن نزغ الشيطان أقوى من إنسائه ومن مسه المبين في الآية التالية فالمختار عندي الآن عصمته صلى الله عليه وسلم منه وذكرت في الكلام هنالك حديث عائشة وابن مسعود في صحيح مسلم ( ما منكم أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن- قالوا : وإياك يا رسول ؟ قال- وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم )١ وهو سياق طويل يراجع هنالك.
وقد ورد في سورة حم السجدة ( فصلت ) مثل هذه الآية بعد آية في معنى قوله :﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ في آخر الآية التي قبلها ولكن بتعريف السميع العليم وقال صاحب الدرة في الفرق بينهما ما نصه :
قوله تعالى :﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ﴾ وقال في سورة حم السجدة :﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله أنه هو السميع العليم ﴾ [ فصلت : ٣٦ ] للسائل أن يسأل فيقول : لأي معنى جاء في الآية من سورة الأعراف سميع عليم على لفظ النكرة وفي سورة حم السجدة معرفتين بالألف واللام مؤكدتين بهو ؟ والجواب أن يقال : إن الأول وقع في فاصلة ما قبلها من الفواصل أفعال جماعة أو أسماء مأخوذة من الأفعال من نحو قوله :﴿ فتعالى الله عما يشركون ﴾ [ الأعراف : ١٩٠ ] وبعده يخلقون، وينصرون، ويبصرون، والجاهلين، فأخرجت هذه الفاصلة بأقرب ألفاظ الأسماء المؤدية معنى الفعل أعني النكرة، وكأن المعنى استعذ بالله إنه يسمع استعاذتك ويعلم استجارتك، والتي في سورة حم السجدة قبلها فواصل يسلك بها طريق الأسماء وهي ما في قوله تعالى :﴿ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ﴾ [ فصلت : ٣٤، ٣٥ ] فقوله :﴿ ولي حميم ﴾ ليس من الأسماء التي يراد بها الأفعال، وكذلك قوله :﴿ إنه لذو حظ عظيم ﴾ ليس في الحظ معنى فعل، فأخرج ﴿ سميع عليم ﴾ بعد الفواصل التي هي على سنن الأسماء على لفظ يبعد عن اللفظ الذي يؤدي معنى الفعل، فكأنه قال إنه هو الذي لا يخفى عليه مسموع ولا معلوم، فليس القصد الإخبار عن الفعل كما كان في الأولى أنه يسمع الدعاء ويعلم الإخلاص فهذا فرق ما بين المكانين. اه فتأمله فإنه دقيق جدا.
بين الله تعالى في الآية التي قبل هذه الآيات أفضل ما يعامل البشر به بعضهم بعضا من الوصايا الثلاث التي لا يمكن شرح التعامل بها تفصيلا إلا بسفر كبير، ولو عمل الناس بهذه الوصايا لصلحت أحوالهم ولم يجد الفساد إليهم سبيلا- ثم قفى عليها بهذه الثلاث الآيات في الوصية باتقاء إفساد الشيطان أي جنسه لجنس البشر، والمراد هنا شياطين الجن المستترة، فالتناسب القريب بينهن وبين ما قبلهن المقابلة بين معاملة البشر ومعاملة الجن، ومن فروعه التناسب بين الجاهلين أي السفهاء الذين أمرت الآية السابقة بالإعراض عنهم اتقاء لشرهم، وبين الشياطين التي أمرت هذه الآيات بالاستعاذة بالله منهم اتقاء لشرهم، وبعبارة أخرى : اتقاء شر شياطين الإنس وشياطين الجن، فإن الشيطان هو الشرير المفسد من الفريقين كما تقدم في سورة الأنعام، ومن فسر آيات ﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ [ الأعراف : ١٨٩ ] الخ بما مر من أن شرك الأبوين آتاهما الله من الولد الصالح كان بإغواء الشيطان يرجعون إليه في التناسب بين الآيات، ويقولون إن الآية بينت لنا أن وسوسة الشيطان لأبوينا كانت سبب ما وقع لهما من الشرك فيما آتاهما من الولد- والأولى إرجاع التناسب في هذه المسألة إلى ما بين في أوائل السورة من خلق آدم وحواء ووسوسة الشيطان لهما- وما بين في خواتيمها من الإرشاد إلى اتقاء نزغ الشيطان ومسه- وهو ما أشرنا إليه في بدء سياق هذه الخاتمة.
ثم بين تعالى وجه سلامة من يستعيذ من وسوسة الشيطان لإزالة جهل من لم يعلمه أو من لم يفقهه فقال :
﴿ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ﴾ الطوف والطواف والطيف بالشيء الاستدارة به أو حوله. فهو واوي يائي يقال طاف يطوف ويطيف بالشيء ( كقال وباع ) وطاف الخيال يطيف طيفا : جاء في النوم. وطيف الخيال : ما يرى في النوم من مثال الشخص، وأصله طيف بالتشديد فهو كميت وميت. وقد قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب هنا " إذا مسهم طيف " والباقون " إذا مسهم طائف " والمعنى واحد ورسمه في المصحف الإمام ( طف ) كرسم ( ملك ) في سورة الفاتحة فتؤدي قراءة وزن فاعل من الكلمتين بمد الحرف الأول. والمس في أصل اللغة كاللمس، ومما يفترقان فيه أن المس يقال في كل ما ينال الإنسان من شر وأذى بخلاف اللمس، فقد ذكر في التنزيل مس الضر والضراء والبأساء والسوء والشر والعذاب والكبر والقرح واللغوب والشيطان وطائف الشيطان، ولم يذكر فيه مس الخير والنفع إلا في قوله في سورة المعارج :﴿ إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ﴾ [ المعارج : ١٩- ٢٢ ] فقد ذكر الخير هنا في مقابلة الشر ولكن المقام مقام منع الخير لا فعله. واستعمل المس والمسيس بمعنى الوقاع وهو مجاز مشهور كاستعماله في الجنون مجازا.
ومعنى الآية " أن الذين اتقوا " وهم خيار المؤمنين الذين وصفوا في أول سورة البقرة " إذا مسهم " أي ألم أو اتصل بهم طيف أو " طائف من الشيطان " ليحملهم بوسوسته على المعصية، أو ينزغ بينهم لإيقاع البغضاء والتفرقة. " تذكروا " أن هذا من عدوهم الشيطان وإغوائه، وما أمر الله تعالى به في هذه الحال من الاستعاذة به والالتجاء إليه في الحفظ منه، وقال بعضهم تذكروا ما أمر الله تعالى به ونهى عنه، وقال آخرون : تذكروا عقاب الله لمن أطاع الشيطان وعصى الرحمان، وجزيل ثوابه لمن عصى الشيطان وأطاع الرحمان، وقال بعضهم : تذكروا وعده ووعيده- ومآل الأقوال كلها واحد وهو يعمها- كما تفيده قاعدة حذف المفعول- " فإذا هم مبصرون " أي فإذا هم أولوا بصيرة وعلم يربأ بأنفسهم أن تطيع الشيطان، فهو إنما تأخذ وسوسته الغافلين عن أنفسهم لا يحاسبونها على خواطرها، الغافلين عن ربهم لا يراقبونه في أهوائها وأعمالها، ولا شيء أقوى على طرد الشيطان من ذكر الله تعالى بالقلب، ومراقبته في السر والجهر، فذكر الله تعالى بأي نوع من أنواعه يقوي في النفس حب الحق ودواعي الخير، ويضعف فيها الميل إلى الباطل والشر، حتى لا يكون للشيطان مدخل إليها، فهو إنما يزين لها الباطل والشر بقدر استعدادها لأي نوع منهما. فإن وجد بالغفلة مدخلا إلى قلب المؤمن المتقي لا يلبث أن يشعر به لأنه غريب عن نفسه، ومتى شعر ذكر فأبصر فخنس الشيطان وابتعد عنه، وإن أصاب منه غرة قبل تذكره تاب من قريب.
فمثل المؤمن المتقي في عدم تمكن الشيطان من إغوائه وإن تمكن من مسه كمثل المرء الصحيح المزاج القوي الجسم النظيف الثوب والبدن والمكان لا تجد جنة الأمراض المفسدة للصحة استعدادا لإفساد مزاجه وإصابته بالأمراض، فهي تظل بعيدة عنه. فإن مسه شيء منها بدخوله في معدته أو دمه فتكت بها نسم الصحة والعافية فحالت دون فتكها به- وهو ما يسمى في عرف الطب المناعة- وكذلك يكون قوي الروح بالإيمان والتقوى غير مستعد لتأثير الشيطان في نفسه، فهو يطوف بها يراقب غفلتها وعروض بعض الأهواء النفسية لها من شهوة أو غضب أو داعية حسد أو انتقام، فمتى عرضت افترصها، فلابس النفس وقواها فيها، كما تلابس الحشرات القذرة أو جنة الأمراض الخفية ما يعرض من القذر للنظيف والضعف للقوي، فإذا أهملها بالغفلة عنها فعلت فعلها، وإذا تداركها نجا من ضررها، ويحسن أن يعبر عن هذا بالحصانة، فيقال مناعة جسدية وحصانة نفسية أو روحية.
ذكرنا في الكلام على الشيطان من أوائل سورة البقرة أن الإنسان يشعر بقدر علمه بتنازع دواعي الخير والشر والحق والباطل في نفسه، وأن لداعية الحق والخير ملكا يقويها، ولداعية الباطل والشر شيطانا يقويها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا بقوله :( أن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على ذلك ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان ) ثم قرأ ﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ﴾ ١ [ البقرة : ٢٦٨ ] رواه الترمذي والنسائي في الكبير وابن حبان عن ابن مسعود وعلم عليه السيوطي في الجامع الصغير بالصحة، ولكن الترمذي قال حسن غريب لا نعلمه مرفوعا إلا من حديث أبي الأحوص. وذكرنا هنالك بعض كلام الإمام الغزالي في هذا المقام وله فيه تفصيل حسن طويل في كتاب شرح عجائب القلب وغيره من الإحياء، وللمحقق ابن القيم كتاب خاص في ذلك اسمه ( إغاثة اللهفان، في مصايد الشيطان ) فمن قرأ أمثال هذه الكتب، كان من وسوسة الشيطان على حذر.
وما زال الصالحون المتقون يراقبون خواطرهم ويجاهدون الوسواس الذي يلم بها ولهم حكايات في ذلك غريبة. حدثني الشيخ عبد الغني الرافعي الفقيه الصوفي أنه دخل في أيام سلوكه وهو في ميعة شبابه بستانا في طرابلس يعمل فيه نساء من نصارى لبنان فإذا بشابة جميلة منهن في مكان خلو فنزغ الشيطان بينه وبينها حتى همَّ بمباشرتها فتذكر قوله تعالى :﴿ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ﴾ [ الإسراء : ٣٢ ] فتردد وانكمش ثم ساورته ثورة الغلمة تهون له الأمر، ولج به الوسواس : هلمّ هلم، فقوي سلطان الآية في قلبه حتى صار قلبه يتلو بصوت يسمعه بأذنيه ﴿ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ﴾ قال فجعلت أقول بيدي فوق صدري هكذا- يعني يمسحه كمن ينحي عنه شيئا- أحاول إسكات قلبي فلم أستطع إسكاته فتوليت عن المرأة وحفظني الله بذكر الآية من الفاحشة وله الحمد.
وأقول تحدثا بنعمة الله تعالى إن الشيطان لم يبلغ مني غرة يدعوني فيها إلى الفاحشة قط، فما ذكرته في مقصورتي في سياق حادثة امتحان امتحنني الله تعالى بها، قد استمر بفضل الله تعالى من سن الشباب إلى سن الشيخوخة، وأسأله بفضله حسن الخاتمة. وذلك قولي في فتاة بارعة الجمال طلبت مني أن أضع يدي على صدرها أرقيه :
ورب ملداء خميصة الحشا | يهنانة ترنو بألحاظ اللأى |
رقراقة شف زجاج وجهها | عن ذوب ياقوت وراءه جرى |
خاشعة اللحاظ والطرف أتت | تلتمس الدعاء مني والرقى |
أواه يا مولاي صدري ضاق عن | قلبي وما يفيض عنه من جوى |
فضع عليه يدك التي بما | بارك فيها الله تبرئ الضنى |
أتت فتى خاف مقام ربه | ما زال ينهى نفسه عن الهوى |
لم يقترف فاحشة قط ولم | يعزم ولا همّ بها ولا نوى |
بغرة منها وحسن نية | في معزل تشهيه أقصى ما اشتهى |
مما يمنيه به شيطانه | من حيث لا يطمع منه في خنا |
لكنه استعصم راويا لها | ما أمر الله به وما نهى |
قد يقول من يظنون أن يوسف الصديق عليه السلام همَّ بالفاحشة : إنك قد فضلت نفسك عليه بزعمك أنك لم تهم وهو قد هم، وأقول إنه وإن اختلفت الحال والداعية، فإنه عليه السلام لم يهم بالفاحشة، وإنما همت امرأة العزيز وهم هو بالانتقام، وهو بطشها به بالقتل أو الضرب، ودفاعه عن نفسه بالفعل، وهذا هو المعتاد في مثل هذه الحال بمقتضى الطبع البشري وشواهده تقع دائما، والعبارة تدل عليه دون الأول، فإنه لا يقال هم بالشخص في مقام الخلاف والمغاضبة إلا إذا أريد الهم بالضرب أو ما هو مثله أو فوقه من الإيذاء، ولا يقال أن المرأة همت بالرجل بالمعنى الآخر لأن الهم يتعلق بالعمل دون الشخص وهي في المباشرة مواتية لا عمل لها، وما استبقا الباب إلا وهو فار من ثورة غضبها وهي مواثبة له تريد البطش به لإهانته إياها بمخالفتها وهو غلامها، بعد أن ابتذلت نفسها ببذلها له، وما معنى قوله تعالى :﴿ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ﴾ [ يوسف : ٢٤ ] إلا عصمته من البطش بها دفاعا عن نفسه وهو السوء، وعصمته مما دعته إليه وهو الفحشاء، ولولا الروايات الإسرائيلية في القصة لما خطر ببال المفسرين الراسخين في ذوق اللغة العربية غير هذا المعنى، وكم لفتتهم تلك الروايات عما هو أوضح منها، فتأولوا وتكلفوا لتصحيح حمل الكلام عليها ؟ وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه.
الشيطان يزين لكل أحد من الناس ما هو مستعد له وقريب من أخلاقه وآرائه التي تربى عليها، ومناسب لحاله وشعوره الذي يكون غالبا عليه، فإذا أراد الصلاة في الليل وهو في حال نعاس أو فتور زين له النوم وترك الصلاة إلى وقت اليقظة والنشاط لأجل إقامتها كما يرضى الله تعالى ! ! فإذا خالفه وشرع في الصلاة زين له بوسوسته العجلة والاختصار، وقراءة السور القصار، أو قراءة السورة من متوسط المفصل في ركعتين أو أكثر، وإذا وجد منه جدا ونشاطا فيها فقد يزين له المبالغة في التطويل ليسرع إليه الملل، و( أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل )٢ كما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة. وإذا كانت تربيته الدينية منفرة من الكبائر، أغراه بمقدماتها ووسائلها من الصغائر، وربما أفتاه بقوله تعالى :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ﴾ [ النساء : ٣١ ] وليس المراد بهذا أن يحتقر الإنسان الصغائر ويعتمدها ويواظب عليها كالمستحل لها، فإن مثل هذا قلما يسلم من التدرج منها إلى الكبائر. ولكن المراد به اللمم وهو ما يلم به المرء إذا ما عرض له ولا يتعمق فيه ولا يصر عليه، بل يلوم نفسه عليه ويتوب منه، ( وقد بينت هذا المعنى في الكلام على التوبة من تفسير سورة النساء- ج٤ ) فإذا تاب تنتقل نفسه به من دركة ( النفس الأمارة بالسوء ) إلى درجة ( النفس اللوامة ) ولا يزال يجاهدها في مثله إلى أن يرتقي إلى درجة ( النفس المطمئنة ) فإذا هو أطاع النفس الأمارة بالسوء فإنها تهبط به إلى دركة الفحش والفجور، وربما تهوي به إلى استحلال المعاصي وهو من الكفر، كمن يدمن النظر بشهوة إلى بعض الحسان فينتقل من النظر إلى المغازلة، ومن المغازلة إلى المهازلة، ومن المهازلة إلى الملاعبة والمباعلة، ومنها إلى المفاعلة. قال الشاعر العربي :
فلما
٢ أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٢، والرقاق باب ١٨، ومسلم في المسافرين حديث ٢١٦، ٢١٨، والمنافقين حديث ٧٨، وأبو داود في التطوع باب ٢٧، والنسائي في القبلة باب ١٣، وقيام الليل باب ١٩، وابن ماجه في الزهد باب ٢٨، وأحمد في المسند ٢/٣٥٠، ٥/٢١٩، ٦/٤٠، ٦١، ١٢٥، ١٦٥، ١٧٦، ١٨٠، ٢٤١، ٢٦٨، ٢٧٣، ٣٢٢..
بين الله تعالى في الآية التي قبل هذه الآيات أفضل ما يعامل البشر به بعضهم بعضا من الوصايا الثلاث التي لا يمكن شرح التعامل بها تفصيلا إلا بسفر كبير، ولو عمل الناس بهذه الوصايا لصلحت أحوالهم ولم يجد الفساد إليهم سبيلا- ثم قفى عليها بهذه الثلاث الآيات في الوصية باتقاء إفساد الشيطان أي جنسه لجنس البشر، والمراد هنا شياطين الجن المستترة، فالتناسب القريب بينهن وبين ما قبلهن المقابلة بين معاملة البشر ومعاملة الجن، ومن فروعه التناسب بين الجاهلين أي السفهاء الذين أمرت الآية السابقة بالإعراض عنهم اتقاء لشرهم، وبين الشياطين التي أمرت هذه الآيات بالاستعاذة بالله منهم اتقاء لشرهم، وبعبارة أخرى : اتقاء شر شياطين الإنس وشياطين الجن، فإن الشيطان هو الشرير المفسد من الفريقين كما تقدم في سورة الأنعام، ومن فسر آيات ﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ [ الأعراف : ١٨٩ ] الخ بما مر من أن شرك الأبوين آتاهما الله من الولد الصالح كان بإغواء الشيطان يرجعون إليه في التناسب بين الآيات، ويقولون إن الآية بينت لنا أن وسوسة الشيطان لأبوينا كانت سبب ما وقع لهما من الشرك فيما آتاهما من الولد- والأولى إرجاع التناسب في هذه المسألة إلى ما بين في أوائل السورة من خلق آدم وحواء ووسوسة الشيطان لهما- وما بين في خواتيمها من الإرشاد إلى اتقاء نزغ الشيطان ومسه- وهو ما أشرنا إليه في بدء سياق هذه الخاتمة.
﴿ وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ﴾ الغي الفساد. والمد والإمداد الزيادة في الشيء من جنسه، وقد قرأ نافع يمدونهم بضم الياء وكسر الميم من الإمداد والجمهور بفتح الياء وضم الميم من المد، وقرئ في الشواذ يمادّونهم بصيغة المشاركة، والمد يستعمل في القرآن في الخلق والتكوين كقوله تعالى :﴿ وهو الذي مد الأرض ﴾ [ الرعد : ٣ ] ﴿ ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ﴾ [ الفرقان : ٤٥ ] ﴿ والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ﴾ [ لقمان : ٢٧ ] وفي مد الناس فيما يذم ويضر كقوله :﴿ قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدا ﴾ [ مريم : ٧٥ ] ﴿ ونمد له من العذاب مدا ﴾ [ مريم : ٧٩ ] ﴿ ويمدهم في طغيانهم يعمهون ﴾ [ البقرة : ١٥ ] وأما الإمداد ففيما يحمد وينفع كقوله تعالى :﴿ أمدكم بأنعام وبنين ﴾ [ الشعراء : ١٣٣ ] ﴿ وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ﴾ [ الإسراء : ٦ ] ﴿ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك ﴾ [ الإسراء : ٢٠ ] ومنه إمداد النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالملائكة يثبتون قلوبهم في غزوة بدر، وحملت قراءة نافع هنا على التهكم. والإقصار التقصير وأقصر عن الأمر تركه وكف عنه وهو قادر عليه.
الاجتباء افتعال واختصاص من الجباية يقال جبى العامل المال يجبيه وجباه يجبوه إذا جمعه للسلطان القيم على بيت مال الأمة. واجتباه إذا جمعه واصطفاه لنفسه أو احتازه لها، وفي الكشاف اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه أي جمعه كقولك اجتمعه- أو جبي إليه فاجتباه أي أخذه، كقولك جليت إليه العروس فاجتلاها اه. والآية هنا آية القرآن كما روي عن ابن عباس أو المعجزة المقترحة من قبل المشركين كما روي عن مجاهد وقتادة.
والمعنى وإذا لم تأتهم أيها الرسول بآية قرآنية بأن تراخى نزول الوحي زمنا ما عليك قالوا : هلا جباها الله لك بأن مكنك منها فاجتبيتها وأبرزتها لنا ﴿ قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ﴾ فما أنا بمبتدع ولا مجتب لشيء من آيات القرآن بعلمي وبلاغتي بل أنا عاجز عن مثله كعجزكم وعجز سائر الإنس والجن. وفي معناها ﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ [ يونس : ١٥ ] - أو ما أنا بقادر على إيجاد الآية الكونية ولا بمفتات على الله في طلبها وإنما أنا متبع لما يوحى إلي فضلا من ربي علي أن جعلني المبلغ عنه- وما علي إلا البلاغ المبين.
﴿ هذا بصائر من ربكم ﴾ أي هذا القرآن الذي أوحاه إلي بصائر وحجج ناهضة من ربكم يعود من تأملها وعقلها بصير العقل بما تدل عليه من الحق، إذ هي أدل عليه مما تطلبون من الآيات الكونية لأنها تدل عليه مباشرة. وقد سبق في سورة الأنعام تفسير قوله تعالى :﴿ قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ [ الأنعام : ١٠٤ ] فيراجع لزيادة البيان.
﴿ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾ أي وهو هدى كامل يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ورحمة في الدنيا والآخرة للذين يؤمنون به : كما قال تعالى في سورة الأنعام أيضا :﴿ وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ﴾ [ الأنعام : ١٥٤- ١٥٦ ] الآية، قيل إن قوله تعالى لقوم يؤمنون متعلق بالثلاثة وقيل الهدى والرحمة لأن البصيرة قد يتأملها العاقل فيؤمن.
هذه دلالة على الطريقة الموصلة لنيل الرحمة بالقرآن والحصانة من نزغ الشيطان، وهي الاستماع له إذا قرئ والإنصات مدة القراءة. والاستماع أبلغ من السمع لأنه إنما يكون بقصد ونية وتوجيه الحاسة إلى الكلام لإدراكه، والسمع ما يحصل ولو بغير قصد، والإنصات السكوت لأجل الاستماع حتى لا يكون شاغلا من الإحاطة بكل ما يقرأ. فمن استمع وأنصت كان جديرا بأن يفهم ويتدبر، وهو الذي يرجى أن يرحم. والآية تدل على وجوب الاستماع والإنصات للقرآن إذا قرئ. قيل مطلقا سواء كانت القراءة في الصلاة أو خارجها، وهو مروي عن الحسن البصري وعليه أهل الظاهر، وخصه الجمهور بقراءة الرسول صلى الله عليه وسلم في عهده وبقراءة الصلاة والخطبة من بعده، وزعم بعضهم أن الآية نزلت في خطبة الجمعة، وهو غلط فإن الآية مكية وصلاة الجمعة شرعت بعد الهجرة. وقال بعضهم إن الأمر للندب لا للوجوب، ولكن روي أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة فحرم بنزولها الكلام فيها.
وحكى ابن المنذر الإجماع على عدم وجوب الاستماع والإنصات في الصلاة والخطبة. وذلك أن إيجابهما على كل من يسمع أحدا يقرأ فيه حرج عظيم لأنه يقتضي أن يترك له المشتغل بالعلم علمه، والمشتغل بالحكم حكمه، والمبتاعان مساومتهما وتعاقدهما وكل ذي شغل شغله. فأما قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فكان بعضها تبليغا للتنزيل وبعضها وعظا وإرشادا فلا يسع أحدا من المسلمين يسمعه يقرأ أن يعرض عن الاستماع أو يتكلم بما يشغله أو يشغل غيره عنه، وهذا شأن المصلي مع إمامه وخطيبه، إذ هو موضوع الصلاة الواجب فيها، ولهذا استدلوا بالآية على امتناع القراءة خلف الإمام في الصلاة الجهرية واستثنى بعضهم الفاتحة لما ورد في الأحاديث الصحيحة من أن الصلاة لا تجزئ بدونها جمعا بين النصوص. وورد في السنة سكوت الإمام بقدر ما يقرأ المأموم الفاتحة. على أنه إذا قرأ الفاتحة مع الإمام أو بعده آية آية لا يعد غير مستمع للقرآن ولا غير منصت، وقد بينا تحقيق الحق في قراءة الفاتحة لمأموم كغيره في متممات تفسيرها من الجزء الأول.
ومن فروع طلب الاستماع والإنصات أن القارئ لا يطلب منه ترك قراءته للاستماع لقارئ آخر بل يختار لنفسه ما يراه خيرا لها من الأمرين، فقد يخشع بعض الناس بقراءة نفسه، ويخشع آخر بالاستماع من غيره، أو من بعض القراء دون بعض، وإذا تعدد القراء في مكان استمع كل حاضر لمن كان أقرب إليه أو لمن يرى قراءته أشد تأثيرا في نفسه. وما يفعله جماهير الناس في المحافل التي يقرأ فيها القرآن بمصر كالمآتم وغيرها من ترك الاستماع والاشتغال بالأحاديث المختلفة مكروه كراهة شديدة، وتكون على أشدها لمن كانوا على مقربة من التالي. وأما تعمد الإعراض عن السماع للقرآن فلا يكاد يفعله مؤمن به، وكذلك رفع الصوت بالكلام على صوت القارئ عمدا، فإذا كان الله تعالى قد أدب المؤمنين مع رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنت لا تشعرون ﴾ [ الحجرات : ٢ ] فرفع أصواتهم على صوت التالي لكلامه عز وجل أولى بأن ينهى عنه، والأدب معه فوق الأدب مع كلام النبي صلى الله عليه وسلم بالضرورة.
وقد كان الصحابة وغيرهم من فصحاء العرب يعبرون عن سماع القرآن بقوله : سمعت الله تعالى يقول كذا. ولا يجوز لقارئ أن يقرأ على قوم لا يستمعون له، فإن كان في المجلس كثير من الناس يستمعون وينصتون، فشذ بعضهم بمناجاة صاحبه بالجنب من غير تهويش على القارئ ولا على المستمعين كان الخطب في هذا هينا لا يقتضي ترك القراءة ولا ينافي الاستماع.
ويجب على كل مؤمن بالقرآن أن يحرص على استماعه عند قراءته كما يحرص على تلاوته، وأن يتأدب في مجلس التلاوة، وملاك هذا الأدب للقارئ أن لا يكون منه ولا من غيره ولا من حال المكان ما يعد في اعتقاده أو في عرف الناس منافيا للأدب، وقد ذكر الفقهاء في المسألة آدابا وأحكاما قد يختلف بعضها باختلاف الاعتقاد والعرف، وصرحوا بقراءة القرآن في كل حال من قيام وقعود واضطجاع ومشي وركوب فلا تكره في الطريق نصا ولا مع حدث أصغر ونجاسة بدن وثوب، ولكن يمسك عن القراءة في حال الحدث، ويستحب الوضوء لها استحبابا، ولاسيما للقارئ في المصحف وتكره مع الجنازة جهرا لأنه بدعة، وفي المواضع القذرة بأن يجلس فيها للقراءة وأما من مر بمكان منها وهو يقرأ فلا يطلب منه ترك القراءة وكذلك من عرض له الجلوس في بعض الملاهي غير المباحة لا يكره له التلاوة سرا، وصرحوا بأنه لا يكره له أن يتلو في بيته إذا كانت زوجه غير مستورة عورة الصلاة-.
وتستحب القراءة بالترتيل والتغني بالنغم المفيد للتأثير والخشوع من غير تكلف صناعي. وفي حديث أبي هريرة مرفوعا ( ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن-زاد غيره في رواية- يجهر به ) ١ رواه الشيخان، وأذن هنا استمع أو سمع. ومصدره بفتحتين وروى أحمد وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي عن فضالة بن عبيد مرفوعا ( لله أشد أذنا للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته ) ٢ والقينة الأمة المغنية، وروى البخاري عن أبي هريرة مرفوعا :( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) ٣ ويستحب البكاء مع القراءة والخشوع وإلا فالتباكي والتخشع، وأن يستعيذ بالله قبلها ويدعو الله في أثنائها بحسب معاني الآيات كسؤال الرحمة عند ذكرها والاستعاذة من العذاب عند ذكره. وكان أنس رضي الله عنه يجمع أهله وولده عند ختم القرآن فاستحبوا الإقتداء به.
واعلم أن قوة الدين وكمال الإيمان واليقين لا يحصلان إلا بكثرة قراءة القرآن واستماعه مع التدبر بنية الاهتداء به والعمل بأمره ونهيه. فالإيمان الإذعاني الصحيح يزداد ويقوى وينمي وتترتب عليه آثاره من الأعمال الصالحة وترك المعاصي والفساد بقدر تدبر القرآن، وينقص ويضعف على هذه النسبة من ترك تدبره، وما آمن أكثر العرب إلا بسماعه وفهمه، ولا فتحوا الأقطار، ومصروا الأمصار، واتسع عمرانهم وعظم سلطانهم، إلا بتأثير هدايته، وما كان الجاحدون المعاندون من زعماء مكة يجاهدون النبي ويصدونه عن تبليغ دعوة ربه إلا بمنعه من قراءة القرآن على الناس، ﴿ وقالوا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ﴾ [ فصلت : ٢٦ ] وما ضعف الإسلام منذ القرون الوسطى حتى زال أكثر ملكه إلا بهجر تدبر القرآن، وجعله كالرقى والتعاويذ التي تتخذ للتبرك أو لشفاء أمراض الأبدان، وجل فائدة الصلاة وهي عماد الدين بتلاوة القرآن مع التدبر والتخشع، فإذا زال منها هذا صارت عادة قليلة الفائدة. والآيات الدالة على ذلك فيه كثيرة تقدم بعضها مع تفسيرها فمن التطويل في غير محله إيراد شيء منها هنا.
وإنني أختم البحث بأول حديث عائشة رضي الله عنها الطويل في الهجرة من رواية صحيح البخاري للاستشهاد به على ما كان من تأثير سماع القرآن عند مشركي العرب قال : حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لم أعقل أبويّ قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برْك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. قال ابن الدغنة فإن مثلك يا أبا بكر لا يَخرج ولا يُخرج : إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك. فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم : إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق ؟
فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقذف٤ عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن.
وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا : إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإنه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يردّ إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال : قد علمت الذي عاقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إليّ ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل٥ اه المراد منه.
٢ أخرجه ابن ماجه في الإقامة باب ١٧٦، وأحمد في المسند ٦/١٩، ٢٠..
٣ أخرجه البخاري في التوحيد باب ٤٤، وأبو داود في الوتر باب ٢٠، والدارمي في الصلاة باب ١٧١، وفضائل القرآن باب ٣٤، وأحمد في المسند ١/١٧٢، ١٧٥، ١٧٩..
٤ وفي رواية يتعضف، والمراد يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض، حتى كأن كل أحد يقذف غيره، وتقاذف الركاب تراميها، وقد أخطأ من قال إن هذه الرواية لا معنى لها، فالقذف هنا أظهر من القصف، وهو الكسر، وكأنما يقصف بعضهم بعضا، وفي الأساس: وتقصف القوم: لجوا في خصومه أو وعيد..
٥ أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب ٤٥، والكفالة باب ٤..
﴿ واذكر ربك في نفسك تضرّعا وخيفة ودون الجهر من القول ﴾ قال ابن جرير إن الأمر بالذكر هنا موجه إلى مستمع القرآن أمر بأن يتدبر في نفسه ما يسمع، وقال عطية العوفي إن المراد بالذكر هنا الدعاء- والجمهور على أنه أمر عام كما تقدم، وأن الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه. والتضرع إظهار الضراعة وهي الذلة والضعف والخضوع بكثرة وشدة عناية. والخيفة حالة الخوف والخشية- أي واذكر ربك الذي خلقك ورباك بنعمه في نفسك بأن تستحضر معنى أسمائه وصفاته وآياته وآلائه وفضله عليك وحاجتك إليه متضرعا له خائفا منه، راجيا نعمه- واذكره بلسانك مع ذكره في نفسك ذكرا دون الجهر برفع الصوت من القول، وفوق التخافت والسر، بل ذكرا قصدا وسطا- كما قال في آخر سورة الإسراء ﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ﴾ [ الإسراء : ١١٠ ] ولا تحصل فائدة الذكر باللسان إلا مع ذكر القلب، وهو ملاحظة معاني القول، وكأيٍّ مِن ذي وِرْدٍ يَذْكُرٌ اللهَ ذكرا كثيرا يعد بالسبحة منه المئين أو الألوف ثم لا يفيده كل ذلك معرفة بالله ولا مراقبة له، بل هو عادة تقارنها عادات أخرى منكرة شرعا. وما ذلك إلا أنه ذكر لسان محض لا حظ فيه للقلب. ذكر النفس وحده ينفع دائما، وذكر اللسان وحده قلما ينفع وقد يكون في بعض الأحوال ذنبا. والأكمل الجمع بين ذكر اللسان والقلب.
وبعد أن بين تعالى صفة الذكر والذاكر بين وقته فقال :﴿ بالغدو والآصال ﴾ الغدو هو مصدر غدا يغدو- كعلا يعلو علواً- أي ذهب غدوة وهو أول النهار من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ثم توسع فيه حتى استعمل بمعنى الذهاب مطلقا –ويقابله الرواح وهو الرجوع –ومنه ﴿ غدوها شهر ورواحها شهر ﴾ [ سبأ : ١٢ ] والآصال جمع أصيل وهو العشي من وقت العصر إلى غروب الشمس فهو كقوله تعالى في سورة الأحزاب ﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا وسبحوه بكرة وأصيلا ﴾ [ الأحزاب : ٤١ ] وقوله في سورة الدهر أو الإنسان ﴿ واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ﴾ [ الإنسان : ٢٥ ] وقوله في سورة آل عمران ﴿ وسبح بالعشي والإبكار ﴾ [ آل عمران : ٤١ ] وخص هذان الوقتان بالذكر لأنهما طرفا النهار ومن افتتح نهاره بذكر الله واختتمه به كان جديرا بأن يراقبه تعالى ولا ينساه فيما بينهما وأهم الذكر فيهما صلاتا الفجر والعصر اللتين تحضرهما ملائكة الليل وملائكة النهار ويشهدان عند الله تعالى بما وجدا عليه العبد كما ورد في الصحيح.
﴿ ولا تكن من الغافلين ﴾ عن ذكره تعالى في سائر الأوقات وإنما يتسامح بقلة الذكر فيما بين البكرة والأصيل لأنه وقت العمل للمعاش فمن غفل عن ذكره تعالى مرض قلبه، وضعف إيمانه، واستحوذ عليه الشيطان فأنساه نفسه، ولله در القائل :
إذا مرضنا تداوينا بذكركم | ونترك الذكر أحيانا فننتكس |
وقد شرع الله تعالى لنا السجود عند تلاوة هذه الآية أو سماعها إرغاما للمشركين، واقتداء بالملائكة العالين، ومثلها آيات أخرى بمعناها في الجملة، وهذه هي الأولى في ترتيب المصحف. ونسأله تعالى أن يجعلنا من خير الذاكرين له، الشاكرين لنعمه، والمسبحين بحمده، والساجدين له دون سائر خلقه وأن يوفقنا لإتمام تفسير كتابه، إنه على كل شيء قدير.