تفسير سورة المزّمّل

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ ﴾؛ الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم نُودِيَ في حالِ كَونه مُلتَفِفاً بثيابهِ في بعضِ اللَّيل، وأُمِرَ بالقيامِ بالصَّلاة وهُجرَانِ النومِ، والمعنَى: يا أيُّها الْمُتَلَفِّفُ بثيابهِ، يقالُ: تَزَمَّلَ وَتَدَثَّرَ بثوبهِ إذا تغطَّى بهِ، وزَمَّلَ غيرَهُ إذا غطَّاهُ. قال أبو عبيدِالله الجدَلِي: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنَْهَا عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ ﴾ مَا كَانَ تَزَمُّلُهُ؟ قَالَتْ: فِي مُرْطٍ كَانَ طُولُهُ أرْبَعَةَ عَشَرَ ذِرَاعاً، نِصْفُهُ عَلَيَّ وَأنَا نَائِمَةٌ، وَنِصْفُهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي. فَسَأَلْتُهَا مِمَّ كَانَ؟ قَالَتْ: وَاللهِ مَا كَانَ خَزّاً وَلاَ قَزّاً ولاَ صُوفاً، كَانَ سَدَاهُ شَعْراً وَلُحْمَتُهُ وَبَراً). قال السديُّ: (مَعْنَاهُ: يَا أيُّهَا النَّائِمُ قُمْ فَصَلِّ). قالتِ الحكماءُ: إنَّما خُوطِبَ بالمزَّملِ والمدَّثرِ في أوَّلِ الأمرِ لأنه لم يكُن بلغَ شيئاً من الرسالةِ، ثم خُوطِبَ بعدَ ذلك: يا أيها النبيُّ، يا أيُّها الرسولُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ﴾؛ أي قُمْ للصَّلاةِ؛ أي صَلِّ أكثرَ الليلِ أو قُمْ نصفَ الليلِ أو انقُصْ من النِّصفِ قليلاً، أو انقُصْ من النصفِ.
﴿ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ﴾؛ خيَّرَهُ اللهُ تعالى في قيام الليل في هذه السَّاعات. قال المفسِّرون: معنى قولهِ ﴿ نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ﴾ أي انقُصْ مِن النصفِ إلى الثُّلث أو زدْ على النِّصف إلى الثُّلُثَينِ، جعل له سِعَةً في قيامِ الليل وخيَّرَهُ في هذه السَّاعات، قال الحسنُ: ((فَرَضَ اللهُ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى أصْحَابهِ وَهُمْ بمَكَّةَ أنْ يَقُومُوا بثُلُثِ اللَّيْلِ وَمَا زَادَ)). سُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَت: ((أمَا تَقْرَأُونَ هَذِهِ السُورَةَ ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ ﴾؟ قَالُواْ: بَلَى، قَالَتْ: فَإنَّ اللهَ فَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ، وَأمْسَكَ اللهُ خَاتِمَةَ السُّورَةِ اثْنَى عَشَرَ شَهْراً، ثُمَّ تَرَكَ التَّخْفِيفَ فِي آخِرِ السُّورَةِ بَعْدَ أنْ قَامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابُهُ حَوْلاً، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعاً بَعْدَ ذلِكَ)). وَكَانَ قِيَامُهُ فَرْضاً قَبْلَ أن فَرَضَ " اللهُ " الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، ولا خلافَ بين المسلمين في أنَّ قيامَ الليلِ مندوبٌ إليه مرغَّبٌ فيه، قال صلى الله عليه وسلم:" أحَبُّ الصَّلاَةِ إلَى اللهِ تَعَالَى صَلاَةُ دَاوُدَ عليه السلام، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ. وَأحَبُّ الصِّيَامِ إلَى اللهِ تَعَالَى صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً ". ورُوي: (أنَّ هَذِهِ الآيَاتِ لَمَّا نَزَلَتْ قَامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابُهُ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنَ الصَّحَابَةِ لاَ يَدْري مَتَى ثُلُثُ اللَّيْلِ وَمَتَى النِّصْفُ وَمَتَى الثُّلُثَانِ، فَكَانَ يَقُومُ حَتَّى يُصْبحَ مَخَافَةَ أنْ لاَ يَحْفَظَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ، حَتَّى شُقَّ عَلَيْهِمْ ذلِكَ وَانْتَفَخَتْ أقْدَامُهُمْ وَتَغَيَّرَتْ ألْوَانُهُمْ، فَرَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى وَخَفَّفَ عَنْهُمْ، وَنُسِخَ بقَوْلِهِ﴿ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ ﴾[المزمل: ٢٠]، وَكَانَ بَيْنَ أوَّلِ السُّورَةِ وَآخِرِهَا سَنَةٌ). وقوله تعالى: ﴿ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ﴾؛ أي بَيِّنْهُ بَياناً واقرَأهُ قراءةً بَيِّنَةً. والتَّرتِيلُ: ترتيبُ الحروفِ على حقِّها في تلاوَتِها بتَبيُّنٍ وتثَبُّتٍ من غيرِ عجَلَةٍ، وكذلك التَّرَسُّلُ. والمعنى: تفَهَّم معانيَهُ، وطالِبْ نفسكَ بالقيامِ بأحكامهِ. وأما الْحَدْرُ فهو الإسراعُ في القراءةِ، وعن ابنِ عمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالِ: (كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرْتِيلاً) أي تَرَسُّلاً. وقال أبو حمزةَ: ((قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إنِّي رَجُلٌ فِي قِرَاءَتِي وَكَلاَمِي عَجَلَةٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَئِنْ أقْرَأ الْبَقَرَةَ وَأُرَتِّلْهَا أحَبَّ إلَيَّ مِنْ أنْ أقْرَأ الْقُرْآنَ كُلَّهُ هَدْرَمَةً)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾؛ ليس على ثِقَلِ الحفظِ، ولكن قال الحسنُ: ((إنَّهُمْ لَيَهُذُّونَ هَذَاؤُهُ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بهِ ثَقِيلٌ)). وقال قتادةُ: ((ثَقِيلٌ وَاللهِ فَرَائِضُهُ وَحُدُودُهُ))، وقال مقاتلُ: ((ثَقِيلٌ لِمَا فِيْهِ مِنَ الأَمْرِ وَالْحُدُودِ)). وقال أبو العاليةَ: ((ثَقِيلٌ بالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، فَلاَ يَقْدِرُ أحَدٌ أنْ يُؤَدِّي جَمِيعَ أوَامِرِهِ إلاَّ بتَكَلُّفٍ يَثْقِلُ)). ويقالُ: معناهُ: كَلاماً مُحْكَماً ليس بسَفْسَافٍ كما يقالُ: هذا كلامٌ له وَزْنٌ. وَقِيْلَ: إنما سُمي ثقيلاً لثِقَلِهِ في الميزانِ مع خفَّته على اللسانِ، وعن الحسنِ في قولهِ تعالى ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾ قال: ((الْعَمَلُ))، وَقِيْلَ: ثقيلٌ لا يحملهُ إلاّ القلبُ المؤيَّدُ بالتوفيقِ ونفسٌ مؤمِنة بتوحيدهِ. وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالَت: [لَقَدْ رَأيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَنْفَصِمُ عَنْهُ، وَإنَّ جَبينَهُ لَيَنْفصُ عَرَقاً].
وقالت عائشةُ أيضاً: [إنْ كَانَ لَيُوحَى إلَيْهِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَتَضْرِبُ بجِرَانِهَا].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً ﴾؛ معناه: إنَّ القيامَ في ساعاتِ الليل أثقلُ وأشدُّ على القائمِ من القيامِ بالنَّهار؛ لأن الليلَ إنما خُلِقَ للرَّاحة والسُّكون، ففِعْلُ الطاعةِ فيه أشدُّ من فعلِها بالنهار، وقال ابنُ مسعودٍ: ((إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ قِيَامُ اللَّيْلِ)). وقالت عائشةُ: ((النَّاشِئَةُ الْقِيَامُ بَعْدَ النَّوْمِ))، وعن ابنِ الأعرابيِّ: ((إذا نِمْتَ مِنْ أوَّلِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قُمْتَ فَتِلْكَ النَّاشِئَةُ)) ومنه ناشئةُ اللَّيل. وَقِيْلَ: ناشئةُ الليل ساعاتُها كلُّها، وكلُّ ساعةٍ منه فهي ناشئةٌ، سُميت بذلك؛ لأنَّها تُنشِئ، ومنه نشأَتِ السَّحابةُ إذا بَدَتْ، وجمعُها نَاشِئَاتٌ، وعن حاتمِ بن أبي صغيرة قال: ((سَأَلْتُ ابْنَ أبي مُلَيْكَةَ عَنْ نَاشِئَةِ اللَّيْلِ فَقَالَ: عَلَى اللَّبيب سَقَطْتَ، سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَزَعَمَ أنَّ اللَّيْلَ كُلَّهُ نَاشِئَةٌ، وَسََأَلْتُ الزُّبَيْرَ عَنْهَا فَأَخْبَرَنِي مِثْلَ ذلِكَ)). وقال ابنُ جبير: ((أيُّ سَاعَةٍ قَامَ مِنَ اللَّيْلَ فَقَدْ نَشَأَ))، وقال قتادةُ: ((مَا كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَهُوَ نَاشِئَةٌ)). وقال عبيدُ بن عمير لعائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ((رَجُلٌ قَامَ مِنْ أوَّلِ اللَّيْلِ أيُقَالُ لَهُ نَاشِئَةٌ؟ قَالَتْ: لاَ؛ إنَّمَا النَّاشِئَةُ الْقِيَامُ بَعْدَ النَّوْمِ)). وقال ابنُ كَيسان: ((هِيَ الْقِيَامُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ)). وعن ابنِ عبَّاس قال: ((إذا نَشَأَْتَ قَائِماً فَهُوَ نَاشِئَةٌ))، وعن مجاهدٍ أنه قالَ: ((إذا قَامَ الإنْسَانُ اللَّيْلَ كُلَّهُ فَصَلَّى فَهُوَ نَاشِئَةٌ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ الأَخِيرَةِ فَهُوَ نَاشِئَةٌ)). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾ أي أثقلُ على المصلِّي من ساعاتِ النَّهار، من قولِ العرب اشتدَّت على القومِ وَطْأَةُ السُّلطان؛ إذا ثَقُلَ عليهم ما يلزَمُهم، ومنه قولهُ صلى الله عليه وسلم:" اللَّهُمْ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ ". وقرأ أبو عمرٍو وابنُ عامر (وِطْئاً) بكسر الواو والمدِّ على معنى الْمُوَاطَأَةِ والموافقةِ، ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ ﴾[التوبة: ٣٧]، قال ابنُ عبَّاس: ((يُوَاطِئُ السَّمْعُ الْقَلْبَ))، والمعنى: أنَّ صلاةَ ناشئة الليلِ يُواطِئُ السمعُ والقلبُ فيها أكثرَ مما يُواطِئ في ساعاتِ النَّهار؛ لأن الليلَ أفرغُ للانقطاعِ عن كُثْرِ ما يشغلُ بالنهار. ويقال: وَاطَأَتَ فُلاناً على كذا مُواطَأَةً ووَطْأَةً؛ إذا وافقتَهُ عليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾؛ أي أبْيَنُ قَوْلاً بالقرآنِ، وَقِيْلَ: أستَرُ استقامةً وأطرَبُ قراءةً، وعبادةُ الليلِ أشدُّ نَشاطاً وألَدُّ إخلاصاً وأكثرُ بركةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً ﴾؛ أي إنَّ لكَ في النهار تصرُّفاً وإقبَالاً وإدبَاراً في حوائجِكَ وأشغَالِكَ، وسِعَةً لتصرُّفكَ وقضاءِ حوائجِكَ، والمعنى: إنَّ لكَ في النَّهار فَراغاً للنَّومِ والتصرُّفِ في الحوائجِ، فصَلِّ من الليلِ. والسَّبْحُ: التقلُّبُ، ومنه السَّابحُ في الماءِ لتقَلُّبهِ بيديهِ ورجلَيهِ. وَقِيْلَ: معناهُ: إنَّ لكَ في النهار تصرُّفاً واشتغالاً في حوائجِكَ حيث لا تتفرَّغُ لصَلاةِ النَّفلِ، فخُذْ حظَّكَ من قيامِ الليل، وكان شُغْلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالنَّهار ما كان عليهِ من تبليغِ الوحي والرِّسالةِ وتعليمِ الناس الفرائضَ والسُّننَ، وقيامهِ بأدائِها وأمور معاشهِ ومعاش عيالهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾؛ معناهُ: واذكرِ اسمَ ربكَ بالتوحيدِ والتعظيمِ. ويجوزُ أنْ يكون المرادُ به الذِّكرَ المشروعَ لافتتاحِ الصَّلاة، ويجوز أنْ يكون المرادُ به كثرةَ ذكرِ الله في الصَّلاة وخارجَ الصلاةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ أي انقَطِعْ إلى اللهِ في العبادة، وتأميلِ الخير منه دون غيرهِ. ومِن هذا سُمِّيت فاطمةُ الْبَتُولَ؛ لأنَّها انقطَعت إلى اللهِ تعالى في العبادةِ، والبَتْلُ في اللغة: القطعُ وتَميُّزُ الشيءِ من الشيءِ، ومنه صَدَقَةٌ بَتْلَةٌ؛ أي مُنقَطِعَةٌ من مالِ صاحبها، وطَلْقَةٌ بَتْلَةٌ: قاطعةٌ للزَّوجةِ. وإنما قال ﴿ تَبْتِيلاً ﴾ ولم يقل تَبَتُّلاً على معنى تَبَتَّلْ لنَفسِكَ إليه تَبْتِيلاً. وقال ابنُ عبَّاس: ((مَعْنَى ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ أيْ أخْلِصْ إلَيْهِ إخْلاَصاً)). وقال الحسنُ: ((اجْتَهِدِ اجْتِهَاداً)). وقال شقيقُ: ((تَوَكَّلْ عَلَيْهِ تَوَكُّلاً). وقال زيدُ بن أسلمَ: ((التَّبَتُّلُ: رَفْضُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَالْتِمَاسُ مَا عِنْدَ اللهِ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾؛ قرأ أهلُ الحجاز وأبو عمرٍو ونافع وحفص (رَبُّ الْمَشْرِقِ) بالرفعِ على معنى: هُوَ ربُّ المشرقِ، وقرأ الباقون بالخفضِ على معنى نعتُ الرب في قوله ﴿ ٱسْمَ رَبِّكَ ﴾.
وَقِيْلَ: على البدلِ منهُ، ويجوزُ أن تكون قراءةُ الرفعِ على الابتداءِ، وخبرهُ ﴿ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾.
وقوله تعالى: ﴿ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً ﴾؛ أي اتَّخِذهُ حَافِظاً لكَ، وكَفيلاً فيما وَعدَكَ من النصرِ والثواب لكَ ولأُمَّتِكَ.
قوله: ﴿ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ ﴾؛ يعني: وَاصبرْ يا مُحَمَّدُ على ما يقولهُ الكفَّار والمنافِقون من التكذيب.
﴿ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ﴾؛ أي لا جَزَعَ فيهِ؛ أي اصْطَبرْ اقتَصِرْ على إظهار الوحي من غيرِ خُصومةٍ، وهذا قبلَ الأمرِ بالقتالِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ ﴾؛ أي كِلْ أمرَهم إلَيَّ ولا تَهتَمَّ بهم، فإنِّي أكفِيكَهُمْ. يقالُ: ذرْنِي وزَيْداً؛ أي دَعْنِي وَزيداً؛ أي لا تَهْتَمَّ بهِ فإنِّي أكَافِيهِ. وقولهُ تعالى: ﴿ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ ﴾ أي ذوُوا النعمةِ ذوُو الغِنَى وكثرةِ المال. قالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ((لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ إلَى قَوْلِهِ ﴿ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ﴾؛ لَمْ يَكُنْ إلاَّ يَسِيراً حَتَّى وَقَعَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ)). والنَّعمَةُ بفتحِ النون التَّنَعُّمُ، والنِّعمَةُ بالكسرِ المالُ والغِنَى، والنُّعْمَاءُ: قُرَّةُ العينِ بضمِّ النون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً ﴾؛ أي إنَّ عندَنا في الآخرةِ لَهم قُيوداً وأغلاَلاً، واحِدُها نَكْلٌ؛ وهو القَيْدُ من الحديدِ لا يُحَلُّ. وقوله تعالى: ﴿ وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ ﴾ أي لا يَسُوغُ في الحلقِ، يعني الزَّقُّومَ. وقال عكرمةُ: ((شَوْكٌ يَأْخُذُ بالْحَلْقِ، لاَ يَدْخُلُ وَلاَ يَخْرُجُ))، وقال الزجاجُ: ((يَعْنِي الضَّرِيعَ)). وَقِيْلَ: طعامٌ يأخذُ بحُلُوقِهم لِخُشُونَتِهِ وحرارتهِ، لا ينْزِلُ فيها بل تضيقُ أنفَاسُهم عنها فيختَنِقُونَ بها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَذَاباً أَلِيماً * يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ ﴾؛ أخبرَ اللهُ تعالى أنَّ هذا العذابَ المذكورَ يكون في يومٍ ترجفُ الأرضُ والجبال؛ أي تُزَلْزَلُ وتُحَرَّكُ، وهو يومُ القيامةِ. والرَّاجِفَةُ: من أسماءِ القيامة. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً ﴾؛ أي رَمْلاً سَائلاً، يقالُ: ترابٌ مَهِيلٌ ومَهْيُولٌ؛ أي مَصْبُوبٌ ومُرسَلٌ. والكَثِيبُ: القطعةُ العظيمةُ من الرَّملِ إذا حُرِّكَ أسفَلُها انْهَالَ أعلاهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي بعَثنا إليكم مُحَمَّداً يا أهلَ مكَّة رَسُولاً شَاهِداً علَيكُم بالتبليغِ، وشَهِيدٌ عليكم بأعمَالِكم يومَ القيامةِ.
﴿ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً ﴾؛ يعني مُوسَى عليه السلام.
﴿ فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ ﴾؛ أي مُوسَى ولَمْ يُجِبْهُ إلى ما دعاهُ ﴿ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً ﴾ أي عاقَبنا فرعونَ عقوبةً عظيمةً، يعني الغرقَ الوَبيلَ الثَّقِيلَ جِدّاً، ومنه الوَبَالُ لِثِقَلِهِ، ويقالُ للمطرِ العظيمِ: الوَابلُ، وطعامٌ وَبيلٌ؛ أي ثقيلٌ وَاخِمٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً ﴾؛ أي بأيِّ شيءٍ تتحصَّنون من عذاب يومِ القيامة إنْ كفَرتُم في الدُّنيا ولم تُؤمِنُوا برَسُولِكم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً ﴾؛ معناهُ: فكيف تتَّقُونَ إنْ كفَرتُم عذابَ يومٍ يجعلُ الولدانَ شِيْباً؛ أي تشيبُ الصِّغَارُ في ذلكَ اليومِ، وذلك حين يسمَعُون النداءَ:" " يَا آدَمُ ابْعَثْ بَعْثَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ إلَى النَّار، مِنْ كُلِّ ألْفٍ وَاحِدٌ إلَى الْجَنَّةِ وَالْبَاقِي إلَى النَّار، فَعِنْدَ ذلِكَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ " فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أيُّنَا ذلِكَ الْوَاحِدُ؟ فَقَالَ: " إنِّي أرْجُو أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أهْلِ الْجَنَّةِ " فَكَبَّرُوا وَحَمَّدُواْ، فَقَالَ: " إنِّي أرْجُو أنْ تَكُونُوا نِصْفَ أهْلِ الْجَنَّةِ " فَكَبَّرُوا وَحَمَّدُواْ، فَقَالَ: " مَا أنْتُمْ فِي النَّاسِ إلاَّ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْر الأَسْوَدِ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ ﴾؛ أي السَّماءُ مُنْشَقَّةٌ بذلك اليوم، وذكرَ السَّماء؛ لأن معناها السَّقفُ كما في قولهِ﴿ سَقْفاً مَّحْفُوظاً ﴾[الأنبياء: ٣٢].
وقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ﴾؛ أي كان وعدُ اللهِ مِن البعثِ وأهوالِ يوم القيامة كَائناً لا شكَّ فيه.
قولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ ﴾؛ أي إنَّ هذه السُّورة عِظَةٌ للناسِ، وَقِيْلَ: معناهُ: إن آياتِ القُرآنِ مَوعِظَةٌ.
﴿ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾؛ أي طَريقاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ﴾؛ معناهُ: إنَّ ربَّكَ يا مُحَمَّدُ يعلمُ إنَّكَ تقومُ أقَلَّ من ثُلُثَي الليلِ في بعضِ اللَّيالي، وأقلَّ من نصفِ اللَّيلِ في بعضِ اللَّيالي، وأقلَّ من الثُّلث في بعضِها. قَوْلُهُ تَعَالى: ﴿ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ ﴾؛ يعني: الْمُؤمِنون كانوا يقُومون معَهُ. قرأ الكوفيُّون وابنُ كثير (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) بالنصب فيهما على معنى: ويقومُ نصفَهُ وثُلثَهُ. وقال الحسنَ: ((لَمْ يَقُمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أقَلَّ مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ، وَإنَّمَا قَالَ: (أدْنَى) فِي الطَّائِفَةِ الَّذِينَ مَعَهُ)) ولفظهُ (أدْنَى) تُعقَلُ منها القلَّة، لا يقالُ: عندِي دونَ العشرةِ إلاَّ والنُّقصان منها قليلٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ ﴾؛ أي يعلَمُ مقاديرَهما وساعاتِهما على الحقيقةِ.
﴿ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ ﴾؛ أي عَلِمَ أنَّكم لم تعلَمُوا حقيقةَ قدرهما، يعني أنَّكم ما تعرِفُون مقاديرَ اللَّيل والنهار، ولذا لم تعلَمُوا حقيقةَ المقدار الذي أمَرَكم بالقيامِ فيه لم تُطِيقوهُ إلاَّ بمشقَّة.
﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي فتجاوزَ عنكم قيامَ الليلِ بالتخفيفِ عنكم.
﴿ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ ﴾؛ في صلاةِ اللَّيل. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ ﴾؛ لا يقدِرون على قيامِ اللَّيل بقراءةِ السُّوَر الطِّوالِ.
﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي وآخَرُون يُسافِرُونَ لطلب رزقِ الله فلا يُطيقون ذلكَ.
﴿ وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي وعَلِمَ أنَّ فيكم مَن يجاهدُ في سبيلِ اللهِ، يعني يقاتلُ أعداءَ اللهِ لا يُطيقون قيامَ الليلِ.
﴿ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ﴾؛ أي مِن القُرآن في الصَّلاة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ ﴾؛ أي وأقِيمُوا الصَّلوات الخمسِ بشَرائطِها وما يجبُ من حقِّ الله فيها، فنُسِخَ قيامُ الليلِ بالصَّلوات الخمسِ على المؤمنين، وثَبَتَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم خاصَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ ﴾؛ يعني المفروضةَ.
﴿ وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾؛ من الصَّدقة سِوَى الزكاةِ من صِلَةِ الرَّحم، وقِرَى الضيفِ، وصدقةِ التطوُّع. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي ما تفعَلُوا من صدقةٍ فريضة أو تطوُّع أو عملٍ صالح تجدُوا ثوابَهُ عند اللهِ.
﴿ هُوَ خَيْراً ﴾؛ لكم.
﴿ وَأَعْظَمَ أَجْراً ﴾؛ مِن الذي تُؤخِّرونَهُ إلى الوصيَّة عند الموتِ. وإنما انتصبَ (خَيْراً) لأنه المفعولُ الثاني، وأدخل (هو) فصل، ويسَمِّيه الكوفيُّون العمادَ.
﴿ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ ﴾؛ لِمَا مضَى من الذُّنوب والتقصيرِ في الطاعة.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾؛ لِمَن استغفرَ.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾؛ لِمَن ماتَ على التوبةِ. وقد تضمَّنت هذه الآيةُ معانٍ: أحدُها: أنه نَسَخَ بها فريضةَ قيامِ الليل. الثانِي: أنَّها تدلُّ على لُزوم فرضِ القراءةِ في الصَّلاة؛ لأن القراءةَ لا تلزَمُ في عينِ الصَّلاة. والثالث: دلالةُ جواز الصَّلاة بقليلِ القراءةِ. والرابعُ: أنَّ تركَ قراءةِ الفاتحةِ في الصَّلاة لا تمنعُ جوازَها إذا قرأ فيها غيرَها. فإنْ قِيْلَ: هذه الآيةُ نزَلت في قيامِ الليل وذلك منسوخٌ، فكيف تستدِلُّون بها على هذه الأحكامِ؟ قُلنا: المرادُ بقولهِ تعالى ﴿ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ ﴾ أمرٌ بالقراءةِ بعدَ ذكرِ النَّسخِ، ثم نسخُ فرضِ الصلاةِ لا يوجبُ نسخَ شَرائطِها وسائرِ أحكامها. فإن قِيْلَ: المرادُ بقوله: ﴿ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ ﴾ في صلاةِ التطوُّع. قُلنا: إذا ثبتَ وجوبُ ذلك وحكمُه في التطوُّع فالفرضُ مثلهُ؛ لأن أحداً لا يفرَّقُ بينهما في هذهِ الأحكامِ، وصلاةُ التطوُّع وإنْ لم تكن فَرضاً لكن إذا شَرَعَ فيها يلزمهُ إقامتُها بجميعِ أركانِها كما لَزِمَهُ إقامتُها بجميعِ شَرائطِها من الطَّهارةِ وسَترِ العورةِ ونحوِ ذلك.
Icon