تفسير سورة المزّمّل

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ
سورة المزمل
مكية، وقيل : إلا قوله :﴿ إن ربك يعلم ﴾ إلى تمام السورة، فإنه مدني. وهي تسع عشرة آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى :﴿ إلا من ارتضى من رسول ﴾ [ الجن : ٢٧ ] فإنه المنادى في أول السورة بقوله :
بسم الله الرحمان الرحيم :
﴿ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ﴾*﴿ قُمِ الْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾*﴿ نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ﴾*﴿ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ﴾*﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾*﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾*﴿ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً ﴾*﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾*﴿ رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ﴾*﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ﴾.

يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها المزَّمِّلُ ﴾ أي : المتزمّل، وهو الذي تزمّل في ثيابه، أي : التفّ بها، بإدغام التاء في الزاي. قال السهيلي : المزمّل : اسم مشتق من الحال التي كان عليها صلى الله عليه وسلم حين الخطاب، وكذلك المُدَّثِر. وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان : إحداهما الملاطفة ؛ فإنّ العرب إذا قصدت ملاطفةَ المخاطَب، وتَرْكَ عتابه، سَمَّوه باسم مشتق من حالته، كقوله صلى الله عليه وسلم لعليّ حين غاضب فاطمة :" قم أبا تراب " ١ إشعاراً له أنه غير عاتب عليه، وملاطفةَ له. والفائدة الثانية : التنبيه لكل متزمّل، راقد ليله، لينتبه إلى قيام الليل وذكرِ الله فيه ؛ لأنّ الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه المخاطَب، وكل مَن عمل بذلك العمل، واتصف بتلك الصفة. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها المتزمّل بالعلوم والمعارف والأسرار، قُم الليل شكراً لِما أُسدي إليك من النعم الغزار، ولذلك لمّا امتثل هذا الأمر بغاية جهده حتى تفطّرت قدماه، قال :" أفلا أكون عبداً شكوراً " ١، وقيام الليل لا يخص بالصلاة، بل لكل مقام مقال، فقيام العُبَّاد والزُهَّاد للتهجد والتلاوة والأذكار والاستغفار بالأسحار، وقيام العارفين لفكرة الشهود والاستبصار، وهي صلاة القلوب الدائمة.
وقوله تعالى :﴿ ورتِّل القرآنَ ترتيلا ﴾ خطاب لأهل التهجُّد، وهم ألوان مختلفة، فمنهم مَن يقطع الليل في سورة أو آية يُرددها، وهم أهل الخوف المزعِج، أو الشوق المقلِق، ومنهم مَن يختم القرآن في مدة قليلة، فمنهم مَن كان يختمه في كل ليلة في ركعة، ومنهم مَن كان يختمه في ليلة مرتين، ومنهم مَن كان يختمه بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء. وكان أبو حنيفة والشافعي يختمانه في رمضان ستين مرة، وابن القاسم صاحب مالك تسعين مرة، وابن عباس مائة مرة، وكان سليمان بن عمير يختمه ثلاث ختمات في كل ليلة، ويجامع أهله بعد كل ختمة. وكان رجل بالمشرق، يُقال له " أبو عيسى التلمساني "، يختم القرآن بين اليوم والليلة اثنتي عشرة ألف مرة، فذكر ذلك بمدينة سبتة، بحضور الفقيه العزفي، فقال الفقيه : لون كان يقول : القرآن القرآن ما أتمّ اثنتي عشر ألف مرة، فاغتاظ الرجل الذي نقل ذلك، فخرج إلى المشرق، فأتى ببينةٍ مُصحِّحة من قاض إلى قاض بصحة ذلك.
قلت : وهذا من باب الخوارق التي تكون للصالحين، تطوي لهم مسافة الكلام كما تُطوى لهم مسافة الزمان والمكان، وقد كان داود عليه السلام تُسرج له دابته، فيقرأ الزبور قبل أن تُسرج، كما في الصحيح، وذكر الفرغاني في شرح التائية : أنَّ رجلاً كان يختم القرآن بين الحِجر إلى الركن اليماني، فأنكر بعضٌ ذلك عليه، فأخذ بأذنه وقرأ فيها من الفاتحة إلى الختم، وهو يسمع حرفاً حرفاً، فسبحان القادر على كل شيء ؟ !.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلا ﴾، قال القشيري :( ثقيلاً ) أي : له خطْر، ويقال : لا يقوى عليه إلاَّ مَن أيّد بقوة سماوية، ورُبّي في حجر التقريب. هـ. قال الورتجبي : وكيف لا يثقل قولهُ سبحانه وهو قديم، وأجدر أن تذوب تحت سطوات عزيته الأرواح والأشباح والأكوان والحدثان، بل هو بذاته يحمل صفاته لا غير، وكان عليه السلام مؤيداَ بالاتصاف بالحق، فكان يحمل الحق بالحق. هـ. المراد منه. ( إنَّ ناشئة الليل ) أي : نشأة الفكرة في الليل هي أشد وطأً، أي : موافقة، وغرقاً في بحر الذات، وتيار الصفات ؛ لتفرغ القلب حينئذ من شواغل الحس. وكان الشيخ " أبو يزيد " يخرج كل ليلة إلى الصحراء، ويبيت واقفاً على أطراف قدميه، شاخصاً ببصره إلى السماء، فقال لمَن رآه كذلك : دَوَّرَني الحق تعالى في الفلك العلوي والسفلي، وأطلعني على عجائب ملكوته... الخ كلامه، وما كانت إلاَّ فكرته غاصت في بحر الذات، ودارت مع التجليات العلوية والسفلية، ووقوفه في ذلك لغلبة الحال، ولله رجال في زماننا هذا يقلبون الوجود، ويَدُورون معه، وهم على فُرشهم، لتمكُّنهم من الشهود بلا تعب.
وقوله تعالى :﴿ إن لك في النهار سَبْحاً طويلا ﴾ السَبح هو العوم، أي : إنَّ لك في النهار عوماً طويلاً في بحار الأحدية، فاستغرق ليلك ونهارك في ذلك، واذكر اسم ربك بقلبك وروحك وسرك، وهو عين السَبْح المتقدم، وتبتّل إليه تبتيلاً في الظاهر والباطن، فبالتبتُّل يحصل الوصول، وبذكر الاسم باللسان يحصل الذكر للجنان، ثم يسبح في بحر العيان. رب المشرق والمغرب، أي : مشرق العيان ومغرب قمر الإيمان، بسطوع شمس العيان. لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً، وثِقْ به كفيلاً يعطك عطاءً جزيلاً، ويمنحك فخراً جليلاً، واصبر على ما يقولون في جانبك، فإنَّ الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور. ﴿ واهجرهم هجراً جميلاً ﴾، قال القشيري : أي : عاشِرهم بظاهرك، وبايِنْهم بسرِّك وقلبك، ويُقال : الهجرُ الجميل : ما يكون بحق ربك، لا بحظِّ نفسك. هـ.


١ أخرجه البخاري في الصلاة حديث ٤٤١، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٣٨..
وكان صلى الله عليه وسلم ذات ليلة متزمِّلاً في ثيابه نائماً، فنزل جبريل يأمره بقيام الليل بقوله :﴿ قمْ الليلَ ﴾ أي : قُم للصلاة بالليل، ف " الليل " نصب على الظرفية، و﴿ إلاَّ قليلاً ﴾ : استثناء من الليل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها المتزمّل بالعلوم والمعارف والأسرار، قُم الليل شكراً لِما أُسدي إليك من النعم الغزار، ولذلك لمّا امتثل هذا الأمر بغاية جهده حتى تفطّرت قدماه، قال :" أفلا أكون عبداً شكوراً " ١، وقيام الليل لا يخص بالصلاة، بل لكل مقام مقال، فقيام العُبَّاد والزُهَّاد للتهجد والتلاوة والأذكار والاستغفار بالأسحار، وقيام العارفين لفكرة الشهود والاستبصار، وهي صلاة القلوب الدائمة.
وقوله تعالى :﴿ ورتِّل القرآنَ ترتيلا ﴾ خطاب لأهل التهجُّد، وهم ألوان مختلفة، فمنهم مَن يقطع الليل في سورة أو آية يُرددها، وهم أهل الخوف المزعِج، أو الشوق المقلِق، ومنهم مَن يختم القرآن في مدة قليلة، فمنهم مَن كان يختمه في كل ليلة في ركعة، ومنهم مَن كان يختمه في ليلة مرتين، ومنهم مَن كان يختمه بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء. وكان أبو حنيفة والشافعي يختمانه في رمضان ستين مرة، وابن القاسم صاحب مالك تسعين مرة، وابن عباس مائة مرة، وكان سليمان بن عمير يختمه ثلاث ختمات في كل ليلة، ويجامع أهله بعد كل ختمة. وكان رجل بالمشرق، يُقال له " أبو عيسى التلمساني "، يختم القرآن بين اليوم والليلة اثنتي عشرة ألف مرة، فذكر ذلك بمدينة سبتة، بحضور الفقيه العزفي، فقال الفقيه : لون كان يقول : القرآن القرآن ما أتمّ اثنتي عشر ألف مرة، فاغتاظ الرجل الذي نقل ذلك، فخرج إلى المشرق، فأتى ببينةٍ مُصحِّحة من قاض إلى قاض بصحة ذلك.
قلت : وهذا من باب الخوارق التي تكون للصالحين، تطوي لهم مسافة الكلام كما تُطوى لهم مسافة الزمان والمكان، وقد كان داود عليه السلام تُسرج له دابته، فيقرأ الزبور قبل أن تُسرج، كما في الصحيح، وذكر الفرغاني في شرح التائية : أنَّ رجلاً كان يختم القرآن بين الحِجر إلى الركن اليماني، فأنكر بعضٌ ذلك عليه، فأخذ بأذنه وقرأ فيها من الفاتحة إلى الختم، وهو يسمع حرفاً حرفاً، فسبحان القادر على كل شيء ؟ !.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلا ﴾، قال القشيري :( ثقيلاً ) أي : له خطْر، ويقال : لا يقوى عليه إلاَّ مَن أيّد بقوة سماوية، ورُبّي في حجر التقريب. هـ. قال الورتجبي : وكيف لا يثقل قولهُ سبحانه وهو قديم، وأجدر أن تذوب تحت سطوات عزيته الأرواح والأشباح والأكوان والحدثان، بل هو بذاته يحمل صفاته لا غير، وكان عليه السلام مؤيداَ بالاتصاف بالحق، فكان يحمل الحق بالحق. هـ. المراد منه. ( إنَّ ناشئة الليل ) أي : نشأة الفكرة في الليل هي أشد وطأً، أي : موافقة، وغرقاً في بحر الذات، وتيار الصفات ؛ لتفرغ القلب حينئذ من شواغل الحس. وكان الشيخ " أبو يزيد " يخرج كل ليلة إلى الصحراء، ويبيت واقفاً على أطراف قدميه، شاخصاً ببصره إلى السماء، فقال لمَن رآه كذلك : دَوَّرَني الحق تعالى في الفلك العلوي والسفلي، وأطلعني على عجائب ملكوته... الخ كلامه، وما كانت إلاَّ فكرته غاصت في بحر الذات، ودارت مع التجليات العلوية والسفلية، ووقوفه في ذلك لغلبة الحال، ولله رجال في زماننا هذا يقلبون الوجود، ويَدُورون معه، وهم على فُرشهم، لتمكُّنهم من الشهود بلا تعب.
وقوله تعالى :﴿ إن لك في النهار سَبْحاً طويلا ﴾ السَبح هو العوم، أي : إنَّ لك في النهار عوماً طويلاً في بحار الأحدية، فاستغرق ليلك ونهارك في ذلك، واذكر اسم ربك بقلبك وروحك وسرك، وهو عين السَبْح المتقدم، وتبتّل إليه تبتيلاً في الظاهر والباطن، فبالتبتُّل يحصل الوصول، وبذكر الاسم باللسان يحصل الذكر للجنان، ثم يسبح في بحر العيان. رب المشرق والمغرب، أي : مشرق العيان ومغرب قمر الإيمان، بسطوع شمس العيان. لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً، وثِقْ به كفيلاً يعطك عطاءً جزيلاً، ويمنحك فخراً جليلاً، واصبر على ما يقولون في جانبك، فإنَّ الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور. ﴿ واهجرهم هجراً جميلاً ﴾، قال القشيري : أي : عاشِرهم بظاهرك، وبايِنْهم بسرِّك وقلبك، ويُقال : الهجرُ الجميل : ما يكون بحق ربك، لا بحظِّ نفسك. هـ.

و﴿ نِصْفَه ﴾ : بدل من " الليل " الباقي بعد الثنيا، بدل الكل، أي : قُم نصفه، أو : مِن " قليلاً "، والتعبير عن النصف المخرج بالقليل لإظهار كمال الاعتداد بشأن الجزاء المقارن للقيام، والإيذان بفضله، وكون القيام فيه بمنزلة القيام في أكثره في كثرة الثواب. ﴿ أو انقُصْ منه ﴾ ؛ من النصف نقصاً ﴿ قليلاً ﴾ إلى الثلث.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها المتزمّل بالعلوم والمعارف والأسرار، قُم الليل شكراً لِما أُسدي إليك من النعم الغزار، ولذلك لمّا امتثل هذا الأمر بغاية جهده حتى تفطّرت قدماه، قال :" أفلا أكون عبداً شكوراً " ١، وقيام الليل لا يخص بالصلاة، بل لكل مقام مقال، فقيام العُبَّاد والزُهَّاد للتهجد والتلاوة والأذكار والاستغفار بالأسحار، وقيام العارفين لفكرة الشهود والاستبصار، وهي صلاة القلوب الدائمة.
وقوله تعالى :﴿ ورتِّل القرآنَ ترتيلا ﴾ خطاب لأهل التهجُّد، وهم ألوان مختلفة، فمنهم مَن يقطع الليل في سورة أو آية يُرددها، وهم أهل الخوف المزعِج، أو الشوق المقلِق، ومنهم مَن يختم القرآن في مدة قليلة، فمنهم مَن كان يختمه في كل ليلة في ركعة، ومنهم مَن كان يختمه في ليلة مرتين، ومنهم مَن كان يختمه بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء. وكان أبو حنيفة والشافعي يختمانه في رمضان ستين مرة، وابن القاسم صاحب مالك تسعين مرة، وابن عباس مائة مرة، وكان سليمان بن عمير يختمه ثلاث ختمات في كل ليلة، ويجامع أهله بعد كل ختمة. وكان رجل بالمشرق، يُقال له " أبو عيسى التلمساني "، يختم القرآن بين اليوم والليلة اثنتي عشرة ألف مرة، فذكر ذلك بمدينة سبتة، بحضور الفقيه العزفي، فقال الفقيه : لون كان يقول : القرآن القرآن ما أتمّ اثنتي عشر ألف مرة، فاغتاظ الرجل الذي نقل ذلك، فخرج إلى المشرق، فأتى ببينةٍ مُصحِّحة من قاض إلى قاض بصحة ذلك.
قلت : وهذا من باب الخوارق التي تكون للصالحين، تطوي لهم مسافة الكلام كما تُطوى لهم مسافة الزمان والمكان، وقد كان داود عليه السلام تُسرج له دابته، فيقرأ الزبور قبل أن تُسرج، كما في الصحيح، وذكر الفرغاني في شرح التائية : أنَّ رجلاً كان يختم القرآن بين الحِجر إلى الركن اليماني، فأنكر بعضٌ ذلك عليه، فأخذ بأذنه وقرأ فيها من الفاتحة إلى الختم، وهو يسمع حرفاً حرفاً، فسبحان القادر على كل شيء ؟ !.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلا ﴾، قال القشيري :( ثقيلاً ) أي : له خطْر، ويقال : لا يقوى عليه إلاَّ مَن أيّد بقوة سماوية، ورُبّي في حجر التقريب. هـ. قال الورتجبي : وكيف لا يثقل قولهُ سبحانه وهو قديم، وأجدر أن تذوب تحت سطوات عزيته الأرواح والأشباح والأكوان والحدثان، بل هو بذاته يحمل صفاته لا غير، وكان عليه السلام مؤيداَ بالاتصاف بالحق، فكان يحمل الحق بالحق. هـ. المراد منه. ( إنَّ ناشئة الليل ) أي : نشأة الفكرة في الليل هي أشد وطأً، أي : موافقة، وغرقاً في بحر الذات، وتيار الصفات ؛ لتفرغ القلب حينئذ من شواغل الحس. وكان الشيخ " أبو يزيد " يخرج كل ليلة إلى الصحراء، ويبيت واقفاً على أطراف قدميه، شاخصاً ببصره إلى السماء، فقال لمَن رآه كذلك : دَوَّرَني الحق تعالى في الفلك العلوي والسفلي، وأطلعني على عجائب ملكوته... الخ كلامه، وما كانت إلاَّ فكرته غاصت في بحر الذات، ودارت مع التجليات العلوية والسفلية، ووقوفه في ذلك لغلبة الحال، ولله رجال في زماننا هذا يقلبون الوجود، ويَدُورون معه، وهم على فُرشهم، لتمكُّنهم من الشهود بلا تعب.
وقوله تعالى :﴿ إن لك في النهار سَبْحاً طويلا ﴾ السَبح هو العوم، أي : إنَّ لك في النهار عوماً طويلاً في بحار الأحدية، فاستغرق ليلك ونهارك في ذلك، واذكر اسم ربك بقلبك وروحك وسرك، وهو عين السَبْح المتقدم، وتبتّل إليه تبتيلاً في الظاهر والباطن، فبالتبتُّل يحصل الوصول، وبذكر الاسم باللسان يحصل الذكر للجنان، ثم يسبح في بحر العيان. رب المشرق والمغرب، أي : مشرق العيان ومغرب قمر الإيمان، بسطوع شمس العيان. لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً، وثِقْ به كفيلاً يعطك عطاءً جزيلاً، ويمنحك فخراً جليلاً، واصبر على ما يقولون في جانبك، فإنَّ الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور. ﴿ واهجرهم هجراً جميلاً ﴾، قال القشيري : أي : عاشِرهم بظاهرك، وبايِنْهم بسرِّك وقلبك، ويُقال : الهجرُ الجميل : ما يكون بحق ربك، لا بحظِّ نفسك. هـ.

﴿ أو زِدْ عليه ﴾، على النصف إلى الثلثين، فالمعنى : تخييره صلى الله عليه وسلم بين أن يقوم نصفَه أو أقلّ منه أو أكثر. وقيل :" نصفه " بدل من " الليل "، و " إلاّ قليلاً " مستثنى من النصف، فالضمير في " منه " و " عليه " للنصف، والمعنى : التخيير بين أمرين، بين أن يقوم أقل من نصف على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين، وهما النقصان من النصف، والزيادة عليه، والذي يليق بجزالة التنزيل هو الأول. انظر أبا السعود.
والجمهور : أن الأمر هنا للندب، وقيل : كان فرضاً وقت نزول الآية، وقيل : كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وبقي كذلك حتى تُوفي.
﴿ وَرَتِّلِ القرآن ﴾ في أثناء قيامك بالليل، أي : اقرأه على تُؤدة وتبيين حروفٍ ترتيلاً بليغاً بحيث يتمكن السامع مِن عَدٍّها، من قولهم : ثغر رَتَل : إذا كان مفلّجا. وترتيلُ القرآن واجب، فمَن لم يرتِّله فهو آثم إذا أخلَّ بشيء من أداء التجويد، كترك الإشباع أو غيره. والمقصود من الترتيل : تدبُّر المعاني، وإجالة الفكر في أسرار القرآن. قال في الإحياء : واعلم أنّ الترتيل أشد تأثيراً في القلب من الهذرمة والاستعجال، والمقصود من القرآن : التفكُّر، والترتيلُ مُعين عليه. وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها المتزمّل بالعلوم والمعارف والأسرار، قُم الليل شكراً لِما أُسدي إليك من النعم الغزار، ولذلك لمّا امتثل هذا الأمر بغاية جهده حتى تفطّرت قدماه، قال :" أفلا أكون عبداً شكوراً " ١، وقيام الليل لا يخص بالصلاة، بل لكل مقام مقال، فقيام العُبَّاد والزُهَّاد للتهجد والتلاوة والأذكار والاستغفار بالأسحار، وقيام العارفين لفكرة الشهود والاستبصار، وهي صلاة القلوب الدائمة.
وقوله تعالى :﴿ ورتِّل القرآنَ ترتيلا ﴾ خطاب لأهل التهجُّد، وهم ألوان مختلفة، فمنهم مَن يقطع الليل في سورة أو آية يُرددها، وهم أهل الخوف المزعِج، أو الشوق المقلِق، ومنهم مَن يختم القرآن في مدة قليلة، فمنهم مَن كان يختمه في كل ليلة في ركعة، ومنهم مَن كان يختمه في ليلة مرتين، ومنهم مَن كان يختمه بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء. وكان أبو حنيفة والشافعي يختمانه في رمضان ستين مرة، وابن القاسم صاحب مالك تسعين مرة، وابن عباس مائة مرة، وكان سليمان بن عمير يختمه ثلاث ختمات في كل ليلة، ويجامع أهله بعد كل ختمة. وكان رجل بالمشرق، يُقال له " أبو عيسى التلمساني "، يختم القرآن بين اليوم والليلة اثنتي عشرة ألف مرة، فذكر ذلك بمدينة سبتة، بحضور الفقيه العزفي، فقال الفقيه : لون كان يقول : القرآن القرآن ما أتمّ اثنتي عشر ألف مرة، فاغتاظ الرجل الذي نقل ذلك، فخرج إلى المشرق، فأتى ببينةٍ مُصحِّحة من قاض إلى قاض بصحة ذلك.
قلت : وهذا من باب الخوارق التي تكون للصالحين، تطوي لهم مسافة الكلام كما تُطوى لهم مسافة الزمان والمكان، وقد كان داود عليه السلام تُسرج له دابته، فيقرأ الزبور قبل أن تُسرج، كما في الصحيح، وذكر الفرغاني في شرح التائية : أنَّ رجلاً كان يختم القرآن بين الحِجر إلى الركن اليماني، فأنكر بعضٌ ذلك عليه، فأخذ بأذنه وقرأ فيها من الفاتحة إلى الختم، وهو يسمع حرفاً حرفاً، فسبحان القادر على كل شيء ؟ !.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلا ﴾، قال القشيري :( ثقيلاً ) أي : له خطْر، ويقال : لا يقوى عليه إلاَّ مَن أيّد بقوة سماوية، ورُبّي في حجر التقريب. هـ. قال الورتجبي : وكيف لا يثقل قولهُ سبحانه وهو قديم، وأجدر أن تذوب تحت سطوات عزيته الأرواح والأشباح والأكوان والحدثان، بل هو بذاته يحمل صفاته لا غير، وكان عليه السلام مؤيداَ بالاتصاف بالحق، فكان يحمل الحق بالحق. هـ. المراد منه. ( إنَّ ناشئة الليل ) أي : نشأة الفكرة في الليل هي أشد وطأً، أي : موافقة، وغرقاً في بحر الذات، وتيار الصفات ؛ لتفرغ القلب حينئذ من شواغل الحس. وكان الشيخ " أبو يزيد " يخرج كل ليلة إلى الصحراء، ويبيت واقفاً على أطراف قدميه، شاخصاً ببصره إلى السماء، فقال لمَن رآه كذلك : دَوَّرَني الحق تعالى في الفلك العلوي والسفلي، وأطلعني على عجائب ملكوته... الخ كلامه، وما كانت إلاَّ فكرته غاصت في بحر الذات، ودارت مع التجليات العلوية والسفلية، ووقوفه في ذلك لغلبة الحال، ولله رجال في زماننا هذا يقلبون الوجود، ويَدُورون معه، وهم على فُرشهم، لتمكُّنهم من الشهود بلا تعب.
وقوله تعالى :﴿ إن لك في النهار سَبْحاً طويلا ﴾ السَبح هو العوم، أي : إنَّ لك في النهار عوماً طويلاً في بحار الأحدية، فاستغرق ليلك ونهارك في ذلك، واذكر اسم ربك بقلبك وروحك وسرك، وهو عين السَبْح المتقدم، وتبتّل إليه تبتيلاً في الظاهر والباطن، فبالتبتُّل يحصل الوصول، وبذكر الاسم باللسان يحصل الذكر للجنان، ثم يسبح في بحر العيان. رب المشرق والمغرب، أي : مشرق العيان ومغرب قمر الإيمان، بسطوع شمس العيان. لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً، وثِقْ به كفيلاً يعطك عطاءً جزيلاً، ويمنحك فخراً جليلاً، واصبر على ما يقولون في جانبك، فإنَّ الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور. ﴿ واهجرهم هجراً جميلاً ﴾، قال القشيري : أي : عاشِرهم بظاهرك، وبايِنْهم بسرِّك وقلبك، ويُقال : الهجرُ الجميل : ما يكون بحق ربك، لا بحظِّ نفسك. هـ.

﴿ إِنَّا سنُلْقِي ﴾ أي : سنُنزل ﴿ عليك قولاً ثقيلاً ﴾ وهو القرآن العظيم، المنطوي على تكاليف شاقة ثقيلة على المكلّفين، أو : ثقيلاً على المنافقين، أو : ثقيلاً لرزانة لفظه، ومتانة معناه، أو : ثقيلاً على المتأمِّل ؛ لافتقاره إلى مزيد تأمُّل وتفرُّغ للسر، وتجريدٍ للنظر، أو ثقيلاً في الميزان، أو ثقيلاً تلقيه من جبريل، فقد كان عليه السلام ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البردِ، فَيَفْصِم عنه، وإنّ جبينه لَيتَفَصَّدُ عَرَقاً١.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها المتزمّل بالعلوم والمعارف والأسرار، قُم الليل شكراً لِما أُسدي إليك من النعم الغزار، ولذلك لمّا امتثل هذا الأمر بغاية جهده حتى تفطّرت قدماه، قال :" أفلا أكون عبداً شكوراً " ١، وقيام الليل لا يخص بالصلاة، بل لكل مقام مقال، فقيام العُبَّاد والزُهَّاد للتهجد والتلاوة والأذكار والاستغفار بالأسحار، وقيام العارفين لفكرة الشهود والاستبصار، وهي صلاة القلوب الدائمة.
وقوله تعالى :﴿ ورتِّل القرآنَ ترتيلا ﴾ خطاب لأهل التهجُّد، وهم ألوان مختلفة، فمنهم مَن يقطع الليل في سورة أو آية يُرددها، وهم أهل الخوف المزعِج، أو الشوق المقلِق، ومنهم مَن يختم القرآن في مدة قليلة، فمنهم مَن كان يختمه في كل ليلة في ركعة، ومنهم مَن كان يختمه في ليلة مرتين، ومنهم مَن كان يختمه بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء. وكان أبو حنيفة والشافعي يختمانه في رمضان ستين مرة، وابن القاسم صاحب مالك تسعين مرة، وابن عباس مائة مرة، وكان سليمان بن عمير يختمه ثلاث ختمات في كل ليلة، ويجامع أهله بعد كل ختمة. وكان رجل بالمشرق، يُقال له " أبو عيسى التلمساني "، يختم القرآن بين اليوم والليلة اثنتي عشرة ألف مرة، فذكر ذلك بمدينة سبتة، بحضور الفقيه العزفي، فقال الفقيه : لون كان يقول : القرآن القرآن ما أتمّ اثنتي عشر ألف مرة، فاغتاظ الرجل الذي نقل ذلك، فخرج إلى المشرق، فأتى ببينةٍ مُصحِّحة من قاض إلى قاض بصحة ذلك.
قلت : وهذا من باب الخوارق التي تكون للصالحين، تطوي لهم مسافة الكلام كما تُطوى لهم مسافة الزمان والمكان، وقد كان داود عليه السلام تُسرج له دابته، فيقرأ الزبور قبل أن تُسرج، كما في الصحيح، وذكر الفرغاني في شرح التائية : أنَّ رجلاً كان يختم القرآن بين الحِجر إلى الركن اليماني، فأنكر بعضٌ ذلك عليه، فأخذ بأذنه وقرأ فيها من الفاتحة إلى الختم، وهو يسمع حرفاً حرفاً، فسبحان القادر على كل شيء ؟ !.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلا ﴾، قال القشيري :( ثقيلاً ) أي : له خطْر، ويقال : لا يقوى عليه إلاَّ مَن أيّد بقوة سماوية، ورُبّي في حجر التقريب. هـ. قال الورتجبي : وكيف لا يثقل قولهُ سبحانه وهو قديم، وأجدر أن تذوب تحت سطوات عزيته الأرواح والأشباح والأكوان والحدثان، بل هو بذاته يحمل صفاته لا غير، وكان عليه السلام مؤيداَ بالاتصاف بالحق، فكان يحمل الحق بالحق. هـ. المراد منه. ( إنَّ ناشئة الليل ) أي : نشأة الفكرة في الليل هي أشد وطأً، أي : موافقة، وغرقاً في بحر الذات، وتيار الصفات ؛ لتفرغ القلب حينئذ من شواغل الحس. وكان الشيخ " أبو يزيد " يخرج كل ليلة إلى الصحراء، ويبيت واقفاً على أطراف قدميه، شاخصاً ببصره إلى السماء، فقال لمَن رآه كذلك : دَوَّرَني الحق تعالى في الفلك العلوي والسفلي، وأطلعني على عجائب ملكوته... الخ كلامه، وما كانت إلاَّ فكرته غاصت في بحر الذات، ودارت مع التجليات العلوية والسفلية، ووقوفه في ذلك لغلبة الحال، ولله رجال في زماننا هذا يقلبون الوجود، ويَدُورون معه، وهم على فُرشهم، لتمكُّنهم من الشهود بلا تعب.
وقوله تعالى :﴿ إن لك في النهار سَبْحاً طويلا ﴾ السَبح هو العوم، أي : إنَّ لك في النهار عوماً طويلاً في بحار الأحدية، فاستغرق ليلك ونهارك في ذلك، واذكر اسم ربك بقلبك وروحك وسرك، وهو عين السَبْح المتقدم، وتبتّل إليه تبتيلاً في الظاهر والباطن، فبالتبتُّل يحصل الوصول، وبذكر الاسم باللسان يحصل الذكر للجنان، ثم يسبح في بحر العيان. رب المشرق والمغرب، أي : مشرق العيان ومغرب قمر الإيمان، بسطوع شمس العيان. لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً، وثِقْ به كفيلاً يعطك عطاءً جزيلاً، ويمنحك فخراً جليلاً، واصبر على ما يقولون في جانبك، فإنَّ الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور. ﴿ واهجرهم هجراً جميلاً ﴾، قال القشيري : أي : عاشِرهم بظاهرك، وبايِنْهم بسرِّك وقلبك، ويُقال : الهجرُ الجميل : ما يكون بحق ربك، لا بحظِّ نفسك. هـ.


١ أخرجه البخاري في بدء الوحي حديث ٢، ومسلم في الفضائل حديث ٨٧..
﴿ إِن ناشئةَ الليلِ ﴾ أي : قيام الليل، مصدر من " نشأ " إذا قام ونهض، على وزن فاعلة، كالعافية العاقبة، أو : إنَّ النفس التي تنشأ مِن مضجعها إلى العبادة، أي : تنهض، أو : إن العبادة التي تنشأ بالليل، أي : تحدث، أو : ساعات الليل ؛ لأنها تنشأ ساعة فساعة، وكان زين العابدين يُصلّي بين العشاءين ويقول : هذه ناشئة الليل. قلت : وهذا وقت كان السلف يحرصون على عمارته بأنواع العبادات ؛ لأنه يمحوا ظلمة النهار التي تُكتسب من شغل الدنيا. ﴿ هي أشَدُّ وَطْأً ﴾ أي : موافقة للقلب. وقرأ البصري والشامي ( وِطاء ) أي : وِفاقاً، أي : يوافق فيها القلبُ اللسانَ، وعن الحسن : أشدّ موافقة بين السر والعلانية ؛ لانقطاع رؤية الخلائق وغيرها، أو : أشدّ ثباتَ قَدَم وكلفة، أي : أثقل على المصلي من صلاة النهار ؛ لطرد النوم في وقته، من قوله عليه السلام :" اللهم اشْدُدْ وطْأَتَك على مُضَرَ " ١ ﴿ وأقْوَمُ قِيلاً ﴾ أي : أصْوب مقالاً، وبه قرأ أنس، فقيل له : إنما هو أقوم فقال : أقوم وأصوب واحد، وإنما كانت قراءة الليل أصوب قولاً ؛ لقلة خطأ اللسان فيها ؛ لتفرُّغه من ثقل الطعام، وقيل : المعنى : أثبت قراءةً ؛ لحضور القلب ؛ لهدوّ الأصوات، وانقطاع الحركات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها المتزمّل بالعلوم والمعارف والأسرار، قُم الليل شكراً لِما أُسدي إليك من النعم الغزار، ولذلك لمّا امتثل هذا الأمر بغاية جهده حتى تفطّرت قدماه، قال :" أفلا أكون عبداً شكوراً " ١، وقيام الليل لا يخص بالصلاة، بل لكل مقام مقال، فقيام العُبَّاد والزُهَّاد للتهجد والتلاوة والأذكار والاستغفار بالأسحار، وقيام العارفين لفكرة الشهود والاستبصار، وهي صلاة القلوب الدائمة.
وقوله تعالى :﴿ ورتِّل القرآنَ ترتيلا ﴾ خطاب لأهل التهجُّد، وهم ألوان مختلفة، فمنهم مَن يقطع الليل في سورة أو آية يُرددها، وهم أهل الخوف المزعِج، أو الشوق المقلِق، ومنهم مَن يختم القرآن في مدة قليلة، فمنهم مَن كان يختمه في كل ليلة في ركعة، ومنهم مَن كان يختمه في ليلة مرتين، ومنهم مَن كان يختمه بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء. وكان أبو حنيفة والشافعي يختمانه في رمضان ستين مرة، وابن القاسم صاحب مالك تسعين مرة، وابن عباس مائة مرة، وكان سليمان بن عمير يختمه ثلاث ختمات في كل ليلة، ويجامع أهله بعد كل ختمة. وكان رجل بالمشرق، يُقال له " أبو عيسى التلمساني "، يختم القرآن بين اليوم والليلة اثنتي عشرة ألف مرة، فذكر ذلك بمدينة سبتة، بحضور الفقيه العزفي، فقال الفقيه : لون كان يقول : القرآن القرآن ما أتمّ اثنتي عشر ألف مرة، فاغتاظ الرجل الذي نقل ذلك، فخرج إلى المشرق، فأتى ببينةٍ مُصحِّحة من قاض إلى قاض بصحة ذلك.
قلت : وهذا من باب الخوارق التي تكون للصالحين، تطوي لهم مسافة الكلام كما تُطوى لهم مسافة الزمان والمكان، وقد كان داود عليه السلام تُسرج له دابته، فيقرأ الزبور قبل أن تُسرج، كما في الصحيح، وذكر الفرغاني في شرح التائية : أنَّ رجلاً كان يختم القرآن بين الحِجر إلى الركن اليماني، فأنكر بعضٌ ذلك عليه، فأخذ بأذنه وقرأ فيها من الفاتحة إلى الختم، وهو يسمع حرفاً حرفاً، فسبحان القادر على كل شيء ؟ !.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلا ﴾، قال القشيري :( ثقيلاً ) أي : له خطْر، ويقال : لا يقوى عليه إلاَّ مَن أيّد بقوة سماوية، ورُبّي في حجر التقريب. هـ. قال الورتجبي : وكيف لا يثقل قولهُ سبحانه وهو قديم، وأجدر أن تذوب تحت سطوات عزيته الأرواح والأشباح والأكوان والحدثان، بل هو بذاته يحمل صفاته لا غير، وكان عليه السلام مؤيداَ بالاتصاف بالحق، فكان يحمل الحق بالحق. هـ. المراد منه. ( إنَّ ناشئة الليل ) أي : نشأة الفكرة في الليل هي أشد وطأً، أي : موافقة، وغرقاً في بحر الذات، وتيار الصفات ؛ لتفرغ القلب حينئذ من شواغل الحس. وكان الشيخ " أبو يزيد " يخرج كل ليلة إلى الصحراء، ويبيت واقفاً على أطراف قدميه، شاخصاً ببصره إلى السماء، فقال لمَن رآه كذلك : دَوَّرَني الحق تعالى في الفلك العلوي والسفلي، وأطلعني على عجائب ملكوته... الخ كلامه، وما كانت إلاَّ فكرته غاصت في بحر الذات، ودارت مع التجليات العلوية والسفلية، ووقوفه في ذلك لغلبة الحال، ولله رجال في زماننا هذا يقلبون الوجود، ويَدُورون معه، وهم على فُرشهم، لتمكُّنهم من الشهود بلا تعب.
وقوله تعالى :﴿ إن لك في النهار سَبْحاً طويلا ﴾ السَبح هو العوم، أي : إنَّ لك في النهار عوماً طويلاً في بحار الأحدية، فاستغرق ليلك ونهارك في ذلك، واذكر اسم ربك بقلبك وروحك وسرك، وهو عين السَبْح المتقدم، وتبتّل إليه تبتيلاً في الظاهر والباطن، فبالتبتُّل يحصل الوصول، وبذكر الاسم باللسان يحصل الذكر للجنان، ثم يسبح في بحر العيان. رب المشرق والمغرب، أي : مشرق العيان ومغرب قمر الإيمان، بسطوع شمس العيان. لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً، وثِقْ به كفيلاً يعطك عطاءً جزيلاً، ويمنحك فخراً جليلاً، واصبر على ما يقولون في جانبك، فإنَّ الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور. ﴿ واهجرهم هجراً جميلاً ﴾، قال القشيري : أي : عاشِرهم بظاهرك، وبايِنْهم بسرِّك وقلبك، ويُقال : الهجرُ الجميل : ما يكون بحق ربك، لا بحظِّ نفسك. هـ.


١ أخرجه البخاري في الدعوات حديث ٦٣٩٣، ومسلم في المساجد حديث ٢٩٤..
﴿ إِنّ لك في النهار سَبْحاً طويلاً ﴾ أي : تصرُّفاً وتقلُّباً في مهمّاتك، واشتغالاً بتعليم أمتك، فتفرّغ بالليل لعبادة ربك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها المتزمّل بالعلوم والمعارف والأسرار، قُم الليل شكراً لِما أُسدي إليك من النعم الغزار، ولذلك لمّا امتثل هذا الأمر بغاية جهده حتى تفطّرت قدماه، قال :" أفلا أكون عبداً شكوراً " ١، وقيام الليل لا يخص بالصلاة، بل لكل مقام مقال، فقيام العُبَّاد والزُهَّاد للتهجد والتلاوة والأذكار والاستغفار بالأسحار، وقيام العارفين لفكرة الشهود والاستبصار، وهي صلاة القلوب الدائمة.
وقوله تعالى :﴿ ورتِّل القرآنَ ترتيلا ﴾ خطاب لأهل التهجُّد، وهم ألوان مختلفة، فمنهم مَن يقطع الليل في سورة أو آية يُرددها، وهم أهل الخوف المزعِج، أو الشوق المقلِق، ومنهم مَن يختم القرآن في مدة قليلة، فمنهم مَن كان يختمه في كل ليلة في ركعة، ومنهم مَن كان يختمه في ليلة مرتين، ومنهم مَن كان يختمه بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء. وكان أبو حنيفة والشافعي يختمانه في رمضان ستين مرة، وابن القاسم صاحب مالك تسعين مرة، وابن عباس مائة مرة، وكان سليمان بن عمير يختمه ثلاث ختمات في كل ليلة، ويجامع أهله بعد كل ختمة. وكان رجل بالمشرق، يُقال له " أبو عيسى التلمساني "، يختم القرآن بين اليوم والليلة اثنتي عشرة ألف مرة، فذكر ذلك بمدينة سبتة، بحضور الفقيه العزفي، فقال الفقيه : لون كان يقول : القرآن القرآن ما أتمّ اثنتي عشر ألف مرة، فاغتاظ الرجل الذي نقل ذلك، فخرج إلى المشرق، فأتى ببينةٍ مُصحِّحة من قاض إلى قاض بصحة ذلك.
قلت : وهذا من باب الخوارق التي تكون للصالحين، تطوي لهم مسافة الكلام كما تُطوى لهم مسافة الزمان والمكان، وقد كان داود عليه السلام تُسرج له دابته، فيقرأ الزبور قبل أن تُسرج، كما في الصحيح، وذكر الفرغاني في شرح التائية : أنَّ رجلاً كان يختم القرآن بين الحِجر إلى الركن اليماني، فأنكر بعضٌ ذلك عليه، فأخذ بأذنه وقرأ فيها من الفاتحة إلى الختم، وهو يسمع حرفاً حرفاً، فسبحان القادر على كل شيء ؟ !.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلا ﴾، قال القشيري :( ثقيلاً ) أي : له خطْر، ويقال : لا يقوى عليه إلاَّ مَن أيّد بقوة سماوية، ورُبّي في حجر التقريب. هـ. قال الورتجبي : وكيف لا يثقل قولهُ سبحانه وهو قديم، وأجدر أن تذوب تحت سطوات عزيته الأرواح والأشباح والأكوان والحدثان، بل هو بذاته يحمل صفاته لا غير، وكان عليه السلام مؤيداَ بالاتصاف بالحق، فكان يحمل الحق بالحق. هـ. المراد منه. ( إنَّ ناشئة الليل ) أي : نشأة الفكرة في الليل هي أشد وطأً، أي : موافقة، وغرقاً في بحر الذات، وتيار الصفات ؛ لتفرغ القلب حينئذ من شواغل الحس. وكان الشيخ " أبو يزيد " يخرج كل ليلة إلى الصحراء، ويبيت واقفاً على أطراف قدميه، شاخصاً ببصره إلى السماء، فقال لمَن رآه كذلك : دَوَّرَني الحق تعالى في الفلك العلوي والسفلي، وأطلعني على عجائب ملكوته... الخ كلامه، وما كانت إلاَّ فكرته غاصت في بحر الذات، ودارت مع التجليات العلوية والسفلية، ووقوفه في ذلك لغلبة الحال، ولله رجال في زماننا هذا يقلبون الوجود، ويَدُورون معه، وهم على فُرشهم، لتمكُّنهم من الشهود بلا تعب.
وقوله تعالى :﴿ إن لك في النهار سَبْحاً طويلا ﴾ السَبح هو العوم، أي : إنَّ لك في النهار عوماً طويلاً في بحار الأحدية، فاستغرق ليلك ونهارك في ذلك، واذكر اسم ربك بقلبك وروحك وسرك، وهو عين السَبْح المتقدم، وتبتّل إليه تبتيلاً في الظاهر والباطن، فبالتبتُّل يحصل الوصول، وبذكر الاسم باللسان يحصل الذكر للجنان، ثم يسبح في بحر العيان. رب المشرق والمغرب، أي : مشرق العيان ومغرب قمر الإيمان، بسطوع شمس العيان. لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً، وثِقْ به كفيلاً يعطك عطاءً جزيلاً، ويمنحك فخراً جليلاً، واصبر على ما يقولون في جانبك، فإنَّ الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور. ﴿ واهجرهم هجراً جميلاً ﴾، قال القشيري : أي : عاشِرهم بظاهرك، وبايِنْهم بسرِّك وقلبك، ويُقال : الهجرُ الجميل : ما يكون بحق ربك، لا بحظِّ نفسك. هـ.

﴿ واذكر اسْمَ ربك ﴾ أي : دُم على ذكره في الليل والنهار، على أي وجهٍ، من تسبيح وتهليل وتكبير، وقراءة قرآن، وتدريس علم. ﴿ وتبتلْ إِليه ﴾ أي : انقطع إلى عبادته عن كل شيءٍ، بمجامع الهمة، واستغراق العزيمة. والتبتُّل : الانقطاع إلى الله تعالى بتأميل الخير منه دون غيره، وقيل : رفض الدنيا وما فيها، والتماس ما عند الله. وأكّده بقوله :﴿ تبتيلا ﴾ زيادةً في التحريض، مع ما فيه من رعاية الفواصل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها المتزمّل بالعلوم والمعارف والأسرار، قُم الليل شكراً لِما أُسدي إليك من النعم الغزار، ولذلك لمّا امتثل هذا الأمر بغاية جهده حتى تفطّرت قدماه، قال :" أفلا أكون عبداً شكوراً " ١، وقيام الليل لا يخص بالصلاة، بل لكل مقام مقال، فقيام العُبَّاد والزُهَّاد للتهجد والتلاوة والأذكار والاستغفار بالأسحار، وقيام العارفين لفكرة الشهود والاستبصار، وهي صلاة القلوب الدائمة.
وقوله تعالى :﴿ ورتِّل القرآنَ ترتيلا ﴾ خطاب لأهل التهجُّد، وهم ألوان مختلفة، فمنهم مَن يقطع الليل في سورة أو آية يُرددها، وهم أهل الخوف المزعِج، أو الشوق المقلِق، ومنهم مَن يختم القرآن في مدة قليلة، فمنهم مَن كان يختمه في كل ليلة في ركعة، ومنهم مَن كان يختمه في ليلة مرتين، ومنهم مَن كان يختمه بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء. وكان أبو حنيفة والشافعي يختمانه في رمضان ستين مرة، وابن القاسم صاحب مالك تسعين مرة، وابن عباس مائة مرة، وكان سليمان بن عمير يختمه ثلاث ختمات في كل ليلة، ويجامع أهله بعد كل ختمة. وكان رجل بالمشرق، يُقال له " أبو عيسى التلمساني "، يختم القرآن بين اليوم والليلة اثنتي عشرة ألف مرة، فذكر ذلك بمدينة سبتة، بحضور الفقيه العزفي، فقال الفقيه : لون كان يقول : القرآن القرآن ما أتمّ اثنتي عشر ألف مرة، فاغتاظ الرجل الذي نقل ذلك، فخرج إلى المشرق، فأتى ببينةٍ مُصحِّحة من قاض إلى قاض بصحة ذلك.
قلت : وهذا من باب الخوارق التي تكون للصالحين، تطوي لهم مسافة الكلام كما تُطوى لهم مسافة الزمان والمكان، وقد كان داود عليه السلام تُسرج له دابته، فيقرأ الزبور قبل أن تُسرج، كما في الصحيح، وذكر الفرغاني في شرح التائية : أنَّ رجلاً كان يختم القرآن بين الحِجر إلى الركن اليماني، فأنكر بعضٌ ذلك عليه، فأخذ بأذنه وقرأ فيها من الفاتحة إلى الختم، وهو يسمع حرفاً حرفاً، فسبحان القادر على كل شيء ؟ !.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلا ﴾، قال القشيري :( ثقيلاً ) أي : له خطْر، ويقال : لا يقوى عليه إلاَّ مَن أيّد بقوة سماوية، ورُبّي في حجر التقريب. هـ. قال الورتجبي : وكيف لا يثقل قولهُ سبحانه وهو قديم، وأجدر أن تذوب تحت سطوات عزيته الأرواح والأشباح والأكوان والحدثان، بل هو بذاته يحمل صفاته لا غير، وكان عليه السلام مؤيداَ بالاتصاف بالحق، فكان يحمل الحق بالحق. هـ. المراد منه. ( إنَّ ناشئة الليل ) أي : نشأة الفكرة في الليل هي أشد وطأً، أي : موافقة، وغرقاً في بحر الذات، وتيار الصفات ؛ لتفرغ القلب حينئذ من شواغل الحس. وكان الشيخ " أبو يزيد " يخرج كل ليلة إلى الصحراء، ويبيت واقفاً على أطراف قدميه، شاخصاً ببصره إلى السماء، فقال لمَن رآه كذلك : دَوَّرَني الحق تعالى في الفلك العلوي والسفلي، وأطلعني على عجائب ملكوته... الخ كلامه، وما كانت إلاَّ فكرته غاصت في بحر الذات، ودارت مع التجليات العلوية والسفلية، ووقوفه في ذلك لغلبة الحال، ولله رجال في زماننا هذا يقلبون الوجود، ويَدُورون معه، وهم على فُرشهم، لتمكُّنهم من الشهود بلا تعب.
وقوله تعالى :﴿ إن لك في النهار سَبْحاً طويلا ﴾ السَبح هو العوم، أي : إنَّ لك في النهار عوماً طويلاً في بحار الأحدية، فاستغرق ليلك ونهارك في ذلك، واذكر اسم ربك بقلبك وروحك وسرك، وهو عين السَبْح المتقدم، وتبتّل إليه تبتيلاً في الظاهر والباطن، فبالتبتُّل يحصل الوصول، وبذكر الاسم باللسان يحصل الذكر للجنان، ثم يسبح في بحر العيان. رب المشرق والمغرب، أي : مشرق العيان ومغرب قمر الإيمان، بسطوع شمس العيان. لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً، وثِقْ به كفيلاً يعطك عطاءً جزيلاً، ويمنحك فخراً جليلاً، واصبر على ما يقولون في جانبك، فإنَّ الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور. ﴿ واهجرهم هجراً جميلاً ﴾، قال القشيري : أي : عاشِرهم بظاهرك، وبايِنْهم بسرِّك وقلبك، ويُقال : الهجرُ الجميل : ما يكون بحق ربك، لا بحظِّ نفسك. هـ.

﴿ ربُّ المشرقِ والمغربِ ﴾ أي : هو رب، أو : مبتدأ خبره :﴿ لا إِله إلاّ هو ﴾، ومَن قرأه بالجر فبدل من " ربك "، وقيل : على إضمار القسم، وجوابه : لا إله إلاّ هو، أي : وربِّ المشرق لا إله إلا هو، كقولك : والله لا أحد في الدار. ﴿ فاتَّخِذْه وَكِيلا ﴾ أي : وليًّا وكفيلاً بما وعدك من النصر والعز. والفاء لترتيب ما قبله، أي : إذا علمت أنه ملك المشرق والمغرب، وأن لا إله إلا هو، فاتخذه كفيلاً لأمورك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها المتزمّل بالعلوم والمعارف والأسرار، قُم الليل شكراً لِما أُسدي إليك من النعم الغزار، ولذلك لمّا امتثل هذا الأمر بغاية جهده حتى تفطّرت قدماه، قال :" أفلا أكون عبداً شكوراً " ١، وقيام الليل لا يخص بالصلاة، بل لكل مقام مقال، فقيام العُبَّاد والزُهَّاد للتهجد والتلاوة والأذكار والاستغفار بالأسحار، وقيام العارفين لفكرة الشهود والاستبصار، وهي صلاة القلوب الدائمة.
وقوله تعالى :﴿ ورتِّل القرآنَ ترتيلا ﴾ خطاب لأهل التهجُّد، وهم ألوان مختلفة، فمنهم مَن يقطع الليل في سورة أو آية يُرددها، وهم أهل الخوف المزعِج، أو الشوق المقلِق، ومنهم مَن يختم القرآن في مدة قليلة، فمنهم مَن كان يختمه في كل ليلة في ركعة، ومنهم مَن كان يختمه في ليلة مرتين، ومنهم مَن كان يختمه بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء. وكان أبو حنيفة والشافعي يختمانه في رمضان ستين مرة، وابن القاسم صاحب مالك تسعين مرة، وابن عباس مائة مرة، وكان سليمان بن عمير يختمه ثلاث ختمات في كل ليلة، ويجامع أهله بعد كل ختمة. وكان رجل بالمشرق، يُقال له " أبو عيسى التلمساني "، يختم القرآن بين اليوم والليلة اثنتي عشرة ألف مرة، فذكر ذلك بمدينة سبتة، بحضور الفقيه العزفي، فقال الفقيه : لون كان يقول : القرآن القرآن ما أتمّ اثنتي عشر ألف مرة، فاغتاظ الرجل الذي نقل ذلك، فخرج إلى المشرق، فأتى ببينةٍ مُصحِّحة من قاض إلى قاض بصحة ذلك.
قلت : وهذا من باب الخوارق التي تكون للصالحين، تطوي لهم مسافة الكلام كما تُطوى لهم مسافة الزمان والمكان، وقد كان داود عليه السلام تُسرج له دابته، فيقرأ الزبور قبل أن تُسرج، كما في الصحيح، وذكر الفرغاني في شرح التائية : أنَّ رجلاً كان يختم القرآن بين الحِجر إلى الركن اليماني، فأنكر بعضٌ ذلك عليه، فأخذ بأذنه وقرأ فيها من الفاتحة إلى الختم، وهو يسمع حرفاً حرفاً، فسبحان القادر على كل شيء ؟ !.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلا ﴾، قال القشيري :( ثقيلاً ) أي : له خطْر، ويقال : لا يقوى عليه إلاَّ مَن أيّد بقوة سماوية، ورُبّي في حجر التقريب. هـ. قال الورتجبي : وكيف لا يثقل قولهُ سبحانه وهو قديم، وأجدر أن تذوب تحت سطوات عزيته الأرواح والأشباح والأكوان والحدثان، بل هو بذاته يحمل صفاته لا غير، وكان عليه السلام مؤيداَ بالاتصاف بالحق، فكان يحمل الحق بالحق. هـ. المراد منه. ( إنَّ ناشئة الليل ) أي : نشأة الفكرة في الليل هي أشد وطأً، أي : موافقة، وغرقاً في بحر الذات، وتيار الصفات ؛ لتفرغ القلب حينئذ من شواغل الحس. وكان الشيخ " أبو يزيد " يخرج كل ليلة إلى الصحراء، ويبيت واقفاً على أطراف قدميه، شاخصاً ببصره إلى السماء، فقال لمَن رآه كذلك : دَوَّرَني الحق تعالى في الفلك العلوي والسفلي، وأطلعني على عجائب ملكوته... الخ كلامه، وما كانت إلاَّ فكرته غاصت في بحر الذات، ودارت مع التجليات العلوية والسفلية، ووقوفه في ذلك لغلبة الحال، ولله رجال في زماننا هذا يقلبون الوجود، ويَدُورون معه، وهم على فُرشهم، لتمكُّنهم من الشهود بلا تعب.
وقوله تعالى :﴿ إن لك في النهار سَبْحاً طويلا ﴾ السَبح هو العوم، أي : إنَّ لك في النهار عوماً طويلاً في بحار الأحدية، فاستغرق ليلك ونهارك في ذلك، واذكر اسم ربك بقلبك وروحك وسرك، وهو عين السَبْح المتقدم، وتبتّل إليه تبتيلاً في الظاهر والباطن، فبالتبتُّل يحصل الوصول، وبذكر الاسم باللسان يحصل الذكر للجنان، ثم يسبح في بحر العيان. رب المشرق والمغرب، أي : مشرق العيان ومغرب قمر الإيمان، بسطوع شمس العيان. لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً، وثِقْ به كفيلاً يعطك عطاءً جزيلاً، ويمنحك فخراً جليلاً، واصبر على ما يقولون في جانبك، فإنَّ الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور. ﴿ واهجرهم هجراً جميلاً ﴾، قال القشيري : أي : عاشِرهم بظاهرك، وبايِنْهم بسرِّك وقلبك، ويُقال : الهجرُ الجميل : ما يكون بحق ربك، لا بحظِّ نفسك. هـ.

﴿ واصبرْ على ما يقولون ﴾ في جانبي من الصاحِبة والولد، وفيك مِن الساحر والشاعر، ﴿ واهجرهم هَجْراً جميلاً ﴾ بأن تُجانبهم وتداريَهم ولا تجافهم، بل كِلْ أمرهم إلى ربهم، كما يُعرب عنه ما بعده، أو : جانبهم بقلبك، وخالطِهم بجسمك مع حسن المخالطة وترك المكافأة، وقيل : هو منسوخ بآية القتال.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يا أيها المتزمّل بالعلوم والمعارف والأسرار، قُم الليل شكراً لِما أُسدي إليك من النعم الغزار، ولذلك لمّا امتثل هذا الأمر بغاية جهده حتى تفطّرت قدماه، قال :" أفلا أكون عبداً شكوراً " ١، وقيام الليل لا يخص بالصلاة، بل لكل مقام مقال، فقيام العُبَّاد والزُهَّاد للتهجد والتلاوة والأذكار والاستغفار بالأسحار، وقيام العارفين لفكرة الشهود والاستبصار، وهي صلاة القلوب الدائمة.
وقوله تعالى :﴿ ورتِّل القرآنَ ترتيلا ﴾ خطاب لأهل التهجُّد، وهم ألوان مختلفة، فمنهم مَن يقطع الليل في سورة أو آية يُرددها، وهم أهل الخوف المزعِج، أو الشوق المقلِق، ومنهم مَن يختم القرآن في مدة قليلة، فمنهم مَن كان يختمه في كل ليلة في ركعة، ومنهم مَن كان يختمه في ليلة مرتين، ومنهم مَن كان يختمه بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء. وكان أبو حنيفة والشافعي يختمانه في رمضان ستين مرة، وابن القاسم صاحب مالك تسعين مرة، وابن عباس مائة مرة، وكان سليمان بن عمير يختمه ثلاث ختمات في كل ليلة، ويجامع أهله بعد كل ختمة. وكان رجل بالمشرق، يُقال له " أبو عيسى التلمساني "، يختم القرآن بين اليوم والليلة اثنتي عشرة ألف مرة، فذكر ذلك بمدينة سبتة، بحضور الفقيه العزفي، فقال الفقيه : لون كان يقول : القرآن القرآن ما أتمّ اثنتي عشر ألف مرة، فاغتاظ الرجل الذي نقل ذلك، فخرج إلى المشرق، فأتى ببينةٍ مُصحِّحة من قاض إلى قاض بصحة ذلك.
قلت : وهذا من باب الخوارق التي تكون للصالحين، تطوي لهم مسافة الكلام كما تُطوى لهم مسافة الزمان والمكان، وقد كان داود عليه السلام تُسرج له دابته، فيقرأ الزبور قبل أن تُسرج، كما في الصحيح، وذكر الفرغاني في شرح التائية : أنَّ رجلاً كان يختم القرآن بين الحِجر إلى الركن اليماني، فأنكر بعضٌ ذلك عليه، فأخذ بأذنه وقرأ فيها من الفاتحة إلى الختم، وهو يسمع حرفاً حرفاً، فسبحان القادر على كل شيء ؟ !.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلا ﴾، قال القشيري :( ثقيلاً ) أي : له خطْر، ويقال : لا يقوى عليه إلاَّ مَن أيّد بقوة سماوية، ورُبّي في حجر التقريب. هـ. قال الورتجبي : وكيف لا يثقل قولهُ سبحانه وهو قديم، وأجدر أن تذوب تحت سطوات عزيته الأرواح والأشباح والأكوان والحدثان، بل هو بذاته يحمل صفاته لا غير، وكان عليه السلام مؤيداَ بالاتصاف بالحق، فكان يحمل الحق بالحق. هـ. المراد منه. ( إنَّ ناشئة الليل ) أي : نشأة الفكرة في الليل هي أشد وطأً، أي : موافقة، وغرقاً في بحر الذات، وتيار الصفات ؛ لتفرغ القلب حينئذ من شواغل الحس. وكان الشيخ " أبو يزيد " يخرج كل ليلة إلى الصحراء، ويبيت واقفاً على أطراف قدميه، شاخصاً ببصره إلى السماء، فقال لمَن رآه كذلك : دَوَّرَني الحق تعالى في الفلك العلوي والسفلي، وأطلعني على عجائب ملكوته... الخ كلامه، وما كانت إلاَّ فكرته غاصت في بحر الذات، ودارت مع التجليات العلوية والسفلية، ووقوفه في ذلك لغلبة الحال، ولله رجال في زماننا هذا يقلبون الوجود، ويَدُورون معه، وهم على فُرشهم، لتمكُّنهم من الشهود بلا تعب.
وقوله تعالى :﴿ إن لك في النهار سَبْحاً طويلا ﴾ السَبح هو العوم، أي : إنَّ لك في النهار عوماً طويلاً في بحار الأحدية، فاستغرق ليلك ونهارك في ذلك، واذكر اسم ربك بقلبك وروحك وسرك، وهو عين السَبْح المتقدم، وتبتّل إليه تبتيلاً في الظاهر والباطن، فبالتبتُّل يحصل الوصول، وبذكر الاسم باللسان يحصل الذكر للجنان، ثم يسبح في بحر العيان. رب المشرق والمغرب، أي : مشرق العيان ومغرب قمر الإيمان، بسطوع شمس العيان. لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً، وثِقْ به كفيلاً يعطك عطاءً جزيلاً، ويمنحك فخراً جليلاً، واصبر على ما يقولون في جانبك، فإنَّ الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور. ﴿ واهجرهم هجراً جميلاً ﴾، قال القشيري : أي : عاشِرهم بظاهرك، وبايِنْهم بسرِّك وقلبك، ويُقال : الهجرُ الجميل : ما يكون بحق ربك، لا بحظِّ نفسك. هـ.

وإذا هجرت أهل الإنكار، فكل أمرهم إلى الواحد القهار، كما قال تعالى :
﴿ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ﴾*﴿ إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً ﴾*﴿ وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً ﴾*﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً ﴾*﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ﴾*﴿ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً ﴾*﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً ﴾*﴿ السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ﴾*﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وَذَرْنِي والمكذِّبينَ ﴾ أي : دعني وإيّاهم، وكِلْ أمرَهم إليّ، فإني أكفيكهم، والمراد رؤساء قريش، و " المكذِّبين " : مفعول معه، أو : عطف على الياء. ﴿ أُولِي النَّعْمَةِ ﴾ أي : أرباب التنعُّم، وهم صناديد الكفرة، فالنَّعمة بالفتح : التنعُّم، وبالكسر : ما يتنعّم به، وبالضم : المسرة. ﴿ ومَهِّلْهُمْ قليلاً ﴾ أي : إمهالاً قليلاً، أو زمناً قليلاً إلى يوم بدر، أو يوم القيامة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال القشيري : فذرني والمكذّبين، القائلين بكثرة الوجود وتعدده. هـ. أي : مع أنه متحد، كما قال الشاعر :
هَذا الوُجودُ وإن تَعَدَّدَ ظَاهِـراً وحَيَاتكُـم ما فِيـه إلا أَنْتُـمُ
أُولي النِّعمة : الترفُّه، فطلبُ اللذات والتنعُّم شَغَلهم عن التبتُّل، حتى افترقت قلوبُهم وأرواحهم، وأشركوا مع الله غيره، و " مَهِّلْهُم قليلاً " أي : زمن عمرهم ؛ لأنه قليل وإن طالت مدته ؛ إذ لا فائدة فيه. إنَّ لدينا أنكالاً، أي : قيوداً من العلائق والعوائق تعلقهم وتعوقهم عن الوصول إلى أسرار التوحيد، وطعاماً ذا غُصةٍ يغص الروح عن شراب الحمرة ؛ لضيق مسلكه بوجود العوائق، وعذاباً أليماً : البُعد والطرد عن باب حضرتنا وجناب كبريائنا. يوم ترجف أرض البشرية بهزها بذكر الله، وجبال العقل بتجلِّي أنوار الذات، فيصير هباءً منثوراً. ﴿ إنَّا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم ﴾، وهو الداعي إلى هذه الأسرار التفريدية، كما أرسلنا إلى فراعين كل زمان رسولاً يدعوهم إلى الله، فعصى فرعونُ كل زمان رسولَه، وهو الخليفة عن الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم، فأخذناه أخذاً وبيلاً، فاختطفته المنية من سعة القصور إلى ضيق القبور، فكيف تتقون الله حق تقاته، إن كفرتم يوم وقوفكم بين يدي الواحد القهار ؟ يوم تشيب فيه الولدان خجلاً من الملك الديّان. السماءُ منفطر مِن هوله، حين يُحال بين المرء وعملِه، إذ ليس محلّ العمل، وإنما هو محل إظهار كرامات العمل، وحِيل بينهم وبين ما يشتهون، إنَّ هذه تذكرة بالغة، فمَن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً يوصله إليه اليوم، قبل أن يُحال بينه وبينه بسور الموت. وبالله التوفيق.

﴿ إنَّ لَدَيْنا ﴾ للكافرين يوم القيامة، ﴿ أنكالاً ﴾ ؛ قيوداً ثِقالاً، جمع نِكْل، ﴿ وجَحيماً ﴾ ؛ ناراً محرقة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال القشيري : فذرني والمكذّبين، القائلين بكثرة الوجود وتعدده. هـ. أي : مع أنه متحد، كما قال الشاعر :
هَذا الوُجودُ وإن تَعَدَّدَ ظَاهِـراً وحَيَاتكُـم ما فِيـه إلا أَنْتُـمُ
أُولي النِّعمة : الترفُّه، فطلبُ اللذات والتنعُّم شَغَلهم عن التبتُّل، حتى افترقت قلوبُهم وأرواحهم، وأشركوا مع الله غيره، و " مَهِّلْهُم قليلاً " أي : زمن عمرهم ؛ لأنه قليل وإن طالت مدته ؛ إذ لا فائدة فيه. إنَّ لدينا أنكالاً، أي : قيوداً من العلائق والعوائق تعلقهم وتعوقهم عن الوصول إلى أسرار التوحيد، وطعاماً ذا غُصةٍ يغص الروح عن شراب الحمرة ؛ لضيق مسلكه بوجود العوائق، وعذاباً أليماً : البُعد والطرد عن باب حضرتنا وجناب كبريائنا. يوم ترجف أرض البشرية بهزها بذكر الله، وجبال العقل بتجلِّي أنوار الذات، فيصير هباءً منثوراً. ﴿ إنَّا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم ﴾، وهو الداعي إلى هذه الأسرار التفريدية، كما أرسلنا إلى فراعين كل زمان رسولاً يدعوهم إلى الله، فعصى فرعونُ كل زمان رسولَه، وهو الخليفة عن الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم، فأخذناه أخذاً وبيلاً، فاختطفته المنية من سعة القصور إلى ضيق القبور، فكيف تتقون الله حق تقاته، إن كفرتم يوم وقوفكم بين يدي الواحد القهار ؟ يوم تشيب فيه الولدان خجلاً من الملك الديّان. السماءُ منفطر مِن هوله، حين يُحال بين المرء وعملِه، إذ ليس محلّ العمل، وإنما هو محل إظهار كرامات العمل، وحِيل بينهم وبين ما يشتهون، إنَّ هذه تذكرة بالغة، فمَن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً يوصله إليه اليوم، قبل أن يُحال بينه وبينه بسور الموت. وبالله التوفيق.

﴿ وطعاماً ذا غُصَّةٍ ﴾ الذي ينشب في الحلوق فلا يُساغ، يعني : الضريع والزقوم. ﴿ وعذاباً أليماً ﴾ ؛ مؤلماً يخلص وجعه إلى القلب. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ الآية فصعق١، وعن الحسن : أنه أمْسى صائماً، فأُتي بطعام، فعرضت له هذه الآية، فقال : ارفعه، ووُضع عنده الليلة الثانية فعرضت له، فقال : ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة، فأخبر ثابت البناني وغيره، فجاؤوا، فلم يزالوا به، حتّى شرب شربةً من سَّوِيق.
وهذا العذاب واقع ﴿ يَوْمَ ترجُف الأرضُ والجبالُ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال القشيري : فذرني والمكذّبين، القائلين بكثرة الوجود وتعدده. هـ. أي : مع أنه متحد، كما قال الشاعر :
هَذا الوُجودُ وإن تَعَدَّدَ ظَاهِـراً وحَيَاتكُـم ما فِيـه إلا أَنْتُـمُ
أُولي النِّعمة : الترفُّه، فطلبُ اللذات والتنعُّم شَغَلهم عن التبتُّل، حتى افترقت قلوبُهم وأرواحهم، وأشركوا مع الله غيره، و " مَهِّلْهُم قليلاً " أي : زمن عمرهم ؛ لأنه قليل وإن طالت مدته ؛ إذ لا فائدة فيه. إنَّ لدينا أنكالاً، أي : قيوداً من العلائق والعوائق تعلقهم وتعوقهم عن الوصول إلى أسرار التوحيد، وطعاماً ذا غُصةٍ يغص الروح عن شراب الحمرة ؛ لضيق مسلكه بوجود العوائق، وعذاباً أليماً : البُعد والطرد عن باب حضرتنا وجناب كبريائنا. يوم ترجف أرض البشرية بهزها بذكر الله، وجبال العقل بتجلِّي أنوار الذات، فيصير هباءً منثوراً. ﴿ إنَّا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم ﴾، وهو الداعي إلى هذه الأسرار التفريدية، كما أرسلنا إلى فراعين كل زمان رسولاً يدعوهم إلى الله، فعصى فرعونُ كل زمان رسولَه، وهو الخليفة عن الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم، فأخذناه أخذاً وبيلاً، فاختطفته المنية من سعة القصور إلى ضيق القبور، فكيف تتقون الله حق تقاته، إن كفرتم يوم وقوفكم بين يدي الواحد القهار ؟ يوم تشيب فيه الولدان خجلاً من الملك الديّان. السماءُ منفطر مِن هوله، حين يُحال بين المرء وعملِه، إذ ليس محلّ العمل، وإنما هو محل إظهار كرامات العمل، وحِيل بينهم وبين ما يشتهون، إنَّ هذه تذكرة بالغة، فمَن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً يوصله إليه اليوم، قبل أن يُحال بينه وبينه بسور الموت. وبالله التوفيق.


١ أخرجه الطبري في تفسيره ٢٩/١٣٥، وأحمد في الزهد ص٣٩، والسيوطي في الدر المنثور ٦/٤٤٦..
﴿ يَوْمَ ترجُف الأرضُ والجبالُ ﴾ أي : تتحرّك حركةً شديدة مع صلابتها وارتفاعها، فالظرف منصوب بما في " لدينا " من معنى الفعل، أي : استقر للكفار كذا وكذا يوم ترجف. . . الخ. ﴿ وكانت الجبالُ كَثِيباً ﴾ ؛ رملاً مجتمعاً. من : كثب الشيء إذا جمعه، كأنه فعيل بمعنى مفعول. ﴿ مَّهِيلاً ﴾ ؛ سائلاً بعد اجتماعه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال القشيري : فذرني والمكذّبين، القائلين بكثرة الوجود وتعدده. هـ. أي : مع أنه متحد، كما قال الشاعر :
هَذا الوُجودُ وإن تَعَدَّدَ ظَاهِـراً وحَيَاتكُـم ما فِيـه إلا أَنْتُـمُ
أُولي النِّعمة : الترفُّه، فطلبُ اللذات والتنعُّم شَغَلهم عن التبتُّل، حتى افترقت قلوبُهم وأرواحهم، وأشركوا مع الله غيره، و " مَهِّلْهُم قليلاً " أي : زمن عمرهم ؛ لأنه قليل وإن طالت مدته ؛ إذ لا فائدة فيه. إنَّ لدينا أنكالاً، أي : قيوداً من العلائق والعوائق تعلقهم وتعوقهم عن الوصول إلى أسرار التوحيد، وطعاماً ذا غُصةٍ يغص الروح عن شراب الحمرة ؛ لضيق مسلكه بوجود العوائق، وعذاباً أليماً : البُعد والطرد عن باب حضرتنا وجناب كبريائنا. يوم ترجف أرض البشرية بهزها بذكر الله، وجبال العقل بتجلِّي أنوار الذات، فيصير هباءً منثوراً. ﴿ إنَّا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم ﴾، وهو الداعي إلى هذه الأسرار التفريدية، كما أرسلنا إلى فراعين كل زمان رسولاً يدعوهم إلى الله، فعصى فرعونُ كل زمان رسولَه، وهو الخليفة عن الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم، فأخذناه أخذاً وبيلاً، فاختطفته المنية من سعة القصور إلى ضيق القبور، فكيف تتقون الله حق تقاته، إن كفرتم يوم وقوفكم بين يدي الواحد القهار ؟ يوم تشيب فيه الولدان خجلاً من الملك الديّان. السماءُ منفطر مِن هوله، حين يُحال بين المرء وعملِه، إذ ليس محلّ العمل، وإنما هو محل إظهار كرامات العمل، وحِيل بينهم وبين ما يشتهون، إنَّ هذه تذكرة بالغة، فمَن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً يوصله إليه اليوم، قبل أن يُحال بينه وبينه بسور الموت. وبالله التوفيق.

﴿ إنَّا أرسلنا إِليكم ﴾ يا أهل مكة ﴿ رسولاً ﴾ وهو محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ شاهداً عليكم ﴾ ؛ يشهد يوم القيامة بما صدر منكم من الكفر والعصيان، ﴿ كما أرسلنا إِلى فرعون رسولاً ﴾ وهو موسى عليه السلام.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال القشيري : فذرني والمكذّبين، القائلين بكثرة الوجود وتعدده. هـ. أي : مع أنه متحد، كما قال الشاعر :
هَذا الوُجودُ وإن تَعَدَّدَ ظَاهِـراً وحَيَاتكُـم ما فِيـه إلا أَنْتُـمُ
أُولي النِّعمة : الترفُّه، فطلبُ اللذات والتنعُّم شَغَلهم عن التبتُّل، حتى افترقت قلوبُهم وأرواحهم، وأشركوا مع الله غيره، و " مَهِّلْهُم قليلاً " أي : زمن عمرهم ؛ لأنه قليل وإن طالت مدته ؛ إذ لا فائدة فيه. إنَّ لدينا أنكالاً، أي : قيوداً من العلائق والعوائق تعلقهم وتعوقهم عن الوصول إلى أسرار التوحيد، وطعاماً ذا غُصةٍ يغص الروح عن شراب الحمرة ؛ لضيق مسلكه بوجود العوائق، وعذاباً أليماً : البُعد والطرد عن باب حضرتنا وجناب كبريائنا. يوم ترجف أرض البشرية بهزها بذكر الله، وجبال العقل بتجلِّي أنوار الذات، فيصير هباءً منثوراً. ﴿ إنَّا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم ﴾، وهو الداعي إلى هذه الأسرار التفريدية، كما أرسلنا إلى فراعين كل زمان رسولاً يدعوهم إلى الله، فعصى فرعونُ كل زمان رسولَه، وهو الخليفة عن الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم، فأخذناه أخذاً وبيلاً، فاختطفته المنية من سعة القصور إلى ضيق القبور، فكيف تتقون الله حق تقاته، إن كفرتم يوم وقوفكم بين يدي الواحد القهار ؟ يوم تشيب فيه الولدان خجلاً من الملك الديّان. السماءُ منفطر مِن هوله، حين يُحال بين المرء وعملِه، إذ ليس محلّ العمل، وإنما هو محل إظهار كرامات العمل، وحِيل بينهم وبين ما يشتهون، إنَّ هذه تذكرة بالغة، فمَن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً يوصله إليه اليوم، قبل أن يُحال بينه وبينه بسور الموت. وبالله التوفيق.

﴿ فعصى فرعونُ الرسولَ ﴾ الذي أرسلنا إليه، أي : عصى ذلك الرسول ؛ لأنَّ النكرة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى. ومحل الكاف النصب على أنها صفة لمصدر محذوف، أي : أرسلنا إليكم رسولاً فعصيتموه، كما يُعرب عنه قوله تعالى :﴿ شاهداً ﴾ إرسالاً كائناً كإرسال موسى لفرعون، فعصاه، ﴿ فأخذناه أخذاً وَبيلاً ﴾ ؛ شديداً غليظاً. وإنما خص موسى وفرعون ؛ لأنَّ خبرهما كان منتشراً بين أهل مكة ؛ لأنهم كانوا جيران اليهود.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال القشيري : فذرني والمكذّبين، القائلين بكثرة الوجود وتعدده. هـ. أي : مع أنه متحد، كما قال الشاعر :
هَذا الوُجودُ وإن تَعَدَّدَ ظَاهِـراً وحَيَاتكُـم ما فِيـه إلا أَنْتُـمُ
أُولي النِّعمة : الترفُّه، فطلبُ اللذات والتنعُّم شَغَلهم عن التبتُّل، حتى افترقت قلوبُهم وأرواحهم، وأشركوا مع الله غيره، و " مَهِّلْهُم قليلاً " أي : زمن عمرهم ؛ لأنه قليل وإن طالت مدته ؛ إذ لا فائدة فيه. إنَّ لدينا أنكالاً، أي : قيوداً من العلائق والعوائق تعلقهم وتعوقهم عن الوصول إلى أسرار التوحيد، وطعاماً ذا غُصةٍ يغص الروح عن شراب الحمرة ؛ لضيق مسلكه بوجود العوائق، وعذاباً أليماً : البُعد والطرد عن باب حضرتنا وجناب كبريائنا. يوم ترجف أرض البشرية بهزها بذكر الله، وجبال العقل بتجلِّي أنوار الذات، فيصير هباءً منثوراً. ﴿ إنَّا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم ﴾، وهو الداعي إلى هذه الأسرار التفريدية، كما أرسلنا إلى فراعين كل زمان رسولاً يدعوهم إلى الله، فعصى فرعونُ كل زمان رسولَه، وهو الخليفة عن الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم، فأخذناه أخذاً وبيلاً، فاختطفته المنية من سعة القصور إلى ضيق القبور، فكيف تتقون الله حق تقاته، إن كفرتم يوم وقوفكم بين يدي الواحد القهار ؟ يوم تشيب فيه الولدان خجلاً من الملك الديّان. السماءُ منفطر مِن هوله، حين يُحال بين المرء وعملِه، إذ ليس محلّ العمل، وإنما هو محل إظهار كرامات العمل، وحِيل بينهم وبين ما يشتهون، إنَّ هذه تذكرة بالغة، فمَن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً يوصله إليه اليوم، قبل أن يُحال بينه وبينه بسور الموت. وبالله التوفيق.

﴿ فكيف تتقون إِن كفرتم ﴾ أي : بقيتم على كفركم ﴿ يوماً ﴾ أي : عذاب يوم ﴿ يجعلُ الوِلْدان ﴾ من شدة هوله، وفظاعة ما فيه من الدواهي ﴿ شِيباً ﴾ جمع أشيب، أي : شيوخاً، إمّا حقيقة، أو تمثيلاً، وذلك أنَّ الهموم والأحزان إذا تفاقمت على المرء ضعفت قواه وأسرع فيه الشيب، فإذا قلنا : هو من باب التمثيل، يكون كقولهم في اليوم الشديد : يوم تشيب فيه نواصي الأطفال، وإذا قلنا حقيقة، فلعله ممن بلغ الحلم، وصَحِبه تفريط، وهذا الوقت الذي يُشيب الولدان هو حين يُقال لآدم عليه السلام :" أخْرِج بعثَ النار من ذريتك. . . " ١ الحديث، ف " يوماً " مفعول بكفرتم، أي : جحدتم، أو : ب " تتقون "، أي : كيف تتقون عذاب يوم كذا إن كفرتم بالله، أو : ظرف، أي : فكيف لكم التقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا، و " يجعل " صفة ليوم، والعائد محذوف، أي : فيه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال القشيري : فذرني والمكذّبين، القائلين بكثرة الوجود وتعدده. هـ. أي : مع أنه متحد، كما قال الشاعر :
هَذا الوُجودُ وإن تَعَدَّدَ ظَاهِـراً وحَيَاتكُـم ما فِيـه إلا أَنْتُـمُ
أُولي النِّعمة : الترفُّه، فطلبُ اللذات والتنعُّم شَغَلهم عن التبتُّل، حتى افترقت قلوبُهم وأرواحهم، وأشركوا مع الله غيره، و " مَهِّلْهُم قليلاً " أي : زمن عمرهم ؛ لأنه قليل وإن طالت مدته ؛ إذ لا فائدة فيه. إنَّ لدينا أنكالاً، أي : قيوداً من العلائق والعوائق تعلقهم وتعوقهم عن الوصول إلى أسرار التوحيد، وطعاماً ذا غُصةٍ يغص الروح عن شراب الحمرة ؛ لضيق مسلكه بوجود العوائق، وعذاباً أليماً : البُعد والطرد عن باب حضرتنا وجناب كبريائنا. يوم ترجف أرض البشرية بهزها بذكر الله، وجبال العقل بتجلِّي أنوار الذات، فيصير هباءً منثوراً. ﴿ إنَّا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم ﴾، وهو الداعي إلى هذه الأسرار التفريدية، كما أرسلنا إلى فراعين كل زمان رسولاً يدعوهم إلى الله، فعصى فرعونُ كل زمان رسولَه، وهو الخليفة عن الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم، فأخذناه أخذاً وبيلاً، فاختطفته المنية من سعة القصور إلى ضيق القبور، فكيف تتقون الله حق تقاته، إن كفرتم يوم وقوفكم بين يدي الواحد القهار ؟ يوم تشيب فيه الولدان خجلاً من الملك الديّان. السماءُ منفطر مِن هوله، حين يُحال بين المرء وعملِه، إذ ليس محلّ العمل، وإنما هو محل إظهار كرامات العمل، وحِيل بينهم وبين ما يشتهون، إنَّ هذه تذكرة بالغة، فمَن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً يوصله إليه اليوم، قبل أن يُحال بينه وبينه بسور الموت. وبالله التوفيق.


١ أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٣٤٨، ومسلم في الإيمان حديث ٣٧٩..
﴿ السماءُ مُنفَطِر به ﴾ أي : السماء على عِظمها وإحكامها منفطر به، أي : متشققة مِن هوله، فما ظنك بغيرها من الخلائق ؟ والتذكير لتأويل السماء بالسقف، أو : لإجرائه على موصوف مذكّر، أي : شيء منفطر، وعبّر عنها بذلك ؛ للتنبيه على أنها تبدّلت، حقيقتها، وزال عنها اسمها ورَسمها، ولم يبقَ منها إلا ما يُعبر عنه بشيء. والباء في " به " للآلة، يعني : أنها تتفطّر لشِدّة ذلك اليوم وهوله، كما ينفطر الشيء بما يفطر به. ﴿ كان وعدُه ﴾ بالبعث ﴿ مفعولا ﴾ لا شك فيه، فالضمير لله عزّ وجل، والمصدر مضاف إلى فاعله أو إلى مفعوله، وهو اليوم، والفاعل هو الله عزّ وجل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال القشيري : فذرني والمكذّبين، القائلين بكثرة الوجود وتعدده. هـ. أي : مع أنه متحد، كما قال الشاعر :
هَذا الوُجودُ وإن تَعَدَّدَ ظَاهِـراً وحَيَاتكُـم ما فِيـه إلا أَنْتُـمُ
أُولي النِّعمة : الترفُّه، فطلبُ اللذات والتنعُّم شَغَلهم عن التبتُّل، حتى افترقت قلوبُهم وأرواحهم، وأشركوا مع الله غيره، و " مَهِّلْهُم قليلاً " أي : زمن عمرهم ؛ لأنه قليل وإن طالت مدته ؛ إذ لا فائدة فيه. إنَّ لدينا أنكالاً، أي : قيوداً من العلائق والعوائق تعلقهم وتعوقهم عن الوصول إلى أسرار التوحيد، وطعاماً ذا غُصةٍ يغص الروح عن شراب الحمرة ؛ لضيق مسلكه بوجود العوائق، وعذاباً أليماً : البُعد والطرد عن باب حضرتنا وجناب كبريائنا. يوم ترجف أرض البشرية بهزها بذكر الله، وجبال العقل بتجلِّي أنوار الذات، فيصير هباءً منثوراً. ﴿ إنَّا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم ﴾، وهو الداعي إلى هذه الأسرار التفريدية، كما أرسلنا إلى فراعين كل زمان رسولاً يدعوهم إلى الله، فعصى فرعونُ كل زمان رسولَه، وهو الخليفة عن الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم، فأخذناه أخذاً وبيلاً، فاختطفته المنية من سعة القصور إلى ضيق القبور، فكيف تتقون الله حق تقاته، إن كفرتم يوم وقوفكم بين يدي الواحد القهار ؟ يوم تشيب فيه الولدان خجلاً من الملك الديّان. السماءُ منفطر مِن هوله، حين يُحال بين المرء وعملِه، إذ ليس محلّ العمل، وإنما هو محل إظهار كرامات العمل، وحِيل بينهم وبين ما يشتهون، إنَّ هذه تذكرة بالغة، فمَن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً يوصله إليه اليوم، قبل أن يُحال بينه وبينه بسور الموت. وبالله التوفيق.

﴿ إِنَّ هذه تذكرةٌ ﴾ أي : إنَّ هذه الآيات المنطوية على القوارع المذكورة موعظة، ﴿ فمَن شاء اتَّخَذِ إِلى ربه سبيلا ﴾ أي : فَمن شاء اتعظ بها، واتخذ طريقاً إلى الله تعالى بالإيمان والطاعة، فإنه المنهاج الموصّل إلى مرضاته.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قال القشيري : فذرني والمكذّبين، القائلين بكثرة الوجود وتعدده. هـ. أي : مع أنه متحد، كما قال الشاعر :
هَذا الوُجودُ وإن تَعَدَّدَ ظَاهِـراً وحَيَاتكُـم ما فِيـه إلا أَنْتُـمُ
أُولي النِّعمة : الترفُّه، فطلبُ اللذات والتنعُّم شَغَلهم عن التبتُّل، حتى افترقت قلوبُهم وأرواحهم، وأشركوا مع الله غيره، و " مَهِّلْهُم قليلاً " أي : زمن عمرهم ؛ لأنه قليل وإن طالت مدته ؛ إذ لا فائدة فيه. إنَّ لدينا أنكالاً، أي : قيوداً من العلائق والعوائق تعلقهم وتعوقهم عن الوصول إلى أسرار التوحيد، وطعاماً ذا غُصةٍ يغص الروح عن شراب الحمرة ؛ لضيق مسلكه بوجود العوائق، وعذاباً أليماً : البُعد والطرد عن باب حضرتنا وجناب كبريائنا. يوم ترجف أرض البشرية بهزها بذكر الله، وجبال العقل بتجلِّي أنوار الذات، فيصير هباءً منثوراً. ﴿ إنَّا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم ﴾، وهو الداعي إلى هذه الأسرار التفريدية، كما أرسلنا إلى فراعين كل زمان رسولاً يدعوهم إلى الله، فعصى فرعونُ كل زمان رسولَه، وهو الخليفة عن الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم، فأخذناه أخذاً وبيلاً، فاختطفته المنية من سعة القصور إلى ضيق القبور، فكيف تتقون الله حق تقاته، إن كفرتم يوم وقوفكم بين يدي الواحد القهار ؟ يوم تشيب فيه الولدان خجلاً من الملك الديّان. السماءُ منفطر مِن هوله، حين يُحال بين المرء وعملِه، إذ ليس محلّ العمل، وإنما هو محل إظهار كرامات العمل، وحِيل بينهم وبين ما يشتهون، إنَّ هذه تذكرة بالغة، فمَن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً يوصله إليه اليوم، قبل أن يُحال بينه وبينه بسور الموت. وبالله التوفيق.

ولما أمر نبيه بقيام الليل خفف عنه فيه، فقال :
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ الْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ إِنَّ ربك يعلمُ أنك تقومُ أدْنَى ﴾ أي : أقل ﴿ من ثلثي الليل ﴾، استعير الأدنى وهو الأقرب، للأقل ؛ لأنَّ المسافة بين الثلثين إذا دنت قلَّ ما بينهما من الأحيان، وإذا بعدت كثر ذلك، ﴿ ونِصْفَهُ وثُلُثَهُ ﴾، مَن نَصَبَهما عَطَفَهما على " أدنى " ومَن جرهما عطفهما على " ثُلثي "، أي : عَلِمَ أنك تقوم تارة أدنى من ثلثي الليل، وتارة نصفَه، وتارة ثلثه، أو أدنى من ثلثه بحسب ما تيسر، ﴿ وطائفةٌ من الذين معك ﴾ أي : ويقوم ذلك المقدار طائفة مِن أصحابك. قيل : وفيه دليل على أنه لم يكن فرضاً على الجميع، وإلاَّ لقال : والذين معك، إلاّ أن يُقال : كان فيهم مَن يقوم في بيته، ومنهم مَن يقوم معه، فيمكن إذ ذاك الفرضية على الجميع، وعلى كل حال فالمراد بالطائفة : الجماعة الكثيرة من الصحابة ؛ لأنها في معرض الثناء، على أنه لا يتصور الحرج على الفرد النادر، ف " طائفة " عطف على ضمير " يقوم "، وجاز بلا توكيد لوجود الفصل.
﴿ والله يُقَدِّرُ الليلَ والنهارَ ﴾ أي : لا يَقدر على تقدير الليل والنهار ولا يعلم مقادير ساعاتها إلاَّ الله وحده، وتقديم اسمه عزّ وجل يُؤذن بالاختصاص. ثم إنهم قاموا حتى انتفحت أقدامهم، فنزل التخفيف بقوله :﴿ عَلِمَ أن لن تُحْصُوهُ ﴾ ؛ لن تطيقوا قيامه على المقادير المأمور بها أول السورة إلاَّ بشدة وحرج. ﴿ فتابَ عليكم ﴾ ؛ فخفف عنكم، وأسقط عنكم فرض قيام الليل، ﴿ فأقرؤوا ما تيسَّرَ من القرآن ﴾ أي : فصَلُّوا ما تيسّر لكم من صلاة الليل، عبّر عن الصلاة بالقراءة ؛ لأنها بعض أركانها. قيل : كان التهجُّد واجباً على التخيير المذكور، ثم نسخ بما تيسّر منه، ثم نسخ بالصلوات الخمس. وقيل : المراد بقوله :﴿ فاقرؤوا ما تيسَّر ﴾ أي : في صلاة الفرض، فيكون الأمر للوجوب، وعيّنَ مالك قولَه :﴿ ما تيسّر ﴾ بالفاتحة، وتركه أبو حنيفة على ظاهره، فأي آية قرأ كفت في الفرض وغيره، والمشهور : أن الآية في قيام الليل، وقيل : في مطلق التلاوة في كل ليلة. قال القشيري : يقال : من خمس آيات فما زاد، ويُقال : من عشر آيات فما زاد. ه.
ونقل ابن عطية عن بعضهم : أن الركعتين بعد العشاء مع الوتر داخله في أمثال هذا الأمر، ومَن زاده الله. ه. وقال الثعلبي : ما خفّ وسهل من غير مقدار من القراءة والمدة. وقيل هو فرض على أهل القرآن دون غيرهم، أي : فيجب عليهم تلاوة القرآن كل ليلة. قال الحسن : مَن قرأ مائة آية لم يحجّه القرآن، أي : لم يغلبه بالحجة. ه. فمَن قرأ كل ليلة حزباً فقد كفاه ولم يحاسَب عليه. ورَوى أبو حنيفة عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" مَنْ قرأَ مائة آية في لَيْلةٍ لم يُكْتَب مِن الغَافلين، ومَن قَرأَ مائتي آية كُتب من القَانتين. . . " ١ الحديث.
ثم بيّن الحكمة في النسخ، وهي تعذُّر القيام على المرضى والمسافرين والمجاهدين، فقال :﴿ عَلِمَ أن سيكونُ منكم مَّرْضَى ﴾ فيشق عليهم قيام الليل، و " أن " مخففة، والسين دالة على ذلك ؛ لأنها تلي " أن " المصدرية، ﴿ وآخرون يضربون في الأرض ﴾ ؛ يُسافرون فيها للتجارة ﴿ يَبتغون من فضل الله ﴾ الريح، ويدخل في ابتغاء الفضل : تحصيل العلم وزيادة الأولياء. ﴿ وآخرون يُقاتلون في سبيل الله ﴾ لإعلاء كلمة الله، سَوَّى بين المجاهِد والمكتسِب ؛ لأنَّ كسب الحلال جهاد، قال ابن مسعود رضي الله عنه : أيُّما رجل جَلَبَ شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين، صابراً محتسباً، فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء، وقال ابن عمر رضي الله عنه : ما خلق اللهُ موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليَّ من أن أموت بين شِقيْ رحْلي، أضرب في الأرض، أبتغي من فضل الله. ه. ﴿ فاقرؤوا ما تيسّر منه ﴾ من غير تحمُّل المشاق. كرّر الأمر بالتيسير لشدة احتياجهم. ﴿ وأقيموا الصلاةَ ﴾ المفروضة، ﴿ وآتوا الزكاةَ ﴾ الواجبة. وهذا يؤيد أنّ الآية مدنية. ﴿ وأَقْرِضوا اللهَ قرضاً حسناً ﴾، أريد الإنفاقات في سبيل الله من الحلال بالإخلاص، فالقرض لغة : القطع، وفي الاصطلاح : السلف، فالمنفِق يقطع ذلك القدر من ماله فيدفعه إلى غيره، وكذلك المتصدِّق يقطع ذلك القدر من ماله فيجعله لله، وإنما أضافه تعالى إلى نفسه ؛ لئلا يَمُنّ على الفقير فيما يتصدّق به عليه ؛ لأنّ الفقير مُعين له في تلك القُربة، فلا تكون له عليه مِنَّة بل المِنَّة للفقير عليه، حيث قَبِلَه منه.
﴿ وما تُقدِّموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه ﴾ أي : ثوابه، وهو جواب الشرط ﴿ عند الله هو خيراً ﴾ مما خلفتم، أو أخّرتم إلى الوصية عند الموت. و( أخيراً ) مفعول ثان بتجدوه، وهو ضمير فصل، وجاز وإن لم يقع بين معرفتين ؛ لأنّ " أفعل " في حكم المعرفة، ولذلك امتنع من حرف التعريف، ﴿ وأعظمَ أجراً ﴾ ؛ وأجزل ثواباً، ﴿ واستغفِرُوا الله ﴾ في كافة أحوالكم، فإنَّ الإنسان لا يخلو من تفريط، ﴿ إِن الله غفور ﴾ يستر على أهل الذنوب والعصيان، ﴿ رحيم ﴾ يخفّف عن أهل الجهد والتشمير.
الإشارة : أُعطي صلى الله عليه وسلم القوة في الجهتين، فكان قوي الظاهر والباطن ؛ ليقتدي به الجميع، فالعُبَّاد والزُهَّاد أخذوا من عبادة الظاهر، من الصيام والقيام، والعارفون المسلكون أخذوا منه عبادةَ الباطن من الفكرة والنظرة، والعكوف في الحضرة، فتهجُّد العُبّاد والزُهّاد والصالحين بالركوع والسجود، وتَهَجُّد العارفين بعكوف القلب في شهود الملك الودود، ومناجاته، والتملُّق بين يديه، وهكذا كانت الصحابة رضي الله عنهم كان فيهم مَن يقوم بالصلاة، ومنهم مَن يقطع ليله في الفكرة، كالصدّيق وأمثاله، " والله يُقدِّر الليل والنهار " قال القشيري : يعني يُقدِّر السلوك من ليل الطبيعة إلى نهار الحقيقة، بتقدير الله لا بتقدير السالك. عَلِمَ أن لن تحصوه، أي : لن تقدروا على مدة ذلك بالوصول إلى الله، والوصول مترتب على فضل الله ورحمته، لا على سلوككم وسيركم، فكم مِن سالك انقطع في الطريق، ورجع القهقرى، كما قيل : ليس كل مَن سلك وصل، ولا كل مَن وصل اتصل، ولا كل مَن اتصل انفصل. ه.
﴿ فاقرؤوا ما تيسّر من القرآن ﴾، ولا تستغرقوا أوقاتكم في تلاوة حروفه حتى تستكملوا تصفية قلوبكم بذكر الله، لتتهيأ لإشراق أنوار معانيه وأسراره فيها، وأمّا ما دامت القلوب محشوة بصور الألوان، مكدّرة بصدى الهوى والحظوظ، فلا تتمتع بحلاوة أسراره، ولا تتمكن من تدبُّر خطابه، ولأجل هذا كانت الأشياخ تأمر المريد أولاً بمجرد الذكر والرياضة والاستغراق في الاسم المفرد، حتى يتجوهر عقله، وتصفو مرآة قلبه، ويتمكن من مقام الفناء والبقاء، وحينئذ يرجع لتلاوة القرآن، ليجد حلاوته، ولذلك قال تعالى :﴿ عَلِمَ أن سيكونُ منكم مَرْضى ﴾ أي : مرضى القلوب بحجب الأنانية، والاشتغال بحب الدنيا وشهواتها، فلا يظهر عليها مِن أسرار القرآن وحقائقه شيء، ﴿ وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ﴾ وهم الطالبون من العُبَّاد والزُهَّاد، فلا ينالون من باطن القرآن شيئاً، ﴿ وآخرون يقاتلون في سبيل الله ﴾، مشتغلون بجهاد أنفسهم، فلا يتفرّغون لتدبُّر كلامه تعالى، فيقال لهم : اقرؤوا ما تيسّر منه، وأقيموا صلاة القلوب، بعُكوف الهم على ذكر واحد، وآتوا الزكاة، زكاة أبدانكم بالرياضة والمجاهدة، وأَقرِضوا الله قرضاً حسناً، بأن تقطعوا حب الدنيا من قلوبكم، فمَن زهد الدنيا أحبّه الله. وما تُقدموا لأنفسكم من خير، كالمجاهدة والمكابدة ؛ تجدوه عند الله في الدنيا والآخرة ؛ هو خيراً وأعظم أجراً، فتدوم المشاهدة، وتصحبها المكالمة. واستغفِروا الله من الالتفات لوجودكم إن وقع، إن الله غفور رحيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
١ أخرجه الحاكم في المستدرك ١/٣٠٨..
Icon