تفسير سورة المزّمّل

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿يأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ المتلفف بثيابه؛ وهو كقوله تعالى: ﴿يأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ وإنما ناداه تعالى بذلك - تدليلاً له - قبل أن يلقي إليه بالأمر الذي يشتم منه رائحة التقصير؛ وذلك كقوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ وهو لوم شديد؛ لو لم يسبق بالتدليل: «عفا الله عنك» لانخلع قلب الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه
﴿قُمِ الْلَّيْلَ﴾ عابداً ربك، مصلياً له، متبتلاً إليه ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ من الليل؛ فاجعله لحاجتك وراحتك؛ وليكن هذا القليل
﴿نِّصْفَهُ﴾ أي نصف الليل ﴿أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً﴾ أي من ذلك النصف المجعول لراحتك
﴿أَوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ قليلاً أيضاً؛ وبذلك يكون المطلوب من سيد الخلق: ألا يزيد القيام عن الثلثين، ولا ينقص عن الثلث ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ﴾ أي اقرأه بتؤدة وتمهل، وتبيين، وتفهم.
وقد زعم بعض القراء - أثابهم الله تعالى - أن معنى ذلك ما يتبعونه من غنَ بلغ مبلغ طنين الذباب، ومد تجاوز حد الصواب، وتسهيل بلغ حد التثقيل، وسكتات فيها كثير من الهنات؛ إلى غير ذلك من إدغام وإشمام، وإخفاء واستعلاء، وإمالة وإشالة. وقد رددناه على هذه المزاعم في كتابنا «الفرقان»
﴿إِنَّا سَنُلْقِي﴾ سننزل ﴿عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ هو القرآن الكريم؛ لما فيه من الأوامر والنواهي؛ التي هي - في نفسها - تكاليف شاقة؛ ثقيلة على المكلفين. أو «قولاً ثقيلاً» على الكافرين. أو المراد: إنه كلام موزون راجح؛ ليس بالسفساف، ولا بالهذر، ولا باللغو ﴿عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ قيامه للعبادة، وقراءة القرآن فيه
﴿هِيَ أَشَدُّ وَطْأً﴾ أي أعظم أثراً، وأجزل نفعاً: لحضور الذهن، وموافقة السمع للقلب. أو إنها أثقل على المصلي من صلاة النهار. وما بعده يؤيد المعنى الأول ﴿وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾ أي أسدّ مقالاً، وأثبت قراءة؛ لهدوء الأصوات، وانقطاع الحركات
﴿إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً﴾ تصرفاً لمعاشك، وتقلباً في مهماتك؛ فلا تستطيع أن تتفرغ للعبادة تفرغاً تاماً كاملاً؛ فعليك بها بالليل
﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ أي انقطع إلى عبادته، ولا يشغل قلبك سواه: فإذا ما عملت عملاً ظاهره طلب الدنيا؛ فليكن باطنه مرضاة الرب سبحانه، والتقرب إليه والتبتل: رفض الدنيا، والتماس الآخرة. وقد كان الحبيب المحبوب صلوات الله تعالى وسلامه عليه لا يعمل عملاً دنيوياً إلا كان مقصده منه إرضاء مولاه، والتبتل إليه، وطلب الزلفى منه. وقد كان
-[٧١٧]- يدخل ضمن العبادات ما يتخذه الناس للملذات والشهوات (انظر مبحث تعدد الزوجات بآخر الكتاب)
﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ في إذايتهم وسبهم لك، وطعنهم في دينك ﴿وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً﴾ الهجر الجميل: هو المفارقة إرضاءلله تعالى، واجتناباً لما يغضبه. وذلك كقوله تعالى ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾
﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ﴾
أي دعني وإياهم؛ فإني أكفيكهم. والمراد بالمكذبين: رؤساء قريش وصناديدهم ﴿أُوْلِي النَّعْمَةِ﴾ أصحاب الغنى والترفه والتنعم ﴿وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً﴾ في هذه الدنيا؛ وسيلقون جزاءهم كاملاً من العذاب في الآخرة
﴿إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً﴾ قيوداً؛ واحدها: نكل؛ وهو القيد الثقيل
﴿وَطَعَاماً﴾ في الجحيم؛ من الزقوم ﴿ذَا غُصَّةٍ﴾ ينشب في الحلق؛ فلا يكاد يساغ
﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ﴾ أي تتحرك حركة شديدة، وتتزلزل ﴿وَكَانَتِ الْجِبَالُ﴾ أي صارت ﴿كَثِيباً مَّهِيلاً﴾ رملاً منتثراً
﴿فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً﴾ عذبناه عذاباً شديداً وخيماً
﴿يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً﴾ من هوله وشدته؛ وهو يوم القيامة
﴿السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ﴾ أي إن السماء - على عظمها - تتشقق وتتصدع بيوم القيامة؛ فما ظنك بغيرها من الخلائق الذين هم دونها في الخلق ﴿أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا﴾
﴿إِنَّ هَذِهِ﴾ الآيات المخوفة ﴿تَذْكِرَةٌ﴾ عبرة وعظة ﴿فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ طريقاً يوصله إليه تعالى؛ وهو الإيمان
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى﴾ أقل ﴿مِن ثُلُثَيِ الْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ﴾ تقوم ﴿وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ﴾ أي جماعة يقومون أيضاً ﴿مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ من خيرة المؤمنين ﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ بالأوقات والساعات؛ وقد جعل تعالى بعضها للعمل، وبعضها للعبادة، وبعضها للنوم والراحة ﴿عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ﴾ أي لن تطيقوا قيامه على هذه المقادير إلا بشدة ومشقة ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ بالتخفيف عنكم، وإسقاط فرض قيام الليل. وترى الكثير ممن أحبهم الله تعالى وأحبوه، وعرفهم بنفسه فعرفوه، وهداهم إلى بابه فولجوه: يرون قيام الليل فرضاً واجباً، والتبتل إليه تعالى ضرباً لازباً؛ فإذا جن عليهم الليل: بان وجدهم، واشتد شغفهم، وسالت أدمعهم، ونشطت للعبادة أعضاؤهم؛ فتراهم في الله خاشعين باكين، وله راكعين ساجدين وما ذاك إلا لعناية الله تعالى بهم، وحبه لهم ولله در الإمام البوصيري حيث يقول:
وإذا حلت العناية قلباً
نشطت للعبادة الأعضاء
أحلنا الله تعالى دار عنايته، وألبسنا ثوب هدايته، وأفاض علينا من رعايته ﴿فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ ما سهلت عليكم معرفته، وهان عليكم حفظه؛ في صلاتكم بالليل ﴿عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى﴾
-[٧١٨]- لا يطيقون قيام الليل ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ﴾ يسافرون ﴿يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ يطلبون رزقه؛ فلا يستطيعون حال سفرهم، قيام ليلهم ﴿وَآخَرُونَ﴾ منكم ﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فهل يقومون ليلهم؛ ويتركون أعداءهم؟ والقتال في سبيله تعالى خير من قيام الليل وصيام النهار؛ لأنه من أفضل العبادات، وأجل القربات ﴿وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ﴾ أنفقوا مما رزقكم (انظر آية ٢٤٥ من سورة البقرة) ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً﴾ عجباً لمن يقرأ هذه الآية ويبخل على الله، مما آتاه الله فاحذر - هديت وكفيت - عاقبة البخل المقيت؛ فعاقبته في الدنيا الفقر وقد أغناك الله وكفاك، وعاقبته في الآخرة الذل والحرمان
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر؛ فالذي فعل الفقر
717
سورة المدثر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

718
Icon