ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الجنّوهي مكية بإجماع من المفسرين.
قوله عز وجل:
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (٤)وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (٥)
قرأ جمهور الناس «قل أوحي إلي» من أوحى يوحي. وقرأ أبو أناس جوية بن عائذ: «قل أوحى إلي»، من وحي يحي ووحي وأوحى، بمعنى واحد، وقال العجاج: «وحي لها القرار فاستقرت». وقرأ أيضا جوية فيما روى عنه الكسائي، «قل أحي» أبدلت الواو همزة كما أبدلوها في وسادة وإسادة، وغير ذلك.
وكذلك قرأ ابن أبي عبلة، وحكى الطبري عن عاصم أنه كان يكسر كل ألف في السورة من «أن» و «إن» إلا قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الجن: ١٨]. وحكي عن أبي عمرو أنه يكسر من أولها إلى قوله وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ [الجن: ١٦] فإنه كان يفتح همزة وما بعدها إلى آخر السورة. فعلى ما حكي يلزم أن تكون الهمزة مكسورة في قوله «إنه استمع»، وليس ما ذكر بثابت. وذكر أبو علي الفارسي أن ابن كثير وأبا عمرو فتحا أربعة أحرف من السورة وكسرا غير ذلك أَنَّهُ اسْتَمَعَ، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا [الجن: ١٦]، وَأَنَّ الْمَساجِدَ [الجن: ١٨]، وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ [الجن: ١٩]، وأن نافعا وعاصما في رواية أبي بكر والمفضل وافقا في الثلاثة وكسرا وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ [الجن: ١٩] مع سائر ما في السورة. وذكر أن ابن عامر وحمزة والكسائي كانوا يقرأون كل ما في السورة بالفتح إلا ما جاء بعد قول أو فاء جزاء، وكذلك حفص عن عاصم، فترتب إجماع القراء على فتح الألف من أَنَّهُ اسْتَمَعَ و «أن لو استقاموا» «وأن المساجد». وذكر الزهراوي عن علقمة أنه كان يفتح الألف في السورة كلها. واختلف الناس في الفتح من هذه الألفات وفي الكسر اختلافا كثيرا يطول ذكره وحصره وتقصي معانيه. قال أبو حاتم: أما الفتح فعلى أُوحِيَ، فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله. وأما الكسر فحكاية وابتداء وبعد القول. وهؤلاء النفر من الجن هم الذين صادفوا رسول الله ﷺ يقرأ ببطن نخلة في صلاة الصبح وهو يريد عكاظ. وقد تقدم قصصهم في سورة الأحقاف في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف: ٢٩].
وروي عن أنس أنه قال: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران، جد في أعيننا أي عظم. وقال أنس بن مالك والحسن: جَدُّ رَبِّنا معناه، فهذا هو من الجد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:
«ولا ينفع ذا الجد منك الجد»، وقال مجاهد: ذكره كله متجه لأن الجد هو حظ المجدود من الخيرات والأوصاف الجميلة، فجد الله تعالى هو الحظ الأكمل من السلطان الباهر والصفات العلية والعظمة، ومن هذا قول اليهودي حين قدم النبي ﷺ المدينة: «يا بني قيلة هذا جدكم الذي تنتظرون» أي حظكم من الخيرات وبختكم. وقال علي بن الحسين رضي الله عنه وأبو جعفر الباقر وابنه جعفر والربيع بن أنس ليس لله جد، وهذه مقالة قوم جهلة من الجن، جعلوا الله جدا أبا أب. قال كثير من المفسرين هذا قول ضعيف. وقوله: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً يدفعه، وكونهم فيما روي على شريعة متقدمة وفهمهم للقرآن. وقرأ محمد بن السميفع اليماني «جد ربنا» وهو من الجد والنفع. وقرأ عكرمة «جدّ ربّنا» بفتح الجيم وضم الدال وتنوينه ورفع الرب كأنه يقول تعالى عظيم هو ربنا ف «ربنا» بدل والجد العظيم في اللغة.
وقرأ حميد بن قيس «جد ربنا» بضم الجيم. ومعناه ربنا العظيم حكاه سيبويه وبإضافته إلى الرب فكأنه قال عظيم، وهذه إضافة تجديد يوقع النحاة هذا الاسم إذا أضيفت الصفة إلى الموصوف، كما تقول جاءني كريم زيد تريد زيدا الكريم ويجري مجرى هذا عند بعضهم.
قول المتنبي [البسيط] عظيم الملك في المقل أراد الملك العظيم قال بعض النحاة، وهذا المثال يعترض بأنه أضاف إلى جنس فيه العظيم والحقير، وقرأ عكرمة أيضا «جدا ربّنا» بفتح الجيم والدال وتنوينها ورفع الرب ونصب «جدا» على التمييز كما تقول تفقأت شحما وتصببت عرقا، وقرأ قتادة «جدا ربّنا» بكسر الجيم ورفع الباء وشد الدال، فنصب جدا على الحال ومعناه تعالى حقيقة ومتمكنا. وهذا معنى غير الأول، وقرأ أبو الدرداء «تعالى ذكر ربنا»، وروي عنه «تعالى جلال ربنا». وقوله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ لا خلاف أن هذا من قول الجن، وكسر
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط | كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل |
والمعنى: إنا كنا نظن قبل إيماننا أن الأقوال التي تسمع من إبليس وغواة الجن والإنس في جهة الآلهة وما يتعلق بذلك حق وليست بكذب، لأنا كنا نظن بهم أنهم لا يكذبون على الله ولا يرضون ذلك. وقرأ جمهور الناس «تقول». وقرأ الحسن والجحدري وابن أبي بكرة ويعقوب «تقوّل» بفتح القاف والواو وشد الواو، والتقول خاص بالكذب، والقول عام له وللصدق، ولكن قولهم كَذِباً يرد القول هنا معنى التقول.
قوله عز وجل:
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ٦ الى ١٠]
وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠)
هذه الألف من أَنَّهُ كان مما اختلف في فتحها وكسرها والكسر أوجه. والمعنى في الآية ما كانت العرب تفعله في أسفارها وتعزبها في الرعي وغيره، فإن جمهور المفسرين رووا أن الرجل كان إذا أراد المبيت أو الحلول في واد، صاح بأعلى صوته يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك فيعتقد بذلك أن الجني الذي بالوادي يمنعه ويحميه، فروي أن الجن كانت عند ذلك تقول: ما نملك لكم ولأنفسنا من الله شيئا. قال مقاتل: أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا ذلك في العرب. وروي عن قتادة أن الجن لذلك كانت تحتقر بني آدم وتزدريهم لما ترى من جهلهم، فكانوا يزيدونهم مخافة ويتعرضون للتخيل لهم بمنتهى طاقاتهم ويغوونهم في إرادتهم لما رأوا رقة أحلامهم، فهذا هو الرهق الذي زادته الجن ببني آدم. وقال مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير: بنو آدم زادوا الجن رَهَقاً وهي الجرأة والانتخاء عليهم والطغيان وغشيان المحارم والإعجاب، لأنهم قالوا سدنا الجن والإنس، وقد فسر قوم الرهق بالإثم وأنشد الطبري في ذلك بيت الأعشى: [البسيط]
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها | لا يشتفي وامق ما لم يصب رهقا |
وذكر المهدوي تأويلا أن المعنى وأن الجن ظنوا كما ظننتم أيها الإنس فهي مخاطبة من الله تعالى. وقولهم وَأَنَّا لَمَسْنَا قال معناه التمسنا ويظهر بمقتضى كلام العرب أنها استعارة لتجربتهم أمرها وتعرضهم لها فسمي ذلك لمسا إذ كان اللمس غاية غرضهم ونحو هذا قول المتنبي: [الطويل]
تعد القرى والمس بنا الجيش لمسة... نبادر إلى ما تشتهي يدك اليمنى
فعبر عن صدم الجيش بالجيش وحربه باللمس، وهذا كما تقول المس فلانا في أمر كذا، أي جرب مذهبه فيه، ومُلِئَتْ إما أن يكون في موضع المفعول الثاني ل «وجدنا»، وإما أن يقصر الفعل على مفعول واحد ويكون مُلِئَتْ في موضع الحال، وكان الأعرج يقرأ «مليت» لا يهمز، والشهب: كواكب الرجم، والحرس: يحتمل أن يريد الرمي بالشهب. وكرر المعنى بلفظ مختلف، ويحتمل أن يريد الملائكة، ومَقاعِدَ جمع مقعد، وقد فسر رسول الله ﷺ صورة قعود الجن أنهم كانوا واحدا فوق واحد، فمتى أحرق الأعلى طلع الذي تحته مكانه، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون معها ثم يزيد الكهان بالكلمة مائة كذبة، وقوله: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ الآية قطع على أن كل من استمع الآن أحرقه شهاب. فليس هنا بعد سمع، إنما الإحراق عند الاستماع، وهذا يقتضي أن الرجم كان في الجاهلية. ولكنه لم يكن يستأصل وكان الحرس ولكنه لم يكن شديدا، فلما جاء الإسلام اشتد الأمر حتى لم يكن فيه ولا يسير سماحة، ويدل على ذلك قول النبي ﷺ لأصحابه وقد رأى كوكبا راجما: «ماذا كنتم تقولون لهذا في الجاهلية؟ قالوا كنا نقول: ولد ملك، مات ملك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس الأمر كذلك، ثم وصف صورة قعود الجن». وقد قال عوف بن الجزع وهو جاهلي: [الكامل]
فانقض كالدري يتبعه... نقع يثور تخاله طنبا
وهذا في أشعارهم كثير، ورَصَداً نعت لشهاب ووصفه بالمصدر، وقوله: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ الآية، معناه لا ندري أيؤمن الناس بهذا النبي فيرشدون، أم يكفرون به فينزل بهم الشر.
قوله عز وجل:
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١١ الى ١٥]
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥)
وقولهم وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ، أي غير الصالحين كأنه قال: ومنا قوم أو فرقة دون صالحين، وهي لفظة
قال الكميت: [البسيط]
جمعت بالرأي منهم كل رافضة | إذ هم طرائق في أهوائهم قدد |
البخس: نقص الحسنات، والرهق: الزيادة في السيئات. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب «فلا يخف» بالجزم دون ألف، وقسم الله تعالى بعد ذلك حال الناس في الآخرة على نحو ما قسم قائل الجن، فقوله:
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ والقاسط: الظالم، قاله مجاهد وقتادة والناس، ومنه قول الشاعر:
[الكامل]
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة | عمرا وهم قسطوا على النعمان |
وقوله تعالى: جَهَنَّمَ حَطَباً
نظير قوله تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة: ٢٤، التحريم: ٦].
قوله عز وجل:
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١٦ الى ٢٢]
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠)
قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢)
الضمير في قوله اسْتَقامُوا قال أبو مجلز والفراء والربيع بن أنس وزيد بن أسلم والضحاك بخلاف عنه: الضمير عائد على قوله من أَسْلَمَ [الجن: ١٤]، والطَّرِيقَةِ طريقة الكفر، لو كفر من أسلم من الناس لَأَسْقَيْناهُمْ إملاء لهم واستدراجا. وقال قتادة وابن جبير وابن عباس ومجاهد الضمير عائد على «القاسطين». والمعنى على طريقة الإسلام والحق لأنعمنا عليهم، وهذا المعنى نحو قوله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ [المائدة: ٦٥]، وقوله لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
وقال الحسن: أراد كل موضع سجد فيه كان مخصوصا لذلك أو لم يكن، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة. وروي أن هذه الآية نزلت بسبب تغلب قريش على الكعبة، حينئذ فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: المواضع كلها لله فاعبده حيث كان وقال ابن عطاء: «المساجد» : الآراب التي يسجد عليها، واحدها مسجد بفتح الجيم، وقال سعيد بن جبير: نزلت الآية لأن الجن قالت يا رسول الله: كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك: فنزلت الآية يخاطبهم بها على معنى أن عبادتكم حيث كنتم مقبولة. وقال الخليل بن أحمد: معنى الآية، ولأن الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا أي لهذا السبب، وكذلك عنده لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش: ١] لْيَعْبُدُوا
[قريش: ٣] وكذلك عنده وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً [الأنبياء: ٩٢، المؤمنون: ٥٢]. و «المساجد» المخصوصة بينة التمكن في كونها لله تعالى فيصح أن تفرد للصلاة والدعاء وقراءة العلم، وكل ما هو خالص لله تعالى، وأن لا يتحدث بها في أمور الدنيا. ولا يتخذ طريقا، ولا يجعل فيها لغير الله نصيب، ولقد قعدت للقضاء بين المسلمين في المسجد الجامع بالمرية مدة، ثم رأيت فيه من سوء المتخاصمين وأيمانهم وفجور الخصام وعائلته ودخول النسوان ما رأيت تنزيه البيت عنه فقطعت القعود للأحكام فيه. وقوله عز وجل: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يحتمل أن يكون خطابا من الله تعالى، ويحتمل أن يكون إخبارا عن الجن، وقرأ بعض القراء على ما تقدم «وأنه» بفتح الألف، وهذا عطف على قوله أَنَّهُ اسْتَمَعَ [الجن: ١]، والعبد على هذه القراءة قال قوم: هو نوح، والضمير في كادُوا لكفار قومه، وقال آخرون، هو محمد، والضمير في كادُوا للجن. المعنى أنهم كادُوا يتقصفون عليه لاستماع القرآن، وقرأ آخرون منهم «وإنه لما قام» بكسر الألف، والعبد محمد عليه السلام، والضمير في كادُوا يحتمل أن يكون للجن على المعنى الذي ذكرناه، ويحتمل أن يكون لكفار قومه
والضمير في كادُوا لأصحابه الذين يطوعون له ويقتدون به في الصلاة، فهم عليه لبد. واللبد الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض، ومنه قول عبد بن مناف بن ربع: [البسيط]
صافوا بستة أبيات وأربعة | حتى كأن عليهم جانيا لبدا |
«قال إنما» وهذه تؤيد بأنه محمد عليه السلام وإن كان الاحتمال باقيا من كليهما. واختلف القراء في فتح الياء من رَبِّي وفي سكونها. ثم أمر تعالى محمدا نبيه عليه السلام بالتبري من القدرة وأنه لا يملك لأحد ضَرًّا وَلا رَشَداً، بل الأمر كله لله. وقرأ الأعرج «رشدا» بضم الراء والشين، وقرأ أبيّ بن كعب «لكم غيا ولا رشدا». وقولهم مِنْ دُونِهِ أي من عند سواه. و «الملتحد» : الملجأ الذي يمال إليه ويركن، ومنه الإلحاد الميل، ومنه اللحد الذي يمال به إلى أحد شقي القبر.
قوله عز وجل:
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٨]
إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)
اختلف الناس في تأويل قوله إِلَّا بَلاغاً: فقال الحسن ما معناه أنه استثناء منقطع، والمعنى لن يجيرني من الله أحد إِلَّا بَلاغاً، فإني إن بلغت رحمني بذلك، والإجارة: للبلاغ مستعارة إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته، وقال بعض النحاة على هذا المعنى هو استثناء متصل. والمعنى لن أجد ملتحدا إِلَّا بَلاغاً، أي شيئا أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع، فيجبرني الله. وقال قتادة: التقدير لا أملك إِلَّا بَلاغاً إليكم، فأما الإيمان أو الكفر فلا أملكه. وقال بعض المتأولين إِلَّا بتقدير الانفصال، و «إن»
قال القاضي أبو محمد: وهذا العلم لا يقع لهم إلا في الآخرة، وقيل معناه لِيَعْلَمَ الله رسالته مبلغة خارجة إلى الوجود لأن علمه بكل شيء قد تقدم، وقرأ الجمهور: «ليعلم» بفتح الياء أي الله تعالى.
وقرأ ابن عباس: «ليعلم» بضم الياء، وقرأ أبو حيوة: «رسالة ربهم» على التوحيد، وقرأ ابن أبي عبلة:
«وأحيط» على ما لم يسم فاعله، وقوله تعالى: وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ معناه كل شيء معدود، وقوله تعالى:
لِيَعْلَمَ الآية، مضمنه أنه تعالى قد علم ذلك، فعلى هذا الفعل المضمر انعطف وَأَحاطَ، وَأَحْصى والله المرشد للصواب بمنه.