تفسير سورة المزّمّل

تفسير الرازي
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي .
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة المزمل

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة المزمل عليه السلام
وهي عشرون آية مكية
[سورة المزمل (٧٣) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُزَّمِّلِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَصْلُهُ الْمُتَزَمِّلُ بِالتَّاءِ وَهُوَ الَّذِي تَزَمَّلَ بِثِيَابِهِ أَيْ تَلَفَّفَ بِهَا، فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الزَّايِ، وَنَحْوُهُ الْمُدَّثِّرُ فِي الْمُتَدَثِّرِ، وَاخْتَلَفُوا لِمَ تَزَمَّلَ بِثَوْبِهِ؟ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافَهُ وَظَنَّ أَنَّ بِهِ مَسًّا مِنَ الْجِنِّ، فَرَجَعَ مِنَ الْجَبَلِ مُرْتَعِدًا وَقَالَ: زَمِّلُونِي، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ جِبْرِيلُ وَنَادَاهُ وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ وَثَانِيهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّمَا تَزَمَّلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِثِيَابِهِ لِلتَّهَيُّؤِ لِلصَّلَاةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نَائِمًا بِاللَّيْلِ مُتَزَمِّلًا فِي قَطِيفَةٍ فَنُودِيَ بِمَا يُهْجِنُ تِلْكَ الْحَالَةَ، وَقِيلَ: يَا أَيُّهَا النَّائِمُ الْمُتَزَمِّلُ بِثَوْبِهِ قُمْ وَاشْتَغِلْ بِالْعُبُودِيَّةِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ كَانَ مُتَزَمِّلًا فِي مِرْطٍ لِخَدِيجَةَ مُسْتَأْنِسًا بِهَا فَقِيلَ لَهُ: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ كَأَنَّهُ قِيلَ: اتْرُكْ نَصِيبَ النَّفْسِ وَاشْتَغِلْ بِالْعُبُودِيَّةِ وَخَامِسُهَا: قَالَ عِكْرِمَةُ: يَا أَيُّهَا الَّذِي زُمِّلَ أَمْرًا عَظِيمًا أَيْ حَمَلَهُ وَالزَّمْلُ الْحَمْلُ، وَازْدَمَلَهُ احْتَمَلَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ عكرمة الْمُزَّمِّلُ والْمُدَّثِّرُ [المدثر: ١] بِتَخْفِيفِ الزَّايِ وَالدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَالثَّاءِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ، فَإِنْ كَانَ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ كَانَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا وَالتَّقْدِيرُ يَا أَيُّهَا الْمُزَمِّلُ نَفْسَهُ وَالْمُدَثِّرُ نَفْسَهُ وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ فَصِيحٌ قَالَ تَعَالَى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ:
٢٣] أَيْ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ الْمَفْعُولِ كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ زَمَّلَ نَفْسَهُ أَوْ زَمَّلَهُ غَيْرُهُ، وَقُرِئَ (يَا أيها المتزمل) على الأصل.
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ٢ الى ٤]
قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُمِ اللَّيْلَ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ كَانَ فَرِيضَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: قُمِ اللَّيْلَ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ ثُمَّ نُسِخَ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ النَّسْخِ عَلَى وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ
681
الْخَمْسُ ثُمَّ نُسِخَ بِهَا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ/ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ فَكَانَ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى وَكَمْ بَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ فَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَحْفَظَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ حَتَّى وَرِمَتْ أَقْدَامُهُمْ وَسُوقُهُمْ، فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ السورة: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [الْمُزَّمِّلِ: ٢٠] وَذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِ هَذَا الْإِيجَابِ وَبَيْنَ نَسْخِهِ سَنَةً، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِنَّ إِيجَابَ هَذَا كَانَ بِمَكَّةَ وَنَسْخَهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْقَدْرُ أَيْضًا بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ فِي هَذَا القول نسخ وجوب التهجد بقوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: ٢٠] ثُمَّ نُسِخَ هَذَا بِإِيجَابِ الصَّلَوَاتِ، وَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ نُسِخَ إِيجَابُ التَّهَجُّدِ بِإِيجَابِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ابْتِدَاءً، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: التَّهَجُّدُ مَا كَانَ وَاجِبًا قَطُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوهٌ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ:
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الْإِسْرَاءِ: ٧٩] فَبَيِّنَ أَنَّ التَّهَجُّدَ نَافِلَةٌ لَهُ لَا فَرْضٌ، وَأَجَابَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَعْنَى زِيَادَةُ وُجُوبٍ عَلَيْكَ وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّهَجُّدَ لَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الرَّسُولِ لَوَجَبَ عَلَى أُمَّتِهِ لِقَوْلِهِ: وَاتَّبِعُوهُ [الْأَعْرَافِ: ١٥٨] وَوُرُودُ النَّسْخِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَثَالِثُهَا: اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ فَفَوَّضَ ذَلِكَ إِلَى رَأْيِ الْمُكَلَّفِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ وَاجِبًا وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَقُولَ: أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ قِيَامَ اللَّيْلِ فَأَمَّا تَقْدِيرُهُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فَذَاكَ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِكَ، ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ أَجَابُوا عَنِ التَّمَسُّكِ بِقَوْلِهِ: قُمِ اللَّيْلَ وَقَالُوا ظَاهِرُ الْأَمْرِ يُفِيدُ النَّدْبَ، لِأَنَّا رَأَيْنَا أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى تَارَةً تُفِيدُ النَّدْبَ وَتَارَةً تُفِيدُ الْإِيجَابَ، فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِهَا مُفِيدَةً لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا تَرْجِيحُ جَانِبِ الْفِعْلِ عَلَى جَانِبِ التَّرْكِ، وَأَمَّا جَوَازُ التَّرْكِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى الْأَصْلِ، فَلَمَّا حَصَلَ الرُّجْحَانُ بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ وَحَصَلَ جَوَازُ التَّرْكِ بِمُقْتَضَى الْأَصْلِ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَنْدُوبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ قُمِ اللَّيْلَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَغَيْرُهُ بِضَمِّ الْمِيمِ، قَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّيٍّ:
الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْحَرَكَةِ الْهَرَبُ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَأَيُّ الْحَرَكَاتِ تُحَرِّكُ فَقَدْ حَصَلَ الْغَرَضُ وَحَكَى قُطْرُبٌ عَنْهُمْ: قُمِ اللَّيْلَ وقُلِ الْحَقُّ [الكهف: ٢٩] بِرَفْعِ الْمِيمِ وَاللَّامِ وَبِعُ الثَّوْبَ ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَسَرَ فَعَلَى أَصْلِ الْبَابِ وَمَنْ ضَمَّ أَتْبَعَ وَمَنْ فَتَحَ فَقَدْ مَالَ إِلَى خِفَّةِ الفتح.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهَانِ مُلَخَّصَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا الثُّلُثُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ [المزمل: ٢٠] فَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْمَقَادِيرِ الْوَاجِبَةِ الثُّلْثَانِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَوْمَ الثُّلُثِ جَائِزٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا/ قَلِيلًا هُوَ الثُّلُثُ، فَإِذًا قَوْلُهُ:
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا مَعْنَاهُ قُمْ ثُلْثَيِ اللَّيْلِ ثُمَّ قَالَ: نِصْفَهُ وَالْمَعْنَى أَوْ قُمْ نِصْفَهُ، كَمَا تَقُولُ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ، أَيْ جَالِسْ ذَا أَوْ ذَا أَيُّهُمَا شِئْتَ، فَتَحْذِفُ وَاوَ الْعَطْفِ فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: قُمِ الثُّلُثَيْنِ أَوْ قُمِ النِّصْفَ أَوِ انْقُصْ مِنَ النِّصْفِ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الثُّلُثَانِ أَقْصَى الزِّيَادَةِ، وَيَكُونُ الثُّلُثُ أَقْصَى النُّقْصَانِ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ هُوَ الثُّلُثُ، وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ يَكُونُ مَنْدُوبًا، فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَلْزَمُكُمْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَرَكَ
682
الْوَاجِبَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ فَمَنْ قَرَأَ نِصْفِهِ وَثُلُثِهِ بِالْخَفْضِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّكَ تَقُومُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثَيْنِ، وَأَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ، وَأَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِذَا كَانَ الثُّلُثُ وَاجِبًا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ، قُلْنَا: إِنَّهُمْ كَانُوا يُقَدِّرُونَ الثُّلُثَ بِالِاجْتِهَادِ، فَرُبَّمَا أخطئوا فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ وَنَقَصُوا مِنْهُ شَيْئًا قَلِيلًا فَيَكُونُ ذَلِكَ أَدْنَى مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ الْمَعْلُومِ بِتَحْدِيدِ الْأَجْزَاءِ عِنْدَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى لَهُمْ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [الْمُزَّمِّلِ: ٢٠]، الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: نِصْفَهُ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: قَلِيلًا وَهَذَا التَّفْسِيرُ جَائِزٌ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ نِصْفَ الشَّيْءِ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّهِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاجِبَ إِذَا كَانَ هُوَ النِّصْفَ لَمْ يَخْرُجْ صَاحِبُهُ عَنْ عُهْدَةِ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ بِيَقِينٍ إِلَّا بِزِيَادَةِ شَيْءٍ قَلِيلٍ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ فِي الْحَقِيقَةِ نِصْفًا وَشَيْئًا، فَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا مَعْنَاهُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا نَصِفَهُ، فَيَكُونُ الْحَاصِلُ: قُمْ نِصْفَ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَالَ: أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا يَعْنِي أَوِ انْقُصْ مِنْ هَذَا النِّصْفِ نِصْفَهُ حَتَّى يَبْقَى الرُّبُعُ، ثُمَّ قَالَ:
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ يَعْنِي أَوْ زِدْ عَلَى هَذَا النِّصْفِ نِصْفَهُ حَتَّى يصير المجموع ثلاثة أرباعه، وَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ حَاصِلُ الْآيَةِ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَقُومَ تَمَامَ النِّصْفِ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُومَ رُبُعَ اللَّيْلِ، وَبَيْنَ أَنْ يَقُومَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْوَاجِبُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ هُوَ قِيَامُ الرُّبُعِ، وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ يَكُونُ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ وَالنَّوَافِلِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ [المزمل: ٢٠] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَقُمْ ثُلْثَيِ اللَّيْلِ، وَلَا نِصْفَهُ وَلَا ثُلُثَهُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَمَّا كَانَ هُوَ الرُّبُعُ فَقَطْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ تَرْكِ قِيَامِ الثُّلُثِ تَرْكُ شَيْءٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، فَزَالَ السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ، وَاللَّهُ أعلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا قَالَ الزَّجَّاجُ: رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، بَيِّنْهُ تَبْيِينًا، وَالتَّبْيِينُ لَا يَتِمُّ بِأَنْ يَعْجَلَ فِي الْقُرْآنِ، إِنَّمَا يَتِمُّ بِأَنْ يَتَبَيَّنَ جَمِيعَ الْحُرُوفِ، وَيُوَفِّيَ حَقَّهَا مِنَ الْإِشْبَاعِ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَغْرٌ رَتْلٌ إِذَا كَانَ بَيْنَ الثَّنَايَا افْتِرَاقٌ لَيْسَ بِالْكَثِيرِ، وَقَالَ اللَّيْثُ: التَّرْتِيلُ تَنْسِيقُ الشَّيْءِ، وَثَغْرٌ رَتْلٌ، حَسَنُ التَّنْضِيدِ، وَرَتَّلْتُ الْكَلَامَ تَرْتِيلًا، إِذَا تَمَهَّلْتُ فِيهِ وَأَحْسَنْتُ تَأْلِيفَهُ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: تَرْتِيلًا تَأْكِيدٌ فِي إِيجَابِ الْأَمْرِ بِهِ، وَأَنَّهُ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْقَارِئِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ أَمَرَهُ بِتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْخَاطِرُ مِنَ التَّأَمُّلِ فِي حَقَائِقِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَدَقَائِقِهَا، فَعِنْدَ الْوُصُولِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ يَسْتَشْعِرُ عَظْمَتَهُ وَجَلَالَتَهُ، وَعِنْدَ الْوُصُولِ إِلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ يَحْصُلُ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَنِيرُ الْقَلْبُ بِنُورِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَالْإِسْرَاعُ فِي الْقِرَاءَةِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمَعَانِي، لِأَنَّ النَّفْسَ تَبْتَهِجُ بِذِكْرِ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَمَنِ ابْتَهَجَ بِشَيْءٍ أَحَبَّ ذِكْرَهُ، وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا لَمْ يَمُرَّ عَلَيْهِ بِسُرْعَةٍ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ من الترتيل إنما هو حضور القلب وكما المعرفة.
[سورة المزمل (٧٣) : آية ٥]
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥)
ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الثَّقِيلِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهِ ثَقِيلًا عِظَمُ قَدْرِهِ وَجَلَالَةُ خَطَرِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ نَفَسَ وَعَظُمَ خَطَرُهُ، فَهُوَ ثُقْلٌ وَثَقِيلٌ وَثَاقِلٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ:
قَوْلًا ثَقِيلًا يَعْنِي كَلَامًا عَظِيمًا، وَوَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أَمَرْتُكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ لِأَنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا عَظِيمًا، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَسْعَى فِي صَيْرُورَةِ نَفْسِكَ مُسْتَعِدَّةً لِذَلِكَ الْقَوْلِ الْعَظِيمِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الِاسْتِعْدَادُ إِلَّا بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ إِذَا اشْتَغَلَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَقْبَلَ عَلَى
ذِكْرِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالتَّضَرُّعِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنَ الشَّوَاغِلِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَوَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ اسْتَعَدَّتِ النَّفْسُ هُنَالِكَ لِإِشْرَاقِ جَلَالِ اللَّهِ فِيهَا، وَتَهَيَّأَتْ لِلتَّجَرُّدِ التَّامِّ، وَالِانْكِشَافِ الْأَعْظَمِ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ أَثَرٌ فِي صَيْرُورَةِ النَّفْسِ مُسْتَعِدَّةً لِهَذَا الْمَعْنَى لَا جَرَمَ قَالَ: إِنِّي إِنَّمَا أَمَرْتُكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ لِأَنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، فَصَيِّرْ نَفْسَكَ مُسْتَعِدَّةً لِقَبُولِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَتَمَامُ هَذَا الْمَعْنَى مَا
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ أَلَا فَتَعَرَّضُوا لَهَا»
وَثَانِيهَا: قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الثَّقِيلِ الْقُرْآنُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي هِيَ تَكَالِيفُ شَاقَّةٌ ثَقِيلَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ عَامَّةً، وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُهَا بِنَفْسِهِ وَيُبَلِّغُهَا إِلَى أُمَّتِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ ثِقَلَهُ رَاجِعٌ إِلَى ثِقَلِ الْعَمَلِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّكْلِيفِ إِلَّا إِلْزَامُ مَا فِي فِعْلِهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ وَثَالِثُهَا: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ ثَقِيلٌ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَةِ مَنَافِعِهِ وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ فِي الْعَمَلِ بِهِ وَرَابِعُهَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَثْقُلُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ،
رُوِيَ أَنَّ الْوَحْيَ نَزَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ فَثَقُلَ عَلَيْهَا، حَتَّى وضعت جرانها، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَتَحَرَّكَ،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ثَقُلَ عَلَيْهِ وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ،
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَرْفُضُ عَرَقًا»
وَخَامِسُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: قَوْلًا ثَقِيلًا أَيْ لَيْسَ بِالْخَفِيفِ وَلَا بِالسَّفْسَافِ، لِأَنَّهُ كَلَامُ رَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَسَادِسُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَوْلٌ مَتِينٌ فِي صِحَّتِهِ وَبَيَانِهِ وَنَفْعِهِ، / كَمَا تَقُولُ: هَذَا كَلَامٌ رَزِينٌ وَهَذَا قَوْلٌ لَهُ وَزْنٌ إِذَا كُنْتَ تَسْتَجِيدُهُ وَتَعْلَمُ أَنَّهُ وَقَعَ مَوْقِعَ الْحِكْمَةِ وَالْبَيَانِ وَسَابِعُهَا:
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: إِنَّهُ ثَقِيلٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَهْتِكُ أَسْرَارَهُمْ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُبْطِلُ أَدْيَانَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ وَثَامِنُهَا: أَنَّ الثَّقِيلَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْقَى فِي مَكَانِهِ وَلَا يَزُولَ، فَجُعِلَ الثَّقِيلُ كِنَايَةً عَنْ بَقَاءِ الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ كَمَا قَالَ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحِجْرِ: ٩]، وَتَاسِعُهَا: أَنَّهُ ثَقِيلٌ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ الْوَاحِدَ لَا يَفِي بِإِدْرَاكِ فَوَائِدِهِ وَمَعَانِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَالْمُتَكَلِّمُونَ غَاصُوا فِي بِحَارِ مَعْقُولَاتِهِ، وَالْفُقَهَاءُ أَقْبَلُوا عَلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْكَامِهِ، وَكَذَا أَهْلُ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَأَرْبَابُ الْمَعَانِي، ثُمَّ لَا يَزَالُ كُلُّ مُتَأَخِّرٍ يَفُوزُ مِنْهُ فَوَائِدَ مَا وَصَلَ إِلَيْهَا الْمُتَقَدِّمُونَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الْوَاحِدَ لَا يَقْوَى عَلَى الِاسْتِقْلَالِ بِحَمْلِهِ، فَصَارَ كَالْحِمْلِ الثَّقِيلِ الَّذِي يَعْجَزُ الْخَلْقُ عَنْ حَمْلِهِ، وَعَاشِرُهَا: أَنَّهُ ثَقِيلٌ لِكَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابَهِ، وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ، الْمُحِيطُونَ بِجَمِيعِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحُكْمِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ كَانَتِ الْإِحَاطَةُ بِهِ ثَقِيلَةً عَلَى أكثر الخلق.
[سورة المزمل (٧٣) : آية ٦]
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ يُقَالُ: نَشَأَتْ تَنْشَأُ نَشْأً فَهِيَ نَاشِئَةٌ، وَالْإِنْشَاءُ الْإِحْدَاثُ، فَكُلُّ مَا حَدَثَ [فَهُوَ نَاشِئٌ] فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلذَّكَرِ نَاشِئٌ وَلِلْمُؤَنَّثِ نَاشِئَةٌ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي النَّاشِئَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالثَّانِي: أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ، أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: نَاشِئَةُ اللَّيْلِ سَاعَاتُهُ وَأَجْزَاؤُهُ الْمُتَتَالِيَةُ الْمُتَعَاقِبَةُ فَإِنَّهَا تَحْدُثُ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى، فَهِيَ نَاشِئَةٌ بَعْدَ نَاشِئَةٍ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ اللَّيْلُ كله ناشئة، روى ابن أبي ملكية، قَالَ سَأَلَتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ الزُّبَيْرِ عَنْ ناشئة الليل، فقال اللَّيْلُ كُلُّهُ نَاشِئَةٌ.
وَقَالَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَاشِئَةُ اللَّيْلِ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعِشَاءِ،
وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَالْكِسَائِيِّ قَالُوا: لِأَنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ السَّاعَةُ الَّتِي مِنْهَا يَبْتَدِئُ سَوَادُ
684
اللَّيْلِ، الْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ تَفْسِيرُ النَّاشِئَةِ بِأُمُورٍ تَحْدُثُ فِي اللَّيْلِ، وَذَكَرُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالُوا:
نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ النَّفْسُ النَّاشِئَةُ بِاللَّيْلِ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْ مَضْجَعِهَا إِلَى الْعِبَادَةِ أَيْ تَنْهَضُ وَتَرْتَفِعُ مِنْ نَشَأَتِ السَّحَابَةُ إِذَا ارْتَفَعَتْ وَثَانِيهَا: نَاشِئَةُ اللَّيْلِ عِبَارَةٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ إِذَا نِمْتَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ نَوْمَةً ثُمَّ قُمْتَ فَتِلْكَ النَّشْأَةُ، وَمِنْهُ نَاشِئَةُ اللَّيْلِ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ فِي اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ فِي الْبَيْتِ الْمُظْلِمِ فِي مَوْضِعٍ لَا تَصِيرُ حَوَاسُّهُ مَشْغُولَةً بِشَيْءٍ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ أَلْبَتَّةَ، فَحِينَئِذٍ يُقْبِلُ الْقَلْبُ عَلَى الْخَوَاطِرِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْأَفْكَارِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَمَّا النَّهَارُ فَإِنَّ الْحَوَاسَّ تَكُونُ مَشْغُولَةً بِالْمَحْسُوسَاتِ فَتَصِيرُ النَّفْسُ مَشْغُولَةً بِالْمَحْسُوسَاتِ، فَلَا تَتَفَرَّغُ لِلْأَحْوَالِ الرُّوحَانِيَّةِ، فَالْمُرَادُ مِنْ نَاشِئَةِ اللَّيْلِ تِلْكَ الْوَارِدَاتُ الرُّوحَانِيَّةُ/ وَالْخَوَاطِرُ النُّورَانِيَّةُ، الَّتِي تَنْكَشِفُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ بِسَبَبِ فَرَاغِ الْحَوَاسِّ، وَسَمَّاهَا نَاشِئَةَ اللَّيْلِ لِأَنَّهَا لَا تَحْدُثُ إِلَّا فِي اللَّيْلِ بِسَبَبِ أَنَّ الْحَوَاسَّ الشَّاغِلَةَ لِلنَّفْسِ مُعَطَّلَةٌ فِي اللَّيْلِ وَمَشْغُولَةٌ فِي النَّهَارِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ النَّاشِئَةَ مِنْهَا تَارَةً أَفْكَارٌ وَتَأَمُّلَاتٌ، وَتَارَةً أَنْوَارٌ وَمُكَاشَفَاتٌ، وَتَارَةً انْفِعَالَاتٌ نَفْسَانِيَّةٌ مِنَ الِابْتِهَاجِ بِعَالَمِ الْقُدُسِ أَوِ الْخَوْفِ مِنْهُ، أَوْ تَخَيُّلَاتُ أَحْوَالٍ عَجِيبَةٍ، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ النَّاشِئَةُ أَجْنَاسًا كَثِيرَةً لَا يَجْمَعُهَا جَامِعٌ إِلَّا أَنَّهَا أُمُورٌ نَاشِئَةٌ حَادِثَةٌ لَا جَرَمَ لَمْ يَصِفْهَا إلا بأنها ناشئة الليل.
أما قوله تعالى: هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أي مواطأة وملاءمة وموافقة، وهي مَصْدَرٌ يُقَالُ: وَاطَأْتُ فُلَانًا عَلَى كَذَا مُوَاطَأَةً ووطأة ومنه لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ [التَّوْبَةِ: ٣٧] أَيْ لِيُوَافِقُوا، فَإِنْ فَسَّرْنَا النَّاشِئَةَ بِالسَّاعَاتِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهَا أشد موافقة لما يرد مِنَ الْخُشُوعِ وَالْإِخْلَاصِ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِالنَّفْسِ النَّاشِئَةِ كَانَ الْمَعْنَى شِدَّةَ الْمُوَاطَأَةِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِقِيَامِ اللَّيْلِ كَانَ الْمَعْنَى مَا يُرَادُ مِنَ الْخُشُوعِ وَالْإِخْلَاصِ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهَا بِمَا ذَكَرْتُ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ إِفْضَاءَ تِلْكَ الْمُجَاهَدَاتِ إِلَى حُصُولِ الْمُكَاشَفَاتِ فِي اللَّيْلِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي النَّهَارِ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَشَدُّ مُوَافَقَةً بَيْنَ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ لِانْقِطَاعِ رُؤْيَةِ الْخَلَائِقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: أَشَدُّ وَطْئاً بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: أَشَدُّ ثَبَاتَ قَدَمٍ، لِأَنَّ النَّهَارَ يَضْطَرِبُ فِيهِ النَّاسُ وَيَتَقَلَّبُونَ فِيهِ لِلْمَعَاشِ وَالثَّانِي: أَثْقَلُ وَأَغْلَظُ عَلَى الْمُصَلِّي مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: اشْتَدَّتْ عَلَى الْقَوْمِ وَطْأَةُ سُلْطَانِهِمْ إِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ مُعَامَلَتُهُمْ مَعَهُ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ»
فَأَعْلَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنَّ الثَّوَابَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَى قَدْرِ شِدَّةِ الْوَطْأَةِ وَثِقَلِهَا، وَنَظِيرُهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَحَمَزُهَا»
أَيْ أَشَقُّهَا. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى، قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أَمَرْتُكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فِيهِ أَكْمَلُ، وَأَيْضًا الْخَوَاطِرُ اللَّيْلِيَّةُ إِلَى الْمُكَاشَفَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ أتم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْوَمُ قِيلًا فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الأولى: أَقْوَمُ قِيلًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحْسَنُ لَفْظًا، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لِأَنَّ اللَّيْلَ تَهْدَأُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ وَتَنْقَطِعُ فِيهِ الْحَرَكَاتُ وَيَخْلُصُ الْقَوْلُ، وَلَا يَكُونُ دُونَ تَسَمُّعِهِ وَتَفَهُّمِهِ حَائِلٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَنَسٌ (وَأَصْوَبُ قِيلًا)، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ إِنَّمَا هِيَ: وَأَقْوَمُ قِيلًا فَقَالَ أَنَسٌ:
685
[إن أقوم] «١» وَأَصْوَبُ وَأَهْيَأُ وَاحِدٌ، قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْتَبِرُونَ الْمَعَانِيَ، فَإِذَا وَجَدُوهَا لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى الْأَلْفَاظِ وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا سَوَّارٍ الْغَنَوِيَّ كَانَ يَقْرَأُ: (فَحَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ) بِالْحَاءِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا هُوَ جَاسُوا، فَقَالَ: حَاسُوا وجاسوا واحد وأنا/ أقول: يجب أن نحمل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلَفْظِ الْقُرْآنِ لَا عَلَى أَنَّهُ جَعَلَهُ نَفْسَ الْقُرْآنِ، إِذْ لَوْ ذَهَبْنَا إِلَى مَا قَالَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ لَارْتَفَعَ الِاعْتِمَادُ عَنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، وَلَجَوَّزْنَا أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ عَبَّرَ عَنِ الْمَعْنَى بِلَفْظٍ رَآهُ مُطَابِقًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى، ثُمَّ رُبَّمَا أَصَابَ فِي ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ، وَرُبَّمَا أَخْطَأَ وَهَذَا يَجُرُّ إِلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حمل ذلك على ما ذكرناه.
[سورة المزمل (٧٣) : آية ٧]
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُبَرِّدُ: سَبْحًا أَيْ تَقَلُّبًا فِيمَا يَجِبُ وَلِهَذَا سُمِّي السَّابِحُ سَابِحًا لِتَقَلُّبِهِ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَعْنَى وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ تَصَرُّفًا وَتَقَلُّبًا فِي مُهِمَّاتِكَ فَلَا تَتَفَرَّغْ لِخِدْمَةِ اللَّهِ إِلَّا بِاللَّيْلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرْتُكَ بِالصَّلَاةِ فِي اللَّيْلِ الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ إِنْ فَاتَكَ مِنَ اللَّيْلِ شَيْءٌ مِنَ النَّوْمِ وَالرَّاحَةِ فَلَكَ فِي النَّهَارِ فَرَاغُهُ فَاصْرِفْهُ إِلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ سَبْخًا بِالْخَاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقُ، وَهُوَ استعارة من سبخ الصوف وهو نقشه وَنَشْرُ أَجْزَائِهِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ فِي النَّهَارِ يَتَفَرَّغُ بِسَبَبِ الشَّوَاغِلِ، وَتَخْتَلِفُ هُمُومُهُ بِسَبَبِ الْمُوجِبَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَوَّلًا بِقِيَامِ اللَّيْلِ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّبَبَ فِي أَنَّهُ لِمَ خَصَّ اللَّيْلَ بِذَلِكَ دُونَ النَّهَارِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَشْرَفَ الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا عِنْدَ قِيَامِ الليل ما هو.
[سورة المزمل (٧٣) : آية ٨]
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨)
[في قوله تعالى وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ] وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: الذِّكْرُ، وَالثَّانِي: التَّبَتُّلُ، أَمَّا الذِّكْرُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ:
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ هاهنا وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً [الْأَعْرَافِ: ٢٠٥] لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنْ ذِكْرِ الِاسْمِ بِاللِّسَانِ مُدَّةً ثُمَّ يَزُولُ الِاسْمُ وَيَبْقَى الْمُسَمَّى، فَالدَّرَجَةُ الأولى هي المراد بقوله هاهنا: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ وَإِنَّمَا تَكُونُ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِ الرَّبِّ، إِذَا كُنْتَ فِي مَقَامِ مُطَالَعَةِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَرُبُوبِيَّتُهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْوَاعِ تَرْبِيَتِهِ لَكَ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْكَ، فَمَا دُمْتَ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَكُونُ مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِمُطَالَعَةِ آلَائِهِ وَنَعْمَائِهِ فَلَا تَكُونُ مُسْتَغْرِقَ الْقَلْبِ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يَزْدَادُ التَّرَقِّي فَتَصِيرُ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِ إِلَهِيَّتِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢٠٠] وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِي مَقَامِ الْهَيْبَةِ وَالْخَشْيَةِ، لِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَهَارِيَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالْعُلُوِّ وَالصَّمَدِيَّةِ، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَرْقَى فِي هَذَا الْمَقَامِ مُتَرَدِّدًا فِي مَقَامَاتِ الْجَلَالِ وَالتَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ إِلَى أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهَا إِلَى مَقَامِ الْهَوِيَّةِ الْأَحَدِيَّةِ، الَّتِي كَلَّتِ الْعِبَارَاتُ عَنْ شَرْحِهَا، وَتَقَاصَرَتِ الْإِشَارَاتُ عَنِ الِانْتِهَاءِ إِلَيْهَا، وَهُنَاكَ الِانْتِهَاءُ إِلَى الْوَاحِدِ الْحَقِّ، ثُمَّ يَقِفُ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ نَظِيرٌ فِي الصِّفَاتِ، حَتَّى يَحْصُلَ الِانْتِقَالُ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، ولا «٢» تكون الهوية
(١) زيادة من الكشاف ٤/ ١٧٦ ط. دار الفكر.
(٢) في الأصل (ولا أن تكون) وأن فيما يظهر لي زائدة فحذفتها وأنبهت إلى ذلك رعاية للأصل.
مُرَكَّبَةً حَتَّى/ يَنْتَقِلَ نَظَرُ الْعَقْلِ مِنْ جُزْءٍ إِلَى جُزْءٍ، وَلَا «١» مُنَاسِبَةً لِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُدْرَكَةِ عَنِ النَّفْسِ حَتَّى تُعْرَفَ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَايَسَةِ، فَهِيَ الظَّاهِرَةُ لِأَنَّهَا مَبْدَأُ ظُهُورِ كُلِّ ظَاهِرٍ، وَهِيَ الْبَاطِنَةُ لِأَنَّهَا فَوْقَ عُقُولِ كُلِّ الْمَخْلُوقَاتِ، فَسُبْحَانَ مَنِ احْتَجَبَ عَنِ الْعُقُولِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ وَاخْتَفَى عَنْهَا بِكَمَالِ نُورِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرُوا التَّبَتُّلَ بِالْإِخْلَاصِ، وَأَصْلُ التَّبَتُّلِ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ، وَقِيلَ لِمَرْيَمَ الْبَتُولُ لِأَنَّهَا انْقَطَعَتْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَادَةِ، وَصَدَقَةٌ بَتْلَةٌ مُنْقَطِعَةٌ مِنْ مَالِ صَاحِبِهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ: التَّبْتِيلُ تَمْيِيزُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ، وَالْبَتُولُ كُلُّ امْرَأَةٍ تَنْقَبِضُ مِنَ الرِّجَالِ، لَا رَغْبَةَ لَهَا فِيهِمْ. إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ لِلْعَابِدِ إِذَا تَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ قَدْ تَبَتَّلَ أَيِ انْقَطَعَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ التَّبَتُّلُ رَفْضُ الدُّنْيَا مَعَ كُلِّ مَا فِيهَا وَالْتِمَاسُ مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ فَوْقَ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الظَّاهِرِيُّونَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَتَبَتَّلْ أَيِ انْقَطِعْ عَنْ كل ما سواه إليه والمشغول بِطَلَبِ الْآخِرَةِ غَيْرُ مُتَبَتِّلٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، بل التبتل إلى الآخرة والمشغول بعبارة اللَّهِ مُتَبَتِّلٌ إِلَى الْعِبَادَةِ لَا إِلَى اللَّهِ، وَالطَّالِبُ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ مُتَبَتِّلٌ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ لَا إِلَى اللَّهِ فَمَنْ آثَرَ الْعِبَادَةَ لِنَفْسِ الْعِبَادَةِ أَوْ لِطَلَبِ الثَّوَابِ أَوْ لِيَصِيرَ مُتَعَبِّدًا كَامِلًا بِتِلْكَ الْعُبُودِيَّةِ لِلْعُبُودِيَّةِ فَهُوَ مُتَبَتِّلٌ إِلَى غير الله، ومن آثر العرفان فَهُوَ مُتَبَتِّلٌ إِلَى الْعِرْفَانِ، وَمَنْ آثَرَ الْعُبُودِيَّةَ لَا لِلْعُبُودِيَّةِ بَلْ لِلْمَعْبُودِ وَآثَرَ الْعِرْفَانَ لَا لِلْعِرْفَانِ بَلْ لِلْمَعْرُوفِ، فَقَدْ خَاضَ لُجَّةَ الْوُصُولِ، وَهَذَا مَقَامٌ لَا يَشْرَحُهُ الْمَقَالُ وَلَا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْخَيَالُ، وَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَكُنْ مِنَ الْوَاصِلِينَ إِلَى الْعَيْنِ دُونَ السَّامِعِينَ لِلْأَثَرِ وَلَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ لِهَذَا مِثَالًا إِلَّا عِنْدَ الْعِشْقِ الشَّدِيدِ إِذَا مَرِضَ الْبَدَنُ بِسَبَبِهِ وَانْحَبَسَتِ الْقُوَى وَعَمِيَتِ الْعَيْنَانِ وَزَالَتِ الْأَغْرَاضُ بِالْكُلِّيَّةِ وَانْقَطَعَتِ النَّفْسُ عَمَّا سِوَى الْمَعْشُوقِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَهُنَاكَ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّبَتُّلِ إِلَى الْمَعْشُوقِ وَبَيْنَ التَّبَتُّلِ إِلَى رُؤْيَةِ الْمَعْشُوقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبَتُّلًا أَوْ يُقَالُ: بَتِّلْ نَفْسَكَ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا، لَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْهُمَا وَاخْتَارَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ الدَّقِيقَةَ وَهِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ إِنَّمَا هُوَ التَّبَتُّلُ فَأَمَّا التَّبْتِيلُ فَهُوَ تَصَرُّفٌ وَالْمُشْتَغِلُ بِالتَّصَرُّفِ لَا يَكُونُ مُتَبَتِّلًا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا إِلَى اللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَوَّلًا مِنَ التَّبْتِيلِ حَتَّى يَحْصُلَ التَّبَتُّلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٩] فَذَكَرَ التَّبَتُّلَ أَوَّلًا إِشْعَارًا بِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَذَكَرَ التَّبْتِيلَ ثَانِيًا إِشْعَارًا بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ ولكنه مقصود بالغرض.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالذِّكْرِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالتَّبَتُّلِ ثَانِيًا ذَكَرَ السَّبَبَ فِيهِ فَقَالَ تعالى:
[سورة المزمل (٧٣) : آية ٩]
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩)
[في قوله تَعَالَى رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ التَّبَتُّلَ إِلَيْهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْمَحَبَّةِ، وَالْمَحَبَّةُ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَ الْمَحَبَّةِ إِمَّا الْكَمَالُ وَإِمَّا التَّكْمِيلُ، أَمَّا الْكَمَالُ فَلِأَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ شَيْءٍ إِنَّمَا كَانَ مَحْبُوبًا لِأَجْلِ شَيْءٍ آخَرَ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنَ الانتهاء إلى ما يكون
(١) فيه أيضا (ولا إنها مناسبة) وهي كسابقتها.
مَحْبُوبًا لِذَاتِهِ، وَالْكَمَالُ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، فَإِنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ فُلَانًا الَّذِي كَانَ قَبْلَ هَذَا بِأَلْفِ سَنَةٍ كَانَ مَوْصُوفًا بِعِلْمٍ أَزْيَدَ مِنْ عِلْمِ سَائِرِ النَّاسِ مَالَ طَبْعُهُ إِلَيْهِ وَأَحَبَّهُ شَاءَ أَمْ أَبَى، وَمَنِ اعْتَقَدَ فِي رُسْتُمَ أَنَّهُ كَانَ مَوْصُوفًا بِشَجَاعَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى شَجَاعَةِ سَائِرِ النَّاسِ أَحَبَّهُ شَاءَ أَمْ أَبَى، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْكَمَالَ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ وَكَمَالُ الْكَمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَاللَّهُ تَعَالَى مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، فَمَنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّتُهُ كَانَ ذَلِكَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِكَمَالِهِ، وَأَمَّا التَّكْمِيلُ فَهُوَ أَنَّ الْجَوَادَ مَحْبُوبٌ وَالْجَوَادُ الْمُطْلَقُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَالْمَحْبُوبُ الْمُطْلَقُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالتَّبَتُّلُ الْمُطْلَقُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْكَمَالَ الْمُطْلَقَ لَهُ وَالتَّكْمِيلَ الْمُطْلَقَ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ التَّبَتُّلُ الْمُطْلَقُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّبَتُّلَ الْحَاصِلَ إِلَيْهِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مَبْدَأً لِلتَّكْمِيلِ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّبَتُّلِ الْحَاصِلِ إِلَيْهِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي مَبْدَأِ السَّيْرِ يَكُونُ طَالِبًا لِلْحِصَّةِ فَيَكُونُ تَبَتُّلُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ كَوْنِهِ مَبْدَأً لِلتَّكْمِيلِ وَالْإِحْسَانِ، ثُمَّ فِي آخِرِ السَّيْرِ يَتَرَقَّى عَنْ طَلَبِ الْحِصَّةِ كَمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهُ يَصِيرُ طَالِبًا لِلْمَعْرُوفِ لَا لِلْعِرْفَانِ، فَيَكُونُ تَبَتُّلُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ كَامِلًا فَقَوْلُهُ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الْمُتَبَتِّلِينَ وَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى دَرَجَاتِ الْمُتَبَتِّلِينَ وَمُنْتَهَى أَقْدَامِ الصِّدِّيقِينَ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ سِرٌّ مَخْفِيٌّ، ثُمَّ وَرَاءَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مَقَامٌ آخَرُ، وَهُوَ مَقَامُ التَّفْوِيضِ، وَهُوَ أَنْ يَرْفَعَ الِاخْتِيَارَ مِنَ الْبَيْنِ، وَيُفَوِّضَ الْأَمْرَ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَيْهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْحَقَّ بِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ متبتلا رضي بعدم التبتيل لا من حيث إنه عدم التبتيل، بل من حيث إنه مراد الحق، وهاهنا آخِرُ الدَّرَجَاتِ، وَقَوْلُهُ: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا إِشَارَةٌ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، فَهَذَا مَا جَرَى بِهِ الْقَلَمُ في تفسير في هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي الزَّوَايَا خَبَايَا، وَمِنْ أَسْرَارِ هَذِهِ الْآيَةِ بَقَايَا وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لُقْمَانَ: ٢٧].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَبُّ فِيهِ قِرَاءَتَانِ إِحْدَاهُمَا: الرَّفْعُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْمَدْحِ، وَالتَّقْدِيرُ هُوَ رَبُّ الْمَشْرِقِ، فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَقَوْلِهِ: بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ [الْحَجِّ: ٧٢] وَقَوْلِهِ: مَتاعٌ قَلِيلٌ [آلِ عِمْرَانَ:
١٩٧] أَيْ تَقَلُّبُهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَالثَّانِي: أَنْ تَرْفَعَهُ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ، لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وَالْعَائِدُ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمُنْفَصِلُ، وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: الْخَفْضُ، وَفِيهَا وَجْهَانِ: الأول: على البدل من رَبِّكَ [المزمل: ٨] وَالثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى الْقَسَمِ بِإِضْمَارِ حَرْفِ الْقَسَمِ كَقَوْلِكَ. اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ وَجَوَابُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ كَمَا تَقُولُ وَاللَّهِ لَا أَحَدَ فِي الدَّارِ إِلَّا زِيدٌ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَبُّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَزِمَكَ أَنْ تَتَّخِذَهُ وَكِيلًا/ وأن تفوض كل أمورك إليه، وهاهنا مَقَامٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ مَعْرِفَةُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ تُوجِبُ تَفْوِيضَ كُلِّ الْأُمُورِ إِلَيْهِ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُفَوِّضُ كُلَّ الْأُمُورِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِحَقِيقَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ وَمُحْدَثٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ وَمُحْدَثٍ، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ لَمْ يَجِبْ، وَلَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ وَاحِدًا كَانَ جَمِيعُ الْمُمْكِنَاتِ مُسْتَنِدَةً إِلَيْهِ، مُنْتَهِيَةً إِلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَكِيلًا أَيْ كَفِيلًا بما وعدك من النصر والإظهار.
[سورة المزمل (٧٣) : آية ١٠]
وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠)
الْمَعْنَى إِنَّكَ لَمَّا اتَّخَذْتَنِي وَكِيلًا فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَفَوِّضْ أَمْرَهُمْ إِلَيَّ فَإِنَّنِي لَمَّا كُنْتُ وَكِيلًا لَكَ أَقُومُ بِإِصْلَاحِ أَمْرِكَ أَحْسَنَ مِنْ قِيَامِكَ بِإِصْلَاحِ أُمُورِ نَفْسِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُهِمَّاتِ الْعِبَادِ مَحْصُورَةٌ فِي أَمْرَيْنِ كَيْفِيَّةِ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ، وَكَيْفِيَّةِ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ الْخَلْقِ، وَالْأَوَّلُ أَهَمُّ مِنَ الثَّانِي، فَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَتْبَعَهُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ سُبْحَانَهُ جَمَعَ كَلَّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِطًا لِلنَّاسِ أَوْ مُجَانِبًا عَنْهُمْ فَإِنْ خَالَطَهُمْ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمُصَابَرَةِ عَلَى إِيذَائِهِمْ وَإِيحَاشِهِمْ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ يَطْمَعُ مِنْهُمْ فِي الْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ لَمْ يَجِدْ فَيَقَعَ فِي الْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ مُخَالَطَةً مَعَ الْخَلْقِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ الْكَثِيرِ، فَأَمَّا إِنْ تَرَكَ الْمُخَالَطَةَ فَذَاكَ هُوَ الْهَجْرُ الْجَمِيلُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْهَجْرُ الْجَمِيلُ أَنْ يُجَانِبَهُمْ بِقَلْبِهِ وَهَوَاهُ وَيُخَالِفَهُمْ فِي الْأَفْعَالِ مَعَ الْمُدَارَاةِ وَالْإِغْضَاءِ وَتَرْكِ الْمُكَافَأَةِ، وَنَظِيرُهُ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ [النِّسَاءِ: ٦٣] وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: ١٩٩] فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [النَّجْمِ: ٢٩] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ الْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْأَخْذُ بِإِذْنِ اللَّهِ فِيمَا يَكُونُ أَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ فَلَا يَرِدُ النَّسْخُ فِي مِثْلِهِ وهذا أصح.
[سورة المزمل (٧٣) : آية ١١]
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١)
اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا اهْتَمَّ إِنْسَانٌ بِمُهِمٍّ وَكَانَ غَيْرُهُ قَادِرًا عَلَى كِفَايَةِ ذَلِكَ الْمُهِمِّ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ قَالَ لَهُ:
ذَرْنِي أَنَا وَذَاكَ أَيْ لَا حَاجَةَ مَعَ اهْتِمَامِي بِذَاكَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ [الْقَلَمِ: ٤٤] وَقَوْلُهُ: أُولِي النَّعْمَةِ بِالْفَتْحِ التَّنَعُّمُ وَبِالْكَسْرِ الْإِنْعَامُ وَبِالضَّمِّ الْمَسَرَّةُ يُقَالُ: أَنْعَمَ بِكَ وَنَعِمَكَ عَيْنًا أَيْ أَسَرَّ عَيْنَكَ وَهُمْ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ وَكَانُوا أَهْلَ تَنَعُّمٍ وَتَرَفُّهٍ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنَ الْقَلِيلِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ الْقَلِيلِ تِلْكَ الْمُدَّةُ الْقَلِيلَةُ الْبَاقِيَةُ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ أَهْلَكَهُمْ في ذلك اليوم.
ثُمَّ ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ عَذَابِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ:
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١٢ الى ١٣]
إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣)
أَيْ إِنَّ لَدَيْنَا فِي الْآخِرَةِ مَا يُضَادُّ تَنَعُّمَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَذَكَرَ أُمُورًا أَرْبَعَةً أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أَنْكالًا وَاحِدُهَا نِكْلٌ وَنُكْلٌ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: النِّكْلُ الْقَيْدُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: النِّكْلُ الْقَيْدُ الثَّقِيلُ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَجَحِيماً وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى التَّفْسِيرِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ الْغُصَّةُ مَا يُغَصُّ بِهِ الْإِنْسَانُ، وَذَلِكَ الطَّعَامُ هُوَ الزَّقُّومُ وَالضَّرِيعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الْغَاشِيَةِ: ٦] قَالُوا: إِنَّهُ شَوْكٌ كَالْعَوْسَجِ يَأْخُذُ بِالْحَلْقِ يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَعَذاباً أَلِيماً وَالْمُرَادُ مِنْهُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْعُقُوبَةِ الرُّوحَانِيَّةِ، أَمَّا الْأَنْكَالُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ بَقَاءِ النَّفْسِ فِي قَيْدِ التَّعَلُّقَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَاللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، فَإِنَّهَا فِي الدُّنْيَا لَمَّا اكْتَسَبَتْ مَلَكَةَ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ وَالرَّغْبَةِ، فَبَعْدَ الْبَدَنِ يَشْتَدُّ الْحَنِينُ، مَعَ أَنَّ آلَاتِ الْكَسْبِ قَدْ بَطَلَتْ فَصَارَتْ تِلْكَ كَالْأَنْكَالِ وَالْقُيُودِ الْمَانِعَةِ لَهُ مِنَ التَّخَلُّصِ إِلَى عَالَمِ الرُّوحِ وَالصَّفَاءِ، ثُمَّ يَتَوَلَّدُ مِنْ تِلْكَ الْقُيُودِ الرُّوحَانِيَّةِ نِيرَانٌ رُوحَانِيَّةٌ، فَإِنَّ شَدَّةَ مَيْلِهَا إِلَى الْأَحْوَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَعَدَمَ تَمَكُّنِهَا مِنَ الْوُصُولِ إليها، يوجب
حُرْقَةً شَدِيدَةً رُوحَانِيَّةً كَمَنْ تَشْتَدُّ رَغْبَتُهُ فِي وِجْدَانِ شَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَجِدُهُ فَإِنَّهُ يَحْتَرِقُ قَلْبُهُ عَلَيْهِ، فَذَاكَ هُوَ الْجَحِيمُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَجَرَّعُ غُصَّةَ الْحِرْمَانِ وَأَلَمَ الْفِرَاقِ، فَذَاكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ ثُمَّ إِنَّهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ بَقِيَ مَحْرُومًا عَنْ تَجَلِّي نُورِ اللَّهِ وَالِانْخِرَاطِ فِي سِلْكِ الْمُقَدَّسِينَ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:
وَعَذاباً أَلِيماً وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَعَذاباً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ أَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ وَأَكْمَلُ، وَاعْلَمْ أَنِّي لَا أَقُولُ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ هُوَ مَا ذَكَرْتُهُ فَقَطْ، بَلْ أَقُولُ إِنَّهَا تُفِيدُ حُصُولَ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَحُصُولَ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرَاتِبِ الْجُسْمَانِيَّةِ حَقِيقَةً، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرَاتِبِ الرُّوحَانِيَّةِ مَجَازًا مُتَعَارَفًا مَشْهُورًا.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْعَذَابَ، أَخْبَرَ أنه متى يكون ذلك فقال تعالى:
[سورة المزمل (٧٣) : آية ١٤]
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِ: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً [المزمل: ١٢] أَيْ نُنَكِّلُ بِالْكَافِرِينَ وَنُعَذِّبُهُمْ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرَّجْفَةُ الزَّلْزَلَةُ وَالزَّعْزَعَةُ الشَّدِيدَةُ، وَالْكَثِيبُ الْقِطْعَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ الرَّمْلِ تَجْتَمِعُ مُحْدَوْدِبَةً وَجَمْعُهُ الْكُثْبَانُ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الِاشْتِقَاقِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ كَثَبَ الشَّيْءَ/ إِذَا جَمَعَهُ كَأَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَالثَّانِي: قَالَ اللَّيْثُ: الْكَثِيبُ نَثْرُ التُّرَابِ أَوِ الشَّيْءِ يُرْمَى بِهِ، وَالْفِعْلُ اللَّازِمُ انْكَثَبَ يَنْكَثِبُ انْكِثَابًا، وَسُمِّيَ الْكَثِيبُ كَثِيبًا، لِأَنَّ تُرَابَهُ دِقَاقٌ، كَأَنَّهُ مَكْثُوبٌ مَنْثُورٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ لِرَخَاوَتِهِ، وَقَوْلُهُ: مَهِيلًا أَيْ سَائِلًا قَدْ أُسِيلُ، يُقَالُ: تُرَابٌ مَهِيلٌ وَمَهْيُولٌ أَيْ مَصْبُوبٌ وَمَسِيلٌ الْأَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ مَهِيلٌ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِكَ مَكِيلٌ وَمَكْيُولٌ، وَمَدِينٌ وَمَدْيُونٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَاءَ تُحْذَفُ مِنْهُ الضَّمَّةُ فَتَسْكُنُ، وَالْوَاوُ أَيْضًا سَاكِنَةٌ، فَتُحْذَفُ الْوَاوُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى يُفَرِّقُ تَرْكِيبَ أَجْزَاءِ الْجِبَالِ وَيَنْسِفُهَا نَسْفًا وَيَجْعَلُهَا كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَصِيرُ كَالْكَثِيبِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُحَرِّكُهَا عَلَى مَا قَالَ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الْكَهْفِ: ٤٧] وَقَالَ: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النَّمْلِ: ٨٨] وَقَالَ: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ [النَّبَأِ: ٢٠] فَعِنْدَ ذَلِكَ تَصِيرُ مَهِيلًا، فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَكَانَتِ الْجِبَالُ كُثْبَانًا مَهِيلَةً؟ قُلْنَا: لِأَنَّهَا بأسرها تجتمع فتصير كثيبا واحدا مهيلا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَوَّفَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ خَوَّفَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَهْوَالِ الدنيا فقال تعالى:
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١٥ الى ١٦]
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦)
وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِطَابَ لِأَهْلِ مكة والمقصود تهديدهم بالأخذ الوبيل، وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ نُكِّرَ الرَّسُولُ ثُمَّ عُرِّفَ؟ الْجَوَابُ: التَّقْدِيرُ أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَاهُ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا، فَأَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ أَيْضًا رَسُولًا فَعَصَيْتُمْ ذَلِكَ الرَّسُولَ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ نَأْخُذَكُمْ أَخْذًا وَبِيلًا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَنْتَظِمُ لَوْ قِسْنَا إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ حُجَّةٌ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ حُجَّةٌ، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ إِلَى قِيَاسِ سَائِرِ الْقِيَاسَاتِ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، فيكون ذلك إثباتا للقياس بالقيس، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ؟ قُلْنَا: لَا نُثْبِتُ سَائِرَ الْقِيَاسَاتِ بِالْقِيَاسِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ الْمَحْذُورُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ، بَلْ وَجْهُ الْتَمَسُّكِ هُوَ أَنْ نَقُولَ: لَوْلَا أَنَّهُ تَمَهَّدَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ ظَنًّا يَجِبُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَإِلَّا لَمَا أَوْرَدَ هَذَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ احتمال الفرق المرجوح قائم هاهنا فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَعَلَّهُمْ إِنَّمَا اسْتَوْجَبُوا الْأَخْذَ الْوَبِيلَ بِخُصُوصِيَّةِ حَالَةِ الْعِصْيَانِ فِي تِلْكَ الصورة وتلك الخصوصية غير موجودة هاهنا، فلا يلزم حصول الأخذ الوبيل هاهنا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى مَعَ قِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ جَزَمَ/ بِالتَّسْوِيَةِ فِي الْحُكْمِ فَهَذَا الْجَزْمُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ مَسْبُوقًا بِتَقْرِيرِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَنَاطِ الظَّاهِرِ وَجَبَ الْجَزْمُ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّ مُجَرَّدَ احْتِمَالِ الْفَرْقِ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا مُنَاسِبَةً لِلْحُكْمِ لَا يَكُونُ قَادِحًا فِي تِلْكَ التَّسْوِيَةِ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِنَا الْقِيَاسُ حُجَّةٌ إِلَّا هَذَا.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قِصَّةَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ عَلَى التَّعْيِينِ دُونَ سَائِرِ الرُّسُلِ وَالْأُمَمِ؟
الْجَوَابُ: لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ ازْدَرَوْا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاسْتَخَفُّوا بِهِ لِأَنَّهُ وُلِدَ فِيهِمْ، كَمَا أَنَّ فِرْعَوْنَ ازْدَرَى مُوسَى لِأَنَّهُ رَبَّاهُ وَوُلِدَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشُّعَرَاءِ: ١٨].
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا مَعْنَى كَوْنِ الرَّسُولِ شَاهِدًا عَلَيْهِمْ؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ الثَّانِي: الْمُرَادُ كَوْنُهُ مُبَيِّنًا لِلْحَقِّ فِي الدُّنْيَا، وَمُبَيِّنًا لِبُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِشَهَادَتِهِ يُبَيِّنُ الْحَقَّ، وَلِذَلِكَ وُصِفَتْ بِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَيَّنَ الْحَقَّ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أَيْ عُدُولًا خِيَارًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: ١٤٣] فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَكُونُ شَاهِدًا عَلَيْهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْآخِرَةِ حَقِيقَةٌ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْبَيَانِ مَجَازٌ وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: مَا مَعْنَى الْوَبِيلِ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْوَبِيلُ: الثَّقِيلُ الْغَلِيظُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: صَارَ هَذَا وَبَالًا عَلَيْهِمْ، أَيْ أَفْضَى بِهِ إِلَى غَايَةِ الْمَكْرُوهِ، وَمِنْ هَذَا قِيلَ لِلْمَطَرِ الْعَظِيمِ: وَابِلٌ، وَالْوَبِيلُ: الْعَصَا الضَّخْمَةُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْوَبِيلُ الَّذِي لَا يُسْتَمْرَأُ، وَمَاءٌ وَبِيلٌ وَخِيمٌ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَرِيءٍ وَكَلَأٌ مُسْتَوْبَلٌ، إِذَا أَدَّتْ عَاقِبَتُهُ إِلَى مَكْرُوهٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا يَعْنِي الغرق، قاله الكلبي ومقاتل وقتادة.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى تَخْوِيفِهِمْ بِالْقِيَامَةِ مرة أخرى فقال تعالى:
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١٧ الى ١٨]
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا إِنْ كَفَرْتُمْ.
691
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ: يَوْماً وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ فكيف تتقون أنفسكم يوم القيامة وهو له إِنْ بَقِيتُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا أَيْ/ وَكَيْفَ لَكُمْ بِالتَّقْوَى فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنْ كَفَرْتُمْ فِي الدُّنْيَا وَالثَّالِثُ: أَنْ ينتصب بكفرتم عَلَى تَأْوِيلِ جَحَدْتُمْ، أَيْ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ اللَّهَ وَتَخْشَوْنَهُ إِنْ جَحَدْتُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْجَزَاءَ لِأَنَّ تَقْوَى اللَّهِ لَا مَعْنَى لَهَا إِلَّا خَوْفَ عِقَابِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَثَلٌ فِي الشِّدَّةِ يُقَالُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ: يَوْمَ يَشِيبُ نَوَاصِي الْأَطْفَالِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْهُمُومَ وَالْأَحْزَانَ، إِذَا تَفَاقَمَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ، أَسْرَعَ فِيهِ الشَّيْبُ، لِأَنَّ كَثْرَةَ الْهُمُومِ تُوجِبُ انْقِصَارَ الرُّوحِ إِلَى دَاخِلِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ الِانْقِصَارُ يُوجِبُ انْطِفَاءَ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَانْطِفَاءُ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَضَعْفُهَا، يُوجِبُ بَقَاءَ الْأَجْزَاءِ الْغِذَائِيَّةِ غَيْرَ تَامَّةِ النُّضْجِ وَذَلِكَ يُوجِبُ اسْتِيلَاءَ الْبَلْغَمِ عَلَى الْأَخْلَاطِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ ابْيِضَاضَ الشَّعَرِ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ حُصُولَ الشَّيْبِ مِنْ لَوَازِمِ كَثْرَةِ الْهُمُومِ، جَعَلُوا الشَّيْبَ كِنَايَةً عَنِ الشَّدَّةِ وَالْمِحْنَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ هَوْلَ ذلك اليوم يجعل الوالدان شِيبًا حَقِيقَةً، لِأَنَّ إِيصَالَ الْأَلَمِ وَالْخَوْفِ إِلَى الصِّبْيَانِ غَيْرُ جَائِزٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَصْفَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالطُّولِ، وَأَنَّ الْأَطْفَالَ يَبْلُغُونَ فِيهِ أَوَانَ الشَّيْخُوخَةِ وَالشَّيْبِ، وَلَقَدْ سَأَلَنِي بَعْضُ الْأُدَبَاءِ عَنْ قَوْلِ الْمَعَرِّي:
وَظُلْمٌ يَمْلَأُ الْفَوْدَيْنِ شِيبًا «١»
وَقَالَ: كَيْفَ يُفَضَّلُ هَذَا التَّشْبِيهُ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ عَلَى بَيْتِ الْمَعَرِّي؟ فَقُلْتُ: مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ امْتِلَاءَ الْفَوْدَيْنِ مِنَ الشَّيْبِ لَيْسَ بِعَجَبٍ، أَمَّا صَيْرُورَةُ الْوِلْدَانِ شِيبًا فَهُوَ عَجِيبٌ كَأَنَّ شِدَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَنْقُلُهُمْ مِنْ سِنِّ الطُّفُولِيَّةِ إِلَى سِنِّ الشَّيْخُوخَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمُرُّوا فِيمَا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ بِسَنِّ الشَّبَابِ، وَهَذَا هُوَ الْمُبَالَغَةُ الْعَظِيمَةُ فِي وَصْفِ الْيَوْمِ بِالشِّدَّةِ وَثَانِيهَا: أَنَّ امْتِلَاءَ الْفَوْدَيْنِ مِنَ الشَّيْبِ مَعْنَاهُ ابْيِضَاضُ الشَّعْرِ، وَقَدْ يَبْيَضُّ الشَّعْرُ لِعِلَّةٍ مَعَ أَنَّ قُوَّةَ الشَّبَابِ تَكُونُ بَاقِيَةً فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ مُبَالَغَةٌ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صَيْرُورَةِ الْوِلْدَانِ شُيُوخًا فِي الضَّعْفِ وَالنَّحَافَةِ وَعَدَمِ طَرَاوَةِ الْوَجْهِ، وَذَلِكَ نِهَايَةٌ فِي شِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ امْتِلَاءَ الْفَوْدَيْنِ مِنَ الشَّيْبِ، لَيْسَ فِيهِ مُبَالَغَةٌ لِأَنَّ جَانِبَيِ الرَّأْسِ مَوْضِعٌ لِلرُّطُوبَاتِ الْكَثِيرَةِ الْبَلْغَمِيَّةِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ، فَإِنَّ الشَّيْبَ إِنَّمَا يَحْدُثُ أَوَّلًا فِي الصُّدْغَيْنِ، وَبَعْدَهُ فِي سَائِرِ جَوَانِبِ الرَّأْسِ، فَحُصُولُ الشَّيْبِ فِي الْفَوْدَيْنِ لَيْسَ بِمُبَالَغَةٍ إِنَّمَا الْمُبَالَغَةُ هُوَ اسْتِيلَاءُ الشَّيْبِ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ بَلْ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَوْلُهُ: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ وَهَذَا وَصْفٌ لِلْيَوْمِ بِالشِّدَّةِ أَيْضًا، وَأَنَّ السَّمَاءَ عَلَى عِظَمِهَا وَقُوَّتِهَا تَنْفَطِرُ فِيهِ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْخَلَائِقِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الِانْفِطَارِ: ١] وَفِيهِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: مُنْفَطِرَةٌ؟ الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: رَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، إِنَّمَا قَالَ: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ وَلَمْ يَقُلْ: مُنْفَطِرَةٌ لِأَنَّ مَجَازَهَا مَجَازُ السَّقْفِ، تَقُولُ: هَذَا سَمَاءُ الْبَيْتِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: السماء تؤنث وتذكر، وهي هاهنا في وجوه التذكير/ وأنشد شعرا:
(١) الرواية.
692
وجنح يملأ الفودين شيبا ولكن يجعل الصحراء خالا
فَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءُ إِلَيْهِ قَوْمًا لَحِقْنَا بِالنُّجُومِ مَعَ السَّحَابِ
وَثَالِثُهَا: أَنَّ تَأْنِيثَ السَّمَاءِ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ تَذْكِيرُهُ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالْعَيْنُ بِالْإِثْمِدِ الْخَيْرِيِّ مَكْحُولُ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
فَلَا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدْقَهَا وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ السَّمَاءُ ذَاتَ انْفِطَارٍ فَيَكُونَ مِنْ بَابِ الْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ «١»، وَالشَّجَرِ الْأَخْضَرِ «٢»، وَأَعْجَازِ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «٣»، وَكَقَوْلِهِمُ امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ، أَيْ ذَاتُ رَضَاعٍ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى: مُنْفَطِرٌ بِهِ؟ الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى مُنْفَطِرٌ فِيهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْبَاءَ فِي (بِهِ) مِثْلُهَا فِي قَوْلِكَ فَطَرْتُ الْعُودَ بِالْقَدُومِ فَانْفَطَرَ بِهِ، يَعْنِي أَنَّهَا تَنْفَطِرُ لِشِدَّةِ ذَلِكَ اليوم وهو له، كَمَا يَنْفَطِرُ الشَّيْءُ بِمَا يَنْفَطِرُ بِهِ وَثَالِثُهَا: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ السَّمَاءُ مُثْقَلَةٌ بِهِ إِثْقَالًا يُؤَدِّي إِلَى انْفِطَارِهَا لِعِظَمِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ عَلَيْهَا وَخَشْيَتِهَا مِنْهَا كَقَوْلِهِ: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: ١٨٧].
أَمَّا قَوْلُهُ: كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا فَاعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَعْدُهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَفْعُولِ وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْفَاعِلِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَعْدُ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَفْعُولٌ أَيِ الْوَعْدُ الْمُضَافُ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، لِأَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمَهُ يَقْتَضِيَانِ إِيقَاعَهُ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَعْدُ اللَّهِ وَاقِعٌ لَا محالة لأنه تعالى منزه عن الكذب وهاهنا وَإِنْ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ حَسُنَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِشَرْحِ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحْوَالَهُمْ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَالطَّاعَةِ لِلْمَوْلَى فَقَدَّمَ ذَلِكَ وَالثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَلْقِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا [المزمل: ١٠] وَأَمَّا الْأَشْقِيَاءُ فَقَدْ بَدَأَ بِتَهْدِيدِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الإجمال، وهو قوله تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: ١١] ثم ذكره بَعْدَهُ أَنْوَاعَ عَذَابِ الْآخِرَةِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَهُوَ الْأَخْذُ الْوَبِيلُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ وَصَفَ بَعْدَهُ شِدَّةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَعِنْدَ هَذَا تَمَّ الْبَيَانُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا جَرَمَ خَتَمَ ذلك الكلام بقوله:
[سورة المزمل (٧٣) : آية ١٩]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩)
أَيْ هَذِهِ الْآيَاتُ تَذْكِرَاتٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا وَاتِّخَاذُ السَّبِيلِ عِبَارَةٌ عَنْ الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية.
[سورة المزمل (٧٣) : آية ٢٠]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠)
(١) يشير إلى قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [القمر: ٧].
(٢) يشير إلى قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ [يس: ٨٠].
(٣) يشير إلى قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر: ٢٠].
693
قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ أَقَلُّ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا اسْتُعِيرَ الْأَدْنَى وَهُوَ الْأَقْرَبُ لِلْأَقَلِّ لِأَنَّ الْمَسَافَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا دَنَتْ قَلَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَحْيَازِ وَإِذَا بَعُدَتْ كَثُرَ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بِالنَّصْبِ وَالْمَعْنَى أَنَّكَ تَقُومُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثَيْنِ وتقوم النصف [والثلث] «١» وَقُرِئَ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بِالْجَرِّ أَيْ تَقُومُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثَيْنِ وَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ، لَكِنَّا بَيَّنَّا فِي تفسير قوله:
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: ٢] أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَهُمْ أَصْحَابُكَ يَقُومُونَ مِنَ اللَّيْلِ هَذَا الْمِقْدَارَ الْمَذْكُورَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يَعْنِي أَنَّ الْعَالِمَ بِمَقَادِيرِ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ عَائِدٌ إِلَى مَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ أَيْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُكُمْ إِحْصَاءُ مِقْدَارِ كَلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا يُمْكِنُكُمْ أَيْضًا تَحْصِيلُ تِلْكَ الْمَقَادِيرِ عَلَى سَبِيلِ الطَّعْنِ وَالِاحْتِيَاطِ إِلَّا مَعَ الْمَشَقَّةِ التَّامَّةِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ الرَّجُلُ يُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ مَخَافَةَ أَنْ لَا يُصِيبَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ قِيَامِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَنْ تُحْصُوهُ أَيْ لَنْ تُطِيقُوهُ، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ قَدْ كَلَّفَهُمْ بِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ صُعُوبَتُهُ لَا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَا أُطِيقُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى فُلَانٍ إِذَا اسْتَثْقَلَ النَّظَرَ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّرْخِيصِ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ الْمُقَدَّرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [الْبَقَرَةِ: ١٨٧] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ رَفَعَ التَّبِعَةَ عَنْكُمْ فِي تَرْكِ هَذَا الْعَمَلِ كَمَا رَفَعَ التَّبِعَةَ عَنِ التَّائِبِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ/ الصَّلَاةُ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ أَحَدُ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، فَأُطْلِقَ اسْمُ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ، أَيْ فَصَلُّوا مَا تَيَسَّرَ عَلَيْكُمْ، ثم هاهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ:
قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَسَخَ وُجُوبَ ذَلِكَ التَّهَجُّدِ وَاكْتَفَى بِمَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ أَيْضًا بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أن المراد من قوله: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِعَيْنِهَا وَالْغَرَضُ مِنْهُ دِرَاسَةُ الْقُرْآنِ لِيَحْصُلَ الْأَمْنُ مِنَ النِّسْيَانِ قِيلَ: يَقْرَأُ مِائَةَ آيَةٍ، وَقِيلَ: مَنْ قَرَأَ مِائَةَ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَقِيلَ: خَمْسِينَ آيَةً وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ السُّورَةُ الْقَصِيرَةُ كَافِيَةٌ، لِأَنَّ إِسْقَاطَ التَّهَجُّدِ إِنَّمَا كَانَ
(١) زيادة من الكشاف ٤/ ١٧٨ ط. دار الفكر.
694
دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَفِي الْقِرَاءَةِ الْكَثِيرَةِ حَرَجٌ فَلَا يمكن اعتبارها. وهاهنا بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: سَقَطَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامُ اللَّيْلِ وَصَارَتْ تَطَوُّعًا وَبَقِيَ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى إلى قوله وَآتُوا الزَّكاةَ] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْحِكْمَةِ فِي هَذَا النَّسْخِ فَقَالَ تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّهُ عَلِمَ كَذَا وَكَذَا وَالْمَعْنَى لِتَعَذُّرِ الْقِيَامِ عَلَى الْمَرْضَى وَالضَّارِبِينَ فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَمَّا الْمَرْضَى فَإِنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ الِاشْتِغَالَ بِالتَّهَجُّدِ لِمَرَضِهِمْ، وَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ وَالْمُجَاهِدُونَ فَهُمْ مُشْتَغِلُونَ فِي النَّهَارِ بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، فَلَوْ لَمْ يَنَامُوا فِي اللَّيْلِ لَتَوَالَتْ أَسْبَابُ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا السَّبَبُ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: ٧] فَلَا جَرَمَ مَا صَارَ وُجُوبُ التَّهَجُّدِ مَنْسُوخًا فِي حَقِّهِ. وَمِنْ لَطَائِفِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ وَالْمُسَافِرِينَ لِلْكَسْبِ الْحَلَالِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَيُّمَا رَجُلٍ جَلَبَ شَيْئًا إِلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا فَبَاعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الشهداء» ثم أعاد مرة أخرى قوله: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَذَلِكَ لِلتَّأْكِيدِ ثُمَّ قَالَ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يَعْنِي الْمَفْرُوضَةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أَيِ الْوَاجِبَةَ وَقِيلَ: زَكَاةُ الْفِطْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ زَكَاةٌ وَإِنَّمَا وَجَبَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَنْ فَسَّرَهَا بِالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ جَعَلَ آخِرَ السُّورَةِ مَدَنِيًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُرِيدُ سَائِرَ الصَّدَقَاتِ وَثَانِيهَا: يُرِيدُ أَدَاءَ الزَّكَاةِ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ، وَهُوَ إِخْرَاجُهَا مِنْ أَطْيَبِ الْأَمْوَالِ وَأَكْثَرِهَا نَفْعًا لِلْفُقَرَاءِ وَمُرَاعَاةُ النِّيَّةِ وَابْتِغَاءُ وَجْهِ اللَّهِ وَالصَّرْفُ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ وَثَالِثُهَا: يُرِيدُ كُلَّ شَيْءٍ يُفْعَلُ من الخير مما يتعلق بالنفس والمال.
[قوله تعالى وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ إلى قوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى الْحِكْمَةَ فِي إِعْطَاءِ الْمَالِ فَقَالَ: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا مِنَ الَّذِي تُؤَخِّرُهُ إِلَى وَصِيَّتِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا لَكُمْ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّكُمْ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: هُوَ خَيْرًا لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ، وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ هُوَ خَيْرٌ وَأَعْظَمُ أَجْرًا بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، ثُمَّ قَالَ:
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ لِذُنُوبِكُمْ وَالتَّقْصِيرَاتِ الصَّادِرَةِ مِنْكُمْ خَاصَّةً فِي قِيَامِ اللَّيْلِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لِذُنُوبِ الْمُؤْمِنِينَ رَحِيمٌ بِهِمْ، وَفِي الْغَفُورِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَفُورٌ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ، وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَفُورٌ لِمَنْ يُصِرُّ عَلَى الذَّنْبِ، احْتَجَّ مُقَاتِلٌ عَلَى قَوْلِهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: غَفُورٌ رَحِيمٌ يَتَنَاوَلُ التَّائِبَ وَالْمُصِرَّ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ عَنْهُ وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ وَالثَّانِي: أَنَّ غُفْرَانَ التَّائِبِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْخَصْمِ وَلَا يَحْصُلُ الْمَدْحُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَالْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ تَقْرِيرُ الْمَدْحِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ تَحْقِيقًا لِلْمَدْحِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
695
Icon