تفسير سورة الأنبياء

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
سورة الأنبياء مكية حروفها أربعة آلاف وثمانمائة وتسعون كلمها ألف ومائة وثمان وسبعون آياتها مائة وست عشرة.

[المجلد الخامس]

بسم الله الرّحمن الرّحيم الجزء السابع عشر من أجزاء القرآن الكريم
(سورة الأنبياء
مكية حروفها أربعة آلاف وثمانمائة وتسعون كلمها ألف ومائة وثمان وسبعون آياتها مائة وست عشرة)
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١ الى ٢٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩)
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤)
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠)
3
القراآت
قالَ رَبِّي بالألف: حمزة وعلي وحفص. الباقون قل على الأمر نُوحِي بالنون مبنيا للفاعل: حفص غير الخراز. الباقون: بالياء مجهولا.
الوقوف:
مُعْرِضُونَ ج للآية مع احتمال كون ما بعده صفة أو استئنافا. يَلْعَبُونَ لا لأن لاهِيَةً حال أخرى مترادفة أو متداخلة من ضمير يَلْعَبُونَ وهي لقلوبهم في المعنى. قُلُوبُهُمْ ط مِثْلُكُمْ ج لابتداء الاستفهام مع اتحاد المقول تُبْصِرُونَ هـ وَالْأَرْضِ ز لاتفاق الجملتين مع استغناء الثانية عن الأولى الْعَلِيمُ هـ شاعِرٌ ج لاختلاف النظم مع اتحاد المقول الْأَوَّلُونَ هـ أَهْلَكْناها ج لابتداء الاستفهام مع اتحاد المقول يُؤْمِنُونَ هـ لا تَعْلَمُونَ هـ خالِدِينَ هـ الْمُسْرِفِينَ هـ ذِكْرُكُمْ هـ تَعْقِلُونَ هـ آخَرِينَ هـ يَرْكُضُونَ هـ ط لتقدير القول تُسْئَلُونَ هـ ظالِمِينَ هـ خامِدِينَ هـ لاعِبِينَ هـ مِنْ لَدُنَّا هـ على جعل «إن» نافية والأصح أنها للشرط فاعِلِينَ هـ زاهِقٌ لا تَصِفُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط لأن ما بعده مبتدأ يَسْتَحْسِرُونَ هـ ج لأن ما بعده يصلح حالا واستئنافا، لا يَفْتُرُونَ هـ.
التفسير:
قال جار الله: اللام في قوله لِلنَّاسِ إما صلة لاقترب أو تأكيد لإضافة الحساب إليهم كقولك في أزف رحيل الحي أزف للحي الرحيل، فيه تأكيد إن من جهة تقديم الحي ومن جهة إظهار اللام، ثم تزيد تأكيدا آخر من جهة وضع ضمير الحي مضافا إليه الرحيل، موضع لام التعريف فيه فتقول: أزف للحي رحيلهم. والمراد اقترب للناس وقت حسابهم وهو القيامة كقوله اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: ١] فإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب وغيره، كأنه لما هدد في خاتمة السورة المتقدمة بقوله فَسَتَعْلَمُونَ بين في أول هذه السورة أن وقت ذلك العلم قريب. فإن قيل: كيف وصف بالاقتراب وقد مضى دون هذا القول أكثر من سبعمائة عام فالجواب أن كل ما هو آت قريب، وإنما البعيد الذي دخل في خبر كان قال القائل: شعر
فلا زال ما تهواه أقرب من غد ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
على أنه لم يمض بعد يوم من أيام الله وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: ٤٧] ومما يدل على أن الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي
قوله ﷺ «بعثت أنا والساعة كهاتين» «١»
وقد وعد بعث خاتم النبيين في آخر الزمان، وفي ذكر هذا الاقتراب تنبيه للغافلين وزجر للمذنبين. فالمراد بالناس كل من له مدخل في الحساب وهم جميع
(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ٣٩. مسلم في كتاب الجمعة حديث ٤٣. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب ٧. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٤٦. أحمد في مسنده (٤/ ٣٠٩).
4
المكلفين. وما روي عن ابن عباس أن المراد بالناس المشركون فمن باب إطلاق اسم الجنس على بعضه بالدليل القائم وهو ما يتلوه من صفات المشركين من الغفلة والإعراض وغيرهما. والذكر الطائفة النازلة من القرآن، وقرىء مُحْدَثٍ بالرفع صفة على المحل، واحتجت المعتزلة بالآية على أن القرآن محدث، وأجاب الأشاعرة بأنه لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف لأنه متجدد في النزول، وإنما النزاع في الكلام النفسي الذي لا يصح عليه الإتيان والنزول. وزعم الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه أن حاصل قول المعتزلة في هذا المقام يؤل إلى قولنا القرآن ذكر، وبعض الذكر محدث لأن قوله مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ لا يدل على حدوث كل ما كان ذكرا بل على أن ذكرا ما محدث، كما أن قول القائل: لا يدخل هذا البلد رجل فاضل إلا يبغضونه، لا يدل على أن كل رجل يجب أن يكون فاضلا، وإذا كان كذلك فيصير صورة القياس كقولنا «الإنسان حيوان وبعض الحيوان فرس» وإنه لا ينتج شيئا لأن كلية الكبرى شرط في إنتاج الشكل الأول كما عرف في علم الميزان. قلت: إن المعتزلة لا يحتاجون في إثبات دعواهم إلى تركيب مثل هذا القياس لأن مدعاهم يثبت بتسنيم إحدى مقدمتي القياس الذي ركبه وهي قوله «بعض الذكر محدث» لأنه نقيض ما يدعيه الأشاعرة وهو لا شيء من القرآن بمحدث. وإذا صدق أحد النقيضين كذب بالضرورة، فظهر أن الإمام غلطهم في هذا القياس الذي ركبه، ثم لقائل أن يقول تتميما لقول المعتزلة: إذا ثبت أن بعض القرآن محدث لزم أن يكون كله محدثا لأن القائل قائلان: أحدهما ذهب إلى قدم كله، والثاني إلى حدوث كله، ولم يذهب أحد إلى قدم بعضه وحدوث بعضه. قال أهل البرهان: إنما قال في هذه السورة مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ لموافقة قوله بعد هذا قالَ رَبِّي يَعْلَمُ وقال في الشعراء مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ [الآية: ٥] لكثرة ذكر الرحيم فيها. فكان «الرحمن بالرحيم» أنسب.
قوله تعالى يَلْعَبُونَ اللعب الاشتغال بما لا يعني قوله لاهِيَةً هي من لهى عنه بالكسر إذا ذهل وغفل. وفيه إن هم إلا كالأنعام بل هم لا يحصلون من الاستماع والتذكير إلا على مثل ما تحصل هي عليه آذانهم تسمع وقلوبهم لا تعي ولا تفقه.
ومعنى وَأَسَرُّوا النَّجْوَى بالغوا في إخفائها وجعلوها بحيث لا يفطن أحد لها ولا يعلم أنهم متناجون وفي «واو» أسروا وجهان: أحدهما أنه على لغة من يجوز إلحاق علامة
5
التثنية والجمع بالفعل إذا كان مقدما على فاعله، وثانيهما وهو الأقوى أن الواو ضمير راجع إلى الناس المقدم ذكرهم والَّذِينَ ظَلَمُوا بدل منهم. أو هو منصوب المحل على الذم، أو هو مبتدأ خبره أَسَرُّوا النَّجْوَى مقدما عليه. وعلى التقادير أراد وأسروا النجوى هؤلاء فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم ثم أبدل من النجوى قوله هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ إلى قوله وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي أتقبلون سحره وتحضرون هناك وأنتم ترون أنه رجل مثلكم، أو تعلمون أنه سحر وأنتم من أهل البصر والعقل؟ وجوز بعضهم أن يكون قوله هَلْ هذا إلى آخره مفعولا لقالوا مضمرا، وإنما أسروا نجوى هذا الحديث لأنهم أرادوا شبه التشاور فيما بينهم تحريا لهدم أمر النبي كما جاء في كلام الحكماء. ويرفع أيضا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
«استعينوا على حوائجكم بالكتمان»
ويجوز أن يسروا بذلك ثم يقولوا للرسول والمؤمنين: إن كان ما تدعون حقا فأخبرونا بما أسررنا. من قرأ قالَ رَبِّي فعلى حكاية الرسول ﷺ كأنه قال: إنكم وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فإن ربي عالم بذلك، وإنه من وراء عقابه يصف نفسه في بعض المواضع بأنه يعلم السر وذلك حين يريد تخصيصه بعلم الغيب، ووصف نفسه هاهنا بأنه يعلم القول. قال جار الله: هذا آكد لأنه عام يشمل السر والجهر، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة، وأقول هذا إذا كان اللام في القول للاستغراق، أما إذا كان للجنس فلا يلزم زيادة العلم إذ لا دلالة للعام على الخاص. بل نقول: العلم بالسر يستلزم العلم بالجهر بالطريق الأولى فلا مزية لإحدى العبارتين على الأخرى وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ خصص علمه بالمسموعات أولا ثم عمم وقال الإمام قدم «السميع» على «العليم» لأنه لا بد من استماع الكلام أولا ثم من حصول العلم بمعناه. قلت: هذا قياس للغائب على الحاضر قوله بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ معنى هذه الإضرابات مع ملاحظة ما قبلها أنهم أنكروا أولا كون الرسول من جنس البشر، ثم كأنهم قالوا: سلمنا ذلك ولكن الذي ادعيت أنه معجز ليس بمعجز غايته أنه خارق للعادة، وليس كل ما هو خارق للعادة معجزا فقد يكون سحرا هذا إذا ساعدنا على أن فصاحة القرآن خارجة عن العادة، لكنا عن تسليم هذه المقدمة بمراحل فإنا ندعي أنه في غاية الركاكة وسوء النظم كأضغاث أحلام وهي الأحلام المختلطة التي لا أصل لها وقد مر في سورة يوسف. سلمنا ولكنه من جنس كلام الأوساط افتراه من عنده؟ سلمنا أنه كلام فصيح ولكنه لا يتجاوز فصاحة الشعراء، وإذا كان حال هذا المعجز هكذا. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أي كما أتى الأولون بالآيات لأن إرسال الرسل متضمن لإتيانهم بالآيات. ومن تأمل في هذه الأقوال المحكية عن أولئك الكفرة علم أنها كلام مبطل متحير هائم في أودية الضلال وألا يكفي في إعجاز القرآن أنهم عدلوا حين تحدوا به عن
6
المعارضة بالحروف إلى المقارعة بالسيوف. ثم بين أن الآيات التي يقترحونها لا فائدة لهم فيها لأنهم أعتى من الأمم السالفة وأنهم ما آمنوا عند مجيء الآيات المقترحة فأهلكوا لأجل ذلك أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ مع شدة شكيمتهم فيه معنى الإنكار أي لا يؤمنون البتة وحينئذ يجب إهلاكهم، ولكن قد سبق القول من الله أن هذه الأمة أمنوا من عذاب الاستئصال.
ثم أجاب عن شبهتهم الأولى وهي قولهم هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بقوله وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا وقد مر مثله في آخر سورة يوسف وفي النحل. وإنما جاز الأمر بالرجوع إلى أهل الكتاب وإن كانوا من الكفرة، لأن هذا الخبر قد تواتر عندهم وبلغ حد الضرورة على أن أهل الكتاب كانوا يتابعون المشركين في معاداة رسول الله ﷺ فكان قولهم عندهم حجة. وقيل: أهل الذكر أهل القرآن. وضعف بأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يؤمرون بالرجوع إلى قولهم؟ واستدل كثير من الفقهاء بالآية في أن للعاميّ أن يرجع إلى فتيا العلماء، وللمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر وأجيب بأنها خطاب مشافهة وارد في الواقعة المخصوصة، وفي السؤال عن أهل الكتاب فلا يتعدى عن مورد النص وقد مر في آخر سورة يوسف الفرق بين قوله وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ وقوله وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ بغير «من» وليس إلا هاهنا وفي أوائل الفرقان وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ [الآية: ٢٠] ثم أكد كون الرسل من جنس البشر بقوله وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً الآية كأنهم قالوا: إنه بشر يأكل كما نأكل ويموت كما نموت، فلعلهم اعتقدوا خلود الملائكة لا أقل من العمر الطويل، ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي وما جعلنا الأنبياء قبلك ذوي جسد غير طاعمين وإلا قيل: وما جعلنا لهم جسدا. ووحد الجسد لإرادة الجنس أي ذوي ضرب من الأجساد وأراد كل واحد منهم قوله: صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ أصله في الوعد فنصب بنزع الخافض، ثم فسر الوعد بقوله فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وهم المؤمنون، ثم نبههم على عظيم نعمه عليهم بقوله، لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي شرفكم وصيتكم، أو فيه بيان مكارم الأخلاق التي بها يبقى الذكر الجميل مع الثواب الجزيل، ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة فقال وَكَمْ قَصَمْنا والقصم القطع الكبير وهو الذي يبين تلاؤم الأجزاء، وإذا لم يبين فهو الفصم بالفاء، وذلك أن القاف حرف شديد والفاء رخو لوحظ جانب المعنى في اللفظ ومعنى مِنْ قَرْيَةٍ من أهل قرية لقوله وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ وللضمائر في قوله فَلَمَّا أَحَسُّوا إلى آخر القصة. والمراد بالإحساس الإدراك بحاسة اللمس أو علم لا شك فيه كالمحسوس المشاهد. والركض ضرب الدابة بالرجل كأنهم ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم حين أدركتهم مقدمة العذاب، قال الجوهري:
7
الركض تحريك الرجل على الدابة استحثاثا لها ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا، فعلى هذا يجوز أن القوم كانوا يعدون على أرجلهم فقيل لهم لا تركضوا. والقائل إما من الملائكة أو من المؤمنين أو يجعلون أحقاء بأن يقال لهم ذلك، أو أسمع رب العزة ملائكته هذا القول لينفعهم في دينهم، أو ألهم الله الكفار ذلك فحدثوا به أنفسهم: وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ من العيش الهنيء والإتراف إبطار النعمة لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ غدا عما جرى عليكم وعلى أموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو أجلسوا في مجالسكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم بما تأمرون وماذا ترسمون فينفذ فيهم أمركم ونهيكم، أو يسألكم الناس مستعينين بتدابيركم بآرائكم، أو يسألكم الوافدون وأرباب الطمع مستمطرين سحاب أكفكم إما لأنهم كانوا أسخياء ولكن سمعة ورياء، إما لأنهم بخلاء وفي كل هذه الوجوه تهكم بهم وتوبيخ لهم فَما زالَتْ تِلْكَ الدعوى وهي قولهم يا وَيْلَنا لأن المولول كأنه يدعو الويل دَعْواهُمْ الأول اسم «ما زال» والثاني خبره أو بالعكس.
والدعوى بمعنى الدعوة وقد مر في قوله وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: ١٠] والحصيد المحصود كقوله مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ شبهوا بالزرع المستأصل والنار التي تخمد فتصير رمادا أي جعلناهم مشبهين بالمحصود والخامد، ووحد حَصِيداً لأن المراد زرعا حصيدا، ولأن «فعيلا» قد يستوي فيه الواحد والجمع، عن ابن عباس أن الآية نزلت في حضور وسحول قريتين باليمن تنسب إليهما الثياب.
وفي الحديث كفن رسول الله ﷺ في ثوبين سحوليين.
وروى حضوريين بعث الله إليهم نبيا فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم فكأن القوم حصدوا بالسيف
وروي أنه لما أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء بالثارات الأنبياء.
قال أهل النظم: لما بين إهلاك كثير من القرى لأجل ظلمهم وتكذيبهم منها اللتان رواهما ابن عباس، أتبعه ما يدل على أنه فعل ذلك عدلا ومجازاة لا عبثا ولا مجازفة فقال:
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ الآية أي وما سوينا هذا السقف المرفوع والمهاد الموضوع وَما بَيْنَهُما من الأركان والمواليد كما تسوّي الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم للهو أو اللعب، وإنما سويناهما لغايات صحيحة ومنافع للخلق دينية ودنيوية كما مر طرف منها في أول «البقرة» ويمكن أن يقال: المقصود من سياق الآية تقرير نبوة محمد والرد على منكريه لأنه ظهر المعجز عليه، فإن كان صادقا فهو المطلوب، وإن كان كاذبا كان إظهار المعجز عليه من باب اللعب وهو منفي عنه سبحانه. قال القاضي عبد الجبار: فيه دليل على أنه لا يخلق اللعب وكل قبيح وإلا كان لاعبا وعورض بمسألتي العلم والداعي. ثم بين أن
8
السبب في ترك اتخاذ اللهو واللعب ليس هو العجز والضعف ولكن لأن الحكمة تنافيه، معنى مِنْ لَدُنَّا من جهة قدرتنا وقيل: اللهو الولد بلغة اليمن أو المرأة، وقيل: من لدنا أي من الملائكة لا من الإنس ردا على من قال: عزير ابن الله والمسيح ابن الله. ويحتمل أن يقال من لدنا أي من عندنا على سبيل الخفية فلا تعرفونه ولا تسمعون اسمه فيكون الرد شاملا لكل من ادعى لله ولدا ولو من الملائكة. ثم أضرب عن اتخاذ اللهو واللعب فوصف نفسه بما يضاد فعل العبث قائلا بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ يعني الباطل زاهِقٌ أي ففاجأ الدمغ زهوق الباطل، قال علماء المعاني: هذا من باب استعارة المحسوس للمعقول بجامع عقلي: فأصل استعمال القذف والدمغ في الأجسام لأن القذف الرمي بنحو الحجارة، والدمغ من دمغه إذا شجه حتى بلغت الشجة الدماغ، ثم استعير القذف لإيراد الحق على الباطل، والدمغ لإذهاب الباطل بجامع الزهوق، ثم وبخهم ونعى عليهم بما وصفوه بالولد وغير ذلك مما لا يجوز عليه وينافي وجوب الوجود بما وصفوا رسوله به من السحر والشعر وغير ذلك من الأوصاف المضادة للرسالة فقال وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ أي تصفونه به. ثم بين كمال قدرته ونهاية حلمه وحكمته فقال وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والمراد بمن عنده الملائكة المقربون والمقصود عندية الشرف والرتبة. فأما عندية المكان ففيها بحث طويل. قال الزجاج: لا يَسْتَحْسِرُونَ أي لا يتعبون ولا يمسهم الإعياء. قال جار الله: كان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور ولكنه ذكر بلفظ المبالغة وهو «استفعل» لبيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور، وأنهم أحقاء بتلك العبادات الشاقة بأن يستحسروا ومع ذلك لا يعدّونها تعبا عليهم. ثم أكد ذلك بقوله يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ منصوبان على الظرفية لا يَفْتُرُونَ لا يلحقهم الفتور والكلال. وحاصل الآية أؤن الملائكة مع غاية شرفهم ونهاية قربهم لا يستنكفون عن طاعة الله، فكيف يليق بالبشر مع ضعفهم ونقصهم أن يتمردوا عن طاعته؟ وقد مر في أول سورة البقرة استدلال مفضلي الملائكة على الأنبياء بهذه الآية وبغيرها فلا حاجة إلى إعادته عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال: قلت لكعب الأحبار: أرأيت قول الله عز وجل يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ثم قال:
جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: ١] أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ [البقرة: ١٦١] أليس الرسالة واللعن مانعين لهم عن التسبيح؟ أجاب كعب بأن التسبيح لهم كالنفس لنا لا يمنعهم عن الاشتغال بشيء آخر. واعترض بأن آلة التنفس فينا مغايرة للسان فلهذا صح اجتماع التنفس والتكلم. وأجيب بأنه لا استبعاد في أن يكون لهم ألسن كثيرة، أو يكون المراد بعدم الفتور أنهم لا يتركون التسبيح في أوقاته اللائقة به.
التأويل:
اقترب لأهل النسيان أن يحاسبوا أنفسهم كقوله أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: ١٦]
9
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ وعظ وتذكير من عالم رباني مُحْدَثٍ إلهامه إلا أنكروه عليه ونسبوه إلى التخليط ونحوه وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً فيه أن الله قادر على أن لا يجعل النبي والولي ذا جسد ولكن اقتضت حكمته كونهم ذوي أجساد آكلين للطعام فإن الطعام للروح الحيواني الذي هو مركب الروح الإنساني كالدهن للسراج، وبالقوى الحيوانية تتم الكمالات النفسانية وتدرك المحسوسات وتستفاد العلوم المستندة إلى الإحساس والتجربة وتفصيله أكثر من أن يحصى. قال بعض المشايخ، لولا الهوى ما سلك أحد طريقا إلى الله وَما كانُوا خالِدِينَ والسر فيه أن يعلموا من الموت حقيقة اسم المميت كما علموا من الحياة حقيقة اسم المحيي.
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ الذي وعدناهم حين أهبطوا إلى الأرض فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ من متابعيهم من هاوية الهوان وعالم الطبيعة وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ الذين أسرفوا على أنفسهم بالركون إلى أسفل سافلين الطبائع. وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ أهل قَرْيَةٍ قالت فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا وهي شدة قطع التعلق عن الكونين فإن الفطام عن المألوف شديد لا تَرْكُضُوا منا بل ففروا إلينا وَارْجِعُوا إلى التنعمات الروحانية وَمَساكِنِكُمْ الأصلية لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ عزة وكرامة وَما خَلَقْنَا سموات الأرواح وأرض الأجساد، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار من غير غاية، وإنما خلقناها لتكون لطفنا وقهرنا بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ للحق ثلاث مراتب: مرتبة أفعال الحق ومرتبة صفات الحق ومرتبة ذات الحق، ففي كل مرتبة يتجلى الحق فيها للعبد، أرهق باطل تلك المرتبة عن العبد حتى إذا تجلى له بأفعاله ذهب عنه باطل الأفعال، وإذا تجلى له بصفاته ذهب باطل صفاته، وإذا تجلى له بذاته في ذاته فيقول: أنا الحق وسبحاني والويل لمن لم يذهب باطله بإحدى هذه المراتب فيبقى متصفا بالوجود المجازي.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٢١ الى ٥٠]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠)
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥)
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)
10
القراآت:
إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ بالنون: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد إِنِّي إِلهٌ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ابن ذكوان. الم ير بغير واو: ابن كثير الآخرون بواو متوسطة بين همزة الاستفهام والفعل ونظائرها كثيرة تُرْجَعُونَ بفتح التاء وكسر الجيم: يعقوب وابن مجاهد عن ابن ذكوان. ولا تسمع من الاسماع خطأ بالنبي ﷺ الصم بالنصب: ابن عامر. الآخرون على الغيبة من السماع. الصُّمُّ بالرفع مِثْقالَ حَبَّةٍ بالرفع على «كان» التامة وكذلك في سورة لقمان: أبو جعفر ونافع. الباقون بالنصب.
11
الوقوف:
يُنْشِرُونَ هـ لَفَسَدَتا ج للابتداء ب فَسُبْحانَ للتعظيم مع فاء التعقيب تعجيلا للتنزيه يَصِفُونَ هـ يُسْئَلُونَ هـ آلِهَةً ط بُرْهانَكُمْ ج لاتحاد المقول من غير عاطف قَبْلِي ط لا يَعْلَمُونَ هـ لا لأن ما بعده مفعول مُعْرِضُونَ هـ فَاعْبُدُونِ هـ سُبْحانَهُ ط مُكْرَمُونَ هـ ط لأن ما بعده صفة بعد صفة يَعْمَلُونَ هـ وَلا يَشْفَعُونَ هـ لا للاستثناء مُشْفِقُونَ هـ جَهَنَّمَ ط الظَّالِمِينَ هـ فَفَتَقْناهُما ط لانتهاء الاستفهام إلى الإخبار حَيٍّ ط يُؤْمِنُونَ هـ يَهْتَدُونَ هـ مَحْفُوظاً ج لاحتمال الواو الاستئناف والحال مُعْرِضُونَ هـ وَالْقَمَرَ ط يَسْبَحُونَ هـ الْخُلْدَ ط الْخالِدُونَ هـ الْمَوْتِ ط فِتْنَةً ط تُرْجَعُونَ هـ هُزُواً ط آلِهَتَكُمْ ج لاحتمال الواو الاستئناف والحال كافِرُونَ هـ مِنْ عَجَلٍ ط فَلا تَسْتَعْجِلُونِ هـ صادِقِينَ هـ يُنْصَرُونَ هـ يُنْظَرُونَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ ط مِنَ الرَّحْمنِ ط مُعْرِضُونَ هـ مِنْ دُونِنا ط فصلا بين الاستفهام والإخبار يُصْحَبُونَ هـ الْعُمُرُ ط مِنْ أَطْرافِها ط الْغالِبُونَ هـ بِالْوَحْيِ ط لاستئناف ولا يسمع بالياء التحتانية والوصل أجوز لتتميم المقول، ومن قرأ على الخطاب وقف لأنه خرج عن المقول يُنْذَرُونَ هـ ظالِمِينَ هـ شَيْئاً ط أَتَيْنا بِها ط حاسِبِينَ هـ لِلْمُتَّقِينَ هـ لا لاتصال الصفة ولا يخفى أنه يحتمل النصب أو الرفع على المدح فيجوز أن لا يوصل. مُشْفِقُونَ هـ أَنْزَلْناهُ ط مُنْكِرُونَ.
التفسير:
إنه سبحانه بدأ في أول السورة بذكر المعاد ثم انجر الكلام إلى النبوات وما يتصل بها سؤالا وجوابا فختم الكلام بالإلهيات لأنها المقصود بالذات فقال على سبيل الإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها بواسطة «أم» المنقطعة أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ نسبت إلى الأرض كما يقال «فلان من مكة» لأنها أصنام تعبد من الأرض، لأن الآلهة على ضربين أرضية وسماوية. أو أراد أنها من جنس الأرض لأنها تنحت من حجر أو تعمل من جوهر آخر أرضي. ويقال: أنشر الله الموتى ونشرها أي أحياها. ومن أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات كأنهم بادعائهم لها الإلهية أدعوا لها الإنشار وإن كانوا منكرين البعث فضلا عن قدرة الأصنام عليه لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور.
والإنشار من جملة المقدورات بالدلائل الباهرة وفيه باب من التهكم والتسجيل وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده، لأن الاقتدار على الإبداء والإعادة من لوازم الإلهية.
ومعنى هُمْ أفادت الخصوصية كأنه قيل: أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم، وفيه رمز إلى أن الأمر المختص بالاهتداء هو وحده. ولما قدم الإنكار شرع في دليل التوحيد فقال: لَوْ كانَ فِيهِما أي في السموات والأرض وقد مر ذكرهما آلِهَةٌ إِلَّا
12
اللَّهُ
أي غير الله. قال النحويون: إلا هاهنا بمعنى غير لتعذر حمل إلا على الاستثناء لأنها تابعة لجمع منكور غير محصور، والاستثناء لا يصح إلا إذا كان المستثنى داخلا في المستثنى منه لولا الاستثناء وقد يقال: إن «إلا» في هذه المادة لا يمكن أن تكون للاستثناء لأنا لو حملناها على الاستثناء لصار المعنى لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله لم يحصل الفساد. وللمفسرين في تفسير الآية طريقان: أحدهما حمل الغائب على الشاهد والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة غير الواحد الذي هو فاطرهما لَفَسَدَتا وفيه دلالة على أمرين: الأول وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحدا، والثاني أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه لقوله غير الله وإنما وجب الأمر أن لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف. وثانيهما طريق التمانع بأن يقال: لو فرضنا إلهين وأراد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه، فإن وقع مرادهما لزم اجتماع الضدين في محل واحد، وإن لم يقع مرادهما لزم عجزهما، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر فذلك الآخر عاجز لا يصلح للإلهية.
والاعتراض على هذا التقدير من وجهين: الأول أن اختلافهما في الإرادة أمر ممكن والممكن لا يجب أن يقع.
والثاني أن الفساد في السموات والأرض كيف يترتب على اختلافهما وفي الجواب طريقان: أحدهما الرجوع إلى التفسير الأول وهو إحالة الأمر على ما هو الغالب المعتاد من أن الملك عقيم ولا يجتمع فحلان على شول، والشول جماعة النوق التي جف لبنها وارتفع ضرعها وأتي عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية، فلا بد من وقوع التنازع والاختلاف وحدوث الهرج والمرج عند ذلك. الطريق الثاني العدول إلى ضرب آخر من البيان، وهو أن اتفاق الإلهين على مقدور واحد محال لأن كلّا منهما مستقل بالتأثير كامل في القدرة، فإذا وقع المقدور بأحدهما استحال أن يقع بالآخر مرة أخرى على أنه لو أراد كل واحد منهما أن يوجده هو فهذا أيضا اختلاف. ولو قيل: إنه يريد كل واحد منهما أن يكون الموجد له أحدهما لا بعينه فهذه إرادة مبهمة لا تصلح للتأثير، فلا بد من الاختلاف وقد عرفت حاله ولزوم الفساد حينئذ ظاهر، لأن كل ما يصدر عن إلهين عاجزين أو إله عاجز لم يكن على الوجه الأصلح والنمط الأصوب، بل العاجز لا يصلح للإيجاد أصلا فلا يوجد على ذلك التقدير شيء من الممكنات وهو الفساد الكلي. ومنهم من يقرر دليل التمانع على وجوه أخر منها: أنا لو قدرنا إلهين فهل يقدر كل واحد منهما على أن يمنع صاحبه عن مراده أم لا؟ فإن قلت: يقدر. كان كل منهما مقهورا للآخر، وإن قلت: لا يقدر فقد ثبت عجز كل واحد
13
منهما. ومنها أن أحدهما هل يقدر على أن يستر شيئا من أفعاله عن الآخر أو لا؟ فإن قدر فالمستور عنه جاهل عاجز وإلا فالأول عاجز. ولا يخفى ما في أمثال هذين الوجهين من الضعف لأن عدم القدرة على المحال لا يسمى عجزا ولهذا لا يمكن أن يقال: إنه تعالى عاجز عن خلق مثله أو إنه إذا أوجد شيئا نفذت قدرته عن خلق ذلك الشيء وحصل له عجز. ومن الطاعنين في دليل التمانع من فسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله كما تزعم عبدة الأصنام لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على وجوه التدبير والتصرف لأنفسها فضلا عن غيرها. ولقائل أن يقول: إن الآلهة لو كانت منفردة بالتدبير يلزم الفساد. أما أنها لو كانت وسائط أو معاونة للإله الأعظم كما تزعم عبدة الأوثان فمن أين يلزم الفساد. واعلم أنا قد بينا دلائل التوحيد في مواضع من هذا الكتاب ولا سيما في سورة البقرة في تفسير قوله وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الآية: ١٦٣] ولنا في هذا المقام طريقة أخرى ما أظنها وطئت قبلي فأقول وبالله التوفيق: إن الوحدة من صفات الكمال وقد ركز ذلك في العقول حتى إن كل عامل مهما تم له أمر بواحد لم يتعد فيه إلى اثنين، وإذا اضطر إلى الشركة والتعاون راعى فيه الأبسط فالأبسط لا يزيد العدد إلا بقدر الافتقار وعلى هذا مدار الأمور السياسية والمنزلية هذا في المؤثر. وأما في الأثر فلا ريب أنه استند إلى ما هو بسيط حقيقي لم يكن فيه إلا جهة واحدة افتقارية وإذا استند إلى ما فوق ذلك كان فيه من الجهات الافتقارية بحسب ذلك فيكون النقص تابعا لقلة جهات الافتقار وكثرتها، وكل مرتبة للممكنات تفرض من العقول والنفوس والأفلاك والعناصر والمواليد، فإن كان مبدأ تلك السلسلة الطويلة واحدا كانت الجهات الاعتبارية الافتقارية فيها أقل مما لو كان المبدأ أزيد من واحد. وهذه قضية يقينية إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه سبحانه أراد أن يدفع هذا النقص من الممكنات و «لو» هذه بمعنى «أن» والمراد أن هذا النقص والفساد لازم لوجود آلهة غير الله سواء كان الله من جملتهم أم لا، ولن يرضى العاقل بما فيه نقصه وفساده فوجب أن لا يعتقد إلها غير الله وهذه النتيجة هي المراد بقوله فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ من الأنداد والشركاء فتكون هذه الآية نظيرة قوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا [الزمر: ٢٩] وفيه قول زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق قومه:
أربا واحدا أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا كذلك يفعل الرجل البصير
ثم أكد تفرده بالإلهية بقوله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وفيه رد على الثنوية والمجوس
14
الذين أثبتوا لله شريكا فاعلا للشرور والآلام، وذلك أنهم طلبوا الحكمة في أفعال الله تعالى فقالوا: لو كان مدبر العالم واحدا لم يخص هذا بأنواع الخيرات من الصحة والغنى وذلك بأصناف الشرور من المرض والفقر، فذكر سبحانه أن الاعتراض على أفعاله ينافي الديانة وأن له أن يفعل ما يشاء ولا مجال للسؤال عن أفعاله، فكل من الأشاعرة والمعتزلة سلموا أنه لا يجوز أن يقال لله لم فعلت، ولكنهم حملوا عدم جواز السؤال على مأخذ آخر. أما الأشاعرة فذهبوا إلى أن أفعاله لا تعلل بالمصالح والأغراض وله بحكم المالكية أن يفعل في مخلوقاته ما شاء فإن من تصرف في ملك نفسه لا يقال له لم فعلت، وكيف يتصور في حقه استحقاق الذم واستحقاق المدح له قديم؟ وما يثبت للشيء لذاته يستحيل أن يتبدل لأجل تبدل الصفات. وكما أن ذاته غير معللة بشيء فكذلك صفاته وأفعاله، وإنه غير محتاج إلى الأسباب والوسائط والأغراض والمقاصد. وأما المعتزلة فقد قالوا: إنه تعالى عالم بقبح المقابح وعالم بكونه غنيا عنها، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح. وإذا عرف المكلف إجمالا أن كل ما يفعله الله فهو حكمة وصواب وجب أن يسكت عن «لم» وإذا كان الملوك المجازيون لا يسألهم من في مملكتهم عما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم تهيبا وإجلالا لهم مع جواز الخطأ والزلل عليهم، فملك الملوك ورب الأرباب أولى بأن لا يسأل عن أفعاله مع ما ركز في العقول من أن كل ما يفعله فهو حسن مشتمل على الغايات الصحيحة. ثم زاد الإلهية تأكيدا بقوله وَهُمْ يُسْئَلُونَ وفيه رد على منكري التكليف الذاهبين إلى أن العباد لا يسألون عما فعلوا في دار الدنيا قالوا: إن التكليف أمر غير معقول لأنه إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك وهو محال لأن صدور الفعل عن المكلف يستدعي الترجيح فالتكليف بالترجيح في حال عدم الترجيح تكليف بالمحال، وإما أن يتوجه حال الرجحان ويكون الفعل حينئذ واجب الوقوع فيكون التكليف عبثا. وأيضا التكليف بما هو معلوم الوقوع لله عبث لأنه واجب الوقوع وبما هو غير معلوم الوقوع تكليف بما لا يطاق، وأيضا سؤال العبد لعبد إن لم يكن فيه فائدة فعبث، وإن كان فيه فائدة فإن عادت إلى الله تعالى كان محتاجا مستكملا، وإن عادت إلى العبد فالله تعالى قادر على إيصالها إليه من غير واسطة التكليف، على أن السؤال إن كان لأجل إيصال الضرر فذلك لا يليق بالكريم الرحيم، وجوابهم أن الأسباب والوسائط معتبرة في كل شيء من عالم الأسباب حتى الثواب والعقاب، على أن حاصل الشبهات يرجع إلى أن المنكر كأنه قال: إنه تعالى لم كلف عباده ولم كلفهم ما لا يطيقون وهو يناقض القاعدة الممهدة أنه لا يسأل عما يفعل. ثم كرر أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استفظاعا لكفرهم وليرتب عليه قوله قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ذلك عقلا أو نقلا. أما العقل فقد مر أنه يقضي بعدم الشريك حذرا من
15
الفساد، وأما النقل فقوله هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ هو من إضافة المصدر إلى المفعول أي عظة لأمتي. عن ابن عباس واختاره القفال والزجاج أنه أراد هذا هو الكتاب المنزل على من معي من الأمة وهذا هو الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء وأممهم يعني التوراة والإنجيل والزبور والصحف والكل وارد في معنى التوحيد ونفي الشركاء. وعن سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل والسدي أن قوله وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي صفة للقرآن أيضا لأنه اشتمل على أحوال الأمم الماضية كما اشتمل على أحوال هذه الأمة. ثم ختم الآية بقوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ تنبيها على أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل لأن عندهم ما هو أصل الشر والفساد وهو عدم العلم وفقد التمييز بين الحق والباطل، فلذلك أعرضوا عن استماع الحق وطلبه، وفي لفظ الأكثر إشارة إلى أن فيهم من يعلم ولكنه يعاند، أو أجري لفظ الأكثر على الكل على عادة الفصحاء كي لا يكون الكلام بصدد المنع.
ثم قرر آي التوحيد خصوصا قوله هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي على أحد التفسيرين بقوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الآية. ثم رد على خزاعة وأمثالهم القائلين بأن الملائكة بنات الله بقوله وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ثم نزه نفسه عن ذلك بقوله سُبْحانَهُ ثم أخبر عما هم عليه في الواقع وهو أن الملائكة عباد الله مُكْرَمُونَ مقربون لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أي بقولهم أي يتبعون قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ فهم التابعون لأمر الله في أقوالهم وأفعالهم يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وقد مر تفسيره في «طه» وفي آية الكرسي وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى كقوله في طه لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه: ١٠٩] وقد مر البحث فيه. قال في الكشاف وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أي متوقعون من أمارة ضعيفة. قلت: لعله أراد أنهم يتوقعون ما هو سبب لخشيته وهو العقاب من أدنى أمارة بخلاف البشر فإنهم لا يتوقعون ذلك إلا من أمارة قوية.
ويحتمل أن يقال: إنهم يخشون الله ومع ذلك يحذرون من أن تلك الخشية يقع فيها تقصير.
عن رسول الله ﷺ أنه رأى جبرئيل عليه السلام ليلة المعراج ساقطا كالحلس من خشية الله عز وجل.
ثم نبه على غاية عظمته ونهاية جبروته بقوله وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فيحتمل أن يدعي الإلهية لنفسه دون الله أو يدعي أنه إله مع الله أي بعد مجاوزة إلهيته وهذا على سبيل الفرض والتقدير كقوله وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:
٨٨] وفي قوله فَذلِكَ دون أن يقول فهو تبعيد للمشرك الجاحد عن ساحة عزته وفيه تفظيع لأمر الشرك وتهديد عظيم لمن أشرك، وأراد بالظلم هاهنا الشرك، والمعتزلة عمموه والأول أظهر. ثم عدل في أدلة التوحيد إلى منهج آخر من البيان وهو الاستدلال بالآفاق
16
والأنفس قائلا أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي جماعة السموات وجماعة الأرض كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما الرتق بالسكون السد. رتقت الشيء فارتتق أي التأم ومنه امرأة رتقاء ومصدرها الرتق بالتحريك، والفتقاء ضدها أي كانتا مرتوقتين فجعلناهما مفتوقتين. عن ابن عباس في رواية عكرمة وهو قول الحسن، وقتادة أن المراد كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض. ومثله قول كعب: خلق الله السموات والأرض ملتصقتين، ثم خلق ريحا توسطتهما فحصل الفتق، وقال أبو صالح ومجاهد: كانت السموات متلاصقات لا فرج بينها ففتقها الله بأن جعلها سبعا وكذلك الأرضون. وعن ابن عباس في رواية أخرى وعليه كثير من المفسرين، أن السموات والأرض كانتا رتقا بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر.
ويشبه أن يراد بالسماوات على هذا التفسير السحب نظيره قوله وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [الطارق: ١٢] ويؤيده قوله عقيبه وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وقيل: إنهما جمع السموات وإن كان نزول المطر من السماء الدنيا فقط باعتبار الجهة لأن جهتها هي جهتهن، أو باعتبار أن كل قطعة منها سماء فيكون كقولهم «ثوب أخلاق» «وبرمة أعشار» وقريب من هذا قول من قال: المعنى أن السموات والأرض كانتا مظلمتين ففتقهما الله تعالى بإظهار النور فيهما كقوله وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧] وقال أبو مسلم الأصفهاني: الرتق حالة العدم إذ ليس فيها ذوات متميزة فكأنها أمر واحد متصل متشابه، والفتق الإيجاد لحصول التمييز وانفصال بعض الحقائق عن البعض فيكون كقوله فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: ١٤] والفطر الشق. وعن بعض علماء الإسلام أن الرتق انطباق منطقتي الحركتين الأولى والثانية الموجب لبطلان العمارات وفصول السنة، والفتق افتراقهما المقتضي لإمكان العمارة ولتغير الفصول وفيه بعد.
وهاهنا سؤال: وهو أن الكفار متى رأوهما رتقا حتى صح هذا الاستفهام للتقرير؟ كيف وقد قال الله تعالى ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ [الكهف: ٥١] والجواب على الأقوال الأخيرة ظاهر فإن فتق السماء بالمطر والأرض بالنبات أو فتقهما بتنفيذ النور فيهما وإظهاره عليهما أمور محسوسة، وكذا إدخالهما من العدم إلى الوجود مما يشهد به الحس السليم والعقل المستقيم. وأما على القولين الأولين فلعلهم علموا ذلك من أهل الكتاب وكانوا يقبلون قولهم لما بينهما من التوافق في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال صاحب الكشاف في الجواب: إنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد، أو أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلا بد للتباين دون التلاصق من
17
مخصص وهو القديم سبحانه. قوله وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ قال السكاكي صاحب المفتاح: أي جعلنا مبدأ كل حي من هذا الجنس الذي هو جنس الماء. واعترض عليه بأنه كيف يصح ذلك وآدم من تراب والجن من نار والمشهور أن الملائكة ليست أجساما مائية؟ وأجاب بأنه يأتي في الروايات أنه جل وعز خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء، والجن من نار خلقها منه، وآدم من تراب خلقه منه. وقال صاحب الكشاف: إنما قال خلقنا كل شيء حي من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ وجوز أن لا يكون الجعل بمعنى الخلق بل يكون بمعنى التصيير متعديا إلى مفعولين، فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه. وقال في التفسير الكبير: اللفظ وإن كان عاما إلا أن القرينة قائمة فإن الدليل لا بد أن يكون مشاهدا محسوسا ليكون أقرب إلى المقصود، فبهذا الطريق تخرج الملائكة والجن وآدم لأن الكفار لم يروا شيئا من ذلك: قلت: فعلى هذا يكون قوله وَجَعَلْنا داخلا في حيز الاستفهام كأنه قيل:
ألم يروا أنا فتقنا السموات والأرض بعد رتقهما وجعلنا من الماء كل حيوان. ومن المفسرين من جعل الحي شاملا للنبات أيضا كقوله فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الجاثية: ٥] قوله وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ قد مر تفسيره في أول «النحل» وباقي الآية كقوله في طه وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا [الآية: ٥٣] والفجاج جمع الفج وهو الطريق الواسع وهي صفة سُبُلًا قدمت عليه فصارت حالا عنه أراد أنه حين خلقها جعلها على تلك الصفة فهذا كالبيان لما أبهم في قوله لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نوح: ٢٠] والاهتداء إما حسي أي تهتدون إلى البلاد، وإما عقلي وهو الاهتداء إلى وحدانية الله تعالى. ومنهم من زعم أن الضمير في قوله وَجَعَلْنا فيها عائد إلى الجبال وهذا قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس. وروي عن ابن عمر أنه قال: كانت الجبال منضمة فلما أغرق قوم نوح فرقها فجاجا وجعل فيها طرقا. قال علماء الإسلام: ليس في قوله وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً إن السماء للأرض كالسقف للبيت لأنها فوق لا يقابله مثله، ولكنه أطلق عليها اسم السقف لأنها كذلك في النظر بالنسبة إلى سكان كل بقعة. وفي المحفوظ وجهان: أي مَحْفُوظاً بقدرته من أن يقع على الأرض أو محفوظ بالشهب عن الشياطين. وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ فلا يتدبرون في ترتيبها ومسيراتها وطلوع أجرامها وغروبها واتصالاتها وانصرافاتها وتأثيراتها فيما دونها بإذن خالقها ومبدعها. قوله كُلٌّ فِي فَلَكٍ من مقلوب الكل. والفلك في اللغة كل شيء دائر وجمعه أفلاك. وزعم الضحاك أنه ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم. والأكثرون على أن الفلك جسم تدور النجوم عليه. ثم اختلفوا في حقيقته فقال الكلبي: ماء مكفوف أي مجموع تجري فيه الكواكب بدليل قوله يَسْبَحُونَ
18
والسباحة لا تكون إلا في الماء. ورد بأنه يقال فرس سابح إذا امتد في الجري. وقالت الحكماء: هو جسم كروي لا ثقيل ولا خفيف غير قابل للخرق والالتئام والنمو والذبول، ولذلك منعوا من كون الفلك ساكنا، والكواكب متحركة فيه كالسمك في الماء واعتذروا عن السباحة بأنها في النظر كذلك.
قال صاحب الكشاف: التنوين في كل عوض من المضاف إليه أي كلهم فورد عليه إشكالان: أحدهما أنه لم يسبق إلا ذكر الشمس والقمر فكيف يعود ضمير الجمع إليهما؟
وأجاب بأن ذلك باعتبار كثرة مطالعهما كما يجمع بالشموس والأقمار لذلك. ويمكن أن يقال: أقل الجمع اثنان أو أنه جعل النجوم تبعا لذكرهما. الثاني أن كلهم ليسوا في فلك ولكن كل منهم في فلك آخر على ما يشهد به علم الهيئة، وأجاب بأنه أراد جنس الفلك كقولك «كسانا الأمير حلة»، أو أراد كل واحد. قلت: لو صح هذا التقدير الثاني لم يرد الإشكال الأول ولكنه ينافي قوله يَسْبَحُونَ مجموعا. قال بعض الحكماء في هذا الجمع دلالة على أن الكواكب أحياء ناطقة. وأجيب بأنه إنما جمع جمع العقلاء لأن السباحة من فعلهم. قلت: قد يسبح كثير من الحيوانات، فلعل المختص بالعقلاء هو السباحة الصناعية المكتسبة. وهاهنا بحث وهو أن الإمام فخر الدين الرازي استحسن قول بعض الأوائل أن الحركة السماوية صنف واحد وهي الآخذة من المشرق إلى المغرب إلا أن بعضها أبطأ من البعض كالحركات الغربية، وكذا اختلافات تلك الحركات بسبب تلك المختلفات. قال:
وهذا أقرب ليكون غاية سرعة الحركة للفلك الأعظم وغاية السكون للجرم الذي هو أبعد عن المحيط وهو الأرض، ولئلا يلزم بسبب حركة ما دون الفلك الأعظم بحركته وبحركاتها الخاصة تحرك الجرم الواحد في زمان واحد بحركتين مختلفتين إلى جهتين فإنه يستلزم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين. قلت: أما حديث كون ما هو أبعد عن المركز أسرع حركة فإقناعي، وأما لزوم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين فممنوع لأن التي تظهر في المتحرك هي الحركة المركبة الحاصلة من فضل الأسرع على الأبطأ لا كل من الحركتين، وهذا مشاهد من حركة النملة إلى خلاف جهة حركة الرحى، ومن حركة راكب السفينة فيها إلى خلاف جهة حركتها. وأما الذي استحسنه من كلام الأوائل فباطل لأنه لو كان كذلك لحصلت الاظلال اللائقة بكل جزء من أجزاء فلك البروج في يوم بليلة، وكذا الارتفاعات المناسبة لها في البلاد المتفقة العرض وليس كذلك، وقد ذكرنا هذا المعنى في كتبنا النجومية أيضا. وحين فرغ من بيان طرف من هيئة الأجرام السماوية ومنافعها الدنيوية نبه بقوله وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ على أن هذه الآثار لا تدوم ولا تخلق للبقاء وإنما
19
خلقت للابتلاء والامتحان ولكي يتوصل بها المكلفون إلى السعادات المدخرة لهم في الآخرة وهي دار الخلود. وبوجه آخر لما فرغ من دلائل الآفاق شرع في دلائل الأنفس فقال:
وَما جَعَلْنا الآية، عن مقاتل أن ناسا كانوا يقولون إن محمدا لا يموت فنزلت وقيل:
لعلهم ظنوا أنه لو مات لتغير الشرع وهذا ينافي كونه خاتم الأنبياء، فبين الله سبحانه أن حاله كحال من تقدمه من الأنبياء في المفارقة من دار الدنيا. والأكثرون على أن سبب النزول هو أنهم كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله عنه الشماتة لهذه وفي معناه قول القائل:
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا.
قوله كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ قد تقدم في آخر آل عمران تفسيره.
قوله وَنَبْلُوكُمْ أي نعاملكم معاملة المختبر بما نسوق إليكم من الشرور والخيرات فيظهر عندهما صبركم وشكركم. وقدم الشر لأن الموت من باب الشرور في نظر أهل الظاهر. وفِتْنَةً مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه. وحين أثبت الموت الذي هو الفراق عن دار التكليف بين بقوله وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ أن الجزاء على الأعمال ثابت مرئي البتة بعد المفارقة. استدلت المجسمة بقوله وَإِلَيْنا أنه تعالى جسم ليمكن الرجوع إلى حيث هو، والتناسخية بأن الرجوع مسبوق بالكون في المكان المرجوع إليه، وجواب الأولين أنه أراد الرجوع إلى حيث لا حكم إلا له، وجواب الآخرين التسليم لكنه لا يفيد مطلوبهم لأن الرجوع إلى المبدأ غير الرجوع إلى دار الدنيا، واعلم أن مثل هذه الآية سيجيء في سورة العنكبوت إلا أنه قال هناك ثُمَّ إِلَيْنا ولم يذكر قوله وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً فكأن هذه الفاصلة قامت مقام التراخي في «ثم».
قال السدي ومقاتل: مر النبي ﷺ بأبي جهل وأبي سفيان فقال أبو جهل لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف. فقال أبو سفيان: وما تنكر أن يكون نبيا في بني عبد مناف! فسمع النبي ﷺ قولهما فقال لأبي جهل: ما أراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة، وأما أنت يا أبا سفيان فإنما قلت ما قلت حمية فأنزل الله تعالى وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ
أي ما يتخذونك إِلَّا هُزُواً ثم فسر ذلك بقوله أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ والذكر أعم من أن يكون بالخير أو بالشر إلا أنه إذا كان من العدو يفهم منه الذم لا الثناء، والمعنى أنه يبطل معبوديتها وينكر عبادتها ويقبح أمرها ثم بين غاية جهالتهم وتعكيس قضيتهم بقوله وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ قدم الجار والمجرور وكرر الضمير ليفيد أنهم عاكفون هممهم على ذكر آلهتهم من
20
كونها شفعاء وشهداء، ولو ذكرها ذاكر بخلاف ذلك ساءهم. وأما ذكر الرحمن الذي منه جلائل النعم ودقائقها وأصولها وفروعها فلا يخطر منهم ببال، ولو ذكره ذاكر استهزؤا به حتى إن بعضهم يقولون: ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة فهم أحق أن يتخذوا هزوا. ويحتمل أن تكون الباء للسببية أي هم كافرون بسبب ذكرهم الرحمن لا على ما ينبغي، فيكون الذكر في الموضعين بمعنى واحد. وقيل بِذِكْرِ الرَّحْمنِ أي بما أنزل إليك من القرآن وكانوا يستعجلون بعذاب الله كما يجيء من قوله وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ فقدم لذلك أولا مقدمة هي قوله خُلِقَ الْإِنْسانُ أي هذا الجنس مِنْ عَجَلٍ أراد أنه مجبول على إفراط العجلة كما مر في قوله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [الإسراء: ١١] وعن ابن عباس أنه آدم أراد أن يقوم حين بلغ الروح صدره، وعن مجاهد أن آدم لما دخل الروح رأسه وعينيه رأى الشمس قاربت الغروب فقال: يا رب عجل خلقي قبل أن تغيب الشمس. وعن ابن عباس أيضا أنه النضر بن الحرث والأول أظهر. وقيل: العجل الطين بلغة حمير، وقال الأخفش: أي من العجل في الأمر وهو قوله كُنْ وقيل: هو على القلب أي خلق العجل من الإنسان سَأُرِيكُمْ آياتِي وهي الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة فَلا تَسْتَعْجِلُونِ فإنها كائنة لا محالة في وقتها وقيل: هي أدلة التوحيد وصدق الرسول. وقيل: آثار القرون الخالية بالشام واليمن.
سؤال: قوله خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ فيه أن الآدمي معذور على الاستعجال لأنه له كالأمر الطبيعي الذي لا بد منه، فلم رتب عليه النهي بقوله فَلا تَسْتَعْجِلُونِ؟ وأجيب بأن فيه تنبيها على أن ترك العجلة حالة شريفة وخصلة عزيزة. وقال جار الله: هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها.
آخر: القوم استعجلوا الوعد على جهة التكذيب، ومن هذا حاله لا يكون مستعجلا في الحقيقة؟ أجيب بأن الاستعجال على هذا الوجه أدخل في الذم لأنه استعجال على أمر موهوم عندهم لا معلوم لَوْ يَعْلَمُ جواب «لو» محذوف وحِينَ مفعول به ل يَعْلَمُ والمعنى لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه وهو وقت إحاطة النار بهم، لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال. ويجوز أن يكون يَعْلَمُ متروك المفعول أي لو كانوا من أهل العلم لما كانوا مستعجلين، وعلى هذا يكون حِينَ منصوبا بمضمر أي حين لا يكفون يعلمون أنهم كانوا على الباطل، وخص الوجوه والظهور بالذكر لأن نكاية النار في هذين العضوين أشد مع أن الإحاطة التامة تفهم منهما. ثم بين أن وقت مجيء العذاب غير
21
معلوم لهم فإن مجيء الساعة مخفي عن المكلفين ليكونوا أقرب إلى تلافي الذنوب فقال بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ قال جار الله: أي لا يكفونها بل تفجؤهم فتغلبهم. قلت: فائدة «بل» في هذه المقامات للانتقال من جملة إلى أخرى أهم من الأولى، ويحتمل أن تكون «لو» لظاهر التمني والضمير للنار. وقيل: للساعة. وفي قوله وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ تذكير بإمهالهم في دار الدنيا أي ثم يهلكون بعد طول الإمهال. ثم سلى رسوله ﷺ بقوله وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ الآية. وقد مرت في أول الأنعام. ولما بين أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجوههم النار ذكر أنهم في الدنيا أيضا مفتقرون إلى حراسة الله وكلاءته فقال قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إذا نمتم وَالنَّهارِ إذا تقلبتم في وجوه المصالح مِنَ الرَّحْمنِ أي من بأسه وعذابه كالقتل والسبي ونحوهما. قيل: إنما خص الرحمن بالذكر تلقينا للجواب حتى يقول العاقل أنت الكالئ يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك ونظيره ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الإنفطار: ٦] ثم أضرب عن الأمر بالاستفهام قائلا بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ لا يخطرونه ببالهم فضلا أن يخافوا بأسه كأنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكالئ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. أما قوله أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ فذكر في الكشاف أنه إضراب عن الكلام السابق بما في «أم» من معنى «بل». وقال غيره: الميم زائدة وإنه استفهام مستأنف والتقدير ألهم آلهة تمنعهم من دوننا من العذاب، ومعنى مِنْ دُونِنا أن تلك الآلهة لا تتجاوز منعنا وحفظنا ثم استأنف فقال لا يَسْتَطِيعُونَ ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي تلك الآلهة ليست تقدر على نصر أنفسها فكيف تحفظ غيرها وتنصرها.
وقوله وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ قال المازني: هو من أصحبت الرجل إذا منعته. والأكثرون على أنه من الصحبة بمعنى النصرة والمعونة ومنه قولهم «صحبك الله». والحاصل أن من لا يكون قادرا على دفع الآفات ولا يكون مصحوبا من الله بالإعانة والنصرة كيف يتوقع منه دفع ضر أو جلب نفع! ولما أبطل كون الأصنام نافعة أضرب عن ذلك منتقلا إلى بيان أن ما هم فيه من الحفظ والكلاءة والتمتع بالحياة العاجلة هو من الله لا من مانع يمنعهم من الإهلاك ولا من ناصر يعينهم على أسباب التمتع سوى الله. وفي قوله حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ إشارة إلى أنه لما امتدت أيام الروح والطمأنينة حسبوا أن ذلك لن يزول عنهم فاغتروا به ونسوا المنعم فاستأهلوا العقاب كما أشار إليه بقوله أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وفي لفظ الإتيان تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين الذين هم حزب الله من نقص ديار الكفر وتخريبها وعمارة حوزة الإسلام وتشييد مبانيه وقد مر مثله في آخر سورة الرعد. والاستفهام في قوله أَفَهُمُ الْغالِبُونَ للتقرير أي لنحن الغالبون وهم المغلوبون.
22
ثم بين أن هذه الإنذارات ليست من قبل الرسول ولكنه بالوحي، ثم مهد عذر الرسول إن لم تنجع فيهم رسالته بأن الصم لا يسمعون دعاء المنذر. واللام في الصُّمُّ للعهد أي لا يسمع هؤلاء الإنذار فوضع الصُّمُّ في موضع اسم الإشارة إيذانا بأنهم هم الموسومون بالصمم عن استماع الحق، ولو كان اللام للجنس لكان الأنسب إطلاق الدعاء لأن الصم لا تسمع الدعاء بشروا أو أنذروا. ثم ذكر أنهم لا يعترفون بالتقصير والظلم إلا عند معاينة العذاب فقال: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ وفي ذكر المس وبناء المرة من النفح الذي هو بمعنى القلة والنزارة. منه قولهم «نفحه بعطية» أي رضخه، «ونفحته الدابة» وهو رمح يسير دليل على أنهم في غاية الضعف يجزعون من أدنى أثر من عذاب الله. قوله وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ المراد من الوضع الإحضار والقسط أي العدل صفة الموازين وإن كان موحدا كقولهم للقوم «إنهم عدل» قاله الفراء. وعن الزجاج أراد ذوات القسط. واللام في لِيَوْمِ الْقِيامَةِ بمعنى الوقت كما يقال «جئت لتاريخ كذا». وقيل: أراد لأجل الحساب يوم القيامة. وقد مر تحقيق الوزن وما يتعلق به من الأبحاث في أول سورة الأعراف.
يروى أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان، فلما رآه غشي عليه ثم أفاق فقال: يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ فقال: يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة.
وفي قوله فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً بحث بين المعتزلة والأشاعرة وقد مر مرارا وَإِنْ كانَ أي الوزن والعمل مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها أنت ضمير المثقال باعتبار إضافته إلى الحبة. قيل: الحبة أعظم من الخردلة فكيف قال: حبة من خردل؟ وأجيب بأن الوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار، والظاهر أنه أراد الحبة من حيث اللغة. وقوله مِنْ خَرْدَلٍ بيان لها لأن الحبة أعم من أن تكون من الخردل أو من الحنطة أو من غيرهما ولكن المبالغة في الأول أكثر، وذلك أن الخردلة سدس شعيرة وهي نصف سدس ثمن الدينار عند الحساب ونصف سدس سدسه في الشرع، والحبة ثمن تسع الدينار في عرف حساب فارس والعراق، فمثقال حبة من خردل يكون على الوجه الأول ثمن تسع خردلة، وعلى ما قلنا يكون هو الخردل بعينه. والحاصل أن شيئا من الأعمال صغيرا كان أو كبيرا غير ضائع من علم الله وأنه يجازي عليه. رؤي الشبلي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال:
حاسبوني فدققوا... ثم منوا فأعتقوا.
قال في التفسير الكبير: زعم الجبائي أن من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة
23
يستحق بها خمسين جزءا من الثواب فهذا الأقل منحبط بالأكثر كما كان. والآية تبطل قوله لأن الله تعالى تمدح بأن اليسير من الطاعة لا يسقط، ولو كان الأمر كما قاله الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة. قلت: للجبائي أن يقول: الإتيان بالطاعة مشروط عندي بعدم الإحباط كما أن العقاب على المعصية مشروط عندكم بعدم العفو. وَكَفى بِنا حاسِبِينَ كقوله وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [النساء: ٦] وحين فرغ من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد شرع في قصص الأنبياء تسلية لنبيه وتثبيتا وعظة لأمته وتذكيرا، وقد مر قصة موسى إلا أنه أوجز فيها هاهنا والموجز تقدمه الفصحاء غالبا، ولأن موسى أقوى حالا ومعجزة، ولأن ذكر التوراة يناسب ما تقدم من قوله قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وصف التوراة بأنها جامعة لكونها فرقانا يفرق به بين الحق والباطل، وقد مر سائر تفاسير الفرقان في أول البقرة وَضِياءً كقوله فِيها هُدىً وَنُورٌ [المائدة: ٤٤] وذكر للمتقين أي شرفا وموعظة، أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم وقوله بِالْغَيْبِ إما حال من الرب أي حال كونه غائبا عن حسهم والله لا يغيب عنه شيء فيكون كقوله ﷺ «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «١» وإما حال منهم أي حال كونهم غائبين عن عذاب الآخرة وأهوالها، أو غائبين عن الناس أي يخشون ربهم في الخلوات. ثم عظم شأن القرآن بقوله وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أي كثير البركة أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي أنتم دون سائر الناس مع علمكم بفصاحته وإعجازه تخصونه بالإنكار. ولا يخفى ما فيه من التوبيخ للعرب ومن داناهم.
التأويل أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً من أرض البشرية ثم هم يحيون القلوب الميتة بل الله يحييها بنور ذكره وطاعته لو كان في سماء الروحانية وأرض البشرية آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ كالعقل والهوى لَفَسَدَتا كما فسد سماء أرواح الفلاسفة حين أثبتت عقولهم للواجب صفات لا تليق به، وفسد أرض بشرية الطبائعية حين زلت قدمهم عن استعمال قوانين الشريعة بمقتضى هوى الطبيعة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لأن أفعاله تعالى صادرة عن الحكمة والقدرة وَهُمْ يُسْئَلُونَ لأن أفعالهم منشؤها الظلومية والجهولية لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ لأنه ليس فيهم ما يخالف داعية العقل وهو الطبع الذي يجذب صاحبه إلى السفل، ولهذا وصفهم بالإكرام ووصف بني آدم بالتكريم في قوله وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء: ٧٠] ففي التكريم تكثير ليس في
(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٣١ باب ٢. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٥٧ أبو داود في كتاب الإيمان باب ٤. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب ٩. أحمد في مسنده (١/ ٢٧) (٢/ ١٠٧) (٤/ ١٢٩). [.....]
24
الإكرام والسبب أن أمر بني آدم أشكل وحالهم أصعب يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من خجالة قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: ٣٠] وَما خَلْفَهُمْ من الأمر بسجود آدم والاستغفار لمن في الأرض أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أنهم رأوها في عالم الأرواح لأنها خلقت قبل الأجساد بألفي عام، وفي رواية بأربعة آلاف سنة كانَتا رَتْقاً أي كانت سموات الأرواح متعلقة بأرض القوالب فَفَتَقْناهُما بالمفارقة وقطع التعلق وَجَعَلْنا مِنَ ماء حياة العلم كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ بالحياة الأبدية وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ أرض القالب رَواسِيَ هي هموم العلائق البدنية أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ فلولاها لمالت كل نفس إلى عالمها وبطل الغرض من التكليف، ويمكن أن يكون الرواسي إشارة إلى الأبدال الذين هم أوتاد الأرض بهم يرزق ويمطر الناس فِجاجاً سُبُلًا هي طرق الإرشاد والتسليك وَجَعَلْنَا سماء القلب سَقْفاً مَحْفُوظاً من وساوس شياطين الإنس والجن وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ ليل البشرية ونهار الروحانية وشمس المعرفة وقمر الإسلام كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فأهل الإسلام في فلك الشريعة، وأهل الإيمان في فلك الطريقة، وأهل الولاية في فلك أطوار الحقيقة كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أما النفس الحيوانية فلأن من خواصها أن تصير الغذاء من جنسها فلا جرم إذا عجز الغذاء عن التشبيه بها لعجز القوة الغاذية حل أجلها، وأما النفس الناطقة فلأن من خواصها أنها تصير من جنس غذائها وهو الكمالات العلمية والعلمية التي هي فيوض ربانية يتجوهر الروح بجوهرها فيحصل له الفناء عن وجوده والبقاء بشهود ربه وَنَبْلُوكُمْ بالمكروهات التي تسمونها شرا بالمحبوبات التي تحسبونها خيرا فِتْنَةً فربما كان الأمر عكس ما تصورتم وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ اختيارا وقهرا وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه أن الأغيار لا ينظرون إلى الأخيار إلا بعين الإنكار خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ بالنسبة إلى خلق السموات والأرض وما بينهما فإنها خلقت في ستة أيام وخمرت طينة آدم أربعين صباحا مع أن فيها أنموذجا من الكل واستعدادا لقبول الخلافة وقابلية تجلي الذات والصفات ومظهرية الكنز الخفي وأشار إلى هذه المعاني بقوله سَأُرِيكُمْ آياتِي أي في مظاهر الآفاق ومرايا أنفسكم بالتدريج وبالتربية في كل طور فَلا تَسْتَعْجِلُونِ فإن حد الاستكمال من المهد إلى اللحد بل من الأزل إلى الأبد وهذا منطق الطير لا يفهمه إلا سليمان الوقت. ويمكن أيضا أن يقال:
إن الروح الإنساني أول شيء تعلقت به القدرة وهذا معنى العجلة قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ فيه أن ملوك الأرض لو حرسوهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ من الخصوم والأعداء فمن لهم حتى يحفظوهم في ليل البشرية ونهار الروحانية من سطوات قهر الجلال الذي الرحمانية من صفاته كما أن الرحيمية من صفات الجمال، فلو وكلهم بالخذلان إلى ظلمة البشرية بقوا في الجهل، ولو وكلهم بالإضلال في نور المعقولات تاهوا في أودية الحيرة والحجب النورية، والمنع من
25
ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﰿ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ
الحجب الظلمانية والجهل البسيط أسرع من إزالة الجهل المركب بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ الجهال وَآباءَهُمْ الذين علموهم تلك المعقولات التي صارت حجبا نورية لهم حتى اغتروا بظاهر الحال وأنكروا المعاد والشريعة. ثم بين أن الحق يغلب على الباطل البتة فقال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ البشرية وَنَضَعُ الْمَوازِينَ ميزان الفضل قد نصب في الأزل نَحْنُ قَسَمْنا تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا وميزان العدل ينصب في الأبد وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فالأول كالبزرة والثاني كالثمرة.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥١ الى ٩١]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠)
قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠)
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥)
وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)
26
القراآت
جُذاذاً بكسر الجيم: علي. الآخرون بضمها أف بفتح الفاء: ابن كثير وابن عامر وسهل ويعقوب أُفٍّ بالكسر والتنوين: أبو جعفر ونافع وحفص. الباقون بالكسر من غير تنوين لنحصنكم بالنون: أبو بكر وحماد ورويس وبالتاء الفوقانية والضمير للصنعة أو للدرع لأنها مؤنثة سماعا: ابن عامر ويزيد وحفص والمفضل وروح وزيد. الباقون بالياء التحتانية والضمير لداود عليه السلام أو للبوس والكل بتخفيف الصاد والرياح على الجمع: يزيد بطريق المفضل الآخرون على التوحيد. مَسَّنِيَ الضُّرُّ وعِبادِيَ الصَّالِحُونَ في آخر السورة مرسلة الياء: حمزة. الباقون بفتحها وأن لن يقدر بالياء مجهولا: يعقوب ننجي بضم النون الواحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء: ابن عامر وعباس وأبو بكر وحماد. الآخرون من الإنجاء مخففا.
الوقوف:
عالِمِينَ ج هـ لأن «إذ» يصلح ظرفا لآتينا أو ل رُشْدَهُ أو للعلم به مفعولا لأذكر محذوفا عاكِفُونَ هـ عابِدِينَ هـ مُبِينٍ هـ اللَّاعِبِينَ هـ فَطَرَهُنَّ ز لواو الابتداء والحال أولى الشَّاهِدِينَ هـ يَرْجِعُونَ هـ الظَّالِمِينَ هـ إِبْراهِيمُ هـ
27
يَشْهَدُونَ هـ يا إِبْراهِيمُ هـ ط فَعَلَهُ ز وفيه بعد ويجيء في التفسير يَنْطِقُونَ هـ الظَّالِمُونَ هـ لا للعطف عَلى رُؤُسِهِمْ ج لاتحاد المقصود مع إضمار القول يَنْطِقُونَ هـ وَلا يَضُرُّكُمْ ط لاستئناف الدعاء عليهم مِنْ دُونِ اللَّهِ ط تَعْقِلُونَ هـ فاعِلِينَ هـ عَلى إِبْراهِيمَ هـ لا بناء على أن التقدير وقد أرادوا الْأَخْسَرِينَ ج هـ للعطف والآية لِلْعالَمِينَ هـ إِسْحاقَ ط بناء على أن المراد ووهبنا له يعقوب حال كونه نافلة نافِلَةً ط صالِحِينَ هـ الزَّكاةِ ج لاحتمال الاستئناف والحال عابِدِينَ هـ وكان ينبغي أن لا يوقف للعطف ولكنهم حكموا بالوقف لتمام القصة وكذلك أمثالها الْخَبائِثَ ط فاسِقِينَ هـ لا بناء على أن التقدير وقد أدخلناه رَحْمَتِنا ط الصَّالِحِينَ هـ الْعَظِيمِ هـ ج للعطف مع الآية بِآياتِنا ط أَجْمَعِينَ هـ غَنَمُ الْقَوْمِ ج لاحتمال الواو بعده الاستئناف والحال شاهِدِينَ هـ لا للعطف بالفاء سُلَيْمانَ ج لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتحاد الكلام وَعِلْماً ز لعطف المتفقين مع نوع عدول وَالطَّيْرَ ط فاعِلِينَ هـ مِنْ بَأْسِكُمْ ج للاستفهام مع الفاء شاكِرُونَ هـ فِيها ط عالِمِينَ هـ دُونَ ذلِكَ ج لاحتمال الاستئناف والحال حافِظِينَ هـ الرَّاحِمِينَ هـ ط للفاء وللآية لِلْعابِدِينَ هـ وَذَا الْكِفْلِ ط الصَّابِرِينَ هـ وقد يوصل لعطف وَأَدْخَلْناهُمْ على نَجَّيْناهُ للقدرة فِي رَحْمَتِنا ط الصالحين هـ سُبْحانَكَ قد يوقف لأجل «أن» ولكنه داخل في حكم النداء الظَّالِمِينَ ج هـ على ما ذكر في الوجهين فَاسْتَجَبْنا لَهُ لا لاتفاق الجملتين واتصال النجاة بالاستجابة مِنَ الْغَمِّ ط الْمُؤْمِنِينَ هـ الْوارِثِينَ هـ فَاسْتَجَبْنا لَهُ هـ لا مكان الفصل بين الاستجابة المعجلة وحصول الولد الموهوب على المهلة زَوْجَهُ ط وَرَهَباً ط خاشِعِينَ ط لِلْعالَمِينَ هـ.
التفسير:
الرشد الاهتداء لوجوه المصالح في الدين والدنيا وقد يخص هاهنا بالنبوة لقوله رُشْدَهُ ومعنى الإضافة أن لهذا الرشد شأنا ولقوله وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ وفيه أنه علم منه أسرارا عجيبة وأحوالا بديعة حتى اتخذه خليلا واصطفاه نبيا نظيره اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: ١٢٤] وعلى هذا فمعنى قوله مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى وهارون قاله ابن عباس. وعلى الأول يحتمل هذا وأن يراد من قبل البلوغ حين استدل بالكواكب قاله مقاتل. وعن ابن عباس في رواية الضحاك حين أخذ الله ميثاق النبيين في صلب آدم. قالت الأشاعرة: أراد بإيتاء الرشد خلق ذلك فيه إذ لو حمل على أسباب ذلك تناول الكفار. أجاب الكعبي بأن هذا إنما يقال فيمن قبل لا فيمن رد، نظيره بأن يعطي الأب كل واحد من ولديه ألفا فقبله أحدهما وثمره ورده الآخر أو أخذه ثم ضيعه فيقال: أغنى
28
فلان ابنه فيمن ثمر المال، ولا يقال مثله فيمن ضيع. واعترض بأن قبوله على هذا التقدير يكون جزءا من مسمى الرشد وحينئذ لا يصح استناد إيتاء الرشد إلى الله وحده، وهذا بخلاف نص القرآن. والتمثال اسم للشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء شبهته به، واسم ذلك الممثل تمثال جعل إبراهيم عليه السلام هذا التجاهل والتغابي ابتداء كلامه لينظر فيما عساهم يوردونه من شبهة فيحلها لهم مع ما في هذا السؤال من تحقير آلهتهم وتسفيه أخلافهم. وفي قوله أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ دون أن يقول عليها كقوله يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ [الأعراف: ١٣٨] نوع آخر من التجهيل والتوبيخ لأنه ادعى عليهم أنهم جعلوا العكوف مختصا بها دون خالقها وخالق كل شيء قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ لا يمكن لهم أن يتمسكوا بشيء آخر سوى التقليد فزيف طريقتهم بالتنبيه على خطئهم وخطأ أسلافهم فقال: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لأن كل مذهب لا يستند إلى دليل كان صاحبه ضالا أو في حكم ذلك. ثم إن القوم تعجبوا من تضليلهم مع كثرتهم ووحدته ومنعهم عما ألفوه وضروا به فقالوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي بما ليس بهزل ودعابة أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ فحينئذ عدل إبراهيم عن مجرد التنبيه إلى إثبات الدعوى بالبينة والدليل وجاهدهم أولا باللسان قائلا بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ الظاهر أن الضمير للسموات والأرض إلا أنه قيل: كونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم. وقوله وأنا على ذلكم من الشهداء فيه تأكيد وتحقيق لما قاله كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه «أشهد إنه كريم أو لئيم» لأن الشهادة خبر قاطع. وفيه أنه قادر على إثبات ما ادعاه بالحجج والبينات كما شاؤا ثم أخبر أنه سيجاهدهم جهادا بالفعل من غير تقية وخوف قال وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ قال جار الله: في تاء القسم مع أنه عوض عن الباء زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من سهولة الكيد على يده لأن ذلك لصعوبته كان كالمقنوط منه خصوصا في زمن نمرود مع شدة شكيمته وقوة سلطانه. قلت:
لا ريب أن هذا مستبعد عادة ولكنه سهل لمن أيده الله ونصره كما قال علي رضي الله عنه:
والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة رحمانية.
سؤال: الكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به فكيف يتصور ذلك في حق الأصنام؟ وجوابه أنه قال ذلك بناء على زعمهم أنه يجوز ذلك عليها، أو أراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل أهمهم وأحزنهم. قال السدي: كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم: لو خرجت معنا؟ فخرج معهم. فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي
29
رجلي، فلما بقي هو وضعفاء الناس نادى وقال الله لأكيدن أصنامكم. وروى الكلبي أن إبراهيم كان من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضا، فلما هم إبراهيم بالذي هم به من كسر الأصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء فقال لأصحابه: إني أراني أشتكي عدا فذلك قوله في الصافات فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: ٨٨، ٨٩] وأصبح من الغد معصوبا رأسه، فخرج القوم لعيدهم ولم يتخلف أحد غيره فقال سرا: أما والله لأكيدن أصنامكم، فسمعه رجل واحد وأخبر به غيره وانتشر الخبر. وعلى الوجهين يصح قوله فيما بعد قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ وروي أن آزر خرج به في عيد لهم فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم وقالوا: إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنما مصطفة وثمة صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلها بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً قال الجوهري: جذذت الشيء جذا قطعته وكسرته، والجذاذ ما كسر منه وضمه أفصح من كسره. قلت: فعلى هذا هو اسم جمع لا جمع إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي في الخلقة كما روينا. وقيل: في التعظيم. ويحتمل أن يكون جامعا للأمرين. أما الضمير الواحد في قوله لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فيحتمل عوده إلى إبراهيم أي جعلهم جذاذا واستبقى الكبير رجاء أنهم يرجعون إلى دينه أو إلى السؤال عنه لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم فيبكتهم بقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ ويحتمل عوده الكبير كما ذهب إليه الكلبي. والمعنى لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحا والفأس على عاتقك، وهذا بناء على ظنهم أن الأصنام قد تتكلم وتجيب، على أن نفس ذلك الكبير كان دليلا على فساد مذهبهم لأن الإله يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء لأنهم كانوا يعظمونها ويقولون: إن المستخف بها يلحقه ضرر عظيم، فحين كسرها إبراهيم ولم ينله ضرر من تلك الجهة بطل ما اعتقدوه. فلما انكشفت لهم جلية الحال وقالُوا مَنْ فَعَلَ هذا الكسر والحطم والاستخفاف بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ المعدودين في جملة من يضع الشيء في غير موضعه لأنه وضع الإهانة مكان التعظيم قالُوا سَمِعْنا احتمل أن يكون القائل واحدا، ونسب القول إلى الجماعة لأنه منهم، واحتمل أن يكون جمعا على الوجهين اللذين رويناهما، أو لأنهم سمعوا منه قوله على وجه الاستهزاء ما هذِهِ التَّماثِيلُ والفعلان بعد فَتًى صفتان له إلا أن الأول ضروري ذكره لأنك لا تقول «سمعت زيدا» وتسكت حتى تذكر شيئا مما يسمع، والثاني ليس كذلك. والأصح أن قوله إِبْراهِيمُ فاعل يُقالُ لأن
30
المراد الاسم لا المسمى وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف أو منادى. قالُوا أي فيما بينهم فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ الجار والمجرور في محل الحال أي بمرأى منهم ومنظر أو معاينا ومشاهدا قال. في الكشاف: معنى الاستعلاء في «على» أنه يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عليه بما سمع منه وبما فعله فيكون حجة عليه قاله الحسن وقتادة والسدي وعطاء عن ابن عباس. وقال محمد بن إسحق: معناه لعلهم يحضرون عقوبتنا له ليكون ذلك زاجرا لهم عن الإقدام على مثل فعله.
وهاهنا إضمار أي فأتوا به ثم قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا الظلم والاستخفاف بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ طلبوا منه الاعتراف ليقدموا على إيذائه ف قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وقوله هذا صفة كبيرهم.
زعم الطاعنون في عصمة الأنبياء أن هذا القول من إبراهيم كذب وأكدوا قولهم بما
جاء في الحديث «إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات»
وللعلماء في جوابهم طريقان:
أحدهما تسليم أنه كذب ولكنهم قالوا: الكذب ليس قبيحا لذاته وإنما يقبح لاشتماله على مفسدة. وقد يحسن الكذب إذا اشتمل على مصلحة كتخليص نبي ونحوه، وزيف هذا الطريق بأنا لو جوزنا أن يكذب النبي لمصلحة لبطل الوثوق بالشرائع، فلعل الأنبياء أخبروا عما أخبروا لمصلحة المكلفين في باب المعاش مع أنه ليس للمخبر عنه وجود كما في الواقع. الطريق الثاني وعليه جمهور المحققين المنع من أنه كذب وبيانه من وجوه: الأول أنه من المعاريض التي يقصد بها الحق وهو إلزام الخصم وتبكيته كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخط في غاية الحسن، أنت كتبت هذا وصاحبك أمي لا يحسن الخط فقلت له: بل كتبته أنت. كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع استهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي. الثاني أن إبراهيم عليه السلام غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مزينة، وكأن غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها. الثالث أن يكون ذلك حكاية لما يؤل إليه مذهبهم كأنه قال: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبدو يدعى إلها أن يقدر على أمثال هذه الأفعال، ويؤيد هذا الوجه ما يحكى أنه قال فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا غضب أن تعبد معه هذه الصغار، الرابع ما يروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله بَلْ فَعَلَهُ ثم يبتدىء كَبِيرُهُمْ هذا أي فعله من فعله. الخامس عن بعضهم أنه يقف عند قوله كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ وأراد بالكبير نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم. السادس أن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير «بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم». فيكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطا
31
بكونهم ناطقين، فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين، السابع قراءة محمد بن السميفع فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ بالتشديد أي فلعل الفاعل كَبِيرُهُمْ وفيه تعسف. وأما قول إبراهيم عليه السلام إِنِّي سَقِيمٌ فلعله كان به سقم قليل وسوف يجيء تمام البحث فيه.
وأما قوله لسارة «إنها أختي» فالمراد أنها أخته في الدين فلم يكن وقتئذ على وجه الأرض مسلم سواهما فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ حين نبههم على قبح طريقتهم فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ لأنكم تعبدون من لا يستحق العبادة. وقال مقاتل: معناه فلاموا أنفسهم فقالوا:
إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير.
وقيل: أنتم الظالمون لأنفسكم إذ سألتم منه ذلك حتى أخذ يستهزىء بكم في الجواب.
يقال: نكسته أي قلبته فجعلت أسفله أعلاه، وانتكس انقلب، وانتكاس الإنسان هو أن يكون رأسه من تحت فلهذا قال ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ والمراد أنهم استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤا بالفكرة الصالحة، ثم انقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة قائلين لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ وفيه أنهم رضوا بإلهيتها مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق.
وقال ابن جرير: المعنى نكست حجتهم فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم وبيان انتكاس الحجة قولهم لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فإن هذه حجة عليهم لا لهم. وقيل:
المراد بانتكاس رؤوسهم إطراقهم خجلا وانكسارا. ثم زاد إبراهيم في توبيخهم قائلا أَفَتَعْبُدُونَ الآية وقد مر في سورة سبحان أن «أف» صوت يدل على التضجر، واللام لبيان المتأفف به، أي لكم ولآلهتكم هذا التأفف وذلك أنه أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم. قالُوا حَرِّقُوهُ المشهور أن الذي أشار بتحريقه هو نمرود بن كنعان ابن سنجاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح. وقال مجاهد: سمعت ابن عمر يقول:
إنه رجل من أعراب العجم يريد الأكراد. وعن ابن جريج عن وهب أن الذي قال هذا القول قد خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
روى مقاتل أن نمرود وقومه أجمعوا على إحراقه فحبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى وهي من قرى الأنباط وذلك قوله ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات: ٩٧] ثم جمعوا له الحطب الكثير أربعين يوما حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: إن عافاني الله لأجمعن حطبا لإبراهيم. فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الهواء لاحترق ثم أخذوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فضجت السماء والأرض ومن فيهما من الملائكة إلا الثقلين ضجة واحدة: أي ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم وإنه يحرق فيك، فأذن لنا في نصرته، فقال سبحانه: إن استغاث بأحد
32
منكم فأغيثوه وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه. فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن الرياح وقال: إن شئت طيرت النار في الهواء فقال إبراهيم: لا حاجة لي إليك. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل.
وروي أنه قال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك. ثم أتاه جبرائيل في الهواء فقال: يا إبراهيم هل لك من حاجة؟ قال: أما إليك فلا. قال: فسل ربك. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي: فأرسل الله ملائكة أخذوا بضبعيه وأقعدوه في الأرض، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار منه إلا وثاقه. وأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة وقال: يا إبراهيم إن ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبائي. قال المنهال بن عمرو: أخبرت أن إبراهيم مكث في النار أربعين يوما أو خمسين. وقال: ما كنت أياما أطيب عيشا مني إذ كنت فيها قلت: وذلك لاستغراقه في بحر الفيوض والآثار الربانية ولو لم يكن فيه إلا القرب من لطف خليله والبعد من قهر عدوه لكفى. ثم نظر نمرود من صرح له مشرف على إبراهيم فرآه جالسا في روضة ومعه جليس له من الملائكة والحطب يحترق حواليه فناداه يا إبراهيم: هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم. فقام يمشي حتى خرج.
فقال نمرود: إني مقرب إلى ربك قربانا فذبح أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم، وكان إبراهيم عليه السلام إذ ذاك ابن ست عشرة سنة.
قال العلماء: اختاروا العقاب بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه ولهذا
جاء في الحديث «لا يعذب في النار إلا خالقها» «١»
ومن ثم قالوا وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا قويا فاختاروا له أشد العقاب وهو الإحراق وإلا كنتم مقصرين في نصرتها قُلْنا عن السدي أن القائل هو جبرائيل عليه السلام والأكثرون على أنه سبحانه. وذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أنه لا قول هناك بل أراد به الجعل لأن النار جماد فلا فائدة في خطابه. ويمكن أن يجاب بأن الله قادر على أن يخلق لها فهما يصح به التخاطب، ولو سلم فلعل في ذلك الخطاب مصلحة للملائكة. والظاهر أن قوله يا نارُ خطاب لتلك النار المخصوصة فإن الغرض يتعلق ببردها فقط وفي النار منافع للخلائق، فلا يحسن من الكريم إبطالها. وقيل: المذكور اسم الماهية فلا بد من حصول البرد في تلك الماهية أينما وجدت، ويناسبه رواية مجاهد عن ابن
(١) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب ١٦٤. الدارمي في كتاب السير باب ٢٣. بلفظ «لا ينبغي أن يعذب بالنار إلّا رب النار».
33
عباس أنه لم يبق يومئذ في الدنيا ونار إلا طفئت. واختلفوا في أن النار كيف بردت؟ فقيل:
إنه تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق والله على كل شيء قدير. وقيل: خلق في جسد إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار كما يفعل بخزنة جهنم، وكذلك في النعامة لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة، والسمندل ولا يؤذيه المقام في النار. وقيل: جعل بينه وبين النار حائلا منع من وصول أثر النار إليه. والمحققون على القول الأول لأن النص دل ظاهره على أن نفس النار صارت باردة، وليست الحرارة جزءا من مسمى النار حتى يمتنع كونها نارا وهي باردة، وأما على القولين الآخرين فيلزم أن لا يحصل البرد فيها وهو خلاف النص قوله وَسَلاماً أي ذات برد وسلام فبولغ في ذلك حتى كأن ذاتها برد وسلام. والمعنى ابردي حتى يسلم منك إبراهيم، أو ابردي بردا غير ضار ويناسبه ما روي عن ابن عباس لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. وقوله عَلى إِبْراهِيمَ حال من فاعل الكون أو متعلق بالبرد والسلام، ولولا هذا القيد لكانت النار بردا على كافة الخلق، قوله فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ وفي الصافات فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ [الآية: ٩٨] لأن في هذه السورة كادهم إبراهيم لقوله لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ وكادوه لقوله وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فغلبهم إبراهيم لأنه كسر أصنامهم وسلم من نارهم فكانوا هم الأخسرين. وفي الصافات قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات: ٩٧] فأججوا نارا عظيمة وبنوا بناء عاليا ورفعوه إليه ورموا به إلى أسفل فرفعه الله وجعلهم في الدنيا من السافلين وفي العقبى في السافلين.
ويروى أنهم بنوا لإبراهيم بنيانا وألقوه فيه، ثم أوقد عليه النار سبعة أيام ثم أطبقوا عليه، ثم فتحوا عنه فإذا هو غير محترق يعرق عرقا. فقال لهم حارث أبو لوط: إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله، فجعلوه فوق بئر وأوقدوا تحته فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته فآمن له لوط كما يجيء في العنكبوت، وهاجر إلى أرض الشام
فذلك قوله وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها أي بالخصب وسعة الأرزاق أو بالمنافع الدينية لأن أكثر الأنبياء بعثوا فيها.
وقيل: ما من ماء أرض عذب إلا وينبع أصله من تحت صخرة بيت المقدس.
يروى أنه نزل بفلسطين ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة.
وقيل: الأرض مكة وَوَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً هي ولد الولد وهي حال من يعقوب فقط، وقيل: النافلة العطية الزائدة ومنه الصلاة النافلة. ونوفل للرجل الكثير العطاء، وعلى هذا احتمل أن يكون حالا من يعقوب فقط أي سأل إسحق فأعطيه وأعطى يعقوب زيادة وفضلا من غير سؤال.
34
واحتمل أن يكون حالا من كليهما أي وهبناهما له عطية منا، والأول قول مجاهد وعطاء، والثاني وهو أن النافلة العطية قول ابن عباس وأبي بن كعب وقتادة والفراء والزجاج وَكُلًّا من إبراهيم وإسحق ويعقوب جَعَلْنا صالِحِينَ قال الضحاك: أي مرسلين وقال غيره:
عالمين عاملين. وفي قوله جَعَلْنا صالِحِينَ وكذا قوله وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً دلالة الأشاعرة على أن الصلاح بجعل الله وكذا الإمامة وغيرها من الأفعال أجاب الجبائي بأنه أراد تسميتهم بذلك ومدحهم وأنه حكم به لهم كما يقال: إن الحاكم عدل فلانا وجرحه إذا حكم بالعدالة والجرح، وضعف بأنه خلاف الظاهر. وقوله يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي يدعون الناس إلى دين الله بأمرنا وإرادتنا. قال أهل السنة: فيه أن الدعوة إلى الحق والمنع من الباطل لا يجوز إلا بأمر الله تعالى. وقالت المعتزلة: فيه أن من صلح لأن يقتدى به في الدين فالهداية واجبة عليه ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها. ولا خلاف في أن الهادي إذا كان مهتديا بنفسه كان الانتفاع بهداه أعم والنفوس إلى الاقتداء به أميل فلذلك قال وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ أي أن يفعلوها لأن المراد هو إيحاء أن يحدثوا الخيرات من أنفسهم ونفس الفعل الخير لا يمكن إيحاؤه فرد إلى فعل الخيرات تخفيفا، فإن المقصود معلوم، ثم أضيف المصدر إلى المفعول لإفادة تخفيف آخر في اللفظ وكذلك إِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ أي أوحينا إليهم أن يقيموا ويؤتوا، قال الزجاج: حذف الهاء من إقامة لأن المضاف إليه عوض منها. وقال غيره: الإقام والإقامة مصدران. ولا ريب أن تخصيص هاتين الخصلتين بالذكر دليل على شرفهما والأولى أصل التعظيم لأمر الله، والثانية أصل الشفقة على خلق الله. وَكانُوا لَنا عابِدِينَ فيه أنه سبحانه لما وفى بعهد الربوبية فآتاهم النبوّة والدرجات العالية فهم أيضا وفوا بعهد العبودية فلم يغفلوا عنها طرفة عين.
قوله وَلُوطاً عن الزجاج أنه معطوف على أَوْحَيْنا وعن أبي مسلم أنه معطوف على قوله وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ والحكم الحكمة، وقيل الفصل بين الخصوم، وقيل النبوة والقرية سذوم والمراد أهلها وخبائثهم مشهورة قد عددت في «الأعراف» وفي «هود».
وقَوْمَ سَوْءٍ نقيض رجل صدق وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أي أهل رحمتنا أو في الجنة والثواب. عن ابن عباس والضحاك. وقال مقاتل: هي النبوة أي أنه لما كان من الصالحين آتيناه النبوة كي يقوم بحقها. وقال أهل التحقيق: حين آتاه الحكم والعلم وتخلص من جلساء السوء فتحت عليه أبواب المكاشفات وتجلت له أنوار الذات والصفات وإنها هي الرحمة في الحقيقة. قوله وَنُوحاً وكذا نظائره معطوف على قوله وَلَقَدْ آتَيْنا أو المراد واذكر نوحا. وإِذْ نادى بدل منه أي اذكر وقت ندائه مِنْ قَبْلُ هؤلاء المذكورين والنداء
35
هو دعاؤه على قومه بنحو قوله رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: ١٠]. وقوله رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: ٢٦] بدليل قوله فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أي أهل دينه وهم من معه في الفلك مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وهو الطوفان وما كان فيه من تكذيب قومه وإيذائهم. وفي لفظ الكرب وهو الغم الذي يأخذ بالنفس، ثم وصفه بالعظم إشعار بأنه عليه السلام لقي من قومه أذى شديدا لا يكتنه كنهه. ثم زاده بيانا بقوله وَنَصَرْناهُ الآية. تقول: نصرته منه فانتصر إذا جعلته منتصرا منه أي منتقما. وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي شأن الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ ظرف ل يَحْكُمانِ وهو حكاية حال ماضية. قال ابن السكيت. النفش بالتحريك أن ينتشر الغنم بالليل من غير راع وعليه جمهور المفسرين. وعن الحسن: إنه يكون ليلا ونهارا. وليس في قوله وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ دلالة على أن أقل الجمع اثنان لاحتمال أنه أرادهما والمتحاكمين إليهما. والضمير في فَفَهَّمْناها للحكومة أو الفتوى.
ويروى أنه دخل رجلان على داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث. أي زرع. وقيل كرم- والآخر صاحب غنم. فقال صاحب الحرث: إن غنم هذا دخلت حرثي وأكلت منه شيئا. فقال داود: اذهب فإن الغنم لك. فخرجا فمرا على سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه. فقال: لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا. فأخبر بذلك أبوه فدعاه وقال: كيف كنت تقضي بينهما؟ قال:
أدفع الغنم إلى صاحب الحرث فتكون له منافعها من الدر والنسل والوبر حتى إذا عاد الحرث من العام القابل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم إلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه.
قال أبو بكر الأصم: الحكمان واحد لأن الثاني بيان للأول. والمشهور عن الصحابة ومن بعدهم أنهما متغايران لقوله وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ ولقوله: فَفَهَّمْناها والفاء للتعقيب فدل على أنه فهم حكما خلاف الأول. وعلى تقدير الاختلاف فهما بالوحي أو بالاجتهاد، فيه خلاف بين العلماء، فمنهم من لم يجوز الاجتهاد على الأنبياء أصلا كالجبائي لقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: ٣] إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [الأنعام: ٥٠] ولأن النبي قادر على تحصيل حكم الواقعة بالنص، ولأن مقتضى الاجتهاد مظنون وخلاف المظنون لا يوجب الكفر وخلاف الرسول يوجب الكفر، ولما ثبت أن النبي ﷺ كان يتوقف في بعض الأحكام انتظارا للوحي ولو جاز له الاجتهاد لم يتوقف، ولأنه لو جاز على النبي لجاز على جبرائيل أيضا وحينئذ يرتفع الأمان عن الوحي فلعل هذه الشرائع من مجتهدات جبرائيل. وأجيب بأنه إذا أوحي إليه جواز الاجتهاد له صح قوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: ٣- ٤] وبأن الحكم الحاصل عن الاجتهاد مقطوع لا مظنون لأنه تعالى إذا قال له
36
مهما غلب على ظنك كون الحكم في الأصل معللا بكذا ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فهذا الحكم مقطوع به والظن واقع في طريقه. سلمنا جواز المخالفة لكنه مشروط بصدوره عن غير معصوم، ولهذا لو اجتمعت الأمة على مسألة اجتهادية امتنع خلافهم. وكان الرسول أوكد، وبأن التوقف لعله وجد منه حين لم يظهر له وجه الاجتهاد وبأن الأمة أجمعوا على عدم جواز اجتهاد جبرائيل. ومما يدل على جواز الاجتهاد لنا أنه إذا غلب على ظن المجتهد أحد الطرفين فإن عمل بهما كان جمعا بين النقيضين، وان أهملهما لزم ارتفاع النقيضين، وإن عمل بالمرجوح دون الراجح فذلك باطل بالاتفاق فلم يبق إلا العمل بالراجح. قال الجبائي: ولئن سلمنا أن الاجتهاد على الأنبياء جائز لكن هذه المسألة غير اجتهادية لأن الذي أتلفه صاحب الماشية مجهول المقدار، فكيف يجعل الغنم في مقابلة ذلك؟ وأيضا إن اجتهاد داود إن كان صوابا فالاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وإن كان خطأ فكيف لم يذكر الله توبته بل مدحه بقوله وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وأيضا لو حكم بالاجتهاد لم يسم ذلك علما، وأيضا قوله فَفَهَّمْناها يدل على أنه من الله لا من سليمان. وأجيب بأن الجهالة بعد تسليمها قد تكون معفوا عنها كما في حكم المصراة، ولعل الخطأ في اجتهاده كان من الصغائر فلهذا أهمل ذكره والاجتهاد من باب العلوم والظن في الطريق كما مر، والذي يحصل في نظر المجتهد مستند إلى الله. أما الذين منعوا من الاجتهاد مطلقا أو في هذه المسألة، فذهبوا إلى أن حكومة داود نسخت بحكومة سليمان، ولا استبعاد في أن يوحي الناسخ إلى غير من أوحى إليه المنسوخ. قال الفقهاء:
مثال حكومة داود في شرعنا قول أبي حنيفة في العبد إذا جنى على النفس خطأ يدفعه المولى بذلك أو يفديه، وعند الشافعي يبيعه في ذلك ويفديه، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث. ومثال حكومة سليمان قول الشافعي فمن غصب عبدا فأبق من يده فإنه يضمن القيمة فينتفع به المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد، فإذا ظهر العبد يرد ويقال له ضمان الحيلولة. هذا ولو وقعت هذه القضية في شرعنا فلا ضمان عند أبي حنيفة وأصحابه لا بالليل ولا بالنهار، لأن جرح العجماء جبار. إلا أن يكون معها راع.
والشافعي يوجب الضمان بالليل دون النهار لأن الليل وقت الهدوء وجمع الماشية، فتسريحها تقصير من صاحبها بخلاف النهار.
وعن البراء بن عازب أنه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدته، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، لأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل.
قال بعض الأصوليين: كل مجتهد مصيب لقوله وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وقال
37
بعضهم: المصيب واحد لقوله فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ولو كان كلاهما مصيبا لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم فائدة. وضعف بعضهم كلا الاستدلالين بعد تسليمهما بأن ما ثبت في شرعهم لا يلزم أن يكون ثابتا في شرعنا.
ولما مدح داود على سبيل الاشتراك ذكر ما يختص بكل منهما فبدأ بداود قائلا:
وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ أي حال كونهن مسبحات أو هو استئناف كأنه قيل:
كيف سخرهن؟ فقال: يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وهو معطوف على الجبال أو مفعول معه، وتسبيح الجبال إما حقيقة أو مجاز وعلى الأول قال مقاتل: كان إذا سبح داود سبح الجبال والطير معه. وقال الكلبي: إذا سبح داود أجابته الجبال. وقال سليمان بن حيان: كان داود إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطا واشتياقا. وعلى الثاني قيل: كانت الجبال تسير معه حيث سار فكل من رآها كان يسبح الله تعالى، فلما حملت على التسبيح وصفت به وهذا القول اختيار كثير من أصحاب المعاني والمعتزلة، لأن الجماد غير قابل للحياة والفهم عندهم، ولأن المتكلم هو الذي يفعل الكلام لا الذي يكون محلا للكلام، ولهذا يقال: إن المتكلم هو الله حين كلم موسى لا الشجرة. وإنما قدم تسبيح الجبال على الطير لأن ذلك أدل على القدرة وأدخل في الإعجاز، فإن الطير أقرب إلى الحيوان الناطق من الجماد ولا يلزم من نطق الطير أو الجبل أن يكونا مكلفين فليس كل ناطق مكلفا كالأطفال والمجانين. وَكُنَّا فاعِلِينَ أي قادرين على أن نفعل أمثال هذه الخوارق على أيدي الأنبياء لأجلهم وإن كانت عجيبة عندكم. واللبوس اللباس يقال: البس لكل حالة لبوسها والمراد الدرع. عن قتادة أنها كانت صفائح فسردها وحلقها داود فجمعت الخفة والتحصين وتوارث الناس منه وعمت النعمة بها لكل المحاربين فلذلك قال فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ قال علماء المعاني: هذا التركيب أدخل في الإنباء عن طلب الشكر من قولنا «فهل أنتم تشكرون» إذ المختار فيه أن يقدر مفسر محذوف أي هل تشكرون تشكرون. ومن قولنا «أفأنتم شاكرون» لأنه وإن كان ينبىء عن عدم التجدد لمكان الجملة الاسمية إلا أنه دون المذكور في القرآن فإن «هل» أدعى للفعل من الهمزة، فترك الفعل معه يكون أدخل في الإنباء عن استدعاء المقام عدم التجدد لأن تخلف المعلول عن العلة القوية يدل على وجود مانع أقوى منه إذا تخلف عن العلة الضعيفة.
ثم حكى ما أنعم به على سليمان فقال وَلِسُلَيْمانَ أي وسخرنا له الرِّيحَ حال كونها عاصِفَةً ولا ينافي هذا قوله في فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ [ص: ٣٦] لأن المراد أنها مع كونها في نفسها رخية طيبة كالنسيم كانت في عملها
38
عاصفة تحمل كرسيه من إصطخر إلى الشام، أو أنها كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفا لهبوبها على حسب إرادته وأمره. وفي قوله وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ إشارة أنه فعل كل ما فعل بالأنبياء المذكورين عن حكمة بالغة وتدبير محكم وإحاطة بأحوالهم وعلم باستئهالهم.
قوله وَمِنَ الشَّياطِينِ أي سخرنا من الشياطين مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ ويجوز أن يكون الكلام خبر أو مبتدأ و «من» موصولة أو موصوفة. كانوا يغوصون لأجله في البحار فيستخرجون الجواهر وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي متجاوزا ما ذكر من بناء المدائن والقصور وسائر الصنائع العجيبة. قالت العلماء: الظاهر أن التسخير لكفارهم دون المؤمنين منهم لإطلاق الشياطين ولقوله: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أي من أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يوجد منهم فساد في الجملة إذ كان من دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوا بالنهار. والحفظ إما بسبب الملائكة أو مؤمني الجن الموكلين بهم، أو بأن حبب إليهم طاعته وخوفهم مخالفته. قال ابن عباس في تفسيره: يريد أن سلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء. قال الجبائي: كيف تتهيأ منهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة وإنما تمكنهم الوسوسة فقط، فلعل الله تعالى كثف أجسامهم خاصة وقواهم على تلك الأعمال الشاقة وزاد في عظمهم معجزة لسليمان فلما مات سليمان ردهم إلى الخلقة الأولى. إذ لو أبقاهم على الخلقة الثانية لكان شبهة على الناس، فلعل بعض الناس يدعي النبوة ويجعله دلالة عليها. واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه بأنك لم قلت: إن الجن أجسام فلعلهم من الموجودات التي ليست متحيزة ولا حالة في المتحيز. ولا يلزم منه الاشتراك مع الباري فإن الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في الملزومات فضلا عن اللوازم السلبية. سلمنا أن الجن أجسام لكن لم قلت: إن البنية شرط للقدرة وليس في يدكم إلا الاستقراء الضعيف؟ سلمنا أنه لا بد من تكثيف أجسامهم فمن أين يلزم ردهم إلى الخلقة الأولى؟ فإن قال: لئلا يفضي إلى التلبيس. قلنا: إذا ثبت أن ذلك كان معجزة لنبي قبله لم يتمكن المتنبي من الاستدلال ومن عجيب قدرة الله سبحانه أن أصلب الأجسام في هذا العالم الحجارة والحديد، وقد سخرهما الله تعالى لداود فأنطق الحجر ولين الحديد، وفي ذلك دلالة باهرة على أنه تعالى قادر على إحياء العظام الرميمة. ومن الغرائب أن الشياطين مخلوقة من النار وكان يأمرهم بالغوص في الماء، وفيه إظهار الضد بالضد فتبارك الله رب العالمين.
ومن عجائب القصص والأخبار حكاية أيوب عليه السلام وصبره على بلائه حتى صار مثلا.
عن وهب بن منبه أنه كان من الروم من ولد عيص بن إسحاق وكانت أمه من ولد لوط اصطفاه الله وجعله نبيا، ومع ذلك بسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله وكان له سبعة بنين وسبع
39
بنات وله أصناف المواشي وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ونخيل. وكان إبليس لا يحجب عن السموات حين أخرجه الله من الجنة حتى رفع عيسى عليه السلام فحجب عن أربع حتى إذا ولد نبينا ﷺ حجب عن جميع السموات إلا من استرق السمع. قال: فسمع إبليس تحاور الملائكة في شأن أيوب فأدركه الحسد فقال: يا رب إنك أنعمت على عبدك أيوب فشكرك وعافيته فحمدك ثم لم تجرّبه بشدة ولا بلاء، وأنا زعيم إن ضربته بالبلاء ليكفرن بك. فقال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ماله. فجمع إبليس عفاريت الجن وقال لهم: ماذا عندكم من القوة فإني سلطت على مال أيوب. فقال عفريت أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من النار فأحرقت كل شيء فقال إبليس: فأت الإبل ورعاتها. فذهب ولم يشعر الناس حتى ظهر من تحت الأرض، إعصار لا يدنو منها شيء إلا احترق، فلم يزل يحرقها ورعاتها حتى أتى على آخرها. فذهب إبليس على شكل أولئك الرعاء إلى أيوب فوجده قائما يصلي، فلما فرغ من الصلاة قال: يا أيوب هل تدري ما الذي صنع ربك؟ وأخبره بحال الإبل ورعاتها. فقال أيوب: إنها ماله إذا شاء نزعه. فقال إبليس: إن الناس منهم من يقول ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور، ومنهم من يقول: لو كان إلهه يقدر على شيء لمنع من وليه. ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به أعداءه ويفجع به أصدقاءه فقال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني، خرجت من بطن أمي عريانا وأضجع في التراب عريانا وأحشر إلى الله عريانا، ولو علم الله عريانا، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيدا وأوجر فيك. فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئا فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت روحه. فقال إبليس: فأت الغنم ورعاءها فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاؤها، فخرج إبليس متمثلا بقهرمان الرعاة إلى أيوب فقال له القول الأول، ورد عليه أيوب الرد الأول، فرجع إبليس صاغرا فقال له عفريت آخر: عندي من القوة إذا شئت تحولت رياحا عاصفة أقلع كل شيء أتيت عليه قال: فاذهب إلى الحرث والثيران، فأتاهم فأهلكهم وأخبر إبليس به أيوب فرد عليه مثل الرد الأوّل، فجعل إبليس يصيب أمواله شيئا فشيئا حتى أتى على جميعها. فلما رأى إبليس صبره على ذلك صعد إلى السماء وقال: يا إلهي هل أنت مسلطي على ولده فإنها الفتنة الكاملة. فقال الله: انطلق فقد سلطتك، فأتى أولاد أيوب في قصرهم فقلب القصر عليهم ثم جاء إلى أيوب متمثلا بالمعلم وهو جريح مشدوخ الرأس يسيل دمه ودماغه فقال: لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل جميع أدمغتهم من أنوفهم لتقطع قلبك! فلم يزل يقول هذا ويرققه حتى رق أيوب وبكى وقبض قبضة من التراب فحثاها على رأسه، فاغتنم ذلك
40
إبليس. ثم لم يلبث أيوب حتى استغفر واسترجع فصعد إبليس ووقف موقفه وقال: إلهي إنما هون أيوب خطب المال والولد لعلمه أنك تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده وإني لك زعيم لو ابتليته في جسده ليكفرن بك. فقال تعالى: انطلق فقد سلطتك على جسده وليس لك سلطان على عقله وقلبه ولسانه. فأتاه فنفخ في منخره حين هو ساجد فاشتعل منه جسده وخرج من فرقه إلى قدمه ثآليل، وقد وقعت فيه حكة لا يملكها فكان يحك بأظفاره حتى كشطت أظفاره، ثم حكها بالمسوح الخشنة ثم حكها بالفخار والحجارة، ولم يزل يحكها حتى تقطع لحمه وتغير وأنتن فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشا، ورفضه الناس كلهم غير امرأته رحمة بنت إفرايم بن يوسف عليه السلام فكانت تصلح أموره. ثم إن وهبا طول في الحكاية إلى أن قال: إن أيوب عليه السلام أقبل على الله تعالى مستغيثا متضرعا إليه قائلا: يا رب لأي شيء خلقتني يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي، يا ليتني كنت
عرفت الذي أذنبته والعمل الذي عملت حتى صرفت وجهك الكريم عني. ألم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليا وللأرملة قيما. إلهي أنا عبد ذليل فإن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي. جعلتني للبلاء غرضا وسلطت عليّ ما لو سلطته على جبل لضعف عن حمله. إلهي تقطعت أصابعي وسقطت لهواتي وتناثر شعري وذهب المال وصرت أسأل اللقمة فيطعمني من يمن بها عليّ ويعيرني بفقري وهلاك أولادي.
قال الإمام أبو القاسم الأنصاري في جملة هذا الكلام: ليتك لو كرهتني لم تخلقني. ثم قال: ولو كان ذلك صحيحا لاغتنمه إبليس فإن قصده أن يحمله على الشكوى وأن يخرجه من زمرة الصابرين.
قلت: إن غرض إبليس لا يحصل بمجرد الشكوى وإنما كان غرضه أن يرتد أيوب عليه السلام ولهذا قال سفيان بن عيينة: من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد ذلك جزعا إذا كان في شكواه راضيا بقضاء الله تعالى إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء. ألم تسمع قول يعقوب عليه السلام: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
[يوسف: ٨٦].
ومما حكاه الله سبحانه من شكوى أيوب قوله أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ الضر بالفتح الضرر في كل شيء، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال.
قال جار الله: ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة عليه وذكر ربه بما يجب أن يصدر دعاء الرحمة عنه ولم يصرح بالمطلوب، وحسن الطلب باب من أبواب الأدب.
يحكى أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت: يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصا. فقال لها: ألطفت في السؤال لا جرم لأردنها تثب وثبة الفهود وملأ بيتها
41
حبا. وفي قوله: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ رمز إلى أنه جواد مطلق لا يرحم لمنفعة تعود إليه، ولا لمضرة يدفعها عنه، ولا يطلب شيئا، ولا يجلب مدحا وكل رحيم سواه. فأما رحمته لغرض من الأغراض أو لرقة طبع ونحو ذلك على أن تلك الرحمة أيضا تتوقف على داعية يخلقها الله فيه، والآفات والآلام التي تراها في هذا العالم كلها مستندة إلى صفة قهره التي لا بد لكل ملك منه أو مستتبعة لمصالح وغايات لا يعلمها إلا هو، وإنها ضرورية في الوجود لاشتمالها على خيرات أكثر من الشرور. واختلف العلماء في السبب الذي لأجله دعا الله أيوب
فعن أنس أن رسول الله ﷺ قال: إن أيوب عليه السلام بقي في البلاء ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان فدخلا عليه ذات يوم فوجدا ريحا فقالا: لو كان أيوب عند الله خير ما بلغ إلى هذه الحالة. قال: فما شق على أيوب شيء مما ابتلي به مثل ما سمع منهما. فقال: اللهم إن كنت تعلم إني لم أبت شبعان وأنا أعلم بمكان جائع فصدق وهما يسمعان ثم خر أيوب ساجدا. وقال: اللهم إني لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي فكشف الله ما به.
وقال الحسن: مكث أيوب بعد ما ألقي على الكناسة سبع سنين وأشهرا ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته صبرت معه وكانت تأتيه بالطعام. وكان أيوب مواظبا على حمد الله والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه فصرخ إبليس صرخة جزعا من صبر أيوب فاجتمع جنوده من أقطار الأرض وقالوا له:
ما خبرك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فإنه لا يزيد بالبلاء إلّا صبرا وحمدا لله تعالى. فقالوا له: أين مكرك أين عملك الذي أهلكت به من مضى؟ من أين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال: من قبل امرأته. قالوا: فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها لأنه لا يقربه أحد غيرها. قال: أصبتم.
فانطلق حتى إذا أتى امرأته فتمثل لها في صورة رجل فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت: هو هذا يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده. فظن إبليس أنها جزعت فطمع فيها ووسوس إليها وذكر لها ما كان بها من النعم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه. قال الحسن: فصرخت فلما صرخت علم أن قد جزعت فأتاها بسخلة وقال: لتذبح هذه باسم أيوب ويبرأ. قال:
فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك أين المال وأين الماشية؟ أين الولد؟ أين الصديق؟ أين اللون؟ أين الحسن؟ أين جسمك الذي قد بلى وقد صار مثل الرماد وتتردد فيه الدواب؟ اذبح هذه السخلة واسترح، فقال أيوب: أتاك عدوّ الله ونفخ فيك ويلك من أعطانا الذي تذكرين من المال والولد والصحة؟ قالت: الله. قال: كم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة. قال: فمنذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟ قالت: منذ سبع سنين وأشهر. قال: ويلك ما
42
أنصفت ربك ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة! والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة، أمرتني أن نذبح لغير الله وحرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئا من طعامك وشرابك الذي تأتيني به فطردها. فلما نظر أيوب في شأنه وليس عنده لا طعام ولا شراب ولا صديق وقد ذهبت امرأته خر ساجدا وقال أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فقال: أرفع رأسك فقد استجبت لك ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص: ٤٢] فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دابة. إلا سقطت ثم ضرب رجله مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وقام صحيحا، وعاد إليه شبابه وجماله حتى صار أحسن مما كان حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادا من ذهب فجعل يضمه بيده فأوحي إليه: يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها. قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف. ثم إن امرأته قالت: هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت وتأكله السباع لأرجعن إليه. فلما رجعت ما رأته في تلك الكناسة ولا تلك الحالة فجعلت تطوف وتبكي فدعاها أيوب وقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة. فقال: تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: وهل يخفى على أحد يراه. فتبسم قائلا: أنا هو.
فعرفته بضحكه فاعتنقته ثم قال: إنك أمرتني أن أذبح لإبليس وإني أطعت الله وعصيت الشيطان فعافاني الله ببركة ذلك.
الرواية الثالثة:
قال الضحاك ومقاتل: بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات، فلما غلب أيوب إبليس ذهب إبليس إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس كمراكب الناس وقال لها: أنت صاحبة أيوب؟ قالت: نعم. قال: فهل تعرفيني؟ قالت: لا. قال: أنا إله الأرض، أنا صنعت بأيوب ما صنعت وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك جميع ما لكما من مال وولد فإن ذلك عندي. قال وهب: وسمعت أنه قال: لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسم الله تعالى لعوفي مما فيه من البلاء. وأيضا قال لها: لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال والولد وأعافي زوجك. فرجعت إلى أيوب فأخبرته فقال: أتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم لئن عافاني الله لأجلدنك مائة جلدة وقال عند ذلك مَسَّنِيَ الضُّرُّ
يعني من طمع إبليس في سجودي وسجود زوجتي له.
الرواية الرابعة
قال إسماعيل السدي: إن إبليس تمثل للقوم في صورة بشر وقال:
تركتم أيوب في قريتكم أعدى إليكم ما به من العلة، فأخرجوه إلى باب البلد ثم قال لهم:
43
إن امرأته تدخل عليكم وتعمل وتمس زوجها أما تخافون أن تعدي إليكم علته، فحينئذ لم يستعملها أحد فتحيرت وكان لها ثلاث ذوائب فعمدت إلى إحداها وقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزا ولحما فقال أيوب: من أين هذا؟ قالت: كل فإنه حلال. فلما كان من الغد لم تجد شيئا فباعت الثانية، وكذلك فعلت في اليوم الثالث وقالت: كل فإنه حلال. فقال: لا آكل أو تخبريني فأخبرته فبلغ ذلك من أيوب ما الله به عليم فقال: رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ.
والرواية الخامسة قيل: سقطت دودة من فخذه فرفعها وردها إلى موضعها وقال: قد جعلني الله طعمة لك فعضته عضة شديدة فقال: مَسَّنِيَ الضُّرُّ فأوحى الله إليه: لولا أني جعلت في كل شعرة منك صبرا لما صبرت. واعلم أن مس الضر هاهنا مطلق إلا أنه ورد في «ص» مقيدا وذلك قوله أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ [ص: ٤١] فصح أن يكون سندا لهذه الروايات إلا أن الجبائي طعن فيها بأن الشيطان كيف يقدر على إحداث الأمراض والأسقام والقادر على ذلك قادر على خلق الأجسام وحينئذ يكون إلها. وأيضا إن هذه التأثيرات تنافي قوله سبحانه حكاية عنه وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ [إبراهيم: ٢٢] والجواب أنه كان بإذن من الله كما حكينا فلا محذور ولا تنافي. وقال: ومن البعيد أنه لم يسأل الله إلا عند أمور مخصوصة والجواب أن الأمور مرهونة بأوقاتها. وقال:
انتهاء أمراض الأنبياء إلى حد التنفير من القبول غير جائز. والجواب المنع ولا سيما بشرط العافية في العاقبة. قوله سبحانه فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ مجمل يقتضي إعادته إلى ما كان في بدنه وأحواله. وقوله: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ تفصيل لذلك المجمل وفيه قولان:
الأول قال ابن عباس وابن مسعود وقتادة ومقاتل والكلبي: إن الله تعالى أحيا له أهله يعني أولاده بأعيانهم. والثاني قال الليث: أرسل مجاهد إلى عكرمة وسئل عن الآية فقال: أراد أهلك لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا. فقد روي أن زوجته ولدت بعد ذلك ستة وعشرين ابنا له. ثم بين الحكمة في ذلك الابتلاء ثم الاستجابة بقوله رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا لأيوب وَذِكْرى لغيره من العابدين للرحمن أو الرحمة والذكرى كلاهما لِلْعابِدِينَ لكي يتفكروا فيصبروا كما صبر حتى يتابوا في الدارين كما أثيب. وإنما خص الرحمة والتذكرة بالعابدين لأنهم هم المنتفعون بذلك لا الذين يعبدون الهوى والشيطان. قال أهل البرهان:
إنما قال في هذه السورة رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وقال في «ص» رَحْمَةً مِنَّا [ص: ٤٣] لأنه بالغ هاهنا في الدعاء بزيادة قوله: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فبالغ في الاستجابة لأن لفظ «عند» يدل على مزيد التخصيص وأنه سبحانه تولى ذلك من غير واسطة.
وحين ذكر صبر أيوب وانقطاعه إليه ذكر غيره من الأنبياء المشهورين بالصبر منهم
44
إسماعيل عليه السلام، صبر على الانقياد للذبح وعلى الإقامة بواد لا زرع فيه ولا ضرع، وصبر على بناء البيت ورفع قواعده، فلا جرم أخرج الله ببركة ذلك من صلبه خاتم النبيين، ومنهم إدريس وقد مر ذكره في سورة مريم. قال ابن عمر: بعث إلى قومه داعيا لهم إلى الله فأبوا فأهلكهم الله ورفع إدريس إلى السماء. ومنهم ذو الكفل قيل: هو زكريا وعلى هذا فقد تقدمت قصته أيضا. وفي هذا القول نظر، لأن قصة زكريا تجيء عن عقيب فيلزم التكرار.
وقيل: هو إلياس وكان خمسة من الأنبياء ذوي اسمين: إسرائيل ويعقوب، وإلياس وذو الكفل، وعيسى والمسيح، ويونس وذو النون، ومحمد وأحمد. وقيل: يوشع بن نون سمي بذلك لأنه ذو الحظ من الله دينا ودنيا، أو لأنه كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم. وقال أبو موسى الاشعري ومجاهد: إنه لم يكن نبيا ولكن كان عبدا صالحا، وقال الحسن والأكثرون: إنه من الأنبياء وهذا أقرب لأنه معطوف عليهم معدود فيما بينهم.
يروى عن ابن عباس أن اليسع أو نبيا آخر في بني إسرائيل قربت وفاته فأراد أن يستخلف رجلا على الناس فقال: من يقبل مني خلافتي على أن يصلي بالليل ويصوم بالنهار ويقضي بين الناس فلا يغضب؟ فقام رجل وقال: أنا أتكفل لك هذه الثلاثة فدفع إليه ملكه ووفى بما ضمن، فحسده إبليس فأتاه وقت القيلولة فقال: إن لي غريما قد ظلمني حقي وقد دعوته إليك فأبى فأرسل معي من يأتيك به، فأرسل معه وقعد حتى فاتته القيلولة وعاد إلى صلاته وصلى ليله إلى الصباح، ثم أتاه من الغد وقال مثل ذلك حتى شغله عن القيلولة وهكذا في اليوم الثالث. وقيل: إنه في اليوم الثالث قال للبواب: قد غلب عليّ النعاس فجاء إبليس فلم يأذن له البواب فدخل من كوة البيت ودق الباب من داخل، فاستيقظ الرجل وعاتب البواب فقال:
أما من قبلي فلم تؤت فقام إلى الباب، فإذا هو مغلق وإبليس على صورة شيخ في البيت فقال له: أتنام والخصوم على الباب فعرفه وقال: إبليس؟ قال: نعم. أعييتني في كل شيء فعلت هذه الأفعال لأغضبك فعصمك الله مني فسمي ذا الكفل لأنه قد وفى بالكفالة.
ولا خلاف أن ذا النون هو يونس لأن النون هو السمكة والاسم إذا دار بين أن يكون لقبا محضا وبين أن يكون مقيدا فحمله على المقيد أولى. واختلفوا في أن وقوعه في بطن الحوت كان قبل اشتغاله بأداء الرسالة أو بعد.
أما القول الأوّل
فعن ابن عباس أن يونس وقومه كانوا من فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفا وبقي سبطان ونصف، فأوحى الله تعالى إلى شعيب عليه السلام أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له حتى يوجه نبيا قويا فإني ألقي في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فقال له الملك: من ترى وكان في مملكته خمسة من الأنبياء؟ فقال:
45
يونس بن متى. فإنه قويّ أمين. فدعاه الملك وأمره أن يخرج فقال له يونس: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا. قال: فههنا أنبياء غيري فألحوا عليه فخرج مغاضبا للملك ولقومه فأتى بحر الروم فوجد قوما هناك وسفينة فركب معهم فاضطربت السفينة حتى كادوا أن يغرقوا فقال الملاحون: هاهنا رجل عاص أو عبد آبق لأن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح، إلا وفيها رجل عاص، ومن عادتنا في مثل هذا البلاء أن نقترع فمن خرجت له القرعة ألقيناه في البحر حتى تسلم السفينة. فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة كلها على يونس. فقال: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق وألقى نفسه في البحر فابتلعه حوت، فأوحى الله تعالى إلى الحوت لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنا له ولم أجعله طعاما لك. ثم نجاه الله من بطن الحوت فنبذه بالعراء كالفرخ المنتوف ليس عليه شعر ولا جلد، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرتها حتى اشتد، فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس فقيل له: أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب سلامتهم؟. فتوجه يونس نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فقال لملكهم: إن الله أرسلني إليك لترسل معي بني إسرائيل. فقالوا: ما نعرف ما تقول ولو علمنا أنك صادق لفعلنا ولقد أتيناكم في دياركم وسبيناكم، فلو كان كما تقول لمنعنا الله منكم. فطاف فيهم ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله إليه قل لهم: إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب. فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه. فقال علماؤهم: اطلبوه فإن كان في المدينة فليس ما ذكره بشيء، وإن كان قد خرج فهو كما قال. فطلبوه فلم يجدوه، فلما أيسوا أغلقوا باب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم وغنمهم وعزلوا الوالدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات، فلما طلع الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها وصاح الصبيان وثغت المواشي فرفع الله عنهم فبعثوا إلى يونس وآمنوا به وبعثوا معه بني إسرائيل.
القول الثاني وعليه أكثر المفسرين: أن قصة الحوت كانت بعد دعائه أهل نينوى وتبليغه رسالة الله إليهم كما مر في سورة يونس. واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه القصة من وجوه: الأوّل أنه ذهب مغاضبا لربه هكذا فسره ابن عباس وابن مسعود والحسن والشعبي وسعيد وابن جبير ووهب واختاره ابن قتيبة ومحمد بن جرير، ومن المعلوم أن مغاضبة الله من أعظم الذنوب. ولئن سلم أنه كان مغاضبا لقومه فذلك أيضا محظور لأنه كان يجب أن يصبر معهم. الثاني قوله فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ وهو شك في قدرة الله. الثالث:
اعترافه بأنه من الظالمين والظلم من صفات الذم. الرابع: إخبار الله تعالى في موضع آخر
46
بقوله فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات: ١٤٢] والمليم ذو الملامة. الخامس: قوله للنبي ﷺ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [القلم: ٤٢] وقال في موضع آخر فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ [الأحقاف: ٣٥] والجواب أنه عليه السلام غضب لأجل ربه أنفة لدينه وبغضا للكفر وأهله، وغاضب قومه بمفارقته كي يخوّفهم حلول العقاب عليهم عندها. فغاية ما في الباب أن تلك المغاضبة ترك الأولى وهو الصبر على مشاق الرسالة بعد أدائها إلى أن يأذن الله له في المهاجرة. وعن الثاني أن معنى. لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ لن نضيق كقوله اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد: ٢٦] وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق: ٧] فهو من القدر لا من القدرة، ويجوز أن يكون من القدر بمعنى القضاء. قال الزجاج: يقال قدر الله الشيء قدرا وقدره تقديرا. والمعنى فظن أن لن نقضي عليه بشدة وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وابن عباس في رواية واختاره الفراء والزجاج. يقال: قدر الله عليه الضراء وقدر له السراء كما يقال: قدر القاضي على فلان أوله. ولئن سلمنا أنه من القدرة فالمراد القدرة بالفعل أي فظن أن لن نعمل فيه قدرتنا، فالقدرة غير وإعمالها غير، فظن انتفاء الأول كفر دون الثاني أو هو وارد على سبيل التمثيل والاستعارة أي كانت حاله ممثلة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر الله، أو هو استفهام بمعنى التوبيخ معناه أفظن أن لن نقدر عليه: عن ابن زيد. سلمنا الكل لكن هذه الواقعة لعلها قبل رسالته كما حكينا ومثل هذا الظن في حق غير الأنبياء لا يبعد بوسوسة الشيطان، ولكن المؤمن يرده بعد ذلك بالبرهان. وعن البواقي أن الكل راجع إلى ترك الأولى ونحن لا ننكر ذلك وكفى بذكر يونس في عدد الأنبياء الصابرين الصالحين دليلا على أنه لم يصدر عنه شيء ينافي عصمته والله تعالى أعلم.
أما قوله فَنادى فِي الظُّلُماتِ فمعنى الجمع راجع إلى شدة الظلمة وتكاثفها أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة: ٢٥٧] وقيل: ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. وقيل: ابتلع حوته حوت أكبر منه فحصل في ظلمتي بطن الحوتين وظلمة البحر. وقيل: إن الحوت إذا عظم غوصه في البحر كان ما فوقه من البحر ظلمة في ظلمة. ومعنى أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أي لا إله إلا أنت أو بأنه لا إله إلا أنت سُبْحانَكَ تنزيه له عن كل النقائص. منها الظن المذكور على أي وجه فرض، ومنها العجز عن تخليصه، ومنها خلو ذلك الفعل عن حكمة كاملة. إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ بالفرار من غير إذن وأنا الآن من التائبين وفيه من حسن الطلب ما فيه فلذلك قال فَاسْتَجَبْنا لَهُ ثم بين الاستجابة بقوله وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ أي من غمه بسبب كونه في
47
بطن الحوت وبسبب خطيئته وَكما أنجينا يونس من كرب الحبس إذ دعانا كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ من كل كرب إذا استغاثوا بنا.
عن النبي ﷺ «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له».
وعن الحسن: ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم. وقد بقي في الآية بحث لفظي وهو أن بعض أهل العربية غلطوا عاصما في قراءته نجي بالتشديد والنون لا تدغم في الجيم. واستخرج بعضهم له وجها وهو أن يكون نجي فعلا ماضيا مجهولا من التنجية لكنه أرسل الياء وأسند الفعل إلى المصدر المضمر ونصب المؤمنين بذلك المصدر أي نجى نجاء المؤمنين كقولك «ضرب الضرب زيدا» ثم ضرب زيدا على إضمار المصدر، وأنشد ابن قتيبة حجة لهذه القراءة:
ولو ولدت فقيرة جرو كلب لسب بذلك الجرو الكلابا
وقال أبو علي الفارسي وغيره من الأئمة المحققين: إن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر وإنما الوجه الصحيح في قراءة عاصم أن يحمل ذلك على الإخفاء، فلعل الراوي التبس عليه فظنه إدغاما. ثم بين انقطاع زكريا وتبتله إليه رغبة فيمن يؤنسه ويعينه في أمر دينه ودنياه وإن انتهى الحال به وبزوجته في الكبر إلى حد اليأس من ذلك عادة. وفي قوله وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ وجهان: أحدهما أنه ثناء على الرب بأن مآل كل الأمور إليه فيكون مؤكدا لما فوض إليه أمر الولد. والثاني أنه أراد إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث. وفي إصلاح زوجه وجوه: منها أنها جعلت صالحة للولادة بعد عقرها.
ومنها أنها جعلت حسنة الخلق وكانت سيئة الخلق، ولا شك أن حسن خلق الزوج نعمة عظيمة. ومنها أن الإصلاح يتعلق بأمر الدين كأنه سأل ربه المعونة على الدين والدنيا بالولد والأهل جميعا. ويرد على الوجه الأول أن إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد، والجواب أن الواو لا تفيد الترتيب أو أراد بالهبة إرادة الهبة. أما الضمير في قوله إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ فقد قيل: إنه عائد إلى زكريا وولده وأهله. وقال جار الله: إنه للمذكورين من الأنبياء عليهم السلام يريد أنهم ما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم إلا لمسارعتهم في تحصيل الخيرات، وهذا من أجلّ ما يمدح به المؤمن لأنه يدل على الجد والرغبة في الطاعة.
وَيَدْعُونَنا رَغَباً في ثوابنا وَرَهَباً عن عقابنا. ومعنى خاشِعِينَ قال الحسن: ذللا لأمر الله. وقيل: متواضعين. وعن مجاهد: الخشوع الخوف الدائم في القلب. وفي تقديم الجار والمجرور على خاشِعِينَ إشارة إلى أنهم لا يخشون أحدا إلا الله. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه الذي إذا أرخى ستره وأغلق بابه رأى الله منه خيرا ليس هو الذي يأكل خشبا أي علقا ويلبس خشنا ويطأطىء رأسه. ولما فرغ من ذكر الرجال الكاملين ذكر من هي
48
سيدة نساء العالمين فمدحها بإحصان فرجها إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا حتى إنها منعت جبرائيل جيب درعها قبل أن عرفته. والنفخ فيها عبارة عن إحياء عيسى في بطنها أي فنفخنا الروح في عيسى فيها كقول الزامر «فنفخت في بيت فلان» أي نفخت في المزمار في بيته، أو المراد وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا- وهو جبرائيل- لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها. وهذا البيان هو المراد في سورة التحريم فلذلك قال فَنَفَخْنا فِيهِ [التحريم: ١٢] أراد فرج الجيب أو غيره. وإنما قال وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ لأنه أراد أن مجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير أب.
التأويل:
الإشارات المفهومة من قصص الأنبياء أكثرها مرّ فلنذكر ما يختص بالمقام.
منها قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ أي الله الكبير لأن كسر الأصنام ليس من طبيعة الإنسانية بل من طبيعتها أن تنحتها، فإن صدر من أحدهم كسرها فإنما ذلك بتوفيق الله وتأييده. فقوله هذا بدل الكل من الضمير في فعله: قالوا أحرقوه إذا أراد الله أن يكمل عبدا من عباده المخلصين فداه خلقا عظيما كما لو أراد استكمال حوت في البحر فداه كثيرا من الحيتان الصغار، فلما أراد تخليص جسد الخلة من غش البشرية جعل نمرود وقومه فداء له حتى أجمعوا على تحريقه ولم يعلموا أن تلك النار له نور. وذلك العذاب له روح وريحان، لأن نار العشق قد أحرقت أنانيته حتى لم ير غير الله بل لم يبق إلا هو فلم يمكن للنار أن تتصرف فيه فوقع قوله: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ تمثيلا لهذا المعنى.
بالنار خوفني قومي فقلت لهم النار ترحم من في قلبه نار
ونجينا إبراهيم الروح ولوط القلب من أرض البشرية إلى أرض الروحانية المتبركة المشرفة المشرقة لتجلي الذات والصفات. وَنَجَّيْناهُ من قرية القالب. الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ بالأوصاف البهيمية والسبعية وَداوُدَ الروح وَسُلَيْمانَ القلب إِذْ يَحْكُمانِ فِي شأن حرث الدنيا إِذْ نَفَشَتْ أي دخلت فيه في ظلمة ليل البشرية غَنَمُ الْقَوْمِ أي الصفات البشرية من غير راعي العقل فأفسدت الحرث بالإفراط والإسراف. فحكم الروح بانجذابه إلى عالمه بالكلية أن يمنع الأوصاف عن التصرف فيها مطلقا. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ القلب لكونه متقلبا في طودي الروح والجسد أن يحكم بمنع التصرف فيها إلى أن يعود الحرث من حالة الإسراف فيه المؤدي إلى الفساد إلى حالة التوسط والاعتدال الذي هو المعتبر في باب الكمال والإكمال جمعا بين المصلحتين ورعاية للجانبين. وَسَخَّرْنا مَعَ
49
داوُدَ الْجِبالَ
وهي الأعضاء والجوارح التي فيها ثقل وكثافة يُسَبِّحْنَ بتسبيحه وَالطَّيْرَ وهن القوى الحيوانية السيارة بل الطيارة بين فضاء القلب والقالب. هذا في الباطن، وأما في الظاهر فإذا استولى سلطان الذكر على أجزاء البدن انعكس نوره في مرآة القلب إلى ما يحاذيها من الجمادات والحيوانات فيذكر ما يذكره كالحصاة سبحت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن بعض الصحابة أنه قال: كنا نأكل الطعام ونسمع تسبيحه وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ إن الله تعالى ألهم داود الروح كيفية إلانة القلب الذي هو في القساوة بمنزلة الحديد حتى يتولد من ذلك القلب أوصاف حميدة تحصن الإنسان من بأس الأعداء التي هي النفس والهوى والشيطان. وسخرنا لِسُلَيْمانَ القلب ريح الروح الحيواني فإنه مركب الروح الإنساني به يتهيأ له السير إلى مقام بورك له فيه وَمِنَ الشَّياطِينِ وهم الأوصاف النفسية مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ في بحر الحديد فيستخرجون درر الفضائل الإنسية وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ من الوسائط والوسائل إلى تلك الفضائل: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ من أن يزيغوا عن سواء السبيل ويميلوا عن جادة الشريعة وقانون الطريقة. قال أهل التحقيق: إذا بلغ الإنسان مبلغ الرجال البالغين سخر الله له بحسب مقامه السفليات والعلويات كما سخر لسليمان الريح والجن والشياطين والطير ومن العلويات الشمس حين ردت لأجل صلاته، وسخر لداود عليه السلام الجبال والطير والحديد والأحجار التي قتل بها جالوت، وسخر لنبينا جميع السفليات والعلويات حتى
قال «زويت لي الأرض» «١»
وقال «أوتيت مفاتيح خزائن الأرض» «٢»
وكان الماء ينبع من بين أصابعه.
وقال «نصرت بالصبا»
وكانت الأشجار تسلم عليه وتسجد له وتنقلع بإشارته من مكانها وترجع، والحيوانات تتكلم معه وتشهد بنبوته.
وقال «أسلم شيطاني على يدي» «٣».
وأما من العلويات فقد انشق القمر بإشارته وسخر له البراق وجبرائيل، وعبر السموات والجنة والنار والعرش والكرسي إلى مقام قاب قوسين أو أدنى.
وَأَيُّوبَ القلب المبتلى بديوان الهواجس والوساوس الذي فارقه أوصافه الحميدة وأخلاقه الشريفة لشدة تألمه بالعلائق البدنية وعوائق الأمور الدنيوية فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ بأن قلنا
(١) رواه مسلم في كتاب الفتن حديث ١٩. أبو داود في كتاب الفتن باب ١ الترمذي في كتاب الفتن باب ١٤. ابن ماجة في كتاب الفتن باب ٩. أحمد في مسنده (٥/ ٢٧٨).
(٢) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب ١٢٢. مسلم في كتاب المساجد حديث ٦، ٧. النسائي في كتاب الجهاد باب ١. الدارمي في كتاب المقدمة باب ١٤. أحمد في مسنده (٢/ ٢٦٤، ٤٥٠).
(٣)
رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث ٦٩، ٧٠. الترمذي في كتاب الرضاع باب ١٧. النسائي في كتاب النساء باب ٤. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٣٥، ٦٦. أحمد في مسنده (١/ ٢٥٧) بلفظ «إلا أن الله أعانني عليه فأسلم».
50
له ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص: ٤٢] نظيره وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ [طه: ٦٩] لينبع ماء حياة العلم والمعرفة فتسلم من تعلقات الكونين المؤذية للقلب والروح إِذْ ذَهَبَ من عالمه مُغاضِباً لغيره من المجردات فألقي في بحر الدنيا فالتقمه حوت النفس الأمارة بالسوء، وابتلع حوت النفس حوت القالب فَنادى في ظلمات حجب النفس والقالب والدنيا وَزَكَرِيَّا الروح وَهَبْنا لَهُ يَحْيى القلب وَأَصْلَحْنا لَهُ زوج القالب وَيَدْعُونَنا رَغَباً في الفناء فينا وَرَهَباً من البقاء بأنانيتهم وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أما القالب فبأعمال الشريعة، وأما النفس فبتهذيب الأخلاق، وأما القلب فبالاطمئنان بذكر الله، وأما السر فباجتهاده في كشف الأسرار، وأما الروح فببذل الوجود في طلب المعبود، وأما الخفي فبإفنائه في الله وبقائه بالله. وَمَرْيَمَ النفس الَّتِي أَحْصَنَتْ قلبها عن تصرفات الكونين فأحييناها بالحياة الأبدية.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٢ الى ١١٢]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١)
لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦)
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١)
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)
51
القراآت:
وحرم بكسر الحاء: حمزة وعلي وعاصم غير حفص وأبي زيد عن المفضل فتحت بالتشديد: ابن عامر ويزيد ويعقوب. لا يحزنهم بضم الياء وكسر الزاء يزيد نَطْوِي بضم التاء الفوقانية وفتح الواو والسَّماءَ بالرفع: يزيد. لِلْكُتُبِ على الجمع: حمزة وعلي وخلف وحفص بَدَأْنا مثل أَنْشَأْنا قال بالألف على حكاية قول الرسول رَبِّ بحذف الياء اكتفاء بالكسرة: حفص غير الخراز رب بضم الباء على أنه مبتدأ احكم على صيغة التفضيل. يزيد عن يعقوب الباقون رَبِّ احْكُمْ يصفون على الغيبة: المفضل وابن ذكوان في رواية.
الوقوف:
واحِدَةً ز لأن المقصود من قوله أَنَا رَبُّكُمْ قوله فَاعْبُدُونِ وكان الكلام متصلا فَاعْبُدُونِ هـ بَيْنَهُمْ ط راجِعُونَ هـ لِسَعْيِهِ ج لاختلاف الجملتين كاتِبُونَ هـ لا يَرْجِعُونَ هـ يَنْسِلُونَ هـ كَفَرُوا ط لإضمار القول ظالِمِينَ هـ جَهَنَّمَ ط وارِدُونَ هـ ما وَرَدُوها ط خالِدُونَ هـ فِيها ط لا يَسْمَعُونَ هـ الْحُسْنى لا لأن ما بعده خبر «إن» مُبْعَدُونَ هـ لا لأن ما بعده خبر بعد خبر حَسِيسَها ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف خالِدُونَ هـ ج لاحتمال الجملة بعده أن تكون صفة أو استئنافا الْمَلائِكَةُ ط لأن التقدير قائلين هذا يومكم تُوعَدُونَ هـ لِلْكُتُبِ ط لأن الجار يتعلق بما بعده نُعِيدُهُ ط لحق المضمر أي وعدنا وحقا عَلَيْنا ط فاعِلِينَ هـ الصَّالِحُونَ هـ عابِدِينَ هـ ط لاختلاف الجملتين لِلْعالَمِينَ هـ واحد ج للاستفهام مع الفاء مُسْلِمُونَ هـ عَلى سَواءٍ ط لابتداء النفي تُوعَدُونَ هـ تَكْتُمُونَ هـ حِينٍ هـ بِالْحَقِّ ط لأن ما بعده مبتدأ خارج عن المقول، ومن قرأ ربي احكم فوقفه مجوز لنوع عدول من الواحد إلى الجمع تَصِفُونَ هـ.
التفسير:
لما فرغ من قصص الأنبياء أراد أن يذكر ما استقر عليه أمر الشرائع في آخر الزمان فقال إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ وسيرتكم، فالأمة الدين والطريقة لأنه أصل وقانون يرجع إليه. وللتركيب دلالة على ذلك وهذا إشارة إلى ملة الإسلام أي إن هذه الملة هي طريقتكم وسيرتكم التي يجب أن تكونوا عليها حال كونها طريقة واحدة غير مختلفة. وَأَنَا رَبُّكُمْ لا غيري فَاعْبُدُونِ والخطاب للناس كافة، وكان الظاهر أن يقال بعده وتقطعتم أمركم بينكم أي جعلتم أمر دينكم بينكم قطعا كما يقسم الشيء بين الجماعة فيصير لهذا نصيب ولهذا نصيب فصرتم فرقا مختلفة وأحزابا شتى، إلا أنه عدل من الخطاب إلى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه يقبح أمرهم إلى غيرهم فيقول: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء؟
عن
52
رسول الله ﷺ أنه قال «تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون وخلصت فرقة وأن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة وتخلص فرقة واحدة قالوا: يا رسول الله ومن الفرقة الناجية؟ قال: الجماعة الجماعة» «١»
فهذا الحديث مفسر للآية من حيث إن هذه الأمة يجب أن يكونوا على كلمة واحدة. طعن بعضهم في الحديث أنه إن أراد بالاثنتين والسبعين فرقة أصول الأديان فإنها لا تبلغ هذا العدد، وإن أراد الفروع فإنها أضعاف هذا العدد.
وأجيب بأنه أراد ستفترق أمتي هذا العدد في حال ما، وهذا لا ينافي كون العدد في بعض الأحوال أنقص أو أزيد. قال أهل البرهان: إنما قال في هذه السورة فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا بالواو وفي «المؤمنين» فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا [الآية: ٥٣] بالفاء لأن الخطاب هاهنا أعم والعبادة أعم من التقوى. وأيضا الخطاب يتناول الكفار وقد وجد منهم التقطع قبل هذا القول، وفي سورة المؤمنين الخطاب للنبي ﷺ والمؤمنين بدليل قوله يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [الآية: ٥١] ثم قال: فَتَقَطَّعُوا [الآية: ٥٣] أي ظهر منهم أي من أمتهم التقطع بعد هذا القول ولأن التقطع منهم أغرب أكده هناك بقوله زُبُراً وفي قوله كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ وعيد عظيم للفرق المختلفة. ثم فصل مآل لهم بقوله فَمَنْ يَعْمَلْ الآية والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه في قوله فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء: ١٩] وإنما لم يقل «فلا يكفر سعيه» لأن نفي الجنس أبلغ فإن نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها. وفي قوله وَإِنَّا لَهُ أي لذلك السعي كاتِبُونَ مبالغة أخرى فإن المثبت في الصحيفة أبعد من النسيان والغلط كما قيل: قيدوا العلم بالكتابة. ولا سيما إذا كان الكاتب ممن لا يجوز عليه السهو والنسيان. قال المفسرون:
معناه حافظون لنجازي عليه. وقيل: مثبتون في أم الكتاب أو في صحف الأعمال. هذا حال السعداء وأما أحوال أضدادهم فذلك قوله وَحَرامٌ ومن قرأ حرم فإنه فعل بمعنى مفعول. والتركيب يدور على المنع أي ممتنع أو ممنوع وهذا خبر لا بد له من مبتدأ وذلك قوله أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ أو غير ذلك. والرجوع إما الرجوع عن الشرك إلى الإسلام أو الرجوع إلى الدنيا أو إلى الآخرة. وعلى الأول إما أن تكون «لا» زائدة أقحمت للتأكيد ومعنى الآية ممتنع على أهل قرية عزمنا على إهلاكها أو قدرنا إهلاكها أن يرجعوا أو يتوبوا إلى أن تقوم الساعة والمراد تصميمهم على الكفر. وإما أن تكون معيدة ولكن الحرام بمعنى الواجب تسمية لأحد الضدين باسم الآخر باشتراكهما في المنع إلا أن الوجوب منع عن
(١) رواه أبو داود في كتاب السّنة باب ١. الترمذي في كتاب الإيمان باب ١٨. ابن ماجة في كتاب الفتن باب ١٧. أحمد في مسنده (٢/ ٣٢٢) (٣/ ١٢٠).
53
الترك والحرمة منع عن الفعل، وقد ورد في الاستعمال مثل ذلك قال سبحانه قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا [الأنعام: ١٥١] وترك الشرك واجب وليس بمحرم، وقالت الخنساء:
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوه إلا بكيت على عمرو
وعلى الثاني فالإهلاك على أصله، والمعنى أن رجوعهم إلى الدنيا ممتنع أو عدم رجوعهم واجب إلى قيام الساعة نظيره قوله فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس: ٦٧] وعلى الثالث فقوله «حتى» غاية لقوله لا يَرْجِعُونَ أي ممتنع عدم رجوع المهلكين إلى عذاب الآخرة حتى الساعة، وذلك أن رجوعهم إلى عذاب النار قبل الساعة واجب بقوله النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر: ٤٦] وقال أبو مسلم: أراد أن رجوعهم إلى الآخرة واجب إلى هذه الغاية أي أنهم يكونون أول الناس حضورا في محفل القيامة. وعلى الرابع فالمعنى وحرام عليهم ذلك وهو المذكور من السعي المشكور غير المكفور لأنهم لا يرجعون عن الكفر إلى أن تقوم الساعة.
قوله تعالى حَتَّى إِذا فُتِحَتْ «حتى» هي التي يقع بعدها الجملة وهي هاهنا مجموع الشرط والجزاء و «إذا» المفاجأة تسد مسد فاء الجزاء، وقد يجمع بينهما للتعاون على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد وإنما احتيج إلى هذا التأكيد لأن الشرط يحصل في آخر أيام الدنيا والجزاء إنما يحصل يوم القيامة، ولعل بينهما فاصلة بالزمان إلا أن التفاوت القليل كالمعدوم والمضاف محذوف أي سد يأجوج ومأجوج وتأنيث الفعل لأنهما قبيلتان وهما ومن جنس الأنس كما مر في آخر الكهف. يقال: الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج ومأجوج.
وفي الحديث «إن منكم واحدا ومن يأجوج ومأجوج ألف».
قوله وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ قال أكثر المفسرين: الضمير ليأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السد. وعن مجاهد أنه لجميع المكلفين الذين يساقون إلى المحشر. والحدب ما ارتفع من الأرض والنسل الإسراع. وَاقْتَرَبَ عطف على فُتِحَتْ وهو داخل في الشرط. والْوَعْدُ الْحَقُّ القيامة وقوله فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ كقوله في سورة إبراهيم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إبراهيم: ٤٢] وقال في الكشاف: هِيَ ضمير مبهم توضحه الأبصار وتفسره. قلت: فعلى هذا هِيَ مبتدأ وشاخِصَةٌ خبره وأَبْصارُ بدل هِيَ ولو قيل: هِيَ ضمير القصة مبتدأ والجملة التي هي أبصار الذين كفروا شاخصة خبره جاز وهو قول سيبويه. ثم هاهنا إضمار أي يقولون يا وَيْلَنا وهو في موضع الحال من الذين كفروا والعامل شاخصة قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا الوعد أو الأمر بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أنفسنا بتلك الغفلة وبتكذيب الرسل وعبادة الأوثان. ثم بين حال معبوديهم يوم
54
القيامة فقال: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أي محصوبها بمعنى محصوب فيها، والحصب الرمي ومنه الحصباء لأنه يرمى بها الشيء وقرىء حطب. واللام في قوله أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ كاللام في قوله «هو لزيد ضارب» وذلك لضعف عمل اسم فيما تقدم عليه. والمعنى لا بد لكم أن تردوها ولا معدل لكم عن دخولها. ثم ألزمهم الحجة بقوله لَوْ كانَ هؤُلاءِ المعبودون آلِهَةً في الحقيقة ما وَرَدُوها لكنهم واردوها للخبر الصادق الذي يتنبه لصدقه من يتأمل في إعجازه فينتج أن هؤلاء ليسوا بآلهة وأنها لا تستحق تعظيما أصلا. ثم أخبر أنهم بعد ورودهم النار لا يخلصون منها أبدا فقال وَكُلٌّ أي من العابدين والمعبودين فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ قد سبق معانيه في آخر سورة هود وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ شيئا إما لأنهم يجعلون في توابيت من نار عن ابن مسعود، وإما لأنه تعالى يصمهم كما يعميهم. والصمم في بعض الأوقات لا ينافي كونهم سامعين أقوال أهل الجنة في غير ذلك الوقت، أو المراد أنهم لا يسمعون ما يسرهم، أو الضمير للمعبودين والسماع سماع إجابة، وعلى هذا فالضمير في لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ للعابدين وجاز اعتمادا على فهم السامع حيث يرد كلا من الضميرين إلى ما يناسبهما كأنه قيل: العابد يدعو والمعبود لا يجيب، ويجوز أن يكون للمعبودين أيضا لأن فيهم من يتأتى منه الزفير كالشياطين فغلب، أو لأن الجماد ينطقه الله وقتئذ والزفير بمعنى اللهيب والله أعلم.
يروى أن رسول الله ﷺ دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحرث وكلمه رسول الله ﷺ حتى أفحمه ثم تلا عليهم إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية.
فأقبل عبد الله بن الزبعري فأخبره الوليد بن المغيرة بما جرى فقال معترضا: أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال عليه السلام: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك وأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ الآية. فخرج من الحديث. والآية جواب ابن الزبعري على أتم وجه وأكمله كأنه قيل أولا إن الآية باقية على عمومها لأن الذين عبدوا عزيرا والمسيح والملائكة لم يعبدوهم في الحقيقة، وانما عبدوا الشياطين التي دعتهم إلى ذلك، ولئن سلم أنهم عبدوهم في الحقيقة لكنهم مخصوصون بما سبقت لهم منا الخصلة الحسنى وهي السعادة أو البشرى بالثواب أو بتوفيق الطاعة وكل ميسر لما خلق له. ومن المفسرين من أجاب عن اعتراض ابن الزبعري بوجوه أخر منها: أن قوله إِنَّكُمْ خطاب لمشركي قريش وإنهم لم يعبدوا سوى الأصنام. ولقائل أن يقول: حمل الآية على العموم أتم فائدة. ومنها أن قوله وَما تَعْبُدُونَ لا يتناول العقلاء فيسقط الاعتراض. ولقائل أن يقول: ما أعم لا مباين فيشمل ذوي العقول
55
وغيرهم ولهذا جاء وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: ٥] سبحان ما سخركن لنا. ومنها أنه تعالى يصور لهم في النار ملكا على صورة من عبدوه، وضعف بأن القوم لم يعبدوا تلك الصورة، وبأن الملك لا يتعذب بالنار كخزنة جهنم. واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فقوله إِنَّ الَّذِينَ لا يبعد أن يكون عاما لكل المؤمنين ويؤيده ما
روي أن عليا قرأ هذه الآية ثم قال: أنا منهم وأبوبكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف.
وزعم مثبتوا لعفو أن الحسنى في الآية هي الوعد بالعفو لأنه قال أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ بأزاء قوله أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ والورود الدخول فالإبعاد الإخراج من النار بعد أن كانوا فيها. وأيضا إبعاد البعيد محال. وقوله لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها إذ الصوت الذي يحس به مخصوص بما بعد الإخراج. وأيضا قوله لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ يفهم منه أنه يحزنهم الفزع الأصغر، فالأكبر عذاب الكفار والأصغر عذاب صاحب الكبيرة، والأكثرون على أن المراد من قوله مُبْعَدُونَ أنهم لا يدخلون النار ولا يقربونها البتة لأن ما جعل بعيدا عن شيء ابتداء يحسن أن يقال: إنه أبعد عنه، وهؤلاء لم يفسروا الورود في قوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: ٧١] بالدخول كما مر في سورة مريم. وفي قوله لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها تأكيد للإبعاد فقد لا يدخل النار ويسمع حسيسها. ثم بين أنهم مع البعد عن المنافي منتفعون بالقرب من الملائم ملتذون به على سبيل التأبيد فقال وهم فيما اشتهته أَنْفُسُهُمْ أي فيما تطلبه للالتذاذ به خالِدُونَ هذا نصيب أهل الجنة، وأما أهل الله فهم فيما اشتهت قلوبهم وأرواحهم وأسرارهم خالدون. والفزع الأكبر قيل: النفخة الأخيرة لقوله وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النمل: ٨٧] وعن الحسن هو الانصراف إلى النار فإنه لافزع أكبر مما إذا شاهدوا النار، وهذا أمر يشترك فيه أهل النار جميعا، ثم مراتب التعذيب بعد ذلك متفاوتة. وعن الضحاك وسعيد بن جبير هو حين تطبق النار على أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة، وقيل: حين يذبح الموت على صورة كبش أملح فعند ذلك يستقر أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة وتستقبلهم الملائكة مهنئين قائلين هذا يَوْمُكُمُ أي وقت ثوابكم الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ذلك قال الضحاك: هم الحفظة الذين كتبوا أعمالهم. والعامل في يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ: لا يَحْزُنُهُمُ أو تَتَلَقَّاهُمُ. والسجل اسم للطومار الذي يكتب فيه.
وعن ابن عباس أنه ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه وهو مروي أيضا عن علي رضي الله عنه.
وروى أيضا أبو الجوزاء عن ابن عباس أنه كاتب لرسول الله ﷺ وليس بمعروف. قال الزجاج: هو الرجل بلغة الحبش. فعلى هذه الوجوه فالطي وهو المصدر مضاف إلى الفاعل وعلى الوجه
56
الأول هو مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف كطي الطاوي للسجل وهو قول الأكثرين.
واشتقاقه من السجل الدلو العظيم وقد قرىء به والتركيب يدل على الامتلاء والاجتماع ولهذا لا يسمى الدلو سجلا إلا إذا كان فيه ماء ومنه «أسجلت الحوض ملأته.» وقوله لِلْكُتُبِ أي للكتابة ومعناه ليكتب فيه أو لما يكتب فيه لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء ثم يوقع على المكتوب. ومن جمع فمعناه للمكتوبات أي ما يكتب فيه من المعاني الكثيرة، وكيفية هذا الطي لا يعلمها إلا من أخبر عن ذلك أما قوله كَما بَدَأْنا فمن المفسرين من قال: أنه ابتداء كلام ومنهم من قال: إنه وصف قوله هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بقوله يَوْمَ نَطْوِي ثم عقبه بوصف آخر فقال كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ وهو مفعول نعيد الذي يفسره نُعِيدُهُ و «ما» كافة أي نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيها للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لهما على السواء. فكما أوجده أولا عن عدم يعيده ثانيا عن عدم. ومنهم من قال: الإعادة إنما تتعلق بالضم والتركيب بعد تفريق الأجزاء الأصلية والآية لا تطابقه كل المطابقة. وأول خلق كقولك «هو أول رجل» أي إذا فضلت رجلا رجلا فهو أولهم، وإنما خص أول الخلائق بالذكر تصويرا للإيجاد عن العدم ودفعا للاعتراض. وجوز جار الله أن تنتصب الكاف بفعل مضمر يفسره نعيده و «ما» موصولة أي نعيد مثل الذي بدأنا نعيده وأَوَّلَ خَلْقٍ ظرف ل بَدَأْنا أي أول ما خلق أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ وقوله وَعْداً مصدر مؤكد لأن قوله نعيد عدة للإعادة وقيل: أراد حتما عَلَيْنا لسبب الإخبار عن ذلك وتعلق العلم بوقوعه فإن وقوع ما علم الله وقوعه واجب ثم حقق ذلك بقوله إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أي سنفعل ذلك لا محالة فإنا قادرون عليه. عن سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد أن الزبور جنس للكتب المنزلة كلها، والذكر أم الكتاب يعني اللوح ففيه كتابة كل ما سيكون اعتبارا للملائكة، وكتب الأنبياء كلهم منتسخة منه، وعن قتادة أن الزبور هو القرآن، والذكر هو التوراة. وعن الشعبي أن الزبور هو كتاب داود عليه السلام والذكر التوراة. وجوز الإمام فخر الدين أن يراد بالذكر العلم أي كتبنا فيه بعد أن كنا عالمين غير ساهين. والمراد تحقيق وقوع المكتوب فيه، والأرض أرض الجنة، والعباد الصالحون هم المؤمنون العالمون بما يجب عليهم نظيره قوله وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر: ٧٤] قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والسدي وأبو العالية. وإنما ذهبوا إلى هذا القول لأن أرض الدنيا تعم الصالح وغير الصالح، ولأن الآية وردت بعد ذكر الإعادة.
وعن ابن عباس أيضا في رواية الكلبي أنها أرض الدنيا يرثها المؤمنون بعد إجلاء الكفار نظيره وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور: ٥٥]
57
وقيل: الأرض المقدسة يرثها أمة محمد ﷺ وسلم عند نزول عيسى بن مريم إِنَّ فِي هذا الذي ذكر في السورة من الأخبار والوعد والوعيد وغير ذلك لَبَلاغاً لكفاية لِقَوْمٍ عابِدِينَ عاملين بما ينبغي عمله من الخيرات بعد ما عملوا من كيفية أدائها. والبلاغ ما يبلغ به المرء مطلوبه من الوسائط والوسائل، ولا مطلوب أجل من سعادة الدارين فكل من كان وسيلة إلى نيل هذا المطلوب على الوجه الأتم الأكمل كان وجوده رحمة من الله للطالب المتحير وما ذاك إلا خاتم النبيين فلهذا قال وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وكونه رحمة للكل لا ينافي قتله بعض الكفرة والتعرض لأموالهم وأولادهم كما أن كي بعض أعضاء المريض بل قطعه لا ينافي حذق الطبيب وإشفاقه على المريض ومن هنا قيل: آخر الدواء الكي. والعاقل لا ينسب التقصير إلى الفاعل لقصور في القابل. قالت المعتزلة: لو كان كفر الكافر بخلق الله لم يكن إرسال الرسول رحمة له لأنه لا يحصل له حينئذ إلا لزوم الحجة عليه. وأجيب بأن كونه رحمة للفجار هو أنهم أمنوا بسببه عذاب الاستئصال، ولا يلزم أن يكون الرسول رحمة للمؤمنين من جهة كونه رحمة للكافرين، والجواب المحقق أن كونه رحمة عامة بالنسبة إلى أمة الدعوة لا ينافي كونه رحمة خاصة بالنسبة إلى أمة الإجابة وهو قريب مما ذكرناه أولا، والحجة وتبعتها لازمة على الكافر وإن لم يبعث النبي غايته أنها بعد البعثة ألزم. وفي الآية دلالة على أن النبي ﷺ أفضل من الملائكة لأنه رحمة لهم فإنهم من العالمين وعورض بقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: ٥] والاستغفار رحمة.
والجواب أن الرحمة بمعنى كونه في نفسه مكملا في الغاية غير الرحمة بمعنى الدعاء، فلا يلزم من كون الأول سببا للأفضلية كون الثاني كذلك، ثم بين أن أصل تلك الرحمة وأسها هو دعاؤه إلى التوحيد والبراءة عن الشرك فقال قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ إن كانت «ما» موصولة فمعناه أن الذي يوحي إليّ هو أن وصفه تعالى مقصور على الوحدانية لا يتجاوزه إلى ما يناقضها أو يضادها بأي قسمة فرضت وإن كانت كافة المعنى أن الوحي مقصور على استئثار الله بالوحدة، وذلك أن القصر يكون أبدا لما يلي إنما وفي قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ بعث لهم على قبول هذا الوحي الذي هو أصل التكاليف كلها، وفيه نوع من التهديد فلذلك صرح به قائلا فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ أي أعلمتكم والمراد هاهنا أخص من ذلك وهو الإنذار عَلى سَواءٍ هو الدعاء إلى الحرب مجاهرة كقوله فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: ٥٨] إلى وقت أي حال كونكم مستوين في ذلك لا فرق بين القريب والأجنبي والقاصي والداني والشريف والوضيع ولهذا قال أبو مسلم: الإيذان على سواء هو الدعاء إلى الحرب مجاهرة كقوله فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: ٥٨] وقيل: أراد أعلمتكم ما هو
58
الواجب عليكم من أصول التكاليف ولا سيما التوحيد على السوية من غير فرق في الإبلاغ بين مكلف ومكلف. ولست أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أم بعيد والموعود قيل: هو عذاب الآخرة. واعترض بأنه ينافي قوله وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ وقيل: هو الأمر بالقتال لأن السورة مكية وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة. وقيل: هو إعلاء شأن الإسلام وغلبة ذويه فإنه لا بد أن يلحق للكفار حينئذ ذلة وصغار. ولما أمره أن ينفي عن نفسه علم الغيب أمره أن يقول لهم إن الله سبحانه هو العالم بالسر والعلن فيعلم ما تجاهرون به من المطاعن في الإسلام وما تكتمونه في صدوركم من الإحن والضغائن فيجازيكم على القبيلين وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ أي ما أدري لعل تأخير هذا الوعد أو إبهام وقته أو تأخير الأمر بالجهاد امتحان لكم لينظر كيف تعملون وتمتيع لكم إِلى حِينٍ حضور وقت الموعد. وقال الحسن: لعل ما أنتم عليه من الدنيا ونعيمها بلية لكم. وقيل: أراد لعل ما بينت وأعلمت وأوعدت ابتلاء لكم لأن المعرض عن الإيمان مع البيان حالا بعد حال يكون عذابه أشد. ومعنى رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أقض بيني وبين من يكذبني بالعذاب. قال قتادة: أمره الله تعالى أن يقتدي بالأنبياء في هذه الدعوة وكانوا يقولون رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف: ٨٩] فاستجيب له فعذبوا ببدر، وقال جار الله: بالحق لا تحابهم وشدد عليهم كما هو حقهم كما
قال «أشدد وطأتك على مضر» «١»
وقيل: معناه وافعل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع تنصرني عليهم كأنه سبحانه قال له: قل داعيا إليّ رب احكم بالحق وقل متوعد للكفار وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ الذي يستعان به عَلى ما تَصِفُونَ من الشرك والكفر وما تعارضون به دعوتي من الأباطيل، وكانوا يطمعون أن يكون لهم الغلبة والدولة فقلب الله الأمر عليهم. وفي هذا الأمر تسلية للنبي ﷺ ورفع عن مقداره حيث أمر بالانقطاع إلى الرب في دفع أذية القوم ليحصل له مع الخلاص من أذيتهم شرف الاستجابة وهذه غاية العناية.
التأويل:
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ فيه إشارة إلى أن السالك إذا عبر المقامات التي ذكرنا تصير متفرقات شمله مجتمعة في الفناء بالله والبقاء به، فيكون أمة واحدة في ذاته كما أن إبراهيم كان أمة فيعرفه الله نفسه ويقول أَنَا رَبُّكُمْ الذي بلغتكم هذه الرتبة فَاعْبُدُونِ أي فاعرفون وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ فمنهم من سكن إلى الدنيا، ومنهم من سكن إلى الجنة، ومنهم من فر إلى الله كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ أما طالب الدنيا فيرجع إلى صورة قهرنا وهي جهنم،
(١) رواه البخاري في كتاب الأذان باب ١٢٨. مسلم في كتاب المساجد حديث ٢٩٤، ٢٩٥. أبو داود في كتاب الوتر باب ١٠. النسائي في كتاب التطبيق باب ٢٧. الدارمي في كتاب الصلاة باب ٢١٦.
59
وأما طالب الآخرة فيرجع إلى صورة رحمتنا وهي الجنة، وأما الذي يطلبنا فإنه يرجع إلينا بالحقيقة وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ في الأزل من أهل السعادة حتى إذا فتح سد يَأْجُوجُ النفس ومَأْجُوجُ الهوى، والسد أحكام الشريعة وفتحها مخالفاتها وموافقات الطبع وهم أعني دواعي النفس من كل معدن شهوة من الحواس الظاهرة والباطنة يَنْسِلُونَ فيفسدون ما يمرون عليه من القلب والسر والروح وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ إهلاك القلوب الغافلة فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ بصائرها بالانهماك في الأهواء إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى العناية الأزلية لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها أعني مقالات أهل البدع والأهواء وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ المطمئنة المجذوبة بجذبة ارْجِعِي في مقامات السير في الله خالِدُونَ الفزع الأكبر
قوله في الأزل «هؤلاء في النار ولا أبالي»
يَوْمَ نَطْوِي سماء وجود الإنسان بتجلي صفات الجلال في إفناء مراتب الوجود من الانتهاء إلى الابتداء وذلك قوله كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ يعني أن الرجوع يكون بالتدريج كما أن البدء كان بالتدريج خلق النطفة علقة ثم خلق العلقة مضغة ثم خلق المضغة عظاما ثم كسا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر. ففي الإعادة يجب أن يمر السالك من الإحساس على الحيوانية ثم النباتية ثم المعدنية ثم البسائط العنصرية ثم الملكوتية ثم الروحانية ثم إلى صفات الربوبية بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: ٢٨] وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ أي في أم الكتاب مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أي بعد أن قلنا للقلم أكتب نظيره كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢] أن أرض جنة الوجود الحقيقي يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ وهم الذين طويت سماء وجودهم المجازي. فالوجود المجازي لكونه غير ثابت ولا مستقر كالسماء، والوجود الحقيقي لكونه ثابتا ومستقرا على حالة واحدة كالأرض لِقَوْمٍ عابِدِينَ عارفين. وَما أَرْسَلْناكَ من كتم العدم إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فلولاك لما خلقت الأفلاك
«أول ما خلق الله روحي»
ولولا الأزل لم تنته الهوية إلى الآخر والله أعلم.
60
Icon