تفسير سورة المزّمّل

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة المزمّل
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
«بِسْمِ اللَّهِ» : الحادثات بالله حصلت، فقلوب العارفين بالله عرفت ما عرفت وأرواح الصّديقين بالله ألفت من ألفت وفهوم الموحّدين بساحات جلاله وقفت، ونفوس العابدين بالعجز عن استحقاق عبادته اتّصفت وعقول الأولين والآخرين بالعجز عن معرفة جلاله اعترفت.
قوله جل ذكره:
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥)
أي: المتزمل المتلفّف في ثيابه. وفي الخبر: أنه كان عند نزول هذه الآية عليه مرطّ من شعر ووبر، وقالت عائشة رضى الله عنها: كان نصفه عليّ وأنا نائمة، ونصفه على رسول الله وهو يصلّى، وطول المرط أربعة عشر ذراعا «١».
«نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» قم الليل إلا قليلا، نصفه بدل منه أي: قم نصف الليل، وأنقص من النصف إلى الثلث أو زد على الثلث، فكان عليه الصلاة والسلام في وجوب قيام الليل مخيّرا ما بين ثلث الليل إلى النصف وما بين النصف إلى الثلث. وكان ذلك قبل فرض الصلوات الخمس، ثم نسخ بعد وجوبها على الأمة- وإن كانت بقيت واجبة على الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويقال: يا أيها المتزمّل بأعباء النبوّة... قم الليل.
(١) معنى هذا: أن السورة مدنية وليست مكية، لأن النبي لم يبن بعائشة إلا في المدينة.
641
ويقال: يا أيها الذي يخفى ما خصصناه به قم فأنذر... فإنّا نصرناك «١».
ويقال: قم بنا... يا من جعلنا الليل ليسكن فيه كلّ الناس... قم أنت فليسكن الكلّ... ولتقم أنت.
ويقال: لمّا فرض عليه القيام بالليل أخبر عن نفسه لأجل أمّته وإكراما لشأنه وقدره.
وفي الخبر: «أنه ينزل كلّ ليلة إلى السماء الدنيا... » ولا يدرى التأويل للخبر «٢»، أو أنّ التأويل معلوم... وإلى أن ينتهى إلى التأويل فللأحباب راحات كثيرة، ووجوه من الإحسان موفورة.
قوله جل ذكره: «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» ارتع بسرّك في فهمه، وتأنّ بلسانك في قراءته.
«إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» قيل: هو القرآن. وقيل: كلمة لا إله إلا الله.
ويقال: الوحى وسمّاه ثقيلا أي خفيفا على اللسان ثقيلا في الميزان.
ويقال: ثقيل أي: له وزن وخطر. وفي الخبر: كان إذا نزل عليه القرآن- وهو على ناقته- وضعت جرانها «٣»، ولا تكاد تتحرك حتى يسرّى عنه.
وروى ابن عباس: أنّ سورة الأنعام نزلت مرة واحدة فبركت ناقة رسول الله ﷺ من ثقل القرآن وهيبته.
ويقال «ثَقِيلًا» سماعه على من جحده
(١) هذان تخريجان مجازيان للفظة (المزمل).
(٢) هذا الخبر فعلا كان موضع نظر فقد روى عن طريقين عن أبى هريرة على الشك، ففى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (ص) :«إذا مضى شطر الليل- أو ثلثاه ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا» وفي رواية أخرى: «ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول فيقول: أنا الملك، أنا الملك من ذا الذي يدعونى فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألنى فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرنى فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضىء الفجر». وخرجه ابن ماجه من حديث ابن شهاب عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن الرسول (ص) قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول... » وهكذا انتظم الحديث والقرآن. [.....]
(٣) أي: صدرها.
642
ويقال: «ثقيلا بعبئه- إلّا على من أيّد بقوة سماوية، وربّى في حجر التقريب» قوله جل ذكره:
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ٦ الى ٩]
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩)
أي: ساعات الليل، فكلّ ساعة تحدث فهى ناشئة «١»، وهي أشد وطئا أي: موطّأة أي: هى أشدّ موافقة للسان والقلب، وأشدّ نشاطا.
ويحتمل: هى أشدّ وأغلظ على الإنسان من القيام بالنهار.
«وَأَقْوَمُ قِيلًا» أي: أبين قولا.
ويقال: هى أشدّ مواطأة للقلب وأقوم قيلا لأنها أبعد من الرياء، ويكون فيها حضور القلب وسكون السّرّ أبلغ وأتمّ.
قوله جل ذكره: «إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا» أي: سبحا في أعمالك، والسبح: الذهاب والسرعة، ومنه السباحة في الماء.
فالمعنى: مذاهبك في النهار فيما يشغلك كثيرة- والليل أخلى لك.
قوله جل ذكره: «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا» أي: انقطع إليه انقطاعا تاما.
«رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» الوكيل من توكل إليه الأمور أي: توكّل عليه وكل أمورك إليه، وثق به.
ويقال: إنك إذا اتخذت من المخلوقين وكيلا اختزلوا مالك وطالبوك بالأجرة، وإذا اتخذتني وكيلا أوفّر عليك مالك وأعطيك الأجر.
(١) قال ابن مسعود: الحبشة يقولون: نشأ أي قام.
فكأن ناشئة الليل مصدر بمعنى قيام الليل... مثل خاطئة وكاذبة... فإذا افترضنا أنها كلمة شائعة الاستعمال عند الحبشة بهذا المعنى فإنها ذات أصل عربى أيضا.
ويقال: وكيلك ينفق عليك من مالك، وأنا أرزقك وأنفق عليك من مالى.
ويقال:
وكيلك من هو في القدر دونك، وأنت تترفّع أن تكلّمه كثيرا وأنا ربّك وسيّدك وأحبّ أن تكلمنى وأكلّمك.
قوله جل ذكره:
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١٠ الى ١٣]
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣)
الهجر الجميل: أن تعاشرهم بظاهرك وتباينهم بسرّك وقلبك.
ويقال: الهجر الجميل ما يكون لحقّ ربّك لا لحظّ نفسك.
ويقال: الهجر الجميل ألا تكلّمهم، وتكلمنى لأجلهم بالدعاء لهم.
وهذه الآية منسوخة بآية القتال «١».
قوله جل ذكره: «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» أي: أولى التّنعّم «٢»، وأنظرهم قليلا، ولا تهتم بشأنهم، فإنى أكفيك أمرهم.
قوله جل ذكره: «إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً» ثم ذكر وصف القيامة فقال:
«يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا».
(١) قال قتادة: كان هذا قبل الأمر بالقتال، ثم أمر بعد بقتالهم وقتلهم فنسخت آية القتال ما كان قبلها من الترك. (القرطبي) ح ١٩ ص ٤٥).
(٢) هم صناديد قريش، ورؤساء مكة من المستهزئين.
وقال يحيى بنى سلام: إنهم بنو المغيرة.
وقالت عائشة: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر.
ثم قال:
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ٢٠ الى ١٥]
يعنى: أرسلنا إليكم محمدا ﷺ شاهدا عليكم «كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا»، «فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا» ثقيلا.
«فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً» من هوله يصير الولدان شيبا- وهذا على ضرب المثل.
«السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ» أي بذلك: اليوم لهوله «١».
ويقال: منفطر بالله أي: بأمره.
«كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا» : فما وعد الله سيصدقه.
«إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ» : يعنى: هذه السورة، أو هذه الآيات موعظة فمن اتعظ بها سعد.
«إِنَّ رَبَّكَ» يا محمد «يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» من المؤمنين.
«وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» فهو خالقهما «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ» وتطيعوه.
«فَتابَ عَلَيْكُمْ» أي: خفّف عنكم «٢»، «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» من خمس آيات إلى مازاد. ويقال: من عشر آيات إلى ما يزيد «٣».
(١) هكذا في م وهي في ص (لقوله) والصواب ما جاء في م كما هو واضح من السياق.
(٢) كان الرجل لا يدرى متى نصف الليل من ثلثه فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطىء فانتفخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم (مقاتل).
(٣) قال الحسن: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن، وقال كعب: كتب من القانتين.
وفي حديث مسند عن عبد الله بن عمرو: أن النبي (ص) قال: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين (- أعطى من الأجر قنطارا) » خرّجه أبو داود الطيالسي في مسنده.
645
«عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ» يسافرون، ويعلم أصحاب الأعذار، فنسخ عنهم قيام الليل.
«وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» المفروضة.
«وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» مضى معناه.
«وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ» أي: ما تقدّموا من طاعة تجدوها عند الله ثوابا هو خير لكم من كلّ متاع الدنيا.
646
Icon