تفسير سورة المزّمّل

فتح البيان
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة المزمل
هي تسع عشرة آية وقيل عشرون آية وهي مكية
قال الماوردي كلها مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. قال وقال ابن عباس وقتادة إلا آيتين منها ﴿ واصبر على ما يقولون ﴾ والتي تليها، وقال الثعلبي إلا قوله :﴿ إن ربك يعلم أنك تقوم ﴾ إلى آخر السورة فإنه نزل بالمدينة، أخرج النحاس عن ابن عباس أنه قال نزلت بمكة إلا آيتين ﴿ إن ربك يعلم ﴾ الخ، وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال نزلت يا أيها المزمل بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وعن جابر " قال اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا سموا هذا الرجل اسما تصدون الناس عنه فقالوا كاهن، قالوا ليس بكاهن، قالوا مجنون قالوا ليس بمجنون، قالوا ساحر، قالوا ليس بساحر فتفرق المشركون على ذلك. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبريل فقال :﴿ يا أيها المزمل، يا أيها المدثر ﴾ " أخرجه البراز والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل، وقال البراز بعد إخراجه من طريق معلى بن عبد الرحمن أن معلى قد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه لكنه إذا تفرد بالأحاديث لا يتابع عليها، وعن ابن عباس " قال بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي من الليل فصلى ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر، فحرزت قيامه في كل ركعة بقدر يا أيها المزمل "، أخرجه أبو داود والبيهقي في السنن.

(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) أصله المتزمل فأدغمت التاء في الزاي، والتزمل التلفف في الثوب، وفي المصباح زملته بثوبه فتزمل مثل لففته فتلفف وزملت الشيء حملته، ومنه قيل للبعير زاملة بالهاء للمبالغة لأنه يحمل متاع المسافر، قرأ الجمهور بالإدغام، وقرأ أبيّ (المتزمل) على الأصل وقرأ عكرمة بتخفيف الزاي، وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد اختلف في معناه فقال جماعة إنه كان يتزمل صلى الله عليه وآله وسلم بثيابه في أول ما جاءه جبريل بالوحي فرقاً منه حتى أنس به، وقيل المعنى يا أيها المزمل بالنبوة والملتزم للرسالة، وبهذا قال عكرمة وكان يقرأ يا أيها المزمل بتخفيف الزاي وفتح الميم المشددة اسم مفعول، وعنه أيضاًً يا أيها الذي زمل هذا الأمر أي حمله ثم فتر، وقيل المعنى يا أيها المزمل بالقرآن وقال الضحاك تزمل بثيابه لمنامه ونحوه عن قتادة، وقيل بلغه من المشركين سوء قول فتزمل في ثيابه وتدثر، فنزلت يا أيها المزمل ويا أيها المدثر.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع صوت الملك ونظر إليه أخذته الرعدة فأتى أهله وقال زملوني دثروني، وكان خطابه صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الخطاب في أول نزول الوحي، ثم بعد ذلك خوطب بالنبوة والرسالة، وقال ابن عباس زملت هذا الأمر فقم به، وعنه قال يتزمل بالثياب، قال السهيلي ليس المزمل من أسماء النبي ﷺ كما ذهب إليه بعض الناس وعدوه في أسمائه صلى الله عليه وسلم، وإنما المزمل
377
اسم مشتق من حاله التي كان عليها حين الخطاب، وكذلك المدثر.
وفي خطابه ﷺ بهذا الاسم فائدتان (إحداهما) الملاطفة فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها " كقول النبي ﷺ لعلي حين غاضب فاطمة رضي الله عنها فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب فقال له: " قم أبا تراب "، إشعاراً له بأنه غير عاتب عليه وملاطف له. وكذلك قوله ﷺ لحذيفة " قم يا نومان وكان نائماً " ملاطفة له وإشعاراً بترك العتب، فقول الله تعالى لمحمد ﷺ (يا أيها المزمل) فيه تأنيس له وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب عليه.
والفائدة الثانية التنبيه لكل متزمل راقد ليله أن يتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى، لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة، ذكره الخطيب.
378
(قم الليل) أي قم للصلاة في الليل الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر، وقيل أن معنى قم صل عَبّر به عنه واستعير له، واختلف هل كان هذا القيام الذي أمره به فرضاً عليه أو نفلاً فقيل الأمر للوجوب، وكان واجباً عليه وعلى أمته، بل وعلى سائر الأنبياء قبله، وأول ما فرض عليه ﷺ بعد الدعاء والإنذار قيام الليل، قال القرطبي؛ والدلائل تقوي أن قيامه كان فرضاً عليه صلى الله عليه وآله وسلم وحده أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء أو عليه وعلى أمته، ثلاثة أقوال: الأول قول سعيد بن جبير لتوجه الخطاب له، والثاني قول ابن عباس، والثالث قول عائشة وابن عباس أيضاًً. كذا في الخطيب والخازن وغيرهما.
والعامة على كسر الميم لالتقاء الساكنين، وأبو السماك يضمها إتباعاً لحركة القاف، وقرىء بفتحها طلباً للخفة، قال أبو الفتح والغرض الهرب من التقاء الساكنين فبأي حركة حرك الأول حصل الغرض.
378
قلت إلا أن الأصل الكسر لدليل ذكره النحويون، والليل ظرف للقيام وإن استغرقه الحدث الواقع فيه، هذا قول البصريين، وأما الكوفيون فيجعلون هذا النوع مفعولاً به.
أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم عن سعد بن هشام قال قلت لعائشة " أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت ألست تقرأ هذه السورة (يا أيها المزمل) قلت بلى، قالت فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام رسول الله ﷺ وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً. ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة، وصار قيام الليل تطوعاً من بعد فرضه " وقد روي هذا الحديث عنها من طرق.
وعن ابن عباس قال: " لما نزل أول المزمل كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها وكان بين أولها وآخرها نحو من سنة " أخرجه البيهقي والحاكم وصححه والطبراني وغيرهم، وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: " لما نزلت يا أيها المزمل قاموا حولاً حتى ورمت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت (فاقرأوا ما تيسر منه) فاستراح الناس " وأخرج أبو داود في ناسخه وابن نصر وابن مردويه والبيهقي في سننه من طريق عكرمة عن ابن عباس " في الآية قال نسختها الآية التي فيها (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ".
وقوله (إلا قليلاً) استثناء من الليل أي صل الليل كله إلا يسيراً منه، والقليل من الشيء هو ما دون النصف، وقيل ما دون السدس، وقيل ما دون العشر، وقال مقاتل والكلبي المراد بالقليل هنا الثلث وقد أغنانا عن هذا الاختلاف قوله
379
(نصفه) قال الزجاج هو بدل من الليل والاستثناء هو من النصف.
(أو انقص منه قليلاً) الضمير في منه وعليه عائد إلى النصف والمعنى قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلاً إلى الثلث.
(أو زد عليه) قليلاً إلى الثلثين فكأنه قال قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه. وأو للتخيير بين قيام النصف وقيام الثلث الذي هو مفاد قوله أو انقص منه قليلاً، وقيام الثلثين الذي هو مفاد أو زد عليه، وقيل إن نصفه بدل من قوله قليلاً فيكون المعنى قم الليل إلا نصفه أو أقل من نصفه أو أكثر من نصفه، وقال المحلي بدل من قليلاً، وقلته بالنظر إلى الكل انتهى.
قال الحفناوي قوله وقلته الخ جواب عما يقال أن النصف مساو للنصف الآخر فكيف يوصف بالقلة ومحصل الجواب أنه يوصف بها بالنظر لكل الليل لا بالنظر للنصف الآخر منه قال الأخفش نصفه أي أو نصفه كما يقال أعطه درهماً درهمين ثلاثة يريد أو درهمين أو ثلاثة، قال الواحدي قال المفسرون أو انقص من النصف قليلاً إلى الثلث أو زد على النصف إلى الثلثين جعل له سعة في مدة قيامه في الليل، وخيره في هذه الساعات للقيام، فكان النبي ﷺ وطائفة معه يقومون على هذه المقادير، وشق ذلك عليهم فكان الرجل لا يدري كم صلى أو كم بقي من الليل، فكان يقوم الليل كله حتى خفف الله عنهم ورحمهم ونسخ وجوب قيام الليل في حقه وحقنا.
وقيل الضميران في (منه وعليه) راجعان للأقل من النصف كأنه قال قم أقل من نصفه أو قم أنقص من ذلك الأقل، أو أزيد منه قليلاً، وهو بعيد جداً: والظاهر أن نصفه بدل من قليلاً، والضميران راجعان إلى النصف المبدل من قليلاً.
واختلف في الناسخ لهذا الأمر فقيل هو قوله (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه) إلى آخر السورة كما تقدم وقيل هو قوله (علم أن لن تحصوه) الخ وقيل هو قوله (علم أن سيكون منكم مرضى) الخ وقيل هو منسوخ بالصلوات الخمس. وبهذا قال مقاتل والشافعي وابن كيسان، وقيل هو قوله:
(فاقرؤا ما تيسر منه) وليس في القرآن سورة نسخ آخرها أولها إلا هذه
380
السورة، وكان بين نزول أولها المنسوخ وآخرها الناسخ سنة، وقيل ستة عشر شهراً، وهذا على القول بأن السورة كلها مكية.
وأما على القول بأن قوله (إن ربك يعلم) مدني فبين الناسخ والمنسوخ عشر سنين لما علمت أن نزول المنسوخ كان في أول الوحي بمكة، ونزول الناسخ كان بالمدينة، وأقل ما يتحقق بينهما عشر سنين، وقد قال به سعيد بن جبير، وقيل نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد حتى نسخ بالمدينة، وقيل نسخ أولها بآخرها ثم نسخ آخرها بإيجاب الصلوات الخمس، وذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو قدر حلب شاة.
(ورتل القرآن ترتيلاً) أي اقرأه على مهل مع تدبر، وقيل بين وفصل من الثغر المرتل أي المفلج الأسنان، وكلام رتل بالتحريك أي مرتل، وثغر رتل أيضاًً إذا كان مستوي البنيان، أو اقرأ على تؤدة بتبيين الحروف وحفظ الوقوف وإشباع الحركات، بحيث يتمكن السامع من عدها، وقال الضحاك: اقرأه حرفاً حرفاً، وقال الزجاج: هو أن يبين جميع الحروف ويوفي حقها من الإشباع، وأصل الترتيل التنضيد والتنسيق وحسن النظام، وقال ابن عباس: بينه تبيينا، وتأكيد الفعل بالمصدر يدل على المبالغة، وإيجاب الأمر على وجه لا يلتبس فيه بعض الحروف ببعض، ولا ينقص من النطق بالحرف من مخرجه المعلوم، مع استيفاء حركته المعتبرة وأنه لا بد منه للقارىء.
عن قتادة قال سئل أنس " كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال كانت مداً ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم " أخرجه البخاري (١)، وعن أم سلمة وقد سألها يعلى بن
_________
(١) قال ابن كثير: وقوله تعالى: (ورتل القرآن ترتيلاً) أي: اقرأه على تمهُّل فإنه يكون عوناً على فهم القرآن وتدبُّره، قال، وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه، قالت عائشة رضي الله عنها: كان يقرأ السورة فيرتِّلها حتى تكون أطول من أطوال منها. وفي " صحيح البخاري " عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله ﷺ فقال: كانت مَدَّاًً، ثم قرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) يمد (بسم الله) ويمد (الرحمن) ويمد (الرحيم). ثم قال: وروى الإمام
-[٣٨٢]-
أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال: " يقال لقارىء القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها " ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
381
مالك عن قراءة رسول الله ﷺ وصلاته، فقالت " ما لكم وصلاته، ثم نعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفاً حرفاً " (١) أخرجه النسائي.
وللترمذي قالت " كان رسول الله ﷺ يقطع قراءته يقول الحمد لله رب العالمين، ثم يقف، الرحمن الرحيم، ثم يقف، وكان يقول مالك يوم الدين ثم يقف " وفي رواية أبي داود قالت " قراءة رسول الله ﷺ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين؛ الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، يقطع قراءته آية آية ".
وعن عبد الله بن مغفل قال: " رأيت رسول الله ﷺ يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة الفتح فرجع في قراءته " أخرجه الشيخان. وعن جابر قال: " خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نقرأ القرآن وفينا العربي والعجمي فقال اقرأوا وكل حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه " أخرجه أبو داود، وزاد غيره في رواية " لا يجاوز تراقيهم ".
وعن ابن مسعود قال لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هَذّ الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هَمُّ أحدكم آخر السورة، وفي الباب أحاديث.
والمقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب عند القراءة لا مجرد إخراج الحروف من الحلقوم بتعويج الوجه والفم وألحان الغناء كما يعتاده قراء هذا الزمان من أهل مصر وغيره، في مكة المكرمة وغيرها، بل هو بدعة أحدثها البطالون الأكالون، والحمقاء الجاهلون بالشرائع وأدلتها الصادقة، وليس هذا بأول قارورة كسرت في الإسلام.
_________
(١) زاد المسير ٨/ ٣٨٩.
382
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (٥) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (٧)
وقوله
383
(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) اعتراض بين الأمر بقيام الليل وبين تعليله بقوله الآتي (إن ناشئة الليل) والقصد بهذا الاعتراض تسهيل ما كلفه من القيام كأنه يقول إن قيام الليل وإن كان عليك فيه مشقة لكنه أسهل من غيره من التكاليف فإنا سنلقي الخ. وقال السمين هذه الجملة مستأنفة، وقال الزمخشري هذه الآية اعتراض ويعني بالاعتراض من حيث المعنى لا من حيث الصناعة، والمعنى سنوحي وسننزل إليك القرآن وهو قول ثقيل، وكلام عظيم ذو خطر وعظمة، لأنه كلام رب العالمين وكل شيء له خطر ومقدار فهو ثقيل.
قال قتادة: ثقيل والله فرائضه وحدوده، وقال مجاهد: حلاله وحرامه، وقال الحسن: العمل به، وقال أبو العالية: ثقيلاً بالوعد والوعيد والحلال والحرام، وقال محمد بن كعب: ثقيل على المنافقين والكفار بما فيها من الاحتجاج عليهم والبيان لضلالهم وهتك أسرارهم، وبطلان أديانهم وسب آلهتهم، وقال السدي: ثقيل بمعنى كريم من قولهم فلان ثقل عليّ أي كرم عليّ، قال الفراء: ثقيلاً أي رزيناً ليس بالخفيف السفساف، لأنه كلام ربنا، وقال الحسين بن الفضل: ثقيلاً لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق، ونفس مزينة بالتوحيد، وقيل هو خفيف على اللسان بالتلاوة ثقيل في الميزان بالثواب يوم القيامة، وقيل ثقيل أي ثابت كثبوت، الثقيل في محله، ومعناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً، وقيل وصفه بكونه ثقيلاً حقيقة لما ثبت " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها (١) على الأرض فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه " أخرجه أحمد
_________
(١) الجران: باطن العنق.
383
وعبد بن حميد والحاكم وصححه عن عائشة (١).
وقيل ثقيلاً بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ومعانيه بالكلية، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته، والفقهاء بحثوا عن أحكامه وكذا أهل اللغة والنحو والمعاني والبيان، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه بفوائد ما وصل إليها المتقدمون، فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاستقلال بحمله فصار كالجبل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله، والأولى أن جميع هذه المعاني فيه، وقال القشيري القول الثقيل هو قول لا إله إلا الله لأنه ورد في الخبر " لا إله إلا الله خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان ".
_________
(١) رواه البخاري في " صحيحه " عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليَّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلّمني فأعي ما يقول: قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي ﷺ في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه يتفصَّد عرقاً.
384
(إن ناشئة الليل) أي ساعاته وأوقاته، لأنها تنشأ أولاً فأولاً، يقال نشأ الشيء ينشأ إذا ابتدىء وأقبل شيئاًً بعد شيء فهو ناشىء وأنشأه الله فنشأ، ومنه نشأت السحاب إذا بدأت، فناشئة فاعلة من نشأت تنشىء فهي ناشئة، قال الزجاج: ناشئة الليل كل ما نشأ منه أي حدث فهو ناشئة، قال الواحدي: قال المفسرون الليل كله ناشئة، والمراد أن ساعات الليل الناشئة فاكتفى بالوصف عن الاسم الموصوف، وقيل إن ناشئة الليل هي النفس التي تنشأ من مضجعها للعبادة أي تنهض، من نشأ من مكانه إذا نهض، وقيل إنما يقال لقيام الليل ناشئة إذا كان بعد نوم، فلو لم يتقدمه نوم لم يكن ناشئة، وقيل ما ينشأ فيه من الطاعات.
قال ابن الأعرابي إذا نمت من أول الليل ثم قمت فتلك المنشأة والنشأة ومنه ناشئة الليل قيل وناشئة الليل هي ما بين المغرب والعشاء لأن معنى نشأ ابتدأ وكان زين العابدين علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما يصلي بين المغرب والعشاء ويقول: هذه ناشئة الليل، وقال عكرمة وعطاء: هي بدو
384
الليل، وقال مجاهد وغيره: هي في الليل كله لأنه ينشأ بعد النهار، واختار هذا مالك، وقال ابن كيسان هي القيام من آخر الليل.
وقال في الصحاح: ناشئة الليل أول ساعاته، وقال الحسن: هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح، وقال ابن عباس: هي قيام الليل بلسان الحبشة إذا قام الرجل قالوا نشأ، قال الشيخ فعلى هذا هي جمع ناشىء أي قائم (قلت) يعني أنها صفة لشيء يفهم الجمع أي طائفة أو فرقة ناشئة وإلا ففاعل لا يجمع على فاعلة.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: هي أوله، وعنه قال الليل كله ناشئة، وعن ابن مسعود قال ناشئة الليل بالحبشية قيام الليل، وعن أنس بن مالك: قال هي ما بين المغرب والعشاء.
(هي أشد وطأً) قرأ الجمهور بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة واختارها أبو حاتم وقرىء بكسر الواو وفتح الطاء ممدودة واختار هذه الفراء وأبو عبيدة، فالمعنى على الأولى أن الصلاة ناشئة الليل أثقل على المصلي من صلاة النهار، لأن الليل للنوم، قال ابن قتيبة المعنى أنها أثقل على المصلي من ساعات النهار من قول العرب اشتدت على القوم وطأة السلطان إذا ثقل عليهم ما يلزمهم منه، ومنه قوله صلى الله عليه عليه وآله وسلم " اللهم اشدد وطأتك على مضر " (١).
والمعنى على القراءة الثانية أنها أشد مواطأة أي موافقة السمع للقلب على تفهم القرآن من قولهم واطأت فلاناً على كذا مواطأة ووطاء إذا وافقته عليه، قال مجاهد وابن أبي مليكة: أي أشد موافقة بين القلب والسمع والبصر واللسان، لانقطاع الأصوات والحركات فيها، ومنه (ليواطئوا عدة ما حرم الله) أي ليوافقوا، وقال الأخفش: أشد قياماً، وقال الفراء: أي أثبت للعمل وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة، والليل وقت الفراغ عن الاشتغال
_________
(١) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة القنوت في صلاة الصبح.
385
بالمعاش، فعبادته تدوم ولا تنقطع، وقال الكلبي أشد نشاطاً.
(وأقوم قيلاً) أي أبين قولاً، وأسد مقالاً، وأثبت قراءة وأصح قولاً من النهار لحضور القلب فيها وهدو الأصوات وسكونها، وأشد استقامة واستمراراً على الصواب، لأن الأصوات فيها هادئة والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلي ما يقرأه، قال قتادة ومجاهد: أي أصوب للقراءة وأثبت للقول لأنه زمان التفهم، قال أبو علي الفارسي: أَقوم قيلاً أي أشد استقامة بفراغ البال بالليل، قال الكلبي: أي أبين قولاً بالقرآن، وقال عكرمة: أي أتم نشاطاً وإخلاصاً وأكثر بركة، وقال ابن زيد: أجدر أن يتفقه في القرآن وقيل أعجل إجابة للدعاء.
386
(إن لك في النهار سبحاً طويلاً) قرأ الجمهور بالحاء المهملة أي تصرفاً في حوائجك وأشغالك وإقبالاً وإدباراً وذهاباً ومجيئاً، والسبح الجري والدوران ومنه السباحة في الماء لتقلبه بيديه ورجليه، وفرس سابح أي شديد الجري، وقد استعير من السباحة في الماء للتصرف في الحوائج، وقيل السبح الفراغ أي أن لك فراغاً بالنهار للحاجات فصل بالليل.
وقال ابن عباس: السبح الفراغ للحاجة والنوم، قال ابن قتيبة: أي تصرفاً وإقبالاً وإدباراً في حوائجك وأشغالك وقيل فراغاً وسعة لنومك وراحتك، وقال الخليل: سبحاً أي نوماً والسبح التمدد، وقال الزجاج: المعنى إن فاتك في الليل شيء فلك في النهار فراغ للاستدراك.
وقرىء سبخاً بالخاء المعجمة قيل ومعنى هذه القراءة الخفة والسعة والاستراحة، قال الأصمعي يقال سبخ الله الحمى أي خففها، وسبخ الحر فتر وخف ومنه قول الشاعر.
فسبخ عليك الهم واعلم بأنه إذا قدر الرحمن شيئاًً فكائن
أي خفف عنك الهم، والتسبيخ من القطن ما ينسبخ بعد الندف، وقال ثعلب السبخ بالخاء المعجمة التردد والاضطراب، والسبخ السكون، وقال أبو عمر السبخ النوم والفراغ.
386
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (٩) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (١١) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (١٢) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (١٥) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (١٦)
387
(واذكر اسم ربك) أي ادعه بأسمائه الحسنى، وقيل اقرأ باسم ربك في ابتداء صلاتك وقيل اذكر اسم ربك في وعده ووعيده لتوفر على طاعته وتبعد عن معصيته، وقيل المعنى دم على ذكر ربك وتلاوة القرآن ودراسة العلم ليلاً ونهاراً، واستكثر من ذلك على أي وجه كان من تسبيح وتهليل وتحميد وصلاة وقراءة قرآن، قاله القاضي كالكشاف، وقال الكلبي: المعنى صل لربك وقال المحلي: أي قل بسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء قراءتك انتهى تبع فيه سهلاً وزاد عليه سهل توصلك ببركة قراءتها إلى ربك وتقطعك عما سواه، ذكره الكرخي، ومعنى في ابتداء قراءتك سواء قرأت في الصلاة أو في خارجها، وهذا إذا قرأ من أول سورة، وأما إذا قرأ من أثناء سورة فإنه إن كان في غير الصلاة سن له أن يبسمل، وإن كان فيها لم تسن له البسملة لأن قراءة السورة بعد الفاتحة تعد قراءة واحدة فتأمل.
(وتبتل تبتيلاً) أي انقطع إليه انقطاعاً بالإشتغال لعبادته، والتبتل الانقطاع يقال تبتلت الشيء أي قطعته وميزته عن غيره، وصدقة بتلة أي منقطعة من مال صاحبها، ويقال للراهب تبتل لانقطاعه عن الناس، ووضع تبتيلاً مكان تبتلاً لرعاية الفواصل، قال الواحدي والتبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله، وقيل المعنى أخلص إليه إخلاصاً، وقيل توكل عليه توكلاً.
(رب المشرق والمغرب) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وابن عامر بجر (رب) على النعت لربك أو البدل منه أو البيان له، وقرأ الباقون برفعه على أنه مبتدأ وخبره.
(لا إله إلا هو) أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو رب الخ وقرأ زيد بن علي بنصبه على المدح، وقرأ الجمهور المشرق والمغرب مفردين، وقرأ ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم المشارق والمغارب على الجمع، وقد قدمنا تفسير المشرق والمغرب والمشرقين والمغربين والمشارق والمغارب.
(فاتخذه وكيلاً) أي إذا عرفت أنه المختص بالربوبية فاتخذه قائماً بأمورك وعول عليه في جميعها، وقيل كفيلاً بما وعدك من الجزاء والنصر، وفائدة الفاء أن لا تلبث بعد أن عرفت في تفويض الأمور إلى الواحد القهار إذ لا عذر لك في الانتظار بعد الإقرار.
قال البقاعي وليس ذلك بأن يترك الإنسان كل عمل فإن ذلك طمع فارغ بل بالإجمال في طلب كل ما ندب الإنسان إلى طلبه ليكون متوكلاً في السبب، منتظراً المسبب، فلا يهمل الأسباب ويتركها طامعاً في المسببات، لأنه حينئذ يكون كمن يطلب الولد من غير زوجة، وهو مخالف لحكمة هذه الدار المبنية على الأسباب.
(واصبر على ما يقولون) فيَّ من الصاحبة والولد، وفيك من الساحر والشاعر، والأذى والسب والاستهزاء ولا تجزع من ذلك (واهجرهم هجراً جميلاً) أي لا تتعرض لهم ولا تشتغل بمكافآتهم وتجانبهم وتداريهم وكل أمرهم إلى الله فالله يكفيكهم، وقيل الهجر الجميل الذي لا جزع فيه. وهذا كان قبل الأمر بالقتال.
(وذرني والمكذبين) أي دعني وإياهم ولا تهتم بهم، فإني أكفيك أمرهم وأنتقم لك منهم، وقيل نزلت في المطعميين يوم بدر، وهم عشرة،
388
وقد تقدم ذكرهم، وقال يحيي بن سلام: هم بنو المغيرة، وقال سعيد بن جبير: أخبرت أنهم إثنا عشر.
(أولي النعمة) أي أرباب الغنى والسعة والترفه واللذة في الدنيا، والنعمة بالفتح التنعم بالكسر الإنعام وبالضم المسرة.
(ومهلهم قليلاً) أي تمهيلاً قليلاً، على أنه نعت لمصدر محذوف، أو زماناً قليلاً على أنه صفة لزمان محذوف، والمعنى أمهلهم إلى انقضاء آجالهم، وقيل إلى نزول عقوبة الدنيا بهم كيوم بدر، قالت عائشة " لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيراً حتى كانت وقعة بدر " وقيل إلى يوم القيامة، والأول أولى لقوله:
389
(إن لدينا أنكالاً) وما بعده فإنه وعيد لهم بعذاب الآخرة، والأنكال جمع نكل وهو القيد كما قال الحسن ومجاهد وغيرهما، قال ابن مسعود: أنكالاً قيوداً، وقال الكلبي: الأنكال: الأغلال من حديد، والأول أعرف في اللغة، وقال مقاتل: هي أنواع العذاب الشديد، وقال أبو عمران الجوني هي قيود لا تحل.
(وجحيماً) أي ناراً مؤججة محرقة
(وطعاماً ذا غصة) أي لا يسوغ في الحلق بل ينشب فيه فلا ينزل ولا يخرج، قال ابن عباس: هو شجرة الزقوم، وبه قال مجاهد، وقال الزجاج: هو الضريع كما قال تعالى:
(ليس لهم طعام إلا من ضريع) وقال: هو شوك العوسج، قال عكرمة: هو شوك يأخذ بالحلق لا يدخل ولا يخرج والغصة الشجى في الحلق وهو ما ينشب فيه من عظم أو غيره وجمعها غصص (وعذاباً أليماً) أي ونوعاً آخر من العذاب غير ما ذكر وجعاً يخلص وجعه إلى القلب.
(يوم ترجف الأرض والجبال) انتصاب الظرف إما بذرني أو بالاستقرار المتعلق به لدينا أو هو صفة لعذاب فيتعلق بمحذوف أي عذاباً واقعاً يوم ترجف، أو متعلق بأليمٍ، قرأ الجمهور ترجف بفتح التاء وضم الجيم مبنياً
389
للفاعل، وقرىء مبنياً للمفعول مأخوذ أرجفها، والمعنى تتحرك وتتزلزل وتضطرب بمن عليها وهو يوم القيامة، والرجفة الزلزلة والرعدة الشديدة.
(وكانت الجبال) أي وتكون الجبال التي هي مراسي الأرض وأوتادها (كثيباً مهيلاً) وإنما عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه، والكثيب الرمل المجتمع من كثب الشيء إذا جمعه، كأنه فعيل بمعنى مفعول، والمهيل الذي يمر تحت الأرجل، قال الواحدي: أي رملاً سائلاً يقال لكل شيء أرسلته إرسالاً من تراب أو طعام أهلته هيلاً، قال الضحاك والكلبي: المهيل الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها، وإذا أخذت أسفله انهال. وقال ابن عباس: المهيل الذي إذا أخذت منه شيئاًً تبعك آخره، وعنه قال المهيل الرمل السائل.
390
(إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم) الخطاب لأهل مكة أو لكفار قريش أو لجميع الكفار ففيه التفات من الغيبة في قوله (واصبر على ما يقولون) وقوله: (والمكذبين) والرسول محمد رسول الله ﷺ والمعنى يشهد عليكم يوم القيامة بأعمالكم.
(كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً) يعني موسى
(فعصى فرعون الرسول) الذي أرسلناه إليه وكذبه ولم يؤمن بما جاء به، والنكرة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول، وإنما خص موسى وفرعون بالذكر لأن خبرهما كان منتشراً بين أهل مكة، لأنهم كانوا جيران اليهود، والمعنى إنا أرسلنا إليكم رسولاً فعصيتموه كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصاه.
(فأخذناه أخذاً وبيلاً) أي شديداً ثقيلاً غليظاً، ومنه قيل للمطر وابل، وقال الأخفش شديداً، وبه قال ابن عباس، والمعنى متقارب، ومنه طعام وبيل إذا كان لا يستمرأ.
390
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (١٧) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (١٨)
391
(فكيف تتقون) أي فكيف تقون أنفسكم وتوجدون الوقاية التي تقي أنفسكم، والمعنى لا سبيل لكم إلى التقوى إذا رأيتم القيامة، وقيل معناه فكيف تتقون العذاب يوم القيامة (إن كفرتم) أي إذا بقيتم على كفركم في الدنيا (يوماً) أي عذاب يوم.
(يجعل الولدان شيباً) لشدة هوله أي يصير الولدان شيوخاً شمطاً، والشيب جمع أشيب، وهذا يجوز أن يكون حقيقة وأنهم يصيرون كذلك، أو تمثيلاً لأن من شاهد الهول العظيم تقاصرت قواه وضعفت أعضاؤه وصار كالشيخ في الضعف وسقوط القوة، قال الشاعر:
والهم يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبى ويهرم
قال في المصباح والشيب ابيضاض الشعر المسود وشيب الحزن رأسه وبرأسه بالتشديد وأشابه بالألف وأشاب به فشاب في المطاوع انتهى. وفي القاموس الشيب الشعر وبياضه كالمشيب وهو أشيب، ولا فعلاء له أي لا يقال امرأة شيباء كما في المصباح، وقومٌ شِيبٌ وَشُيُبٌ بضمتين، وقيل يحتمل أن يكون المراد وصف ذلك اليوم بالطول وأن الأطفال يبلغون منه الشيخوخة والشيب، والأول أولى. وفي هذا توبيخ لهم شديد وتقريع عظيم.
قال الحسن أي كيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إذ كفرتم وكذا قرأ ابن مسعود وعطية، ويوماً مفعول به لتتقون، قال ابن الأنباري: ومنهم من نصب اليوم بكفرتم، وهذا قبيح، والولدان الصبيان.
وعن ابن عباس " أن رسول الله ﷺ قرأ يجعل الولدان شيباً قال ذلك يوم القيامة. وذلك يوم يقول الله لآدم قم فابعث من ذريتك بعثاً إلى النار، قال من كم يا رب؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين
391
وينجو واحد، فاشتد ذلك على المسلمين فقال حين أبصر ذلك في وجوههم إن بني آدم كثير، وأن يأجوج ومأجوج من ولد آدم إنه يموت رجل منهم حتى يرثه لصلبه ألف رجل ففيهم وفي أشباههم جنة لكم " أخرجه الطبراني وابن مردويه، وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود بأخصر منه.
ثم زاد سبحانه في وصف ذلك اليوم بالشدة فقال:
392
(السماء منفطر به) أي منشقة به لشدته وعظيم هوله، فما ظنك بغيرها من الخلائق، والجملة صفة أخرى ليوم والباء سببية، وجوز الزمخشري أن تكون للاستعانة فإنه قال والباء في " به " مثلها في قولك فطرت العود بالقدوم فانفطر به، وقال القرطبي إنها بمعنى " في " أي منفطر فيه وهو ظاهر، وقيل بمعنى اللام أي منفطر له، وإنما قال منفطر ولم يقل منفطرة لتنزيل السماء منزلة شيء لكونها قد تغيرت ولم يبق منها إلا ما يعبر عنه بالشيء.
وقال أبو عمرو بن العلاء: لم يقل منفطرة لأن مجازها السقف، فيكون هذا كما في قوله (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً) وقال الفراء: السماء تذكر وتؤنث، وقال أبو علي الفارسي: هو من باب الجراد المنتشر، والشجر الأخضر و (أعجاز نخل منقعر) وقال أيضاًً أي السماء ذات انفطار كقولهم امرأة مرضع، أي ذات إرضاع على طريق النسب. وانفطارها لنزول الملائكة قال:
(إذا السماء انفطرت) وقوله: (والسموات يتفطرن من فوقهن) وقيل منفطر به أي بالله والمراد بأمره، والأول أولى، وقال ابن عباس: منفطر به ممتلئة بلسان الحبشة وعنه قال مثقلة موقرة، وعنه قال يعني تشقق السماء.
(وكان وعده مفعولاً) أي كان وعد الله بما وعد به من البعث والحساب وغير ذلك كائناً لا محالة، والمصدر مضاف إلى فاعله، أو وكان وعد اليوم مفعولاً فالمصدر مضاف إلى مفعوله، ومعنى مفعولاً أنه مقضي نافذ لا يرد على حد (من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله) قال مقاتل كان وعده أن يظهر دينه على الدين كله.
392
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (١٩) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠)
393
(إن هذه) أي ما تقدم من الآيات (تذكرة) أي موعظة، وقيل الإشارة إلى جميع آيات القرآن لا إلى ما في هذه السورة فقط (فمن شاء) النجاة (اتخذ) بالطاعة التي هي أهم أنواعها التوحيد (إلى ربه سبيلاً) أي طريقاً توصله إلى الجنة، وقال القرطبي أي من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك إلى ربه سبيلاً أي طريقاً إلى رضاه ورحمته فليرغب فقد أمكن له لأنه أظهر له الحجج والدلائل.
(إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى) أي أقل، استعير له الأدنى لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الإحياز، وإذا بعدت كثر ذلك (من ثلثي الليل ونصفه) معطوف على أدنى، وقوله: (وثلثه) معطوف على نصفه، والمعنى أن الله يعلم أن رسوله ﷺ يقوم أقل من ثلثي الليل ويقوم نصفه ويقوم ثلثه وبالنصب قرأ ابن كثير والكوفيون، وقرأ الجمهور ونصفه وثلثه بالجر عطفاً على ثلثي الليل، والمعنى أن الله يعلم أن رسوله يقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من نصفه وأقل من ثلثه، واختار قراءة الجمهور أبو عبيد وأبو حاتم لقوله الآتي:
(علم أن لن تحصوه) فكيف يقومون نصفه وثلثه وهم لا يحصونه، وقال الفراء النصب أشد بالصواب، لأنه قال أقل من ثلثي الليل ثم فسر نفس القلة.
393
(وطائفة من الذين معك) معطوف على الضمير (تقوم) وجاز من غير تأكيد للفصل أي وتقوم ذلك القدر معك طائفة من أصحابك (والله يقدر الليل والنهار) أي يعلم مقاديرهما على حقائقها، ويختص بذلك دون غيره، وأنتم لا تعلمون ذلك على الحقيقة، قال عطاء يريد لا يفوته علم ما يفعلون أي أنه يعلم مقادير الليل والنهار فيعلم قدر الذي يقومونه من الليل والذي ينامون منه.
(علم أن لن تحصوه) أي لن تطيقوا علم مقاديرهما على الحقيقة، وفي أن ضمير شأن محذوف أي أنه وقيل المعنى لن تطيقوا قيام الليل، قال القرطبي والأول أصح، فإن قيام الليل ما فرض كله قط قال مقاتل وغيره لما نزل (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) شق ذلك عليهم وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطىء فانتفخت أقدامهم وامْتُقِعَتْ (١) ألوانهم، فرحمهم الله وخفف عنهم فقال (علم أن لن تحصوه) لأنكم إن زدتم ثقل عليكم واحتجتم إلى تكلف ما ليس فرضاً، وإن نقصتم شق ذلك عليكم.
(فتاب عليكم) أي فعاد عليكم بالعفو ورخص لكم في ترك القيام، وقيل أسقط عنكم فرض القيام إذ عجزتم، وأصل التوبة الرجوع كما تقدم، فالمعنى رجع بكم من التثقيل إلى التخفيف، ومن العسر إلى اليسر، قال المحلي رجع بكم إلى التخفيف، قال الحفناوي فالمراد التوبة اللغوية لا التوبة من الذنب والمراد بالتخفيف الذي رجع بهم إليه ما كان قبل وجوب القيام لكن الرجوع في الجملة لأنه قبل وجوب قيام الليل لم يكن عليهم قيام شيء منه، وفي هذا الرجوع والتخفيف وجوب جزء مطلق يصدق بركعتين.
(فاقرأوا ما تيسر من القرآن) بيان للبدل الذي وقع النسخ إليه أي فنسخ التقدير بالأجزاء الثلاثة إلى جزء مطلق من الليل، وسيأتي أن هذا الجزء نسخ أيضاًً بوجوب الصلوات الخمس، والمعنى فاقرأوا في الصلاة بالليل ما
_________
(١) امتُقِعَ لونه (بالبناء للمجهول) تغيَّر من حزن أو فزع أو مرض.
394
خف عليكم وتيسر لكم منه من غير أن ترقبوا وقتاً، قاله القرطبي ورجحه، قال الحسن هو ما يقرأ في صلاة المغرب والعشاء، وقال السدي: ما تيسر منه هو مائة آية، وقال الحسن أيضاًً: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن، وقال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين، وقال سعيد خمسون آية وعن ابن عباس مرفوعاً قال مائة آية أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه.
وعن قيس بن أبي حازم قال: " صليت خلف ابن عباس فقرأ في أول ركعة بالحمد لله رب العالمين وأول آية من البقرة ثم ركع فلما انصرفنا أقبل علينا فقال إن الله يقول فاقرأوا ما تيسر منه " أخرجه الدارقطني والبيهقي في سننه وحسناه، قال ابن كثير هذا حديث غريب جداً لم أره إلا في معجم الطبراني.
وعن أبي سعيد عند أحمد والبيهقي في سننه قال: " أمرنا رسول الله ﷺ أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر " وقد قدمنا في أول هذه السورة ما روي أن هذه الآيات المذكورة هنا هي الناسخة لوجوب قيام الليل وقيل المعنى فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، والصلاة تسمى قرآناً كقوله (وقرآن الفجر) قيل إن هذه الآية نسخت قيام الليل ونصفه والنقصان من النصف والزيادة عليه فيحتمل أن يكون ما تضمنته هذه الآية فرضاً ثابتاً ويحتمل أن يكون منسوخاً لقوله (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً).
قال الشافعي: الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله ﷺ تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس، وقد ذهب قوم إلى أن قيام الليل نسخ في حقه ﷺ وفي حق أمته، وقيل نسخ التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب وقيل أنه نسخ في حق الأمة وبقي فرضاً في حقه صلى الله عليه وسلم، والأول القول بنسخ قيام الليل على العموم في حقه ﷺ وفي حق
395
أمته، وليس في قوله: (فاقرأوا ما تيسر منه) ما يدل على بقاء شيء من الوجوب، لأنه إن كان المراد به القراءة من القرآن فقد وجدت في المغرب والعشاء وما يتبعهما من النوافل المؤكدة، وإن كان المراد به الصلاة من الليل فقد وجدت صلاة الليل بصلاة المغرب والعشاء وما يتبعهما من التطوع.
وأيضاًً الأحاديث الصحيحة المصرحة بقول السائل لرسول الله ﷺ هل على غيرها يعني الصلوات الخمس، فقال " لا إلا أن تطوع " تدل على عدم وجوب غيرها فارتفع بهذا وجوب قيام الليل وصلاته على الأمة كما ارتفع وجوب ذلك على النبي ﷺ بقوله:
(ومن الليل فتهجد به نافلة لك) قال الواحدي قال المفسرون في قوله: (فاقرأوا ما تيسر منه) كان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بالصلوات الخمس عن المؤمنين وثبت على النبي ﷺ خاصة، وذلك قوله (وأقيموا الصلاة).
قلت فيه نظر لأن وجوب الصلوات الخمس لا ينافي وجوب قيام الليل، وشرط الناسخ أن يكون حكمه منافياً ومعارضاً لحكم المنسوخ كوجوب العدة بحول مع وجوبها بأربعة أشهر فليتأمل، فالصواب أن يكون النسخ بغير ذلك كالحديث الذي قدمنا.
ثم ذكر سبحانه عذرهم فقال: (علم أن سيكون منكم مرضى) فلا يطيقون قيام الليل ويشق عليهم ذلك، وقال الحفناوي هذا استئناف مبين لحكمة أخرى، فالحكمة الأولى هي قوله: (علم أن لن تحصوه) والثانية هي قوله (علم أن سيكون) الخ.
(وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله) أي يسافرون فيها للتجارة والأرباح يطلبون من رزق الله ما يحتاجونه إليه في معاشهم فلا يطيقون قيام الليل (وآخرون يقاتلون في سبيل الله) يعني الغزاة والمجاهدين فلا يطيقون قيام الليل، قال النسفي: سوى سبحانه وتعالى في هذه الآية بين
396
درجة المجاهد والمكتسب، لأن كسب الحلال جهاد.
قال ابن مسعود أيما رجل جلب شيئاًً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء ثم قرأ هذه الآية، وقال ابن عمر ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليَّ من أن أموت بين شعبتي رحل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله، وقال طاوس الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله.
ثم لما ذكر سبحانه ههنا ثلاثة أسباب مقتضية للترخيص ورفع وجوب القيام فرفعه عن جميع الأمة لأجل هذه الأعذار التي تنوب بعضهم، ذكر ما يفعلونه بعد هذا الترخيص فقال (فاقرأوا ما تيسر منه) وقد تقدم تفسيره قريباً والتكرير للتأكيد (وأقيموا الصلاة) يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها (وآتوا الزكاة) يعني الواجبة في الأموال (١)، وقال الحرث العكلي صدقة الفطر لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك، وقيل صدقة التطوع، وقيل كل أفعال الخير.
(وأقرضوا الله قرضاً حسناً) أي أنفقوا ما سوى المفروض في سبل الخير من أموالكم إنفاقاً حسناً عن طيب قلب، وإنما أضافه إلى نفسه لئلا يمن على الفقير فيما يتصدق به عليه، وهذا لأن الفقير معاون له في تلك القربة فلا تكون له عليه منة، بل المنة للفقير عليه، وقد مضى تفسيره في سورة الحديد.
_________
(١) قال ابن كثير: وقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) أي: أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم، وآتوا الزكاة المفروضة، قال: وهذا يدل لمن قال: إن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النُّصُب والمخرَج لم تُبين إلا بالمدينة، والله أعلم. قال: وقد قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وغير واحد من السلف: إن هذه الآية نسخت الذي كان الله قد أوجبه على المسلْمين أولاً من قيام الليل، واختلفوا في المدة التي بينهما على أقوال، وقد ثبت في " الصحيحين " أن رسول الله ﷺ قال لذلك الرجل الذي سأل: ماذا فرض الله عليه من الصلوات؟: " خمس صلوات في اليوم والليلة " قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: " لا إلا أن تطوع ".
397
قال زيد بن أسلم القرض الحسن الإنفاق على الأهل وقيل الإنفاق من الحلال بالإخلاص والصرف إلى المستحق، وقيل النفقة في الجهاد، وقيل هو إخراج الزكاة المفترضة على وجه حسن فيكون تفسيراً لقوله: (وآتوا الزكاة) والأول أولى لقوله (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) فإن ظاهره العموم أي أيّ خير كان مما ذكر ومما لم يذكر.
(هو خيراً وأعظم أجراً) أي أجزل ثواباً مما تؤخرونه إلى عند الموت أو توصون به ليخرج بعد موتكم، وانتصاب خيراً على أنه ثاني مفعولي تجدوه وضمير هو ضمير فصل وبالنصب قرأ الجمهور، وقرىء بالرفع على أنه خبر هو، والجملة في محل نصب على أنها ثاني مفعولي تجدوه، قال أبو زيد وهي لغة تميم يرفعون ما بعد ضمير الفصل، وقرأ الجمهور أيضاًً أعظم بالنصب عطفاً على (خيراً) وقرىء بالرفع مثل خير وانتصاب أجراً على التمييز.
(واستغفروا الله) أي اطلبوا منه المغفرة لذنوبكم في مجامع أحوالكم فإنكم لا تخلون من ذنوب تقترفونها (إن الله غفور رحيم) أي كثير المغفرة لمن استغفره كثير الرحمة لمن استرحمه، ويستر على أهل الذنب والتقصير، ويخفف عن أهل الجهد والتوفير، وهو على ما يشاء قدير (١).
_________
(١) قال ابن جرير الطبري في تتمة الآية من آخر السورة (واستغفروا الله) يقول تعالى ذكره: سلوا الله غفران ذنوبكم، يصفح لكم عنها (إن الله غفور رحيم) يقول: إن الله ذو مغفرة لذنوب من تاب من عباده من ذنوبه، وذو رحمة أن يعاقبهم عليها من بعد توبتهم منها.
398
سورة المدثر
هي خمس أو ست وخمسون آية وهي مكيّة في قول الجميع، قال ابن عباس نزلت بمكة، وعن ابن الزبير مثله.
399

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١)
قال الواحدي قال المفسرون لما بدىء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي أتاه جبريل فرآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على سرير بين السماء والأرض كالنور المتلألىء ففزع ووقع مغشياً عليه، فلما أفاق دخل على خديجة ودعا بماء فصبه عليه، وقال دثروني، فدثروه بقطيفة فقال
401
Icon