تفسير سورة الأنفال

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحدادي اليمني .

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ ﴾ ؛ أي عن الغَنَائِم، ﴿ قُلِ الأَنفَالُ ﴾ ؛ الغنائمُ ؛ ﴿ للَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ ؛ الإضافةُ للغنائمِ إلى اللهِ على جهة التشريفِ، والإضافةُ إلى الرسولِ لأنه كان بيانُ حُكمِها وتدبيرها إليه ؛ لأن الغنائمَ كانت كلُّها لهُ كما قال ﷺ في وبَرَةٍ أخَذهَا سِنَامَ بَعِيرٍ مِنَ الْفَيْءِ :" وَاللهِ مَا يَحِلُّ لِي مِنْ فَيْئِكُمْ إلاَّ الْخُمْسُ، وَالْخُمْسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ ".
وَقِيْلَ : لِما سألوه عن الغنائمِ ؛ لأنَّها كانت حرَاماً على مَن قبلهم، كما قال عليه السلام :" لَمْ تُحَلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّؤُوسِ قَبْلَكُمْ، كَانَتْ تَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُهَا " وإنما سُميت الغنائمُ أنْفَالاً ؛ لأن الأنفالَ جمعُ النَّفْلِ، والنفلُ الزِّيَادَةُ، والأنفالُ مما زادَهُ الله هذه الأُمة من الحلالِ، والنافلةُ من الصَّلاةِ ما زادَ على الفرضِ، ويقال لولدِ الولد : نافلةٌ ؛ لأنه زيادةٌ على الولدِ.
وعن ابنِ عبَّاس في سبب نُزول هذه الآيةِ :(أنَّ النَّبِيّ ﷺ رَغَّبَ أصْحَابَهُ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ :" مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ كَذا، وَمَنْ جَاءَ بأَسيرٍ فَلَهُ كَذا " فَلَمَّا هَزَمَ اللهُ الْمُشْرِكِينَ سَارَعَ الشَّبَابُ، وأَقْبَلُواْ بالأُسَارَى، وَأَقَامَ الشُّيُوخُ عِنْدَ الرَّايَاتِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَخَافَةَ أنْ يَغْتَالَهُ أحَدٌ مَنَ الْمُشْرِكِينَ، فَوَقَعَ الاخْتِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ، فَقَالَ الَّذِينَ ثَبَتُواْ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ : قِيَامُنَا أفْضَلُ مِنْ ذهَابهِمْ، فَلَوْ أعْطَيْتَهُمْ مَا وَعَدْتَهُمْ لَمْ يَبْقَ لَنَا وَلاَ لِعَامَّةِ أصْحَابكَ شَيْءٌ. وقَالَ الآخَرُونَ : نَحْنُ قَتَلْنَا وَأَسْرْنَا. وَكَانَ ذلِكَ مُرَاجَعَةً بَيْنَهُمْ وَرَسُولُ اللهِ ﷺ سَاكِتٌ لاَ يَقُولُ شَيْئاً، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها يسألونَك عن الأنفال لِمَن هي، ويجوز أن يكون (عن) صِلَةً في الكلامِ، والمعنى يَسألونَكَ الأنفالَ التي وعدتَهم يومَ بدرٍ، قلِ الأنفالُ للهِ والرسولِ ليس لكم فيها شيءٌ. قال عُبادة بن الصَّامت :(لَمَّا اخْتَلَفْنَا فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ وَسَاءَتْ أخْلاَقُنَا، نَزَعَهَا اللهُ مِنْ أيْدِينَا وَجَعَلَهَا إلَى رَسُولِهِ وَقَسْمَهَا بَيْنَنَا عَلَى سواءٍ). وَقِيٍْلَ : إنَّ التَّنْفِيلَ المذكورَ في هذه الآيةِ لروايةٍ غَلَطٍ وقعَ من الرَّاوي ؛ لأنه لا يجوزُ على النبيِّ ﷺ خَلْفُ الوَعْدِ واسترجاعُ ما جعلَهُ لأحدٍ منهم، والصحيحُ : أنَّهم اختلَفُوا في الغنائمِ من غير تَنْفِيلٍ كان من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾ ؛ أي اتَّقُوا مَعاصِيَهُ واحذروا مخالفةَ أمرهِ وأمرَ رسولهِ، (وَأصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي كونوا مُجتَمعين على ما يأمرُكم به اللهُ ورسولهُ، ﴿ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ ؛ في الغنائمِ وغيرِها، ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾، كما تَزعمونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ ؛ معناهُ : إنَّ صِفَتَهم إذا ذُكر اللهُ عندَهم فَزِعَتْ قلوبُهم عند الموعظةِ. والوَجَلُ : هو الخوفُ مع شدَّة الْحُزْنِ، والمعنى ليس المؤمنُ الذي يخالِفُ اللهَ ورسولَهُ (إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ ﴾ ؛ أي قُرِئت عليهم آياتهُ بالأمرِ والنَّهي، ﴿ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً ﴾، يقيناً وبصيرةً بالفرائضِ مع تصدِيقهم باللهِ ﴿ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ ؛ أي يُفَوِّضُونَ أمُورَهم إلى اللهِ لا يَثِقُونَ بغيرهِ.
ثُمَّ زادَ في نعتِ المؤمنينَ فقال :﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ ﴾ ؛ أي يُقيمونَها بوضُوئِها ورُكوعِها وسُجودِها في مواقيتها، ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ ؛ أعطَيناهُم من الأموال، ﴿ يُنفِقُونَ ﴾، في طاعةِ اللهِ، وإنَّما خصَّ اللهُ الصلاةَ والزكاةَ ؛ لعِظَمِ شأنِهما وتأكيدِ أمرِهِمَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُوْلـائِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ﴾ ؛ أي أهلُ هذه الصِّفة الذين تقدَّم ذِكرُهم الذين استحَقُّوا هذه الصفةَ صِدْقاً، ﴿ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ ؛ أي لَهم فضائلُ ومنازل في الرِّفعةِ في الآخرةِ على قدر أعمالِهم، ﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ ؛ لذُنوبهم ؛ ﴿ وَرِزْقٌ ﴾ ؛ وثوابٌ حَسَنٌ، ﴿ كَرِيمٌ ﴾ ؛ في الجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ﴾ ؛ وذلك " أنَّ رسولَ الله ﷺ بَلَغَهُ أنَّ عِيرَ قُريشٍ أقبلَتْ من الشَّام، وفيهم أبو سُفيان ومَخْرَمَةُ بنُ نَوفَل في أربعينَ رجُلاً من قريش تُجَّاراً، فقالَ عليه السلام لأصحابهِ :" هَذِهِ عِيْرُ قُرَيْشٍ قَدْ أقْبَلَتْ، فَاخْرُجُواْ إلَيْهَا، فَلَعَلَّ اللهَ أنْ يَنْفِلُكُمُوهَا فَتَنْتَفِعُواْ بهَا عَلَى عَدُوِّكُمْ ". فيُعِدُوا على نواضِحِهم ومعهم فارسان لا غيرَ ؛ أحدُهما الزُّبير والآخر المقدادُ، فخَرجُوا بغيرِ قوَّة ولا سلاحٍ، وهم ثلاثُمائة وثلاثة عشرة رجلاً لا يَرَونَ أنه يكون قتالٌ.
فبلغَ ذلك أبو سُفيان، فأرسلَ من الطريقِ ضَمْضَمَ بنِ عمرٍو والغفاري يخبرُ أهلَ مكَّة أن مُحَمَّداً قد اعترضَ لِعيرِكم فأدْرِكُوها. فَنَزِلَ جبريلُ عليه السلام على رسول اللهِ ﷺ فأخبرَهُ بنَفَرِ المشركين يُريدون عِيرَهم، وقالَ :(يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللهَ يَعِدُكَ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إمَّا الْعِيرُ وَإمَّا الْعَسْكَرُ) فأخبرَ بذلك رسولُ الله ﷺ المسلمينَ فَسُرُّوا بذلكَ وأعجبَهم، فاستشارَ رسولُ الله ﷺ حين عرفَ أنَّهم لا يُخالِفونَهُ، فقالوا لهُ :(وَاللهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أنْ نَخُوضَ الْبَحْرَ لَخُضْنَاهُ) ثم أخبرَهم أن في المشركين كَثْرَةً فشُقَّ على بعضِهم وقالوا : ألاَ كُنْتَ أخْبَرْتَنَا أنَّهُ يَكونُ قِتَالٌ، فَنُخْرِجَ سِلاَحَنا وَقُوَّتَنَا، إنَّمَا خَرَجْنَا في ثِيَابنَا نُرِيدُ الْعِيْرَ. فَنزلَ اللهُ هذه الآيةَ وهم بالرَّوحاءِ.
ومعناها : امْضِ على وجهِكَ من الرَّوحَاء (كَمَا أخْرَجَكَ رَبُكَ مِنْ بَيْتِكَ) أي من المدينة (بالْحَقِّ) أي الأمرِ الواجب، ﴿ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴾ ؛ يعني كراهةَ الطبعِ للمشقَة لا كراهةَ الحقِّ، وَقِيْلَ معناهُ :﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ ﴾ ؛ متَكَرِّهِينَ له كما أخرجكَ ربُّك من بيتِكَ مع تكرُّهِكَ له، ومعنى يُجَادِلُونَكَ أي يُخاصِمُونَكَ بقولِهم : هلاَّ أعْلمتَنا القتالَ حتى كنا نستعدَّ له، ﴿ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ ﴾ ؛ أي بعد ما ظهرَ لهم أنكَ لا تصنعُ إ لا ما أمرَكَ ربُّكَ قَوْلُهُ تعَالَى :﴿ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ ﴾ ؛ أي هُم بما عليهم من شدَّة المشقَّةِ لقلَّتِ عددِهم وعُدَّتِهم، وكثرةِ عدُوِّهم كأنَّما يُسَاقُونَ إلى الموتِ، ﴿ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴾ ؛ إلى أسباب الموتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ﴾ ؛ إمَّا العِيرُ وإما العسكَرُ أنَّها لكم، ﴿ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ﴾ ؛ وتَمَنَّونَ أن تكون لكم العيرُ دون العسكرِ، لأن العسكرَ ذاتُ شوكةٍ وهي السلاحُ، ﴿ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ﴾ ؛ أي يُظهِرَ الإِسلامَ بوعدهِ الذي أنزلَ في الفُرقَانِ، ويقالُ : بأمرهِ لكم بالقتال، ﴿ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴾ ؛ أي يُظهِرَكُمْ على ذاتِ الشَّوكة فتستَأْصِلُوهم، ﴿ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ﴾ ؛ بإهلاكٍ، ﴿ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ ؛ مُشركُو مكَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ ؛ معناهُ : إذ تَسْتَغِيثُونَ أيُّها المسلمون ربَّكم حين رأيتُم قلَّة عددِكم وكثرةَ عدوِّكم، فلم يكن لكم مَفْزَعٌ إلا الدعاءُ لله وطلبُ المعونةِ منه ﴿ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ﴾ أي أجابَكم، والاستجابةُ التَّعطِيَةُ على موافقةِ المسألةِ.
وقولهُ تعالى :﴿ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ قال ابنٌُ عبَّاس :(كَانَ مَعَ كُلِّ مَلَكٍ مَلَكٌ فَكَانَ جُمْلَتُهُمْ ألْفَيْنِ). يقالُ : رَدَفْتُ الرَّجُلَ ؛ إذال ركبتُ خلفَهُ، وَأردَفْتُهُ إذا أركبتَهُ خلفَكَ. وقال عكرمةُ وقتادة والضحَّاك :(مَعْنَاهُ : بأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُتَتَابعِينَ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً)، وقد يجوزُ أن يقالَ : أرْدَفْتُ الرَّجُلَ إذا جاءَ بعدَهُ، وكذلك رَدَفَهُ. وأما قراءةُ نافع (مُرْدَفِينَ) بفتحِ الدالِ فمعناه : أرْدَفَهُمُ اللهُ بالمؤمنين، ويقال : أرْدَفْتُهُ وَرَدَفْتُهُ بمعنى تَبعْتُهُ، قال الشاعرُ : إذا الْجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثُرَيَّا ظَنَنْتُ بآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَاأي جاءَت بعدَها ؛ لأن الجوزاءَ تطلعُ بعدَ الثُريا.
فنَزَل جبريلُ في خَمسمائةِ مَلَكٍ على الْمَيْمَنَةِ، ونزلَ مِيكَائِيلُ في خَمسمائةِ مَلَكٍ على الْمَيْسَرَةِ في صُورَةِ الرِّجالِ عليهم ثيابٌ بيضٌ وعمائمُ بيضٌ.
قَوْلُهُ تََعَالَى :﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى ﴾ ؛ أي ما جعلَ اللهُ إمدادَ الملائكةِ إلا بشارةً بالنصرِ للمؤمنين، وَقِيْلَ : معناهُ : ما جعلَ الله إخبارَ النبيِّ ﷺ بإمدادِ الملائكة إلا بُشرى بالنصرِ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ﴾ ؛ أي ولتَسْكُنَ قلوبُكم في الحرب فلا تخافون من عدوِّكم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي ليس النَّصرُ بقلَّة العددِ ولا بكثرتهِ ولا من قِبَلِ الملائكةِ، ولكن النصرَ من عندِ الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ﴾ ؛ بالنَّقمةِ ممن عصَى، ﴿ حَكِيمٌ ﴾، في أفعالهِ.
وقد اختلفُوا هل قاتلَتِ الملائكةُ يومَ بدرٍ مع المؤمنين أم لاَ ؟ قال بعضُهم : لَم يُقاتِلوا ولكنَّ اللهَ أيَّدَ المؤمنين ليُشجِّع بهم قلوبَهم، ويُلقِي بهم الرُّعبَ في قلوب الكافرين، ولو بعثَهم اللهُ بالْمُحارَبَةِ لكان يكفِي مَلَكٌ واحدٌ، فإنَّ جبريلَ أهْلَكَ برِيشَةٍ واحدة سَبْعاً من قُرى قومِ لُوط، وأهلكَ بصيحةٍ واحدة جميعَ بلادِ ثَمود. وهذا القولُ أقربُ إلى ظاهرِ الآية.
وقال بعضُهم : إنَّ الملائكةَ قاتَلَتْ ذلك اليوم ؛ لأنه رُوي أن أبَا جَهْلٍ قال لابنِ مسعود : مِنْ أيْنَ كَانَ ذلِكَ الضَّرْبُ الَّذِي كُنَّا نَسْمعُ ولاَ نَرَى شَخْصاً ؟ فَقَالَ لَهُ :(مِنَ الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أبُو جَهْلٍ : هُمْ غَلَبُونَا لاَ أنْتُمْ!
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ ﴾ ؛ قال جماعةٌ من المفسِّرين :" وذلكَ أنَّهُ لَمَّا أمرَ اللهُ النبيَّ ﷺ بالمسيرِ إلى الكفَّار، سارَ بمن معَهُ حتى إذا كان قَرِيباً من بدرٍ لَقِيَ رجُلين في الطريقِ، فسألَهما :" هَلْ مَرَّتْ بكُمَا الْعِيرُ ؟ " قالا : نَعَمْ مرَّت بنا لَيلاً، وكان بين يدَي رسولِ اللهِ ﷺ عشرةٌ من المسلمين، فأخَذُوا الرَّجُلِين، وكان أحدُهما عبدَ العبَّاس بنِ عبدِ المطلب يقال له أبُو رافعٍ، والآخرُ عَبداً لعُقبة بن أبي مُعِيطٍ يقالُ له أسلمَ كانَا يسقِيَانِ الماءَ، فجاؤُا بهما إلى رسولِ اللهِ ﷺ، واستخلَى بأبي رافعٍ ودفعَ أسلمَ إلى أصحابهِ يسألونَهُ، فقالَ ﷺ لأبي رافعٍ :" مَنْ خَرَجَ مِنْ أهْلِ مَكَّةَ ؟ " فقالَ : ما بَقِيَ أحدٌ إلا وقد خرجَ، فقال ﷺ :" أتَتْ مَكَّةَ الْيَوْمَ بأفْلاَذِ كَبدِهَا " ثمَّ قَالَ :" هَلْ رَجَعَ مِنْهُمْ أحَدٌ ؟ " قال : نَعَمْ ؛ أُبَيُّ بنُ شَرِيفٍ في ثلاثِمائة من بني زُهرة، وكان خرجَ لمكان العِيرِ، فلما أقبَلت العِيرُ رجعَ، فسمَّاه رسولُ اللهِ ﷺ الأخْنَسَ حين خَنَسَ بقومهِ، ثُم أقبلَ رسولُ الله ﷺ على أصحابهِ وهم يَسألُونَ أسلمَ، وكان يقولُ لَهم : خرجَ فلانٌ وفلان، وأبُو بكرٍ رضي الله عنه يضربهُ بالعصَا ويقولُ له : كذبتَ بخبرِ الناسِ، فقالَ ﷺ :" إنْ صَدَقَكُمْ ضَرَبْتُمُوهُ، وَإنْ كَذبَكُمْ تَرَكْتُمُوهُ " فعَلمُوا أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قد عرفَ أمرَهم ".
فسَاروا حتى نزَلُوا بدراً بجانب الوادِي على غيرِ ماءٍ، ونزلَ المشركون على جانبهِ الأقصَى على الماءِ، والوادِي بينَهما فبَاتُوا ليلَتَهم تلك، فألقَى اللهُ على المسلمين النَّومَ فنَامُوا، ثم استيقَظُوا وقد أجْنَبُوا وليس معهم ماءٌ، فأتَاهُم الشيطانُ فوَسْوَسَ إليهم وقالَ : لهم تزعُمون أنَّكم على دينِ الله وأنتم مُجنِبُونَ تُصَلُّونَ على الجنَابَةِ، والمشرِكُون على الماءِ.
فأمطَر اللهُ الوادي وكان ذا رَمْلٍ تغيبُ فيه الأقدامُ، فاشتدَّ الرملُ وتلبَّدت بذلك أرضُهم وأوْحَلَ أرضَ عدوِّهم، وبنَى المسلمون في مكانِهم حِياضاً واغْتسَلُوا من الجنابةِ وشرِبُوا وسَقَوا دوابَّهم وتَهيَّأُوا للقتالِ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ ﴾ أي واذكرُوا إذ يُلقِي اللهُ عليكم النُّعاسَ، والنُّعاسُ : أولُ النَّومِ قبل أن يثقلَ. وقولهُ تعالى :﴿ أَمَنَةً مِّنْهُ ﴾ أي أمْناً من اللهِ منهم بوعدِ النَّصرِ أمْناً حتى غَشِيَهم النعاسُ في حالِ الاستعداد للقتال. قال ابنُ عبَّاس :(النُّعَاسُ عِنْدَ الْقِتَالِ أمْنٌ مِنَ اللهِ، وَفِي الصَّلاَةِ مِنَ الشِّيْطَانِ).
قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرو (يَغْشَاكُمُ) واحتجَّا بقولهِ تعالى :﴿ يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ ﴾[آل عمران : ١٥٤] فجعل الفعلَ للنُّعاس.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ ﴾ ؛ إذ يُلهِمُ ربُّكَ الملائكةَ النازِلين من السَّماء ﴿ أَنِّي مَعَكُمْ ﴾ بالنصرِ للمسلمين، ﴿ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ ؛ بالتَّنبيهِ والإِخْطَارِ بالبَال، ويقالُ : بَشِّرُوهم بالنصرِ، وَقِيْلَ : أرُوهم أنفُسَكُم مَدَداً لَهم فإذا عايَنُوكم ثَبَتُوا. والوحيُ : إلقاءُ المعنى الى النَّفسِ من وجهٍ خَفِيٍّ.
وعنِ ابن عبَّاس أنه قال :(سَوَّى أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ صُفُوفَهُمْ، وَقَدَّمُواْ رَايَاتِهِمْ فَوَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا، فَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى بعِيرٍ لَهُ يَدْعُو اللهَ وَيَسْتَغِيثُ، فَهبَطَ جِبْرِيْلُ عليه السلام فِي خَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِمْ ومِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَيْسَرَتِهِمْ، فَكَانَ الْمَلَكُ يَأْتِي الرَّجُلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ وَيَقُولُ لَهُ : دَنَوْتُ مِنْ عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ فِسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ : واللهِ لإِنْ حَمَلُواْ عَلَيْنَا لاَ نَثْبتُ لَهُمْ أبَداً.
وَألْقَى اللهُ فِي قُلُوب الْكَفَرَةِ الرُّعْبَ بَعْدَ قِيَامِهِمْ لِلصَّفِّ، فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبيعَةَ : يَا مُحَمَّدُ أخْرِجْ إِلَيْنَا أكِفَّاءَنَا مِنْ قُرَيْشٍ نُقَاتِلُهُمْ. فَقَامَ إِلَيْهِمْ بَنُو عَفْرَاءَ مِنَ الأنْصَارِ : عُوذ وَمِعْوَذ وَمَعَاذاً أُمُّهُمْ عَفْرَاءُ وَأبُوهُمُ الْحَارِثُ، فَمَشَواْ إلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُمْ : ارْجِعُواْ وَأرْسِلُوا إلَيْنَا أكِفَّاءَنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَخَرَجَ إلَيْهمْ عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ عَلِيٌّ : فَمَشَيْتُ إلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَمَشَى إلَيَّ، فَضَرَبْتُهُ بالسَّيْفِ أطَرْتُ يَدَهُ، ثُمَّ بَرَكْتُ عَلَيْهِ فَقَتَلْتُهُ، فَقَامَ شَيْبَةُ بْنُ رَبيعَةَ إلَى عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ فَاخْتَلَفَا بضَرْبَتَينِ، ثُمَّ ضَرَبَ عُبَيْدَةُ ضَرْبَةً أخْرَى فَقَطَعَ سَاقَ شَيْبَةَ، ثُمَّ قَامَ حَمْزَةُ إلَى عُبَيْدَةَ بن ربيعة فَقَالَ : أنا أسدُ اللهِ وَأسَدُ رَسُولِهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَقَتَلَهُ. فَقَامَ أبُو جَهْلٍ فِي أصْحَابِهِ يُحَرِّضُهُمْ وَيَقُولُ : لاَ يَهُولَنَّكُمْ مَا لَقِيَ هَؤُلاَءٍ، فإِنَّهُمْ عَجِلُواْ وَاسْتَحْمَقُوا، ثُمَّ حَمَلَ هُوَ بنَفْسِهِ، ثُمَّ حَمَلَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ عَلَى قُرَيْشٍ فَهَزَمُوهُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ ﴾ ؛ أي سأقذفُ في قلوبهم المخافَة منكم. علَّمَ اللهُ المسلمين كيف يضرِبُونَهم، فقال عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ ﴾ ؛ معناهُ على الأعنَاقِ، وقال عطيَّة والضحاكُ :(مَعْنَاهُ فَاضْرِبُواْ الأَعْنَاقَ)، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ ﴾[محمد : ٤]، وَقَالَ ﷺ :" إنِّي لَمْ أُبْعَثُ لأعَذِّبَ بعَذاب اللهِ تعَالَى، إنَّمَا بُعِثْتُ بضَرْب الرِّقََاب وَشَدِّ الْوَثَاقِ) ".
وقال بعضُهم (فَوْقَ) بمعنى (عَلَى)، أي فَاضرِبُوا على الأعناقِ، وقال عكرمةُ :(مَعْنَاهُ فَاضْربُوا الرُّؤُوسَ). وقال ابن عبَّاس :(فَاضْرِبُواْ الأعْنَاقَ فَمَا فَوْقَهَا) يعني الرُّؤُوسَ والأعناقَ، نظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ﴾[النساء : ١١] أي اثنَتين فما فوقَهما، وإنما أمرَ الله تعالى بضرب الرِّقاب والأعنَاقِ ؛ لأنَّ أعلى جلدةِ العُنقِ هو الْمَقْتَلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ ؛ قال عطيَّة :(يَعْنِي كُلَّ مِفْصَلٍ)، وقال ابنُ عَبَّاس والضحاكُ :(يَعْنِي الأَطْرَافَ).
وقال بعضُهم معنى قولهِ تعالى :﴿ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ ﴾ الصَّنَادِيدُ، وقولهِ تعالى :﴿ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ يعني السَّفَلَةَ. إلا أنَّ الأوَّل أصحُّ. وَقِيْلَ : معناه : واضرِبُوا منهم كلَّ عُضوٍ أمكَنَكم، وليس عليكم تَوَقِّي عضوٍ دون عضو.
وعن أبي سعيد الفاراني أنه كان يقولُ :(أرَادَ اللهُ أنْ لاَ تَتَلَطَّخَ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ بفَرَثِ الْكُفَّارِ، فَأَمَرَهُمْ أنْ يَضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَيَضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ). والبَنَانُ في اللغة : هو الأصابعُ وغيرُها من الأعضاءِ التي بها يكون قِوَامُ الإنسانِ صوناً لمكانه وحياته، مأخوذٌ من قولهم : أبْنَنَ الرجلُ بالمقامِ إذا أقامَ بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ ؛ أي ذلك الضَّربُ والقتلُ بأنَّهم شَاقُّوا أولياءَ الله ورسولَهُ، والمشاقَّةُ أن يصيرَ أحدُ العدُوَّين في شِقٍّ والآخرُ في شِقٍّ آخر، كما أن الْمُجَادَلَةَ أن يصيرَ أحدُهما في حدٍّ غيرِ حدِّ الآخرِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ ؛ في ومَن يخالِفْ أولياء اللهِ، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾، لهُ.
وأما إظهارُ التضعيفِ في موضع الجزمِ في قوله ﴿ يُشَاقِقِ ﴾ فهو لغةُ أهلِ الحجاز، وغيرُهم يُدغِمُ أحدَ الحرفين في الآخر لاجتماعِهما من جنسٍ واحد، كما قال تعالى في سورة الحشرِ﴿ يُشَآقِّ اللَّهَ ﴾[الآية : ٤] بقافٍ واحدة.
وقولهُ تعالى :﴿ ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ ﴾ ؛ معناهُ : إن الذي ذكرتُ لكم أيُّها الكفار من العذاب العاجِل في الدُّنيا فَذُوقُوهُ. ثم بيَّن جلَّ ذِكرهُ أن القتلَ في الدُّنيا لا يصيرُ كفارةً لهم، وأنَّ الله سيعاقِبُهم في الآخرة بقوله :﴿ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ﴾، وإنما قال تعالى في عذاب الدُّنيا ﴿ فَذُوقُوهُ ﴾ ؛ لأن الذوقَ يتناولُ اليسيرَ من الشيءِ، وكلُّ ما يلقَى الكفارُ من ضربٍ أو قتل في الدُّنيا فهو قليلٌ من العذاب يُعَجِّلُ لهم، ومُعظَمُ عَذابهم يؤخَّرُ إلى يومِ القيامة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ﴾ في فتحِ (أنَّ) وجهان أحدُهما : لأنَّها في موضعِ الرفع تقديرهُ ذلِكُمْ قَذُوقُوهُ وَاعْلَمُوا أنَّ للكَافِرِينَ. والثاني : لأنَّها في موضع النصب ؛ تقديرهُ : ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَاعْلَمُوا أنَّ للكَافِرِينَ. وَقِيْلَ : واعلَمُوا بأنَّ للكافرين، فلما حَذفَ الباءَ نُصب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ﴾ ؛ خطابٌ من اللهِ للمسلمين حين التَقَوا بالعدوِّ يومَ بدرِ، معناهُ : إذا لقيتُم الذين كفَرُوا مُزَاحَفَةً مستعدِّين لحربهم، فلا تنهَزِمُوا حتى تُدبروا. والزحفُ في اللغة : هو الدُّنُّو قَلِيلاً قليلاً، والزحفُ التَّدَانِي، يقال : زاحفتُ القومَ إذا ثَبَتُّ لهم، فكأنَّهُ قال تعالى : إذا واقَعتمُوهم للقتالِ فَاثبُتوا لَهم. والتَّولِيَةُ : جعلُ الشيءِ يَلِي غيرَهُ وهو مُتَعَدِّ إلى مَفعُولَين، وَوَلَّى دُبُرَهُ إذا جعلَهُ إليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ﴾ ؛ أي ومَن يجعل ظَهْرَهُ إليهم وقتَ القتالِ، ﴿ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ ﴾ ؛ إلا أنْ ينحرفَ ليُقاتِلَ في موضعٍ يراهُ أصلحَ في باب الْمُحَارَبَةِ، وليطلبَ غَرَّةً يطمعُ فيها من العدوِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ ﴾ ؛ أي إلا أنْ يقصدَ الانضمامَ إلى جماعةٍ يَمنعونَهُ من العدوِّ، يعني إذا كَثُرَ العدوُّ للمؤمنين فيه يلجأون، فيحارِبون العدوَّ بعد ذلك معهم ؛ كان لهم تركُ القتالِ عند ذلك، ومن ولاَّهُم الدُّبُرَ على سبيلِ الانْهِزامِ من غيرِ هذين الوجهَين، ﴿ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّ ﴾، فقدِ احتملَ غَضَباً من اللهِ، ﴿ وَمَأْوَاهُ ﴾ ؛ في الآخرةِ ﴿ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾، صارَ إليه.
والتَّحَرُّفُ في اللغة : هو الزَّوَالُ من جهةِ الاستواءِ، والتَّحَيُّزُ : طلبُ حَيِّزٍ يَكْمُنُ فيه.
واختلفَ العلماءُ هل الوعيدُ في هذه الآيةِ مقصورٌ على حرب بدرٍ أم هو عامٌ في جميعِ الأوقات ؟ قال بعضهم : إنه خاصٌّ في حرب بدر ؛ لأنه لم يكن يومئذٍ للمسلمين فيه سِواهُم، وكان النبيُّ ﷺ حاضِراً في ذلك الحرب، وكان النصرُ موعوداً إليه يومئذٍ ومع حضُورهِ، وكان لا يعدُّ غيرهُ فئةً، وكان المنهزِمُ عن القتالِ يومئذ غيرَ متحيِّزٍ إلى فئةٍ، فأما اليومَ المنهزمُ عن الحرب يكون مُتَحيِّزاً إلى فئَةٍ أعظمَ من الْمُحاربين من المسلمين. وقال بعضُهم : إنه عامٌّ في جميعِ الأوقات، ولا يجوزُ الانْهزَامُ عن قتالِ المشركين مع قوَّة القتال، وإلى هذا ذهبَ ابنُ عباس، وذكرَ محمَّد بنُ الحسنِ في السِّيَرِ الكبير (أنَّ الْجَيْشَ إذا بَلَغُوا اثْنَى عَشَرَ ألْفاً فَلَيْسَ لَهُمْ أنْ يَفِرُّواْ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَإنْ كَثُرَ الْعَدُوُّ). واحتَجَّ بما رُوي عن النبيِّ ﷺ أنه قالَ :" خَيْرُ الأَصْحَاب أرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أرْبَعُمِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أرْبَعَةُ آلاَفٍ، وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ مِنْ قِلَّةٍ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ﴾ ؛ معناهُ : لَم تقتلُوهم يومَ بدرٍ بأنفُسِكم، ولكنَّ الله قَتَلَهم بالملائكةِ. وأضافَ اللهُ قتْلَهم إلى نفسهِ ؛ لأن السببَ في قتلِهم كان من الله تعالى، فإنهُ هو الذي أيَّدَ المؤمنين بالملائكةِ حتى شجَّعَ قُلوبَهم، وأنزلَ المطرَ حتى ثبَّتَ به الأقدامَ، وألقَى في قلوب المشركين الرُّعب حتى انْهَزمُوا. وَقِيْلَ : كان المسلمون يقولُون قتَلَنَا فُلاناً وفلاناً. فأرادَ اللهُ تعالى أنْ لا يُعجَبُوا بأنفُسِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ ؛ معناهُ : رُوي " أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه :" نَاوِلْنِي كَفّاً مِنْ تُرَاب الْوَادِي " فَنَاوَلَهُ قَبْضَةً، فَاسْتَقْبَلَ بَها وُجُوهَ الْمُشْرِكِينَ فَرَمَاهُمْ وَقَالَ :" شَاهَتِ الْوُجُوهُ وَقَبُحَتْ " فَمَلأَ اللهُ أعْيُنَهُمْ بهَا، فَلَمْ يَبْقَ فِيهِمْ أحَدٌ إلاَّ وَقَدْ شُغِلَ بعَيْنِهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَهَزَمُوهُمْ ". فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ﴾ أعلمَ الله أن كفّاً من التُّراب لا يملأُ عُيونَ ذلك الجيشِ برَميَةِ بَشَرٍ ؛ لأنه تعالى توَلَّى إيصالَ ذلك إلى أبصارِهم من الموضعِ الذي كان فيه النبيُّ ﷺ حتى أصابَ عَيْنَ كلَّ واحدٍ منهم قِسْطٌ من ذلك التُّراب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً ﴾ ؛ أي وليُنْعِمَ على المؤمنين بالنَّصرِ والغنيمةِ والأُسَارى نعمةً حسنةً. وقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾، أي سميعٌ لدُعائِكم، عليمٌ بأفعالِكُم وضمائرِكم.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ﴾ ؛ أي ذلِكُم الذي ذكرتُ من القتلِ والرَّميِ والإبلاءِ الحسَنِ، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ ﴾ أي واعلَمُوا أنَّ اللهُ وفي فَتْحِ (أنَّ) من الوجُوهِ مثلُ ما في قوله :﴿ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ﴾[الأنفال : ١٤] وقد بيَّناهُ. وقوله تعالى :﴿ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ﴾ أي مُضْعِفُ كيدِهم. قرأ أهل الكوفة إلاَّ حفصاً وابن يعقوب وابن عامِر (مُوهِنُ) بالتخفيف، (كَيْدَ) بالنصب، وقرأ الحسنُ والأعمش وحفصٌ (مُوهِنُ كَيْدِ) مخففاً مضافاً بالخبرِ طَلباً للخفَّة كقوله :﴿ مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ ﴾[القمر : ٢٧]﴿ كَاشِفُو الْعَذَابِ ﴾[الدخان : ١٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ ﴾ ؛ هذا خطابٌ للكافرين، وذلكَ أنَّ أبَا جَهْلٍ قالَ يومَ بدرِ قبلَ القتالِ لَهم : اللَّهُمَّ انصُرْ أعزَّ الْجُندَين وأكرَمَ الفئَتين وخيرَ الدِّينَين، اللُّهُمَّ أيُّنا اقطعُ للرحمٍ وأفسدُ للجماعةِ فَأَحِنْهُ اليومَ. فاستجابَ الله دعاءَهُ على نفسهِ، فأتاهُ بالفتحِ فضربَهُ إبنا عَفراء عوفُ ومعاذ وأجهزَ عليه ابنُ مسعود.
وقال السديُّ والكلبي :(كَانَ الْمُشْرِكُونَ حِينَ خَرَجُواْ إلَى بَدْرٍ، تَعَلَّقواْ بأِسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَقَالُواْ : اللَّهُمَّ انْصُرْ أعْلَى الْجُنْدَيْنِ وَأهْدَى الْفِئَتَينِ وَأكْرَمَ الْحِزْبَينِ وَأفْضَلَ الدِّينَيْنِ، اللَّهُمَّ أيُّ الْفِئَتَينِ أحَبُّ إلَيْكَ فَانْصُرْهُمْ، اللُّهُمَّ اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِه الآيَةَ، إنْ تَسْتَنْصِرُواْ فَقَدْ جَاءََكُمُ النَّصْرُ، فَنُصِرَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم). وقال عكرمةُ :(قَالَ الْمُشْرِكُونَ : اللُّهُمَّ لاَ نَعْرِفُ مَا جَاءَ بهِ مُحَمَّدٌ، فَافْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ بالْحَقِّ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةِ ﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ ﴾ أيْ إنْ تَسْتَحْكِمُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْحُكْمُ، وَإنْ تَسْتَقْضُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْقَضَاءُ).
وقولهُ تعالى :﴿ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ ؛ أي وإن تَنتَهُوا عن الشِّرك والمعاصي فهو خيرٌ، ﴿ وَإِن تَعُودُواْ ﴾ ؛ إلى القتالِ ؛ ﴿ نَعُدْ ﴾ ؛ بأنْ نأمُرَ المسلمين بجهادِكم وننصُرهم عليكم. وقال بعضُهم : هذه الآيَةُ خطابٌ للمؤمنين ؛ أي اسْتَنْصِرُوا الله وَاسْأَلُوهُ الفتحَ فقد جاءكم الفتحُ والنصر، وإنْ تنتَهُوا عن فعلِكم في الأُسارى والفداءِ يومَ بدرٍ فهو خيرٌ لكم، وإنْ تعودُوا إلى فعلِكم بالأُسارى نَعُدْ إلى الإنكار عليكم، ﴿ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً ﴾ ؛ أي وإنْ سُلب عنكم النصرُ حتى لا تُغنِي عنكم جماعتُكم شيئاً، ﴿ وَلَوْ كَثُرَتْ ﴾ ؛ في العددِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ قرأ نافعٌ وابن عامر بخفض (إنَّ) وبفتحِ (أنَّ) بمعنى ولأَن الله، وَقِيْلَ : عطفٌ على قولهِ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ﴾[الأنفال : ١٨]، وَقِيْلَ : على معنى وَاعْلَمُوا أنَّ الله، وقرأ الباقون (وإنَّ اللهَ) بالكسرِ على الابتداء، واختارَهُ أبو عُبيد وأبو حاتم ؛ لأن قراءةَ عبد الله :(وَإنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصرِ والمعونة.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ ؛ أي أطِيعُوا اللهَ ورسولَهُ في أمرِ الغَنيمة وغيرِها، ولا تَوَلَّوا عن أمرِ الله، وأنتم تسمعون ما أنزلَ اللهُ تعالى، وقال الحسنُ :(مَعْنَاهُ وَأنْتُمْ تَسْمَعُونَ الْحُجَّةَ فِي وُجُوب طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ).
وأما تخصيصُ المؤمنين بالأمرِ لهم بالطَّاعة وإن كانت هذه الطاعةُ واجبةً على غير المؤمنين كوجوبها على المؤمنين، فلأحَدِ مَعنيين : إما إجلالاً لهم ورَفعاً لقدرهم فيدخلُ غيرُهم في الخطاب على جهة التَّبَعِ لهم، وإما لأنه لم يَعْتَدَّ بغيرِ المؤمنين ؛ لإعراضهم عما وجبَ عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ ؛ أي لا تكونوا كالذينَ قالوا سَمِعنَا على جهةِ القَبُولِ، وهم لا يسمعون للقبولِ، وإنما سَمعُوا به للردِّ والإعراضِ عنه، ويقالُ : معناه : ولا تَكونوا كالَّذين قَالوا قَبلْنَا وهم لا يَقبَلون، ومنه قولُه (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) أي قَبلَ اللهُ حَمْدَ مَن حَمَدُه. واختلَفُوا فيمَن نزلت هذه الآيةُ، قال ابنُ جُرَيج :(نَزَلتْ فِي الْمُنَافِقِينَ) وقال الحسنُ :(فِي أهْلِ الْكِتَاب). ويقالُ : في مُشرِكي العرب.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ ؛ معناهُ : أن شرَّ الخليقَةِ على وجهِ الأرضِ الكفَّارُ الذين لا يسمعونَ الْهُدَى، ولا يتكلَّمُون بالخيرِ، ولا يتدبَّرون القرآنَ. وسَمَّاهم صُمّاً بُكْماً ؛ لأنَّهم لم ينتفِعُوا بما سَمعوا من دلائلِ اللهِ تعالى، قال الأخفشُ :(كُلُّ مُحْتَاجٍ إلَى غَذاءٍ فَهُوَ دَابَّةٌ). ومعنى الآيةِ : إن شرَّ ما دبَّ على وجهِ الأرض من خلقِ الله تعالى الصمُّ البُكْمُ عن الحقِّ، فهُم لا يسمعونَهُ ولا يعقلونه. وَقِيْلَ : صُمُّ القُلوب وعُميُها، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾[الحج : ٤٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ ﴾ ؛ أي لو عَلِمَ اللهُ فيهم أنَّهم يصلُحون بما نوردُه عليهم من الحجَّة بآياتهِ لأَسْمَعَهُمْ إيَّاها. وَقِيْلَ : لأَسْمَعَهُمْ جوابَ كلِّ ما سألوهُ عنه، ﴿ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ ﴾ ؛ ولو بيَّن لهم كلَّ ما يختلجُ في أنفُسِهم لتوَلَّوا عن الهدى، ﴿ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾، لمعاندَتِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ ؛ معناهُ : أجِيبُوا اللهَ والرسولَ. وقِيْلَ : معنى الإجابة طلبُ الموافقةِ للدَّاعي على وجهِ الطاعة. وَقِيْلَ : الجمعُ بين الاستجابةِ لله وللرسولِ ؛ أي استجِيبُوا للهِ بسَرائِركم وللرسولِ بظوَاهرِكم.
وقولهُ تعالى :﴿ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ أي إذا دعَاكُم إلى العلمِ الذي يُحييكم في أمرِ الدِّين. وَقِيْلَ : معناهُ : إذا دعاكم إلى الجهادِ الذي يُحيي أمرَكم. وَقِيْلَ : إذا دعاكم إلى ما يكون سَبَباً للحياةِ الدَّائمة في نعيمِ الآخرة ؛ لأنه إذا حصلَ الامتثالُ بأمرِ الله ورسولهِ، حصلت هذه الحياةُ الدائمة، وإن لم يحصِلِ الامتثالُ أدَّى ذلك إلى العقاب الذي يتمنَّى معه الموتَ. قال القتيبي :(مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ يَعْنِي الشَّهَادَةَ ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِي الشُّهَدَاءِ﴿ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾[آل عمران : ١٦٩]). واللامُ في قولهِ (لِمَا) بمعنى (إلى).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾ ؛ فيه ثلاثةُ أقوالٍ ؛ أحدُها : أن معناهُ : يَحُولُ بين المرءِ وأمَلهِ بالموتِ أو غيره من الآفَاتِ، فبادِرُوا إلى الطاعاتِ قبلَ الحيلولَةِ، ودَعُوا التسويفَ فإنَّ الأجلَ يَحُولُ دون الأملِ. وقال مجاهدُ :(يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبهِ لاَ يَتْرُكُهُ يَفْهَمُ وَلاَ يَعْقِلُ).
والثاني : أن معناهُ : أنَّ الله تعالى أقربُ إلى ذي القلب مِن قلبه، فإنَّ الذي يَحُولُ بين الشَّيء وغيرهِ أقربُ إلى ذلك الشيءِ من غيره، كما قالَ تعالى :﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾[ق : ١٦]، وفي هذا تحذيرٌ شديد.
والثالث أن معناهُ : أن اللهَ يُقَلِّبُ القلوبَ من حالٍ إلى حالِ كما جاء في الدُّعاء :" يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوب ". وقال ابنُ جبير :(يَحُولُ بَيْنَ الْكَافِرِ أنْ يُؤْمِنَ، وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ أنْ يَكْفُرَ). وقال ابنُ عبَّاس والضحاك :(يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَمَعْصِيَتِهِ، ويَحُولُ بَيْنَ الْكَافِرِ وَطَاعَتِهِ). وقال السديُّ :(يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، فَلاَ يَسْتَطِيعُ أنْ يُؤْمِنَ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أنْ يَكْفُرَ إلاَّ بإذنِهِ).
قرأ الحسنُ :(يَحُولُ بَيْنَ الْمَرِّ) بتشديدِ الراء من غير همزٍ، وقرأ الزهريُّ بضمِّ الميمِ والهمزة وهي لغاتٌ صحيحة.
وقولهُ تعالى :﴿ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ ؛ عطفٌ على قولهِ :﴿ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾. معناهُ : واعلَمُوا أنَّ مَحْشَرَكُمْ في الآخرةِ إلى اللهِ، فيَجزِي كلَّ عاملٍ بما عَمِلَ، إنْ كان خَيراً فخيرٌ، وإنْ كان شرّاً فشَرٌّ.
وَقِيْلَ : في آخرِ الآية تأويلُ الآيةِ ؛ أي الذي يَحُولُ بين المرءِ وقلبهِ قادرٌ على أن يُبَدِّلَ خوفَكم أمْناً، وأمْنَ عدُوِّكم خَوفاً، فيجعلَ القويَّ ضعيفاً والضعيفَ قوياً، والعزيزَ ذليلاً والذليلَ عَزِيزاً، والشُّجاعَ جَباناً، الجبانَ شُجاعاً، يفعلُ ما يشاء وما يريدُ فأجيبُوا الرسولَ في الجهادِ ولا تخافُوا ضعفَكم.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾ ؛ نزلَت في عُثمانَ وعليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أخبرَ اللهُ النبيَّ ﷺ بالفتنةِ التي تكون تُسَببها أنَّها ستكون بعدَك يلقاها أصحابُكَ تصيبُ الظالِمَ والمظلومَ، ولا تكون بالظَّلَمَةِ وحدَهم خاصَّة ولكنَّها عامة، وأخبرَ النبيُّ ﷺ بذلك أصحابَهُ، فكانَ بعد وفاةِ النبيِّ ﷺ من الفِتَنِ بسبب عليٍّ وعُثمان ما لا يخفَى على أحدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَّ تُصِيبَنَّ ﴾ جوابُ الأمر بلفظ النَّهي، كما يقالُ : أنْزَلْ مِنَ الدَّابة لا تَطْرَحْكَ أو لا تطرَحنَّكَ، معناهُ : أنْ تَنْزِلَ عنها لا تطرحَنَّك، فاذا أثبَتَّ النونَ الخفيفةَ والثقيلة كان آكدَ للكلامِ، ومنهُ قوله تعالى :﴿ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ﴾[النمل : ١٨].
والمرادُ بالفتنةِ القتلُ الذي رَكِبَ الناسَ فيه بالظُّلم، وكان أمرُ الله أمراً باتِّقاء تركِ الإنكارِ على أهلِ المعاصي واتِّقاء الاختلاطِ بأهلِ المعصية، قال ابنُ عبَّاس :(أمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أنْ لاَ يقِرُّوا الْمُنْكَرَ بَيْنَ أظْهُرِهِمْ، فَيَعُمُّهُمُ اللهُ بالْعَذاب).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ ؛ تحذيرُ شدَّة العقوبةِ لِمَن أهَاجَ الفتنَ، قال ﷺ :" الْفِتْنَةُ رَاتِعَةٌ فِي بلاَدِ اللهِ وَاضِعَةٌ خِطَامَهَا، فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَهَاجَهَا " وفي بعضِ الأخبار :" الْفِتْنَةُ نَائِمَةٌ لَعَنَ اللهُ مَنْ أَيْقَظَهَا ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ نَزلت في الْمُهاجرِين خاصَّة ؛ أي احفَظُوا معشرَ المهاجرين إذ أنتم قليلونَ في العدَّة مقهُورون في أرضِ مكَّة، ﴿ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ﴾ ؛ أي يَخْتَلِسَكُمْ ويذهبَ بكم أهلُ مكَّة، ﴿ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ ؛ فآواكم إلى المدينَة وأعانَكم يومَ بدرٍ بالملائكةِ، ورزَقَكُم الحلالَ من الغنائمِ ؛ لكي تشكُرُوا اللهَ وتعرِفُوا ذلك منه فتطعيوهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ نزلَت في أبي لُبَابَةَ بن عبدِ المنذر، " فإنَّ بني قُريظةَ قالُوا لرسول الله ﷺ : ابْعَثْ لَنَا خَلِيفََةً مِنْ خُلَفَائِكَ نَنْزِلْ عَلَى حُكْمِهِ، فأبَى رسولُ اللهِ ﷺ أن يَنْزِلُوا إلاَّ على حُكم سعدِ بنْ مُعَاذ، وكانوا يقولونَ : أرسِلْ إلينا أبَا لُبابة، وَكَأنَ عيالهُ وولدهُ وأهله عندَهم، فَبَعَثَهُ النبيُّ ﷺ إليهم، فقالوا : يا أبَا لُبابة أنَنزِلُ على حُكم سعدِ بن معاذ، فأشارَ بيدهِ إلى حَلْقِهِ ؛ أي إنَّهُ الذبْحُ فَلاَ تَفْعَلُوا، ولَمْ يتكلَّم بلسانهِ، فأنزلَ اللهُ هذه الآية، قال أبو لُبابة :(فَمَأ زَالَتْ قَدَمَايَ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى عَلِمْتُ أنِّي خُنْتُ اللهَ وَرَسُولَهُ). فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ﴾ كما فَعَلَ أبُو لُبابة.
فلما نزلت هذه الآيةُ شدَّ أبُو لُبابَةَ نفسَهُ على سَاريَةٍ من سَوَاري المسجدِ، وقالَ (لاَ أذُوقُ طَعَاماً وَلاَ شَرَاباً حَتَّى أمُوتَ، أوْ يَتُوبَ اللهُ عَلَيَّ) فمكثَ سبعةَ أيَّام لا يذوقُ فيها طعاماً ولا شَراباً حتى خَرَّ مَغشِيّاً عليهِ، ثم تَابَ اللهُ عليه، فجاءَ رسولُ الله ﷺ فَحَلَّهُ بيدهِ، فقال أبو لُبابة :(تَمَامُ تَوْبَتِي أنْ أهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أصَبْتُ فِيْهَا الذنْبَ، وَأنْ أتَخَلَّعَ مِنْ مَالِي) فَقَالَ ﷺ :" يُجْزِيكَ الثُّلْثُ أن تَتَصَدَّقَ بهِ ".
وقال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَى الآيَةِ : لا َتَخُونُوا اللهَ بتَرْكِ فَرَائِضِهِ، وَالرَّسُولَ بتَرْكِ سُنَّتِهِ). ﴿ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ﴾ أي ولا تَخُونُوا أمانَاتِكم، انتصبَ على الظَّرفِ ؛ أي إنَّكم إن فَعَلْتُم ذلك فإنما خُنْتُمْ أمانَاتِكم عَطفاً.
ويقالُ : أرادَ بقولهِ :﴿ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ ﴾ الخيانَة من الغنائمِ التي هي عطيَّةُ اللهِ، والخيانةُ للهِ فيها خيانةُ الرسولِ أيضاً ؛ لأنه هو القَيِّمُ بقِسْمَتِها، وقولهُ :﴿ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ﴾ يحتملُ الخيانةَ في الغنائمِ أيضاً ؛ لأنَّهم كلُّهم مُشتَركون فيها، فمَنِ استبدَّ بشيءٍ منها فقد خَانَ، ويحتملُ الخيانةَ في أثْمَانِ بعضِ الناس بعضاً من حقُوقِ أنفسهم، وقال الأخفشُ :(قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ﴾ عَطْفًاً عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ النَّهْيِ، تَقْدِيرُهُ : وَلاَ تَخُونُوا أمانَاتِكُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ ؛ معناهُ : أنَّ الإنسان ربَّما يتركُ الجهادَ ويخونُ في الأماناتِ لأجْلِ الأولادِ أو حِرْصاً على المالِ، وقد رَوَينَا أنَّ لُبابة إنما حَمَلَهُ على ما فَعَلَ مالهُ وأهلُه وولدهُ الذين كانوا في بَنِي قرِيظةَ، لأنه إنما ناصَحَهم لأجلِهم وخانَ المسلمين بسببهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ ؛ أي ثوابٌ جَسِيمٌ في الآخرةِ لمن لَم يَعْصِ اللهَ لأجلِ المالِ والذرِّية.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ يِاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ ؛ أي إن تتَّقُوا اللهَ في الأماناتِ، فتَمتَنِعوا من معاصيهِ بأداءِ فرائضه يجعَلْ لكم نُوراً في قلوبكم تُفرِّقون به بين الحقِّ والباطلِ. وَقِيْلَ : يجعل لكم فَتْحاً ونَصراً، كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ﴾[الأنفال : ٤١] أرادَ به يومَ عزِّ المؤمنين وخُذلان الكافرين.
وَقِيْلَ : معناهُ يجعل لكم مَخْرَجاً ونَجاةً في الدُّنيا والآخرةِ. وقال الضحَّاك :(فُرْقَاناً : أيْ ثَبَاتاً). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ أي يَمحُ عنكم ذنُوبَكم، ويستْرُ عليكم خطَايَاكم ولا يؤاخِذْكم بها، ﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ ؛ أي عظيمُ الفضلِ على عباده أسْدَى لهم بالنِّعَم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ ذكَّر اللهُ نبيَّه ﷺ فعقب ما أنعم الله عليه من النصر والظفر يوم بدر وما كان من مكر المشركين في أمره بمكة فقال :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي اذكر تلك الحالة.
قال ابنُ عبَّاس :(وَذلِكَ أنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيشٍ اجْتَمَعُواْ فِي دَار النَّدْوَةِ يَمْكُرُونَ برَسُولِ اللهِ ﷺ وَيَحْتَالُونَ لَهُ، مِنْهُمْ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبيعَةَ ؛ وَأَبُو جَهْلٍ ؛ وَأَبُو سُفْيَانَ ؛ وَالنَّضِِرُ بْنُ الْحَارثِ ؛ وَأبُو الْبُحْتُرِيِّ بْنُ هِشَامٍ ؛ وَنَبيهُ وَمُنَبهُ ؛ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَرَبيعَةُ بْنُ الأَسْودِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ كَبيرٍ عَلَيْهِ ثِيَابُ أطْمَارٍ، فَجَلَسَ بَيْنَهُمْ فَقَالُواْ : مَا لَكَ يَا شَيْخُ دَخَلْتَ فِي خَلْوَتِنَا بغَيْرِ إذنِنَا؟! فَقَالَ : أنَا رَجُلٌ مِنْ أهْلِ نَجْدٍ قَدِمْتُ مَكَّةَ، فَأَرَاكُمْ حَسَنَةً وَجُوهُكُمْ طَيِّبَةً رَوَائِحُكُمْ، فَأَحْبَبْتُ أنْ أسْمَعَ حَدِيثَكُمْ فَأقْتَبِسَ مِنْكُمْ خَيْراً فَدَخَلْتُ، وَإنْ كَرِهْتُمْ مَجْلِسِي خَرَجْتُ، وَمَا جِئْتُكُمْ إلاَّ أنِّي سَمِعْتُ باجْتِمَاعِكُمْ فأَرَدْتُ أنْ أحْضُرَ مَعَكُمْ، وَلَنْ تَعْدُمُوا مِنِّي رَأياً وَنُصْحاً. فَقَالُوا : هَذا رَجُلٌ لاَ بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُ.
فَتَكَلَّمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَبَدأَ عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ فَقَالَ : أمَّا أنَا فَأَرَى أنْ تَأْخُذوا مُحَمَّداً، فَتَجْعَلُوهُ فِي بَيْتٍ تَسُدُّونَ عَلَيْهِ بَابَهُ ؛ وَتَشُدُّونَ عَلَيْهِ وِثَاقَهُ ؛ وَتَجْعَلُونَ لَهُ كُوَّةً تُدْخِلُونَ عَلَيْهِ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَيَكُونُ مَحْبُوساً عِنْدَكُمْ إلى أنْ يَمُوتَ. فَقَالَ إبْلِيسُ : بئْسَ مَا رَأيْتَ! تَعْمَدُونَ إلَى رَجُلٍ لَهُ فِيكُمْ أهْلُ بَيْتٍ، وَقَدْ سَمِعَ بهِ مَنْ حَوْلَكُمْ فَتَحْبسُوهُ، يُوشِكُ أنْ يُقَاتِلَكُمْ أهْلُ بَيْتِهِ وَيُفْسِدُواْ عَلَيْكُمْ جَمَاعَتَكُمْ فَقَالُوا صَدَقَ واللهِ الشَّيْخُ.
ثُمَّ تَكَلَّمَ أبُو الْبَخْتَرِيِّ فَقَالَ : أرَى أنْ تَحْمِلُوهُ عَلَى بَعِيرٍ فَتَشُدُّوا وثَاقَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ تُخْرِجُوهُ مِنْ أرْضِكُمْ حَتَّى يَمُوتَ أوْ يَذْهَبَ حَيْثُ يَشَاءُ. فَقَالَ إبْلِيسُ : بئْسَ الرَّأيِ مَا رَأيْتَ! تَعْمَدُونَ إلَى رَجُلٍ لَهُ فِيكُمْ أهْلُ بَيْتٍ، وَقَدْ سَمِعَ بهِ مَنْ حَوْلَكُمْ أفْسَدَ عَلَيْكُمْ جَمَاعَتَكُمْ وَمَعَهُ مِنْكُمْ طَائِفَةٌ، فَتُخرِجُونَهُ إلَى غَيْرِكُمْ فَيَأْتِيهمْ فَيُفْسِدُ مِنْهُمْ أيْضاً جَمَاعَةً بمَا يَرَونَ مِنْ حَلاَوَةِ كَلاَمِهِ وَطَلاَقَةَ لِسَانِهِ، وَيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ وَتَسْتَمِعُ إلَى حُسْنِ حَدِيثِهِ، ثُمَّ لَيَأْتِيَنَّكُمْ بهِمْ فَيُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَيَقْتُلَ أشْرَافَكُمْ. فَقَالُواْ : صَدَقَ واللهِ الشَّيْخُ.
فَتَكَلَّمَ أبُو جَهْلٍ فَقَالَ : أرَى أنْ تَجْتَمِعَ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ مِنْكُمْ رَجُلٌ يَأْخُذُونَ السُّيُوفَ، فَيَضْرِبُونَهُ جَمِيعاً ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَإذا قَتَلْتُمُوهُ تَفَرَّقَ دَمَهُ فِي الْقَبَائِلِ كُلِّهَا، فَلاَ يَدْرِي قَوْمُهُ مَنْ يأْخُذُونَ وَلاَ يَقُومُونَ عَلَى حَرْب قُرَيْشٍ كُلِّهَا، وَإنَّمَا إذا رَأوا ذلِكَ قَبلُوا الدِّيَةَ، فَتُؤَدِّي قُرَيْشُ دِيَتَهُ وَاسْتَرَحْنَا. فَقَالَ إبْلِيسُ : صَدَقَ واللهِ الشَّابُّ، وَهُوَ أجْوَدُكُمْ رَأْياً، الْقَوْلُ قَوْلُهُ لاَ أرَى غَيْرَهُ. فَتَفَرَّقُوا عَلَى ذلِكَ.
فَنَزَلَ جِبرِيلُ عليه السلام فأَخْبَرَ النَّبيَّ ﷺ بذلِكَ، وَأَمَرَهُ أنْ لاَ يَبيتَ فِي مَضْجَعِهِ الَّذِي كَانَ يَبيتُ فِيْهِ، وَأَمَرَهُ بالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ) وَكَانَ مِنْ أمْرِ الْغَارِ مَا كَانَ، فذلك قولهُ ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ ﴾ أي ليَحبسُوكَ، وهو ما قالَهُ عمرُو بن هشام.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـاذَا إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾ ؛ يعني النَّضرَ بن الحارثِ، وذلك أنه كان يختلفُ تَاجِراً إلى فارسَ والحِيرَةِ، فيسمعُ سَجَعَ أهلِها وذِكرَهم أخبارَ العَجَمِ وغيرِهم من الأُمَم، ويَمُرُّ باليهودِ والنَّصارى فيرَاهُم يقرأُون التوراةَ والإنجيلَ، فجاءَ مكَّةَ فوجدَ مُحَمَّداً يقرأُ القرآنَ، فقالَ :(قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذا إنْ هَذا إلاَّ أسَاطيرُ الأَوَّلِينَ) أي أخبارُ الأُمَم الماضيةِ وأسماؤُهم. وكان النضرُ يقول : إن هذا الذي يحدِّثُكم به مُحَمَّد ما هو إلا مثلُ ما أحدِّثُكم به من أحاديثِ الأوَّلين، وكان النضرُ كثيرَ الحديث عن الأممِ الخالية.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ ؛ نزلَتْ في النَّضرِ بن الحارثِ أيضاً، قال : لو شئتُ لقُلْتُ مثلَ هذا، إنْ هذا إلاَّ أساطيرُ الأوَّلين في كُتبهم، ثم قال : اللَّهُمَّ إن كان هذا الذي يقولهُ مُحَمَّدٌ هو الحقُّ من عندِكَ، فأمطِرْ علينا حجارةً من السَّماء، كما أمطَرْتَها على قومِ لُوطٍ، أو ائْتِنَا ببعضِ ما عذبتَ به الأُمَمَ فيه، فَنَزلَ﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ ﴾[المعارج : ١-٢] وكان النضرُ من بني عبدِ الدَّار.
ومعنى الآيةِ : واذكُرْ يا مُحَمَّدُ إذا قالُوا : اللَّهُمَّ... وأنتَ بين أظهُرِهم بمكَّة، فلم يُعذِّبهم اللهُ حينئذٍ وَعذبَهم من بعدُ، فأُسِرَ النضرُ يومَ بدرٍ وقُتِلَ صَبراً، وكان الذي أسَرَهُ المقدادُ بن الأسودِ. وقولهُ تعالى :﴿ هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ﴾ عناداً وتوكيداً وصِلَةً في الكلامِ، و ﴿ الْحَقَّ ﴾ نُصِبَ بخبرِ كان.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(قَالَ الحَارْثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَل : يَا مُحَمَّدُ، وَاللهِ إنَّكَ فِينَا لَصَادِقٌ وَلاَ نَتَّهِمُكَ، وَلَكِنَّا مَتَى نُؤْمِنُ بكَ غَزَانَا الْعَرَبُ، فَنَزَلَ ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ ) أي مُقيماً بين أظهُرِهم، ولَم تُعَذبْ أُمَّة قط ونبيُّها بين أظهُرِها حتى يخرجَ منها. ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ ﴾ أي وما كان اللهُ ليُسَلِّطَ عليهم عدُوَّهم ﴿ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ أي يُصَلُّونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ ؛ يعني عذابَ الآخرةِ، وعن عبدِالرحمن بن أبزي قال :(كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بمَكَّةَ، فَنَزَلَ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾[الأنفال : ٣٣] فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلَى الْمَدِينَةِ فَنَزلَ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾[الأنفال : ٣٣] وَكَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَقِيَّةٌ بمَكَّةَ لَمْ يُهَاجِرُواْ، وَكَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ اللهَ وَيُصَلُّونَ، فَلَمَّا خَرَجَ كُفَّارُ مَكَّةَ إلَى حَرْب بَدْرٍ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ ﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ أيْ يَمْنَعُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ فَعَذَّبُهُمُ اللهُ يَوْمَ بَدْرٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَآءَهُ ﴾ ؛ أي ما كان الكفَّارُ أولياءَ المسجدِ الحرام، قال الحسنُ :(وَذلِكَ أنَّهُمْ كَانُواْ يَقُولُونَ : نَحْنُ أوْلِيَاءُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَرَدَّ اللهُ ذلِكَ عَلَيْهِمْ). وَقِيْلَ : معناهُ : وما كانوا أولياءَ اللهِ. وقولهُ تعالى :﴿ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ﴾ ؛ أي مَا أولياءُ اللهِ، وَقِيْلَ : ما أولياءُ المسجدِ الحارمِ إلا المتّقونَ الشِّركَ، ﴿ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ ﴾ ؛ الكفار، ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾، ذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً ﴾ ؛ يعنِي : إنَّ تقرُّبَ المشركين إلى اللهِ كان بالصَّفِيرِ والتَّصفِيقِ، كانوا يفعَلون ذلكَ عندَ البيتِ مكانَ الدُّعَاءِ والتَّسبيحِ. وَقِيْلَ : كَانُوا يأْتُون بأفعالِ الصَّلاةِ، إلاَّ أنَّهم مع ذلكَ يُصَفِّرُونَ فيها ويُصَفِّقونَ.
وَالْمُكَاءُ : طائرٌ أبيض يكون في الحجاز يُصَفِّرُ يسمَّى باسم بصوته، ويقالُ : مَكَا يَمْكُو إذا صَفَّرَ. وصَدَى تَصْدِيَةً إذا صَفَّقَ بيدهِ.
وقال مقاتلُ :(كَانَ النَّبيُّ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ رَجُلاَنِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ عَنْ يَمِينِهِ وَرَجُلاَنِ عَنْ يَسَارِهِ، فَيُصَفِّرُونَ كَمَا يُصَفِّرُ الْمُكَاءُ، وَيُصَفِّقُونَ بأَيْدِيهِمْ ؛ لِيَخْلِطُواْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَقِرَاءَتَهُ، وَكَانُواْ يَفْعَلُونَ كَذلِكَ بصَلاَةِ مَنْ آمَنَ بهِ، فَقَتَلَهُمُ اللهُ يَوْمَ بَدْرٍ). وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ ؛ ويقالُ : أرادَ بهذا أنه يُقال لهم يومَ القيامةِ :﴿ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ وقال أبُو جَعفر :(سَأَلْتُ أبَا سَلَمَةَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً ﴾ فَجَمَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ نَفَخَ فِيهِمَا صَفِيراً). وقال ابنُ عبَّاس :(كَانَتْ قُرَيْشُ يَطُوفُونَ بالْبَيْتِ عُرَاةً، وَيُدْخِلُونَ أصَابعَهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ فَيُصَفِّرُونَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ﴾ ؛ نزلَت هذه الآيةُ في الْمُطْعِمينَ منهم يومَ بدرٍ، وكانوا ثلاثةَ عشَرَ رجُلاً وهم : أبُو جَهلٍ وأخوهُ الحارثُ ؛ والنَّضرُ بن الحارثِ ؛ وأُبَيُّ بن خلَفٍ ؛ وزَمْعَةُ بنُ الأسوَدِ ؛ وعُتبة وشَيْبةُ، كان لكلِّ واحدٍ منهم نوبَةُ يومٍ في الإطعامِ.
ومعنى الآية : إنَّ الذين كفَرُوا يُنفِقُونَ أموالَهم على عدَاوَةِ رسولِ اللهِ ﷺ ليَصُدُّوا الناسَ عن دين اللهِ، فيستقبحُ هذه الإنفاق منهم، ثم يكون إنفاقُهم ندامةً عليهم يومَ القيامة، يُهزَمُونَ ويُقتلون ببدرٍ لا تنفعُهم نفقتهم.
والْحَسْرَةُ : مأخوذةٌ من الكَشْفِ، يقالُ : حَسَرَ رَأْسَهُ إذا كَشَفَهُ، والْحَاسِرُ : كاشِفُ الرَّأسِ، فيكونُ المعنى : ثم يَكْشِفُ لهم عن ذلكَ ما يكونَ حَسْرَةً علِيهم. قِيْلَ : كان يُطعِمُ كلُّ واحدٍ منهم كلَّ يومٍ عَشْرَ جُزُرٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ ؛ بيانُ أنَّ ذلك القتلَ والهزيمةَ لا يُكفِّران ذُنوبَهم، وأنَّهم يُحشرون في الآخرةِ إلى جهنَّم للجزاءِ.
وقولهُ تعالى :﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ ؛ أي ليَمِيزَ اللهُ نفقةَ المؤمنين من نفقةِ الكافرين، والعملَ السَّيِّءَ من العملِ الصَّالحِ. وقُرَئ (لِيُمَيِّزَ اللهُ) بالتشديد، والمعنى : ليُمَيِّزَ اللهُ ذلك الحشرَ الخبيثَ من الطيِّب ؛ أي الكافرَ من المؤمنِ، فيُنْزِلَ الْمُحِقَّ الجنانَ والكافرَ النِّيران.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ﴾ ؛ أي يجعلَ ما أنفقَهُ المشركون في معصيةِ الله بعضَهُ فوقَ بعضٍ، فيجعلهُ رُكَاماً فيُكَوَّي بذلك جِبَاهُهم وجنُوبُهم في جهنَّم.
وَقِيْلَ : أرادَ بقولهِ ﴿ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً ﴾ طَرْحَ بعضهِ على بعضٍ، كما يفعلُ بالمتاعِ الخفيف تَحقِيراً له. وَقِيْلَ : معنى (فَيَرْكُمَهُ) أي يجمَعهُ حتى يصيرَ كالسَّحاب الْمَرْكُومِ وهو المجتَمِعُ الكثيفُ فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ. وقولهُ تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ ؛ أي هم الذين خَسِرُوا أنفُسَهم في الدُّنيا والآخرةِ، وغُشَّتْ صفقَتُهم وخَسِرَتْ تجارَتُهم ؛ لأنَّهم اشتَرَوا بأموالِهم عذابَ اللهِ في الآخرةِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ ؛ أي قُل لأبي سُفيان وأصحابهِ إنْ ينتَهُوا عن الشِّرك وقتالِ مُحَمَّدٍ ﷺ ﴿ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ أي ما قد مَضَى من ذُنوبهم قبلَ الإسلام، ﴿ وَإِنْ يَعُودُواْ ﴾ ؛ لقتالِ مُحَمَّدٍ، ﴿ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ﴾، في نصرِ الأنبياء والأولياءِ وهَلاكِ الكفَّار، وإنَّ للكفارِ النارَ في الآخرة. وأنشدَ بعضُهم : يَسْتَوْجِبُ الْعَفْوَ الْفَتَى إذا اعْتَرَفْ ثُمَّ انْتَهى عَمَّا أتَاهُ وَاقْتَرَفْلقولهِ ﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ ؛ أي قاتِلُوا كفَّارَ مكَّة حتى لا يكون شِرْكٌ. وَقِيْلَ : حتى لا يكون كافِرٌ بغيرِ عهدٍ ؛ لأن الْفِتْنَةَ إنما تكون بأَنْ يُتْرَكَ الْكُفَّارُ بلاَ عَهْدٍ، فإنَّ الْكَافِرَ بغَيْرِ عَهْدٍ يَكُونُ عَزيزاً فِي نَفْسِهِ يَدْعُو النَّاسَ إلَى دِينهِ. ويجوزُ أن يكون المرادُ بالفتنةِ كلَّ ما يؤدِّي إلى الفسادِ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله ﴾ ؛ أي وتكون الطاعةُ كلُّها للهِ، فتجتمعُ الناسُ على دِين الإسلامِ. وقولهُ تعالى :﴿ فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ ؛ أي فإن انتَهَوا عن الشِّركِ فإنَّ اللهَ يجازيهم جزاءَ البصِير بأعمالِهم. ﴿ وَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ ؛ أي أعرَضُوا عن طاعةِ اللهِ، ﴿ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ ﴾ ؛ أي نَاصِرُكم، ﴿ نِعْمَ الْمَوْلَى ﴾ ؛ نِعْمَ الحافظِ والوَلِيِّ، ﴿ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ ؛ مُنصِرُكم عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ ؛ حتى الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ، قال ابنُ عَبَّاس :(كَانَ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ يُقْسَمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى خَمْسَةِ أسْهُمٍ، سَهْمٌ للهِ وَرَسُولِهِ، وَوَاحِدٌ كَانَ النَّبيُّ ﷺ يُعْطِي فِيْهِ الْمُحْتَاجَ وَالضَّعِيفَ وَيَجْعَلُهُ فِي عِدَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ السِّلاَحِ وَنَحْوِهِ، وَسَهْمٌ لِذوِي قَرَابَةِ النِّبيِّ ﷺ، وَسَهْمٌ لِيَتَامَى الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَسَهْمٌ لِمَسَاكِينِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَهْمٌ لابْنِ السَّبِيلِ. ثُمَّ قَسَمَهُ أبُو بَكْرٍ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، عَلَى ثَلاَثَةِ أسْهُمٍ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السَّبيلِ، وَكَذلِكَ فَعَلَ عُمَرُ ثُمَّ عُثَْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ).
وبهذا أخذ أبو حَنيفة وأصحابهُ ؛ قالوا : إنَّ قولَهُ تعالى ﴿ للَّهِ خُمُسَهُ ﴾ لافتتاحِ الكلامِ باسمه تعالى على طريقِ التبرُّك، لا لأنَّ للهِ نصيباً من الْخُمُسِ، فإنَّ الدُّنيا والآخرة كلُّها لهُ سُبحانه، وسهمُ رسولِ اللهِ ﷺ سَقَطَ بموتهِ ؛ لأن الأنبياءَ عليهمُ السَّلام لا يُورَثُونَ، وبينَهم ذوِي القراباتِ كان جعل النبيِّ ﷺ سهمَهُ في مَن شاءَ منهم، ألاَ ترى أنه أعطَى بني هاشم وبنِي المطَّلب، وأحرمَ بني نوفل وبني عبدِ شمس مع مساواتِها بني عبدِ المطلَّب في القُرْب ؛ لأن بني هاشم لم يفارقوهُ في جاهليَّة ولا إسلامٍ، وإذا بَطَلَ هذان السَّهمان بعدَ رسولِ اللهِ ﷺ، ورَجَعْنَا إلى السِّهام الثلاثةِ التي ذُكرت مَعَهُما، فقُسِّمَ الخمُسُ على ثلاثةِ أسهُم، ويدخلُ في استحقاقهِ فقراءُ بني هاشم دونَ أغنيائِهم بدلاً عمَّا حُرِمُوا من الصَّدقات، وأربعةُ أخماسِ الغَنيمة للغَانِمين.
واليَتِيمُ من كلِّ جنسٍ من الحيوان الذي ماتَتْ أمُّهُ، إلا من بَني آدمَ فإنه إذا ماتَ أبوهُ. والمسكينُ الذي أسْكَنَهُ الضعفُ عن النُّهوضِ لحاجتهِ. وابنُ السَّبيلِ المنطقعُ عن مالهِ.
وقال بعضُهم : يُقسَمُ الخمُس الآنَ على أربعةِ اسهُم، فينفردُ سهم قرابةِ النبيِّ ﷺ، وقال الشافعيُّ :(يُقْسَمُ الْخُمُسُ الآن عَلَى خَمْسَةِ أسْهُمٍ، سَهْمٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ يُصْرَفُ إلَى الأَهَمِّ فَالأَهَمِّ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ)، ومِن أصحابهِ مَن قالَ : يصرفُ إلى الخليفةِ، وسهمُ قرابةِ ذوي النبيِّ ﷺ لأغنيائِهم وفُقَرائِهم، وثلاثةُ أسهُمٍ لليتامَى والمساكين وابنِ السَّبيل.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ﴾ ؛ معناهُ : اقبَلُوا ما أُمِرتُم به في الغنيمةِ إن كُنتم صدَّقتُم بتوحيدِ الله، وبما أنزَلنا على عبدِنا مُحَمَّدٍ ﷺ، وقولهُ تعالى :﴿ يَوْمَ الْفُرْقَانِ ﴾ أي يومَ بدرٍ فُرِّقَ فيه بين الحقِّ والباطلِ بنصرِ المؤمنين وكَبْتِ الكافرين مع ضَعفِ المسلمين وقَتلِهم. وقولهُ تعالى :﴿ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ﴾ أي يومَ جَمْعِ الكافرين والمؤمنين، ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ؛ من نصرِ المؤمنين وغير ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾ ؛ أي اذكرُوا يا أصحابَ مُحَمَّدٍ إذ كُنتم بالعُدوَةِ الدُّنيا، أي شَفِيرِ الوادِي الذي يَلِي المدينةَ، يقالُ لشَفِيرِ الوادِي عَدْوَةٌ وَعِدْوَةٌ، ﴿ وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى ﴾ يعني المشركينَ بالجانب الآخر من الوَادِي على شفير الأبعدِ من المدينةِ، وهو الجانبُ الذي يَلي مكَّةَ. وقوله تعالى ﴿ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾ أي والقافلةُ الْمُقْبلَةُ من الشَّام التي كان أبو سُفيان فيها كانت أسفلَ منهم بثلاثةِ أميالٍ كانوا نَازِلين أسفلَ الوادي.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ﴾ ؛ أي إنَّ اللهَ جَمَعَكم مع المشركين وأصحاب العِيرِ في ليلةٍ واحدة بمَنْزِلٍ واحدٍ، ولو تَواعَدْتُم للاجتماعِ هناكَ لاختلَفْتُم في المعيادِ بالعوائقِ التي تعوقُ عن ذلك، وبأنَّكم لو كُنتم تعلمون كثرةَ عددِ المشركين وقلَّةَ عَدَدِكم لم تَحضُروا في ذلك المكان للقتالِ. وقولهُ تعالى :﴿ وَلَـاكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ﴾ ؛ أي ولكن قَدَّرَ اللهُ اجتماعَكم في ذلك المكانِ ليَقْضِيَ الله أمْراً كائناً لا محالةَ من إعزازِ المسلمين وإعلائهِ " الإسلام ". على سائرِ الأديان.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ ؛ أي ليَمُوتَ من ماتَ منهم بعد قيامِ الحجَّة عليهم، ﴿ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ ؛ ويعيشَ من عاشَ بعد قيامِ الحجَّة عليهم، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ ﴾ ؛ بمقالَتِكم، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ ؛ بضمائرِكم، يُجازيكم على قدرِ أعمَالِكم.
قرأ أهلُ مكَّة والبصرة (بالْعِدْوَةِ) بكسرِ العين، وقرأ الباقون بضمِّها وهما لُغتان مشهورتان كالكِسْوَة والكُسْوَة والرِّشْوَة والرُّشْوَةِ، وكذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ قرأ نافعُ والبزي وخلَفٌ (حَييَ) بيائين مثل (حَييَ) على الأصلِ، وقرأ الباقون بياءٍ واحدة مشدَّدة على الإدغامِ، ومعنى ﴿ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ أي ليَمُوتَ من ماتَ عن بيِّنة رآها وغيرةٍ عاينَها، أو حجَّة قامت عليه، وكذلكَ حَيوةُ من يحيَى لوعدهِ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾[الإسراء : ١٥].
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(وَذلِكَ أنَّ النَّبيَّ ﷺ رَأى الْعَدُوَّ قَلِيلاً فِي الْمَنَامِ، فَقَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى أصْحَابهِ، فَلَمَّا الْتَقَواْ ببَدْرٍ قَلَّلَ اللهُ الْمُشْرِكِينَ فِي أعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ تَصْدِيقاً لِرُؤْيَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)، ﴿ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ ﴾ ؛ أي لَجَبنْتُمْ وتأخَّرتُم عن الصَّفِّ ولاخْتَلَفْتُم في أمرِ الحرب، والفَشَلُ هو ضَعْفٌ مع الوَجَلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ ﴾ التَّنازُعُ أنْ يحاولَ كلُّ واحدٍ من الاثنين أن يَنْزِعَ صاحبَهُ مما هو عليهِ، ﴿ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ﴾ ؛ أي سلَّمَكم من ذلك، ﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ ؛ أي بما في قُلوبكم، عَلِمَ أنَّكم لو عَلِمْتُم كثرةَ عددِ المشركين لرَغِبتم في القتالِ.
قولُه :﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾ ؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى قلَّلَ المشركين في أعيُنِ المسلمين ليتجرَّأ المسلمون على قتالِهم، وقلَّلَ المسلمين في أعيُن المشركين كَيْلاَ يَستَعِدَّ المشركون لِحَربهم كلَّ الاستعدادِ.
رُوي عن عبدِالله بن مسعود أنهُ قال :(قُلْتُ لِرَجُلٍ بجَنْبي : أتُرَاهُمْ تَسْعِينَ رَجُلاً ؟ قَالَ : هُمْ قَرِيبٌ مِنَ الْمِائَةِ، فَلَمَّا أسَرْنَا رَجُلاً مِنْهُمْ سَأَلْنَاهُ عَنْ عَدَدِهِمْ، قالَ : كُنَّا ألْفاً أوْ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسِينَ).
وقولهُ تعالى :﴿ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ﴾ قد تقدَّم تفسيرهُ، والفائدةُ في إعادتهِ أنَّ المرادَ بالأوَّل إعلاءُ الإسلامِ على سائرِ الأديان، وبالثاني قتلُ المشركين وأسُرهم يومَ بدر وكلاهما كان كائناً في علمِ الله.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾ ؛ أي إذا لقِيتُم جماعةً من الكفَّارِ فاثبتُوا لقتالِهم، واذكرُوا اللهَ كثيراً في الحرب بالدُّعاء والاستغفارِ ؛ لكي تُفلِحُوا بالظَّفرِ على الأعداءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ ﴾ ؛ أي أطِيعُوا اللهَ ورسولَهُ في الثَّباتِ على القتالِ ولا تختَلفُوا فيما بينكم في لقاءِ العدوِّ والتقدُّم إلى قتالِهم فتَجبُنُوا من عدوِّكم، ﴿ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ ؛ قال قتادةُ :(يَعْنِي ريحَ النَّصْرِ) الَّتِي يَبْعَثُهَا اللهُ مَعَ مَنْ يَنْصُرُهُ كَمَا قَالَ عليه السلام :" نُصِرْتُ بالصَّبَا ".
وَقِِيْلَ : معناهُ : وتذهبَ دولَتكم وقوَّتُكم، وقال مجاهد :(وَتَذْهَبَ نُصْرَتُكُمْ)، وقال السديُّ :(جُرأتُكُمْ وَحِدَّتُكُمْ وَجَلَدُكُمْ). وقولهُ تعالى :﴿ وَاصْبِرُواْ ﴾ ؛ أي اصبروا على قتالِ المشركين ولا توَلُّوهم الأدبارَ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾، بالنصرِ والمعونة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ ﴾ أي قاتَلُوا لوجهِ الله ولا تكونُوا في خروجِكم إلى قتال المشركين كالْمُشرِكين الذين خرَجُوا من ديارهم إلى قتالِ المسلمين بَطَراً وهو الطُّغيان في النِّعمة وريَاءِ الناسِ، والرِّياءُ : هو إظهارُ الجميلِ مع إبطَانِ القبيحِ. قَوْلُهُ تَعَالى :﴿ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ ؛ أي هُم مع بَطَرِهم وريَائِهم يَمنَعُونَ الناسَ عن دينِ الله.
قال ابنُ عبَّاس :(وَذلِكَ أنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكينَ قَالُوا لأَبي جَهْلٍ وَأصْحَابهِ قَبْلَ وُصُولِهمْ إلَى بَدْرٍ : ارْجِعُواْ إلَى مَكَّةَ فَقَدْ نَحَتِ الْعِيرُ، قَالُواْ : لاَ حَتَّى تُنْحَرَ الْجَزُورُ وَتُشْرَبَ الْخُمُورُ وَتُغَنِّي الْقَيْنَاتُ، حَتَّى تَسْمَعَ الْعَرَبُ بمَسِيرِنَا. فَنَزَلُواْ ببَدْرٍ وَمَعَهُمُ الْقَيْنَاتُ بالدُّفُوفِ وَيَتَغَنَّيْنَ بِهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَقَاهُمْ كَأْسَ الْمَنَايَا مَكَانَ الْخُمُور، وَنَاحَتْ عَلَيهِمُ النَّوَائِحُ مَكَانَ الْقَيْنَاتِ، فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أنْ يَكُونُواْ مِثْلَهُمْ، وَأمَرَهُمْ بإخْلاَصِ النِّيَّةِ وَالصَّبْرِ فِي نَصْرِ دِينهِ وَمُؤَازَرَةِ نَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ﴾ ؛ أي واذْكرُوا إذ زَيَّنَ لَهم الشيطانُ أعمالَهم يومَ بدرٍ، وقالَِ : لاَ غَالِبَ لكم اليومَ مِن أحدٍ من الناس فمنَعْتُكُم وكثَّرْتُكم وإنِّي دافعٌ عنكم الشرَّ، ﴿ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ ؛ أي لَمَّا توافَقَتا رجعَ الشيطانُ القَهْقرَى على عَقِبَيهِ هَارباً خَوْفاً مما رأى، ﴿ وَقَالَ ﴾ ؛ للمشركين :﴿ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنْكُمْ إِنَّي أَرَى مَا ﴾ ؛ أي الملائكةَ تَنْزِلُ من السَّماء وأنتم، ﴿ لاَ تَرَوْنَ ﴾ ؛ وكان يعرفُ الملائكةَ ويعرفونَهُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ ﴾ ؛ أي أخافهُ أنْ يُصيبَني معَكم بعذابهِ، ﴿ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ ؛ لِمَنِ استحقَّهُ، قال مقاتلُ :(كَذبَ عَدُوُّ اللهِ، مَا كَانَ بهِ مِنْ خَوْفٍ مِنَ اللهِ، فَإنَّ اللهَ قَدْ أنْظَرَهُ إلَى الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، وَلَكِنَّهُ خَذلَهُمْ عِنْدَ الشِّدَّةِ). ويقالُ : ظنَّ إبليسُ أن الوقتَ الذي أنظرَهُ الله قد حضرَ.
وعن ابنِ عبِّاس :(أنَّ أهْلَ مَكَّةَ لَمَّا وَجَدُواْ الْعِيرَ أرَادُوا الرُّجُوعَ، فَتَمَثَّلَ لَهُمْ إبْلِيسُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ : سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْنَمِ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فَقَالَ : لاَ تَرْجِعُواْ حَتَّى تَسْتَأْصِلُوهُمْ، فإِنَّكُمْ كَثيرٌ وَهُمْ قَلِيلٌ، وَلاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، وَإنِّي مُعِينٌ لَكُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فلاَ تَمُرُّونَ بأحَدِ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ إلاَّ سَارَ مَعَكُمْ، فَإنَّهُمْ لاَ يُخَالِفُونَنِي.
فَسَارُواْ وَسَارَ إبْلِيسُ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَخْرُجْ أحَدُ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فَجَعَلُواْ يَقُولُونَ : يَا سُرَاقَةُ أيْنَ مَا ضَمَمْتَ لَنَا ؟ فَيَقُولُ : مُرُونِي، حَتَّى قِدِمُوا بَدْراً، فَلَمَّا كَأنَ عِنْدَ الْقِتَالِ رَأى إبْليسُ جِبْرِيلَ فَنَكَصَ عَلَى عَقِبيْهِ رَاجِعاً، وََقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ : يَا سُرَاقَةُ أيْنَ تَذْهَبُ ؟ فَقَالَ : إنِّي أرَى مَا لاَ تَرَوْنَ، فَقَالَ الْحَارثُ : وَمَا تَرَى إلاَّ جَعَاشِيشَ أهْلَ يَثْرِبَ ؟ - وَالْجُعْشُوشُ : الرَّجُلُ الْقَصِِيرُ - فَلَمَّا رَأى الْحَارثُ إبْلِيسَ يَنْطَلِقُ، أهْوَى بهِ لِيَأْخُذهُ، فَدَفَعَهُ إبْلِيسُ فَرَمَى بهِ، ثمَّ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وقَالَ :- إني - أخَافُ اللهَ، وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَاب.
فَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ جَعَلُوا يَقُولُونَ : هَزَمَ النَّاسَ سُرَاقَةُ، فَبَلَغَ ذلِكَ سُرَاقَةُ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : بَلَغَنِي أنَّكُمْ تَقُولُونَ أنِّي هَزَمْتُ النَّاسَ! وَالَّذِي نَحْلِفُ بهِ مَا بَلَغَنِي مَا تَقُولُونَ وَلاَ سَمِعْتُ بمَسِيرِكُمْ حَتَّى بَلَغَنِي هَزِيْمَتُكُمْ، فَجَعَلُواْ يَقُولُونَ لَهُ : أمَا أتَيْتَنَا يَوْمَ كَذا وَكَذا ؟ وَهُوَ يَقُولُ : لاَ ؛ وَالَّذي نَحْلُِ بهِ مَا كَانَ مِنْ ذا قَلِيلٍ وَلاَ كَثِيرٍ. فَلَمَّا أسْلَمُواْ عَرَفُوا أنَّهُ إنَّما كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ).
فإنْ قِيْلَ : كيفَ يجوزُ أن يتمكَّن إبليسُ مِنْ أن يخلعَ صورةَ نفسِهِ ويلبسَ صورةَ سُراقة ؟ ولو كان قادِراً على أن يجعلَ نَفسَهُ صورةَ إنسانٍ كان قادراً على أن يجعلَ غيرَهُ إنسَاناً ؟ قِيْلَ : إذا صَحَّتْ هذه الروايةُ، فالجوابُ : أن اللهَ خَلَقَ إبليسَ في صُورةِ سُراقة، واللهُ تعالى قادرٌ على خلقٍ إنسان في مثلِ صورة سُراقة ابتداءً، فكان قادراً على أن يُصوِّر إبليسَ في مثل صورةِ سُراقة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـاؤُلاءِ دِينُهُمْ ﴾ ؛ قرأ الحسنُ :(الَّذِي فِي قُلُوبهِمْ مَرَضٌ هُمُ الْمُشْرِكُونَ). وَقِيْلَ : هم أناسٌ كانوا قد تكلَّموا بكلمةِ الإيمان حين كان النبيُّ ﷺ بمكَّة من دون علمٍ منهم بأمرِ رسول اللهِ ﷺ فيكون معنى قولهِ :﴿ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ أي شَكٍّ، وهم الذين لا عزيمةَ لهم في الكُفرِ ولا في الإسلامِ، ولم يكونوا أعداءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ غَرَّ هَـاؤُلاءِ دِينُهُمْ ﴾ قال ابنُ عباس :(لَمَّا نَفَرَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مَكَّةَ إلَى بَدْرٍ وَلَمْ يُخْلِفُوا بمَكَّةَ أحَداً قَدِ احْتَلَمَ إلاَّ خَرَجُواْ بهِ، وَأخْرَجُواْ مَعَهُمْ أُنَاساً كَانوُا قَدْ تَكَلَّمُوا بالإسْلاَمِ بمَكَّةَ، فَلَمَّا الْتَقَواْ وَرَأوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةَ الْمُشْرِكِينَ، ارْتَابُوا وَنَافَقُواْ وَقَالُواْ لأَهْلِ مَكَّةَ : غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ، يَعْنُونَ الْمُسْلِمِينَ غَرَّهُمْ دِينُهُمْ حِينَ خَرَجُواْ مَعَ قِلَّتِهِمْ إلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ). فَقُتِلَ هَؤُلاَءِ مَعَ الْمُشْرِكينَ يَوْمَئِذٍ، وَضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ وُجُوهَهُمْ وَأدْبَارَهُمْ، كَمَا ذكَرَ اللهُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ ؛ أي ومَن يَثِقْ باللهِ في جميعِ أمُورهِ، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ﴾ ؛ بنصرهِ على عدوِّهِ ولو كَثُرَ عددهُ، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ يضعُ الأمورَ مواضِعَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ ؛ أي لو ترَى يا مُحَمَّدُ حين يَقبضُ الملائكةُ أرواحَ الكفَّار ببَدْرٍ يضرِبُونَ على وجُوهِهم بالأعمِدَةِ، وعلى أدبارِهم يقولون لَهم :﴿ وَذُوقُواْ ﴾ ؛ بعدَ السَّيف في الدُّنيا، ﴿ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ ؛ في الآخرةِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ ؛ أي ذلكَ العذابُ الذي عَايَنْتُمُوهُ بكُفرِكم وخِيانَتِكم، والخيانةُ إذا أُضيفَت إلى الإنسان أكِّدت بذكر اليَدِ في العادةِ. وقولهُ تعالى :﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ ؛ أي اعلَمُوا أنَّ الله لا يُعذِّبُ أحداً بجُرمِ أحَدٍ ولا يعذِّبُ أحداً بغيرِ ذنبٍ. وموضع (أنَّ) نصبٌ بنَزعِ الخافض عَطفاً على قولهِ ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ ﴾ تقديرهُ : وبأن اللهَ، وكان الحسنُ إذا قرأ هذه السُّورة قال :(طُوبَى لِجَيْشٍ قَائِدُهُمْ رَسُولُ اللهِ، وَمُبَارِزُهُمْ أسَدُ اللهِ، وَجِهَادُهُمْ طَاعَةُ اللهِ، وَمَدَدُهُمْ مَلاَئِكَةُ اللهِ، وَثَوَابُهُمْ رِضْوَانُ اللهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ ؛ أي عَادَةِ هؤلاءِ في كُفرهم، كعَادةِ آل فرعون والذين مِن قبلهم، ﴿ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾، التي أتَتَهْمُ بْها الرُّسُولُ، ﴿ فَأَخَذَهُمُ ﴾ ؛ فعَاقَبَهم، ﴿ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ ﴾ ؛ في أخذِ الأعداء، ﴿ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ ؛ لِمَن عصاهُ.
والدَّأبُ في اللغة : الْعَادَةُ، يقالُ : فلانٌ يَدْأبُ في كذا ؛ أي يُدَاوِمُ عليه ويُتعِبُ نفسَهُ فيه. وآلُ الرَّجُلِ : الذين يَرجِعُونَ إليه بأَوْكَدِ الأسبَاب، ولهذا يقالُ لقرابةِ الرجُل : آلُ الرَّجُلِ ولا يقالُ لأصحابهِ : آلُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ قال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَاهُ كَفِعْلِ آلِ فِرْعَوْنَ)، وقال عطاء ومجاهدُ :(كَنِيَّتِهِمْ)، وَقِيْلَ : كَمِثَالِهم، والمعنى : أنَّ أهلَ بدرٍ من المشركين فَعَلُوا كفِعْلِ آل فرعون من الكُفر والتكذيب، ففعلَ اللهُ بهم كما فعل بآلِ فرعون من الهلاكِ والعذاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ ؛ أي لم يفعلِ اللهُ ذلك العقابَ بهم بأنَّ الله لَمْ يَكُ مُزيلاً نعمةً أنَعَمَها على قومٍ حتى يُغَيِّروا ما بأنفُسِهم في الدِّين والنِّعَم إلى أحوالٍ لَم يَجُزْ لهم أن يغيِّروا إليها، كما فعلَ أهلُ مكَّة بعد أنْ أطعَمَهم اللهُ من جُوعٍ وآمَنَهُم من خوفٍ، وأرسلَ إليهم رَسُولاً منهم، وأنزلَ إليهم كِتَاباً بلسانهِم. ثم إنَّهم غيَّروا هذه النِّعَم ولم يَشكرُوها ولا عرَفُوها من اللهِ، فغَّيرَ اللهُ ما بهم وأهلَكَهم وعاقَبَهم ببدرٍ، وُيدخِلُهم النارَ في الآخرةِ.
قال الكلبيُّ :(يَعْنِي بالآيَةِ أهْلَ مَكَّةَ، بَعَثَ إلَيْهِمْ مُحَمَّداً ﷺ، فَغَيَّرُواْ نِعْمَةَ اللهِ، وَتَغْييرُهَا كُفْرُهَا وَتَرْكُ شُكْرِهَا)، وقال السديُّ : نِعْمَةُ اللهِ يَعْنِي مُحَمَّداً، أنْعَمَ اللهُ بهِ عَلَى قُرَيْشٍ فَكَذبُوهُ وَكَفَرُواْ بهِ، فَنَقَلَهُ اللهُ إلَى الأَنْصَارِ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ ؛ أي سميعٌ لجميعِ المخلوقاتِ المسموعات، عليمٌ لمعاناتكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ ؛ أي عادَتِهم في التكذيب بآيَاتِ اللهِ كعَادَةِ آلِ فرعون، ﴿ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ ؛ من الأُمَم الماضيةِ، ﴿ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾ ؛ التي جاءَتْ بها رُسُلهُم، ﴿ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ ﴾ ؛ أي وأهلَكْنا، ﴿ آلَ فِرْعَونَ ﴾ بالغَرقِ خاصَّة، ﴿ وَكُلٌّ ﴾ ؛ هؤلاءِ، ﴿ كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾ ؛ لأنفُسِهم، مُستحقِّينَ العقوبةَ بسُوءِ أعمالهم.
فإن قِيْلَ : لِمَ كرَّرَ آلَ فرعون ؟ قِيْلَ : المرادُ بالأوَّل أن هؤلاءِ جازَاهُم اللهُ بالقتلِ والأَسْرِ، كما جُوزِيَ أولئكَ بالغرقِ والهلاك، والمرادُ بالثاني : أن صُنْعَ هؤلاءِ في النِّعم التي أنعمَ اللهُ عليهم كصُنعِ آلِ فرعون فيما أعطاهم اللهُ من الْمُلْكِ والعزِّ في الدُّنيا، فلما غَيَّرَ كلُّ فريقٍ النعمَ غيَّر اللهُ سبحانه ما بهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ؛ أي إن شرَّ ما يدبُّ على الأرضِ الذين جَحَدُوا بتوحيدِ الله ونبوَّةِ رسُلهِ، مُصِرِّينَ على الكفرِ، ﴿ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ﴾ نزلَتْ في يَهودِ بني قُريظةَ، عَاهَدَهم النبيُّ ﷺ على أنْ لا يضُرُّوا به ولا يُعِينُوا عليه عدُوّاً، فَنَقَضُوا العهدَ وأعانوا أهلَ مكَّة بالسِّلاح على قتالِ النبيِّ ﷺ، ثُم قالوا : نَسِينَا وأخطَأْنا، ثم عاهَدَهم مرَّة أُخرى، فرَكِبَ كعبُ بن الأشرفِ إلى أهلِ مكَّة، ووَاثَقَهُمْ على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقولهُ تعالى :﴿ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ﴾ أي معَهُم، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ ﴾ ؛ أي لا يخَافُونَ اللهَ في نقضِ العهد.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ ؛ معناهُ : فإما تصادِفَهم في الحرب، فافْعَلْ بهم فِعْلاً من القتلِ والعُقوبَةِ والتَّنكيلِ تعرفُ بهم مَن ورائَهم من أعدائِكَ. والتَّشْرِيدُ : التَّبْدِيدُ والتَّفْرِيقُ، ويقالُ : معنى (شَرِّدْ بهِمْ) أي أسْمِعْ بهِمْ بلُغَةِ قُريش.
وقال ابنُ عبَّاس :(فَشَرِّدْ بهِمْ، أيْ نَكِّلْ بهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ)، وقال ابنُ جُبير :(أْنْذِرْ بهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ). وَقِيْلَ : اقتُلْهُم قَتْلاً، وَقِيْلَ : أثْخِنْ فيهِمُ القتلَ حتى يخافَكَ غيرُهم من أهلِ مكَّة وأهلِ اليَمَنِ. وقال القُتَيبيُّ :(سَمِّعْ بهِمْ) وقرأ ابنُ مسعود (فَشَرِّذْ) بالذالِ المعجَّمة وهما واحدٌ. وقال قُطرب :(التَّشْرِيدُ بالدَّالِ : التَّنْكِيلُ، وَالذالِ : التَّفْرِيقُ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ أي لكَي يعتَبروا فَلا يَنقضُوا العهدَ الذي بينَكَ وبينهم مخافةَ أن يحِلَّ بهم مثلَ ما حلَّ ببني قُريظة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ ﴾ ؛ أي إذا خِفْتَ من قومِ بينَكَ وبينَهم عهدٌ وخيانةٌ في ذلك العهدِ من غَدْرٍ بالمسلمين، أي عَلِمْتَ أنَّهم يفعلون ذلك بالمسلمين خِفْيَةً من غيرِ أن يظهرَ نقضُ العهدِ، فَانْبذِ العهدَ إليهم على سواءٍ منك ومنهم في العلمِ، ولا تبدَأهم بالقتالِ من قبلِ أن تُعلِمَهُم إعْلاَماً بَيِّناً بأنَّكَ انقضتَ العهدَ.
والمعنى : إمَّا تعلَمَنَّ يا مُحَمَّدُ من قومٍ مُعاهِدين لكَ نَكْثَ عهدٍ ونقضَ عهدٍ يظهرُ لك من آثارِ الغدرِ والخيانة كما ظهرَ لكَ من بني قُريظة والنَّضِير، فَانْبذْ إليهم ؛ أي فَاطْرَحْ إليهم عهدَهم على سواءٍ ؛ أي أخبرْهم وَأعْلِمْهُمْ قبلَ حَربكَ إياهم أنَّكَ فَسَخْتَ العهدَ بينَكَ وبينهم، حتى تصيرَ أنتَ وهم على سواءٍ في العلم بأنَّكَ لهم محاربٌ، فيأخذُوا للحرب أُهْبَتَهَا وَتَبْرَأ من الغدرِ. وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ﴾ ؛ أي لا يرضَى عملَ الذين يَخُونُونَ بالبَدْأةِ بالقتالِ من غيرِ أعلامٍ بنقضِِ العهد.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ﴾ ؛ أي لا تَظُنَّنَّ يا مُحَمَّدُ أن مَن أفلتَ من الكفار من هذه الحرب قد سبقَ إلى الحياةِ. ويقالُ : لا تَحْسَبَنَّ يا مُحَمَّدُ أنَّ أعداءَك من الكفار المشركين ربما يقولُون لكَ بأنْ لا يُظفِرُكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بهم، بلِ اللهُ تعالى يُظهِرُكَ عليهم ويُظفِرُكَ.
وقرأ أبو جعفرٍ وأبنُ عامرٍ وحمزةُ وحفص بالياءِ على معنى لا تَظُنَّنَّ هؤلاءِ المشركين إنَّ من ماتَ منهم فقد فاتَ من الله عَزَّ وَجَلَّ، وأنَّ اللهَ لا يبعثهُ يومَ القيامةِ ولا يعاقبهُ. وقرأ أهلُ الشام :(أنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ) بالفتحِ، وتكونُ (لاَ) صلةً تتقديرهُ : ولا تحسبَنَّ الذين كفَرُوا سَبَقُوا أنَّهم لا يُعجِزُونَ ؛ أي لا يَفُوتُونَ. وقيل معناهُ : لأَنَّهُمْ، وقرأ عامَّة القُرَّاء بالكسرِ على الابتداء.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ ﴾ ؛ أي أعِدُّوا للكفار ما استطعتُم من آلاَتِ الحرب. وعن ابنِ عبَّاس وعقبة بن عامرِ ؛ قَالَ :" قَرَأ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ ﴾ ثُمَّ قَالَ :" أَلاَ إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، ألاَ إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، لَهْوُ الْمُؤْمِنِ فِي الْخَلاَءِ وَقَوَّتُهُ عِنْدَ اللِّقَاءِ " وَمَاتَ عُقْبَةُ فَاْوْصَى بتِسْعِينَ قَوْساً مَعَ كُلِّ قَوْسٍ سِهَامُهَا فِي سَبيلِ الله، وَقَالَ عُقْبَةُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" إنَّ اللهَ لَيُدْخِلُ الْجَنَّةَ الثَّلاَثَةَ سَهْمٌ وَاحِدٌ، صَانِعُهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَالْمُهْدِي لَهُ، وَالرَّامِي بهِ " وقالَ عليه السلام :" كُلُّ شَىءٍ يَلْهُوا بهِ الرَّجُلُ بَاطِلٌ، إلاَّ رَمْيَةً بقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلاَعَبَتَهُ أْهْلَهُ، فإنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾ ؛ معناهُ : ارْتَبطُوا الخيلَ لَهم ولقتالِهم ؛ أي أعِدُّوا لَهم ذلك لتخويفِ عُدوِّ اللهِ وعدُوِّكم ﴿ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ ﴾ أي مِن دون كُفَّار العرب وأهلِ الكتاب ﴿ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ﴾ أي لا تَعرِفُونَهُمْ. قال ابنُ عبِّاس :(يَعْنِي كُفَّارَ الْجِنِّ)، قَالَ ﷺ :" لاَ يَقْرُبُ صَاحِبَ قَوْسٍ جِنِّيٌّ أبَداً ". ويقالُ : إن الجنَّ لا تدخلُ بيتاً فيه قوسٌ ولا سلاحٌ.
قال السديُّ :(أرَادَ بهِ أهْلَ فَارِسَ)، وقال الحسنُ :(هُمُ الْمُنَافِقُونَ)، وقال الضحَّاك :(هُمُ الشَّيَاطِينُ)، ولا يمتنعُ أن يكةون الكلُّ مرادٌ بالآيةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾ ؛ أي ما تُنفقوا من شيءٍ في الجهادِ يوفَّ إليكم ثوابهُ، ﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ ؛ أي لا يُنقَصُ شيءٌ من حقِّكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ﴾ ؛ معناهُ : فإنْ مالَتْ يهودُ بني قريظةَ إلى الصُّلح فمِلْ إليهم وصالِحْهم، فكان هذا قبلَ نُزولِ براءةَ، ثم نُسِخَ بقولهِ :﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾[التوبة : ٥] وبقوله :﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾[التوبة : ٢٩].
والسِّلْمُ والسَّلْمُ بالخفضِ والنصب، وإنما قال ﴿ فَاجْنَحْ لَهَا ﴾ لأن السَّلم والْمُسَالَمَةَ بمعنى واحدٍ، فردَّ الكنايةَ إلى المعنى. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ ؛ أي ثِقْ باللهِ تعالى إنْ نَقَضُوا العهدَ، ﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ﴾ ؛ بمقالَتِكم ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ ؛ بما تفعلون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ﴾ ؛ معناهُ : إنْ يُرِدِ الذين يطلبُون منكَ الصُّلح أنْ يخدَعُوكَ بإظهارِ الصُّلح لتَكُفَّ عنهم إلى أن يتَقَوَّوا بغيرِكَ، فإنَّ اللهَ كافيكَ في حربهم وقتالِهم، ﴿ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ أي قَوَّاكَ يومَ بدرٍ بنصرهِ وقوَّاكَ بالمؤمنين، وهم الأوسُ والخزرجُ.
وقولُه تعالى :﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ ؛ أي جَمَعَهم على الْمَوَدَّةِ في الإِيمانِ، وقولُه تعالى :﴿ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ ؛ أي ما قَدَرْتَ على جمعِ قُلوبهم على الأَلْفَةِ، ﴿ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ ﴾ ؛ في سُلطانهِ لا يقدرُ أحدٌ أن يَغْلِبَهُ ويمنعَهُ عن مُرادهِ، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ ؛ يضعُ الأمورَ في موضعِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ﴾ ؛ أي كافِيِكَ اللهُ، ﴿ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ نزلَتْ في البيداء في غَزوَةِ بدرٍ. وَقِيْلَ : لَمَّا أسلمَ عمرُ رضي الله عنه نزلَ ﴿ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
وقال بعضُ المفسِّرين : موضعُ (مَنْ) خفْضٌ عطفاً على الكافِ في قولهِ ﴿ حَسْبُكَ اللَّهُ ﴾ أي وحسبُ مَنِ اتَّبعَكَ. وقال بعضُهم : موضعهُ رفعٌ عطفاً على اسمِ الله ؛ أي حسبُكَ اللهُ ومَتبُوعُكَ مِن المؤمنين. قِيْلَ : إن هذه الآية قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ نزلَتْ في البيداءِ في غَزوةِ بدرٍ قبلَ القتالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾ ؛ أي رَغِّبْهُمْ في القتالِ، والتَّحريضُ : الترغيبُ في الشيءِ بما يدعُو إليه نحوُ وعدِ الثواب على القتالِ والتنفيلُ عليه، وقولهُ تعالى :﴿ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ؛ هذا وعدٌ من اللهِ ؛ أي يُقَوِّي واحداً من المسلمين المنتَصِرين في الدِّين على عشرةٍ من الكفَّار، ويقوِّي مائةً صابرةً محتسبة على ألْفٍ من الكفَّار.
وقولهُ تعالى :﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾ ؛ أي ذلك النصرُ من اللهِ لكم على الكفَّار وخُذلانُهم بأنَّكم تفقهونَ أمرَ اللهِ وتصدِّقُونه فيما وعدَهُ من الثواب، والكفارُ لا يفقهون ذلك ولا يصدِّقونه.
قال ابنُ عبَّاس :(لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَبْعَثُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أنْ يُقَاتِلَ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْعَشَرَةَ مِنَ الْكُفَّار، وَالْمِائَةُ مِنْهُمْ الأَلْفَ مِنَ الْكُفَّارِ كَمَا أمَرَ اللهُ، فَلَمَّا أمَرَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ بِقتالِ الْكُفَّارِ ببَدْرٍ وَكَانَ فَرَضَ الْقِتَالَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا ذكَرَ اللهُ فِي هَذِه الآيَةِ، شُقَّ ذلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :
قَوْلُهُ :﴿ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ﴾ ؛ أي الآنَ هَوَّنَ اللهُ عليكم القتالَ الذي فرضَهُ عليكم وسهَّلَ الأمرَ عليكُمْ لتَعرِفُوا فتَشكُروا، وعَلِمَ فِي الأزلِ أن في الواحدِ منكم ضَعْفاً عن قتالِ العشرةِ، والمائةِ عن قتالِ الألفِ). وَقِيْلَ : عَلِمَ أنَّ فيكم ضَعْفاً في النُّصرة في أمرِ الدِّين.
قرأ عاصمُ وحمزة وخلَف (ضَعْفاً) بفتح الضاد، وقرأ الباقون بضَمِّها أي عَجْزاً عما فرضَ عليكم، ومَن قرأ (ضَعفاً) فمعناه شيوخاً وضعافاً، وقرأ أبو جعفر (ضُعَفَاءَ) بضمِّّ الضادِ وفتح العين والمدِّ وهمزة من غيرِ تنوينٍ على جمعِ ضَعيف مثل شُرَكاءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ﴾ ؛ أمرَ اللهُ بأنَّ الواحدَ يثبتُ للاثنين وضَمِنَ له النصرَ عليهما. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي بأمرِ اللهِ، ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ ؛ أي مُعِينٌ لَهم، قال ابنُ عبَّاس :(مَنْ فَرَّ مِنْ رَجُلَينِ فَقَدْ فَرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ لَمْ يَفِرَّ). وهذا إذا كان للواحدِ المسلمِ من السِّلاح والقوَّة مثلَ ما لكلِّ واحدٍ من رجُلين من الكافرين كان فَارّاً، فأما إذا لم يكن، لم يَثبُتْ حُكم الفرارِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ﴾ أي يكون له أسْرَى من المشركين فيفاديهم أو يَمُنَّ عليهم، ولكن السَّيفَ حتى يُمكِنَ في الأرضِ لا بد من القتال، فيقتلُ منهم قَتْلاً ذرِيعاً ليَرتَدِعَ مَن وراءَهم. والإتخانُ في كلِّ شيء : شِدَّتُهُ، يقالُ : أتُّخَنَهُ المرضُ إذا اشتدَّ قوتهُ عليه، وكذلك أثْخَنَتْهُ الْجِرَاحُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا ﴾ ؛ خطابٌ للذين أسرَعُوا في أخذِ الغنائِمِ وشَغَلُوا أنفُسَهم بذلك عن القتالِ، وذلك أنَّهم لَمَّا كان يومُ بدرٍ تعجَّلَ ناسٌ من المسلمين فأصَابُوا من الغنائمِ، ومعناه : تريدون بالقتالِ المالَ، وسَمَّاهُ عَرَضاً لقِلَّةِ لُبْثِهِ. وقولهُ تعالى :﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ ﴾ ؛ أي يريدُ منكم العملَ بما تستحقُّون به ثوابَ الآخرِةِ، ﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ﴾ ؛ أي مَنِيعٌ في سُلطَانهِ، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ ؛ في أمْرِهِ وقضائِه، فاعمَلُوا ما أمَرَكم به.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ ؛ أي لَولاَ حُكمٌ من اللهِ سبقَ في إباحةِ الغنائمِ لَمسَّكُم فيما استبَحتُم قبلَ الإثخانِ عذابٌ عظيم. وَقِيْلَ : لولا كتابٌ مِن الله سبقَ في أهلِ بدر أن يغفرَ اللهُ لَهم ما تقدَّم من ذُنوبهم وما تأخَّرَ. وَقِيْلَ : معناهُ : لولا حكمُ اللهِ في اللُّوحِ المحفوظِ وفي القرآنِ أنه لا يعذِّبُ قوماً حتى يُبيِّن لهم ما يتَّقون لأصابَتْكم عقوبةٌ عظيمة.
وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ في هذه الآيةِ :(وَذلِكَ أنَّهُ لَمَّا قَـتَلَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ سَبْعِينَ وَأسَرُواْ سَبْعِينَ، اسْتِشَارَ النَّبِيُّ ﷺ أصْحَابَهُ فِي أمْرِ الأُسَارَى، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : يَا رَسُولَ اللهِ هُمْ قَوْمُكَ، فَإنْ تَقْتُلْهُمْ يَدْخُلُوا النَّارَ، وَلَكِنْ فَادِهِمْ فَيَكُونَ الَّذِي تَأْخُذُ مِنْهُمْ قُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّ اللهَ يَُقَلِّبُ قُلُوبَهُمْ. وَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا أعْلَمُ قَوْماً كَانُوا أشَرَّ لِنَبيِّهِمْ مِنْهُمْ فَاقْتُلْهُمْ.
فَأَخَذ رَسُولُ اللهِ ﷺ وسلم برَأي أبي بَكْرٍ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمَا مَثَلاً فَقالَ :" مَثَلُ أبي بَكْرٍ مَثَلُ إبْرَاهِيمَ عليه السلام حَيْثُ قَالَ :﴿ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [إبراهيم : ٣٦]، وَمَثَلُ عُمَرَ مَثَلُ نُوحٍ عليه السلام حَيْثُ قَالَ :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ﴾ [نوح : ٢٦] " ثمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْفِدَاءَ عَلَى الأَسَارَى ".
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ... ﴾[الأنفال : ٦٧] إلى آخِرِ الآيَتَيْنِ، " قَالَ عُمَرُ : فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَعِنْدَهُ أبُو بَكْرٍ يَبْكِيَانِ، فَقُلْتُ : مَا يُبْكِيكُمَا؟! حَتَّى الأَرْضُ إن وَجَدَتْ بُكَاءً لِبُكَائِكُمَا بَكَتْ مَعَكُمَا، فَقَالَ ﷺ :" إنَّمَا أبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أصْحَابُكَ مِنْ أخْذِ الْفِدَاءِ "، ثُمَّ قَرَأَ عليه السلام ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ﴾ [الأنفال : ٦٧] ".
وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قالَ :" لَمَّا جِيءَ بالأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ ﷺ :" مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلاَءِ ؟ " فَقَالَ أبُو بَكْرٍ : قَوْمُكَ وَأهْلُكَ اسْتَبقْهُمْ لَعَلَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَخُذْ مِنْهُمْ فِدْيَةً تَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ. وَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللهِ كَذبُوكَ وَأخْرَجُوكَ، قَدِّمْهُمْ وَاضْرِبْ أعْنَاقَهُمْ، وَمَكِّنْ عَلِيّاً مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبْ عُنُقَهُ، وَمَكِّنِّي مِنْ فُلاَنٍ - بسَبَبٍ لَهُ - فَأَضْرِبْ عُنُقَهُ، فإنَّ هَؤُلاَءِ أَئِمَةُ الْكُفْرِ. فَسَكَتَ النَّبيُّ ﷺ، فَقَالَ أُنَاسٌ : نَأْخُذُ بقَوْلِ أبي بَكْرٍ، وَقَالُ نَاسٌ : نَأْخُذُ بقَوْلِ عُمَرَ، فَقَالَ ﷺ :" إنَّ اللهَ لَيُلَيِّنُ قُلُوبَ رجَالٍ حَتَّى تَكُونَ ألْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإنَّ اللهَ لَيَشُدُّ قُلُوبَ رجَالٍ حتَّى تَكُونَ أشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإنَّ مَثَلَكَ يَا أبَا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى قَالَ :﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة : ١١٨]، وَمَثَلَكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ مُوسَى قَالَ :﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾ [يونس : ٨٨]، ثُمَّ قالَ ﷺ لِلأُسَارَى :" أنْتُمُ الْيَوْمَ عَالَةً فَلاَ يَنْقَلِبَنَّ أحَدٌ إلاَّ بِفِدَاءٍ أوْ ضَرْب عُنُقٍ " ثمَّ قَالَ ﷺ ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ﴾ [الأنفال : ٦٧] ".
قوله :﴿ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً ﴾ ؛ الفاءُ في أوَّل هذه الآيةِ للجزاء، المعنى : أُحِلَّتْ لكم الغنائمُ فكُلوا. والطَّيِّبُ : الْمُسْـتَلَذُّ، ويوصفُ الحلالُ بذلك على التشبيهِ، فإنَّ المستلذ لا يكون فيه كراهيةٌ في الطَّبعِ، وكذا الحلالُ ما لا يكون فيه كراهيةٌ في الدُّنيا.
وقولهُ تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ اللَّهَ ﴾ ؛ أي اخْشَوْهُ ولا تفعَلُوا شيئاً لَمْ تُؤمَرُوا به ولم يرَخَّصْ لكم، ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ﴾ ؛ لَمَا فرَّطَ منكم ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ بكم إذا لم يعذِّبكم فيما فعلتُم قبل الرُّخصةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ قال ابنُ عبَّاس :(وَذلِكَ " أنَّ النَّبيَّ ﷺ لَمَّا وَضَعَ الْفِدَاءَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الأُسَارَى أرْبَعِينَ أوْقِيَّةً مِنْ ذهَبٍ، وَجَعَلَ عَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ مِائَةَ أوْقِيَّةً، قالَ الْعَبَّاسُ : أتَجْعَلُ عَلَيَّ مِائَةَ أوْقِيَّةٍ وَعَلَىَ عَدُوِّكَ سُهَيْلِِ بْنِ عَمْرٍو أرْبَعِينَ أوْقِيَّةً ؟ قال :" نَعَمْ ؛ لِقَطْعِكَ الرَّحِمَ وَلِظُلْمِكَ قَالَ : تَرَكْتَنِي وَاللهِ أسْأَلُ قُرَيْشاً مَا بَقِيتُ، فَكَيْفَ تَتْرُكُ عَمَّكَ يَسْأَلُ النَّاسَ بكَفَّهِ؟!
فَقَالَ ﷺ : وَأيْنَ الذهَبُ الَّذِي أعْطَيْتَهُ أمَّ الْفَضْلِ عِنْدَ مَخْرَجِكَ ؟ فَقُلْتَ : إنْ حَدَثَ بي حَدَثٌ فِي وَجْهِي هَذا فَهُوَ لَكِ وَلِعَبْدِاللهِ وَقُُثَمِ وَلِلْفَضْلِ " قَالَ : وَمَا يُدْريكَ؟! قَالَ :" أخْبَرَنِي اللهُ بذلِكَ " فَقَالَ : أشْهَدُ أنَّكَ صَادِقٌ وَإنِّي لَمْ أعْلَمْ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ قَطُّ قَبْلَ الْيَوْمِ، وَإنِّي دَفَعْتُ إلَيْهَا الذهَبَ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أحَدٌ إلاَّ اللهُ، وَأَنَا أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأنَّكَ رَسُولُ اللهِ. فَأَسْلَمَ وَأَمَرَ ابْنَ أخِيهِ أنْ يُسْلِمَ "، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعنَاها : يَا أيُّها النبيُّ قُلْ للعبَّاس وعقيل وغيرِهم من الأُسَارَى : إنْ يعلَمِ اللهُ في قلُوبكم رغبةً في الإيمان وإخْلاَصاً في النيَّة، يُؤتِكُمْ خيراً مما أخذ منكم من الفديةِ. يجوزُ أن يكون المعنى : يَخْلِفُ عليكم في الدُّنيا، ويجوز أن يكون : ويُجازيكُم في الآخرةِ.
وكان العباسُ أحدَ الثلاثة عشر الذين ضَمِنُوا طعامَ أهلِ بدر، فخرجَ معهم بعشرين أوقِيَّةً من ذهبٍ ليُطعِمَ بها الناسَ، ولم تبلُغْهُ نوبةُ الإطعامِ حتى أُسِرَ وأُخِذ وهي معه فأخذُوهَا منه، " فلما وضعَ النبيُّ ﷺ على العبَّاسِ الفداءَ مِائَةَ أوقِيَّةِ قَالَ :(يَا مُحَمَّدُ احْتَسِبْ لِيَ بالْعِشْرِينَ أوْقِيَّةً مِنْ فِدَائِي). فأَبَى وَقَالَ :" أمَّا شَيْءٌ خَرَجْتَ تَسْتَعِينُ بهِ عَلَيْنَا فَلاَ أتْرُكُهُ لَكَ ".
فَلَمَّا أسْلَمَ العباسُ كان إذا قرأ هذه الآية قال :(صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ قَدْ أعْطَانِي خَيْراً مِمَّا أخَذ مِنِّي، أبْدَلَنِي مَكَانَ الْعِشْرِينَ أوْقِيَّةً الَّتِي أُخِذتْ مِنِّي عِشْرِينَ مَمْلُوكاً، كُلُّ مَمُْوكٍ يَضْرِبُ بعِشْرِينَ ألْفاً فِي التِّجَارَةِ، وَأعْطَأنِي زَمْزَمَ مَا أُحِبُّ أنَّ لِي بهَا جَمِيعَ أمْوَالِ أهْلِ مَكَّةَ، أنْجَزَ لِي أحَدَ الْوَعْدَينِ، وَأنَا أرْجُو أنْ يُنْجِزَ لِيَ الْوَعْدَ الثَّانِي، أنْتَظِرُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ رَبي).
وعن العلاءِ بن الحضرميِّ رضي الله عنه أنَّهُ بَعَثَ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنَ الْبَحْرَيْنِ ثَمَانِينَ ألْفاً، فَقَالَ الْعَبَّاسُ :(أعْطِنِي مِنْ هَذا الْمَالِ) فأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَا أطَاقَ حَمْلَهُ، فَجَعَلَ الْعَبَّاسُ يَقُولُ :(أمَّا إحْدَى اللَّتَيْنِ وُعَدَنَا اللهُ فَقَدْ أنْجَزَهَا، فَلاَ نَدْري مَا يَصْنَعُ بالأخْرَى). يعني ﴿ يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ﴾ معناهُ : وإنْ يُرِد الذين أطلَقْتَهم من الأُسارَى خِيَانَتَكَ بأن يُعِيدُوا حَرْباً لك وينصُروا عدُوَّكَ عليك، فقد خَانُوا اللهَ من قَبْلُ بمخالفةِ ما أخذ عليهم من العهُودِ، وذلك أنَّ النبيَّ ﷺ كانَ عاهدَ الذين أطلقَهم على أن لا يُعِينُوا عليه فخَانُوه وخالَفُوا، وقوله تعالى ﴿ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ﴾ أي فأمكنَكَ منهم يومَ بدرٍ، وإنْ خانوكَ فَسَيُمَكِّنُكَ منهم ثانياً، ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ ﴾ ؛ بكل شيءٍ، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ ؛ في كلِّ ما يفعلُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي إن الذين آمَنوا بتوحيدِ الله وبمُحَمَّدٍ ﷺ والقُرآنِ وهاجَرُوا من مكَّة إلى المدينةِ وجاهَدُوا العدوَّ بأموالِهم وأنفُسِهم في طاعةِ اللهِ.
ثُمَّ ذكرَ اللهُ الأنصارَ فقال :﴿ وَالَّذِينَ آوَواْ ﴾ ؛ النبيَّ والمهاجرين معَهُ أعطَوهُم المأوَى وأنزَلُوهم ديارَهم، ﴿ وَّنَصَرُواْ ﴾ ؛ أي أعَانُوهم بالسَّيْفِ على الكفَّارِ، ﴿ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ ؛ أي أنصارُ بعضٍ في الدِّين والمواريثِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ ﴾ ؛ أي والذين صدَّقُوا من أهلِ مكَّة في ديارِهم ولَم يُهاجِرُوا إلى المدينةِ، ﴿ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ ؛ أي ليس بينَكُم وبينهم ميراثٌ، ﴿ حَتَّى يُهَاجِرُواْ ﴾ ؛ وإطلاقُ لفظ الموالاةِ يقتضي التوارثَ في الجملةِ، وإن كان بعضُ أسباب الموالاة أوكدَ من بعضٍ.
قال ابنُ عبَّاس : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَامَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامِ وَأُنَّاسٌ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ لاَ يَرِثُنَا إخْوَانُنَا وَهُمْ عَلَى دِينِنَا مِنْ أجْلِ أنَّهُمْ لَمْ يُهَاجِرُوا ؟ فَهَلْ نُعِينُهُمْ عَلَى أمْرٍ إن اسْتَعَانُونَا علَيْه ؟ فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ﴾.
معناهُ : وإن قاتَلَهم الكفارُ ليَردُّوهُم عنِ الإِسلامِ فانصرُوهم، ﴿ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ ﴾ ؛ إلاَّ أن يقاتِلُوا قوماً، ﴿ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ ﴾ ؛ فاستنصرُوكم عليهم فلَم تقاتِلُوهم معهم، بل عليهم أن يكُفُّوا عن طلب النُّصرة منكم لهم عليهم ؛ لأنه أمانٌ، وأمانُ واحدٍ من المسلمين يلزمُ كافَّتهم، فيجبُ الإصلاحُ بينهم على غيرِ وجه القتال. وقولهُ تعالى :﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، أي بصيرٌ بأعمالِكم، يجازِيكم عليها.
قال ابنُ عبَّاس : فَمَكَثُواْ عَلَى هَذا مَا شَاءَ اللهُ إنْ يَمْكُثُواْ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ ؛ أيْ أنْصَارُ بَعْضٍ فِي الدِّينِ، وَبَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي الْمِيرَاثِ. يعني أنَّ الكافرَ لا يرثُ المؤمنَ الذي لم يهاجِرْ، بلِ الكافرُ يرثُ من الكافرِ، والمؤمنُ يرِثُ المؤمنِ، فصارت هذه الآيةُ ناسخةً للتي قبلَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ أي إلاَّ تفعلُوا ما أمَرتُكم به ولم تُورِثُّوا الأعرابيَّ الذي لَمْ يهاجِرْ من المهاجرِ، ولم تجعلُوا وولايةَ الكافرِ للكافر وولايةَ المؤمن للمؤمنِ، ﴿ تَكُنْ فِتْنَةٌ ﴾ أي بالْمَيْلِ إلى الضَّلالةِ وفسادٍ في الدِّين، فإن الكفارَ بعضُهم أولياء بعضٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـائِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ﴾ ؛ أي أولئكَ الذين حقَّقُوا إيمانَهم بالهجرةِ وإقامة الجهادِ في سبيلِ اللهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : أُولئك الذين حقَّقَ اللهُ إيمانَهم بأن أثْنَى عليهم ومَدَحَهم في كتابهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ ﴾ ؛ لذُنوبهم ﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ في الجنَّة بأن يطُعِمَهم طَعاماً يصير كالْمِسْكِ رَشَحاً ولا يستحيلُ في أجوافِهم نَجْواً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـائِكَ مِنكُمْ ﴾ معناهُ : والذين آمَنُوا من بعدِ المهاجرين السَّابقين، وهاجَرُوا إلى المدينةِ وجاهَدُوا معَكم الكفارَ، فأولئكَ منكم في الدِّن والنُّصرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾ ؛ أي أن الأقاربَ بعضُهم أولَى ببعضٍ في الميراثِ من غيرِهم، هاجَرُوا أو لم يُهاجِرُوا إذا كانوا مُسلِمِينَ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ ؛ يجوزُ أنْ يكون المرادُ بالكتاب القُرْآن، ويجوز أن يكون معناهُ في اللوحِ المحفوظ، ويجوز أن يرادَ بالكتاب الْحُكْم، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ ﴾[المجادلة : ٢١] أي حَكَمَ اللهُ، وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ؛ أي عليمٌ بكلِّ ما فَرَضَ من المواريثِ وغيرِ ذلك.
قال قتادةُ :(وَذلِكَ أنَّ النَّبيَّ ﷺ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، وَكَانُواْ يَتَوَارَثُونِ بالإسْلاَمِ وَالهْجْرَةِ، وَكَأنَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ وَيُهَاجِرُ، وَكَانَ لاَ يَرِثُ أخَاهُ)، فَنَسَخَ اللهُ ذلِكَ بقَوْلِهِ :﴿ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾ وَصَارَتِ الْوِرَاثَةُ بالْقَرَابَةِ كَمَا ذكَر َاللهُ فِي سُورَةِ النِّساءِ، وَقَالَ النَّبيُّ ﷺ :" لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةُ ".
وعن أبَيِّ بن كعبٍ : قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" مَنْ قَرَأ سُورَةَ الأَنْفَالِ وَالتَّوْبَةِ فأَنَا لَهُ شَفِيعٌ وَشَهِيدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنَّهُ بَرِيءٌ مِنَ النِّفَاقِ، وَأُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بعَدَدِ كُلِّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ، وَرُفِعَ لَهُ بهَا عَشْرُ دَرَجَاتٍ ".
Icon