تفسير سورة الشرح

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الشرح من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وآياتها ثمانٍ

سورة الشرح
مكية، وآياتها ٨ «نزلت بعد الضحى» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشرح (٩٤) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)
استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه، فكأنه قيل:
شرحنا لك صدرك، ولذلك عطف عليه: وضعنا: اعتبارا للمعنى. ومعنى: شرحنا صدرك:
فسحناه حتى وسع عموم النبوّة ودعوة الثقلين جميعا. أو حتى احتمل المكاره التي يتعرض «١» لك بها كفار قومك وغيرهم: أو فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم، وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي يكون مع العمى والجهل. وعن الحسن: مليء حكمة وعلما. وعن أبى جعفر المنصور أنه قرأ: ألم نشرح لك، بفتح الحاء. وقالوا: لعله بين الحاء وأشبعها في مخرجها، فظنّ السامع أنه فتحها، والوزر الذي أنقض ظهره- أى حمله على النقيض وهو صوت الانتقاض والانفكاك لثقله- مثل لما كان يثقل على رسول الله ﷺ ويغمه من فرطاته قبل النبوّة. أو من جهله بالأحكام والشرائع. أو من تهالكه على إسلام أولى العناد من قومه وتلهفه. ووضعه عنه: أن غفر له، أو علم الشرائع، أو مهد عذره بعد ما بلغ وبلغ. وقرأ أنس:
وحللنا، وحططنا. وقرأ ابن مسعود: وحللنا عنك وقرك. ورفع ذكره: أن قرن بذكر الله في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والتشهد والخطب، وفي غير موضع من القرآن وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وفي تسميته رسول الله ونبى الله، ومنه ذكره في كتب الأولين، والأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به. فإن قلت: أى فائدة في زيادة لك، والمعنى مستقل بدونه «٢» ؟ قلت: في زيادة لك ما في طريقة
(١). قوله «المكاره التي يتعرض لك» لعله تعرض بصيغة الماضي. (ع)
(٢). قال محمود: «إن قلت ما قائدة لك مع أن الاضافة تغنى عنها... الخ» ؟ قال أحمد: وقد تقدم عند الكلام على نظيرها في قوله: «قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمرى» قريب من هذا المعنى، والله أعلم.
الإبهام والإيضاح، كأنه قيل: ألم نشرح لك، ففهم أن ثم مشروحا، ثم قيل: صدرك، فأوضح ما علم مبهما، وكذلك لَكَ ذِكْرَكَ وعَنْكَ وِزْرَكَ.
[سورة الشرح (٩٤) : الآيات ٥ الى ٦]
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦)
فإن قلت: كيف تعلق قوله فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً بما قبله؟ قلت: كان المشركون يعيرون رسول الله ﷺ والمؤمنين بالفقر والضيقة، حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم، فذكره ما أنعم به عليه من جلائل النعم ثم قال:
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً كأنه قال: خوّلناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله، فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرا. فإن قلت: إِنَّ مَعَ للصحبة، فما معنى اصطحاب اليسر والعسر؟ قلت:
أراد أن الله يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب، فقرّب اليسر المترقب حتى جعله كالمقارن للعسر، زيادة في التسلية وتقوية القلوب. فإن قلت: ما معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهما: لن يغلب عسر يسرين «١» وقد روى مرفوعا أنه خرج ﷺ ذات يوم وهو يضحك ويقول «لن يغلب عسر يسرين» «٢» ؟ قلت: هذا عمل على الظاهر، وبناء على قوّة الرجاء، وأن موعد الله لا يحمل إلا على أو في ما يحتمله اللفظ وأبلغه، والقول في أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريرا للأولى كما كرر قوله فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب، وكما يكرر المفرد في قولك: جاءني زيد زيد، وأن تكون الأولى عدة بأنّ العسر مردوف بيسر لا محالة، والثانية عدة مستأنفة بأنّ العسر متبوع بيسر، فهما يسران على تقدير الاستئناف، وإنما كان العسر واحدا لأنه لا يخلو، إما أن يكون تعريفه للعهد وهو العسر الذي كانوا فيه، فهو هو، لأنّ حكمه حكم زيد في قولك:
إن مع زيد مالا، إن مع زيد مالا. وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد فهو هو أيضا.
وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني متأنفا غير مكرر فقد تناول بعضا غير البعض الأوّل بغير إشكال. فإن قلت: فما المراد باليسرين؟ قلت: يجوز أن يراد بهما
(١). حديث ابن عباس: لم أجده. قلت: ذكره الفراء عن الكلبي عن ابن صالح عنه.
(٢). أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن الحسن به مرسلا. ومن طريقه أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب. ورواه الطبري من طريق أبى ثور عن معمر. وله طريق أخرى أخرجها ابن مردويه من رواية عطية عن جابر موصولا. وإسناده ضعيف. وفي الباب عن عمر رضى الله عنه ذكره مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن أبيه «أن عمر بن الخطاب بلغه أن أبا عبيدة حضر بالشام فذكر القصة. وقال في الكتاب إليه: ولن يغلب عسر يسرين» ومن طريقه رواه الحاكم. وهذا أصح طرقه. [.....]
ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله ﷺ وما تيسر لهم في أيام الخلفاء «١»، وأن يراد يسر الدنيا ويسر الآخرة، كقوله تعالى قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وهما حسنى الظفر وحسنى الثواب. فإن قلت فما معنى هذا التنكير؟ قلت: التفخيم، كأنه قيل إن مع العسر يسرا عظيما وأىّ يسر، وهو في مصحف ابن مسعود مرة واحدة. فإن قلت: فإذا ثبت في قراءته غير مكرر، فلم قال: والذي نفسي بيده، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، إنه لن يغلب عسر يسرين «٢» ؟ قلت: كأنه قصد باليسرين: ما في قوله يُسْراً من معنى التفخيم، فتأوله بيسر الدارين، وذلك يسران في الحقيقة.
[سورة الشرح (٩٤) : الآيات ٧ الى ٨]
فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨)
فإن قلت: فكيف تعلق قوله فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ بما قبله؟ قلت: لما عدد عليه نعمه السالفة ووعده الآنفة، بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة والنصب فيها، وأن يواصل بين بعضها وبعض، ويتابع ويحرص على أن لا يخلى وقتا من أوقاته منها. فإذا فرغ من عبادة ذنبها بأخرى. وعن ابن عباس: فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء. وعن الحسن: فإذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة. وعن مجاهد: فإذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك. وعن الشعبي: أنه رأى رجلا يشيل حجرا فقال: ليس بهذا أمر الفارغ، وقعود الرجل فارغا من غير شغل أو اشتغاله بما لا يعنيه في دينه أو دنياه: من سفه الرأى وسخافة العقل واستيلاء الغفلة، ولقد قال عمر رضى الله عنه: إنى لأكره أن أرى أحدكم فارغا سهلا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة «٣». وقرأ أبو السمال: فرغت- بكسر الراء- وليست بفصيحة. ومن البدع: ما روى عن بعض الرافضة أنه قرأ فانصب بكسر الصاد، أى فانصب عليا للإمامة، ولو صح هذا للرافضى لصح الناصبي أن يقرأ هكذا، ويجعله أمرا بالنصب «٤» الذي هو بغض علىّ وعداوته وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ واجعل رغبتك إليه خصوصا، ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه. وقرئ: فرغب أى: رغب الناس إلى طلب ما عنده.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ ألم نشرح، فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عنى» «٥»
(١). قوله «وما تيسر لهم في أيام الخلفاء» لعله: وما يتيسر، بصيغة المضارع. (ع)
(٢). حديث ابن مسعود: أخرجه عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن ميمون أبى حمزة عن ابراهيم عن ابن مسعود قال: «لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يستخرجه: لن يغلب عسر يسرين».
(٣). لم أجده، وقد روى أحمد وابن المبارك والبيهقي كلهم في الزهد وابن أبى شيبة من طريق المسيب بن رافع قال قال عبد الله بن مسعود «إنى لأمقت الرجل أراه فارغا ليس في شيء من عمل دنيا ولا آخرة».
(٤). قوله «بالنصب» في الصحاح: نصبت لفلان نصبا: إذا عاديته. (ع)
(٥). أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بأسانيدهم إلى أبى بن كعب. ورواه سليم الزهري في البر عنه مرسلا.
Icon