فكانت هذه الآيات الخمس أول ما نزل من القرآن. أما بقية السورة فقد تأخر نزولها، يدل على ذلك ما فيها من ذكر أحوال المكذبين والذين يصدّون الناس عن الصلاة. وذلك بعد شيوع خبر البعثة، وظهور أمر النبوة، وتحرّش قريش بالنبي لإيذائه عليه الصلاة والسلام.
في هذه السورة الكريمة دعوة إلى العلم والتعلم. وقد ظلت هذه الدعوة أساسا قويما بُني عليه الإسلام، فأعطت ثمارها في مدة وجيزة حيّرت الباحثين والمؤرخين. إذ قام العرب والمسلمون بنشر هذا الدين متسلّحين بالعلم فقضوا على الجهل والظلم والشرك، وأخرجوا الناس من الظلمات إلى النور.
وفي السورة الكريمة تنبيه إلى أن الثراء والقوة قد يدفعان النفوس إلى الطغيان ومجاوزة حدود الله، وأن المصير إلى الله، حيث توجِّه الخطاب لكل من يصلح للخطاب، منذرة الصّادين عن الخير، مهددة إياهم بأخذهم بالنواصي والأقدام إلى النار.
ﰡ
خلق الإنسانَ الكامل الجسم والعلمِ على أحسنِ مثالٍ، ومن عَلَقَةٍ ليست أكثر من دمٍ جامد، ثم كرّمه بأن رفع قدر هذا العلق فجعل منه الإنسانَ الذي يعلَم فيتعلم.
إن هذه الآياتِ الباهرةَ التي ابتدأ الله تعالى بها كتابَه العظيم لهي أكبرُ دليل على احتفال الإسلام بالعِلم بجميع أنواعه. وقد أخذ بها سلفُنا الصالح، وأمتُنا المهتدون، ونشروا العلم في أرجاء العالم. ونحنُ الآن مدعوون للأخذ بالعلم الصحيح، وتمزيقِ تلك الحجُب التي حجبت عن أبصارنا نورَ العلم، والسيرِ على هدى كتاب الله وسنة رسوله، والجِدِّ في تحصيل العلم حتى نلحقَ بالركب ونشارك في بناء هذه الحضارة مشاركة فعالة. فلا نبقى، كما نحنُ الآن، تابعين خاملين.
﴿ كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى ﴾.
حقاً إن الإنسان لَيتجاوز الحد في الطغيان، ويستكبر ويتجبرُ.
وليست الثروة مذمومةً في كل حال، فإنْ كان الإنسان مؤمناً تقيا وآتاه الله مالاً كثيرا وقام بحقّه، فإن ذلك خيْرٌ وأبقى، يعمُّ نفعُه ويرضى الله عنه ورسوله.
ثم حذّر من الطغيان.
وتوعّد أولئك الأشرارَ أصحابَ الأموال الذين يتكبرون ويتجبرون، فقال :﴿ إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى ﴾، إن المرجعَ والمصير إلى الله وحده، فهو مالكُ الأمور، والمتصرف في هذا الكون.
وبعد ذلك ضَرب الله لنا مثلا من أمثلة الطغيان، وذكَره على طريقة الاستغراب والتعجيب.
ثم أعقبَ ذِكره بالوعيد والتهديد فقال :﴿ أَرَأَيْتَ الذي ينهى ﴾
أأبصرتَ يا محمد هذا الطاغي الذي ينهى الناس عن الصلاة، ويحُول دون عبادة الله !
وفي هذا تهديدٌ كبير للعصاة والجاحدين المتكبرين.
لِيرتدعْ هذا الطاغي المتجبر عن غَيِّه وضلاله، فإني أُقسِم لئن لم يكفّ عن هذا الطغيان وعن نهي المصلين عن صلاتهم، لنأخذنَّه بناصيته ونجَّره إلى النار.
فلْيجمعَ أمثالَه من أهلِ ناديه ليمنعَ المصلّين ويؤذيهم.
سندعو جنودنا زبانيةَ جهنم لينصُروا محمداً ومن معه من المؤمنين.
وهنا عند قوله تعالى ﴿ واسجد واقترب ﴾ موضعُ سجدةٍ عند غيرِ الإمام مالك.