تفسير سورة المسد

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة المسد من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (٢) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥)﴾.
أسباب النزول
سبب نزول هذه السورة: ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)﴾.. خرج رسول الله - ﷺ - حتى صعد الصفا، فهتف يا صباحاه، ونادى بطون قريش، فاجتمع من جميع القبائل خلق كثير حتى جعل الرجل إذا لم يذهب بنفسه يُرسل رسولًا؛ لينظر ما الخبر، وكان في المجتمعين أبو لهب، فقال رسول الله - ﷺ -: "أرأيتَكم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج بسفح هذا الجبل أنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" فقال أبو لهب: تبًا لك سائر الأيام، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ قوله: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (٢)...﴾ إلى آخر السورة، وفي رواية: إنه قام بنفض يديه، ويقول: تبًا لك سائر الأيام ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ...﴾ إلخ، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى فيه هذه السورة؛ ليكون مثلًا يعتبر به من يعادي ما أنزل الله على نبيه مطاوعة لهواه، وإيثارًا لما ألفه من العقائد الزائغة والعوائد الباطلة والأعمال الفاسدة، واغترارًا بما عنده من الأموال الوافرة، وبما له من الصولة والمنزلة الشامخة في قلوب الرجال، وأن النسب الحقيقي إنما هو نسب الدين والعقيدة.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿تَبَّتْ﴾؛ أي: خسرت وهلكت وخابت ﴿يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ تثنية يد، واللهب واللهيب اشتعال النار إذا خلص من الدخان، أو لهبها لسانها، ولهيبها حرها، وأبو لهب، وقد تسكَّن هاؤه أحد أعمام النبي - ﷺ -، واسمه: عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وكان من أشد الناس عداوة لرسول الله - ﷺ -، وكان
417
كثير الإيذاء والبغضة لرسول الله - ﷺ - والازدراء به والتنقيص له ولدينه القويم، وكُني بأبي لهب، لإشراق وجنتيه وتلهبهما ووضاءَتهما، وإلا فليس له ابن يسمى باللهب، وخص اليدين بالتباب؛ لأن أكثر العمل يكون بهما، وقيل: المراد باليدين نفسه، وقد يعبر باليد عن النفس، كما في قوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾؛ أي: نفسك، والعرب تعبر كثيرًا ببعض الشيء عن كله، كقولهم: أصابته يدا المنايا، كما في قول الشاعر:
لَمَّا أَكَبَّتْ يَدُ الرَّزَايَا عَلَيْهِ نَادَى أَلَا مُجِيْرُ
وإيثار التباب على الهلاك وإسناده إلى يديه؛ لما روي: أنه لما نزل قوله: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)﴾.. رقى رسول الله - ﷺ - على الصفا وجمع أقاربه، فأنذرهم، فقال: "يا بني عبد المطلب يا بني فهر إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" فقال عمه أبو لهب: تبًا لك ألهذا جمعتنا؟ وأخذ بيديه حجرًا ليرميه - ﷺ - به، فمنعه الله من ذلك حيث لم يستطع أن يرميه، فلا كناية في ذكر اليدين على هذه الرواية، ووجه وصف يديه بالتباب والهلاك ظاهر؛ لرد ما اعتقده وقصده من إيذاء رسول الله - ﷺ - ورميه بالحجر.
وذكر في "التأويلات الماتريدية" أنه كان كثير الإحسان إلى رسول الله - ﷺ -، وكان يقول: إن كان الأمر لمحمد، فيكون لي عنده يد، وإن كان لقريش فلي عندها لد، فأخبر سبحانه أنها خسرت يده التي كانت عند محمد - ﷺ - بعناده وتكذيبه له، ويده التي عند قريش أيضًا لخسران قريش، وهلاكهم في يد محمد - ﷺ -.
وهذه الجملة دعاء عليه بهلاك نفسه وتبابه عن كل خير، ولما كانت اليد هي آلة العمل والبطش، فإذا هلكت وانقطعت وخسرت كان الشخص كأنه معدوم هالك أسند الهلاك إليها، فخسرانها كناية عن خسران الشخص نفسه، وهلاكها كناية عن هلاكه، فإذا دُعي عليه بخسران يديه فقد دُعي عليه بخسران نفسه، فكأنه قال: تب وخسر وهلك أبو لهب وضل عمله وسعيه، ولذلك قال بعد الجملة الدعائية: ﴿وَتَبَّ﴾ فـ ﴿الواو﴾ فيه للاستئناف؛ أي: وقد تب أبو لهب، وتحقق ذلك التباب الذي دُعي به عليه، وحصل، قال الفراء: الأول دعاء عليه بالتباب، والثاني: إخبار عن تحقق ذلك الدعاء وحصوله، فكأنه قال: أهلكه الله سبحانه وتعالى، وقد أهلك فعلًا، كقولهم: أهلك الله فلانًا وقد هلك، والمعنى: أنه قد وقع ما دعا به عليه،
418
كما قال أبو حيان: والظاهر أن الأول دعاء، والثاني إخبار بحصول ذلك، كما قال الشاعر:
جَزَانِيْ جَزَاهُ اللهُ شَرَّ جَزَائِهِ جَزَاءَ الْكِلَابِ الْعَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ
ويؤيده قراءة ابن مسعود: ﴿وقد تب﴾ فإن كلمة قد لا تدخل على الدعاء، وقيل: كلاهما إخبار، أراد بالأول هلاك عمله، وبالثاني هلاك نفسه، وقيل: كلاهما دعاء عليه، ويكون في هذا شبه مجيء العام بعد الخاص، وإن كانت حقيقة اليدين غير مرادة.
والمراد هنا (١): بيان استحقاقه، لأن يُدعى عليه بالهلاك، فإن حقيقة الدعاء شأن العاجز، والله منزه عن ذلك، وإنما ذكره سبحانه وتعالى بكنيته، مع أن التكنية من باب التكرمة، وهو لا يستحقها؛ لاشتهاره بكنيته، فليست للتكريم، أو لكراهة ذكر اسمه القبيح؛ إذ فيه الإضافة إلى الصنم؛ لأن اسمه عبد العزى، والعزى من أسماء الصنم، أو للتعريض بكونه جهنميًا؛ لأنه سيصلى نارًا ذات لهب، يعني: أن أبا لهب باعتبار معناه الإضافي يصلح أن يكون كناية عن حاله، وهي كونه جهنميًا؛ لأن معناه باعتبار إضافته مُلابس اللهب، كما أن معنى أبو الخير وأخو الحرب بذلك الاعتبار مُلابس الخير، أو الحرب واللهب الحقيقي لهب جهنم، وهذا المعنى يلزمه أنه جهنمي، ففيه انتقال من الملزوم إلى اللازم، فهي كنية تفيد الذم، فاندفع ما يقال هذا يخالف قولهم، ولا يكنى كافر وفاسق ومبتدع إلا لخوف فتنة أو تعريف؛ لأن ذلك خاص بالكنية التي تفيد المدح، لا التي تفيد الذم، ولم يشتهر بها صاحبها، أو لأن الاسم أشرف من الكنية، فعدل إلى الأنقص، ولذلك ذكر الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام باسمائهم، ولم يكنِ أحدًا منهم اهـ من "البحر".
قال في "الإتقان": ليس في القرآن من الكنى غير أبي لهب، ولم يذكر اسمه وهو عبد العزى؛ أي: الصنم؛ لأنه حرام شرعًا. انتهى.
وفيه أن الحرام وضع ذلك لا استعماله، وفي كلام بعضهم: ما يفيد أن الاستعمال حرام أيضًا إلا أن يشتهر بذلك، كما في الأوصاف المنقِّصة كالأعمش
(١) روح البيان.
419
والأعرج. وكان بعد نزول هذه السورة لا يشك المؤمن أنه من أهل النار بخلاف غيره، ولم يقل في هذه السورة: قل تبت إلخ؛ لئلا يكون مشافهًا؛ لعمه بالشتم والتغليظ، وان شتمه عمه؛ لأن للعم حرمة كحرمة الأب؛ لأنه مبعوث رحمة للعالمين، وله خلق عظيم، فأجاب الله عنه، وقرأ الجمهور (١): ﴿لَهَبٍ﴾ بفتح اللام والهاء، وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن بإسكان الهاء، وقال الزمخشري: وهذا من تغيير الأعلام، كقولهم: شُمْس بن مالك بالضم. انتهى، يعني: سكون الهاء في ﴿لَهَبٍ﴾ وضم الشين في شمس يعني في قول الشاعر:
وَإِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِيْ فَقَاصِدٌ بِهِ لابْنِ عَمِّيْ الصِّدْقِ شُمْسِ بْنِ مَالِكِ
فأما في ﴿لَهَبٍ﴾ فالمشهور في كنيته فتح الهاء، وأما شمس بن مالك فلا يتعين أن يكون من تغيير الأعلام، بل يمكن أن يكون مسمى بشمس المنقول من شمس الجمع، كما جاء أذناب خيل شمس، واتفقوا على فتح الهاء في قوله: ﴿ذَاتَ لَهَبٍ﴾؛ لأنها فاصلة، والسكون يزيلها على حسن الفاصلة، وروى صاحب الكشاف أنه قرىء: ﴿تبت يدا أبو لهب﴾ بالواو، كما قيل: علي بن أبو طالب، ومعاوية بن أبو سفيان، مع أن القياس الياء؛ لكونه مضافًا إليه، كيلا يغير منه شيء فيشكل على السامع.
والحاصل: أن الكنية بمنزلة العلم، والأعلام لا تتغير في شيء من الأحوال، وكان لبعض أمراء مكة ابنان: أحدهما عبدِ الله بالجر، والآخر عبدَ الله بالفتح.
قال العلماء: وفي هذه السورة معجزة ظاهرة، ودليل واضح على النبوة الصادقة لرسول الله - ﷺ - وصدق هذا الكتاب الكريم الذي جاء به من عند ربه، فإنه سبحانه وتعالى قد أخبر عن أبي لهب وزوجته أم جميل بالشقاء وعدم الإيمان، وقد تحقق ذلك منهما، ولم يقيض الله لهما أن يؤمنا كلاهما ولا واحد منهما لا باطنًا ولا ظاهرًا، على بعد الزمان والمسافة بين نزول هذه السورة وانتهاء عصر النبوة الأعز الأيمن، فكانت من أقوى الأدلة الباهرة الباطنة على النبوة الظاهرة، وروى الإِمام أحمد - رحمه الله تعالى - عن رجل يقال له: ربيعة بن عباد، وكان جاهليًا
(١) البحر المحيط.
420
فأسلم قال: رأيت رسول الله - ﷺ - في الجاهلية في سوق ذي المجاز، وهو يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، والناس مجتمعون إليه، ووراءه رجل وضيىء الوجه، أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابىء كاذب يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فقالوا: هذا عمه أبو لهب.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال: سمعت ربيعة بن عباد الديلي يقول: إني لمع أبي رجل شاب، انظر إلى رسول الله - ﷺ - يتتبع القبائل، ووراءه رجل أحول وضيىء الوجه، ذو جمة، يقف رسول الله - ﷺ - على القبائل، فيقول: يا بني فلان إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئًا، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به، وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه: يا بني فلان هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن آفيش إلى ما جاء به من البدعة والضلال، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه، فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمه أبو لهب.
وهكذا كان يقف هذا العم الخائب العائب لدين الله موقف الخصم المعاند الجاحد، فاستحق غضب الله ومقته وعذابه، وجعله الله عبرة ومثلًا للمخالفين إلى يوم الدين، ولم تنفعه قرابته القريبة؛ إذ لم يؤمن بهذه الرسالة الخالدة الحبيبة، واستحق أن يقال في: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١)﴾ (١) ومن ذلك تعلم أن أبا لهب كان يصد عن الحق وينفِّر عن اتباعه، وذاع عنه تكذيبه للرسول - ﷺ - وتحديه، واتباع خطواته لدحض دعوته، والحط من شأن دينه وما جاء به،
٢ - ثم ذكر أن ما كان يعتز به في الدنيا من مال ونجاه.. لم يغن عنه من الله شيئًا في الدنيا والآخرة، فقال: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ﴾؛ أي: ما دفع عن أبي لهب ما حل به من التباب وما نزل به من عذاب الله ﴿مَالُهُ﴾؛ أي: ما جمعه من رؤوس أمواله، ﴿وَمَا كَسَبَ﴾؛ أي: ولا ما كسبه من الأرباح والجاه، أو المراد بقوله: ﴿مَالُهُ﴾: ما ورثه من أبيه، وبقوله: ﴿وَمَا كَسَبَ﴾ الذي كسبه بنفسه، قال مجاهد: وما كسب من ولد، وولد الرجل من كسبه.
والمعنى: أي لم يُفد حينئذ ماله، ولا عمله الذي كان يأتيه في الدنيا من
(١) المراغي.
421
معاداته رسول الله - ﷺ - طلبًا للعلو والظهور، فكما أن ذلك لم يُجْدِهِ شيئًا في الدنيا؛ إذ لم يتغلب على الرسول - ﷺ -، ولم يقطع ما أراد الله أن يوصل.. لم يفده في الآخرة، بل لحقه البوار والنكال وعذاب النار، أي: لم يُغن (١) عنه ماله حين حل به التباب، ولم ينفعه أصلًا على أن ﴿مَا﴾ نافية، أو أي شيءٍ أغنى عنه؟ على أنها استفهامية في معنى الإنكار، منصوبة بما بعدها على أنها مفعول به، أو أيَّ إغناء أغنى عنه؟ على أنها مفعول مطلق، أصل ماله وما كسبه به من الأرباح والنتائج والمنافع والوجاهة والأتباع، ولا أحد أكثر مالًا من قارون وما دفع عنه الموت والعذاب، ولا أعظم ملكًا من سليمان عليه السلام وما دفع عنه الموت، والظاهر أن ﴿مَا﴾ الأولى نافية، والثانية موصولة، أو المراد: ماله الموروث من أبيه والذي كسبه بنفسه كما مر آنفًا، أو عمله الخبيث الذي هو كيده في عداوة النبي - ﷺ -، أو عمله الذي ظن أنه منه على شيء، كقوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣)﴾ وقرأ عبد الله (٢): ﴿وما اكتسب﴾ بتاء الافتعال، قال ابن مسعود لما دعا رسول الله - ﷺ - أقرباءه إلى الله تعالى.. قال أبو لهب: إن كان ما تقول يابن أخي حقًا، فانا أفتدي نفسي بمالي وولدي، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (٢)﴾ وقد خاب رجاه (٣)، وما حصل ما تمناه، فافترس ولده عتيبة - مصغرًا - أسد في طريق الشام، وذلك أن عتيبة بن أبي لهب، وكان تحته ابنة رسول الله - ﷺ - زينب - رضي الله عنها - أراد الخروج إلى الشام، فقال: لآتين محمدًا فلأوذينه، فأتاه فقال: يا محمد هو كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم تفل في وجه رسول الله - ﷺ -، ورد عليه ابنته وطلقها، فقال النبي - ﷺ -: "اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك"، فرجع عتيبة إلى أبيه فأخبره، ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلًا، فأشرف عليهم راهب من الدير، فقال: إن هذه أرض مسبعة، فقال أبو لهب: أعينوني يا معشر قريش هذه الليلة، فإني أخاف على ابني دعوة محمد، فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم، وأحدقوا لعتيبة، فجاء الأسد يتخللهم ويتشمم وجوههم، حتى ضرب عتيبة فقتله، وهلك أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر لسبع ليال، والعدسة بثرة تخرج في البدن تشبه العدسة، وهي من جنس
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
422
الطاعون تقتل غالبًا، فاجتنبه أهله مخافة العدوى، وكانت قريش تتقيها كالطاعون، فبقي ثلاثًا حتى أنتن، ثم استأجروا بعض السودان واحتملوه ودفنوه، فكان الأمر كما أخبر به القرآن الكريم.
وفي "إنسان العيون": لم يحفروا له حفيرة، ولكن أسندوه إلى حائط وقذفوا عليه الحجارة خلف الحائط حتى واروه، وفي رواية: حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه، وقولنا: عُتَيبة - بالتصغير -، وأما عُتبة - مكبَّرًا - ومعتب فقد أسلما، قال بعضهم في أولاد أبي لهب:
كَرِهْتُ عُتَيْبَةَ إِذْ أَجْرَمَا وَأَحْبَبْتُ عُتْبَةَ إِذْ أَسْلَمَا
كَذَا مُعْتِبُ مُسْلِمٌ فَاحْتَرِزْ وَخَفْ أَنْ تَسُبَّ فَتًى مُسْلِمَا
وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت إذا مرت بموضعه ذلك غطت وجهها، والقبر الذي يُرجم خارج باب الشبيكة الآن ليس بقبر أبي لهب، وإنما هو قبر رجلين لطخا الكعبة بالعذرة، وذلك في دولة بني العباس، فإن الناس أصبحوا يومًا، فوجدوا الكعبة ملطخة بالعذرة، فرصدوا للفاعل، فأمسكوهما بعد أيام فصلبا في ذلك الموضع فصارا يُرجمان إلى الآن، هذا وما ذُكر من العذاب مآل أمره في النشأة الأولى وفي النشأة الآخرة،
٣ - ﴿سَيَصْلَى﴾؛ أي: سيدخل لا محالة ﴿نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾؛ أي: نارًا عظيمة ذات اشتعال وتوقد، وهي نار جهنم؛ أي: سيذوق حر النار ويعذب بلظاها وليس هذا نصًا في أنه لا يؤمن أبدًا حتى يلزم من تكليفه الإيمان بالقرآن أن يكون مكلفًا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن أبدًا، فيكون مأمورًا بالجمع بين النقيضين، كما هو المشهور، فإن صَلْيَ النار غير مختص بالكفار، فيجوز أن يفهم أبو لهب من هذا أن دخوله النار لفسقه ومعاصيه، لا لكفره، فلا اضطرار إلى الجواب المشهور من أن ما كلفه هو الإيمان بجميع ما جاء به النبي - ﷺ - إجمالًا، لا الإيمان بتفاصيل ما نطق به القرآن، حتى يلزم أن يكلف الإيمان بعدم إيمانه المستمر.
وقرأ الجمهور (١): ﴿سَيَصْلَى﴾ - بفتح الياء وإسكان الصاد وبتخفيف اللام -؛
(١) البحر المحيط.
أي: سيصلى هو بنفسه، وقرأ أبو رجاء وأبو حيوة وابن مقسم والأشهب العقيلي وأبو السمال والأعمش ومحمد بن السميفع: ﴿سَيَصْلَى﴾ - بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام -، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير، والمعنى: سيصليه الله تعالى.
٤ - وقوله: ﴿وَامْرَأَتُهُ﴾ معطوف على الضمير (١) المستتر؛ لكون الفصل بالمفعول؛ أي: وستصلى امرأته نارًا ذات لهب، وهي أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان صخر بن حرب، عمة معاوية ابن أبي سفيان - رضي الله عنه - واسمها: العوراء بنت حرب، وقيل: اسمها أروى، وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان، فتنشرها بالليل في طريق رسول الله - ﷺ -، وكان رسول الله يَطَؤُه كما يطأ الحرير، وفي "تفسير أبي الليث": حتى كان النبي - ﷺ - وأصحابه في شدة وعناء اهـ. كذا قال ابن زيد والضحاك والربيع بن أنس ومرة الهمداني.
وقال مجاهد وقتادة والسدي: إنها كانت تمشي بالنميمة بين الناس والعرب: تقول فلان يحطب على فلان إذا نم به، ومنه قول الشاعر
إِنَّ بَنِيْ الأَرْزَمِ حَمَّالُوْ الْحَطَبْ هُمُ الْوُشَاةُ فِيْ الرِّضَا وَفِيْ الْغَضَبْ
عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ تَتَرَى وَالْحَرَبْ
وقال الآخر:
مِنَ الْبِيْضِ لَمْ يَصْطَدْ عَلَى ظَهْرِ لامَةٍ وَلَمْ تَمْشِ بَيْنَ الْحَيِّ بِالْحَطَبِ الرَّطْبِ
وجعل الحطب في هذا البيت رطبًا؛ لما فيه من التدخين الذي هو زيادة في الشر، ومن الموافقة للمشي بالنميمة.
وقرىء (٢): ﴿مريئته﴾ و ﴿مريته﴾ بالتصغير فيهما وبالهمز وبإبدالها ياء وإدغام ياء التصغير فيها.
وخلاصة ما سلف (٣): أي خسر أبو لهب وضل عمله، وبطل سعيه الذي كان
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
424
يسعاه للصد عن دين الله، ولم يغن عنه ماله الذي كان يتباهى به، ولا جده ولا اجتهاده في ذلك، فإن الله أعلى كلمة رسوله ونشر دعوته وأذاع ذكره، وأنه سيعذب يوم القيامة بنار ذات شرر ولهب وإحراق شديد، أعدها الله لمثله من الكفار المعاندين فوق تعذيبه في الدنيا بإبطال سعيه ودحض عمله، وسنعذب معه امرأته التي كانت تعاونه على كفره وجحده، وكانت عضده في مشاكسة رسول الله - ﷺ - وإيذائه، وكانت تمشي بالنميمة للإفساد وإيقاد نار الفتنة والعداوة، كما قال: ﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤)﴾ وستعذب أيضًا بهذه النار امرأته أروى بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب جزاء لها على ما كانت تجترحه من السعي بالنميمة إطفاءً لدعوة رسوله - ﷺ -، والعرب تقول لمن يسعى في الفتنة ويفسد بين الناس هو يحمل الحطب بينهم، كأنه بعمله يحرق ما بينهم من صلاتٍ، وقيل: إنها كانت تحمل حزم الشوك والحسك والسعدان، وتنثرها بالليل في طريق رسول الله - ﷺ - لإيذائه.
فإن قلت: إنها كانت من بيت العز والشرف، فكيف يليق بها حمل الحطب؟
قلت: إنها لشدة عداوتها للنبي - ﷺ - لا تستعين في ذلك بأحد، بل تفعله بنفسها اهـ "صاوي". وقال سعيد بن جبير معنى: ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ إنها حمالة الخطايا والذنوب، من قولهم: فلان يحتطب على ظهره، كما في قوله: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ﴾ وقيل: المعنى: حمالة الحطب في النار، وقرأ الجمهور (١): ﴿حمالةُ﴾ بالرفع على الخبرية، على أنها جملة مسوقة للإخبار بأن امرأة أبي لهب حمالة الحطب، وأما على ما قدمنا من عطف ﴿وَامْرَأَتُهُ﴾ على الضمير في ﴿تصلى﴾ فيكون رفع ﴿حمالة﴾ على النعت ﴿لامرأته﴾، والإضافة حقيقية؛ لأنها بمعنى المضي، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي حمالة، وقرأ عاصم بنصب ﴿حَمَّالَةَ﴾ على الذم، أو الشتم؛ أي: أذم أو أشتم حمالة الحطب، قال الزمخشري: وأنا أستحب هذه القراءة، وقد توسل إلى رسول الله - ﷺ - بجميلٍ من أحب شتم أم جميل. انتهى، وقيل: على أنه حال من ﴿امرأته﴾ بناء على أن الإضافة غير حقيقية؛ إذ المراد أنها تحمل يوم القيامة حزمة حطب من ضريع وزقوم، وفي جيدها سلاسل النار، كما
(١) الشوكاني.
425
يعذب كل مجرم بما يناسب حاله في جرمه.
وعن قتادة: أنها مع كثرة مالها تحمل الحطب على ظهرها لشدة بخلها، فعيِّرت بالبخل، فالنصب حينئذ على الشتم حتمًا، وقيل: كانت تمشي بالنميمة وتفسد بين الناس، تحمل الحطب بينهم؛ أي: توقد بينهم النائرة وتورث الشر، والحطب: ما أعد من الشجر شبوبًا، كما في "القاموس"، قيل: الحطب: جمع حاطب كحرس وحارس.
والمعنى: تحمل الجناة على الجنايات، وقرأ أبو قلابة: ﴿حاملة الحطب﴾،
٥ - وقوله: ﴿فِي جِيدِهَا﴾؛ أي: في عنقها، خبر مقدم ﴿حَبْلٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿مِنْ مَسَدٍ﴾؛ أي: من ليف: صفة لـ ﴿مسد﴾، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ﴿امرأته﴾، والجيد - بالكسر - العنق ومقلده، أو مقدمه، كما في "القاموس"، والمسد: ما يفتل منه الحبال فتلًا شديدًا، من ليف كان أو جلد أو غيرهما، يقال: دابة ممسودة: شديدة الأسر والربط، وقال أبو عبيدة: المسد: هو الحبل يكون من صوف، وقال الحسن: هي حبال يتكون من شجر ينبت باليمن، تسمى بالمسد، وقد تكون الحبال من جلود الإبل أو من أوبارها.
والمعنى: في عنقها حبل مما مُسِّد وفتل من الحبال، وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها، كما يفعل الحطابون تخسيسًا لحالها، وتصويرًا لها بصورة بعض الحطابات من المواهن لتغضب من ذلك، ويشق عليها، ويغضب بعلها أيضًا، وهما في بيت العز والشرف، وفي منصب الثروة والجِدَة.
وقال مجاهد: ﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥)﴾؛ أي: طوق من حديد، قال مرة الهمداني: كانت أم جميل تأتي كل يوم بإبالة من حسك، فتطرحها على طريق المسلمين، فبينما هي ذات ليلة حاملة حزمة أعيت، فقعدت على حجر لتستريح، فجذبها الملك من خلفها، فاختنقت بحبلها حتى هلكت.
وقال الضحاك وغيره: هذا في الدنيا كانت تعيِّر النبي - ﷺ - بالفقر، وهي تحتطب في حبل تجعله في عنقها، فخنقها الله به، فأهلكها وهو في الآخرة حبل من نار، وقال مجاهد وعروة بن الزبير: هو سلسلة من نار تدخل في فيها، وتخرج من أسفلها، وقال الزمخشري: ويحتمل أن يكون المعنى: أن حالها يكون في نار جهنم
426
على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك، فلا يزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجر الزقوم أو الضريع، وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه انتهى.
وفي "ينبوع الحياة": إنها لما بلغها سورة: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾، جاءت إلى أخيها أبي سفيان في بيته وهي متحرقة غضبى، فقالت له: ويحك يا أحمس؛ أي: يا شجاع، أما تغضب أن هجاني محمد، فقال: سأكفيك إياه، ثم أخذ بسيفه وخرج ثم عاد سريعًا، فقالت له: هل قتلته؟ فقال لها: يا أختي أيسرك أن رأس أخيك في فم ثعبان قالت: لا والله، قال: فقد كاد ذلك يكون الساعة؛ أي: فإنه رأى ثعبانًا لو قرب منه - ﷺ - لالتقم رأسه، ثم كان من أمر أبي سفيان الإِسلام، ومن أمر أخته الموت على الكفر، والكل من حكم الله السابق.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو زرعة عن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت: لما نزلت ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة، وفي يدها فهر، وهي تقول:
مَذَمَّمًا أَبَيْنَا وَدِيْنَهُ قَلَيْنَا
وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا
ورسول الله - ﷺ - جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر.. قال: يا رسول الله قد أقبلت، وأنا أخاف أن تراك، فقال رسول الله - ﷺ -: إنها لن تراني، وقرأ قرآنًا اعتصم به، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (٤٥)﴾ فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر، ولم تر رسول الله - ﷺ -، فقالت: يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني، قال: لا ورب البيت ما هجاك، فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها، وأخرجه البزار بمعناه، وقال: لا نعلمه يروى بأحسن من هذا الإسناد، وفي قصتها قال البوصيري في همزيته:
يوم جاءت غضبى تقول أفي مثـ ـلِيَ من أحمدَ يقال الهجاءُ
فولت وما رأته ومن أيـ ـن ترى الشمسَ مقلةٌ عمياءُ
ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة
427
الحطب، فقال:
مَاذَا أَرَدْتَ إِلى شَتْمِيْ وَمَنْقَصَتِيْ أَمْ مَا تُعَيِّرُ مِنْ حَمالَةِ الْحَطَبِ
غَرَّاءُ شَادِخَةٌ فِي الْمَجْدِ سَامِيَةٌ كَانَتْ سَلَيْلَةَ شَيْخٍ ثَاقِبِ الْحَسَبِ
ولما كانت هذه المجرمة تسمي النبي - ﷺ - هي وبعض أعدائه من الكفار مذمَّمًا.. قال النبي - ﷺ -: صرف الله سبحانه عني، إنهم يسموني مذممًا وأنا محمد، وروي عن أبي عبد الله الحسين - رضي الله عنه - قال: إذا قرأتم ﴿تَبَّتْ﴾ فادعوا على أبي لهب، فإنه كان من المكذبين بالنبي - ﷺ - وبما جاء به من عند الله والحكمة ما خص الله أبا لهب بهذه السورة من الكتاب العزيز ولو كان ذكره لمجرد عداوته لرسول الله - ﷺ - لذكر غيره كذلك من خصوم النبي وأعدائه الألداء أمثال عقبة بن أبي معيط والعاص بن وائل وغيرهم من أكابر الأعداء وأئمة الكفر والضلال، ممن كنى عنهم الله سبحانه أحيانًا بأوصافهم، ولم يذكرهم بأسمائهم.
وإنما خص أبا لهب بالذكر في سورة مستقلة والتصريح باسمه الكنية؛ لأنه اشتهر بالتكذيب والعداوة، وتعقب النبي - ﷺ - في حركاته وسكناته، ليحبط مساعيه ويصد الناس عن الإقبال على دعوته ورسالة ربه، حتى أصبح خطرًا على الإِسلام، وهو عم رسول الله - ﷺ -، والناس أكثر تسمُّعًا منه من تسمُّعهم من غيره، لذا ضربه الله سبحانه هذه الضربة القاصمة؛ ليجعله عبرة ومثلًا للصاد عن الحق والمنفرة للناس عن دين الله، وفهم ما أنزل على نبيه من الهدى والرشاد، وكل شخص من الناس صنع صنيع أبي لهب، فهو أبو لهب، بل وأشد من أبي لهب؛ إذ أن أبا لهب عم رسول الله وصاحب الغنى والنسب لم يغن عنه ذلك شيئًا، ومن سار سيرته فأولئك هم أبناء لهب، لا تغن عنهم أموالهم ولا أعمالهم شيئًا، وسيُصْلَون ما يصلى أبو لهب من نار ذات لهب، وكل امرأة تنم بين الناس لتفرق كلمتهم وتذهب بهم مذاهب السوء، وتصد عن سبيل الله، وتحارب دعوة الله ودين الله، فهي ممثلة في هذا المثل نازل بها ذلك النكال، وستحشر في نار ذات لهب لا يغني عنها مال ولا نسب.
وآيات القرآن كلها عبر وعظات وبراهين ساطعات على عظمة هذا القرآن، وعلى خلود هذه الشريعة الغراء التي ساوت بين الناس، ولم تجعل التفاضل بينهم
428
إلا بالتقوى، فلا عم ولا خال ولا ولد ولا مال ولا حسب ولا نسب، الكل عند الله سواء، أكرمهم عند الله أتقاهم، فمن آمن واتقى وصدق بالحسنى فسييسره الله لليسرى، وأما من كذب وتولى فسييسره الله للعسرى، وما يغني عنه ماله إذا تردى.
الإعراب
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (٢) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥)﴾.
﴿تَبَّتْ﴾ ﴿تب﴾: فعل ماض، والتاء علامة تأنيث الفاعل. ﴿يَدَا﴾: فاعل مرفوع بالألف؛ لأنه مثنى يد. ﴿يَدَا﴾: مضاف. ﴿أَبِي لَهَبٍ﴾: مضاف إليه مجرور بالياء، والجملة الفعلية جملة دعائية لا محل لها من الإعراب. ﴿وَتَبَّ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿وَتَبَّ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿أَبِي لَهَبٍ﴾، والجملة الفعلية جملة مستأنفة مسوقة للإخبار بحصول التباب وتحققه له نظير قوله:
جَزَانِيْ جَزَاهُ اللهَ شَرَّ جَزَائِهِ جَزَاءَ الْكِلَابِ الْعَاوِياتِ وَقَدْ فَعَلْ
﴿مَا﴾: نافية، أو استفهامية للاستفهام الإنكاري في محل النصب مفعول مقدم لـ ﴿أَغْنَى﴾. ﴿أَغْنَى﴾: فعل ماض ﴿عَنْهُ﴾ متعلق ﴿أَغْنَى﴾. ﴿مَالُهُ﴾: فاعل ﴿أَغْنَى﴾، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: مصدرية بمعنى كسبه، أو موصولة بمعنى الذي في محل الرفع معطوف على ﴿مَالُهُ﴾؛ أي: مكسوبه من الأرباح والجاه. ﴿كَسَبَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿أَبِي لَهَبٍ﴾، والجملة صلة ﴿مَا﴾ المصدرية؛ أي: أي شيء أغنى عنه ماله وكسبه، أو صلة ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف؛ أي: والذي كسبه ﴿سَيَصْلَى﴾: ﴿السين﴾: حرف استقبال، ﴿يصلى﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿أَبِي لَهَبٍ﴾. ﴿نَارًا﴾: مفعول به. ﴿ذَاتَ لَهَبٍ﴾: صفة لـ ﴿نَارًا﴾؛ لأنها مآل كنيته ومثابتها، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿وَامْرَأَتُهُ﴾: معطوف على الضمير المستتر في ﴿يصلى﴾، وسوغه الفصل بالمفعول وصفته. ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ - بالنصب - إما منصوب على الذم؛ أي: أذم حمالة الحطب، أو على الحال من ﴿امرأته﴾، وبالرفع إما صفة للمرأة، أو خبر مبتدأ محذوف، أو خبر لـ ﴿امرأته﴾ على أنه مبتدأ. ﴿فِي جِيدِهَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿حَبْلٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿مِنْ مَسَدٍ﴾: جار
429
ومجرور صفة لـ ﴿حبل﴾، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ﴿امرأته﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ يقال: تب يتب تبًا - من باب رد - كما في "القاموس"، ومن باب ضرب، كما في "المصباح" وقال الزمخشري: والتباب الهلاك، ومنه قولهم: أشابة أم تابة؛ أي: هالكة من الهرم والتعجيز، والمعنى: هلكت يداه؛ لأنه فيما يروى أخذ حجرًا ليرمي به رسول الله - ﷺ -، وعبارة ابن خالويه ومعناه: خسرت يداه، يقال: تب يتب تبًا فهو تاب، والمفعول به متبوب، والأمر: تُبَّ، وإن شئت كسرت، وللمرأة تُبِّي، ويقال: امرأة تابة؛ أي: عجوز قد هلك شبابها، والتباب الهلاك، قال تعالى: ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾.
قال عدي:
إِذْهَبِي إِنَّ كُلَّ دُنْيَا ضَلاَلٌ وَالأَمَانِيُّ عَقْرُهُا لِلتَّبَابْ
لَا يَرُوْقَنْكَ صَائِرٌ لِفَنَاهُ كُلُّ دُنْيَا مَصِيْرُهُا لِلتُّرَابْ
وقال جرير:
غُرَادَةُ مِنَ بَقِيَّةِ قَوْمِ لُوْطٍ أَلَا تَبًّا لِمَا عَمِلُوْا تَبَابَا
وقال كعب بن مالك يمدح النبي - ﷺ -:
الْحَقُّ مَنْطِقُهُ وَالْعَدْلُ سِيْرَتُهُ فَمَنْ يُعِنْهُ عَلَيْهِ يَنْجُ مِنْ تَبَبِ
والتاء الثانية تاء التأنيث؛ لأن اليد مؤنثة، ومعنى تبت يداه؛ أي: تب هو؛ لأن العرب تنسب الشدة والقوة والأفعال إلى اليدين؛ إذ كان بهما يقع كل الأفعال.
﴿يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ واللهب واللهيب اشتعال النار إذا خلص من الدخان، أو لهبها لسانها، ولهيبها حرها، كما مر، تَكَنَّى به عبد العزى بن عبد المطلب لإشراق وجنتيه وتلهبها، وإلا فليس له ابن يسمى باللهب.
﴿سَيَصْلَى﴾؛ أي: يحترق بها، وصَلِيَ من باب تعب، وعبارة ابن خالويه هنا: جيدة، وهي: ويقال: صليت الشاة إذا شويتها، فأنا صال، والشاة مصلية، ومن ذلك حديث رسول الله - ﷺ - أنه أهديت إليه شاة مصلية، وأجاز الفراء: مَصْلاة؛
430
لأنك تقول: أصليتها أيضًا.
﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ والحطب: ما أُعد من الشجر للوقود.
﴿فِي جِيدِهَا﴾ الجيد: العنق، وجمعه أجياد، والجَيَد - بفتح الياء - طول العنق.
﴿مِنْ مَسَدٍ﴾ المسد ما فُتل من الحبال فتلًا شديدًا، من ليف كان أو جلد أو غيرهما، وفي "القاموس": المَسْد - بسكون السين - مصدر بمعنى الفتل وبفتحها المحْوَر من الحديد، أو حبل من ليف، أو كل حبل محكم الفتل، والجمع مساد وأمساد، يقال: مسد حبله يمسده مسدًا من باب نصر.
﴿وَامْرَأَتُهُ﴾ وفي حرف ابن مسعود: ﴿مُرَيْئته﴾ مصغرًا، والعرب تقول: هذه مرئتي وامرأتي وزوجي وزوجتي وحنتي وطلتي وشاعتي وإزاري ومحل إزاري وفضلتي وحرثي.
قال الشاعر:
إِذَا أَكَلَ الْجَرَادُ حُرُوْثَ قَوْمٍ فَحَرْثِيْ هَمُّهُ أَكْلُ الْجَرَادِ
وتسمى المرأة بينًا، والعرب تكني عن المرأة باللؤلؤة والبيضة والسرحة والأثلة والنخلة والشاة والبقرة والنعجة والودعة والعيبة والقوارير والربض والفراش والريحانة والظبية والدمية - وهي الصورة مع العاج - والنعل والغل والقباء والجارة والمزخة والقومدة، وكنى الفرزدق عن المرأة بالجفن، فجعلها جفنًا لسلاحه، وكانت ماتت وهي حبلى، فقال:
وَجَفْنَ سِلَاحٍ قَدْ رُزِئْتْ فَلَمْ أَنُحْ عَلَيْهِ وَلَمْ أَبْعَثْ عَلَيْهِ الْبَوَاكِيَا
وَفِيْ جَوْفِهِ مِنْ دَارِمٍ ذُوْ حَفِيْظَةٍ لَوَ انَّ الْمَنَايَا أَنْسَأَتْهُ لَيَالِيَا
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
431
فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ حيث أطلق الجزء وأراد الكل؛ أي: هلك أبو لهب.
ومنها: الجناس بين ﴿أَبِي لَهَبٍ﴾ وبين ﴿نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ فالأول كنية، والثاني وصف للنار.
ومنها: الكنية للتصغير والتحقير في قوله: ﴿أَبِي لَهَبٍ﴾ فليس المراد تكريمه، بل تشهيره كأبي جهل.
ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١)﴾ إشعارًا بتحقق وقوعه.
ومنها: التهكم والسخرية منها في قوله: ﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥)﴾ فقد صورها تصويرًا فيه منتهى الخسة والقماءة، حيث أخبر عنها بأنها تحمل تلك الحزمة وتربطها في جيدها تخسيسًا لحالها، وتصويرًا لها بصورة بعض الحطابات من المواهن جمع ماهن، وهي الخدم؛ لتمتعض من ذلك ويمتعض زوجها، وهما في بيت العز والشرف، وفي منصب الثروة والجِدَة، وقد تعلق الشعراء بأذيال هذه السخرية، فعيَّر أحدهم الفضل بن العباس بن عُتبة ابن أبي لهب بحمالة الحطب، فقال:
مَاذَا أَرَدْتَ إِلَى شَتْمِيْ وَمَنْقَصَتِيْ أَمْ مَا تُعَيِّرُ مِنْ حَمَّالَةِ الْحَطَبِ
غَرَّاءُ شَادِخَةٌ فِيْ الْمَجْدِ سَامِيَةٌ كَانَتْ سَلِيْلَةَ شَيْخٍ ثَاقِبِ الْحَسَبِ
والغراء: البيضاء، والشادخة: المتسعة، وذلك مجازي عن الظهور وارتفاع المقدار، والسليلة مَن سُلَّ من غيره، والمراد بالشيخ أبوها حرب؛ لأنها أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب.
وقيل: حمل الحطب حقيقة، وقيل: مجاز عن إثارة الفتنة؛ لأنها كانت نمامة، وإلى شتمي متعلق بمحذوف، أو بأردت على طريق التضمين؛ أي: أي شيء أردته مائلًا أنمت إلى شتمي، أو منضمًا هو إلى شتمي؟ أو ما الذي أردته من شتمي؟ أو مع شتمي، هل أردت أنك شريف لا عيب فيك؟ ويجوز أن تكون إلى بمعنى من، كما قال النحاة: ويمكن أنها للمصاحبة، كما قالوا أيضًا في قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا
432
أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} وتعير أصله تتعير، فحذف منه إحدى التاءين.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم بمعاني كتابه
* * *
(١) إلى هنا تم تفسير صورة المسد وقت الشروق من يوم الخميس اليوم الرابع من شهر الله صفر المبارك من شهور سنة ١٤١٧ هـ ألف وأربع مئة وسبع عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
433
سورة الإخلاص
التسمية: سورة الإخلاص، وتسمى سورة المعرفة، وسورة الجمال، وسورة التوحيد، وسورة النجاة، وسورة النور، وسورة المعوذة، وسورة المانعة؛ لأنها تمنع فتنة القبر ولفحات النار، وسورة البراءة؛ لأنها براءة من الشرك نزلت بعد سورة الناس، وهي مكية في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي.
ولهذه السورة (١) أسماء كثيرة، وزيادة الأسماء تدل على شرف المسمى، أنهاها بعضهم إلى عشرين اسمًا: أولها الإخلاص ثانيها التنزيل. ثالثها التجريد؛ لأن من تعلق بها تجرد عن الأغيار. رابعها التوحيد؛ لأنها دالة عليه. خامسها النجاة لنجاة قارئها. سادسها الولاية؛ لأن من تعلق بها أعطاه الله الولاية. سابعها النسبة لقولهم في السؤال: انسب لنا ربك. ثامنها المعرفة؛ لأن من فهمها عرف الله تعالى. تاسعها الجمال؛ لدلالتها على جمال الله تعالى؛ أي: اتصافه بالكمال وتنزيهه عن النقائص. عاشرها: المقشقشة؛ أي: المبرئة من الشرك والنفاق. الحادي عشر المعوِّذة؛ أي: المحصنة لقارئها من فتن الدنيا والآخرة. الثاني عشر الصمد، لذكره فيها. الثالث عشر الأساس؛ لأنها أصل الدين، وفي الحديث: أسست السموات والأرضون السبع على قل هو الله أحد". الرابع عشر المانعة؛ لأنها تمنع فتنة القبر وعذاب النار. الخامس عشر سورة المحتضر؛ لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قُرئت. السادس عشر المنفرة؛ لأن الشياطين تنفَّر عند قراءتها. السابع عشر سورة البراءة؛ لأنها براءة من الشرك. الثامن عشر المذكِّرة؛ لأنها تذكر العبد خالص التوحيد. التاسع عشر المنورة؛ لأنها تنور القلب. العشرون سورة الإنسان؛ لأنه لا غنى له عنها.
وآياتها أربع، وكلماتها: خمس عشرة كلمة، وحروفها سبعة وأربعون حرفًا.
(١) الصاوي.
434
ومناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر (١) فيما قبلها عداوة أقرب الناس إلى رسول الله - ﷺ -؛ وهو عمه أبو لهب، وما كان يقاسي من عباد الأوثان الذين اتخذوا مع الله آلهة.. جاءت هذه السورة مصرحة بالتوحيد رادة على عباد الأوثان والقائلين بالثنوية وبالتثليث وبغير ذلك من المذاهب المخالفة للتوحيد.
وقال بعضهم: مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذم فيما قبلها أعداء أهل التوحيد وأعداء الرسول - ﷺ -.. بيَّن في هذه حقيقة التوحيد الذي هو أساس الدين ومبنى أركانه، وسميت سورة الإخلاص؛ لدلالتها على إخلاص العمل لله وتصفيته من الإشراك به.
الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الإخلاص كلها محكمة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
فضلها (٢): وورد في فضل هذه السورة أحاديث كثيرة صحيحة:
فمنها: ما أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلًا سمع رجلًا يقرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾ يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي - ﷺ -، فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالُّها، فقال رسول الله - ﷺ -: "والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن"، وفي رواية قال: قال رسول الله - ﷺ - لأصحابه: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة"، فشق ذلك عليهم، فقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله، فقال: "قل هو الله أحد، الله الصمد، ثلث القرآن".
ومنها: ما أخرجه مسلم عن أبي الدرداء أن النبي - ﷺ - قال: "إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾ جزءًا من القرآن".
ومنها: ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله - ﷺ -، فقال: "أقرأ عليكم ثلث القرآن، فقرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢)﴾ حتى ختمها".
ومنها: ما أخرج أبو عبيد في فضائلها وأحمد والنسائي في "اليوم والليلة" وابن منيع ومحمد بن نصر وابن مردويه والضياء في "المختارة" عن أُبيِّ بن كعب
(١) البحر المحيط.
(٢) الخازن.
435
قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من قرأ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾ فكأنما قرأ ثلث القرآن"، قال النووي - رحمه الله تعالى -: معنى كونها تعدل ثلث القرآن أن القرآن على ثلاثة أنحاء قصص وأحكام وصفات الله تعالى، و ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾ متمحضة للصفات، فهي ثلث القرآن، وجزء من ثلاثة أجزاء اهـ.
وقيل معناه: أن ثواب قراءتها مرة يتضاعف بقدر ثواب قراءة ثلث القرآن بغير تضعيف، وقيل غير ذلك.
ولو لم يرد في فضل هذه السورة إلا حديث عائشة عند البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي - ﷺ - بعث رجلًا في سرية، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله - ﷺ -، فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك"؟ فسألوه، فقال؛ لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال: "أخبروه أن الله تعالى يحبه" هذا لفظ البخاري في كتاب "التوحيد".
وأخرج البخاري أيضًا في كتاب الصلاة من حديث أنس قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، فكان كلما افتتح سورة، فقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بـ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾ حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه، فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بالأخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها، وتقرأ بأخرى، قال: ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركت، وكانوا يرون أنه من أفضلهم، فكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي - ﷺ - أخبروه الخبر، فقال: "يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك، وما حملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة"؟ فقال: إني أحبها، قال: "حبك إياها أدخلك الجنة" وقد روي بهذا اللفظ من غير وجه عند غير البخاري.
تتمة في فضائل هذه السورة: عن سهل (١) بن سعد - رضي الله عنه -: جاء رجل إلى النبي - ﷺ -، وشكا إليه الفقر، فقال: "إذا دخلت بيتك فسلم إن كان فيه
(١) الصاوي.
436
أحد، وإن لم يكن فيه أحد فسلم على نفسك، واقرأ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾ مرة واحدة"، ففعل الرجل ذلك فأدر الله عليه رزقًا حتى أفاض على جيرانه".
وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: من قرأ قل هو الله أحد بعد صلاة الفجر، إحدى عشرة مرة لم يلحقه ذنب يومئذ ولو اجتهد الشيطان، وفي الحديث: "أيعجز أحدكم أن يقرأ القرآن في ليلة واحدة"، فقيل: يا رسول الله من يطيق ذلك؟ قال: "أن يقرأ قل هو الله أحد ثلاث مرات".
ومنها: قوله - ﷺ -: "من قرأ قل هو الله أحد عشر مرة بني له قصر في الجنة، ومن قرأها عشرين مرة بني له قصران في الجنة، ومن قرأها ثلاثين مرة بني له ثلاثة قصور في الجنة".
قال عمر - رضي الله عنه - يا رسول الله إذًا تكثر قصورنا، فقال رسول الله - ﷺ -: "الله أوسع من ذلك".
ومنها: قوله - ﷺ -: "من قرأ قل هو الله أحد في مرضه الذي يموت فيه لم يفتن في قبره، وأمن من ضغطة القبر، وحملته الملائكة يوم القيامة بأكفها حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة".
ومنها: قوله - ﷺ -: "من قرأ قل هو الله أحد مرة بورك عليه، ومن قرأها مرتين بورك عليه وعلى أهله، ومن قرأها ثلاث مرات بورك عليه وعلى جميع جيرانه، ومن قرأها اثنتي عشرة مرة بني الله له اثني عشر قصرًا في الجنة، فإن قرأها مئة مرة كفَّر الله عنه ذنوب خمسين سنة ما خلا الدماء والأموال، فإن قرأها مئتي مرة كفر الله عنه مئة سنة، ومن قرأها ألف مرة لم يمت حتى يرى مكانه في الجنة أو يرى له".
ومنها: أن من قرأها مئة ألف فقد اشترى نفسه من الله، ونادى مناد من قبل الله تعالى في سمواته وفي أرضه، ألا إن فلانًا عتيق الله، فمن كان له قبله بضاعة فليأخذها من الله عَزَّ وَجَلَّ، فهي عتاقه من النار، لكن بشرط أن لا يكون عليه حقوق العباد أصلًا أو عليه وهو عاجز عن أدائها، أما من قدر عليه فهو كالمستهزىء بربه؛ لما ورد في الحديث: "يا داود: قل للظلمة لا يذكروني، فإنهم إن ذكروني ذكرتهم وذكري لهم أن ألعنهم"، وفي أسانيد بعضها مقال، ولكن
437
ذكرناها استئنافًا لفضل السورة والله أعلم.
فوائدها: ومما ورد في فوائدها: ما أخرجه ابن الضريس والبزار والبيهقي في "الشعب" عن أنس بن مالك عن النبي - ﷺ -: "من قرأ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾ مئتي مرة غُفر له ذنب مئتي سنة".
قال البزار: لا نعلم، رواه عن أنس إلا الحسن ابن أبي جعفر والأغلب بن تميم، وهما يتقاربان في سوء الحفظ.
ومنها: ما أخرجه أحمد والترمذي وابن الضريس والبيهقي في "سننه" عن أنس قال: جاء رجل إلى رسول الله - ﷺ -، فقال: إني أحب هذه السورة: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾ فقال رسول الله - ﷺ -: "حبك إياها أدخلك الجنة".
ومنها: ما أخرجه محمد بن نصر وأبو يعلى عن أنس عن رسول الله - ﷺ - قال: "من قرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾ خمسين مرة غفر له ذنوب خمسين سنة" وإسناده ضعيف.
ومنها: ما أخرجه الترمذي وابن عدي والبيهقي في "الشعب" عن أنس قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من قرأ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾ مئتي مرة كتب الله له ألفًا وخمس مئة حسنة، ومُحي عنه ذنوب. خمسين سنة إلا أن يكون عليه دين" وفي إسناده حاتم بن ميمون ضعفه البخاري وغيره.
ولفظ الترمذي "من قرأ في يوم مئتي مرة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾ مُحي عنه ذنوب خمسين سنة إلا أن يكون عليه دين".
وفي إسناده حاتم بن ميمون المذكور.
ومنها: ما أخرجه الترمذي ومحمد بن نصر وأبو يعلى وابن عدي والبيهقي عن أنس قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من أراد أن ينام على فراشه من الليل، فنام على يمينه، ثم قرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾ مئة مرة، فإذا كان يوم القيامة يقول له الرب: يا عبدي على يمينك ادخل الجنة"، وفي إسناده أيضًا حاتم بن ميمون المذكور.
قال الترمذي بعد إخراجه غريب من حديث ثابت، وقد روي من غير هذا
438
الوجه عنه، وعن أبي هريرة قال أقبلت مع رسول الله - ﷺ -، فسمع رجلًا يقرأ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢)﴾، فقال رسول الله - ﷺ -: "وجبت" قلت: وما وجبت؟ قال: "الجنة" أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب صحيح والله أعلم.
وفي الباب أحاديث كثيرة، منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف أعرضنا عن ذكرها؛ لئلا يطول الكتاب، وفيما ذكرنا كفاية.
ومن فوائد هذه السورة أيضًا (١): أن الاشتغال بقراءتها يفيد الاشتغال بالله، وملازمة الإعراض عما سوى الله تعالى، وهي متضمنة تنزيه الله تعالى وبراءته عن كل ما لا يليق به؛ لأنها مع قصرها جامعة لصفات الأحدية والصمدانية والفردانية وعدم النظير.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) الخازن.
439

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤)﴾.
أسباب النزول
سبب نزول هذه السورة (١): ما روى الضحاك أن المشركين أرسلوا إلى رسول الله - ﷺ - عامر بن الطفيل، فقال له عنهم: شققت عصانا - فرقت كلمتنا -، وسببت آلهتنا، وخالفت دين آبائك، فإن كنت فقيرًا أغنيناك، وإن كنت مجنونًا داويناك، وإن كنت قد هويت امرأة زوجناكها، فقال رسول الله - ﷺ -: "لست بفقير ولا مجنون ولا هويت امرأة، أنا رسول الله أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته" فأرسلوه ثانية، وقالوا: قل له بيِّن لنا جنس معبودك، أمن ذهب أم من فضة؟ فأنزل الله سبحانه هذه السورة الكريمة، فقالوا له: ثلاث مئة وستون صنمًا تقوم بحوائجنا، فكيف يقوم الواحد بحوائج الخلق، فنزلت: ﴿وَالصَّافَّاتِ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (٤)﴾ فأرسلوه أخرى، وقالوا: بيِّن لنا أفعاله، فنزل: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾.
وأخرج (٢) أحمد والبخاري في "تاريخه" والترمذي وابن جرير وابن خزيمة وابن أبي عاصم في "السنة" والبغوي في "معجمه" وابن المنذر وأبو الشيخ في "العظة" والحاكم وصححه، والبيهقي في "الأسماء والصفات" عن أبيِّ بن كعب أن المشركين قالوا للنبي - ﷺ -: يا محمد انسب لنا ربك، فأنزل الله سبحانه: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣)...﴾ إلخ ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث وإن الله لا يموت ولا يورث، ولم يكن له كفوًا أحد، قال: لم يكن له شبيه ولا عدل، وليس كمثله شيء، ورواه الترمذي من طريق أخرى عن أبي العالية مرسلًا، ولم يذكر أبيًا، ثم قال: وهذا أصح.
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
440
Icon