ﰡ
قال الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)
ينبغي قبل تفسير هذه الآيات أن نبيّن حكمة الحجّ، وتاريخ مشروعيته فنقول:
أ- حكمة الحج: لعلّك تكون في حاجة إلى إطالة القول في بيان الحكمة في شرح الحج، والسرّ الذي من أجله كتب الله هذه الفريضة على المسلمين، بعد ما عملته في دراساتك السابقة في هذا الشأن، وإذا فيكون تعرّضنا هنا لشيء من هذا البيان إنما نقصد به التذكير على وجه الإجمال، بما سبق لك من التفصيل.
شرع الله الحج إلى بيته الكريم لمنافع عظيمة تعود على المسلمين في دينهم ودنياهم:
١- فمناسك الحج من أعظم مظاهر الخشية والإخلاص لله في الذكر والدعاء والعبادة.
٢- وهي كذلك دلائل على التجرّد من زينة الدنيا، وبواعث على عدم التعلق بشهواتها وزخرفها.
٣- وهي بواعث على الرحمة والإحسان، والعدل والمساواة، إذ يكون الناس هناك في مستوى واحد، لا فرق بين أمير ومأمور، ولا بين غني وفقير.
٤- هذا إلى ما يعود على سكان مكة، وجزيرة العرب، والناس جميعا من المنافع المعيشية والتجارية، وما يتهيأ لهم هناك من الاجتماع والتعارف، والاتفاق على ما ينهض بالمسلمين في جميع بقاع الأرض.
ب- تاريخ مشروعية الحج: أما تاريخ مشروعيته فأنت تعلم أنّه كان مفروضا في زمن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والآيات التي معنا من أقوى الدلائل على ذلك.
وإن قلنا: إن فرضيته قد نسخت بعد سيدنا إبراهيم، كان وجوبه علينا ثابتا بقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: ٩٧] إذ هي الآية الصريحة في هذا الوجوب.
وأما قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: ١٩٦] عام الوفود على الراجح، وهذا العام هو الذي قدم فيه وفد نجران على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصالحهم فيه على الجزية، ومعلوم أنّ مبدأ مشروعية الجزية كان عام غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، وعلى هذا يكون مبدأ فرضية الحج في السنة التاسعة، وتكون الحجتان اللتان فعلهما النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل ذلك نافلتين، تطوّع بهما على دين سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ولقائل أن يقول: فلماذا لم يبادر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأداء الحج في تلك السنة، وهو أفضل الخلق، وأسبقهم إلى الخيرات، وأسرعهم إلى تأدية فرائض الله، وكيف يرسل أبا بكر ليحج بالناس، ويؤخر هو حجته إلى السنة التي بعدها؟
والجواب على ذلك أنه رؤي أن الوقت الذي خرج فيه أبو بكر ليحج بالناس كان زمن النسيء، ولم يكن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض حتى تعود عشر ذي الحجة إلى مركزها الحقيقي من السنة، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم أنها ستعود إلى مركزها الحقيقي، وينضبط نظام السنين القمرية في السنة العاشرة فتأخر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى السنة العاشرة كان لحكمة عظيمة، كي يقع حجّة الذي سيكون منهاجا للناس جميعا في الوقت الحقيقي الذي فرض الله على الناس أن يقوموا فيه بتلك الشعيرة، وليس على أبي بكر ولا على غيره ممن كانوا معه من حرج في حجهم في ذلك الوقت ما دام أمر الزمان لم يتقرر بعد.
ونعود إلى التفسير:
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ الأذان والتأذين الإعلام برفع الصوت على نحو ما يكون للصلاة. والمراد هنا النداء في الناس بأنّ الله قد كتب عليهم الحجّ، ودعاهم إلى أدائه.
رِجالًا جمع راجل، كقيام جمع قائم، أي ماشين.
وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ الضامر النحيف الهزيل، والمراد به هنا الهزيل من مشقة السفر يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يأتين صفة لضامر، لأنه لما دخلت عليه أداة العموم صيّرته بمعنى ضوامر. والمعنى: وعلى ضوامر يأتين.
والعميق أصله البعيد أسفل، أي بعيد القاع، فاستعمل في البعيد مطلقا، لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ المراد بالمنافع ما يصيبون من خير الدنيا والآخرة:
فخير الدنيا ما يصيبون من لحوم الذبائح، وأنواع التجارات، وما تكون في ذلك الاجتماع العظيم من التعارف، وأما خير الآخرة فهو ما يؤدون من تلك الشعائر التي هي سبب رضوان الله عليهم، وشهودها حضورها ونيلها.
فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ قيل: هي عشر ذي الحجة. وقيل: هي العاشر واليومان بعده، وقيل: والثلاثة بعده.
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ قيل: المراد بذكر اسم الله حمده وشكره والثناء عليه، و (على) حينئذ للتعليل.
واختار الزمخشري «١» أنّ ذكر اسم الله على البهيمة كناية عن ذبحها، و (على) حينئذ للاستعلاء، والبهيمة في الأصل اسم لكل ما له أربع قوائم، والمراد بها هنا ما يكون من الإبل والبقر والغنم.
الْبائِسَ الْفَقِيرَ البائس من أصابه بؤس وشدة. والفقير المحتاج، سواء أكان له بلغة من العيش أم لا.
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ التفث القذر والوسخ، وقضاؤه إنهاؤه وإزالته، والمراد ما ينشأ عنه التفث من طول الشعر والأظفار.
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ النذر: ما التزمه الإنسان من أعمال البر.
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ العتيق الكريم، ومنه عتاق الإبل والخيل كرائمها، أو هو القديم، لأنّه أول بيت وضع للناس، أو هو العتيق بمعنى المعتق المتحرر من تسلط الجبارين واستيلائهم، فلا يريده أحد بعدوان إلا رده الله عنه، وجعل عاقبة بيته السلامة والحفظ.
المعنى: يأمر الله تعالى نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد ما فرغ من بناء البيت بأن ينادي في الناس، ليعلمهم أنّ الله قد كتب عليهم الحج إلى هذا البيت العتيق، ليدركوا فيه منافع وخيرات كثيرة، تعود عليهم في دينهم ودنياهم، ويؤدّوا شعائر الله، ويذكروا اسمه الكريم على الذبائح التي يذبحونها شكرا لله على توفيقه إياهم وإرشادهم إلى ما يصلحهم، وأنه لا حرج على أصحاب تلك الذبائح أن يأكلوا
قد يقال: إنه لم يكن حول الكعبة حينذاك أحد يسمع نداء سيدنا إبراهيم، فكيف يؤمر بهذا النداء الذي يذهب في الفضاء؟
والجواب أن الله سبحانه وتعالى قد أيدّ رسله بالمعجزات الخارجة عن مجرى العادات، فهو سبحانه قادر على أن يوصل صوت إبراهيم إلى من يشاء في تلك النواحي البعيدة، والأصقاع المترامية.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس «١» قال: لما فرغ إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بناء البيت قال:
ربّ قد فرغت، فقال: أذّن في الناس بالحج. قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال تعالى: أذّن وعليّ البلاغ. قال: رب كيف أقول، قال: قل يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه أهل السماء والأرض، ألا ترى أنهم يجيبون من أقصى البلاد، يلبون.
على أنا نشاهد اليوم آلات الإذاعة تنشر الأصوات في جميع بقاع الأرض، فلا تحجزها جبال، ولا تضعفها بحار ولا قفار، فمن يشاهد هذه الحقائق التي يستطيعها كل من يزاول علومها، لا يمكنه أن يكابر في معجزات الأنبياء.
هذا، وقيل إنّ المخاطب بالتأذين والدعوة إلى الحج هو نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأنه أمر بذلك حينما عزم على الحج في السنة العاشرة من الهجرة، وأن نظم الآية مع التي قبلها لا يأباه، إذ المخاطب في قوله تعالى قبل هذه الآية: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويكون المعنى حينئذ: واذكر يا محمد إذ بوأنا لإبراهيم، وأذن في الناس بالحج، ولكنك ترى أنّ في الآية الأولى أوامر ونواهي كلها متوجهة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فالظاهر أنّ الأمر بالتأذين أيضا لإبراهيم، إذ الغرض من تطهير البيت إعداده للطائفين والقائمين والركع السجود، فيكون دعاؤه الناس بعد ذلك للحج متناسبا غاية التناسب مع إعداد البيت وتطهيره.
وبعض العلماء ردّ احتمال توجيه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن سورة الحج مكية، فنزولها قبل حجة الوداع بالضرورة، فلا يستقيم أن يكون المأمور بالدعاء هو النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ما في الآيات من الأسرار:
إذا كان الغرض من دعاء الناس للحج أن يأتوا إلى البيت الحرام، فالسرّ في العدول عن ذلك إلى التعبير بالإتيان إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه هو الداعي، والقدوة لهم فيما يكون بعد.
وقوله تعالى: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ كلمة (كل) فيه للتكثير لا للإحاطة، على حد قوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: ٢٣] والسر في ذلك إفادة أن الركبان الآتين من الأماكن البعيدة يكونون كثيرين جدا، حتى كأنّهم يمتطون جميع الضوامر.
لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ نكّرت المنافع لإفادة عظمتها وكثرتها، أو التنكير فيها للتنويع.
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ اختير هذا الأسلوب مع أنّ الذبح هو المعدود من مناسك الحج، كالذبح للمتعة والقرآن، ليفيد أن ذكر الله وحده خالصا من شوائب الشرك هو المقصود الأعظم، وتوسيط الرزق لبعثهم على الشكر والتقرب بتلك القربة، والتهوين عليهم في الإنفاق، وفي قوله تعالى: فَكُلُوا إلخ التفات إليهم بالخطاب، ليؤكّد لهم إباحة الأكل من تلك الذبائح، فلا يتحرّجوا من ذلك، وليبعثهم على مشاركة البائسين والفقراء ومواساتهم.
ما في الآيات من الأحكام
: ١- قوله تعالى: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فيه دليل على جواز كلّ من المشي والركوب في الحج.
٢- استدل بعض المالكية على أنّ المشي في الحج أفضل من الركوب، بتقديمه عليه في الآية. وإلى هذا ذهب ابن عباس، فقد أخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة، والبيهقي، وجماعة عنه أنه قال: ما آسى على شيء فاتني إلا أني لم أحج ماشيا حتى أدركني الكبر: أسمع الله تعالى يقول: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فبدأ بالرجال قبل الركبان.
ولكنّك ترى أنّ مجرد التقديم لا يدل على الأفضلية، لجواز أن يكون تقديم الرجال على الركبان للإشارة إلى مسارعة الناس في الامتثال، حتى إن الماشي ليكاد يسبق الراكب، فإذا كان المشي أفضل، فإنما هو لأدلة أخرى. من ذلك ما
أخرجه ابن سعد وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن
٣- وفي قوله جل ذكره: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ دلالة على جواز التجارة في الحج، روي عن مجاهد أنه قال: المنافع التجارة، وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة. وروي مثل ذلك عن ابن عباس، وقد نص الفقهاء على أنّ التجارة جائزة للحاج من غير كراهة، إذا لم تكن هي المقصودة من السفر.
٤- استدلّ المالكية بقوله تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ على أنّ ذبح الهدي لا يجوز ليلا، لأنّ الله جعل ظرف النحر هو الأيام لا الليالي، وأنت تعلم أنّ اليوم كما يطلق على النهار يطلق على مجموع النهار والليل، وغير المالكية يرى كراهة الذبح ليلا، لاحتمال الخطأ فيه بسبب الظلمة.
وقد اختلف العلماء في المراد بالأيام المعلومات، فذهب الإمام مالك وأبو يوسف ومحمد إلى أنها أيام النحر، وهي العاشر من ذي الحجة، واليومان بعده، وهو مروي عن علي وابن عمر.
وقال الإمامان أبو حنيفة والشافعي: الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، وهي معلومات لأنّ شأن المسلمين أن يحرصوا على معرفتها، ويتحرّوا هلال ذي الحجة لما يقع في ذلك من المناسك العظيمة، ولعلهم يقولون: إنّ المراد بالذكر ما يشمل التسمية على الذبائح وغيرها من الحمد والشكر والتكبير، وعلى هذا ينبغي أن تكون (على) في قوله جلّ شأنه عَلى ما رَزَقَهُمْ للتعليل كما في قوله تعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ [البقرة: ١٨٥].
ثم اختلف في أيام النحر، فالحنفية والإمام مالك قالوا:
إنها ثلاثة أيام: العاشر وما بعده، وهو مروي عن جمع من الصحابة، منهم: عمر وعلي
، وابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس، وكثير من التابعين.
وقال الشافعي: إنها أربعة العاشر وما بعده. وقيل: إلى هلال المحرم، ولعل المذهب الأول أرجح، لأنّ بقية الأقوال لم ينقل ما يؤيّدها عمن يسامي أولئك الصحابة والتابعين.
وقد احتج لمذهب الشافعي بما
روى البيهقي عن جبير بن مطعم أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في حديث: «وكلّ أيام التشريق ذبح»
ولا شك أنّ أيام التشريق ثلاثة بعد يوم
وقال البيهقي إنه من رواية سليمان بن موسى الأسدي فقيه أهل الشام، عن جبير، ولم يدركه، ورواه من طرق ضعيفة متصلا.
٥- ظاهر قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْها وجوب الأكل من الهدايا، لكنّ هذا الظاهر غير مراد، فإنّ السلف متفقون على أنه لا يجب الأكل من شيء من الهدايا، إذ غاية ما أفاده هذا الأمر أنه رفع ما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج عن الأكل من الهدايا، فأباح الأكل منها، أو ندب إليه، لقصد مواساة الفقراء، ومواساتهم في الأكل. فالأمر إما للإباحة أو للندب.
ثم إنّ جواز الأكل من الهدايا ليس عاما في كل هدي، فإنّ دم الجزاء لا يجوز الأكل منه اتفاقا، ودم التطوع يجوز الأكل منه اتفاقا أيضا. أما دم القران والتمتع فقال الشافعية: إنه دم جبر، فلا يجوز الأكل منه، والحنفية يقولون: إنه دم شكر، فأباحوا الأكل منه، والظاهر يشهد لهم، فإنّ الآية فيها ترتيب قضاء التفث على الذبح والطواف، ولا دم تترتب عليه هذه الأفعال إلا دم المتعة والقرآن فإن سائر الدماء يجوز ذبحها قبل هذه الأفعال وبعدها، فثبت أنّ المراد في الآية دم المتعة والقران. هذا
وقد ثبت أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أكل من البدن التي ساقها في حجة الوداع، وقد كان قارنا على ما هو الراجح.
ونصّ الفقهاء على أنه يلحق بالأكل الانتفاع بجلودها وأصوافها، كما أنّه يجوز إطعام الأغنياء منها، فإنّ الآية أباحت لصاحب الذبيحة أن يأكل منها، ولو كان غنيا، ومتى جاز له أن يأكل وهو غني جاز أن يؤكل غنيا.
٦- ظاهر قوله تعالى: وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ وجوب إطعام الفقراء من الهدايا، وبهذا الظاهر أخذ الشافعيّ، فأوجبوا إطعام الفقراء منها. وقال أبو حنيفة: إنه مندوب، لأنها دماء نسك، فتتحقق القربة فيها بإراقة الدم، أما إطعام الفقراء فهو باق على حكمه العام.
٧- في الاقتصار على الأكل والإطعام دلالة على أنّه لا يجوز بيع شيء من الهدايا، ويشهد لذلك ما
روى البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال: أمرني النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أقوم على بدنه فقال اقسم جلودها وجلالها، ولا تعط الجازر منها شيئا «١».
٨- في قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ دلالة على وجوب التحلل الأصغر، وذلك بالحلق أو التقصير.
٩- وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ فيه دلالة على وجوب الوفاء بالنذر، وأداء ما التزمه الإنسان من أعمال البر، سواء أكان من جنسه واجب أم لا.
١٠- وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ فيه دلالة على لزوم هذا الطواف، والمراد به طواف الإفاضة، كما هو مروي عن ابن عباس وجماعة من التابعين، وبهذا قال فقهاء الأمصار.
وقيل: الطواف في الآية هو طواف الصدر. وهو بعيد، لأنّ الطواف الذي يلي قضاء التفث إنما هو طواف الإفاضة الذي اتّفق على أنّه ركن، فمن البعيد جدا أن تتعرض الآية لطواف الوداع الذي اختلف في عدّه من المناسك، وتترك ما هو أهم منه وأعظم.
هذا والحكم بأنّ وقت هذا الطواف أيام النحر كلها أو اليوم الأول فقط لا يؤخذ من هذه الآية، كما أنه لا يؤخذ منها اشتراط الطهارة وستر العورة فيه، لأنّ اسم الطواف يقع على الدوران حول الكعبة، فعلى أي حالة حصل هذا الدوران فقد حصل مسمى الطواف، ومن اشترط شيئا وراء ذلك فإنما طريقه السنة وعمل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.
قال الله تعالى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) اسم الإشارة في مثل هذا الموطن يؤتى به للفصل بين كلامين، كما في قول زهير وقد تقدم له وصف هرم بالشجاعة والكرم:
هذا وليس كمن يعيا بخطبته | وسط الندى إذا ما ناطق نطقا |
وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ الحرمات جمع حرمة، قيل: هي بمعنى ما حرّمه الله من كلّ منهي عنه، أو من المنهيات في باب الحج فقط، كما روي عن ابن عباس أنّها فسوق، وجدال، وجماع، وصيد. وتعظيمها يكون باجتنابها.
وقيل: الحرمات الأشياء التي جعل الله لها احتراما في الحج وغيره، وهي جميع التكاليف وقيل: وهي مناسك الحج خاصّة.
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ الضمير الأول راجع إلى التعظيم المأخوذ من يُعَظِّمْ أي أن تعظيم هذه الأشياء ينال به الإنسان مثوبة قد ضمنها الله سبحانه وتعالى له، وعلى هذا لا يكون خَيْرٌ أفعل تفضيل. أو نقول: إنه للتفضيل والمفاضلة على سبيل التنزل، وإرخاء العنان، أي على فرض أن ترك التعظيم فيه شيء من الخير، فالتعظيم أفضل منه.
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ المراد حلّ ذبحها وأكلها، ثم إنه ليس المقصود بما يتلى (ما ينزل في المستقبل) ما يعطيه ظاهر الفعل المضارع، بل المراد ما سبق نزوله، مما يدل على حرمة الميتة، وما أهل به لغير الله أو ما يدل على حرمة الصيد في الحرم أو حالة الإحرام.
وعلى هذا يكون السر في التعبير بالمضارع التنبيه إلى أن ذلك المتلو ينبغي استحضاره والالتفات إليه، والاستثناء متصل إن أريد من المستثنى ما يكون محرما من خصوص الأنعام. وإن أريد به ما يشمل الدم ولحم الخنزير كان منقطعا. والظاهر الأول، والجملة معترضة لدفع ما عساه يقع في الوهم من أنّ تعظيم حرمات الله في الحج قد يقضي باجتناب الأنعام، كما قضى باجتناب الصيد.
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ، الرجس: القذر، وقوله: مِنَ الْأَوْثانِ بيان له.
والأوثان: الأصنام، وسمّاها الله رجسا تقبيحا لها، وتنفيرا منها.
والمراد باجتنابها اجتناب عبادتها وتعظيمها. ولتأكيد ذلك أوقع الاجتناب على ذاتها، وهذه الجملة مرتبطة بما قبل الاعتراض، مترتبة على حكمه، أي إذا كان تعظيم حرمات الله فيه الخير وفيه رضا الله تعالى وكان من تعظيم هذه الحرمات اجتناب ما نهى الله عنه، فاجتنبوا الأوثان، ولا تعظموها، ولا تذبحوا لها كما كان يفعل أهل الجاهلية.
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ.
الزور الكذب والباطل، وسمي زورا لميله عن وجه الحق، من الزور بفتح الواو وهو الميل والانحراف، وإضافة القول إليه بيانية.
قيل: المراد بقوله: الزُّورِ خلط أهل الجاهلية في تلبيتهم، وقولهم فيها:
لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، وهو ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل.
وقيل المراد به قولهم في البحائر والسوائب إنّها حرام، وأن تحريمها من الله.
والأحسن التعميم في قول الزور حتى يشمل الشهادة الباطلة،
فقد أخرج أحمد
حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ الحنيف المائل عن الديانات الباطلة إلى الدين الحق، مأخوذ من الحنف بالتحريك وهو الميل، وقد اشتهر عند العرب إطلاق الحنيف على كل متمسك بدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
والمعنى: اجتنبوا الرجس من الأوثان، واجتنبوا قول الزور حال كونكم ثابتين على الدين الحق، مخلصين لله في العبادة، من غير أن تجعلوا لغيره معه شركة فيها. فهما حالان مؤكّدتان لما قبلهما من الاجتناب.
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ.
خَرَّ. معناه سقط من علو.
فَتَخْطَفُهُ تختلسه بسرعة وقوة.
وهذه الجملة مستأنفة مقرّرة لوجوب اجتناب الشرك.
والمعنى: أن من جعل لله شريكا فقد حق عليه الخسار والبوار، وهو في شركه شبيه به إذا سقط من جو السماء، فاجتمعت عليه الطيور الجارحة، فمزقته، وذهب كل منها بقطعة منه، فتمّ بذلك هلاكه.
وظاهر على هذا أن التشبيه من باب تشبيه التمثيل، ويصح أن يكون تشبيها مفرقا.
أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ، هوى يهوي سقط من علو. وهوى به أسقطه.
والسحيق: البعيد، ماضيه سحق كبعد.
هذا تشبيه ثان لمن أشرك بالله، والعطف فيه إما على قوله: خَرَّ مِنَ السَّماءِ أو على فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ والمعنى أنّ حال المشرك في شركه، وما يؤدي إليه من سوء العاقبة، شبيهة بحاله إذا أخذته ريح عاصفة، فقذفت به في مهوى عميق، لا يكون له منه خلاص ولا نجاة، أو أنّ حاله في ذلك شبيهة بحاله إذا خرّ من السماء، فعصفت به الريح، وهوت به في مكان سحيق.
والتشبيه على هذين الوجهين تشبيه تمثيل، ويصح أن يكون تشبيها مفرقا أيضا، فيشبه الشيطان الذي يضله ويغويه بالريح التي تهوي به وترديه، ويشبه الشرك بالوادي
ولا يخفى عليك ما يؤخذ من هذه الآية من الأحكام فيما يتعلق بحرمات الله، والانتفاع بالأنعام، والإشراك بالله، وشهادة الزور.
وليس في قوله تعالى: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ما يدل على تعزير شاهد الزور، فإنّ غاية ما أفاده تحريم شهادة الزور، وما روي عن عمر رضي الله عنه من أنه كان يعزّر شاهد الزور، ويأمر فينادى عليه بالأسواق. وإليه ذهب أبو يوسف ومحمد، فإنما ذلك شيء يرجع إلى السياسات الشرعية، فللحاكم أن يفعل من ذلك ما يراه أحفظ لحقوق العامة، وأردع لأهل الفساد.
قال الله تعالى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) الشعائر: العلامات التي تعرف بها الأشياء، فهي تشعر بها وتدل عليها، وقد اختلف في المراد بها هنا: فقيل: إنها الدين كله أوامره ونواهيه، فهي شعائر الله، لأنّ امتثالها والوقوف عند حدودها يدل على الطاعة لله تعالى، والإخلاص له. وقد اضطر من يقول بهذا أن يفسّر البيت العتيق في قوله جلّ شأنه: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ بالجنة، وهو كما ترى بعيد.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما والإمام مالك والحسن: إنها عرفة، ومنى والصفا والمروة، والبيت الحرام، وغيرها من مواضع الحج، وهو لا يخلو من شيء، فإن الله تعالى قال في شأنها: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ والمحلّ في الحج قد اشتهر في المكان الذي تذبح فيه الهدايا كما سيأتي. فالظاهر أنّ المراد بالشعائر الأنعام التي تساق هديا للكعبة، كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما وسميت بذلك لأنّها تدل على الحج، أو على طاعة سائقيها لله تعالى، وتعظيمها يكون بأن تختار سمينة حسنة غالية الأثمان.
والتقوى هي الخشية التي تبعث على اتباع الأوامر واجتناب المناهي. ولا يخفى عليك أنّ الضمير في كلمة فَإِنَّها عائد على الشعائر، وهي لا تصلح أن تكون بعضا من التقوى إذا كانت (من) للتبعيض، ولا أن تكون ناشئة من التقوى إذا كانت (من) للابتداء، فلا بد من تقدير يصلح لذلك. كما أنك تعلم أنه لا بد من رابط في قوله:
فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ يعود على المبتدأ، وهو (من) فيكون مآل الكلام هكذا: ذلك ومن يعظّم شعائر الله فإنّ تعظيمه إياها من تقوى القلوب.
هذا ويصحّ في ضمير (فإنها) أن يكون راجعا إلى حالة المعظّم التي يدل عليها الفعل السابق في الآية، وعلى هذا فلا يحتاج إلا إلى الرابط فقط، والمعنى أنّ من
ولا شك أن الإخلاص والتقوى والخشية هي غاية ما يتمنى الإنسان أن يدركه في هذه الدنيا، ليصل به إلى سعادة الآخرة.
وإخبار الله تعالى بثبوت التقوى لمن عظّم تلك الشعائر من شأنه أن يحرك الناس، ويبعثهم على الاهتمام بأمرها، والعناية بتخيرها، والفرح بسوقها.
ويؤكد هذا المعنى إضافة هذه الشعائر إليه تعالى.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم أهدى مئة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب أي حلقة من ذهب.
وروي أن عمر رضي الله عنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار. وكان قد سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يبيعها ويشترى بثمنها بدنا فنهاه عن ذلك، وقال: بل أهدها، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسوق البدن مجلّلة بالقباطي، فيتصدق بلحومها وجلالها.
قال الله تعالى: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) مَنافِعُ الظاهر أنّ المراد بها المنافع الدنيوية من الركوب والدّر والصوف والوبر، ليكون قوله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ مفيدا معنى جديدا. فإنّ الخير ظاهر في ثواب الآخرة، فيكون في الأنعام التي تساق هديا إلى الكعبة منافع دنيوية ومنافع أخروية.
أما الأجل المسمى فقد اختلف في معناه، فقال الإمام الشافعي: إنّه وقت نحرها، وهو مروي عن عطاء.
وقال الحنفية: إنه وقت تعيينها وتسميتها هديا، كما روي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد، وقتادة.
والمحل بالكسر من حلّ الشيء يحلّ بالكسر حلولا إذا وجب، أو انتهى أجله،
وفي الحديث: «حلّت له شفاعتي» «١»
وجبت. ويقال: حل الدين: انتهى أجله، فالمحل في الآية مكان الحلول، أي المكان الذي ينتهي فيه أجل تلك الأنعام، أو المكان الذي يجب ذبحها فيه.
إنّ المحل زمان الحلول. وعلى هذين القولين يكون محلها معطوفا على منافع، ويكون قوله تعالى: إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ حالا من الضمير في محلها. والتقدير لكم فيها منافع دنيوية إلى أجل مسمى وبعده لكم منفعة دينية مقتضية للثواب الأخروي، وهو وجوب نحرها، أو وقت نحرها، وفي ذلك مبالغة، حيث جعل وقت النحر نفسه منفعة، والظاهر الأول.
ما في الآية من الأحكام وأقوال العلماء في ذلك
: قد علمت أنّ الشافعية فسّروا الأجل المسمى في الآية بوقت نحر الهدي، وعلى هذا قالوا بجواز الانتفاع بالشعائر بعد سوقها حتى تنحر، وقالوا أيضا: إنما يجوز الانتفاع إذا كانت هناك حاجة تدعو إليه، ولو لم تصل لدرجة الاضطرار:
أما الانتفاع بغير حاجة فلا يجوز، فلو احتاج لشيء من لبنها ولو لم يصل إلى درجة المخمصة فله أن يشرب منه، وكذلك إذا كان يعلم أنّ صوفها أو وبرها يضرها، فله أن يجزّه وينتفع به، وليس عليه قيمته للفقراء، قالوا: والأولى أن يتصدق به عليهم. هذا هو المشهور من مذهبهم، وعندهم رواية أخرى عن الإمام الشافعي أنه لا يجوز الانتفاع إلا للمضطر.
أما الحنفية فإنهم يفسّرون الأجل المسمى في الآية بوقت سوقها. فلا يجيزون الانتفاع بها بعد السوق إلا في حالة الاضطرار.
وقال بعضهم: إنه يجوز الانتفاع بها مطلقا في حالتي الاختيار والاضطرار.
ونقل ابن عبد البر عن بعض أهل الظاهر القول بوجوب الركوب.
ولمن أجاز مطلقا حجج:
١- قد أثبتت الآية منافع في الشعائر، وأباحت الانتفاع بها، وهي لا تكون شعائر إلا بعد سوقها هدايا، وتعيينها لذلك، فيلزم أن يكون الانتفاع بها بعد السوق أيضا.
٢- ثمّ إنّ الآية لم تقيّد جواز الانتفاع بحالة دون أخرى، فالتقييد بحالة الاضطرار
٣- ثم إنّ الأحاديث الواردة في ذلك مطلقة أيضا،
فقد روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا يسوق بدنة، فقال: «اركبها» قال: إنّها بدنة.
قال: «اركبها» قال: إنّها بدنة قال: «اركبها» ثلاثا. متفق عليه «١».
وروي عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول- في البدنة-: «اركبها بالمعروف» «٢»
فالحديثان مطلقان كالآية فيجوز الانتفاع بالبدنة على كل حال، وإذا فلا يكون فرق بين البدنة والناقة التي لم يسقها، فليس عليه فيما ينتفع به من ذلك ضمان.
حجة الشافعية: استدلّ الشافعية بما أورده المجيزون في دليلهم الأول، وبأنّ إطلاق الآية يجب أن يقيّد بما ورد من الأحاديث التي تفيد أنّ الإباحة تثبت للحاجة: من ذلك: ما
رواه أحمد والنسائي عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا يسوق بدنة، وقد أجهده المشي فقال: «اركبها» قال: إنّها بدنة. قال: «اركبها، ولو كانت بدنة» «٣».
وروي عن جابر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا» «٤»
فهذان الحديثان يدلان على أنّ الإباحة إنما كانت لمسيس الحاجة إلى الانتفاع. قالوا:
وعلى هذا يجب أن تحمل الآية والأحاديث المطلقة جمعا بين الأدلة.
ثم إنه ليس في كل ذلك دليل على وجوب ضمان شيء من منافع الهدي، فلا يضمن المنتفع شيئا منها للفقراء، نعم إذا كان الركوب ينقص قيمتها نقصا بينا فعليه ضمان هذا النقص.
حجة الحنفية: قال الحنفية ينبغي أن تحمّل الشعائر في الآية على الأنعام التي يراد سوقها للكعبة، لا على البدن التي سيقت بالفعل، فهي مجاز بقرينة إيقاع التعظيم عليها، فإنّ الآية ندبت إلى تعظيمها. ولا شك أنّ من تعظيمها تخيّرها سمينة حسنة، وذلك إنما يكون قبل سوقها وتعيينها هديا وهذه الأنعام التي تكون هديا بالسوق هي التي أباح الله الانتفاع بها إلى الأجل المسمى.
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ٩٦١)، ١٥- كتاب الحج، ٦٥- باب ركوب البدنة حديث رقم (٣٧٥/ ١٣٢٤).
(٣) رواه النسائي في السنن (٥- ٦/ ١٩٥ كتاب المناسك، باب ركوب البدنة حديث رقم (٢٨٠١).
(٤) رواه مسلم في الصحيح كتاب الحج حديث رقم (١٣٢٤)، وأبو داود في السنن (٢/ ٨١)، باب ركوب البدن حديث رقم (١٧٦١)، وأحمد في المسند (٣/ ٣٤٨)، والنسائي (٥- ٦/ ١٩٤)، كتاب المناسك باب ركوب البدنة حديث رقم (٢٨٠١).
يشهد لهذا ما ورد من الأحاديث التي قيّدت جواز الانتفاع بحالة الضرورة، فيجب أن يحمل غيرها عليها جمعا بين الأدلة. من ذلك ما
رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر «١» : أنه سئل عن ركوب الهدي فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا»
فمن هذا يعلم أن الجواز خاصّ بحالة الضرورة، فإنّ الإلجاء إلى ركوبها هو الاضطرار إليه. وقالوا أيضا: إن ركوبها ينافي تعظيمها، إذ في الركوب امتهان واستهانة ظاهرة، مع أنّ تعظيمها مطلوب بنفس الآية، وإذا فلا يركبها إلا إذا ألجئ.
حجة القائلين بالوجوب: استدل القائلون بالوجوب بظاهر الأمر بالركوب فيما سبق من الأحاديث. وقالوا أيضا: إنّ في ركوبه مخالفة لما كان يصنعه أهل الجاهلية من مجانبة البحيرة والسائبة والوصيلة. وهو مردود بأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يركب هديه، ولم يركبه غيره، ولم يأمر الناس جميعا بركوب هداياهم، إلا ذلك المضطر، كما تقدم، فدل ذلك على عدم الوجوب.
أما المالكية فالمشهور من مذهبهم أنه يكره الانتفاع بالبدن بركوبها ووبرها ولبنها، ولو كان لبنها فاضلا عن حاجة أولادها، والوجه فيه ظاهر، ومذهبهم على هذا قريب من مذهب الحنفية.
وقال النووي من الشافعية والزيلعي من الحنفية: إنّ الإمام مالكا يقول بجواز ركوب البدن، ولو من غير حاجة، فلو صحّ هذا فالحجج المتقدمة ناطقة بخلافه.
هذا والظاهر من قوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أنّ جميع الهدايا يجب أن تذبح في هذا المحل، سواء في ذلك ما تعلّق وجوبه بالإحرام، كما في جزاء الصيد والفدية ودم التمتع ودم الإحصار، وما التزمه الإنسان كما في الدم الذي يتطوّع به إلى الحرم، أو ينذره كذلك.
قال الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) المنسك: بفتح السين وكسرها: مفعل من النسك، بمعنى العبادة، فيصح أن
فَلَهُ أَسْلِمُوا الإسلام لله الإخلاص له في الطاعة، وامتثال أوامره ونواهيه.
وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الإخبات الخشوع، وقيل: التواضع. وقيل: الاطمئنان:
مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض، وهي معان متقاربة ويصحّ أن يكون ما ذكر في الآية بعده تفسيرا له.
ولا يخفى عليك أنّ قوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً معطوف على قوله سبحانه: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ وأنّ تقديم المفعول فيه لإفادة الحصر.
والمعنى: أنّ الله جلّ شأنه قد شرع نسك الذبح لجميع الأمم التي خلت من قبل، يتقربون به إليه تعالى، ويذكرون اسمه الكريم عند الشروع فيه، وأن ذلك ليس خاصّا بأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا ببعض الأمم الأولى دون البعض، أو المعنى أنه تعالى قد خصص لكل أمة من الأمم مكانا أو زمنا يذبحون فيه، ولعل سرّ الإخبار بشرع هذا النسك لجميع الأمم من قبل هو تحريك النفوس، وبعثها إلى المسارعة إلى هذا النوع من البر، والاهتمام بهذه القربة، حيث إنّها قربة قد وردت بها الشرائع الأولى، وتتابعت عليها.
وفي هذا الإخبار أيضا إشعار بأنّ أهل الجاهلية الذين كانوا يذبحون لأصنامهم، والذين كانوا يخلطون في التسمية على ذبائحهم- إنما كانوا يفعلون ذلك من عند أنفسهم، واتباعا لمحض شهواتهم وأهوائهم، فإنّ شرائع الله كلها قد أجمعت على أنّ التقرب بالذبح إنما يكون لله وحده، وأنّ الشروع في ذلك إنما يكون باسمه وحده، إذ ليس للناس إلا إله واحد، وهو الذي رزقهم، وشرع لهم، وكلّفهم، فليس لهم أن يميلوا بالعبادة إلى غيره، فقوله تعالى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ بمثابة العلة لما قبله من تخصيص اسمه الكريم بالذكر، لأنّ تفرده تعالى بالألوهية يقتضي أن لا يذكر على الذبائح غير اسمه، وإنما قيل: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ولم يقل فإلهكم واحد لإفادة أنه تعالى واحد في ذاته، كما أنه واحد في ألوهيته.
وقوله تعالى: فَلَهُ أَسْلِمُوا مرتّب بالفاء على الحكم بوحدانية الإله، فإنّه متى كان الإله واحدا فقد وجب تخصيصه بالعبادة والإذعان له في جميع الأحكام، وإفادة التخصيص ظاهرة من تقديم المعمول.
وقوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ فيه توجيه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ما كان متوجها إلى الناس، فالله سبحانه يأمر نبيّه أن يبلغ الناس أنّ من أذعن منهم لله، وأخلص له العمل والاعتقاد، فإنه يكون له أحسن الجزاء.
فلما انتهى أمر التكليف عطف الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمره أن يبلّغهم وعد الله للعاملين المخلصين، إذ إنّ عملهم بذلك يكفي فيه أن يحدثهم به النبيّ المعصوم الذي هو الواسطة بينهم وبين خالقهم.
ويؤخذ من هذه الآية: وجوب الذكر على الذبيحة حيث كان هو المقصود من الذبح الذي هو واجب، ووجوب اعتقاد أنّ الله واحد، ووجوب الإسلام بمعنى الإخلاص لله في العمل.
قال الله تعالى: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وصف الله في هذه الآية المخبتين بأربع صفات تجد بعضها مرتبا على بعض أحسن ترتيب:
الأولى: الخوف والخشوع عند ذكر الله.
والثانية: الصبر على الآلام والمشقات.
والثالثة: إقامة الصلاة.
والرابعة: الإنفاق مما رزقهم الله.
فهؤلاء المخبتون إذا سمعوا ذكر الله تحرّكت قلوبهم، وخفقت لما وقع فيها من الهيبة والخوف من عقاب الله وانتقامه، ولا شك أنّ هذا الخوف يحملهم على الرضا بقضاء الله تعالى، والصبر على ما يريده لهم من الآلام والشدائد، سواء في ذلك ما يكون في التكاليف وأنواع التعبدات، وما يلاقون من المشقات في أسفارهم لطاعة الله كما في الحج، وكل ما يصابون به في أنفسهم وأموالهم، ويحملهم كذلك على إحسان الأعمال، والقيام بما كلفهم الله إياه حقّ القيام.
والإنفاق: قيل: إنّ المراد به الزكاة المفروضة، وقيل: إنه صدقة التطوع، وقيل: هو عام يشمل النوعين جميعا، وقد سبق لك شيء من هذا في أكثر من موضع، كما أنّه سبق لك في مثل هذه الآية بيان السر في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر من بين سائر التكاليف، وأنّ الصلاة أهمّ التكاليف البدنية، كما أنّ الزكاة أهمّ التكاليف المالية: لما يترتب عليهما من صلاح النفوس واعتدالها، وسد حاجات الأمة وتقويم فقرائها وضعفائها.
وينبغي أن تعلم أنّ قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ معطوف على المقيمي الصلاة باعتبار معناه، أي والذين يقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقناهم.
والجواب أن الاطمئنان والوجل أمران يجدهما المؤمن المتقي، ويشعر بهما في قلبه في حالتين متمايزتين، ولسببين مختلفين، فهو إذا استحضر وعيد الله امتلأت نفسه هيبة، واقشعر جلده، ووجف قلبه، وخاف عذاب الآخرة، ثم إذا لمح جانب الوعد الكريم، واستحضر رحمة الله وسعة عفوه اطمأن قلبه، وسكن روعه، وصدق قول الله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ فالحالة الثانية حالة الوعد والأولى حالة الوعيد، وأيضا فإنّ المؤمن كثيرا ما تصادفه في هذا الدنيا عقبات وشدائد، إذا عرضت لضعيف الإيمان واهن العزيمة اضطرب لها قلبه، وانشعب منها فؤاده، واستولى عليه الفزع والهلع. أما المؤمن الصادق فإنه يرجع بها إلى الله، ويستعين عليها بذكر الله، فيرتاح لكل ما يجري به قضاؤه وقدره، فهذه حالة السكون والاطمئنان إلى ذكر الله.
أما خوفه ووجله فهو لكون تقصيره فيما عليه من موجبات العبودية للواحد القهار، وهذا الخوف تلتهب له نفسه، ويرتجف له جنانه.
يؤخذ من الآية: أن التقوى، والخشية، والصبر على المكاره، والمحافظة على الصلاة، والرحمة بالفقراء، والإحسان إليهم، من أعظم ما ينال به العبد رضا الله تعالى، لما لها من الشأن العظيم، إذ عليها يقوم صلاح العباد والبلاد.
قال الله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) (البدن) جمع بدنة، وهي اسم للواحد من الإبل ذكرا أو أنثى، سميت بذلك لعظم بدنها. وقد اشتهر إطلاقها في الشرع على البعير يهدى إلى الكعبة، وقد تطلق البدنة على البقرة أيضا لما أنها تجزئ في الهدي والأضحية عن سبعة كالبعير.
قال الحنفية: إن البدنة صارت من قبل المشترك في المعنيين، فمن نذر بدنة أجزأته بقرة. وبذلك قال عطاء وسعيد بن المسيب.
روى مسلم «١» عن جابر رضي الله عنه أنه قال: كنّا ننحر البدنة عن سبعة:
فقيل: والبقرة؟ قال: وهل هي إلا من البدن.
أما الشافعية فقالوا: لا تطلق البدن بالحقيقة إلا على الإبل، وإطلاقها على البقر إنما يكون بضرب من التجوّز، فلو نذر بدنة لا تجزئه بقرة، وبهذا قال مجاهد، ويشهد له ما
رواه أبو داود «١» عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة»
فإنّ العطف يقتضي المغايرة، والظاهر أنّ اسم البدنة حقيقة فيما يكون من الإبل، وأن إطلاقها على البقرة لم يصل إلى مرتبة الحقيقة.
فأمّا قول جابر: وهل هي إلا من البدن، وقول ابن عمر: لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر، فقد يحمل على أنهما أرادا اتحاد الحكم فيهما، وهذا شيء غير اشتراك اللفظ بينهما، وعلى كلّ حال فالمراد من البدن في الآية الإبل، وقوله تعالى:
صَوافَّ ووَجَبَتْ جُنُوبُها يدل على ذلك، إذ نحر الحيوان قائما لم يعهد إلا في الإبل خاصّة.
ولا يؤخذ من هذا أنّ الهدي خاص بالإبل. بل تخصيصها بالذكر لأنّها الأفضل من غيرها في الهدايا.
صَوافَّ جمع صافة، وهي ما صفت قوائمها وسوقها واقفة، وقرئ صوافن جمع صافنة، قيل: إنها بمعنى صافة، وقيل: بل بمعنى أنّها قائمة على ثلاث قوائم، والرابعة مرفوعة، وهكذا يفعل بالإبل عند نحرها، مأخوذ من صفن الفرس إذا وقفت على ثلاث وطرف سنبك الرابعة، وقرئ صوافي جمع صافية بمعنى خالصة لله تعالى.
وَجَبَتْ جُنُوبُها من معاني الوجوب السقوط، وجب الجدار سقط، ووجبت الشمس غربت، فوجبت جنوبها سقطت على الأرض، والجنوب: جمع جنب، وهو الشق، وسقوط جنوبها كناية عن موتها.
الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ: القانع الراضي بما قدّر الله له من الفقر والبؤس، فلا يتعرّض لسؤال الناس، مأخوذ من قنع يقنع كرضي يرضى وزنا ومعنى.
المعتر المعترض لسؤال الناس، فإنّ المعترّ كالممعتري هو من يعتري الأغنياء، ويذهب إليهم المرّة بعد المرّة، وقيل بعكس هذا: القانع: السائل، من قنع يقنع بالفتح فيهما. والمعترّ: الذي لا يسأل، كأنّه يدفع عار السؤال بترك السؤال.
معنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى يمتنّ على عباده بأن جعل لهم في البدن يسوقونها إلى مكة قربة عظيمة، حيث جعلها شعيرة من شعائره، وعلما من أعلام
وهكذا ترى أننا قد حملنا الخير هنا على الثواب الأخروي. والمنافع فيما تقدم على حظ الدنيا، ليكون الكلام كما قلنا مفيدا فائدة جديدة، وقد رتّب الله سبحانه وتعالى الأمر بذبحها، أو الأمر بذكر اسمه الكريم عند الذبح على ما قبله من جعلها شعائر. أو على قوله: لَكُمْ فِيها خَيْرٌ وأنه تعالى يمتنّ أيضا على عباده في هذه البدن، فأباح لهم إذا نحروها أن يأكلوا منها، وأن يتصدقوا على الفقراء، السائل منهم وغير السائل.
ثم ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ومعناه سخرنا هذه البدن، وذللناها لكم، وأخضعناها لتصريفكم مع ضخامتها وقوتها التي بها، كان يمكن أن تتأبّى عليكم فلا تعطيكم قيادها، أو تندّ منكم فتتأبد تأبد الوحوش.
فالله جلت قدرته قد سخّرها لكم ذلك التسخير العجيب، وسهل لكم أن تقفوها صواف، وأن تعقلوها، وتضربوا في لباتها، فتقع على جنوبها صريعة، وعلى هذا تكون الكاف صلة في قوله: كَذلِكَ، ويكون مآل القول سخرناها لكم ذلك التسخير البديع.
ويصحّ أن تبقى الكاف على معناها مفيدة للتشبيه، ويكون ذلك من تشبيه الشيء بنفسه مبالغة، كأن ذلك التسخير بلغ في عظمه وغرابته مبلغا فاق به كلّ عجيب، حتى إذا أريد تشبيهه بشيء كان لا بدّ أن يردّ إلى نفسه فيشبه بها.
وقيل: إنّ المشبه به هو تسخيرها، حين تكون صواف معقولة إحدى القوائم، والمشبه هو تسخيرها من قبل في ركوبها والحمل عليها، وغير ذلك من سائر وجوه الانتفاع.
وجملة القول: إنّها نعمة جليلة، ومنّة عظيمة تستوجب من العباد أن يشكروا الله عليها، ويصرفوا ما أنعم به عليهم في الوجوه التي رسمها لهم الدين الحنيف.
فقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تعليل لما قبله. وكلمة (لعل) فيه ليست للرجاء الذي هو توقع الأمر المحبوب، لأنّه مستحيل على الله تعالى من حيث أنه ينبئ عن الجهل بعواقب الأمور. قال ابن الأنباري «١» : إنّ لعلّ ترد بمعنى كي في لسان العرب، واستشهد على ذلك بقول من يراه حجة:
فقلتم لنا كّفوا الحروب لعلّنا | نكفّ ووثقتم لنا كلّ موثق |
ويؤخذ من الآية أيضا: الندب إلى نحر الإبل وهي قائمة معقولة إحدى القوائم، وأنه لا يجوز أن يؤكل منها بعد نحرها حتى تفارقها الحياة.
ومقتضى الأمر في قوله جلّ شأنه: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ وجوب ذكر اسم الله حينئذ، وهو يؤيّد بظاهره قول من يرى من الأئمة وجوب التسمية على الذبيحة. ومن يرى ندب التسمية يؤوّل الأمر على الندب، أو يؤول ذكر اسم الله على الشكر والثناء.
أما حكم الأكل منها وإطعام الفقراء فقد سبق لك القول فيه.
قال الله تعالى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧) النيل: الإدراك والإصابة.
والتكبير في الآية: قيل: إنه ما يكون عند الذبح: بسم الله، الله أكبر، والأحسن أن يفسّر بالتعظيم والتقديس والشكر.
والإحسان: هو إتقان العمل، والإتيان به على الوجه المطلوب، ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلّم لما سئل عن الإحسان: «أن تعبد الله كأنّك تراه» «١».
المعنى: بأنّ من يريد رضا الله تعالى فلا يظن أنه يدرك ذلك باللحوم والدماء من حيث إنها لحوم ودماء، وإنما ينال ذلك بالتقوى والإخلاص، في العمل، فإنّ الأعمال دون التقوى والإخلاص كصور أجسام لا روح فيها ولا حياة.
وللآية وجه آخر من التفسير- إن صح ما قيل في سبب نزولها- ذلك أنّه روي عن ابن عباس ومجاهد أنّ جماعة من المسلمين كانوا هموا أن يفعلوا في ذبائحهم فعل أهل الجاهلية، يقطعون لحومها، وينشرونها حول الكعبة، وينضحون عليها من دمائها، فنزلت الآية تزجرهم عن هذا الفعل، وترشدهم إلى ما هو الأجدر بهم والأليق بإيمانهم أن يفعلوه في ذبائحهم، حتى يدركوا رضا الله تعالى.
وعلى هذا يكون المعنى: أن من يريد رضا الله تعالى، ويرجو أن ينال منه المثوبة بما يقرّب من هدي، فلا يظن أنّه ينال ذلك باللحم يقطعه وينثره، ولا بالدم يلطخ به الكعبة الطاهرة فعل أهل الشرك من الجاهلية، وإنما ينال ذلك بتقوى الله، والبعد عن مثل تلك الأعمال التي تجانب روح الإسلام وطهارته، والتي ليس فيها شيء من الإخلاص لله.
وأنت ترى أنّ الآية قد نفت عن اللحوم والدماء أن تنال رضوان الله، مع أنه ليس من شأنها أن يقال فيها: تنال أو لا تنال، ولكن قصد المبالغة في الأخبار بأنّ أصحابها لا ينالون الرضا والثواب بها وحدها إذا لم يكن معها التقوى والإخلاص هو الذي قضى أن يكون نظم الآية على هذا النحو البديع، كأنه قيل: إذا كان يتصور أن تنال الدماء واللحوم نفسها أجر الله ورحمته صحّ أن يدرك أصحابها بها وحدها شيئا من ذلك، ففي الآية نوع من التجوز.
وترى أيضا أنه قد أعيد في الآية حديث تسخير الأنعام، وتذليلها للناس، لأن في الإعادة تذكيرا بالنعمة يبعث على شكرها والثناء على الله من أجلها، والقيام له بما يجب لعظمته وكبريائه، لأنّه تعالى سخر لهم تلك البهائم، وأخضعها لتصريفهم، وأراهم ما يصنعون فيها، وكيف يتقرّبون بها.
ومن هذا تعلم أن (على) في الآية الكريمة للتعليل، وأنّ (ما) مصدرية، ويصح أن تكون (ما) نكرة موصوفة، أو اسما موصولا مع مراعاة أن العائد محذوف، وفي صرف الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمره بتبشير المحسنين أعمالهم الآتين بها على الوجه المطلوب، ووعدهم بأنّ لهم من الله الجزاء الطيب على فعلهم ما علمته آنفا.
هذا وفي الآية دلالة على أنّ التقوى وشكر الله تعالى والإحسان في العمل له جلّ شأنه من أهمّ المطالب الشرعية التي لا يجوز لأحد إغفالها أو التهاون فيها.
قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) يصحّ أن يكون هذا كلاما متصلا بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وما وقع في البيت- من ذكر مناسك الحج وشعائره، وما فيها من منافع الدنيا والآخرة- استطراد لمزيد تعظيم شأن البيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، وتسجيل قبح صدهم للمسلمين عنه، وإخراج أهله منه ظلما وعدوانا، وتفويت هذه المنافع عليهم، لأنّ الجناية يعظم أمرها بعظم ما يترتب عليها من تفويت المنافع والإيقاع في الأضرار. ولأن خطورة الجناية تدلّ على خطر المجني عليه، وناهيك بجناية تقع على البيت الحرام، مع ما له من قداسة وحرمة، وتفوت على الناس منافع الحج مع ما فيها من خيري الدنيا والآخرة، ويكون قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا رجوعا إلى موضوع السياق، لبيان عاقبة هؤلاء الصادّين عن سبيل الله والمسجد الحرام، من قهرهم، وخذلانهم، وكسر شوكتهم، ونصر المسلمين عليهم، وإزالة صدهم، وتمكين المسلمين من البيت بعد تمكينهم منهم
ويصحّ أن يكون متصلا بما قبله مباشرة، وذلك أنه تعالى لما بيّن مناسك الحج، وما فيه من المنافع، وكان في ذلك مزيد إلهاب وتشويق لنفوس المسلمين إلى البيت الحرام، والوقوف بالمشاعر العظام، ولكن أنّى لهم ذلك، وقد صدّهم المشركون، ووقفوا سدا منيعا دون إرواء هذه النفوس المتعطشة إلى رؤية هذا الحرم المقدس، الذي عاشوا طوال حياتهم في ظلّه وتحت حمايته، والذي عزّ عليهم فراقه، ولم ينقطع حنينهم إليه، والذي كان قلب الرسول صلوات الله وسلامه عليه معلّقا به، حتى إنه نظر إليه حين خروجه من مكة
وقال: «والله إنّك لأحبّ أرض الله إليّ، وإنك لأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أنّ أهلك أخرجوني منك ما خرجت» «٢»
وإذا ذاك توجهت قلوبهم إلى ربّ هذا البيت، واستشرفت نفوسهم إلى عون الله ونصره وحماية بيته من عدوان المعتدين، وتخليصه من أيدي الجبابرة الظالمين، وذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا توطينا لنفوسهم، وتقوية لعزائمهم، وإعدادا لهم للجهاد والقتال الذي سيكون به تحقيق آمالهم، وتحرير أوطانهم وعقائدهم.
وعلى كلّ فهو وعد من الله عزّ وجلّ، وبشارة للمؤمنين بنصر الله لهم، وتمكينهم من عدوهم، وكف بوائقه عنهم، وفي ضمنه وعيد شديد، وتهديد للمشركين بقهرهم وخذلانهم وكسر شوكتهم وزوال دولتهم، وفيه تمهيد وتوطئة لمشروعية الجهاد.
هذا وصيغة المفاعلة في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ إما للمبالغة في الدفع، أو للدلالة على تكرره فقط، لأنّ صيغة المفاعلة تدلّ على تكرر الفعل وحصوله من الجانبين، وقد تجرّد عن معنى حصوله من الجانبين، فتبقى دلالتها على التكرر من جانب واحد كالممارسة، أي أنه تعالى يبالغ في دفع غائلة المشركين وبأسهم مبالغة لا تدع لهم غائلة من غوائلهم، أو أنه تعالى يدفع بأسهم وغوائلهم مرة بعد مرة حسبما يتجدد ذلك منهم، كقوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [المائدة: ٦٤].
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ نفي المحبة كناية عن البغض، وأوثر (لا يحب) على (يبغض) تنبيها على مكان التعريض، وأن المؤمنين هم أحباء الله وأولياؤه.
(٢) انظر مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي حديث رقم (٥٤٩٩) وقال روى الترمذي بعضه، ورواه أبو يعلى ورجاله ثقات.
قيل: إنه تعليل لما في ضمن الوعد الكريم من الوعيد للمشركين في الجملة الأولى، وقيل: تعليل للوعد الكريم نفسه، وضعّف هذا بأنّ قول القائل: دفعت زيدا عن بكر لبغض زيد ليس فيه كثير عناية ببكر، وهذا لا يناسب المقام.
وهناك وجه آخر في ربط الجملة الثانية بالأولى، وحاصله أنك عرفت أنّ الجملة الأولى مشتملة على وعد صراحة ووعيد ضمنا، وإذا نظرت إلى الجملة الثانية وجدت أنها مشتملة على ثبوت البغض للمشركين صراحة، وهو يناسب الوعيد الضمني في الجملة الأولى، فيكون علة له، وعلى ثبوت المحبة للمؤمنين ضمنا كما هو قضية إيثار (لا يحب) على (يبغض) وهو يناسب الوعد المصرّح به في الجملة الأولى، فيكون علة له، وعلى هذا يكون منطوق الجملة الثانية علة لمفهوم الجملة الأولى، ومفهومها علة لمنطوقها، ويصير المعنى هكذا: إن الله يدافع عن الذين آمنوا لحبه إياهم، ويخذل المشركين ويقهرهم لبغضه إياهم، وعلى كلّ فإنّ ربط نفي الحب بالخوان الكفور يدلّ على أنّ علّة النفي هي الخيانة والكفر، ويدل بمفهومه على أنّ علة ثبوت المحبة في مقابله هي الأمانة والشكر، اللذان هما من خواص المؤمن.
وهنا أمران جديران بالالتفات:
الأول: أن صيغة المبالغة في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ لبيان الواقع، وأنهم كانوا كذلك، لا لتقيد البغض بغاية الخيانة والكفر المشعر بمحبة الله تعالى للخائن الكافر، وكثيرا ما تذكر القيود لبيان الواقع، حتى قيل: إنّه الأصل في استعمالها، ومن هذا القبيل قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: ١٣٠] ولا شكّ أنك إذا نظرت إلى هؤلاء المشركين، وما وقع منهم من الأفاعيل المنكرة، عرفت أنهم حقيقة بلغوا الغاية في الخيانة والكفر.
الأمر الثاني: أنّ المراد نفي الحب عن كل فرد من الخونة الكفرة، فالمراد عموم السلب وشموله لجميع الأفراد، لا سلب العموم، وقول البيانيين: إنّ تقديم النفي على أداة العموم يفيد سلب العموم فالحق أنه حكم أكثري لا كلي، بدليل قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة: ٢٧٦] وقوله: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠) [القلم: ١٠] وقوله:
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [لقمان: ١٨] وكذلك ما معناه، فالمعتبر إذا في الحقيقة هو القرائن، فمتى دلّت على عموم السلب كان الكلام لعموم السلب، تقدّم النفي أو تأخّر.
ونقل بعضهم عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وجها آخر بناء على أنّ
قال الله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الإذن معناه الترخيص، فهو للإباحة بعد الحظر، وقرئ كلّ من أُذِنَ ويُقاتَلُونَ بالبناء للمفعول وبالبناء للفاعل.
هذه هي أول آية نزلت في القتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية، على ما روى الحاكم في «المستدرك» عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وأخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري وكذا النسائي بإسناد صحيح عنه موقوفا عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرج أحمد والترمذي وحسّنه والنسائي وابن سعد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: لما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكنّ، فنزلت:
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا. قال ابن عباس: فهي أول آية نزلت في القتال «١».
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية: أول آية نزلت فيه وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [البقرة: ١٩٠].
وفي «الإكليل» للحاكم أنّ أوّل آية نزلت فيه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ.
والظاهر الأول، وبه قال كثير من السلف كابن عباس ومجاهد، والضحاك وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة وغيرهم، ويؤيده أيضا ذكرها بعد الوعد بالمدافعة والنصر.
المفردات: أُذِنَ المقصود به إباحة القتال ومشروعيته على القول الأول، وحكاية الإذن الحاصل من قبل توطئة لبيان أسباب المشروعية وغايتها على القول الثاني.
والمأذون فيه هو القتال، وحذف لدلالة المقام عليه.
ووصفهم بالقتال الواقع عليهم على قراءة المبني للمفعول على حقيقته، سواء قلنا: إنها أول آية نزلت في القتال أم لا، لأنّ قتال المشركين واضطهادهم لهم كان حاصلا على كل حال.
وأما وصفهم بالقتال الواقع منهم على قراءة المبني للفاعل فعلى أنها ليست أول آية نزلت في القتال يكون على حقيقته أيضا، وعلى أنها أول آية نزلت فيه يكون وصفهم عند بدء الإذن بالقتال إما على تقدير الإرادة والحرص، أي يريدون أن يقاتلوا المشركين، ويحرصون على ذلك، وإما على إرادة استحضار ما يكون منهم في المستقبل، وحقيقة قد كانوا حريصين كل الحرص على هذا القتال، فإنّ الدفاع عن النفس والعقيدة والوطن أمر محبب إلى النفوس، لا سيما إذا كانت تعتقد أنها على الحق، وأن خصمها على الباطل.
المعنى: لما وعد الله عزّ وجلّ في الآية السابقة المؤمنين بالدفاع وكفّ غوائل المشركين عنهم، وأوعد في ضمن هذا الوعد الكافرين بالقهر والخذلان، أتبع ذلك ببيان مشروعية الجهاد والإذن لهم في قتال أعدائهم، مع بيان أسبابه وغايته، للإيذان بأنّ طريق الدفاع الموعود به عن الأولياء وسبيل القهر والخذلان الموعود به للأعداء هو إذنه تعالى للمؤمنين في القتال، كما يدل على ذلك قوله تعالى في الآية التالية: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لأن القتال في سبيل الله من أعظم المواطن التي تتجلى فيها رعاية الله وعنايته بالمؤمنين بما يفاض عليهم في تلك المواقف الرهيبة من النصر والتأييد، وتثبيت قلوبهم، وإمدادهم بالأسباب الحسية والمعنوية على ما عرف وتواتر من نفحات الله لهم في مواطن الحرب وميادين القتال.
ثم بيّن الله تعالى سبب الإذن في القتال على سبيل الإجمال بقوله: بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا فالله تعالى أذن للمسلمين في قتال عدوهم وندبهم للجهاد في سبيله، لا حبا في إراقة الدماء وإزهاق الأرواح، ولا لمجرد البطش والقهر، كما يزعم خصوم الإسلام، فإنّ الإسلام دين أمن وسلام، وبشير رحمة وطمأنينة، ولكنه تعالى أذن لهم لأجل أن يدفعوا ذلك الظلم الذي وقع عليهم من جانب المشركين والذي أصابهم في أوطانهم وأنفسهم ودينهم، فإنه صلّى الله عليه وسلّم ما كاد يصدع بالأمر، ويجهر بالدعوة، حتى هاج هائج قريش، وتذمرت على المسلمين، وأعلنوا عليهم حربا شعواء، وأعملوا فيهم يد الانتقام الوحشي، لا يألون في مؤمن إلّا ولا ذمة، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ
[البروج: ٨]، ونالوا منهم أشد ما يناله عدوّ من عدوه، طمعا في ارتدادهم عن دينهم، والحيلولة بينهم وبين الالتفات حول الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وقد غاب عنهم أن الدين الحق متى خالطت بشاشته القلوب، واستقر في أعماق النفوس، كان التعذيب والتقتيل والتنكيل أهون عليها من انتزاع الدين منها.
ولست أبالي حين أقتل مسلما | على أيّ جنب كان في الله مصرعي |
لم يقف ظلم هؤلاء الظالمين عند حد الأتباع والأنصار، بل آذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأشد أنواع الإيذاء، رموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، وحثوا على رأسه التراب، ووضعوا بين كتفيه وهو ساجد بين يدي ربه سلا «١» جزور وهم يتضاحكون، وأغرت ثقيف سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويرمون عراقيبه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء، وهذا قليل من كثير مما فعلوه معه صلّى الله عليه وسلّم، وهو صابر على أذيّتهم، محتسب عند الله ما يناله معهم.
فعلوا كل هذا وأكثر منه بالمسلمين حتى ألجئوهم على الخروج من أوطانهم وترك أموالهم وأهليهم فرارا بدينهم.
فأيّ ظلم أقبح وأشنع من هذا الظلم الذي لم يرتكبوه إلا انتصارا للباطل، واضطهادا للحق، وإيثارا لعبادة الأوثان على عبادة الله الواحد القهار، والذي لم يتعفف أهله عن الإسفاف في الخصومة والفجور في الإيذاء.
قال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ذهب كثير من المفسرين إلى أنه وعد بالنصر، وتأكيد لما مرّ من الوعد بالدفاع عن المؤمنين، وتصريح بأنّ المراد بالوعد السابق ليس مجرد تخليصهم من أيدي عدوهم، بل إظهارهم عليهم، وتمكينهم في الأرض، وهو إخبار وارد على سبيل العزة والكبرياء، كما يقول الملك: إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك. لا يريد بذلك حقيقة الإخبار بالقدرة على ذلك، بل يريد أنه سيفعل على سبيل التأكيد.
وذهب ابن كثير إلى أن المعنى: أنه تعالى قادر على نصر المؤمنين من غير قتال وجهاد، ولكنه أذن لهم في القتال، وندبهم إلى الجهاد، لأنه يريد من عباده بذل جهدهم في طاعته، كما قال تعالى:
وقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ [التوبة: ١٦] وقال:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) [محمد: ٣١].
وقال: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) [العنكبوت: ٢].
أقول: وعلى هذا القول يكون المقصود هو تنبيه المسلمين إلى أنّ الدنيا دار ابتلاء واختبار، وأنّ الحياة ميدان تسابق وتنافس، وأن مدار هذا الدين على الإرادة والاختبار، لا على الإكراه والاضطرار، وأنّ الجزاء من جنس العمل فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨) [الزلزلة: ٧، ٨] ولا يكون ذلك كله إلا بفتح أبواب العمل أمام العاملين، ودعوة الناس إلى الجهاد والكفاح، وابتلائهم بمواقع الشدائد والمحن، لكي يتبين المجاهدون من القاعدين، والمخلصون من المنافقين. ومن آمن حبا في الله ورسوله ممن آمن حبا في الإبقاء على نفسه وماله وجاهه، وإلا فلو كان النصر حليف المسلمين من غير قتال وجهاد، وكان المؤمن معافى في نفسه وماله وولده، متقلبا في أحضان النعيم من مهده إلى لحده، لما كانت الدنيا دار ابتلاء واختبار ولما كان إيمان المؤمن اختيارا وترجيحا للإيمان على الكفر، وإيثارا لمرضاة الله ومحابّه على مرضاة نفسه وشهواته، ولبطلت التكاليف المبنية على الإرادة والاختيار ومحاربة النفس والهوى، ولما كان الجزاء ثمرة للعمل، ونتيجة لازمة للكد والتعب، فعليهم أن يلتزموا هذه السنن، وأن يعملوا على مقتضاها، وفي ذلك بلوغ المأمول وإنجاز الموعود.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧)
قيل: إن الأمر في هذه الآية بالركوع والسجود والعبادة وفعل الخير متوجه إلى الناس جميعا، إذ إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، غير أن الخطاب فيها خصّ به المؤمنون لمزيد الاعتناء بهم وتشريفهم، ولأنهم هم الذين ينتفعون بهذا التكليف.
وقيل: إن هذه الأوامر خاصة بالمؤمنين، كما أنّ الخطاب متوجه إليهم وحدهم. أما الكفار فإنّهم لما أعرضوا عن قبول دين الله، ولم يستجيبوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبوا من قبل أن يمتثلوا لهذه الأوامر، أعرض الله عنهم، وصرف خطابه وأوامره إلى أهل طاعته الذين يعرفون حقه، ويمتثلون أحكامه. أما أولئك الكفار فإنّهم لا ينفع فيها إرشاد، ولا يرجى منهم قبول ولا امتثال، فهم جديرون بالترك والإهدار. وهذا المعنى أحسن وأوجه، وهو سائر حتى مع القول بتكليف الكفار بالفروع، وهو الذي
وقد اختلف في المراد بالركوع والسجود في الآية. فقال الحنفية: إن المراد بهما معا الصلاة، فالأمر بهما أمر بالصلاة، وإنما عبّر عن الصلاة بهما لأنهما أهم أركانها وأفضلها. وقيل: إنهما كنايتان عن الذلة والخضوع. وقيل: المراد معناهما الشرعي المعروف. وقد أمر بهما لأنّ الناس في أول الإسلام كانوا يصلون تارة بغير ركوع، وتارة بغير سجود، فالله أمرهم بإتمام الصلاة والإتيان فيها بالركوع والسجود.
وقال الشافعية إنّ الركوع مجاز عن الصلاة لاختصاصه بها. أما السجود فالمراد به سجود التلاوة. والعبادة: هي كل فعل تتجلى فيه الذلة والاستكانة تحت قهر الإله وسلطانه، وعلى هذا قيل: إن المراد بها التكاليف التي تربط العبد بربه، فهي أعمّ مما قبلها.
أما فعل الخيرات فهو عام للتكاليف جميعها، يشمل ما يصلح علاقة العبد بالرب، وما يصلح علاقات الناس بعضهم مع بعض، فأنت تجد هذه الأوامر مرتبة، بدئ فيها بعبادة خاصة: وهي الصلاة، ثم ثنّي بما هو أعم منها: وهو جميع العبادات، ثم أتبع ذلك بما هو أعم من الكل: وهو فعل الخيرات الشامل للعبادات وللإحسان في المعاملات، وبعضهم حمل العبادة على الفرائض، وفعل الخير على النوافل.
والفلاح: هو الفوز بنيل البغية، ولا شكّ أن بغية كل عابد سائر على نهج الشريعة إنما هي السعادة الدائمة في الآخرة، وهناءة العيش في الدنيا، وقد علمت آنفا ما ينبغي أن يقال في كلمة (لعل) الواردة في كلام الله تعالى. ويصحّ أن يراد منها هنا أيضا الرجاء الحقيقي.
ولكن على تقدير صدوره من العباد فيكون المعنى عليه: يا أيها الذين آمنوا صلوا، وأدوا لله كل ما تعبدكم به، وافعلوا كلّ ما كلّفكم مما فيه الخير لكم ولأمتكم حالة كونكم راجين الفلاح، ومتوقعين الفوز ودرك الرغائب، فالله سبحانه يرشد المؤمنين إلى أنّه ليس من شأن العبد الذليل الذي يشعر قلبه الخشية من الله والخوف من جبروته أن يقطع بنتيجة في عمل من الأعمال التي كلّفها، بل ينبغي أن تكون حاله بعد أن يحسن عمله حالة الرجاء، وتوقع ما يؤمّل من نتيجة صالحة، إذ إن العواقب مجهولة، وقد يكون مقصّرا بعض التقصير في أعماله، فلم يأت بها على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه.
ظاهر من الآية أنها قد جمعت أنواع التكاليف، وأحاطت بفروع الشريعة، فلم يفلت منها فرض ولا ما دون الفرض، وظاهر أيضا أنها قصدت إلى الصلاة التي هي
غير أن الشافعية قالوا: إنّ الآية آية سجدة، وأخذوا من الأمر بالسجود فيها سجود التلاوة مطلوب لها كغيرها من بقية آيات السجود، مستندين في هذا إلى ما يأتي:
١- إنّ السجود حقيقة في المعنى المعروف: وهو وضع الجبهة على الأرض، فمتى أمكن حمل اللفظ عليه فلا يصح العدول عنه إلا لموجب، وهو غير موجود في الآية.
٢- وقالوا: أيضا: قد ورد في السنة ما يؤيّد هذا المعنى، ويكشف عن المراد بالسجود في الآية، فقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه والبيهقي في «سننه» عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: «نعم فمن لم يسجدهما، فلا يقرأهما» «١».
وأخرج أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم عن عمرو بن العاص أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصّل، وفي الحج سجدتان «٢».
وكان يقول بهذا علي، وعمر، وابنه عبد الله، وعثمان، وأبو الدرداء، وابن عباس في إحدى الروايتين عنه، وبه أخذ أيضا الإمام أحمد، واللّيث وابن وهب، وابن حبيب من المالكية رضي الله عنهم جميعا.
وقال أبو حنيفة «٣»، ومالك، والحسن، وابن المسيب، وابن جبير، وسفيان الثوري رضي الله عنهم: إنّ هذه الآية ليست آية سجدة، واستدلوا بما يأتي:
١- إنّ اقتران السجود بالركوع دليل أنّ المراد به سجود الصلاة، كما في قوله تعالى: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: ٤٣] فإذا لم يكن هذا الاقتران موجبا لحمل السجود على سجود الصلاة، وأنه عبر عن الصلاة بمجموع الأمرين، فلا أقلّ من أن يكون مرجحا، لذلك فلا يصح أن يؤخذ من الآية أنّ السجود فيها سجود التلاوة.
٢- ما
روي عن أبي رضي الله عنه أنه عدّ السجدات التي سمعها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعدّ في الحج سجدة واحدة «٤».
(٢) رواه أبو داود في السنن (١/ ٥٢١)، كتاب الصلاة، باب تفريع أبواب السجود حديث رقم (٤٠١)، وابن ماجه في السنن (١/ ٣٣٥)، ٥- كتاب إقامة الصلاة، ٧٠- باب عدد سجدات القرآن حديث رقم (١٠٥٧).
(٣) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١- ٢/ ٨٥).
(٤) رواه الإمام أحمد في المسند (٤/ ٣٠٥).
قالوا: وهذا المروي عن ابن عباس وابن عمر هو تأويل ما روي عن عقبة بن عامر على فرض صحته، مع أنّ فيه مقالا، وكذا في حديث عمرو بن العاص، وإليك ما قيل فيهما:
أما حديث عقبة فقال الترمذي وأبو داود وغيرهما: إن إسناده ليس بالقوي، قالوا: لأنّ فيه عبد الله بن لهيعة، وقال الحاكم: إن عبد الله بن لهيعة أحد الأئمة، وإنما نقم اختلاطه في آخر عمره.
وأما حديث عمرو بن العاص فقيل فيه: إنّه ضعيف أيضا، لأنّ في سنده عبد الله بن منين الذي قال فيه عبد الحق: إنّه لا يحتج به، وقال ابن القطان: إنه مجهول، لا يعرف له حال. وقالا أيضا: إنّ الراوي عن ابن منين هو الحارث بن سعيد العتقي المصري وهو لا يعرف أيضا اهـ.
قال الله تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨) الجهاد: هو بذل الطاقة، واستفراغ الوسع في مدافعة العدو، وهو قسمان عظيمان، تحت كل منهما أنواع، فالقسم الأول جهاد العدو الباطن، وتحته نوعان:
١- جهاد النفس.
٢- جهاد الشيطان.
والقسم الثاني: جهاد العدو الظاهر، وتحته ثلاثة أنواع:
١- جهاد الكفار.
٢- جهاد المنافقين.
٣- جهاد أهل الظلم والبدع والضلالات الاعتقادية والعملية.
فالجهاد في القسم الأول يكون بمخالفة هوى النفس، ومدافعة وساوس الشيطان. وهذا هو أصل الجهاد، وأشدّ أنواعه، وهو الجهاد الأكبر، كما
روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما عاد من غزوة تبوك قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» «١»
ولهذا كان فرض عين على كل فرد، لا يغني فيه أحد عن أحد شيئا، وفرضيته ثابتة من مبدأ الإسلام.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» «١».
أما جهاد الكفار والمنافقين، فإنّه يكون بالحجة والبيان، كما يكون جهاد الكفار أيضا بالسيف والسنان. فجهادهم بالحجة واجب أيضا من مبدأ البعثة، كما في الأنواع السابقة، يشهد لذلك قوله تعالى في سورة الفرقان: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) [الفرقان: ٥١، ٥٢] فالمجاهدة بالقرآن لا شك أنها من نوع الجهاد بالحجة والبرهان، وهذا النوع فرض كفاية على الأمة، يتصدى له أهل القدرة عليه من العلماء الواقفين على أسرار الشريعة، العارفين بمسالك القول وطرائق الإقناع.
أما الجهاد بالسيف وغيره من آلات القتال فهذا هو الذي لم يشرع إلا بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وهو فرض كفاية على المسلمين، يجزئ فيه أن يقوم به بعضهم متى كانوا قادرين على أن يصدوا غارات العدو، وأن يدفعوه عن بقية المسلمين وبلادهم، وإلا فعلى حسب ما يرى الإمام، حتى لو أعلن النفير العام كان فرض عين على كلّ واحد من القادرين على القتال.
وبعد فقد اختلف العلماء في المراد بالجهاد في قوله تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ فعن ابن عباس أنّ المراد به قتال الكفار والمشركين، وهو مرويّ عن الضحاك أيضا. وعن عبد الله بن المبارك: أنه مخالفة النفس والهوى، والأولى أن يحمل على المعنى العام الذي يشمل هذا وذاك.
وقد علمت فيما سبق أنّ الراجح في سورة الحج أنها مدنية ما عدا آيات ليست هذه الآية منها، فلا يكون حينئذ مانع من حمل الجهاد على ما يشمل قتال الكفار وغيره، أما على اعتبار أنها مكية فيتعين تفسير الجهاد بجهاد النفس والشيطان على ما هو معروف، إذ إن القتال لم يفرض إلا بعد الهجرة.
والجهاد في الله معناه الجهاد في سبيله، ومن أجل دينه، وحقّ الجهاد في الله أن يكون بقوة وعزيمة صادقة، وأن يكون خالصا لإعلاء دين الله وتأييد شريعته، فلا ينبغي للمسلم أن يخشى في الانتصار للحق لومة لائم، كما لا يجوز له في جهاد الكفار أن يقاتل من أجل غنيمة أو غيرها من الشهوات الدنيوية.
وعلى تفسير حق الجهاد بذلك تكون الآية محكمة غير منسوخة بقوله تعالى:
وإضافة (حق) إلى (جهاد) في قوله تعالى: حَقَّ جِهادِهِ من إضافة الصفة للموصوف: كما يقال: حق يقين، وشبيه به قولهم فلان حق عالم، وهو جد ذكي، أما إضافة جهاد للضمير في قوله: جِهادِهِ فهي لأدنى ملابسة. وذلك لأنّ هذا الجهاد لما كان مطلوبا لله ومن أجل دينه كان خاصّا به سبحانه وتعالى، فصحّ أن تقع فيه هذه الإضافة التي تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه وأصله: وجاهدوا في الله حق جهادكم فيه، فحذف المضاف إليه، والجار للضمير فاتصل الضمير بالمضاف.
هُوَ اجْتَباكُمْ الاجتباء: الاصطفاء والاختيار. وهذه الجملة واقعة في مقام التعليل للأمر بالجهاد، فالله وفّق المسلمين لقبول الإسلام، واختارهم لدينه، وشرّفهم بأن يكونوا خدام شريعته، يقيمونها، ويحفظونها ممن يريدها بتحريف أو عدوان، فجدير بمن اختارهم الله لهذا الأمر العظيم أن يبذلوا كل ما عندهم من استطاعة في حماية دينه، وألا يهملوا رعايته، أو يهنوا في حراسته، ولا شكّ أنّ الحكم بأنه سبحانه قد اجتبى المسلمين لذلك، من خير ما يبعثهم على أن يجاهدوا في الله حق الجهاد.
وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ الحرج: الضيق كما فسره بذلك ابن عباس ومجاهد.
أكد الله بهذا وجوب الجهاد على الناس، ولزوم محافظتهم على الدين الذي اختارهم لحمايته، فإنّه نفى أن يكون في أحكامه شيء من العسر والشدة التي تضيق بها صدورهم، ولا تتسع لها قدرهم، وإذا كان الأمر كذلك فلا يكون هناك مانع يمنعهم من مراعاتها، كما لا يكون لهم عذر إذا تهاونوا فيها، ولم يقوموا بخدمتها حق القيام، ما دام قد تحقّق المقتضى للجهاد، وهو اجتباؤهم، وانتفى المانع، وهو الحرج في التكاليف، وأنت خبير بأن هناك فرقا كبيرا بين المشقة في الأحكام الشرعية وبين الحرج والعسر فيها، فإنّ الأولى حاصلة، قلما تخلو عنها التكاليف، فإنّ التكليف هو إلزام ما فيه كلفة ومشقة.
أما المشقة الزائدة التي تصل إلى حد الحرج فهي المرفوعة عن المكلفين فقد فرض الله الصلاة على المكلف في اليوم خمس مرات، وأوجب عليه أن يؤديها من قيام، وهذا شيء لا حرج فيه، ثم هو إذا لم يستطع الصلاة من قيام فله رخصة أن يصلي من قعود، أو بالإيماء. وكذلك شريعة الصيام لا تصل فيها المشقة إلى درجة العسر، إذ إن المفروض على الناس صيام شهر في كل عام، ومع ذلك فقد رخّص الله
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ الملة والدين والشريعة شيء واحد، وكلمة مِلَّةَ منصوبة على المصدرية بفعل يدلّ عليه قوله تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فإنه يفيد معنى التوسعة، أي وسع عليكم في دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم، فحذف المصدر المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ويصحّ أن تكون منصوبة على الاختصاص بفعل تقديره: أعني ملة أبيكم إبراهيم، وقيل: إنها منصوبة على الإغراء أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم وظاهر أنه على الإعراب الأول لا يكون في الكلام دلالة على أنّ شريعتنا هي شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وحينئذ فلا مانع من تفسير الملة بالأحكام الشرعية كلها الاعتقادية والعملية، أما الإعرابان الآخران فإنّهما يدلان على اتحاد الشريعتين، وعلى هذا ينبغي قصر الملة على الأحكام الأصلية المتعلقة بالاعتقاد، إذ لا شك أنها واحدة في شريعتنا وشريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، بل هي واحدة في جميع الشرائع لم تتغير بتغير الأزمان والأقوام، اقرأ قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: ١٣] وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) [الأنبياء: ٢٥]
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الأنبياء أولاد علّات» «١»
يريد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة، وعلى هذا يكون تخصيص إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالذكر ليقويّ تمسك المؤمنين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بشريعته إذ إنّ أكثرهم من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهم يحبونه حب الأبناء للآباء، ولا شكّ أنّ هذا الحب يقوّي فيهم روح الاستمساك بشريعة نبيهم محمد صلّى الله عليه وسلّم، إذ كانت هي شريعة أبيهم إبراهيم من قبل. وقد تبين لك من هذا معنى أبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام للمؤمنين من هذه الأمة.
ويصحّ أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام أب لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم السعيدة في الآخرة.
وذهب ابن عباس ومجاهد والضحاك إلى أن المسمّي هو الله جل شأنه، ويؤيد هذا الرأي قراءة أبي بن كعب (الله سماكم المسلمين) وابقاء الإسناد على ظاهره خير من التأويل فيه، وجعله مستعملا في حقيقته ومجازه.
واللام في قوله تعالى: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ إما لام العاقبة، وهي متعلقة بسماكم على الوجهين في ضميره، وشهادة الرسول على أمته معناها الإخبار بأنّه قد بلّغهم رسالة ربه، وإما لام التعليل.
وعلى في قوله: عَلَيْكُمْ بمعنى اللام، على حد قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة: ٣] ومعنى شهادة الرسول لهم أن يزكيهم عند الله يوم القيامة، ويشهد بعدالتهم إذا شهدوا على الأمم السابقين ويكون التعبير بعلى لما في الشهيد من معنى الرقيب والمهيمن.
وقد تبين لك أنّه لا بد على هذين الوجهين من التأويل في قوله تعالى: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ إما في (اللام) وإما في كلمة (على) والسبب في ذلك هو أنه لم يظهر للقائلين بهما الوجه في أن يعلل تعديل هذه الأمة وتسميتها مسلمة بشهادة الرسول عليها، إذ المستقيم إنما هو تعليل ذلك بقبول شهادتها على غيرها.
والحق أنه لا حاجة لذلك التأويل، ولا مانع من بقاء كل من: على واللام على أصل معناه، ويكون قول شهادة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على الأمة علة في الحكم بعدالة ذلك الحكم الذي دلّت عليه تسميته مسلما، إذ لا شك أنه صلّى الله عليه وسلّم مسلم لله، وأنه سيد المسلمين، فهو داخل في قوله تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ دخولا أوليا، ويكون قبول الشهادة من أمته على الأمم الأخرى علة في تسميتها مسلمة كذلك. ويكون في الكلام تفصيل في الشهادة بعد إجمال في التسمية بالمسلمين، وهذا وجه وجيه لا خفاء فيه.
قد يقال: إنه بعد هذا كله لا يظهر التعليل إلا إذا كانت التسمية بالمسلمين واقعة من الله تعالى، كما هو أحد الرأيين، فإنّه واضح جدا أن يقال: سماهم الله مسلمين هذه التسمية الدالّة على حكمه بعدالتهم، ليقبل شهادتهم على غيرهم، أما إذا كانت
والجواب: أنّ تسمية سيدنا إبراهيم إياهم بالمسلمين قد أقرّها الله تعالى، فكأنّ الحكم بعدالتهم صادر منه جل شأنه، فيكون الله هو الذي عدّلهم ليقبل شهادتهم، وهذا الجواب مستقيم ولا غبار عليه.
وبعد... فشهادة النبي صلّى الله عليه وسلّم وشهادة أمته يوم القيامة يثبت بها شرف عظيم له عليه الصلاة والسلام ولهذه الأمة، فإنّ الله تعالى يصدّق قوله يوم القيامة على أمته في دعوى تبليغه إياها، لكن سائر المرسلين مع عصمتهم سوف يحتاجون لإثبات ما يدّعون على أقوامهم إلى من يشهد لهم بين يدي الله عزّ وجلّ.
وكذلك هذه الأمة شرّفها الله بأن جعلها أهلا للشهادة على سائر الأمم، فهي تشهد على الناس جميعا، ولا يشهد عليها أحد منهم، إنما الذي يشهد عليها هو نبيّها الذي هو أشرف الخلق أجمعين. وفي هذا فضل كبير.
وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ورد أنه يؤتى بالأمم وأنبيائهم فيقال للأنبياء: هل بلغتم أممكم، فيقولون: نعم بلغناهم، فينكرون فيؤتى بهذه الأمة فيشهدون أنّهم قد بلغوا، فتقول الأمم لهم: من أين عرفتم، فيقولون: عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق.
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ قد سبق لك معنى إقامة الصلاة. أما الاعتصام فمعناه اتخاذ العصمة، وهي ما يعصم الشيء ويمنعه مما يضره. فالاعتصام بالله هو الثقة به، والالتجاء إليه، والاستعانة بقوته العظمى على دفع كلّ مكروه، وقيل: إن الاعتصام بالله هو الاستمساك بدينه والتزام شريعته.
وهذه الجملة مرتبة بالفاء على ما قبلها، من اجتباء المخاطبين، وتسميتهم مسلمين، وتشريفهم بقبول شهادتهم على الأمم.
وقد ختم الله الأوامر في هاتين الآيتين بالأمر بإقام الصلاة مع سبق الأمر بها في قوله تعالى: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا على ما علمت، ثم عطف عليه الأمر بإيتاء الزكاة لما تقدم لك كثيرا من أنهما أصل الخير وأسّ الفلاح، ثم أتبعهما الأمر بالاعتصام به سبحانه وتعالى، فإن هذا الاعتصام هو مبعث القوة، وهو سبيل الفوز، فمن استنصر بالله نصره، ومن لاذ بحماه أمّنه، ومن استعان بقوته يسّر له أمره، وأمكنه مما يريد.
هُوَ المولى يطلق على معان: منها المالك، والناصر، والمعتق، والجار، وابن العم، والحليف. وأولاها الأول، وفي هذه الجملة هُوَ مَوْلاكُمْ عدة جميلة،
والمعنى: ثقوا بالله، والجؤوا إليه، واحتموا بحمايته، لأنّه هو مالككم وخالقكم، يغار عليكم، ويحفظكم، ويدفع المكروه عنكم.
فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ النصير العظيم النصرة، الكامل المعونة.
والمخصوص بالمدح ضمير يرجع إلى الله تعالى.