تفسير سورة النّمل

بيان المعاني
تفسير سورة سورة النمل من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

ولا توجد سورة في القرآن مختومة بما ختمت به هذه، لأن هذه الآية العظيمة الرهيبة التي كان ملوك الأمويين والعباسيين يهدّدون بها من قبل الأصحاب والتابعين، ومن بعدهم العلماء حينما كانت الملوك تصغي لأقوالهم وتتبرك بدعواتهم وتتشرف بقولهم.
هذا، وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
تفسير سورة النمل ٤٨- ٢٧
نزلت بمكة بعد الشعراء، وهي ثلاث وتسعون آية، وألف وثلاثمائة وسبع عشرة كلمة، وأربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وستون حرفا، لا يوجد سورة مبدوءة بمثل هذين الحرفين الطاء والسين.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

قال تعالى: «طس» الله أعلم بمراده فيه، راجع تفسير طسم قبلها وما ترشدك إليه لندرك تفسيره «تِلْكَ» الآيات العظام المنزلة عليك يا سيد الأنام هي «آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ» ١ أي وآيات اللوح المحفوظ لدينا، الذي لا خفاء في حكمه وأحكامه وأخباره وأمثاله، فهو «هُدىً» من الضلال في الدنيا «وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» ٢ العاملين فيه بالآخرة وهم المبينون بقوله عز قوله «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» اللتين ستفرض عليهم حتما، وقيل المراد بالصلاة الركعتان المفروضتان عليه صلّى الله عليه وسلم، وقلده فيهما من آمن به، وبالزكاة ما كان متعارفا عندهم من الصدقات، لأن هاتين العبادتين لم تخل أمة منهما ولو اختلفا في الكم والكيف، لأن الله تعالى تعبد فيهما كافة الأمم، لأنهما قوام الدين والدنيا، لما في الأولى من المنافع التي تعود على صاحبها بكل خير وفي الثانية من المنافع المادية التي تعود على المحتاجين بقضاء حوائجهم، وعلى المتصدقين برضاء الله «وَهُمْ» القائمون بهاتين العبادتين «بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» ٣ يصدقون تصديقا خالصا، فمن جمع مع الإيمان هذه الخصال فلا خوف عليهم في العاقبة «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» لا تنفعهم أعمالهم الحسنة عند الله مهما كانت لأنهم من الذين «زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ» الخبيثة في الدنيا، فرأوها حسنة،
308
وذلك أن الله تعالى يخلق لمثل هؤلاء العلم في قلوبهم مما فيه المنافع واللذات الدنيوية، ولم يخلق فيها خوف المضار والآفات، لذلك يرون أعمالهم القبيحة حسنة «فَهُمْ يَعْمَهُونَ» ٤ يترددون في حيرتهم كما يفعل الضال عن الطريق السوي، لأن العمه هو عمى القلب لا ينفع البصر «أُوْلئِكَ» الذين هذه صفتهم «لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ» في الدنيا قتلا وأسرا وجلاء وإهانة وذلا «وَهُمْ» مع خسارتهم الدنيا «فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ» أيضا على ما فرطوا من دنياهم وأفرطوا في أمر آخرتهم، فتراهم كثيري الخسارة والحسرة والندم، لأن الإنسان يعمل في الدنيا ليربح في الآخرة، فكيف إذا خسر فيهما فيكون من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم ولم ينتفعوا بأعمالهم فيساقون إلى جهنم، وهذا غاية الخسران لا سيما إذا رأوا نجاة المؤمنين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا «وَإِنَّكَ» يا سيد الرسل «لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ» بواسطة أميننا جبريل الذي يأتيك به «مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ» وأي حكيم لأن التنوين والتنكير يدلان على التعظيم والتفخيم، والحكمة هي العلم بالأمور العالية والعلم قد يكون علما وقد يكون نظرا فهو أعم من الفقه «عَلِيمٍ» بما كان لدينا قبل كونه وما يكون فينا قبل أن يكون، واذكر لقومك يا سيد «إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ» زوجته ومن كان معها من ابنه وخادمه «إِنِّي آنَسْتُ ناراً» أبصرت ما استانس به لحاجتكم، لأن الوقت كان ليلا وباردا ولم يعرفوا الطريق أيضا، فامكثوا مكانكم لأذهب لمكانها، و «سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ» عن الطريق «أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ» تستدفئون به إن لم أجد من يهدينا الطريق ونبقى هنا حتى يتبين لنا ذلك، والشهاب الشعلة من النار، والقبس النار المقبوسة منها، أو العود الذي في أحد ظرفيه نار، وهو ما تعورف به عندنا الآن، وقرىء بشهاب قيس على الإضافة وهي قراءة جائزة إذ ليس فيها نقص ولا زيادة ولا تبديل في المعنى بخلاف ما بيناه في الآية ١٦٦ من البقرة المارة «لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» ٧ تستدفئون، لأن الوقت شتاء، فأجابوه لما طلب، فتركهم وذهب، وكان في إضلالهم الطريق هداهم راجع الآية ١٠ من سورة طه المارة.
309
مطلب بدء نبوة موسى وكيفية تكليمه:
قال تعالى «فَلَمَّا جاءَها» وأبصر تلك النار «نُودِيَ» من جهتها «أَنْ بُورِكَ» أن هنا تفسيرية للنداء، والمعنى أي بورك لما في النداء من معنى القول دون حروفه، وضمير بورك يعود على موسى عليه السّلام، وقيل إنها مخففة من الثقيلة وجاز كونها كذلك من غير حاجة الفصل بينهما وبين الفعل بقد والسين وسوف أو أحرف النفي، لانها وليت فعل دعاء وهو مستثنى من تلك الفواصل، خلافا لأبي علي الفارسي القائل إن أن المخففة لما كانت لا يليها إلا الأسماء استقبحوا أن يليها الفعل ليس بشيء يعتدّ به، لان هذا ليس على إطلاقه، فقد استثنى من عموم فعل الدعاء «مَنْ فِي النَّارِ» من جاء لأجلها إلى المحل الذي هي فيه «وَمَنْ حَوْلَها» موسى وغيره من الملائكة فيشمل كل من هو في تلك البقعة والبقعة نفسها، لانها مبعث الأنبياء ومهبط الوحي، وهي المعينة بقوله تعالى (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) الآية ١٩ الآتية من سورة القصص، وتفيد هذه الآية المفسرة إبداء التحية العظيمة من الله عز وجل لموسى عليه السّلام، وفيها إشارة إلى حصول البركة في أراضي الشام التي هي حول تلك البقعة المقدسة المشار إليها في قوله تعالى حكاية عن حال إبراهيم عليه السّلام:
(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) الآية ٧١ من سورة الأنبياء في ج ٢ وبشارة عظيمة من الله إلى موسى أيضا بحدوث أمر ديني فيها، وهي استنباؤه، ورسالته، وتكليمه، وإظهار المعجزات على يده، وتجديد دين أبيه إبراهيم عليه السّلام.
ثم اعلم هداك الله أن لا مجال للقول هنا بأن السمع من الشجرة أو من جهة النار يدل على حدوث المسموع وهو كلام الله تعالى، لأن الله منزّه عن الجهة والمكان، وكذلك كلامه، لأن سماع موسى كلامه من إحدى الجهتين المذكورتين يرجع إلى موسى لا إلى الله، وان الله تعالى خلق لموسى علما ضروريا علم به أن الذي يسمعه هو كلام الله القديم الأزلي من غير صفة ولا صوت ولا جهة، فقد سمعه وحده من الجهات الست، وصارت جميع جوارحه كسمعه، ولو فرض أن هناك أحدا معه لما سمع شيئا البتة، وهكذا كان محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم حينما ينزل عليه الوحي، يعلمه وحده دون الحاضرين معه، راجع الآية ١٩٥ من سورة الشعراء المارة،
310
وسماع كلام الله في الآخرة يكون على هذه الصفة، لأن الكامل الواصل يكون له في الدنيا حكم الآخرة، وقيل في هذا المعنى:
إذا ذكرت ليلى فكلي مسامع وإن ظهرت ليلى فكلي أعين
أي أنه يرى ويسمع بكل جوارحه وهي مبالغة عن شدّة تلذذه بما يسمعه ويراه منها لتوغله في محبتها، ولأن حبّها تداخل فيه وجرى في عروقه مجرى الدم منه.
ثم اعلم أيضا أنه لا يجوز السؤال عن الكيفية في ذات الله تعالى وصفاته، إذ لا يقال كيف ذاته من غير جسم ولا جوهر ولا عرض، ولا كيف علمه من غير كسب وضرورة، ولا كيف قدرته من غير صلابة، ولا كيف إرادته من غير شهوة وأمنية، ولا كيف تكليمه من غير حدة ولا صوت، لأن هذا كله من نعوت البشر، ولأن الله تعالى سدّ هذا الباب عليهم بقوله جل قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الآية ١١ من سورة الشورى في ج ٢، أما كيفية سماع موسى كلامه فقد وضحته لك أعلاه، فاغتنم هذا، فإنك لا تجده على هذا التفصيل والتمثيل في كتب كثيرة، واحمد الله على إنعامه «وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ٨ وهذه الجملة من تتمة مانودي به موسى، أي نزه ربك عما لا يليق به، فقد نزه تعالى شأنه ذاته المقدسة بذاته عن صفات خلقه وعما تتخيله الأوهام من التشبيه والتمثيل، وفيها تعجب إلى موسى بأنه سيلقى من جلائل الأمور وعظائم الشئون ما يتعجب منه المتعجبون.
وما قاله السدي بأن هذه الجملة من كلام سيدنا موسى، بعيد عن المقام ويأباه مدلول الكلام، لأن موسى لم يتكلم بعد، كيف وقد اعتراه ما اعتراه من الدهشة وهيبة الربوبية التي ألمعنا إليها في الآية ١٠ من سورة طه المارة، ولما رأى الله تعالى موسى كما كان مرئيا في الأزل لديه وقد أخذته الرهبة، أراد أن يعرفه بذاته المقدسة ويزيل عنه ما أهابه ليمهد له ما أراد أن يلقيه عليه ويظهره على يده من الأمور الغريبة، ناداه «يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ٩ الذي يكلمك هو أنا، ولفظة الجلال بيان للفظة أنا والعزيز الغالب لما يفعله من العجائب والبدائع بمقتضى الحكمة، وهي صفتان له جلّت صفاته وفيها إشارة إلى كمال قدرته وقوة عظمته ورمز إلى أنه سيبين له ما يستبعده الوهم المستفاد من قوله «وَأَلْقِ
311
عَصاكَ»
فألقاها حالا دون تردد، امتثالا لأمره من غير أن يعلم المراد من إلقائها «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ» تنحرك بشدة «كَأَنَّها جَانٌّ» حية صغيرة لشدة اضطرابها، وتقدم في الآية ١٠ من سورة الأعراف والآية ١٥ من سورة طه والآية ٣٢ من سورة الشعراء فقد بينا فيها التوفيق بين ما جاء فيها هنا وهناك، فراجعها.
فلما رأى حركة عصاه وما انقلبت إليه هاله شأنها فتأخر عنها، وهو معنى قوله تعالى «وَلَّى» ظهره محلها «مُدْبِراً» عنها وهرب خوفا مما رأى وازداد اضطرابه «وَلَمْ يُعَقِّبْ» يرجع ويلتفت عقبه إليها ثم ناداه عز وجل ثانيا «يا مُوسى لا تَخَفْ» مما رأيت، ارجع لأني أريد أن أجعلك رسولا لي «إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ» ١٠ لأني آمنتهم مما يخافون. واعلم أن الله تعالى يفعل هذه المقدمات مع خلص خلقه من عباده الذين يختارهم لنبوته، ويصطفيهم لرسالته، بداية أمرهم إرهاصا لأقدارهم على تلقي وحيه، ليتوطنوا عليه، ويعلموا كيفية نزوله، وهذا الخوف غير الخوف الذي هو شرط الإيمان، فإن ذلك لا يفارقهم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنا أخشاكم لله- راجع الآية ٢٧ من سورة فاطر المارة-
ثم استثنى من عموم كلامه قوله «إِلَّا مَنْ ظَلَمَ» منهم بفعل ترك الأفضل وما هو خلاف الأولى أو زل عن غير قصد أو استعجل في أمره كآدم ونوح وداود وسليمان وإبراهيم ويونس عليهم السلام، وقد سبقت الإشارة إلى ما صدر من كل منهم وتأويله وتفسيره ودواعيه في محله، وقد سمى الله ما حدث منهم ظلما بالنسبة إليهم، راجع الآية ٢ من الأعراف المارة والآية ٢٣ من ص والآيتين ٦٣ و ٨٥ من سورة هود في ج ٢، قال تعالى «ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ» تاب وندم على ما صدر منه، وقد سماه سوء أيضا نظرا لمقامهم وإلا في الحقيقة لا يسمى ظلما ولا سوء بالنسبة لغيرهم، لأنه على حد حسنات الأبرار وسيئات المقربين «فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» ١١ به أعفو عما صدر منه ثم ناداه ثالثا بقوله «وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ» اجعلها تحت إبطك «تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» برص، فأدخلها امتثالا لأمره، من غير أن يعرف الغاية منها، ثم أخرجها فإذا هي تبرق كالشمس، وبعد أن توطن لكلام الله قال اذهب «فِي تِسْعِ آياتٍ» مع هاتين الآيتين كما بيناها
312
في الآية ١٣٢ من الأعراف المارة، وهذه كلها قبل خروجه من مصر وعبوره البحر، أما بعدهما فقد أظهر الله له آيات كثيرة، أولها انفلاق البحر، ثم تفجير الماء من الصّخرة، والمن والسلوى، والغمام والطمس، وخسف الأرض بقارون، وإحياء صاحب البقرة، وإحياء هارون، وغيرها، ولبحث آياته عليه السّلام صلة في الآية ١٠٠ من الإسراء الآتية، وقد أرسلناك بهذه الآيات «إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» ١٢ متجاوزين الحد في الكفر والعدوان، خارجين عن الآداب والمروءة، فذهب وأخذ أهله وتوجه إلى فرعون، وقد قص الله لنا ما وقع بينهما في الآية ١١٣ من سورة الأعراف فراجعها، قال تعالى على طريق الإجمال «فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً» على يدي موسى واضحة يشاهدونها بأم أعينهم وتتيقن بها قلوبهم «قالُوا هذا» الذي جاء به موسى «سِحْرٌ مُبِينٌ» ١٣ مكابرة وعنادا «وَجَحَدُوا بِها» أنكروا تلك الآيات وكفروا بها «وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ» بأنها من الله ليست بسحر ولا كهانة، وأيقنوا أن موسى ليس بساحر ولا كاهن، وأنه رسول الله حقا، وهذا هو الجحود المركب، لأن كل ما تيقنته وأنكرته فهو كذلك، لصدوره عن تعنت وتجبّر وعناد ومكابرة، أما من هداه الله كالسحرة ومؤمن آل فرعون وزوجته آسية، فإنهم صدقوا وآمنوا حينما تجلت لهم الحقيقة، وأصرّ فرعون وقومه على الكفر «ظُلْماً» وأي ظلم حيث سموها سحرا وحطوها عن مرتبتها «وَعُلُوًّا» ترفعا واستكبارا عن الإيمان بموسى وربه «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل واعجب «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» ١٤ إذ أهلكناهم في دنياهم غرقا على الصورة المبينة في الآية ٥٣ من سورة الشعراء، المارة، وستنظر عاقبتهم في الآخرة فهي أشد وأفظع وأقبح، وهكذا تكون عاقبة من لم يؤمن من قومك.
مطلب أن الله تعالى خص الأنبياء بأشياء خاصة لأمور خاصة:
«وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً» عظيما في القضاء والسياسة لأمور نزيد إيقاعها على أيديهم كما قد قصصناه عليك في السور المتقدمة وما سنقصه عليك بعد، وعلمنا آدم الأسماء لإسجاد الملائكة له راجع الآية ٣٤ من البقرة في ج ٣، وعلمنا الخضر علم الفراسة ليتلمذ له موسى كما في الآية ٤١ فما بعدها من سورة الكهف في
313
ج ٢، وعلمنا يوسف تعبير الرؤيا لنجعله ملكا على مصر راجع الآيتين ٣٧ و ٥٤ من سورة يوسف في ج ٢، وعلمنا داود صنعة الدروع ليكون ملكا مع النبوة، راجع الآية ١١ من سورة سبأ، وعلمنا سليمان نطق الطير لتؤمن به بلقيس كما سيأتي بعد، وعلمنا عيسى الحكمة والتوراة والإنجيل لتدفع عنه التهمة راجع الآية ٤٨ من آل عمران، وعلمناك يا محمد علم الأولين والآخرين لنعطيك الشفاعة العظمى والرسالة العامة، وهكذا بقية الرسل أعطيناهم أشياء خاصة لتكون سببا لإنالتهم أشياء خاصة في الدنيا والآخرة «وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا» بالنبوة والرسالة والملك، ولم تجمع لمن قبلنا من الأنبياء في سبط من أسباط يعقوب، بل كان الملك في سبط والنبوة في آخر «عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ» ١٥ بذلك وبما سيأتي من تسخير الجن والإنس والطير والهواء وغيرها راجع الآية ١٠ فما بعدها من سورة سبأ في ج ٢، وقالا ما قالا إظهارا لشكر الله على نعمه وتحدثا بها ولم يفضلا أنفسها على الكل تواضعا وهضما لأنفسهما المطهرتين.
مطلب قصة ابن كثير مع جاره وعظمة ملك سليمان وكلام الطيور:
كان ابن كثير رحمه الله يجلس على بابه فيطالع، وكان له جار رثّ الثياب، وكلما خرج من داره ورآه على حالته يركب عليه فيشم منه رائحة كريهة، فعنفه يوما على فعله، وأخبره بأنه يعوقه عن مطالعته، فقال له وما تطالع؟ قال في الاقتباس، قال أنشدني منه شيئا، فقال موريا فيه فورا:
كيد حسودي وهنا... ولي سرور وهنا
الحمد لله الذي... أذهب عنا الحزنا
الآية ٣٨ من سورة فاطر، فأجابه فورا معرضا فيه أيضا:
قلبي إلى الرشد يسير... وعنده النظم يسير
الحمد لله الذي... فضلنا على كثير
الآية المارة، فتعجب منه وقام إليه واحترمه، واعتذر منه، فقال له إياك أن تزدري بأحد، فإن مواهب الله في الصدور لا في الثياب.
314
قال تعالى «وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» نبوته ورسالته وعلمه وملكه وحده خاصة دون سائر اخوته الثمانية عشر بتخصيص الله تعالى إياه وزاده على أبيه تسخير الجن والإنس والشياطين والريح ونطق الطير وكان يفهم تسبيحها فقط «وَقالَ» سليمان لأشرف قومه «يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا» من قبل الله ربنا «مِنْ كُلِّ شَيْءٍ»
أوتيه الأنبياء قبلنا والملوك، ومما لم يؤتوه من جميع ما تحتاجه الدنيا والآخرة «إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» ١٦ الذي لا فوقه فضل، وقال هذا على سبيل التحدث بالنعمة أيضا على حد قوله صلّى الله عليه وسلم، أنا سيد ولد آدم ولا فخر. قالوا وفي زمانه صنعت الأعاجيب من البناء والجنان والهياكل والتصاوير البارزة والمحاريب البديعة وغيرها، وجاء في تفسير البغوي أن ملكه دام سبعمائة سنة وستة أشهر، وهو أحد الأربعة الذين ملكوا الدنيا، قالوا إنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه وذنبه، فقال لأصحابه أتدرون ما يقول؟ قالوا الله ونبيه أعلم، قال يقول أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء، وصاحت فاخته فأخبر أنها تقول ليت ذا الخلق لم يخلقوا. وصاح طاووس فقال يقول كما تدين تدان. وصاح هدهد فقال يقول استغفروا الله يا مذنبون. وصاح طيطوى فقال يقول كل حي ميت وكل جديد بال، وصاح خطاف فقال يقول قدموا خيرا تجدوه، وصاحت رحمة فقال تقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمري فقال يقول سبحان ربي الأعلى، وقال تقول الحدأة كل شيء هالك إلا الله، والقطاة تقول من سكت سلم، والببغاء تقول ويل لمن الدنيا همه، والعقاب يقول في البعد عن الناس أنس، والديك يقول اذكروا الله يا غافلون، والنسر يقول يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت، والضفدع تقول سبحان ربي القدوس، والقنبرة تقول اللهم العن مبغض محمد وآل محمد، والزرزور يقول اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق، والدراج يقول الرحمن على العرش استوى. وعدّ الضفدع مع هذه الطيور مع أنه ليس منها، إشعارا بأنه كما علمه الله منطق الطير علمه نطق بعض الحيوان والحيتان.
والله أعلم بصحة ذلك، وإنما نقلناها لما فيها من الحكم البديعة التي تصح أن تكون موعظة وذكرى للمتعظين من البشر، والغافلين الذين لا يعقلون ما يراد بهم، إذ
315
لو عقلوا لما لذّ لهم طعام ولا شراب، ولأكثروا من البكاء على أنفسهم وتركوا الضحك وتذكروا بمصير هذه الدنيا التي أغرتهم بزخارفها الفانية عن الدار الباقية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
مطلب الصفات الممدوحة بالملك وحكم وأمثال:
قال تعالى «وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» ١٧ يمنع أولهم من سرعة السير ليلحق آخرهم مجتمعون لشدة الازدحام الناشئ عن كثرتهم، والوزع المنع، قال عثمان رضي الله عنه: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن. وقال الشاعر:
ومن لم يزعه لبه وحياؤه به فليس له من شيب فوديه وازع وإنما مال إلى حبس أولهم ولم يسق آخرهم ليلحقوا بهم رحمة ورأفة بهم، كي يستريح الأولون، ولا يزيد في تعب الآخرين. وقال محمد بن كعب القرضي: كان معسكر سليمان مائة فرسخ خمس وعشرون للإنس، ومثلها للجن، ومثلها للطير، ومثلها للوحش. والفرسخ اثنا عشر ألف باع، لأنه ربع البريد الذي هو مسافة مرحلة، قال:
أي بذراع اليد، وقالوا إن الجن نسجت بساطا لسليمان عليه السّلام من حرير وذهب فرسخا في فرسخ، وكان يوضع عليه كرسيه في الوسط وتوضع حوله كراسي الذهب والفضة ويجلس عليها العلماء والصلحاء والناس حولهم والجن والشياطين حول الناس، والوحوش حولهم وتظلّهم الطيور بأجنحتها، وكان له ألف بيت من قوارير فيها ثلاثمائة زوجة، وسبعمائة سرية، وأن الريح العاصفة ترفعه، والرّخاء يسير به بأمره، وأن الريح تخبره بما يتكلم به الخلائق، قالوا إن حراثا قال لقد أوتي آل داود ملكا عظيما، فألقته الريح بأذنه، فنزل بموكبه ومشى إليه وقال له تسبيحة واحدة يقبلها الله خير مما أوتي آل داود. قال عمر رضي الله عنه: أخبرني يا رسول الله عن هذا السلطان الذي ذلت له الرقاب، وخضعت له الأجساد، ما هو؟
فقال صلّى الله عليه وسلم ظل الله في الأرض، فإذا أحسن فله الأجر، وعليكم الشكر، وإذا
316
أساء فعليه الوزر، وعليكم الصبر. وقيل لكسرى أي الملوك أفضل؟ فقال الذي إذا حاورته وجدته عالما، وإذا خبرته وجدته حكيما، وإذا أغضبته كان حليما، وإذا ظفر كان كريما، وإذا استمنح منح جسيما، وإذا أوعد عفا، وإذا وعد وفى، وإذا شكي إليه كان رحيما. وقال حكيم ليزدجر: صلاح الملك الرفق بالرعية، وأخذ الحق منها بغير عنف، والتودد بالعدل إليها، وأمن السبيل عليها، وانصاف المظلوم، وردع الظالم. وجاء في الخبر: يوم واحد من سلطان جائر خير من سبعين سنة بلا سلطان، لأن عدمه يؤدي إلى الفوضى وسفك الدماء ونهب الأموال. وقال:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والبيت لا يبتنى ما لم يكن عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
وقال بعض الحكماء: لا ينبغي للإمام أن يكون جائرا ومن عنده يلتمس العدل ولا للعالم أن يكون سفيها ومن عنده يلتمس الحلم. وقال آخر: المملكة تحب بالسخاء، وتعمر بالعدل، وتثبت بالعقل، وتحرس بالشجاعة، وتساس بالرياسة.
وقال عليم: على الظالم أن يكون وجلا، وعلى المظلوم أن يكون جذلا، وعلى الأمير أن لا يتجاوز الحد فكل ما جاوزه لا يسمى فضلا، كالشجاع إذا جاوز حد الشجاعة نسب إلى التهور، والسخي إذا جاوز حد السخاء نسب إلى التبذير، والأديب إذا زاد حد الأدب نسب إلى الخساسة، واعلم أن الخوف خوفان:
محمود وهو المقرون بالطاعة وحفظ الحدود مثل خوف الأبرار والأتقياء، ومذموم وهو المقرون بالمعصية ومخالفة الأوامر الشرعية مثل خوف إبليس وجنوده الذين يعلمون أن لهم خالقا يعاقبهم على عصيانهم وهم يخافون عقابه ويخالفون أوامره، والرجاء اثنان: رجاء من الله أن يرحمه في الدنيا ويعطف عليه قلوب أوليائه وعباده ويغمره بعفوه وعافيته، وفي الآخرة أن يشمله برحمته وشفاعة نبيه ويلحقه بعباده الصالحين. ورجاء من النفس من الآمال الباطلة وما يتخيّله له الشيطان من الأعمال الخسيسة والطمع فيما فيه من المعصية. هذا وأفضل المعرفة معرفة الرجل نفسه، وأفضل العلم وقوف العالم عند علمه، وأفضل المروءة استبقاء الرجل ماء وجهه، قال تعالى «حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ» أشرفوا عليه لأن الإتيان غالبا
317
يكون من فوق، والوادي كل منخفض يسيل فيه الماء، وقد اختلف في هذا الوادي الكثير نمله حتى سمي به والمشهور أنه في اليمن وهو يسمى بهذا الاسم حتى الآن وكانت تذكره الناس بأقوالهم وأشعارهم، وما قيل إنه بالشام أو بالطائف فليس بشيء، «قالَتْ نَمْلَةٌ» لقومها سكان الوادي قولا فهمه سليمان عليه السّلام بان معناه ما ذكره الله بقوله «يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ» سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ١٨ لكثرة غلبتهم ومراعاتهم نظام المشي، وذلك أن الجند إذا سيرهم قائدهم على جهة كان مشيهم بانتظام نحوها حتى إذا كان أمامهم شيء يدوسونه ولم يحيدوا عنه، ولهذا تقدمت النملة بالعذر لسليمان عليه السّلام ووصفته وجنوده بالعدل والرحمة والتباعد عن الجور، إذ علمت بإلهام الله إياها أنه نبي لا يجور ولا يتيه ولا يظلم، قالوا وكان اسمها طافيه وهي عرجاء ذات جناحين «فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها» إعجابا بما آتاها الله من معرفة، وسرورا بما آتاه الله من سماع وفهم لقولها، ولما وصفته وقومه به من الشفقة المستفادة من قولها (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) والتبسم سمة الأنبياء. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: ما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا قط حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم. قال الأبوصيري:
سيد ضحكه التبسم والمشي الهوينا ونومه الإغفاء واللهوات اللحمات المشدقة على الحلق أو التي ما بين منقطع أصل اللسان إلى منقطع القلب في أعلى الفم، مفرده لهاة، قالوا ثم إن سليمان حبس جنوده أي أوقفهم ومنعهم من مداومة السير، وأمر بإهباط البساط، فنزل على شفير الوادي، لأنه لو أهبطه فيه لتحطم النمل لعظمه وثقله، وانتظر حتى دخل النمل كله مساكنه فلم تكسر منه واحدة، ثم حمد الله وأثنى عليه «وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي» كفني عن كل شيء مؤذ وامنعني من كل شيء مضر، ووفقني «أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ» من قبل «وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ» لأن العمل مهما كان حسنا إذا لم يرضه الله لا يعد شيئا، والعمل الطيب الخالص لوجهه السالم من الرياء وشوائبه هو المرضي عند الله «وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي
318
عِبادِكَ الصَّالِحِينَ»
١٩ من آبائي إبراهيم وإسماعيل ومن قبلهم، ثم أمر العسكر بالنزول إلى الوادي، فاصطف كعادته وسار وركب هو البساط وأمر ملأه فركب حوله كهيئته المارة، ثم نظر إلى الطير المحلق فوقه فرأى كوة بينه «وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ» ليعلم الغائب منه، لأنه إذا حلق فوق البساط لم يترك كوة ينفذ منها شعاع الشمس على من فيه «فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ» إذ عرفه أنه هو الغائب الذي سبب وجود الكوة ونفوذ الشمس، ربما أن الهدهد له أهمية بالنسبة لغيره عدا سد الكوة لأنه الدليل على الماء إذ يعرف بتعريف الله إياه الأرض التي فيها الماء وقربه وبعده فيها بمجرد نظره، فيرى الماء داخلها كما يرى الناس الماء في الزجاجة وكما يرى القرلي السمك بأرض الأنهار وهو عائم فوقها، فيسقط ويأخذها.
سبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ولما تحقق عند سليمان غياب الهدهد قال «أَمْ» بل «كانَ مِنَ الْغائِبِينَ» ٢٠
ولما كان غيابه بغير إذن منه توعده، فقال «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً» قالوا بحبسه مع ضدّه بالشمس أو بنتف ريشه أو يفرق بينه وبين إلفه، هذا إذا جاء عليه بشيء أوجب غيابه لمجرد عدم الاستئذان، أما إذا كان تخلفه عن وجوده بمحله دون معذرة فتشدد عقوبته، ولهذا قال «أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» ٢١ حجة واضحة على غيبته بصورة اضطرارية لا يتمكن معها من الاستئذان، فإنه ينجو من العذابين المذكورين، قالوا ثم أرسل العقاب يطلبه فذهب «فَمَكَثَ» يتحراه «غَيْرَ بَعِيدٍ» أي مدة يسيرة وانتظره سليمان انتظارا قليلا، فوجده الغراب وأخبره بما توعده به سليمان، فقال له أو ما استثنى؟ قال بلى، وذكر له كيفية الاستثناء، قال نجوت إن شاء الله، فسار معه حتى أحضره أمام سليمان، فرفع الهدهد رأسه وأرخى ذنبه، وحط جناحيه في الأرض تواضعا وخشوعا وخوفا منه، ولما سأله عن تخلفه، قال قبل أن يبدي حجته: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل، فارتعد سليمان لكلامه هذا، وعفا عنه قبل إبداء عذره، هكذا كانت الأنبياء وهم ملوك فتخلقوا أيها الناس بأخلاقهم، واقتدوا بأفعالهم وأقوالهم، فلو أن أحدنا مكانه لضرب به الأرض حالا دون رويّة.
319
مطلب ما قاله الهدهد لسليمان وعلوم القرآن الأربعة:
قالوا ثم سأله عن تأخره «فَقالَ» بعد أن أمن «أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ» ألهمه الله هذا الكلام لينبّه سليمان بأن أدنى خلق الله علم ما لم يعلمه وهو بما عليه من النبوة والرسالة والملك، والإحاطة أبلغ من العلم بالشيء وقد أخفى الله مكان بلقيس على سليمان لمصلحة علمها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب ثم قال «وَجِئْتُكَ» يا رسول الله وملك الزمان «مِنْ سَبَإٍ» اسم لقبيلة جدها سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان، كان له عشرة أولاد سكن ستة منهم اليمن وأربعة الشام، وجاء أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن سبأ فقال: رجل له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة واسم البلد التي هو فيها سبأ مأرب، ثم اعلم أنه جاء في رسم القرآن خاصة زيادة حروف تكتب ولا تقرأ وهي من معجزات القرآن لأن في اللغات الأجنبية حروفا تكتب ولا تقرأ ولهذا لم يغفل القرآن ذلك مثل الالف في (لَأَذْبَحَنَّهُ) هنا والهمزة في (بِأَيْدٍ) الآية ٤٧ من الذاريات في ج ٢، والألف في (بشراى) وفي كلمة جزاؤه في الآيتين ١٩ و ٧٤ من سورة يوسف ج ٢، والواو في كلمتي الصلوات والزكاة في كثير من الآيات المكية والمدنية، والألف في كلمة (السُّواى) الآية ١٠ من سورة الروم وفي كلمة (لِشَيْءٍ) الآية ١٤ من سورة الكهف في ج ٢ أيضا وهذه لا تكتب في غير القرآن، إذ كان في رسم قرآن عثمان رضي الله عنه هكذا، وجب التقيد فيها حتى الآن وما بعد، ومن هنا تعلم أن العلوم المتعلقة بالقرآن أربعة:
الاول ما يتعلق بكتابته، وهو علم الرسم، الثاني ما يتعلق بالأداء وهو علم القراءات السبع، الثالث ما يتعلق بكيفية الأداء وهو علم التجويد، الرابع ما يتعلق بالألفاظ وهو علم الإعراب والبناء والتصريف والبيان والبديع والمعاني، وقد المعنا إلى بعض هذا في المقدمة وما بعدها عند كل مناسبة، وهكذا إلى آخر هذا التفسير المبارك ومن الله التوفيق، ثم قال وسأخبرك «بِنَبَإٍ يَقِينٍ» ٢٢ عما وجدت ورأيت مما لا مرية فيه، فتشوق سليمان لذلك وقال أخبرني ما هو؟ قال «إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» يحتاجه الملك والملك «وَلَها» يا سيدي «عَرْشٌ عَظِيمٌ» ٢٣ فخم كبير لا نظير له، واستعظمه بالنسبة إليها، قالوا كان
320
ثمانين ذراعا في ثمانين ذراعا، وارتفاعه كذلك، وهو مصوغ من الذهب، ومكلل بالدّر والياقوت، ومرصع باللآلي الثمينة، وقوائمه من ياقوت أحمر وأخضر وأبيض وزمرد، وعليه سبع أبيات بعضها داخل بعض، على كل بيت باب مغلق، قالوا ثم قال له ومن أعلمك بذلك حتى ذهبت إليه؟ قال لا أحد، ولكني يا نبي الله لما اشتغلتم بالنزول من أجل قول النملة، وجدت فرصة لأن أطير بالفضاء في نظر هذا الكون، فرأيت هدهدا مثلي اسمه يعقير، وكان اسمه يعفور فسألني، فأخبرته عنك، وعن ملكك، وما سخره الله لك، فقال لي وأنا عند ملكة لا تقل عن ذلك، واسمها بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان.
مطلب ملك بلقيس وسلاطين آل عثمان:
قالوا كان أبوها يقول لسفراء الملوك لا أحد كفوء لي، ولم يتزوج منهم، فتزوج جنية اسمها ريحانه بنت السكن ملك الجن، وسبب زواجها أنه رأى حيتّين تقتتلان، فقتل السوداء ورش الماء على البيضاء، حتى أفاقت وانقلبت شابا، فعرض عليه المال، فأبى، فزوجه ابنته، وقال له إن الحيّة السوداء عبد تمرد علينا وقتل منا كثيرا، فأردت قتله كما رأيته، فلم أستطع، ولولاك لقتلني، ولهذا كافأتك بابنتي. وتوجد روايات أخرى لم نعتمد صحتها، وأنا في هذه شاك أيضا، وإنما نقلناها استنادا لما جاء في بعض الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وسلم أن أحد أبوي بلقيس جنّي. قالوا وبعد وفاة أبيها ملك قومها عليهم ابن عمها، فساءت سيرته فيهم وصار يفجر في نساء رعيته، وقد عجزوا عنه، فاحتالت عليه وخطبته لنفسها، فخطبها، وقال لها ما منعني من خطيتك إلا اليأس منك، فقالت له لا أرغب عنك، لأنك كفو كريم، ولما زفت له بادرته بالخمر حتى سكر، فقتلته، ثم جمعت الوزراء وأنبتهم على صبرهم عليه مع انتهاكه حرماتهم، وقالت ما كان فيكم من يأنف لكريمته أو كرائم عشيرته من هذا الفاجر؟ وأظهرته لهم مذبوحا، وقالت اختاروا من تملكونه عليكم، فقالوا لا نرضى غيرك بعد أن فعلت هذا وصنت كرائمنا منه، فملكوها عليهم والله أعلم. روى البخاري ومسلم عن أبي بكرة قال:
لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى، قال:
321
لن يفلح قوم ملكوا أمرهم امرأة. وبمناسبة قول الهدهد لسيدنا سليمان نذكر للقراء أن السلطان عبد الحميد العثماني رحمه الله كان إذا خرج إلى المسجد يخرج في موكب عظيم لا بضاهيه ملوك الأرض فيه، وكان يوقف ثلة على طريقه، وعند وصوله إليهم يقفون له بالاحترام ويقولون له بصوت عال يسمعه من معه من الملأ والوزراء والعلماء المحيطين به بلغتهم التركية (بادشاهم مغروروله سندن بيوك الله وار) يعني (يا سلطاننا لا تغتر الله أكبر منك) وعند ما يسمع كلامهم هذا يحني رأسه خضوعا لما قالوا إذلالا لنفسه، في عز سلطته المهيبة الباهرة، وجرى من بعده على هذه الخطة هضما لنفسه أيضا، مما يدل على أن ما يقوله الناس في ملوك آل عثمان مبالغ فيه والله أعلم، وأنهم كانوا يحترمون العلم والعلماء ويقدمونهم على غيرهم، من أهل الرتب العالية ويستثنون طلبة العلم من الخدمة الإجبارية ويعظمونهم في التشريفات فيقولون عند استقبالهم تفضّلوا، رتبة العلم أفضل الرتب. هذا، ومن تتمة قول الهدهد «وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وذلك لأنهم كانوا مجوسا «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» القبيحة، فرأوها حسنة «فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ» الحق طريق أهل الرشد والهدى الذي هو السجود لله وحده، لأن الشيطان لا يدلهم إلا على الضلال «فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ» ٢٤ إلى الصواب ما داموا متبعيه، ولذلك زين لهم أعمالهم الخبيثة «أَلَّا» لئلا على قراءة التشديد التي عليها القرآن، وعلى قراءة التخفيف يكون (ألا) أداة استفتاح تدل على الطلب بلين ورفق، ويكون المعنى ألا أيها الناس «اسجدوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ» الشيء المخبأ المستور المدخر «فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» كالمطر والبرد والثلج وغيره والماء والنبات والأشجار والمعادن وغيرها مما علم ومما لم يعلم بعد «وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ» في أنفسكم من كل قول أو فعل «وَما تُعْلِنُونَ» ٢٥ بالتاء، والياء بالخطاب والغيبة، واعلموا أيها الناس بأن العالم بذلك كله وغيره، هو «الله الذي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» الذي لا أعظم منه، ولا يضاهيه عرش، الذي لا يستحق العبادة غيره، فعرش بلقيس وعرش سليمان وغيرهما لا تكون ذرة في صحراء بالنسبة لعرش الرحمن، اقرأوا إن شئتم
322
(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية ٢٥٦ من البقرة في ج ٣، والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ملقاة في فلاة، وفي هذه الآية ردّ على عبدة الأوثان وغيرهم وكل من يعبد غير الله وتنبيه إلى عظم عرش الله بالنسبة لجميع مخلوقاته، وإلى هنا انتهى قول الهدهد الذي قصه الله على رسوله «قالَ» سليمان عليه السّلام بعد أن سمع من الهدهد ما لم يسمعه، وقد تشوق إلى معرفة ذلك والوقوف عليه «سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ» فيما ذكرته «أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ» ٢٧ فيه لأنه قال وأوتيت من كل شيء، وهو عليه السّلام، لم يؤت كل شيء لهذا اشتغل فكره وتاقت نفسه لرؤية ذلك والوقوف عليه، فكتب كتابا لها وأعطاه إلى الهدهد، وقال له «اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ» جمع الضمير باعتبار أنه لها ولقومها، وهو كالجواب لقول الهدهد (وَجَدْتُها وَقَوْمَها) إلخ، «فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ» ٢٨ لنا من الجواب فأخبرني به قبل أن يصل إليّ لا تروي في الأمر، فأخذه وطار به، فدخل عليها والوزراء حولها، فرفرف بجناحه فنظرت إليه فرمى الكتاب إليها، ووقف قريبا ليسمع ما يقولون، ففضّته، فلما رأت الخاتم ارتعدت، وجمعت ملأها، فقرأته عليهم علنا، وقالوا كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، كل منهم على عشرة آلاف، وعبارة الكتاب كما قص الله بلا زيادة ولا نقص، وهكذا كان الأنبياء يكتبون جملّا لا يطيلون فيها «قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ» ٢٩ مختوم، روي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: كرامة الكتاب ختمه أي شريف لشرف صاحبه، لأنها عرفت أنه أعظم منها من فحواه، وهو «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ» مكتوب فيه «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ٣٠
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ»
فتمتنعوا من الإجابة للإيمان تكبرا وتعاظما «وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» ٣١ منقادين لي طائعين لله فاستعظمت ما أمرت به في الكتاب، ونظرت إلى ملئها «قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي» هذا الذي نزل بي وأشيروا علي فيه لأني «ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً» يتعلق بالملك ولا أقضيه، أو أفعله وأمضيه بغيابكم، بل لا أعمل شيئا من ذلك «حَتَّى تَشْهَدُونِ» ٣٢ بكسر النون أصله تشهدونني، فحذفت النون
323
الأولى للنصب وحذفت الياء لدلالة الكسرة عليها. وقرأ يعقوب بإثبات الياء وقفا ووصلا، وقراءتها بفتح النون لحن وخطا، لأن النون تفتح في موضع الرفع لا النصب، أي حتى تشيروا علي وتشهدوا علي حتى لا ألام فيما بعد، لأن الاعتداد بالرأي من الجهل والأنفة، وفي هذه الآية دلالة على استحباب المشاورة والمعاونة بآراء الغير في الأمور المهمة، لان في تبادل الآراء واحتكاكها تظهر الحقيقة، كما تظهر النار باحتكاك الزناد بالحصى. ولهذا البحث صلة في الآية ٣٨ من سورة الشورى في ج ٢ وفي الآية ١٥٩ من آل عمران في ج ٣، «قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ» في الأجساد وآلات الحرب «وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ» بالقتال فنصبر على جهده ونصدق عند اللقاء ولا نكلم إلا بالصدور، وها نحن أولاء متهيئون لأمرك في الحرب والسلم، وهذا شأن الرعية مع الملك إذ ما عليهم إلا الطاعة «وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ» في قتال هذا الملك وعدمه لأنك أنت صاحبة الرأي الصائب فيما يتعلق بملك ورعيتك الذين نحن من جملتهم «فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ» ٣٣ به نطيعه وننفذه، ولما فهمت من كلامهم أنهم ميالون للحرب جنحت إلى الصلح وبيّنت خطأهم في استعجالهم للقاء العدو بما قصه الله تعالى بقوله «قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها» قتلا وسبيا ونهبا لرجالها وأموالها وتخريبا لبنائها وصنائعها ومعاملها مهما كانت «وَجَعَلُوا» فضلا عن ذلك «أَعِزَّةَ أَهْلِها» من ملوك وأمراء ووزراء وعظماء ووجهاء وعلماء «أَذِلَّةً» لإيقاع الهوان بهم من كل وجه لئلا يثوروا عليها، لأنهم لا يرضون بالتخلي عن ملكهم إلا قسرا «وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ» ٣٤ في كل بلدة يفتحونها عنوة وقهرا، بسبب الانكسار والاندحار، وهذه هي عادتهم بأخذ البلاد حربا [صدقت رحمها الله لأنا قد شاهدنا من الافرنسيين ما شاهدنا وهم لم يدخلوا بلادنا حربا فنسأل الله أن ينجينا منهم ومن غيرهم].
مطلب فراسة الملك وهدية بلقيس لسليمان:
ثم قالت لهم إني لا أريد أن أزعجكم في الحرب، ولو أن قوتكم وعددكم كما ذكرتم خوفا من سوء عاقبة الحرب، لأن الكاسب فيها خسران، فكيف بالخاسر؟
وأني عليمة بها فاتركوني لأرى لكم رأيا غير هذا، فأصغوا لكلامها لأنها من بيت
324
الملك وتعرف عادة الملوك وعواقب الحروب، وقد عرضت لقومها بذلك، لأنها لا تعرف العاقبة إذا خاضت الحرب مع سليمان قبل أن تقف على ما عند سليمان من عدد وعدد، فأخذت الأمر بالسياسة وأحد طرفيها الهدية لانها باطنها خدعة وظاهرها مودة، والحرب خدعة ونتيجة مجهولة من أن يكون الغلب لها أو عليها فقالت «وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ» جمعت الضمير تعظيما وتبجيلا لذلك الملك المهدى إليه، لأنها أحست بعظمة وجلالة قدره من كنايه وحامله «بِهَدِيَّةٍ» عظيمة اصانعهم بها على سلامة ملككم وبقاء مجدكم وعزتكم وصيانة دمائكم، فأختبره بها أملك هو أم نبي، فإن كان ملكا قبل الهدية ورجع عن رأية وإلا حاربناه، وإن كان نبيا لم يقبل الهدية ولم يرض منا إلا باتباع دينه ولا قدرة لنا على حرب الأنبياء، لأنهم يعتمدون على الله لا على قوتهم، والله لا غالب له، قالت هذا وهي مجوسية لا تدين بدين تصديقا لقوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) الآية ٣٨ من سورة الزمر، وقال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) الآية ٨١ من الزخرف في ج ٢، «فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ» ٣٥ بقبولها أم ردها، ولنا بعد ذلك نظر نجتمع إليه ثانيا ونتداوله. وحذفت الألف من (بم) على أنها للاستفهام أي بأي شيء، ويجوز أن تكون بمعنى الذي، يرجع به المرسلون. وكانت لبيبة بمخاطبتهم لأنها عاقلة حنكتها التجاريب، وقد ساست الملك والملوك وعرفت دواخلهم واحتكت بالعظماء وخبرت بواطنهم وموقع الهدايا منهم ولأنها تأخذ بالقلوب وتزيل ما فيها فتحيل الحرب إلى السلم، وتجنح إلى الصلح قال صلّى الله عليه وسلم الهدية تذهب سخيمة القلب. وقال تهادوا وتحابوا. ثم كتبت كتابا الى سليمان عليه السّلام بينت فيه الهدية، وهي على ما قالوا خمسمائة غلام بثياب جواري وحليهن على خمسمائة فرس مغشاة بالديباج، ولجومها وأسرجتها مرصعة بالذهب والجواهر، وخمسمائة جارية على خمسمائة رمكة بثياب غلمان، وألف لبنة من ذهب، ومثلها من الفضة، وتاج مكلل بالدر والياقوت، وحق فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب، وأرسلتها مع رسلها، وأمرت عليهم من قومها المنذر بن عمرو، وقالت له أنظر إليه حينما يستلم الهدية، فإن نظر إليك بغضب فلا يهولنّك، لأنه
325
ملك ولسنا بسائلين عنه، وإن ببشاشة ولطف فتواضع إليه، فإنه نبي، وذكرت في الكتاب إن كنت نبيا ميز بين الوصائف والوصفاء، وأخبر بما في الحق (وقالت لرأس الوفد إذا عرف ما فيه قل أمرت بأن أطلب منك أن تثقب الدرة وأن تسلك في الخرزة خيطا) وزودتهم بالنصائح وسيرتهم، وكان الهدهد يسمع كل هذا وعند ما سار الوفد بالهدايا طار من وكره، وأخبر سليمان الخبر كله، فأمر سليمان الجن فضربوا لبن الذهب والفضة، وفرشوها في ميدان واسع متصلا بعرشه بطول سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه ذهب أو فضة، وأمر بربط أحسن الدواب البرية والبحرية عن يمين الميدان ويساره، وأمر بإحضار أولاد الجن، فأقامهم عن اليمين واليسار، ثم قعد على سريره والكرسي من جانبه وصف الإنس والجن والوحش والهوام صفوفا بين يديه، محياطين بعضهم ببعض، وأمر بالطيور فصفت بالسماء ونشرت أجنحتها على المعسكر كله، فلما دنا القوم ورأوا الدواب تروث على الذهب والفضة، رموا بما معهم من اللبن، وقيل إنه ترك من فراش الميدان بقدر ما عندهم من اللبن، فلما جاؤا وضعوا ما عندهم بالمحلات الناقصة خوفا من أن يتهموا بأخذه وهو قيل لا مستند ينقضه قولهم الآتي بتسليم الهدايا ثم تقدموا إليه وأدوا له التحية له التحية وسلموه الكتاب والهدايا، ووقفوا بين يديه وقد هالهم ما رأوا من ذلك المشهد العظيم، فأخذ ما عندهم وفض الكتاب، ونظر إليهم بطلاقة وجه وابتسام، فقال لهم أين الحق، فأعطوه إياه، فقال لهم إن فيه درة غير مثقوبة وخرزة معوجة، قالوا صدقت، ففتحه ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة بفمها ودخلت في الدرة حتى نفذت منها، وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها وسلكته في الجزعة، ولأجل أن يعرفهم الغلمان من الجواري أمر بإحضار قسم منهما، وأحضر الماء
فأمرهم أن يغسلوا وجوههم، فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها وتضرب به الأخرى وتغسل وجهها، والغلام يأخذ الماء بيديه ويغسل وجهه، فأخبرهم بأن المرتدين ألبسة الغلمان هم الجواري، والمرتدين ألبسة الجواري هم الغلمان، ثم رد الهدية وأمر الرسل بإيصالها، قال تعالى «فَلَمَّا جاءَ» رسل بلقيس «سُلَيْمانَ» بهديتها كتب إليها ما قاله الله تعالى «قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ» نكره على عظمه
326
تحقيرا لمادته عنده، لأنه لا يعد ملكه مع عظمته شيئا، ثقة بما له عند الله من الكرامة، وقال «فَما آتانِيَ اللَّهُ» من النبوة والحكم والحكمة والرسالة والملك الذي لا نظير له «خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ» من الملك والمال والجند لأني لا أفاخر ولا أكاثر في حطام الدنيا، ولا أفرح بما أوتيت منها «بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ» ٣٦ ولذلك رددتها إليكم مع عظمها، لتعلموا أن الدنيا بما فيها ليست عندي ببلاغ، كما أنها لا تساوي عند إلهي جناح بعوضة، وان ربي أعطاني منها ما لم يعطه أحدا قبلي ويوشك أن لا يعطيه أحدا بعدي وكل ذلك لا يزن عندي مثقال ذرة لأن همّي وهمتي منصرفان إلى الاخرة ولا أفرح إلا بما يقربني من ربي وأنت أيها الوافد على رأس الذين حملوا هذه الهدية «ارْجِعْ إِلَيْهِمْ» إلى ملكتك ووزرائها بهديتهم هذه، وأخبرهم بما سمعت ورأيت، وقل لهم ان لم يؤمنوا بالله ويستسلموا له «فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها» ولا طاقة لهم عليها «وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها» من بلدة مأرب وما حولها من البلاد التي يقطنها جيل سبأ «أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ» ٣٧ مهانون محقرون، قالوا فلما رجع رسلها حائرين بما رأوا وما سمعوا ووصلوا إليها، أخبروها الخبر كله، قالت والله لقد عرفت ما هو بملك وأنه لنبي ولا طاقة لنا به، ثم أجمعت أمرها وكتبت إلى سليمان أني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك، وما الذي تدعوا إليه من الدين. ثم أغلقت على عرشها الأبواب ووكلت به الحرس وأوصتهم بمناظرته، وان لا يخلص إليه أحد، أو يقرب منه، ثم سارت في اثنى عشر ألف قيل من ملوك اليمن، تحت كل قيل ألوف كثيرة، قال ابن عباس كان سليمان عليه السّلام مهيبا لا يبتدىء بشيء حتى يكون هو السائل عنه فجلس يوما على سريره فسمع وهجا، قال ما هذا، قالوا بلقيس نزلت على مسيرة فرسخ منا مطلب جلب عرش بلقيس وإيمانها بالله فأقبل على جنوده وأشراف قومه «قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» ٣٨ وكان غرضه من ذلك أن يريها قدرة الله تعالى معجزة له على نبوته «قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ
327
مِنْ مَقامِكَ»
مجلس قضائك بين الناس، وهو من الصبح إلى الظهر، إذ يتصدر فيه لقضاء حاجات الناس من أحكام وغيرها، ثم أكد مقعده وهو على ما قالوا مارد قوي يدعى صخرا يضع قدمه عند منتهى طرفه وكان بعظم الجبل «وَإِنِّي عَلَيْهِ» على الإتيان به وحمله من موضعه إلى هنا «لَقَوِيٌّ أَمِينٌ» ٣٩ على ما فيه قال سليمان لملئه: أريد أسرع من ذلك لأن القوم أظلونا وأريد أن يروه أمامهم عندي «قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ» قالوا هو آصف بن برخيا ابن خالة سليمان ووزيره ومعلمه وكاتبه، وكان يقرأ الكتب الإلهية القديمة ويحفظ اسم الله الأعظم «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» قال سليمان هات، قال أنت بن النبي وليس أحد عند الله أوجه منك، فإن دعوت الله كان عندك، قالوا فخر ساجدا لله تعالى ودعاه بما ألهمه من أسمائه، فجيء بالعرش في الوقت، قال ابن عباس: إن آصف قال لسليمان حين صلى: مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك، فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمن، ودعا آصف فبعث الله الملائكة فحملوا السرير يجرون به تحت الأرض حتى نبع من بين يدي سليمان وقيل أن الله تعالى يعدم جميع الأشياء ويوجدها في كل لحظة، وهكذا إلى انتهاء الدوران بالاستناد لقوله جل قوله (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) الآية ١٥ من سورة ق المارة، وانه أعدم هناك وأوجد أمام سليمان في تلك اللحظة، وكان الدعاء الذي دعا به آصف على ما روى عن عائشة هو: يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وعلى ما رواه الزهري هو: يا إلهنا وإله كل شيء لا إله إلا أنت
، ائتني بعرشها «فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ» بعد أن رفع رأسه من السجود خرّ ساجدا لله تعالى شكرا على ذلك «قالَ هذا» الفضل الجليل «مِنْ فَضْلِ رَبِّي» العظيم «لِيَبْلُوَنِي» يمنحني ويختبرني «أَأَشْكُرُ» نعمه المترادفة علي «أَمْ أَكْفُرُ» بها وأجحدها «وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ» يعود نفع شكره إليها إذ به دوام النعم، وهو قيد للنعمة الحاضرة وصيد للنعمة المستقبلة، «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ» عن شكره «كَرِيمٌ» ٤٠ بالتفضل عليه لأنه يمهل عبده ولا يعجله بالعقوبة ويكون مسببا لسلبها منه إن لم يشكره عليها، وهذا
328
مما يستعظم ويتردد فيه عقل من لا يعرف عظمة الله، على أن الذي يصدق بظهور (التلفزيون) وهو المدياع الذي يرى صورة المذيع وليس صوته وهو في فعل بعض خلقه، يجدر به ان يصدق بهذا ولا يتردد فيه، لأنه من فعل ربه الذي لا يعجزه شيء، وهو الذي يقدر عباده على أشياء لم يقبلها العقل مما ظهر في القرن العشرين هذا، من البواخر والطائرات كالقلاع والصواريخ والمذياع (الراديو) ومعامل الكهرباء مما يحار فيها العقل ولا يكاد يصدقها لولا وجودها، وما ندري ما سيظهر لنا بعد من عجائب مكوناته حتى يتبين للكافر أنه الإله الحق الذي لا رب غيره الموجد لكل شيء، راجع الآية ٥٣ من سورة فصلت في ج ٢، فلما أقبلت بلقيس بدبدبها وكبكبها وقبقبها
«قالَ» سليمان لخاصته «نَكِّرُوا لَها عَرْشَها» أي افعلوا به شيئا تنكره من تغيير وتبديل فيه، فوضعوا الدر الأحمر مكان الأصفر، وجعلوا ما في مقدمه في مؤخره وبالعكس، وما بأعلاه أسفله وبالعكس، وعرضوا ما فعلوه به على سليمان، فأعجبه، وقال نعرضه عليها «نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي» لمعرفته فنستدل بذلك على هدايتها «أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ» ٤١ لمعرفته ولا للجواب اللائق بذلك «فَلَمَّا جاءَتْ» وتمثلت بين يدي سليمان واستقر بها المكان أطلعها المرافقون لها من قوم سليمان بأمره على المتاحف ومن جملتها عرشها، إذ وضع بالمتحف «قِيلَ» لها من قبل المرافقين «أَهكَذا عَرْشُكِ» الذي تركتيه في بلادك الذي أخبرنا عنه الهدهد؟ ولم يقولوا أهذا عرشك؟ لئلا يكون تلقينا لها فيفوت الأمر المقصود من تنكيره، فنظرت إليه وتأملته جيّدا ثم «قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ» لم تقل نعم هو، خوفا من الكذب لأنها تركته محصنا بالأقفال محروسا من عظائم الرجال، وتقدمته بالمجيء ولم تقل لا، خوفا من التكذيب، لأنها عرفته هو هو، وان ما أوقع فيه من التغيير لم يبدل هيئته بالجملة، وكان سليمان قريبا من المرافقين لها يسمع كلامها، فاستدل به على كمال عقلها وحكمتها ورجاحتها وتؤدتها من جوابها الحسن، وعدم إظهار ابتهاجها بما رأت، فقال لها سليمان عليه السّلام انه هو بعينه، وان إغلاق الأبواب عليه، وإحاطته بالحرس لم يحولوا دون قدرة الله بجلبه معجزة لي، وطلبا لإسلامك لله
329
لله وإيمانك به وتصديقك نبوتي، قالت بلقيس: يا نبي الله نحن عرفناك نبيا «وَأُوتِينَا الْعِلْمَ» بكمال قدرة ربك وصحة نبوتك «مِنْ قَبْلِها» من قبل هذه المعجزة بما شاهدناه من أمر الهدهد، وما سمعناه من رسلنا إليك من الآيات الدالة على رسالتك لهداية الخلق «وَكُنَّا مُسْلِمِينَ» ٤٢ لك مؤمنين بربك، مصدقين نبوتك من ذلك الوقت، والا لما جئنا منقادين خاضعين طائعين لأمرك مخبتين لربك لكان لنا معك موقف غير هذا، ولرأيت منا العجائب، وان هذه الجيوش التي جئتك بها نزر يسير من شيء كثير، والهدية شيء حقير من شيء عظيم لا تذكر ولكان الكلام كلاما والهدية زؤاما، فبش سليمان من قولها هذا على ما هو عليه من التعريض بقوتها وغناها وكثرتها، لأنه أنتج هدايتها للاسلام «وَصَدَّها» عن «ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وهو التمس بدعوته لها، وحال بينها وبين عبادتها لها «إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ» ٤٣ خارجين عن طاعة الله راسخين في الكفر عريقين به متجاوزين حدود الله، لأنها نشأت بين قوم يعبدون الشمس، ولم تعرف غير عبادتهم لها، وهذه الجملة تعليل لسبب عبادتها ثم تقدمها سليمان وجلس على سريره وأمر بإدخالها عليه بعد أن أجريت لها مراسيم الاستقبال والاستطلاع على بعض ما خول الله به عبده سليمان عليه السّلام، فجاءت محفوفة بالإكرام والتبجيلِ يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ»
صحن الدار الذي يمر به إلى سرير سليمان، وكان معمولا من الزجاج يجري فيه الماء وفيه أنواع من دواب البحرَلَمَّا رَأَتْهُ»
واقعا بين السرير ومدخل القصر ولا بد لها من أن تجوزه لتصل إلى سرير سليمانَ سِبَتْهُ لُجَّةً»
من الماء العميق وإنما عمل لها هذا ليختبرها، كما عملت هي بالغلمان والجواري والدرة لتختبره، إلا أنه لما كان عمل الصرح محكما جدا، إذ كان الماء جاريا في الزجاج على قدره، بحيث لم يترك في المجرى خلاء ما ولذلك ظنته جاريا بنفسه دون زجاج، والا لعرفته، وقيل ان الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي اليه أسرار الجن، لأن أمها منهم، فإذا أخذها وولدت له لا ينفكون عن خدمته وذريته من بعده، فقالوا له إن في عقلها شيئا وان رجليها كحافر الحمار، وهي شعراء الساقين، وإنه لما اختبر عقلها وأعجبته أراد أن يختبر بقية أوصافها التي
330
ذكروها له عند ما تخوض الصرح، وبالفعل أرادت ذلكَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها»
قالوا فرآها كأحسن النساء قدما وساقا الا أنها شعراء الساقين، ثم صرف بصره عنها والَ»
لهاِنَّهُ)
أي ماترين من الماء هوَرْحٌ مُمَرَّدٌ»
مملس مستو معمولِ نْ قَوارِيرَ»
زجاج- جمع قارورة- فلما عاينت هذا الأمر العظيم الَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي»
قبلا بعبادة الشمس، والآن بكشف ساقي أمام سليمان بعد أن أخلصت له التوحيد، َ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»
٤٤ الى هنا انتهت هذه القصة.
مطلب جواز النظر الى المخطوبة والحكم الشرعي فيه:
يستفاد من هذه الآية جواز النظر الى المخطوبة بوسيلة ما، لا أن تعرض نفسها على الخاطب أو يعرضها وليها عليه كالسلعة عند البيع والشراء، ويتركها تعاشره، أو تسافر معه أو يختلي بها مثل بعض أهل الكتاب مما يخالف أهل المروءة والشهامة الحكم الشرعي جواز النظر الى المخطوبة لوجهها لمعرفة محاسنها وليديها لمعرفة صحتها فقط، ولا يجوز ان ينظر لغير ذلك، ويحرم ان يختلي بها البتة، أو يخالطها في سفر أو حضر، لأن الشريعة الإسلامية جعلت هذا كله محظورا وان أمر الرسول برؤية المخطوبة لا يفهم منه ما يقوله بعض الجهلة بأمر الدين الذين لا يعرفون ماهية الغيرة الإسلامية والأنفة العربية من المعاشرة معها والسير معها الى النزهة وغيرها، كلا بل المراد أن يترصد الخاطب الجازم للخطبة، لرؤية من يريد خطبتها من كوة أو مرور أو استطلاع حتى يكون على بصيرة منها، فإن أعجبته عقد عليها برغبة كاملة والا انسحب بمعروف دون أن يتكلم بشيء ما عنها، وان سليمان عليه السّلام إذا صح أنه كان مصمما على زواجه بها وقد قيل له فيها ما فيها، جاز له أن يختبرها بذلك تأديا واحتراما، لأن الأنبياء لم يخاطبوا أقوامهم الا بما يدل على مراعاة الأدب الكامل، ولا يقابلون أحدا بما يكره، أنظر مخاطبة ابراهيم عليه السّلام لأبيه في الآية ٤٢ فما بعدها من سورة مريم ومخاطبة موسى لفرعون في الآية ٤٣ فما بعدها من سورة طه المارتين، وكذلك مخاطبة نوح وهود وصالح وشعيب أقوامهم في سورة هود الآية ٢٥ فما بعدها في ج ٢ وفي غيرها من السور
331
المارة، ومن آدب ممن يعلمون الناس الأدب الذي تلقوه من رب الأرباب والا كان بوسعه ان يكلفها إراءة رجليها لمن يريد أن تراها عنه، على أن قضية زواجها به لم تثبت بالقرآن إذ انتهت قصتها بإسلامها فقط، ولا يوجد حديث صحيح بذلك، أما الأخباريون فقد ذكروا أنه تزوجها، وان الشياطين عملوا له النورة والحمام لإزالة شعر ساقيها، ولم تعرف النورة ولا الحمام قبل ذلك، وانها ولدت له ولدا، وكان يزورها في محلها كل شهر ثلاثة ايام، إذ أقرها على ملكها في مأرب وتوابعها، وبنى لها ثلاثة قصور حصينة سماها سلمين ويلبسون وعمران، لم ير الرائي ارتفاعها وحسنها وزخرفتها، وقيل انه زوجها ذا تبع ملك همدان وأمر زوبعة ملك الجن بأن يعمل لذي تبع ما يأمره به، ويفي الأمر كذلك حتى مر سنة على موت سليمان عليه السّلام، كما سيأتي بيانه في الآية ١٣ من سورة سبأ في ج ٢، والحكمة في إخفاء موته عليه السّلام هذه المدة ليظهر الناس كذب الجن بادعائهم علم الغيب، إذ لو علموا بموته ما داموا على أعمالهم الشاقة التي كان يكلفهم بها، قالوا ثم نادى مناد ان سليمان قد مات، وانقضى ملكه وملك ذي تبع وملك بلقيس وبقي لصاحبه الواحد القهار، وجاء في تفسير الخازن بأنه قد ولي الملك عليه السّلام وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين، فتكون مدة حكمه أربعين سنة، راجع الآية ١٦ المارة تجد خلافه والله أعلم. قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً» فقال لهم «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ» وحده ودعوا ما يعبد آباؤكم من الأوثان «فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ» مؤمن وكافر «يَخْتَصِمُونَ» ٤٥ فيما بينهم كل يرى نفسه محقا في دعواه، وهنا أطلق الجمع على ما فوق الواحد صراحة، وقال من لا يجيزه إن جمع ضمير يختصمون مع أنه يعود إلى اثنين، لأنه في الأصل يعود إلى مجموع الفريقين، ونظير هذه الآية ٧٨ من الأنبياء في ج ٢، وهي (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) مع أن الضمير يعود لداود وسليمان فقط ومن أراد غير هذا قال ان الضمير يعود للحاكمين والمحكومين معا، وهناك آية أخرى أيضا بيناها في تفسير هذه الآية هناك فراجعها، وعلى الأولى فيه اشارة على أن الاثنتين جمع وعليه المناطقة والألسنة الأجنبية «قالَ» للكافرين منهم «يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ
332
بِالسَّيِّئَةِ»
وهي طلب إنزال العذاب الذي توعدهم به بنيتهم ان لم يؤمنوا به وهو قولهم في الآية ٧٦ من سورة الأعراف «يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا» به من السيئة «قَبْلَ الْحَسَنَةِ» التوبة التي أرجوها منكم عما سلف من كفركم «لَوْلا» هلا «تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ» من عبادة الأوثان وترجعون الى عبادة الرحمن وتعملون صالحا «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» ٤٦ بالنجاة من العذاب في الدنيا وبالفوز بنعيم الآخرة
«قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ» من الذين آمنوا بك، إذ أمسك عنا القطر وأجدبت الأرض وهلك المال فأصابنا الضر والبلاء منذ طفقت تدعونا الى دينك «قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ» بسبب كفركم به وما أصابكم من الشؤم مقدر عليكم ومقسوم لكم بأزله «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ» ٤٧ تختبرون وتمتحنون بتعاقب الخير والشر ليرى الناس أترجعون اليه فيكشف عنكم ذلك، أو تصرون على الكفر فيزيدكم عذابا في الدنيا والآخرة «وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ» من أبناء أشرافها كلهم «يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» فيعملون المنكرات كلها «وَلا يُصْلِحُونَ» ٤٨ أنفسهم ولا غيرهم أبدا دأبهم السعي في الإفساد والإعراض عن الإصلاح، وقد طبعوا على هذا «قالُوا» هؤلاء التسعة الغواة الذين اتفقوا على عقر النّاقة ورأسهم قدار بن سالف المتقدم ذكره مع القصة في الآية ٧٢ من الأعراف المارة، أي تذاكروا بينهم في تدبير الحيلة التي أرادوا بها عقر الناقة «تَقاسَمُوا بِاللَّهِ» تحالفوا كلهم على انها «لَنُبَيِّتَنَّهُ» يريدون صالحا بأن يأتوه ليلا فيقتلوه «وَأَهْلَهُ» معه زوجته وولده «ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ» إذا سئلنا عنه بعد القتل «ما شَهِدْنا» ما حضرنا «مَهْلِكَ أَهْلِهِ» محل وزمن إهلاكهم، أي إذا قال لنا ولي دمه ورئيس عاقلته من قتله؟ نقول ما حضرنا قتله ولا قتل أهله.
مطلب التحاشي عن الكذب:
هذا وقد اختاروا نفي شهود مهلك أهله على نفي قتلهم له، قصدا للمبالغة بالإنكار، أي كأنهم قالوا ما شهدنا ذلك فضلا عن أن نتولى قتلهم ويعلم من ذلك نفي إهلاكهم من قبلهم، لأن من لم يقتل اتباعه كيف يقتله هو، وهو الأصل، وقرىء بضم الميم وفتح اللام من أهلك وبفتحها أيضا، والقراءة التي عليها المصاحف بفتح الميم وكسر اللام، ويجوز على هذه أن يكون مصدرا كمرجع ويكون
333
المعنى ما شهدنا إهلاكهم، وان اسم مكان أي مكان إهلاكهم أو اسم زمان أي زمانه «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» ٤٩ في قولنا هذا، وهو كقول أولاد يعقوب لأبيهم (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) الآية ٨٧ من سورته في ج ٢ وأرادوا بهذه الحيلة التمويه لأن حضور الأمر غير مباشرته عرفا، فلا يقال لمن قتل رجلا انه حضر قتله، وان كان الحضور لازما للمباشرة، فهؤلاء القوم الذين كانوا لا يعابون بما هم عليه من الكفر وسوء السيرة قد درأوا عن أنفسهم الكذب الذي هو عار في كل زمان ومكان ودين، وصموا ان يحلفوا على المعنى العرفي بحسب العادة في الإيمان، ليوهموا الخصم أنهم أرادوا معناه اللغوي، فيكونوا صادقين بزعمهم، لئلا يصموهم بالكذب، والآن والعياذ بالله تجد الكذب فاشيا عند الكبير والصغير مع أنه محرم دينا ومكروه مروءة ومذموم طبعا وقد ذم الله تعالى الكاذب في آيات متعددة من القرآن وقال صلّى الله عليه وسلم المسلم لا يكذب وقال الكذب مجانب للايمان راجع الآية ١٠٥ من سورة النحل في ج ٢ اللهم أصلح عبادك ووفقهم للسداد «وَمَكَرُوا مَكْراً» قالوا على قتله ودبروا الكيد والغدر وذهبوا اليه شاهرين سلاحهم لينفذوا ما صموا عليه فرد الله كيدهم في نحرهم وأخزاهم «وَمَكَرْنا مَكْراً» عظيما لا تتصوره عقولهم بان عجلنا لهم العقوبة فأهلكناهم جميعا بالحجارة وحرسنا نبينا صالحا بالملائكة فصاروا يرون الحجارة تأتيهم من حيث لا يرون راميها «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ٥٠ بشيء من تدبيرنا هذا، قالوا ان صالحا كان يصلي في مسجد الحجر، وكان توعدهم بأن يفرغ الله من عذابهم حتى ثلاثة ايام، فقال هؤلاء التسعة نذهب اليه ونقتله في مسجده قبلها ثم نذهب الى أهله فنقتلهم أيضا قبل اليوم الثالث، فخرجوا الى الشعب الذي فيه مسجده، فبعث الله عليهم صخرة من الهضب حيالهم بعد رجمهم، فطبقت عليهم فم الشعب، فلم يدر قومهم أين هم، ولم يدروا ما فعل الله بهم وهم لم يعلموا ما فعل الله بقومهم وعذب الله كلا منهم في مكانه، وحمى صالحا ومن معه
«فَانْظُرْ» يا سيد الرسل وأخبر قومك «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ» على نبينا «أَنَّا دَمَّرْناهُمْ» التسعة المذكورين «وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ» ٥١ لم يقلت
334
منهم إلا من آمن بصالح «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ» يرونها قومك حين ذهابهم إلى الشام وإيابهم منها بشاهدونها «خاوِيَةً» ساقطة متهدمة بعضها على بعض، خالية من السكان، لأنها لم تسكن بعدهم تشاؤما مما وقع على أهلها المهلكين «بِما ظَلَمُوا» أنفسهم وغيرهم لا لأمر آخر «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإهلاك على الصورة المذكورة «لَآيَةً» عظيمة وعظة ناطقة «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ٥٢ قدرة الله فيخشونها ويعتبرون بمن قبلهم فيؤمنون «وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا» مع صالح بمقتضى وعدنا له «وَكانُوا يَتَّقُونَ» ٥٣ الله ولذلك حماهم مما أصاب قومهم، وفي هذه القصة إشارة إلى أن قريشا سيمكرون بمحمد ويتحالفون عليه، وأن الله تعالى ينجيه منهم ويهلكهم، وكان في ذلك كما سيأتي في الآية ٢٦ من سورة العنكبوت في ج ٢، قال تعالى «وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ» إتيان الذكر سماها فاحشة لزيادة قبحها في قانونه الإلهي، وسماها القانون المدني بالفعل الشنيع، وهو اسم وفق المسمى بالقبيح والرذيلة والوقاحة «وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» ٥٤ بعضكم يفعل ببعض وهذا في غاية الشناعة، أي كيف تفعلون هذا ولا تستترون ولا ينهى بعضكم بعضا ولا تكفون عنه «أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ» أيها السفهاء والخاطئون «شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ» مع أن الله تعالى خلق الأنثى للذكر ولم يخلق الذكر للذكر ولا الأنثى للأنثى، فعملكم هذا مضاد لحكمة الله «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» ٥٥ عاقبة أمركم ووخامة مصيركم «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ» تجاه نصحه هذا ووعظه وإرشاده «إِلَّا أَنْ قالُوا» أولئك الجهلة السفهة «أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» ٥٦ عن عملنا ويتنزهون من فعلنا ويستقذرون إتيان الرجال، وهذا مما يغيظنا وقد حق عليهم العذاب بقولهم هذا «فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ» لرضاها بفعلهم وعدم إنكارها عليهم لذلك «قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ» ٥٧ الباقين معهم بالعذاب «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً» يا له من مطر سوء حجارة مترادفة «فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» ٥٨ تقدمت القصة مفصلة في الآية ٨٨ من الأعراف المارة، فيا أكرم الرسل «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» واسأله العافية لك ولأمتك مما حلّ بهم
335
«وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى» من اخوانك المرسلين واتباعهم وقل أنت ومن آمن معك «آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ» ٥٩ به ممن لم يؤمن من قومك، فقولوا لا بل الله خير وأعلى وأعز، وهذا استفهام انكار لا يجاب الا بالنفي، وهو تبكيت للمشركين والزام الحجة عليهم، لأن الله تعالى لا شكّ خير لمن عبده وأنس به والأصنام شر لمن ركن إليها وعبدها لأنها لا تغني شيئا وتكون عليهم حجة يوم القيمة ثم ذكر الله جل ذكره من دلائل قدرته وبراهين وحدانيته وأمارات عظمته أنواعا فقال (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) بساتين محاطة «ذاتَ بَهْجَةٍ» حسنة المرأى بديعة المنظر «ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها» أي لا يمكنكم إنباته، وان مباشرتكم زرعه لا يقتضي الإنبات، فلو شاء الله لم ينبته، فالمنبت الحقيقي هو الله الذي يسقيها بماء واحد فتثمر صنافا متنوعة مختلفة باللون والطعم والرائحة والشكل، وهو الذي قدركم على زرعه راجع الآية ٦٣ من سورة الواقعة المارة فانظروا أيها الناس «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ» فعل ذلك أو أعانه عليه كلا ثم كلا «بَلْ هُمْ» قومك المعاندون «قَوْمٌ يَعْدِلُونَ» ٦٠ عن الحق إلى الباطل ويسارون الأصنام بالملك العلام، ويقولون نزرع ونحصد ونسقي، لو شاء الله لما أقدرهم على شيء من ذلك أصلا،
قال تعالى «أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً» لكم أيها الناس تستقرون عليها ليل نهار ولا نحسون بأنها عائمة «وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً» جارية عذبة وملحة ومرّة وباهتة وحريفة وحامضة، وأودع بعضها معادن وحيوانات متنوعة وحليّا مختلفا باللون والقيمة «وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ» جبالا عظيمة تثقلها كي لا تضرب فتنعدم راحتكم عليها «وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً» حصينا لئلا يختلط الملح بالعذب، فتنعدم المنفعة المقصودة منهما، فتفكروا «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ» فعل شيئا من ذلك كلا «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ٦١ حقائق قدرتنا وعظمة سلطاننا وحقيقة حكمتنا، فقل لقومك هل الذي يعبدونه خير أم هذا الإله الفعال لكل شيء من نفع وخسر وخير وشر ومنع وإعطاء وعز وذل وغنى وفقر واحياء وإماتة، فالإله القادر على هذه الأشياء
336
وغيرها هو المستحق للعبادة لا أصنامكم «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ» فيجيب دعاءه ويفرج ضيقه «وَيَكْشِفُ السُّوءَ» عن المضرور والمجهود والمكروب والملهوف فيغير حاله من المرض إلى الصحة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن العسر إلى اليسر، ومن الذل إلى العزة «وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ» تسكنونها وتنصرفون بها، فمنكم الملك والأمير والمتسلط والتابع، وقد أورثكم إياها عمن كان قبلكم من الأقوام الهالكين بسبب كفرهم نعم الله «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ» يفعل لكم شيئا من ذلك، كلا ولكنكم «قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» ٦٢ بآلاء الله الذي يسديها لكم وهي جديرة بالذكرى، فقل با أكرم الرسل لقومك أآلهتكم خير أم هذا الإله القادر على كل شيء «أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» إلى الحال التي تقصدونها؟ ألإله الذي جعل النجوم والمجرة في السماء والجبال والأنهار في الأرض علامة تسترشدون بها ليل نهار إلى مقاصدكم في أسفاركم، أم أوثانكم العاطلة الجامدة «وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» أي أمام المطر مبشرا بقرب نزوله «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ»
يقدر على شيء من ذلك فيفعله لكم كلا «تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» ٦٣ به علوا كبيرا «أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ» من النطفة إلى أن يكمله خلفا سويا وبعد استكمال أجله في الدنيا يميته «ثُمَّ يُعِيدُهُ» بعد الموت حيا كما كان «وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» من مطر ونبات وحيوان «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ» يعمل شيئا من ذلك؟ كلا، لا يقدر أحد على شيء منه، وإذا لزمتهم الحجة ووقعوا في المحجة «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ» على أن ما تعبدونه يفعل شيئا واحدا مما ذكر «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ٦٤ أن آلهتكم تقدر على شيء من ذلك، أو أن مع الله إلها آخر كما يزعم البعض، وبعد أن عدد هذه الحجج الخمس الدالة على وحدانيته في الإلهية وانفراده في فعل هذه الأشياء وغيرها، وعجز من سواه عنها وعما يتعلق بالنفع والضرر وغيره، وإلزامهم السكوت بتلك البراهين القاطعة، قال المشركون أخبرنا يا محمد عن الساعة التي تهددنا بها إن لم نؤمن بك، فأنزل الله «قُلْ» يا حبيبي لهؤلاء الجهلة الذين لا يميزون بين الممكن والمحال: هذه من الغيب و «لا يَعْلَمُ
337
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ»
وحده، فكيف نعطيهم علمها وهو من خصائص الإلهية «وَما يَشْعُرُونَ» هم ولا جميع الجن والإنس والملائكة «أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» ٦٥ من قبورهم ومواقعهم مع أنه لا بدّ لهم منه، وهو من أهم الأمور عندهم لأن الله تعالى وحده تفرّد بذلك «بَلِ ادَّارَكَ» اضمحل وفني وانمحق «عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» وشأنها، فليس لهم علم بها ولا بوقت إمارتها.
وأصل ادّارك تدارك، فأبدلت التاء دالا، وأسكنت للإدغام، واجتلبت الهمزة الوصلية للابتداء، ومعناها تلاحق وتتابع، وعليه يكون المعنى انتهى علمهم في لحوق الآخرة فجهلوها، وتابع علمهم فيها ما جهلوه في الدنيا. وقيل معنى ادّارك تكامل من أدركت الفاكهة إذا تكامل نضجها، وعليه يكون المعنى إن أسباب استحكام العلم بأن القيامة كائنة قد حصل لهم في الدنيا، ومكنوا من معرفته، إلا أنه لا علم عندهم من أمرها، فقد تتابع علمهم حتى انقطع، وهذا بيان لجهلهم بوقت البعث، وأرى أن الأول أولى لموافقته للسياق، ولقوله تعالى «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها» بعد أن بلغ علمهم بها وتكاملت أسبابه بحصولها ووجودها «بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» ٦٦ جمع عم وهو أعمى القلب، ويقال له أعمه كما يقال لأعمى البصر أعمى، وقد كرر الإضراب ببل ثلاثا لشدة جهلهم، إذ وصفهم أولا بعدم الشعور بوقت البعث، ثم بعدم العلم يكون القيامة، ثم بالخبط بالشك وعدم إزالته مع قدرتهم عليها بالإيمان والإيقان حتى صاروا لأسوأ حال، وهو وقوعهم بالحيرة بسبب عمه قلوبهم الناشئ عن كفرهم الذي منعهم من التفكر بالعاقبة، وهو من جهلهم المركب الذي لا يزول إلا بعناية من الله، وأنى لهم منها وقد انكبوا على الدنيا بكليتهم؟ وقيل في المعنى:
سقام الحرص ليس له شفاء وداء الجهل ليس له طبيب
وقيل أيضا:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرأ يحي بالعلم ميّت وليس له حين النشور نشور
هذا، وإن قوله تعالى «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا
338
أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ»
٦٧ أحياء من القبور كما كنا، هو كالبيان لجهلهم بالآخرة وعماهم عنها لأنهم يريدون بهذا عدم التصديق بها والإصرار على جحودها ويؤيده قولهم أيضا «لَقَدْ وُعِدْنا هذا» الإخراج من القبور بعد الموت «نَحْنُ» من قبل محمد ابن عبد الله الذي هو في عصرنا «وَآباؤُنا» أيضا وعدوا من قبله «مِنْ قَبْلُ» وجودنا من قبل أنبيائهم، وإنا نقول كما قال أسلافنا «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ٦٨ وخرافاتهم يتناقلها الواحد بعد الآخر لا حقيقة لها. ونظير هذه الآية الآية ٨٤ من سورة المؤمنين في ج ٢، «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ» ٦٩ من أمثالكم وانظروا أطلال ديارهم واسمعوا بقايا أخبارهم تنبئكم عن فظاعة ما حل بهم بسبب تكذيبهم رسلهم. ثم التفت إلى حبيبه فقال «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» إذا حلّ بهم عذابي الذي لا دافع له «وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ» وحرج في صدرك مما تسمعه من التكذيب وتراه من الإعراض «مِمَّا يَمْكُرُونَ» ٧٠ ولا تهتم لما يكيدونه لك، فإني حافظك منهم ومن يعصمه الله لا يصل إليه مكر الخلق. وقرأ ابن كثير بكسر ضاد ضيق خلافا لسائر القراء، نزلت هذه الآية في المستهزئين الذين اقتسموا عقاب مكة، وأوقفوا على أبواب طرقها رجالا يقولون للداخلين والخارجين أن عندنا رجلا منا يدعى محمدا جاء بدين مخالف لدين آبائنا، وهو رجل ساحر فلا تصدقوه.
راجع الآية ٩٤ من سورة الحجر في ج ٢ والآية ٨٥ من الأعراف المارة
«وَيَقُولُونَ» هؤلاء الماكرون «مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي توعدنا به من إنزال العذاب «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ٧١ أنت وأصحابك وتهددنا به ليل نهار «قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ» دنا وقرب، لأن من أردفته خلفك فقد قربته منك أو حضر «لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» ٧٢ به، لأن تغاليكم بالكفر وتكالبكم على عبادة الأوثان يستدعيان نزول العذاب بكم «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» ومنهم أهل مكة إذ لم يعجل عقوبتهم كرامة لرسولهم، ولأن العذاب إذا حل عمّ وان في علمه من يؤمن منهم كثير، لذلك أمهلهم بفضله وكرمه «وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ» من أهل مكة شأن غيرهم لأن الأكثر دائما هو الضال والقليل المهتدي.
339
مطلب اختلاف أهل الكتابين والقليل هم الشاكرون:
قال تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) الآية ١٣ من سورة سبأ في ج ٢، وهكذا الأقل هو الشاكر والأكثر «لا يَشْكُرُونَ» ٧٣ نعم الله التي من جملتها تأخير نزول العذاب «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ»
من عداوتك وتخفيه من مناوأتك «وَما يُعْلِنُونَ» ٧٤ منها وهو يكفيك ذلك «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ» مهما كانت غامضة متغمضة في الخفاء «إِلَّا» قد علمها الله وأحاط بها من قبل وأثبتها «فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ٧٥ لمن له حق النظر فيه وهو على ظهوره فيه كل شيء مكتوم عن غير الله، وهو مصدر كل الكتب الإلهية «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ» المدون ذلك الكتاب المنزل عليك يا محمد «يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ» أهل الكتابين التوراة والإنجيل الذين يستفتونهم أهل مكة في أمرك «أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ٧٦ من أمر دينهم ودنياهم، لأنهم أنفسهم اختلفوا بعضهم مع بعض، فمنهم من يقول المسيح هو الله ومنهم من يقول ابنه، ومنهم من يقول ثالث ثلاثه، ومنهم من يقول نبي كسائر الأنبياء وهو الصحيح، ومنهم من ينسبه وحاشاه إلى الكذب في دعواه وأمه إلى ما هي براء منه وهي العذراء التقية المصونة المفضلة على نساء زمانها، وان اليهود عليهم غضب الله كذبوه وقصدوا إهانته فأنجاه الله منهم ورفعه إليه، وقالوا عزير ابن الله، وقالوا على الله بالبداء أي أنه يفعل الشيء مما يقع في كونه ثم يندم على فعله فيفعل غيره، وحاشاه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، واختلفوا في أمر النبي المبشر به في التوراة فمنهم من يقول يوشع، ومنهم من يقول عيسى، ومنهم من يقول لمّا يأت ولم يحن زمانه، ومنهم من يقول هو محمد وهو الصحيح، ولهم اختلافات في أمر دينهم ودنياهم لا تدخل تحت الحصر، وقد أنزل الله هذا القرآن على محمد بين فيه ما اختلفوا فيه بيانا كافيا شافيا مما يوجب إيمانهم لو تأملوا وأنصفوا، ولكنهم لم يفعلوا مكابرة، ولذلك كذبوه كما فعل المشركون من قومه أو قالوا فيه ساحر وكاهن وناقل ومتعلم، وأن القرآن سحر وكهانة وأساطير الأولين، فقد كذبوا، وصفه أنه كلام الله عز وجل «وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» ٧٧
340
به، وضلال وعذاب للكافرين قال تعالى: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» الآية ١٤ من سورة فصلت في ج ٢، فيا أكرم الرسل اتركهم الآن «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ» في هذه الدنيا ويوم القيامة «بِحُكْمِهِ» العدل في اختلافهم هذا وغيره من كل ما تسول لهم به أنفسهم الخبيثة «وَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب الذي لا يرد أمره ولا يعقب حكمه «الْعَلِيمُ» ٧٨ بما يفعلون وما يستوجبون، لأنه يعلم دخائلهم «فَتَوَكَّلْ» يا سيد الرسل واعتمد «عَلَى اللَّهِ» ربك وثق به وفوّض أمرك إليه «إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ» ٧٩ وهم على الباطل الظاهر، تشير هذه الآية بوجوب توكل الخلق على خالقهم في كل أمورهم، ولكنه لا يفهم منها ترك الأسباب وعدم اتخاذ الواسطة لقضاء الأمور، بل لا بأس بها وخاصة في هذا الزمن، ولكن لا يعتمد مع اتخاذ الأسباب إلا على الله وحده في قضاء حوائجه، ولا يعرف أنها قضيت إلا منه وبأمره، لأنه هو الذي يوقع في القلوب ما يريده للعبد فيعملونه قسرا من حيث لا يشعرون أنه مراد الله سواء الخير والشر، ولو شاء لحال بين تلك الأسباب ولم يوفق العبد لها، ولو لم يشأ لعجز أهل الأرض والسماء عن قضائها «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ» بدعوتك هذه «الْمَوْتى» قلوبهم «وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» ٨٠ لأنهم إذا قابلوك قد يفهمون بالإشارة والرمز أو بمكبرات الصوت، ولكنهم إذا ولوك ظهورهم امتنع إفهامهم وإسماعهم
«وَما أَنْتَ» يا حبيبي «بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ» ولا بمرشد من أعماه الله عن طريق الحق، وأعمى قلبه عن قبول الإيمان «إِنْ تُسْمِعُ» أي ما تسمع إسماعا يجدي السامع نفعا «إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» فهذا الصنف يمكنك أن تسمعه دعوتك لأنه ينتفع بها «فَهُمْ مُسْلِمُونَ» ٨١ لك منقادون لامرك، مخلصون في اتباعك، والله يعلم من يؤمن ممن لا يؤمن، فلا تذهب نفسك حسرات على من لا يقبل نصحك ولا يسمع أمرك.
مطلب خروج دابة الأرض ومحلها وعملها ووجوب الاعتقاد بها:
قال تعالى «وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ» أي عصاة أهل الأرض بأن أغضبوا الله الحليم بإصرارهم على ما هم عليه، ووجبت عليهم الحجة، واستحقوا العقاب
341
المقدر عليهم، وظهر لأهل زمانهم الأياس من إيمانهم ولم يبق لهم أمل فيهم ولا رجاء بإصلاحهم «أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ» قبل قيام الساعة، وهي آية على انتهاء الأمر، وإغلاق باب التوبة، وستعطى هذه الدابة قوة «تُكَلِّمُهُمْ» بلسان فصيح يفهمه كلهم، فتسم المؤمن بإيمانه والكافر بكفره، وتقول ما قال الله تعالى تبكيتا وتقريعا إليهم، «أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ» ٨٢ بوقوعها ولا يصدقون بمجيء الساعة والبعث بعد الموت والحساب والجزاء. روي عن عبد الله ابن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إنّ أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيّتها كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى فتجلو وجه المؤمن، وتخطم أنف الكافر بالخاتم، حتى إن أهل الحق ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن، ويقول هذا يا كافر.
- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن- وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا بأقصى اليمن، فينشو ذكرها بالبادية لا يدخل ذكرها القرية يعني مكة، ثم تمكث زمانا طويلا، ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية يعني مكة، ثم بين الناس في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله (يعني المسجد الحرام) لم يرعهم الا وهي في ناحية المسجد، تدنو، وتدنو كذا وكذا، قال عمرو ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك، فارقض الناس عنها وتثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله، فخرجت عليهم تنقض رأسها من التراب، فمرّت بهم فجلت وجوههم حتي تركتها كأنها الكواكب الدرّية، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب، حتى إن الرجل ليقوم فيعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلى فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه فيتجاور الناس في ديارهم ويصطبحون في أسفارهم، ويشتركون في الأحوال، يعرف الكافر من المؤمن، فيقال للمؤمن يا مؤمن، وللكافر يا كافر. وجاء بإسناد الثعلبي عن حذيفة بن
342
اليمان ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الدابة، قلت يا رسول الله من أين تخرج؟ قال من أعظم المساجد حرمة على الله (ولا أعظم عند الله كرما ولا أوجب حرمة ولا أكثر تبجيلا من المسجد الحرام على خلق الله كذلك ذكرنا آنفا أنه هو) فبينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون، إذ تضطرب الأرض وتنشق الصفا مما يلي المسعى، وتخرج الدابة من الصفا، أول ما يخرج منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش، لن يدركها الطالب ولن يفوتها هارب، تسم الناس مؤمنا وكافرا، فأما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري، وتكتب بين عينيه مؤمن، وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه كافر. وعن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: بئس الشعب شعب أجياد، مرتين أو ثلاثا، قيل ولم ذلك يا رسول الله؟ قال تخرج منه الدابة تصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين. وروي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم، وقال إن الدابة تسمع قرع عصاي. وجاء عن ابن عمر قال إن الدابة تخرج ليلة جمع (ليلة عرفة يقال لها ليلة جمع ويوم جمع لاجتماع الناس فيها) والناس يسيرون إلى منى وروي عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن ايّل، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا. وقال عبد الله بن عمر تمس برأسها السحاب، ورجلاها في الأرض، وقال علي كرم الله وجهه: لها لحية، ولا ذنب لها. وقال وهب: وجهها وجه رجل وسائر خلقها كالطير، والله أعلم بحقيقتها. الحكم الشرعي وجوب الاعتقاد بخروجها جزما اعتقادا لا مرية فيه، ومن أنكرها يكفر والعياذ بالله لثبوتها نصا بالقرآن العظيم وينفي تأويلها عن الظاهر الأحاديث المارة الذكر، لذلك يجب أن يعتقد أن كل تأويل يصرف حقيقتها إلى معنى آخر على طريق المجاز باطل لا يجوز الالتفات إليه. أما وقت خروجها وكيفيّتها ومكان خروجها وما تقوله وتفعله، فيجب أن يجعل علم ذلك إلى الله، لأن الأحاديث كثيرة في ذلك، وفيها ما يعارض بعضه بعضا، وقد نقلنا أصح ما جاء فيها من الأخبار وتركنا غيره.
343
مطلب مواقف القيامة وأن لا نفخة ثالثة:
قال تعالى «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً» واذكر يا محمد لقومك بعد ذكر الدابة يوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة «مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا» المنزلة على رسلنا لارشادهم «فَهُمْ يُوزَعُونَ» ٨٣ لشدة الازدحام في ذلك اليوم العظيم يحبس أولهم آخرهم ليجتمعوا فيساقوا دفعة واجدة «حَتَّى إِذا جاؤُ» وصلوا إلى محل العرض أثناء مرورهم به، وأرقفوا بين يدي ربهم في ذلك الموقف الرهيب «قالَ» لهم على طريق الاستفهام التوبيخي «أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي» المبلغة إليكم من رسلي في الدنيا «وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً» والحال انكم لم تعرفوها حق معرفتها بل كذبتموها بادىء الرأي من غير أن تتفكروا بمنزلها وتنظروا الصادقين الذين أرشدوكم إليها «أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ٨٤ بها في الدنيا أجحدتموها وقد جاءكم بها رسل؟ فخرسوا، إذ لا حجة لهم يتذرعون بها قال تعالى «وَوَقَعَ الْقَوْلُ» وجب العذاب الثابت في قوله تعالى «لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ» الآية ١٣ من سورة السجدة في ج ٢ «عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا» أنفسهم بالكفر والعصيان وعدم الالتفات الى آيات الله التي ذكرتهم أنهم لم يخلقوا عبثا «فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ» ٨٥ إذ يغشاهم العذاب فيشغلهم عن الاعتذار، وتكون أفواههم كأنها مختوم عليها، راجع الآية ٢٥ من المرسلات المارة، وهذا في موطن من مواطن القيامة، وقد ذكرنا أن فيها مواطن كثيرة منها ما يعتذر فيه، ومنها ما يتحاج فيه، ومنها ما ينكر فيه، ومنها ما يعترف فيه، ومنها ومنها، أجارنا الله منها، راجع الآية ٨١ من سورة مريم والآية ٦٤ من سورة يس المارتين قال تعالى «أَلَمْ يَرَوْا» هؤلاء الجاحدون قدرتنا «أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ» ويستوحوا لأنفسهم من نصب المعاش «وَالنَّهارَ مُبْصِراً» مضيئا لينتفعوا به بما يقوّم أمورهم، وهذه الرؤية قلبية لأن الليل والنهار وإن كانا مبصرين بالعين لكن جعل كون الليل للراحة والنهار للعمل من الأمور المعقولة لا المبصرة، أي ألم يعلموا جعلنا الليل المظلم للنوم والقرار؟ قيل: النوم راحة القوى الحسية، من حركات القوى النفسية، والنهار المضيء للشغل النافع مادة
344
ومعنى «إِنَّ فِي ذلِكَ» الجعل المسلوك بنظام بديع لا يتغير «لَآياتٍ» دالات على كبير نعمنا وقوة ارادتنا «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ٨٦ بنا ويصدقون رسلنا «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» القرن، والنافخ به إسرافيل عليه السلام، وكان أمراء الجيوش أخذوا بوقهم من هذا كما أخذت ترتيبات الشرطة والدرك والجيش والتعذيب وسرادق الملك ولبهته والوزراء والعمال وغيرهم من القرآن، لأن الدنيا تذكرة ومثالا للآخرة، والمراد بهذه النفخة الثانية بدليل قوله تعالى «فَفَزِعَ» خاف ودهش وارتعد «مَنْ فِي السَّماواتِ» من الملائكة «وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» من الخلائق فيشمل الإنس والجن والوحش وغيرها، وجاء الفعل بلفظ الماضي بدلا من المضارع لتحققه، لأن المستقبل من فعل متيقن الوقوع كالماضي لأنه من اخبار الله تعالى، وهو حق ثابت لا مرته فيه واستثنى من هذا العموم في قوله «إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» رضوان خازن الجنة، ومالك خازن النار، والحور العين والولدان وحملة العرش والمقربون والزبانية، وإدريس لأن الله رفعه بعد الموت وموسى لأنه صعق بالطور وغيرهم ممن أراد استثناءهم، وهذا التفسير على جعل النفخة هي الثانية أولى وأنسب بالمقام من جعلها النفخة الأولى، لأن تمام الآية الآتية تدل دلالة صريحة على ذلك، وان المراد بمن في السموات والأرض جميع الخلائق عدا من استثنى الله، إذ لا أحد الا ويصيبه فزع وهول ورهبة يوم القيامة عند النفخة الاخيرة إذ لا يدري الناس ماذا يراد بهم وما يفعل بتقيهم وشقيهم، ولا يبعد أن يدخل فيمن استثنى الله الأنبياء والشهداء والعلماء العاملون والأولياء العارفون الذين ثبتهم الله بتثبيتة الداخلون في قوله (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) الآية ٨٩ الآتية وبقوله لا يحزنهم الفزع الأكبر الآية ١٠٣ من سورة الأنبياء في ج ٣، روى عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى «إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» قال هم الشهداء مقلدون بسيوفهم حول العرش. وقال ابن عباس هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون لا يصل إليهم الفزع. راجع تفسير هذه الآية الآتية ١٧٢ من سورة آل عمران في ج ٣ «وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» ٨٧ صاغرين ذليلين، وفي هذه النفخة تتطاير من بوق اسرافيل أرواح جميع الأموات فتذهب كل روح إلى جسدها كأنها محشوة
345
فيه فتنشر الأموات من مدافنها أحياء بأمر الله وإرادته
فيهم فيهرولون نحو الصوت سراعا لا يميلون عنه، قال تعالى (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) الآية ١٠٨ من سورة طه المارة وليعلم أن سيدنا إسرافيل عليه السلام منتظر دائما ربه سبحانه، فعند ما يتلقاه يفاجأ الكون به حالا، أما ما قاله الألوسي في الغالبة بان النفخات ثلاث، مستدلا بهذه الآية إذ سماها نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة البعث، ويؤيد استدلاله بآية ص المارة وهي (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) ١٥ فهو قول لا مستند له ولا يفهم من هذه الآية الا مطلق نفخة وتحمل بالنسبة لسياق التنزيل على النفخة الثانية كما بيناه في تفسيرها فراجعه وبما أن الإجماع على أنهما نفختان لا ثالثة لهما فكل قول يخالفه لا قيمة له، ولهذا لا عبرة يقوله هذا رحمه الله فلا يؤخذ به لعدم استناده على دليل قاطع ولانفراده بهذا القول وحده. قال تعالى «وَتَرَى الْجِبالَ» رأي العين «تَحْسَبُها جامِدَةً» ساكنة واقفة قائمة في أمكنتها ممكة عن الحركة «وَهِيَ» والحال أنها تسير سيرا حثيثا «تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ» الذي تسيره الرياح بسرعة عظيمة وتجزأه أجزاء على عظمه وهكذا الأجرام الكبيرة إذا تحركت نحو سمت واحد تراها واقفة بلا شك إذ لا يكاد يحس بحركتها لاجتماعها وكثرتها والتصاقها بعضها ببعض.
قال النابغة الجعوي في وصف جيش عظيم:
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لجاج والركاب تهملج
وقيل المراد بالسير هو الوسط.. قال الأعشى:
كأن مشيتها في بيت جارتها مر السّحابة لا ريث ولا عجل
والأول أولى بالمقام لأن المراد بمر السّحاب سيره إذا شتتته الريح، فلا ترى أسرع منه، لهذا حسن التشبيه. قال تعالى إن هذا الصنع البديع العجيب المتقن في حركة الجبال هو «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي» يعجز عنه الخلق أجمع كيف لا وهو «أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» خلقه وأحكمه وسواه فأحسنه على ما تقتضيه حكمته البالغة «إِنَّهُ» الفاعل لذلك «خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ» في هذه الدنيا من الطبائع الحسنة والسيئة، ومن الأعمال الطيبة والقبيحة، وأنه يوم ترجعون إليه سيكافئ الخير خيرا والشرير شرا.
346
مطلب حركة الجبال وما قيل فيها:
اعلم أيها القارئ أن المفسرين أجمعوا على أن هذه في سير الجبال عند خراب الكون في النفخة الأولى، لأن الآية في بحث القيامة، كما أن الآية قبلها، والآية بعدها في بحث القيامة، الا أن القيامة تكون لخراب الكون، وإذا أنعمنا النظر في هذه الآية وأجلنا الفكر فيها وهي واقعة بين آيتين دالتين على القيامة بلا شبهة، نرى أن ليس في معناها ما يدل على الخراب كما هو الحال في الآيات الدالة على القيامة مثل سورة التكوير والانفطار وغيرهما، والآية ٢٤ من سورة يوسف والآية ٤٧ من سورة الكهف في ج ٢، لأن كلمة الإتقان فيها تؤذن للعمار لا للخراب من إفساد أحوال الكائنات وإخلال نظامها وكلمة صنع تفيد إجادة العمل وإحسان الفعل لا تشتيته وتبديده والصنع من خصائص الإنسان ولا ينسب للحيوان الا شذودا ولفظ أتقن يفيد الإحكام والمتانة والرصانة فلا يؤول بالخراب، وليس الخراب في معناه، وهذان الفعلان أي مصدر صنع الذي فعله صنع وفعل اتقن، فيها تشيران الى التهويل من أمر الجبال الى الذي مصدره الإتقان، وتنبه على أن سيرها من الأفاعيل العجيبة وتؤذن بأنها من بدائع صنع الله المبنية على الحكمة التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق، ومبادئ الإبداع على وجه متين ونهج رصين وهذا كله من شأن الدنيا لدلالته على العمار كما ذكرنا، والقصد من تسييرها يوم القيامة سقوطها التسوى بالأرض قال تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) الآية ١٠٧ من سورة طه المارة، وقال تعالى: (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) الآية ٦ من القارعة وقال تعالى: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) الآية ١١ من سورة الحاقة في ج ٢، والآيات الدالة على خراب الكون كثيرة في القرآن، ويكون يوم تبدل الأرض غير الأرض راجع الآية ٤٨ من سورة ابراهيم في ج ٢ أيضا، وهذه الآية والله أعلم لا تدل على شىء مما تضمنته هذه الآيات لذلك أرى تفسيرها على غير أحوال الآخرة واعتبارها المعترضة بين ما قبلها وما بعدها، ومثلها في القرآن كثير، لأن جل الآيات المدنية في السور المكية والآيات المدنية في السور المدنية معترضة بين ما قبلها وما بعدها للاخبار، وعليه يكون المعنى والله أعلم إرشاد
347
العباد إلى بدايع حكمه التي كان غافلا عنها الغافلون من أكثر الناس عند نزولها وبعده، وان المار ذكرهم في الآية ٧٣ المارة لا شك يعلمونها، وان المراد بهذا الصنع العجيب والإتقان البديع في دورانها الرحوى بصورة دائمة منتظمة بتنظيم الحكيم القادر تنظيما لا يعتريه الخراب مستمرا دائما إلى اليوم الذي يريد فيه خراب كونه، فتكون كسائر الأجرام الأرضية والسماوية داخلة في قوله تعالى (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) الآية ٤٠ من سورة يس المارة، ومثلها الآية ٢٢ من الأنبياء وفي ج ٢، فاذا جاء ذلك اليوم المقدر لخرابها دخلت في معنى الآيات المارة الدالة على الخراب، راجع الآية ٥٤ من سورة الأعراف المارة. هذا ما رأيته وعلى من بعدي أن ينتقدوا أو يحبذوا وهنا مسألة، وهي أن القاضي عبد الجبار استدل بعموم قوله تعالى (أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) على أن قبائح العبد ليست من خلقه سبحانه، والأوجب وصفها بالإتقان والإجماع مانع منه، وأجيب بأن الآية مخصوصة بغير الأعراض، لأن الإتقان بمعنى الإحكام وهو من أوصاف المركبات القائمة بنفسها القابلة للخرق والالتئام، أما الأعراض القائمة بغيرها فلا تقبل ذلك، وعليه فلا يستقيم ما أراده حضرة القاضي، ولو سلم أنها غير مخصوصة فوصف كل الأعراض به ممنوع، إذ ما من عام إلا وقد خصص، وهذا من المخصوص ولو سلم أن وصف كل الأعراض به غير ممنوع وأنه غير مخصوص من العموم فالإجماع المذكور يقوله (ان الإجماع مانع من عدّ القبائح متقنة) ممنوع بل هي متقنة أيضا، بمعنى أن الحكمة اقتضتها وما تقتضيه الحكمة فهو متقن والإتقان نسبيّ لكل بحسبه، وبما أن هذه الآية لم يفسرها مفسّر بما فسرتها الآن ولم يطرق موضوعها طارق بما ذكرته لحد الآن، وقد أقدمت عليه لا ترك للقراء الكرام والعلماء الأعلام مجالا لتمحيصه إيجابا أو سلبا قبولا أو ردا، وفتحت لهم هذا الباب ليقروه إذا رأوه موافقا لا سيما وأن علم الفلك يقره، وإجماع أهل العصر على أن الأرض هائمة ولها دورتان يومية وسنوية، أو يغلقوه على هذا القاضي كما أغلقوه على القاضي عبد الجبار المار ذكره، والله ولي التوفيق. قال تعالى
«مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ» الخصلة الطيبة من أقوال وأفعال وأخلص لله وحده وآمن بكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر
348
وبالقضاء والقدر وجميع ما أخبر به الرسل في الدنيا والآخرة «فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها» عند الله ثوابا عظيما وأجرا جزيلا «وَهُمْ» أصحاب هذه الخصال «مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ» يوم يفزع الناس في يوم القيامة «آمِنُونَ» ٨٩ لا يخافون كما يخاف غيرهم من العذاب الذي يقع بعده، أما نفس الفزع الوارد بالآية السابقة فلا يخلو منه أحد لوقوعه فجأة فيعم رعبه ورهبته الناس كلهم، عدا من استثنى الله، ولبحثه صلة في الآية ١٧٠ من آل عمران في ج ٣، «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ» الخصلة القبيحة من أقوال وأفعال واشراك بالله وجحد كتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر والقضاء والقدر بان كذب ما جاءت به الرسل في الدنيا والآخرة «فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ» بأن قذفوا فيها على وجوههم غير مبال بهم، فيدفعون دفعا من الوراء إلى الأمام إهانة لهم وتحقيرا لشأنهم، كما تطرح الزبالة تكفأ كفئا لأن من يطرحها لا ينظر إليها، وعبر بالوجه عن سائر الجسد لهذا المعنى، ولأن الوجه أول ما يواجه النار، راجع الآية ٢٤ من الفرقان المارة والآية ٩٨ من الإسراء الآتية، ويقال لهؤلاء حين يقذفون في النار تبكيتا لهم وجوابا لصراخهم المحشو بالأعذار الكاذبة والوعود المخلفة «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا» جزاء «ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ٩٠ في الدنيا،
ثم التفت إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم فقال قل يا أكرم الرسل لقومك إذا جادلوك أو خاصموك «إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ» مكة المكرمة لا أخص بعبادتي غيره، وإنّما خصها بالذكر لأنها مولده وأحب البلاد إليه وأكرمها عليه وقد أشار إليها إشارة تعظيم «الَّذِي حَرَّمَها» على المشركين وجعلها موطىء رسوله ومهبط وحيه، وجعلها حرما آمنا من فيها ويتخطف الناس من حولها وحرم سفك الدماء فيها بحيث لو رأى الرجل قاتل أبيه لا يعارضه البتة، وقد ضاعف عقاب الظلم فيها ومنع أن يصاد صيدها أو يختلي خلاها أو تلتقط لقطتها ولا يدخلها إلا محرم تعظيما لشأنها «وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ» في السموات والأرض ملكا وعبيدا «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ٩١ لعظمة ربي المنقادين لأوامره ونواهيه «وَأَنْ أَتْلُوَا» بنفسي عليكم «الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى» بهديه وآمن بمنزله ومبلغه «فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ» فيعود نفع
Icon