تفسير سورة النّمل

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة النمل من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة النّمل
مقاصد القرآن الكريم
إن جوهر رسالة القرآن العظيم إصلاح الناس وهدايتهم وإسعادهم، وتبشيرهم بجنان الخلد إن استقاموا على أمر الله، وإنذارهم سوء العذاب، والخسران إن انحرفوا عن جادة الهدى، وأنكروا وجود يوم القيامة. ومصدر القرآن المجيد: هو الله الحكيم العليم الذي يضع الأمور في نصابها وموضعها الصحيح، ويشرع للناس ما يتفق مع علمه الشامل بأحوالهم وطبائعهم، ناقلا لهم من الأدنى إلى الأعلى، وآخذا بأيديهم من وهاد الشّرّ والفساد إلى قمم الخير والصلاح. وهذا ما دوّنته الآيات الكريمة التالية في مطلع سورة النّمل المكّية:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤)
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)
«١» [النّمل: ٢٧/ ١- ٦].
ابتدأت هذه السورة كبعض السّور الأخرى بالحروف المقطعة الأبجدية وهي طس للدلالة على أدوات أو حروف تكوين القرآن، وأنه بلغة العرب لتحدّيهم
(١) أي يتردّدون ويتحيّرون فيها.
1863
بالإتيان بمثله، وإثبات كونه من عند الله سبحانه، وللتّنبيه إلى مضمون هذه السورة، وإذا ذكرت هذه الحروف يعقبها عادة الكلام عن القرآن ودلالاته ومقاصده. فهذه الآيات المنزلة على النّبي صلّى الله عليه وسلّم هي آيات القرآن وآيات الكتاب الواضح، والقرآن لأنه اجتمع وجمع في النهاية، والكتاب لأنه دوّن أو سطّر وكتب، وعطف الكتاب على القرآن للدلالة على صفتي الكلام المنزل من عند الله، ثم أبان الله تعالى ليكون هذا القرآن هاديا للناس من الضلالة إلى النور، ومبشّرا المؤمنين الطائعين بالجنّة، وبرحمة الله ورضوانه.
ثم وصف الله تعالى المؤمنين بالأوصاف الخليقة بهم، فهم الذين يقيمون الصلاة، أي يؤدّونها كاملة الأوصاف من أداء أركانها وشروطها، واستحضار عظمة الله في أثنائها، وفي مناجاة الحقّ بما يتلى فيها، ويذكر الله فيها متّصفا بالعظمة والجلال من خلال تكبيره وتسبيحه في الركوع والسجود، وإدامة الصلاة على وجهها المقرّر شرعا، فتكون الصلاة وسيلة لمناجاة الله وعقد الصّلة به.
والمؤمنون أيضا يؤدّون الزكاة المفروضة عليهم، والتي تطهّرهم من النقائص، وتحملهم على ملازمة مكارم الأخلاق. وهم كذلك يوقنون على وجه الجزم واليقين بالدار الآخرة والبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها.
وأما الذين يكذّبون بالآخرة، ويستبعدون وقوعها بعد الموت في أجلها المتعلّق علمه بالله وحده، فيزين الله لهم أعمالهم، أي يحسّنها لهم، فهم غرقى في الضّلالة، يتيهون ويتردّدون في ضلالهم، جزاء على ما كذّبوا به من وقوع القيامة. وتزيين الأعمال: تحبيب الشّرك إليهم، وخلقه في نفوسهم، واكتسابهم الكفر.
أولئك المكذّبون الضّالّون لهم جزاء شديد، وهو العذاب السيئ، في الدنيا بالهزيمة والإذلال، وفي الآخرة بالخسارة الشديدة، لأن عذابهم فيها دائم لا ينقطع، وخسرانهم في الآخرة أشدّ من خسرانهم في الدنيا.
1864
ثم ردّ الله تعالى على كفّار قريش في قولهم: إن القرآن من تلقاء محمد بن عبد الله، ومضمون الرّد: أنك أيها الرسول تتلقّى القرآن وتتعلّمه من عند أو من جهة حكيم في أمره ونهيه، وتدبير خلقه، عليم بالأمور جليلها وحقيرها، وبأحوال خلقه وما فيه خيرهم، وخبره تعالى موافق للصدق المحض، وحكمه: هو العدل التام، كما جاء في آية أخرى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) [الأنعام: ٦/ ١١٥].
إن أدنى نظرة وأبسط تأمّل من كل إنسان يدرك تمام الإدراك أن القرآن من عند الله تعالى، لأن عظمته وإعجازه وبلاغته تثبت كونه كلام الله. ومن آمن بالقرآن، بادر إلى اتّباع ما جاء فيه، فعمل لما بعد الدنيا، وبنى لنفسه جسور القبول والنجاة بالإيمان بالله وآخرته، وبالعمل الصالح، وأداء العبادات من صلاة وصيام وحجّ وزكاة. ومن جحد بالقرآن، ظلّ فريسة الضلالة والضياع والدمار، ولم يهتد إلى حقّ أو خير، فكان من عدل الله مكافأة الفريق الأول: أهل الإيمان بالجنّة ونعيمها، وتعذيب الفريق الثاني: أهل الجحود والكفران بنيران الجحيم وأهوالها.
خبر موسى عليه السّلام بالوادي المقدّس
قصّ الله تعالى علينا خبر موسى عليه السلام في القرآن الكريم في سور كثيرة، للتذكير بقصته والاعتبار بما جاء فيها من عبر وعظات، والتأكيد على تأييده في بدء الوحي عليه بالمعجزات الباهرة لتصديقه، فقوبل بالجحود والإنكار، مع استيقان القوم بها، فاستحقّوا العقاب الأليم، وفي هذا إيناس للنّبي صلّى الله عليه وسلّم بسبب صدود قومه أهل مكة عن دعوته، وتوبيخ للمفسدين، وإنذار للجناة الذين يقابلون دعوة الحق بالرّفض، وهذا ما ذكرته الآيات الآتية:
1865

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧ الى ١٤]

إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» «١١» [النّمل: ٢٧/ ٧- ١٤].
المعنى: اذكر أيها النّبي وقت قول موسى لأهله: زوجه بنت شعيب، في أثناء مسيره من مدين إلى مصر، بعد قضاء الأجل المضروب بينه وبين شعيب، وذلك في الوادي المقدّس طوى، في ليلة باردة عاصفة، فقال لأهله حين اشتداد الظلمة عليهم، وضلالهم الطريق، ورؤيته نارا من بعيد: إني أبصرت نارا، سآتيكم منها بخبر عن الطريق، أو آتيكم منها بشعلة نار لتستدفئوا بها في هذه الليلة الباردة. والخبر الذي رجاه موسى: هو الاعلام بالطريق.
فلما وصل إلى موضع النار بعدت منه، وكان ذلك نورا من نور الله عزّ وجلّ، وناداه الله عند ذلك، وسمع موسى عليه السّلام النّداء من جهة الشجرة، وأسمعه الله تعالى كلامه، فتعجب موسى مما رأى، فنودي: أن بورك من في مكان النار ومن حول مكان النار، والمراد بمن في النار في رأي ابن عباس وجماعة: هو الله عزّ وجلّ
(١) أبصرتها.
(٢) بشعلة نار ساطعة.
(٣) تتدفؤون بها من البرد.
(٤) قدّس وطهّر الذي بدا فيه النور.
(٥) تتحرّك بشدة.
(٦) ؟؟ حيّة خفيفة. [.....]
(٧) لم يلتفت أو لم يرجع على عقبه.
(٨) من غير داء.
(٩) فتحة القميص لدخول الرأس.
(١٠) واضحة.
(١١) استكبارا عن الإيمان بها.
1866
نفسه، بمعنى بورك من قدرته وسلطانه في النار، والمراد بمن حول النار موسى والملائكة المطيفون به. والأولى أن يراد بمن في النار: من في مكان النار، ومن حول مكانها، أي تبارك من في النور.
وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي تنزه الله الذي يفعل ما يشاء، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم، المباين لجميع المخلوقات، وربّ العوالم كلها من إنس وجنّ.
يا موسى إن الذي يخاطبك ويناجيك: هو الله الذي عزّ كل شيء وقهره عليه، الحكيم في أقواله وأفعاله.
والله يؤيّدك يا موسى بالمعجزات، وأولها إلقاء عصاك، فلما ألقاها انقلبت في الحال حيّة عظيمة هائلة، في غاية الكبر وسرعة الحركة معا، فلما رآها تتحرّك هكذا، كأنها جنّي، ولّى هاربا منها، خوفا على نفسه، ولم يرجع على عقبيه، ولم يلتفت وراءه من شدة خوفه.
فقال الله له: يا موسى لا تخف مما ترى، فإني أريد أن اصطفيك رسولا، وأجعلك نبيّا وجيها، ولا يخاف عندي الرّسل والأنبياء إذا أمرتهم بإظهار المعجزة.
لكن من ظلم نفسه أو غيره، ثم تاب إلى الله من سوء ذنبه، فإن الله يقبل توبته، لأنه بدّل بتوبته عملا حسنا بعد سوء.
والمعجزة الثانية لموسى: بياض اليد وإشعاعها، فأدخل يدك في جيب قميصك، تخرج بيضاء ساطعة، كأنها قطعة قمر، لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف، من غير آفة مرضية ونحوها.
وهاتان المعجزتان من جملة تسع آيات أخرى أؤيدك بها إلى فرعون وقومه، لأنهم كانوا قوما عصاة خارجين عن الحق، بتأليه فرعون.
1867
فلما جاءت فرعون وقومه الآيات التّسع بيّنة واضحة ظاهرة، دالّة على صدق موسى وأخيه هارون، أنكروها، وقالوا: هذا سحر واضح ظاهر.
وأنكروا الآيات وكذّبوا بها في الظاهر، وتيقّنوا في الحقيقة والباطن في أنفسهم أنها حقّ من عند الله، ظلما من أنفسهم واستكبارا عن اتّباع الحقّ، فانظر أيها الرسول كيف كان عاقبة أمر فرعون وقومه في إهلاك الله إياهم وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة. وفي هذا تحذير شديد لمكذّبي الرّسل الذين أرسلهم الله لهداية البشر، فليتّعظ المكذّبون بدعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإنه سيصيبهم مثل ما أصاب من قبلهم بالأولى.
أفضال الله تعالى على داود وسليمان عليهما السّلام
تتعدّد أغراض القصة المحكيّة عن الأنبياء السابقين مع أقوامهم، والغالب منها التحذير والإنذار، حتى لا يتعرّض معارضو دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم للعقاب المشابه لمن تقدّمهم، وقد يكون الهدف من القصة تعداد النّعم التي أنعم الله بها على بعض الأنبياء، فشكروها حقّ الشكر، وأدّوا حقّ الله فيها، مثل بيان نعم الله على داود وسليمان عليهما السّلام، وهذا ما أوردته الآيات الآتية:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٥ الى ١٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩)
«١» «٢» «٣» «٤»
(١) فهم أغراضه من صوته.
(٢) يردّ أولهم إلى آخرهم ويكفّون.
(٣) لا يكسرنكم.
(٤) ألهمني.
1868
[النّمل: ٢٧/ ١٥- ١٩].
المعنى: تالله لقد أعطينا كلّا من داود وسليمان علما نافعا، هو علم الشرائع والأحكام وفصل القضاء بين الناس، وعلّمنا داود صنعة الدروع، وقال كلّ منهما:
الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من عباد الله المؤمنين الصالحين بهذه العلوم والمعارف المفيدة في الدنيا والآخرة.
وخلف سليمان أباه داود بعد موته في ميراث النّبوة والعلم والملك، أي صار إليه ذلك بعد موت أبيه، ويسمى ميراثا تجوّزا. أما ميراث المال: فلم يقع، لأن الأنبياء لا تورث أموالهم،
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة».
وفي رواية أحمد عن أبي هريرة: «إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركت بعد مؤنة عاملي، ونفقة نسائي، صدقة».
وقال سليمان متحدّثا بنعمة الله عليه: يا أيها الناس علّمنا الله منطق الطير والحيوان إذا صوّت، وأعطينا خيرا كثيرا من كل شيء في الدين والدنيا، من ملك وثروة، أي أعطينا ما يصلح لنا ونتمنّاه، ولا يراد به العموم، إن هذا المؤتى من الخيرات والنّعم من النّبوة والملك والحكم لهو الفضل الإلهي الظاهر البيّن الذي لا يخفى على أحد، وهو فضل الله علينا، فإن فهم المعاني من أصوات الطير، التي في نفوسها أمر يحتاج إلى الشكر، وهذا نحو ما كان عليه نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم يسمع أصوات الحجارة بالسّلام. وسمع سليمان أن البلبل قال: «أكلت نصف تمرة، فعلى الدنيا العفاء».
ومن نعم الله على سليمان: أنه جمع الله له جنوده من الجنّ والإنس والطير، فكان ملكه عظيما ملأ الأرض، وانقادت له المعمورة كلها، وكان كرسيّه يحمله
1869
أجناده من الجنّ والإنس، وكانت الطير تظلّله من الشمس، ويبعثها في الأمور، وكان هؤلاء الجنود يجمعون بترتيب ونظام، بأن يوقف أولهم ليلحق بهم آخرهم، ويردّ أولهم على آخرهم، لئلا يتقدم أحد عن منزلته ومرتبته، حتى لا يتخلّف أحد منهم، وهذا معنى قوله تعالى: فَهُمْ يُوزَعُونَ من الوزع، أي الكفّ والمنع، والمعنى: يردّ أولهم على آخرهم ويكفّون.
ومن النّعم أيضا على سليمان: فهم كلام النّمل، فبينا كان سليمان وجنوده مشاة على الأرض، أتوا على وادي النّمل إما بالشّام أو غيرها من البلاد، ونادت نملة هي ملكة النّمل: يا أيها النّمل، ادخلوا بيوتكم، حتى لا يكسرنكم سليمان وجنوده، من غير أن يشعروا بذلك.
فتبسّم سليمان ضاحكا من قولها، وتعجّبا من تحذيرها، وقال داعيا ربّه في أن يعينه الله تعالى ويفرغه لشكر النّعمة، وهذا معنى إيزاع الشكر، يا ربّ ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والديّ، وأن أعمل عملا صالحا ترضاه وتحبّه، واجعلني بعد الوفاة في الجنة، في زمرة الصالحين، من الأنبياء والأولياء الصلحاء.
وهذا دليل على أن نعمة العلم وحدها تستوجب الشكر، وأن برّ الوالدين والدّعاء لهما بعد موتهما مطلوب مرغوب فيه.
هذا سليمان الملك العظيم يطلب من ربّه التّفرّغ للشكر، كما يطلب من ربّه أن يوفّقه للعمل الصالح الذي يرضيه، وأن يتغمّده برحمته وفضله في الجنة بإذن الله، التي هي دار المتّقين، ودار السّلام والأمان والسعادة المطلقة. فهو لم يغترّ بعمله ولا بسلطانه، بل طلب الزيادة والمعونة والفضل حتى يدخل في عداد الصالحين. وهذا دليل على تواضع العظماء والعلماء، وأن كل إنسان بأمسّ الحاجة إلى رحمة الله في الدنيا والآخرة، وأن فضل الله دائم لا ينقطع، يغمر الجميع ويحتاج إليه الجميع.
1870
قصة الهدهد
من أعاجيب النّعم الإلهية على سليمان عليه السّلام تعليمه منطق الطير ولغة الحيوان، واستخدام الجنّ، والطيران في الهواء على بساط الريح، وكان مع ذلك في غاية الحمد والشكر لربّه، والاعتراف بفضله وإحسانه، من غير بطر ولا أشر، وكان يستعين بالطير في مهام بريدية واستكشافية للماء، والتّعرف على أخبار الأمم والشعوب والممالك الأخرى، وهذا قبل أن توجد الاختراعات الحديثة من تحليق الطيران وسرعة الاتّصال بالوسائل المختلفة، مما يدلّ على أن معجزة القرآن الكريم وقدرة الله الخارقة تظهر متحدّية البشر في كل زمان ومكان، وصف الله تعالى قصة الهدهد مع سليمان عليه السّلام في الآيات الآتية:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٨]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (٢٨)
«١» «٢» [النّمل: ٢٧/ ٢٠- ٢٨].
تفقّد سليمان عليه السّلام جميع الطير ومنها طير الهدهد بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والتعرف على دقائق الأحداث، وكان له علم بمنطق الطير، وكانت الطيور مسخّرة له كالرّيح وغيرها، فقال متعجّبا: كيف لا أرى الهدهد؟ علما بأنه لم
(١) يظهر المخبوء.
(٢) تنحّ عنهم قليلا.
1871
يأذن له بالغياب، بل هو من الغائبين دون علم منه. وإنما طلب الهدهد لاحتياجه في مفازة إلى معرفة الماء ومدى عمقه في الأرض، وكان الهدهد يرى بطن الأرض وظاهرها، كانت تشفّ له، فكان يخبر سليمان عليه السّلام بموضع الماء، ثم كانت الجنّ تخرجه في ساعة يسيرة، وتستنبطه من غير آلات.
وحينما تثبّت سليمان عليه السلام من غياب الهدهد، هدّده بالذّبح أو التعذيب كنتف ريشه إلا أن يأتي ببرهان واضح يدلّ على قبول عذره. فغاب الهدهد زمانا غير طويل الأمد، ثم جاء، فسأله سليمان عن سبب غيابه، فقال لسليمان: علمت علما تامّا ليس في علمك، وجئتك من بلاد سبأ بخبر متيقّن موثوق، ومضمون الخبر ثلاثة أمور:
١- إني وجدت في بلاد سبأ مملكة عظيمة ذات مجد، تحكمهم امرأة هي بلقيس بنت شراحيل، وأعطيت من متاع الدنيا الشيء الكثير من حوائج المملكة من ثراء وغنى، وملك وأبهة، وجيش مسلّح بأنواع العتاد والعدّة، ولها عرش عظيم، أي سرير هائل مزخرف بالذّهب، وأنواع الجواهر.
٢- وجدت هذه الملكة وقومها يعبدون الشمس ويسجدون لها من دون الله، لأنهم كانوا زنادقة، أو كانوا مجوسا يعبدون الأنوار.
٣- وزيّن لهم الشيطان قبيح أعمالهم، فصاروا يرون القبيح حسنا، ومنعهم الشيطان عن طريق الحق وعبادة الله وحده، فصاروا غير مهتدين.
ألا يعرفون سبيل الحقّ والرّشاد بإخلاص العبادة لله وحده، دون ما خلق من الكواكب وغيرها، وهو الخالق المبدع الذي يخرج المخبوء الخفي من الأمور في السماوات والأرض، كالنبات والمعادن، ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال.
1872
فإن الله هو الإله الواحد الذي لا شريك له، ولا معبود سواه، وهو ربّ العرش العظيم الذي ليس في المخلوقات أعظم منه، فالعرش أعظم المخلوقات، وما عداه فهو في ضمنه وفي قبضته.
فأجاب سليمان عليه السّلام طير الهدهد عن دفاعه واعتذاره، بأننا سنتعرّف على مدى صحة قولك، أصادق في إخبارك هذا أم أنت كاذب في مقالتك، لتتخلّص من الإنذار والوعيد الذي أوعدتك به؟! اذهب أيها الهدهد بكتابي هذا إلى بلقيس وقومها، الذي يتضمن الدعوة إلى الإيمان بالله وحده، وألق هذا الكتاب إليهم، ثم ابتعد عنهم قريبا، وانظر ردّ الفعل، وماذا يقولون ويتشاورون ويتناقشون. فعمد الهدهد إلى كوّة كانت بلقيس صنعتها لتدخل منها الشمس عند طلوعها، إشارة لمعنى عبادتها إياها، فدخل منها، ورمى الكتاب على بلقيس، وهي فيما يروى نائمة، ثم انتظر الجواب. وقامت بلقيس بجمع أهل مملكتها وأعيانهم، واستشارتهم في الأمر.
قصة الملكة بلقيس
في تأريخ القرآن الكريم ألوان من القصص المثيرة المحرّكة لمشاعر الإيمان، والتي تعدّ من حوافز العقيدة، لصلتها المباشرة بالفيض الإلهي، والإرادة الرّبانية، وأحداث قصة الملكة بلقيس مثل يحتذي من الدبلوماسية الرشيدة، وإعمال الفكر والأناة، والظفر بتحقيق النتائج السلمية، وصون البشرية من إراقة الدماء، وحفظ الأنفس، لأن البعد عن الأهواء والشهوات وعن الغطرسة يؤدي إلى اتّخاذ موقف الحكمة والسّداد، قال الله تعالى واصفا قصة بلقيس مع سليمان عليه السّلام:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٩ الى ٣٧]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (٣٣)
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧)
1873
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [النّمل: ٢٧/ ٢٩- ٣٧].
المعنى: قالت بلقيس لأعيان قومها ومستشاريها: أيها الأشراف، إني ألقي إلي كتاب كريم، مرسل من نبي الله سليمان، وهو ملك كريم، مضمونه: إن هذا الكتاب من النّبي سليمان، مبدوء ببسم الله الرّحمن الرّحيم، وفي البسملة دلالة على إثبات وجود الله وتوحيده، وقدرته ورحمته، وفيه نهي عن التّرفع الذي يحجب وصول الحقّ إلى النفوس، ويصرف عن اتّباع الأهواء، ويأمر باعتناق الإسلام، والإسلام كلمة جامعة لأصول الفضيلة، ومعالم الدين، والإقرار بوجود الله وتوحيده.
فأفتوني أيها المستشارون في هذا الأمر، ومضمون هذا الكتاب، ما كنت قاطعة أمرا ولا قاضية في شيء، حتى تحضرون وتشيرون فيه. وهذا موقف يدلّ على عقل ورشد، وحكمة في السياسة، وبعد نظر في الأمور.
فأجاب أشراف القوم (الملأ) : نحن أصحاب قوة جسدية وعددية، وذوو قوة وبأس، وشجاعة في الحروب، ومستعدّون للدفاع والقتال، فانظري في شأن إعلان الحرب على سليمان.
فقالت بلقيس لهم حين استعدّوا للصمود معها ومحاربة سليمان: إن الملوك إذا
(١) لا تتكبّروا علي.
(٢) منقادين.
(٣) تحضرون. [.....]
(٤) أصحاب نجدة وقوة في الحرب.
(٥) لا طاقة لهم.
(٦) ذليلون بالأسر.
1874
دخلوا بلدة قهرا، خرّبوها ودمّروا ديارها وأموالها، وأذلّوا أعزّة أهلها بالقتل والأسر، ويفعلون ذلك وأمثاله، وهي عادتهم المستمرة الثابتة التي لا تتغير. وهذا من بلقيس تقدير للمخاطر، وتحذير من محاربة سليمان، ثم رجّحت اللجوء إلى الوسائل الودّية، وإلى المصالحة والمفاوضة، فقالت: إني أقوم بهذه التجربة، وهي إرسال هدية لسليمان، لاختباره أهو نبي أم ملك؟ ثم أنظر في جوابه بعدئذ، فلعله يقبل ذلك منا، ويكفّ عنا، أو يفرض علينا أتاوة مالية نرسلها له في كل عام، فنأمن جانبه. وكانت الهدية عظيمة مشتملة على ذهب وجواهر ولآلئ وغير ذلك من الغلمان والجواري بزيّ واحد، لتجرّبه في التفريق بينهم.
فلما وصلت الهدية إلى سليمان عليه السّلام، لم ينظر إليها، وأعرض عنها، وقال منكرا عليهم: أتمدّونني بمال؟ ولا حاجة لي به، ولا أقبله بدلا من بقائكم على الشّرك وعبادة الكواكب.
إن الله أعطاني خيرا كثيرا مما أعطاكم، وهو النّبوة، والملك الواسع العريض، والمال الوفير، فلا حاجة لي بهديتكم، وهذا شأن سموّ النّبوة، وترفّع النّبي عن أعراض الدنيا الحقيرة. وإنما أنتم الذين تنقادون لمؤثرات الدنيا وزخارفها، وتنقادون للهدايا وسحرها، وتفرحون بها، ولست طالبا للدنيا الزائلة، وإنما أطالبكم بتوحيد الله والإقرار بوجوده، وترك عبادة الشمس، ولا أقبل منكم إلا الإسلام الذي هو الخضوع لله تعالى، أو الاحتكام إلى الحرب والقتال.
ارجع أيها المبعوث إليهم بهديتهم، فإننا سنأتينّهم بجنود أشدّاء لا طاقة لهم بقتالهم، ولنخرجنّهم من بلدتهم أذلّة، وهم مهانون مدحورون، إن لم يأتوا مسلمين منقادين لله ربّ العالمين.
1875
وإن وعيد سليمان لقوم بلقيس مقترن بدوامهم على الكفر، فهو رمز التّحدي والفوضى والعناد الذي يجرّ على صاحبه الخسارة والحسرة.
إسلام بلقيس وزيارتها لسليمان عليه السّلام
حينما ردّ سليمان عليه السّلام هدية بلقيس، أدركت أنه نبي مرسل من الله، وليس ملكا طامعا بالسلطة والنفوذ وجمع الأموال، فبادرت لإعلان إسلامها، وقبولها دعوة سليمان عليه السّلام، فأقبلت إليه مع حرسها، معظمة سليمان، متابعة له في الإسلام، فأعلن سليمان بهجته وسروره بقدوم بلقيس وأشراف قومها، ثم بادر إلى الاستعانة بالجنّ لرفده بأخبارهم وأحوال وفدهم، وكان إحضار سريرها من اليمن إلى بلاد الشام معجزة نبويّة باهرة، تدلّ على صدق نبوّة سليمان وتأييد الله له، مما أدهش بلقيس وتأكّدت مصداقية النّبوة، وصحّة الموقف الذي اتّخذته، قال الله تعالى واصفا هذا الحدث العظيم في تاريخ الدعوات إلى الله تعالى:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٨ الى ٤٤]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢)
وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» »
(١) ملك من الملائكة أو جبريل.
(٢) نظرك.
(٣) ليختبرني.
(٤) غيروا.
(٥) القصر.
(٦) ظنت صحنه ماء.
1876
«١» «٢» [النّمل: ٢٧/ ٣٨- ٤٤].
حينما اقترب موكب الملكة بلقيس من بلاد الشام، جمع سليمان عليه السّلام جنوده من الجنّ والإنس، فقال للملأ من الجنّ والإنس: يا أيها الملأ السّادة الأعوان، من منكم يأتيني بعرش (سرير) بلقيس قبل وصولها إلينا مع وفدها منقادين طائعين، ليكون ذلك دليلا على صدق النّبوة والرّسالة، ومعجزة إلهية تدرك منها أن مملكتها صغيرة أمام عجائب صنع الله وروائع قدرته؟
قال مارد من الشياطين: أنا أحضره إليك قبل الانتهاء من مجلس القضاء والحكم، وكان يمتدّ إلى منتصف النهار، وإني قادر على ذلك غير عاجز، أمين عليه غير خائن، لا آخذ منه شيئا.
فقال سليمان: أريد أسرع من ذلك، لبيان عظمة ما وهبه الله من الملك، وتسخير الجنّ، وكثرة الجند ممن لم يسبقه إليه أحد. فقال أحد علماء أسرار الكتاب الإلهي وهو جبريل أو غيره: أنا أحضره في لمح البصر، قبل أن يرجع إليك نظرك، وقبل أن تغمض عينيك وتفتحهما، فلما فعل، ورأى سليمان وجماعته أمامه وجود سرير بلقيس الذي حمله من بلاد اليمن إلى بلاد الشام قال: هذا من نعم الله علي ليختبرني، هل أشكر فضله علي، الذي آتاني من غير حول مني ولا قوة، أو أجحد فأنسب العمل لنفسي. ومن شكر النعمة، فإن نفع شكرها عائد إليه، لا إلى الله المنعم، لأنه بالشكر تدوم النّعم، ومن جحد النعمة فلم يشكرها، فإن الله غني عن عباده وعن عبادتهم وشكرهم، لا يضرّه كفرانهم، كريم في نفسه، عزيز في ذاته، وإن لم يعبده أحد، لا يزيل النّعمة عن عباده إذا أعرضوا عن شكره.
(١) مملّس.
(٢) من زجاج شفاف.
1877
قال سليمان لأتباعه: غيّروا هيئة عرش بلقيس وصفته، لنختبر حالها وننظر في قدراتها وتأمّلاتها، فهل تهتدي إلى الحقّ والصواب ومعرفة عرشها، أو تكون غير مهتدية إليه، وعاجزة عن التأكّد منه؟! فلما قدمت، عرض عليها عرشها (سرير ملكها) وقد زيد فيه ونقص، وقيل لها:
أهكذا عرشك؟ فقالت: كأنه هو، أي يشبهه ويقاربه. وكان جوابها ينم عن براعة وذكاء وحنكة.
وهنا قال سليمان معددا نعم الله عليه وعلى آبائه: لقد أوتينا العلم بإسلامها، ومجيئها طائعة قبل وصولها، وكنا في كل حال موحّدين خاضعين لله تعالى.
وكانت بلقيس قد منعها عن عبادة الله ما كانت تعبد من غير الله، وهو عبادة الشمس، فإنها كانت من قوم وثنيين، كانوا يعبدون الشمس، وكانوا كافرين بوجود الله. قيل لبلقيس: ادخلي هذا الصرح: القصر المشيد العالي، فلما رأت مدخله الفخم، ظنّت وجود ماء كثير فيه، فكشفت عن ساقيها، فقال سليمان: إنه قصر مصنوع من المرمر ومن الزجاج الصافي، فقالت: يا ربّ، إني ظلمت نفسي في الماضي بعبادة غيرك، وأسلمت مع إسلام سليمان لله ربّ جميع العالمين من إنس وجنّ.
دعوة صالح عليه السّلام
لقد أورد الله تعالى في كتابه أخبار الأنبياء السابقين، وشيئا من أصول دعوتهم إلى الله تعالى، لتذكير قريش والعرب وغيرهم بأن كل من تقدّم من أنبياء العرب كان يدعو إلى إفراد الله بالعبادة وتوحيد الله وتمجيده، ليدركوا خطأ ما هم عليه، وليعلموا أن عبادة الأصنام ضلال وانحراف، وأن شأن الأنبياء جميعهم هو الدعوة
1878
إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فيبادروا إلى اتّباع النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والإقرار بدعوته ورسالته، قال الله تعالى مذكّرا بدعوة نبي قديم من العرب ألا وهو صالح عليه السّلام:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤٥ الى ٥٣]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» [النّمل: ٢٧/ ٤٥- ٥٣].
هذه الآيات على جهة التشبيه أو التمثيل بالأمثال الغابرة لقريش، مفادها: وتالله لقد بعثنا إلى قبيلة ثمود العربية في ديار الحجر أخاهم في النّسب والقبيلة بأن اعبدوا الله وحده لا شريك له، فانقسموا فريقين متخاصمين: فريق مؤمن مصدّق برسالته، وفريق مكذّب بما جاء به من عند ربّه.
فقال صالح عليه السّلام: يا قومي، لم تتعجّلون نزول العذاب قبل أن تطلبوا من الله رحمته أو ثوابه إن عملتم بما دعوتكم إليه وآمنتم به. هلا تطلبون من الله المغفرة، وتتوبون إليه من كفركم، لكي يرحمكم ربّكم، لأنه إذا نزل العذاب لم تنفعكم التوبة.
فأجابه قومه قبيلة ثمود بغلظة وشدّة: لقد تشاءمنا منك وممن آمن معك، ولم نر خيرا فيكم أو من جهتكم، قال صالح عليه السّلام: شؤمكم وتفاؤلكم من شرّ أو
(١) تشاءمنا.
(٢) شؤمكم عملكم.
(٣) أي تمتحنون أو تختبرون. [.....]
(٤) تسعة أشخاص من الرؤساء.
(٥) تحالفوا بالله.
(٦) لنقتلنّهم ليلا فجأة.
(٧) هلاكهم.
(٨) أهلكناهم.
(٩) خالية خربة.
1879
خير هو من قدر الله أتاكم به، وهو مكتوب عند الله، والله يجازيكم على ذلك، فهو إن شاء رزقكم، وإن شاء حرمكم، وهو مقدر مكتوب عند الله، ويجازيكم الله على ذلك، بل إنكم قوم تختبرون بالطاعة والمعصية، حين أرسلني الله إليكم.
أما طغاة ثمود ورؤوسهم وفساد مدينتهم، فكان في مدينة ثمود تسعة نفر، تغالوا في الفساد الذي لا صلاح فيه، دعوا قومهم إلى الضلال والكفر وتكذيب صالح، وتواطؤوا على عقر الناقة وعلى قتل صالح ومن آمن به.
فقال بعضهم لبعض: احلفوا أو أقسموا أننا لنباغتنّه وأهله الذين آمنوا معه ليلا، فنقتلنّهم، ثم نقول لأوليائه وأقاربه في الدّم أو القصاص: ما حضرنا مهلكهم أو هلاكهم، ولا ندري من قتلهم، وإنا لصادقون في قولنا، بأننا لم نحضر هلاك أحد الفريقين: صالح وأهله، وإن فعلوا الأمرين معا. ولكن الله أحبط مؤامرتهم وجعل الدائرة عليهم، فإنهم دبّروا مؤامرة، أي مكيدة وخديعة، ولكن الله مكر بهم، أي جازاهم وعاقبهم وأهلكهم، فانظر أيها الرسول وكل منصف كيف كان مصير تآمرهم: أنا أهلكناهم وقومهم جميعا. وقد سمى الله تعالى عقوبتهم باسم ذنبهم وهو مكرهم على سبيل المشاكلة أو المشابهة لفعلهم.
وكان من آثار تعذيبهم أن أصبحت مساكنهم خالية بسبب ظلمهم أنفسهم، إن في هذا العقاب الدنيوي المدمر لعبرة وعظة لأناس أهل معرفة وعلم، يعلمون سنّة الله في خلقه، وبأن النتائج مترتبة على الأسباب. إن تخريب بيوتهم الذي أخبر الله به: هو قانون كل الشرائع أن الله إنما يعاقب الظلمة. جاء في التوراة: «ابن آدم، لا تظلم، يخرّب بيتك».
وفي مقابل إهلاك الظالمين للعبرة، نجى الله من العذاب صالحا عليه السّلام ومن
1880
آمن به، حين ساروا إلى بلاد الشام، ونزلوا بالرملة في فلسطين، لأن الإيمان واتّقاء عذاب الله بطاعته سبب النّجاة والمعافاة في الدنيا والآخرة.
إن في إيراد هذه القصة تذكيرا لقريش والعرب الوثنيين بأنهم إن استمرّوا في كفرهم وعنادهم، تعرّضوا للعذاب، كما عذّب أمثالهم.
دعوة لوط عليه السّلام
لقد تورّط بعض الناس المنحرفين بألوان من الشّذوذ والضّلال والبعد عن الفطرة الإنسانية السّوية، وكانوا في شذوذهم هذا مثل سوء، وعنوان تدمير وخراب لأنفسهم ولغيرهم ومجتمعهم، فاستحقّوا العقاب الأليم الاستئصالي، لعل غيرهم ممن جاء بعدهم يتّعظ ويعتبر، ويحذر ويتأمّل، ويعود إلى البصيرة، والاستقامة، فلا يتلوّث بما وقع به غيره، من انحراف وسقوط في قيعان المنكر، وهؤلاء قوم لوط، اقترفوا الفواحش، وانغمسوا في المعاصي الكبيرة والمنكرات الفظيعة، فسخط الله عليهم وعذّبهم في الدنيا بمطر السوء، وكان تاريخهم مضرب الأمثال، قال الله تعالى واصفا حال قوم لوط ودعوة رسولهم إليهم:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٤ الى ٥٨]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨)
«١» «٢» «٣» [النّمل: ٢٧/ ٥٤- ٥٨].
(١) يحاولون التّنزه عما نفعل.
(٢) حكمنا عليها.
(٣) بجعلها من الغابرين.
1881
والمعنى: واذكر أيها الرسول النّبي لوطا عليه السّلام، وقصته أو دعوته الإصلاحية، حين أنذر قومه نقمة الله عليهم، بإتيانهم الفاحشة العظيمة، قائلا لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟! أي أترتكبون فاحشة اللواط، وأنتم تبصرون بقلوبكم أنها خطيئة وفاحشة، وتعلمون قبحها وسوءها.
كيف تقدمون على إتيان الرجال من دون النّساء؟ فهذا شذوذ مفرط، ونكسة في الطبع، وترك للأفضل والأكرم والأولى، ولكنكم في الواقع قوم تجهلون عاقبة هذا الأمر الشنيع، ولا تميزون بين الحسن والقبح، وتؤثرون الرذيلة على الفضيلة، وتتركون المباح من النساء، كما في قوله تعالى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) [الشّعراء: ٢٦/ ١٦٥- ١٦٦]. أي معتدون متجاوزون الحدود.
لقد أعرض قوم لوط عن دعوته، ولم يسمعوا نصحه وتحذيره، ولم يكن جوابهم إلا الإصرار على ممارسة الفاحشة المنكرة، وأجابوه بعد التشاور فيما بينهم:
أخرجوا لوطا وأهله من بلدنا، فإنهم لا يصلحون للعيش معنا، إنهم يتحرّجون من أفعالنا، ويترفعون عن صنعنا، ويتنزهون عن أعمالنا. إنهم بهذا تركوا طريق الحجة والمنطق وإيثار السلام، وأخذوا سبيل المغالبة والمعاندة، فتآمروا بإخراجه وإخراج من آمن معه من بلدهم، ثم ذمّوهم وتهكّموا عليهم بمدحة: وهي التّطهّر من هذه الدّناءة التي هم أدمنوا عليها.
فكان من عدل الله ورحمته تدمير الظالمين، وإنجاء المؤمنين الصالحين، وهذا ما أفادته الآيات الآتية:
لقد أنجينا لوطا ومن آمن معه برسالته من أهله لإقرارهم بتوحيد الله تعالى،
1882
وطاعته، والاستقامة على أمره، واجتناب محظوراته ونواهيه. لكن امرأة لوط قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ أي جعلناها وحصلناها من الباقين في العذاب، لأن من رضي بالمنكر، وإن لم يفعله، فهو مقرّ به، فله جزاء الفاعلين المنغمسين في الإثم والمنكر.
وأنزلنا على قوم لوط حجارة من سجّيل «١» من جهنم، وهو الحاصب، فأهلكت جميعهم، وأبادتهم وخسفت الأرض بهم، فبئس المطر مطر المنذرين بالعذاب، الذين قامت عليهم الحجة، ووصلهم الإنذار الإلهي، فخالفوا الرسول وكذّبوه، وهموا بإخراجه من قريتهم، وتلك هي عاقبة القوم الظالمين الفاسقين.
وهذه الآية أصل لمن جعل من الفقهاء الرّجم في اللوطية، لأن الله تعالى عذّب قوم لوط على كفرهم به، وأرسل عليهم الحجارة لمعصيتهم وتعاطيهم الفاحشة، ويؤيد ذلك
قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن اللائط وشريكه: «اقتلوا الفاعل والمفعول به» (أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد).
إن التّخلص من وباء اللواط وفاعليه ضرورة صحية واجتماعية، لأن هذا الوباء يؤدي إلى فقد المناعة (الإيدز) وإلى الموت والهلاك.
إثبات الواحدانية والقدرة الإلهيّة
لم يعتبر الوثنيون المشركون بأصناف العذاب النازلة بمن كذبوا الرّسل، ولم يستجيبوا لدعوة الحقّ والتوحيد، والنداء الإلهي لتصحيح العقيدة، والتّخلص من الوثنية، ولقد أدى رسل الله الكرام أقصى ما في وسعهم من أداء الواجب،
(١) السّجّيل: حجارة من طين طبخت في نار جهنم.
1883
فاستحقّوا من النّبي محمد خاتم النّبيّين أن يحمد الله تعالى على تلك النعمة، والسلام على الأنبياء المجاهدين قاطبة، لأدائهم أمانة التبليغ لرسالة ربّهم على أكمل وجه. ومع هذا الإنذار بالتّعرض لعذاب مماثل لعذاب الأمم المتقدمة، أقام الحق تعالى البراهين القاطعة على وحدانيته وعظمة قدرته في السماء والأرض، ومن خلال خلق المخلوقات المختلفة الدّالة بوضعها على حاجة الخلق إلى الله تعالى، قال الله عزّ وجلّ مدلّلا على هذه القضايا:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٩ الى ٦٤]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣)
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [النّمل: ٢٧/ ٥٩- ٦٤].
يأمر الله رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن حمده لله تعالى وشكره على نعمه المختلفة، وعلى صفاته العليا وأسمائه الحسنى، وأن يسلّم على عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم لتبليغ رسالته.
هل الله المتصف بالقدرة والعظمة والإنعام خير أمّا يشركون به من الأصنام؟
(١) بساتين ذات حسن.
(٢) ينحرفون عن الحق إلى الباطل.
(٣) مستقرّا بالتسوية.
(٤) جبالا ثوابت. [.....]
(٥) فاصلا مانعا من الاختلاط.
1884
وهذا استفهام إنكاري على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى. والمقصود به:
التنبيه على إغراقهم في الضلال والجهل.
ثم أورد الله تعالى عددا من الأدلة الكونية على وحدانيته وقدرته على كل شيء، وهذه الأدلة:
١- أعبادة الأوثان والأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع خير، أم عبادة الذي خلق السماوات في ارتفاعها وعظمتها وجمالها، وأنزل من السماء أو السحاب مطرا، فأنبت به الحدائق الغنّاء، ذات الجمال الباهر، ليس لديكم القدرة على إنبات شجرها وإخراج ثمرها، فهو الله المتفرّد بالخلق والرّزق، فهل يصح بعدئذ وجود إله مع الله يعبد؟ إنهم قوم ينحرفون عن الحق والصواب إلى الباطل والخطأ، حين يجعلون مع الله إلها آخر نظيرا له وشريكا. والحدائق: مجتمع الأشجار من العنب والنخيل وغير ذلك. والبهجة: الجمال والنّضرة.
٢- أعبادة الأوثان والأصنام العديمة النفع والضرر خير، أم عبادة الإله الذي جعل الأرض مستقرّا للإنسان وغيره، لا تتحرك بأهلها، وجعل فيها جبالا ثوابت شامخة، لتثبيت الأرض حتى لا تتحرك، وجعل بين المياه العذبة والملحة حاجزا، أي مانعا يمنعها من الاختلاط، لئلا يفسد هذا بذاك، وتبقى التفرقة بينهما قائمة. هل يوجد مع الله إله آخر أبدع الكائنات؟ بل في الواقع أكثر هؤلاء المشركين لا يدركون الحق والصواب فيتبعونه.
٣- إن الله الذي يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، ويدفع عنه الضرر ويرفع عنه السوء من فقر أو مرض أو خوف ونحو ذلك إذا لجأ إليه، ويجعل الناس خلفاء الأرض وورثتها، يخلف بعضهم بعضا في جلب المنافع، وسكنى الديار، وزراعة الأرض، والتصرف بالمملوكات، هل مع الله إله آخر، يقدر مثله على ذلك؟ ولكن ما أقل تذكّر الناس نعم الله عليهم، وإرشادهم إلى الحق والطريق القويم.
1885
٤- إن الله تعالى هو الهادي إلى الحق والخير، يدلّ الناس على مواضع غاياتهم، في ظلمات البر والبحر، ويتناقلون ذلك بالتعليم، ويرسل الرياح القوية تبشّر بنزول الأمطار، وتمهّد للتعرف على رحمة الله، هل مع الله إله آخر، يفعل مثل فعله، تنزه الله عما يشركون من عبادة أشياء أخرى مع الله الواحد الأحد المستحق وحده للعبادة؟
علم الغيب
إن أفق الإنسان محدود، وعقله مقصور على معرفة أشياء معينة، فهو لا يعلم المستقبل، ولا يستطيع أن يتنبأ نبوءة جازمة عن أمور غيبية مستقبلية، وإنما يتوقع ويخطط، ويدع التنفيذ وإصابة الهدف لله عزّ وجلّ، لذا كان لا بدّ له بعد اتّخاذ الأسباب المرعية والقيام بالواجب من التوكل على الله، أي تفويض الأمر وتنفيذه لله تعالى، فالزارع يبذر الحبّ في الأرض، ويكل أمر النبات لله سبحانه، والتاجر يخاطر في البيع والشراء، ويترك أمر تحقيق الربح لله ربّه، والطالب يجتهد ويكدّ ذهنه، ويدع النتائج والنجاح لله سبحانه، والعامل يبذل ما في وسعه، ثم يفوّض الأمر في سلامة عمله وستره لله المدبّر، وهكذا الناس كلهم قاصرون محتاجون في الاطّلاع على أمور المستقبل إلى الله تعالى، قال الله عزّ وجلّ مبيّنا حصر علم الغيب بذاته العليّة:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦)
«١» «٢» [النّمل: ٢٧/ ٦٥- ٦٦].
إن من مقتضيات الألوهية ولوازمها اختصاص الإله بعلم الغيب، وإدراك مكان
(١) تكامل واستحكم علمهم بأحوالها، وهذا تهكّم بهم.
(٢) عمي البصائر.
1886
وزمان وكيفية وقوع الأشياء، حسبما يتفق مع حكمة الله وتقديره وعلمه. وقد نزلت هذه الآية لأن الكفار سألوا، وألّحوا عن وقت القيامة التي يعدهم بها النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية بالتسليم لأمر الله تعالى، وترك التحديد، وأعلم الله عزّ وجلّ أنه لا يعلم وقت الساعة سواه، فجاء بلفظ يعمّ السامع وغيره، وأخبر عن البشر أنهم لا يشعرون متى يبعثون؟
وبهذه الآية احتجّت عائشة رضي الله تعالى عنها على قولها: «ومن زعم أن محمدا يعلم الغيب، فقد أعظم على الله الفرية» (أخرجه أحمد والشيخان والتّرمذي والنّسائي وغيرهم). لذا بدئت الآية بأمر النّبي أن يقول: قل يا محمد: لا يعلم أحد الغيب من أهل السماوات والأرض، إلا الله عزّ وجلّ، فإنه المنفرد بذلك وحده لا شريك له، قال الله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام: ٦/ ٥٩]. وقال سبحانه:
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤) [لقمان: ٣١/ ٣٤].
ثم أكّد الله تعالى اختصاصه بعلم الغيب وكون القيامة تأتي بغتة، فما يدري أهل السماوات والأرض بوقت الساعة، كما قال الله تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف: ٧/ ١٨٧]. أي ثقل علمها على أهل السماوات والأرض، ولم يدركوا حقائقها، فلا يشعر أي واحد من الناس، متى وقت البعث والحساب والجزاء، وإنما تأتيهم القيامة فجأة.
وأكّد الله تعالى أمرا آخر وهو جهل الناس بيوم القيامة حين قال: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي تدارك، بمعنى تناهي وتتابع علمهم بالآخرة، إلى أن يعرفوا لها مقدارا فيؤمنوا، وإنما لهم ظنون كاذبة، فهم عاجزون عن معرفة وقت حدوث القيامة، وعلمهم بذلك معدوم، وإنما هي تنبؤات وتخرصات لا قيمة لها.
1887
ثم وصفهم الله تعالى بالحيرة والاضطراب والقلق في الآخرة فقال: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي بل جنس الكفرة في شك من وجود الآخرة ووقوعها، وهم في حيرة شديدة من تحقق وجودها، كما قال الله تعالى: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨)
[الكهف: ١٨/ ٤٨]. أي لن نجعل للكافرين منكم موعدا.
ثم كشف الله حقيقتهم وهي التّعامي عن التفكر والتأمل أو التدبر في أمر الآخرة، فقال: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ أي بل هم في عماية وجهل كبير في أمرها وشأنها، لا يفكرون فيها في أعماق نفوسهم، فهم عمي البصيرة لا البصر، وهذا أسوأ حالا من الشّك.
إن هذه الإضرابات الثلاثة بكلمة (بل) تدرّج في وصف منكري البعث، فهم أولا لا يشعرون بوقت البعث ولا يعلمون متى يكون، ثم إنهم يتخبطون في الشكوك فلا يزيلونها، والإزالة مستطاعة، ثم هم عمي البصيرة لا يدركون الحقائق، وهذا غاية الحطّة والدّنو.
استبعاد المشركين بعث الأجساد
استمرّ مشركو العرب وأمثالهم في استبعاد أن تبعث الأجساد والرّمم من القبور، وتلك حلقة من سلسلة اعتقاداتهم الفاسدة، التي فنّدها القرآن الكريم، وردّ عليها، وأبان زيفها، لأن الشك في أمر المعاد لا ينشأ إلا من الشك في كمال القدرة الإلهية أو في كمال العلم، وبما أن المنطق الحسي، والاستقرار الفطري يدلان على عظمة القدرة الإلهية، وتمام العلم الإلهي وإحاطته، فإن كل امرئ عاقل يؤمن بوجود يوم العدالة المطلقة، وإنصاف الخلائق، وهو يوم القيامة، فكان لا بدّ من صحة الاعتقاد
1888
بالحشر والمعاد وبعث الأجساد، قال الله تعالى واصفا إنكار العبث من فئة أهل الشّرك:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٧ الى ٧٥]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١)
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥)
«١» «٢» «٣» «٤» [النّمل:
٢٧/ ٦٧- ٧٥].
ردّ الله تعالى في هذه الآيات على إنكار المشركين البعث واستبعاد إعادة الأجسام أحياء من القبور. فقالوا: أنخرج من قبورنا أحياء بعد مماتنا، وبعد أن بليت أجسادنا وصارت ترابا؟! ما زلنا نسمع كثيرا بهذا، ووعدنا نحن وآباؤنا من قبل بإتيان القيامة، ولكن لا نلمس له حقيقة ولا وقوعا، ولم نشاهد قيام أحد من قبره بعد موته، فما هذا الوعد بإعادة الأجساد كما زعموا إلا أسطورة أي خرافة وأكذوبة، يتناقلها الناس بعضهم عن بعض، إنهم هم السطحيون الخرافيون، وليسوا أولئك المؤمنين بالبعث والمعاد والحساب.
أرشد الله تعالى هؤلاء المنكرين للآخرة إلى صواب الاعتقاد، فقل لهم أيها الرسول: سيروا في بلاد العرب كلها وغيرها، فانظروا مصير من سبقكم من
(١) أكاذيبهم المسطرة في كتبهم.
(٢) حرج.
(٣) لحقكم.
(٤) ما تخفي.
1889
المكذبين، إنهم اغتروا بدنياهم، وفتنوا بزخارفها، وكذّبوا الرّسل، وأنكروا القيامة، فأهلكهم الله بذنوبهم، فانظر كيف عاقبة المجرمين، الذين أجرموا في عقائدهم الفاسدة.
فلا تحزن يا محمد على إعراض هؤلاء المكذبين عن رسالتك، ولا يضق صدرك بهم حزنا وأسفا على مكائدهم وتأمرهم عليك، فإن الله ناصرك وعاصمك من الناس.
ثم أخبر الله تعالى عن إنكار أمر آخر من المشركين غير البعث، وهو إنكار عذاب الله يوم القيامة، حيث يقولون: متى وقت هذا العذاب الذي تعدنا به، إن كنتم أيها النّبي ومن آمن معك، من الصادقين في ادّعائكم وقولكم؟
أجابهم الله تعالى مرشدا نبيّه: قل لهم يا محمد، عسى أن يكون قد لحقكم وتبعكم، أو اقترب منكم بعض الذي تستعجلون وقوعه من العذاب، وهو القتل والهزيمة، والتنكيل والمذلّة يوم بدر. فكلمة (ردف) بمعنى قرب وأزف.
وسبب تأخير العقاب منوط بحكمة الله وتقديره، فإن الله هو المنعم المتفضّل على عباده كلهم، مع ظلمهم أنفسهم، فإنه سبحانه يضع الأمور في مواضعها المناسبة، ويؤخر العقاب مع استعجالهم إياه، لإعطائهم فرصة للعودة عن ضلالهم، ولكن أكثر الناس لا يشكرون نعم الله عليهم، الظاهرة منها والباطنة.
وإن ربّك ليعلم علما تامّا وشاملا ما تكنّه ضمائرهم وسرائرهم، كما يعلم ظواهرهم، والمقصود من هذا: التنبيه إلى أنه تعالى عالم بمكائد المشركين لرسولهم، وسيجازيهم على ذلك.
ثم أعلن الله تعالى عن حقيقة عامة وهي: ما من شيء غائب مخفي في السماوات والأرض إلا وهو موجود معلوم في اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه الله تعالى كل ما
1890
كان وما يكون إلى يوم القيامة. فهو سبحانه وتعالى عالم الغيب والشهادة، يعلم الغائب والظاهر الموجود المشاهد للناس، وكل ذلك مدوّن في كتاب واضح لا لبس فيه، كما جاء في آيات كثيرة أخرى منها: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠) [الحج: ٢٢/ ٧٠].
القرآن والنّبوة
عني القرآن الكريم بإثبات ثلاثة أمور عقدية: وهي التوحيد، والنّبوة، والمعاد، أما التوحيد: فأدلته كثيرة يقتنع بها كل عاقل رشيد، ومنها خلق السماوات والأرض، وتسيير نظام الكون بانسجام وانتظام.
وأما النّبوة: فدليلها قيام المعجزة، ومنها التّحدي بالإتيان بمثل القرآن العظيم، ومنها إيراد القرآن تفاصيل قصص عجيبة لم تعرف بغير القرآن، وأما المعاد يوم القيامة: فدليله الإيمان بالغيب وضرورة إنصاف الخلائق على ما بدر منهم في عالم الدنيا من مظالم. وهذه آيات كريمة تبين لبني إسرائيل ما اختلفوا فيه، وترشد إلى أن القرآن المجيد هداية ورحمة، وأن الله يحكم بين خلقه، فإذا أعرضوا عن هدي القرآن، فهم كالموتى صمّ، عمي، بكم، لن تفلح معهم هداية أخرى، قال الله سبحانه واصفا هذا:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧٦ الى ٨١]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠)
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)
[النّمل:
٢٧/ ٧٦- ٨١].
1891
إن القرآن العظيم نبّه إلى أنه أخبر بني إسرائيل بأخبار أكثر الأشياء، التي كان فيما بينهم اختلاف في صفتها، فجاءت في القرآن مطابقة للواقع، وخلافات بني إسرائيل كثيرة، ومن أهم اختلافهم في شأن عيسى عليه السّلام، فحسم القرآن الخلاف، وأبان أن عيسى عبد لله ورسول من عنده، مثله كمثل بقية الأنبياء المرسلين، من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام، ولا داعي بعدئذ للمبالغة في وصف نبي من الأنبياء بغير صفة العبودية لله عزّ وجلّ، والنّبوة ذات المهام المشتركة بين الأنبياء: وهي تبليغ وحي الله وأحكامه وشرائعه.
ومهمة القرآن الكريم: تبيان الحقائق الناصعة، وإزالة الخلافات الواقعة، فهو هاد إلى طريق الرّشاد، ورحمة لأهل الإيمان بما اشتمل عليه من تشريعات تتعلق بالعقيدة، كتوحيد الله تعالى، وإثبات المعاد والحشر، والنّبوة والوحي، وإبانة صفات الله الحسنى، ووضع الأنظمة الصالحة لحياة الناس العملية، من عبادات ومعاملات، تتفق مع الحاجة، وتلتقي مع المصلحة.
ثم وجّه الله تعالى الناس إلى ضرورة الاعتقاد الجازم أن كل ما يقع بين الناس من خلافات وغيرها، فهو كله بقضاء من الله تعالى، وهو حكم قضاه فيهم وبينهم، إنه قضاء عادل، وحكم صائب، والله سبحانه هو العزيز، أي القوي القادر على الحكم والعقاب، العليم بأفعال العباد وأقوالهم، يقضي بينهم بالصواب والحق المطابق للواقع.
كما وجّه الله سبحانه النّبي والناس بعد هذا القضاء الإلهي إلى ضرورة الاتّكال على الله والثّقة به، والاعتماد عليه، وتفويض جميع الأمور إليه، فما عليك أيها النّبي إلا تبليغ رسالتك، وأحكام ربك، وترك الالتفات إلى أعداء الله تعالى، فإنك على الحق الأبلج، والنور الأعظم، وكل من خالفك فهو على الباطل ومن أهل الشقاوة.
وإنك أيها النّبي الجدير بالنصرة وظهور السمعة والأثر.
1892
وإنك أيها النّبي أيضا لا تستطيع إسماع الأعداء الذين هم كالموتى، ولا يمكنك إسماع كلام الله، لأنهم كالصّم، فلا أمل في سماعهم، وكالعمي الذين لا يبصرون طريقهم إلى الرشاد، وكيف تسمعهم ما تريد، وهم يولّون عنك مدبرين هاربين؟ إنهم فقدوا الاستعداد للهداية، لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون، ومن حجب عن نفسه شعاع الشمس كيف يستفيد من حرارتها وإنارتها؟! ثم أكّد الله تعالى قراره في المخالفين والمعادين إيناسا لنبي الله، وهو أنك أيها الرسول لست بمستطيع هداية العمي وإبعادهم عن ضلالتهم، وردّهم عن انحرافهم، إلى دائرة الحق والخير والنور، لحجبهم عن السماع والتّبصر، ولا تستطيع إلا إسماع الذين علم الله أنهم يؤمنون بآيات الله، أي يصدّقون بها، فهم مسلمون مخلصون التوحيد لله، خاضعون لربّ العباد، ولا يستجيب لك إلا كل بصير القلب، يستخدم سمعه وبصره في إدراك الوجه الصحيح للأمور، ويستعد لقبول الحق الخالص.
إن المعرض عن دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم أشبه بالموتى حيث لا فائدة من خطابه، وكالأصمّ والأعمى حيث لا أمل في إدراك الكلام، أما المستعد لقبول دعوة النّبي فهو متفتّح القلب والبصيرة. قال العلماء: الميت من الأحياء: هو الذي يلقى الله تعالى بكفره.
علامات القيامة
إن وقوع القيامة أمر حتمي لا بد منها، فهي عالم الحساب والثواب والعقاب، وسيجد الناس أمارات أو علامات لها في عالم الدنيا قبل النهاية العامة، ولا مجال لتكذيب هذه العلامات، لأنها غريبة الوصف، باهرة التأثير، عجيبة الوضع.
والعلامات للقيامة إما صغرى وإما كبري، وهي إما بمثابة الإنذار لوقوع شيء
1893
غريب، وإما تصاحب القيامة نفسها كنفخ الصور، ومجيء القيامة مختص علمه بالله تعالى، ومرتبط بالحكمة الإلهية، التي تتطابق مع ما آل إليه أمر الناس من شر وسوء، وتقصير وخمول، وفوضى وجهالة، ويأس عام وبعد من الاستقامة. قال الله تعالى مبينا بعض علامات القيامة التي هي بمثابة الإنذارات:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٢ الى ٨٦]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦)
«١» «٢» «٣» [النّمل: ٢٧/ ٨٢- ٨٦].
في آخر الزمان عند فساد الناس، وتخلّيهم نهائيّا عن أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق، وتنجيز وعد عذابهم الذي حتّمه الله عليهم وقضاه فيهم، وذلك قبيل قيام الساعة، في ذلك الوقت يخرج الله دابّة من الأرض إما من جبل الصّفا بمكة، وإما من مسجد الكوفة من حيث فار تنّور نوح عليه السلام، وتلك الدابّة سميت الجسّاسة في بعض الأخبار أو الآثار المروية في كتب السّنة الصّحاح، ولكن لم يرد وصف معين لهذه الدابّة، فيكون الله أعلم بها، وتنطق هذه الدابّة بلسان فصيح: إن الناس كانوا لا يوقنون بآيات الله تعالى. روي أن هذه الدابّة مبثوث نوعها في الأرض، فهي تخرج في كل بلد وفي كل قوم.
واذكر أيها النّبي:- وهذا تذكير بيوم القيامة- أننا نحشر، أي نجمع يوم القيامة جماعة من رؤساء كل أمة، من الظالمين المكذبين بآياتنا، فهم يوزعون، أي يحبس أولهم على آخرهم، أو يكفّون في السوق.
(١) اقتربت الساعة.
(٢) جماعة.
(٣) فيها معنى المنع، أي يمنع أولهم ويوقف حتى يتلاحقوا ويجتمعوا.
1894
فإذا جاء هؤلاء الجماعة الموقوفون يوم القيامة، يسألهم الله تعالى سؤال توبيخ:
فيقال لهم: كيف كذّبتم بآياتي الدالّة على تحقيق هذا اليوم ولقائه، غير ناظرين بما أعلمتكم به علما تامّا؟ بل ماذا كنتم تعملون، أي بماذا كنتم تشغلون أنفسكم، أو تعملون فيها من تصديق أو تكذيب؟! إنهم حيارى تائهون، لا يجدون جوابا مقنعا، ولا سبيلا للنجاة.
ثم أخبر الله تعالى عن وقوع القول عليهم، أي نفوذ العذاب، وحتم القضاء، وأنهم لا ينطقون بحجة مقنعة، لفقدانهم إياها. حين يحلّ العذاب بأولئك المكذبين بآيات الله، وذلك بسبب ظلمهم، أي تكذيبهم وكفرهم، فيشغلهم عن النطق والاعتذار، كما جاء في آية أخرى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) [المرسلات: ٧٧/ ٣٥- ٣٦].
ثم أوضح الله تعالى دليلا يثبت التوحيد الإلهي، والحشر، والنّبوة وهو: ألم يعلم هؤلاء المكذّبون بآياتنا أنا خلقنا الليل للسكن والنوم والراحة، وخلقنا النهار مضيئا للعمل، وتقلّب الناس في جلب معايشهم وأرزاقهم، إن في ذلك الإبداع أو الخلق لدلالات وآيات بيّنات على قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، وإنجاز البعث بعد الموت، للجزاء والحساب، وعلى توحيد الله تعالى، لقوم يصدقون بالله ورسله.
فمن تأمّل في ظاهرة تعاقب الليل والنهار، والانتقال من حال شبيهة بالموت إلى حال الحركة والحياة، أدرك أن القيامة كائنة، وأن الله سيبعث من في القبور.
وهذه الآية موجهة لجميع المؤمنين والكافرين، فهي في الخطاب لهم جميعا، وفي مجال الانتفاع بها مخصوصة بالمؤمنين، لذا خصّهم الله بالذكر، وجعلهم قدوة حسنة في قبول النصيحة والموعظة، ليكونوا أمام المنكرين والمعاندين مثلا عملية وتجربة رائدة، فهم استعدّوا للإيمان، وتبصّروا بآيات الله، وأيقنوا بوعد الله ووعيده،
1895
وانتفعوا بالمذكّرات والعظات، فاستحقّوا النّجاة والإسعاد، وكانوا كوكبة منيرة تنير للناس سبيل الإنقاذ، والاعتقاد بدين الحق.
فالحمد لله والشكر له أن جعلنا من عباده المؤمنين، وألهمنا رشدنا، ووفّقنا للعمل بما يحبّه ويرضاه.
نفخة الصور
إن العلامة الأولى كما تقدم ليوم القيامة قبله بيسير: هي ظهور دابّة من الأرض في آخر الزمان، وانتشار الفساد، تكلّم الناس أنهم لا يوقنون بآيات الله، والعلامة الثانية المصاحبة لقيام القيامة: هي النفخة الأولى في الصور، أي القرن أو البوق العظيم حين ينفخ إسرافيل، فيموت جميع الناس، وفي ذلك من الرهبة والخوف والذّعر ما لا يوصف، وتقوم القيامة بنفخة أخرى يبعث بها الناس من قبورهم. وقد أخبر الله تعالى عن هاتين النفختين، وهنا الحديث عن النفخة الأولى وما يعقبها، قال الله تعالى:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٧ الى ٩٠]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠)
«١» «٢» [النّمل: ٢٧/ ٨٧- ٩٠].
هذا يوم حاسم في تاريخ البشرية، إنه يوم يقضى به عليها بعد وجودها في الدنيا،
(١) خاف خوفا شديدا.
(٢) أي صاغرين ذليلين.
1896
فاذكر أيها الرسول للناس هول ذلك اليوم، حيث ينفخ إسرافيل في الصور: وهو القرن في قول الجمهور، فيعمّ الفزع الشديد جميع أهل السماوات والأرض، ويعقب الموت ذلك الفزع، بنفخة الصعق، إلا من شاء الله أن لا يفزع بأن ثبّت قلبه: وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ملك الموت، وكل واحد من الخلائق يأتون إلى الموقف بين يدي الله للسؤال والحساب أذلّة صاغرين، صغار مهانة إن كانوا كفّارا، وصغار هيبة وخشية إن كانوا مؤمنين.
هذه، وهي نفخة الفزع، علامة ثانية ليوم القيامة، وهناك علامة ثالثة: وهي تسيير الجبال وإزالتها من أماكنها، فانظر أيها الرّائي الجبال تظنّها ثابتة باقية على ما كانت عليه، وهي تزول بسرعة فائقة عن أماكنها، وتسير كما يسير الغمام بتأثير الريح العاصفة، لأن حركتها الرتيبة لا تكاد تبين. إنه صنع الله وفعله بقدرته العظيمة الذي أحكم وأتقن صناعة كل شيء، وأودع فيه من الحكمة ما شاء، إنه سبحانه خبير بما تعملون من أعمال وما تقولون من أقوال، خيرها وشرّها، وسيجازيكم عليها خيرا أو شرّا، وهذه هي علة النفخ في الصور وإيجاد البعث للحساب والجزاء.
وحال الناس بعد وقوع القيامة صنفان:
- فمن جاء بالحسنة أي بالإيمان الصحيح بالله وحده لا شريك له، واقترن بإيمانه العمل الصالح الذي يرضي الله تعالى، فله على ذلك الثواب الجزيل عند ربّه في جنّات النعيم، بحيث يأمن من الفزع الأكبر، وهو الخوف من عذاب القيامة، كما جاء في آية أخرى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: ٢١/ ١٠٣]. فالحسنة: هي الإيمان، وهو النطق بكلمة (لا إله إلا الله) ويكون للمؤمن خير من هذه الحسنة: أي خير من قدرها أو استحقاقها، بمعنى أن الله تعالى تفضّل على المؤمن بما هو فوق ما تستحق حسنته، والمراد بالخيرية: مضاعفة الثواب ودوامه، فليس شيء خيرا من (لا إله إلا الله).
1897
- ومن جاء بالسيئة: وهي الكفر والمعاصي، ممن استحق العذاب باختياره، وحتّم الله تعالى عليه دخول النار، أي من كان كافرا عاصيا في الدنيا، فيلقى في النار على وجهه، وإذا كبّت الوجوه في النار، فسائر البدن أدخل النار، إذ الوجه موضع الشرف والحواس، فهل هذا إلا جزاء عملكم في الدنيا أيها المنحرفون من شرك ومعصية؟ إنكم أيها العصاة الكفرة لا تجزون إلا بما يتّفق مع العدل والحق، وهو جزاء أعمالكم الصادرة عنكم في الدنيا.
إن هذا المصير المحتوم يقتضي من الناس أن يكونوا إما على أهبة واستعداد بالإيمان وعمل الصالحات، حتى يدخلوا دار السعادة والسلام وهي الجنة، وإما أن يكونوا على حذر وخوف من الشرك بالله والكفر به، وإنكار وحدانيته، وترك الفرائض، وعصيان الأوامر، فيكونوا من أهل النار دار الخلود بالعذاب، ودار الانتقام والبقاء فيها. ومصير هذين الفريقين قائم على محض الحق والعدل، والمنطق، وإنصاف الخلائق.
العبادة وتلاوة القرآن
ختمت سورة النّمل بخاتمة عظيمة، تدلّ على مغزى إيجاد الخلق الإنساني، ألا وهو عبادة الله وحده، وترشد إلى طريق الهداية القويمة، ألا وهي تلاوة القرآن العظيم وتدبّر آياته، والاستضاءة بتوجيهاته في العقيدة والعبادة، والآداب والحياة الإنسانية بكل سلوكياتها وأبعادها ومناهجها، ويجمعها كلّها منهج الإسلام وعطاؤه للبشرية في كل زمان ومكان. وبعد هذا البيان الشافي، من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن زاغ وانحرف وضلّ عن السبيل القويم، فضلاله على نفسه، ووباله على حاله، وقد أدى نبي الله الرسالة، وبلّغ الأمانة، وبشّر وأنذر، ورغّب وحذّر، ولم يبق للناس عذر بالجهل أو الاشتباه. قال الله تعالى مبيّنا هذه التوجيهات:
1898

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٩١ الى ٩٣]

إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)
[النّمل: ٢٧/ ٩١- ٩٣].
حصر الله تعالى مهمة رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، في مجال علاقته مع قومه بأمور أربعة:
الأول منها- قل أيها النّبي لقومك: إنما أمرت فقط أن أعبد ربّ مكة التي حرمها على الناس، فجعلها شرعا بلدا آمنا حرما، لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا ينفّر صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يهدّد الخائف فيها، وقد أضيف فيها التحريم إلى الله تعالى، من حيث كون ذلك بقضائه وسابق علمه. وفي قوله حَرَّمَها تعديد للنعمة على قريش، في رفع الله تعالى عن بلدهم الغارات والفتن الشائعة في جميع بلاد العرب في ذلك الزمان.
وبيد الله تعالى الأمر والتدبير لكل شيء، لذا قال: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ معناه بالملك والعبودية، فالله سبحانه مالك الملك، والمخلوقات كلها عبيد لله، فله تعالى كل شيء في الكون خلقا وملكا وتصرّفا، لا يشاركه في ملكه شريك.
الأمر الثاني- وأمرني ربّي أن أكون من المسلمين، أي الموحّدين المخلصين، المنقادين لأمره، المطيعين له، لأن كل الخلق خاضع لله تعالى طوعا أو كرها، كما جاء في آية أخرى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) [آل عمران: ٣/ ٨٣].
الأمر الثالث- وأمرني ربّي أن أتلو القرآن بجميع ما فيه على الناس، وأن أتلوه وحدي ليلا نهارا، لاستبانة أسراره، والتّعرف على أدلة وجود الله وتوحيده في الكون، فيزداد إيماني، وتشرق نفسي.
1899
وتلاوة القرآن معناها: متابعة قراءة آياته وسردها، وتكون هذه التلاوة سبب الاهتداء إلى كل خير.
فمن اهتدى إلى الحقّ والإيمان فقد اهتدى لنفسه، أي من تكسّب الهدى والإيمان، ونظر نظرا ينجّيه، فلنفسه سعيه، وأثر جهده وفكره. ومن آمن برسالة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، واتّبع هداه، فقد رشد، وأمن عذاب الله الحقّ، لانحرافه وتقصيره في التعرف على مضمون الهداية الرّبانية.
ومن ضلّ وأخطأ طريق الحق والإيمان والرشاد، وكذّب بدعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم التي جاء بها من عند ربّه، في القرآن المجيد، فعليه وزر ضلاله، ونتيجة تقصيره وانحرافه، وإنما النّبي من المنذرين المخوّفين قومهم عذاب الله، وليس على هذا النّبي إلا الإنذار والتخويف من عذاب الله تعالى.
فنسبة الهدى والضلال إلى البشر من هذه الأمة، إنما هي بالتكسب والاختيار، والحرص والحال التي عليها يقع الثواب والعقاب، والكل أيضا من الله تعالى بالخلق والإيجاد والتقدير.
الأمر الرابع- وقل أيها الرسول: لله الحمد الذي لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه والإنذار إليه، ولله الحمد على ما أنعم على النّبي من النبوة، وعلى ما علمه ووفّقه لتحمّل أعباء الرسالة والعمل بما أنزل الله عليه، وإنه سبحانه سيريكم آياته الدالّة على عظمته وحكمته وقدرته، وأمارات عذابه وسخطه، وما الله بغافل عما يعمل المشركون وغيرهم، وشهيد على كل شيء، ولكن يؤجل عذابهم إلى أجل معين على حسب إرادته وحكمته. وقوله تعالى: سَيُرِيكُمْ آياتِهِ توعّد بعذاب الدنيا كبدر والفتح وغيرهما، وتوعّد بعذاب الآخرة، فمن وعى الكلام تجنّب الزّلل والعصيان، واستقام على أمر الله تعالى.
1900
Icon