[ نزلت ]١ هذه الآيات حين غلب ٢ سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم، واضطر هرقل مَلك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية، وحاصره فيها مدة طويلة، ثم عادت الدولة لهرقل، كما سيأتي.
قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس٣، رضي الله عنهما، في قوله تعالى :﴿ الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ ﴾ قال : غُلبت وغَلَبت. قال : كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ؛ لأنهم أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر٤ الروم على فارس ؛ لأنهم أهل كتاب، فذُكر٥ ذلك لأبي بكر، ، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أما إنهم سيغلبون » فذكره أبو بكر لهم، فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا. فجعل أجلا خمس٦ سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال :" ألا جعلتها إلى دُون " أراه قال :" العشر ". " قال سعيد بن جبير : البضع ما دون العشر. ثم ظهرت الروم بعد، قال : فذلك قوله :﴿ الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾.
هكذا رواه٧ الترمذي والنسائي جميعا، عن الحسين٨ بن حُرَيْث، عن معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق الفزاري، عن سفيان بن سعيد الثوري ٩ به، وقال الترمذي : حسن غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان، عن حبيب.
ورواه ابن أبي حاتم، عن محمد بن إسحاق الصاغاني١٠، عن معاوية بن عمرو، به. ورواه ابن جرير :
حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن سعيد - أو سعيد١١ الثعلبي الذي يقال له : أبو سعد من أهل طرسوس - حدثنا أبو إسحاق الفزاري، فذكره. وعندهم : قال سفيان : فبلغني أنهم غلبوا يوم بدر١٢.
حديث آخر : قال سليمان بن مِهْران الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، قال : قال عبد الله : خمس قد مضين : الدخان، واللزام، والبطشة، والقمر، والروم. أخرجاه١٣ ١٤.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا المحاربي، عن داود بن أبي هند، عن عامر - هو الشعبي - عن عبد الله - هو١٥ ابن مسعود رضي الله عنه - قال : كان فارس ظاهرًا على الروم، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم. وك ان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ؛ لأنهم أهل كتاب وهم أقرب إلى دينهم، فلما نزلت :﴿ الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾ قالوا : يا أبا بكر، إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين ؟ ! قال : صدق. قالوا : هل لك إلى أن نقامرك، فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين، فمضت السبع ولم يكن شيء، ففرح المشركون بذلك وشق على المسلمين، فذُكِر١٦ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال :" ما بضع سنين عندكم " ؟ قالوا : دون العشر. قال :" اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل ". قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس، ففرح المؤمنون بذلك، وأنزل الله :﴿ الم. غُلِبَتِ الرُّومُ ﴾ إلى قوله :﴿ [ وَعْدَ اللَّهِ ] لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾١٧ ١٨.
حديث آخر : قال١٩ ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أحمد بن عمر الوَكِيعي، حدثنا مُؤَمَّل، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال : لما نزلت :﴿ الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴾، قال المشركون لأبي بكر : ألا ترى إلى ما يقول صاحبك ؟ يزعم أن الروم تغلب فارس. قال : صدق صاحبي. قالوا : هل لك أن نخاطرك ؟ فجعل بينه وبينهم أجلا فحل الأجل قبل أن تغلب الرومُ فارسَ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فساءه ذلك وكرهه، وقال لأبي بكر :" ما دعاك إلى هذا ؟ " قال : تصديقًا لله ولرسوله. فقال :" تَعَرَّض لهم وأعظم الخَطَر واجعله إلى بضع سنين ". فأتاهم أبو بكر فقال لهم : هل لكم في العود، فإن العود أحمد ؟ قالوا : نعم. [ قال ]٢٠ فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارسَ، وربطوا خيولهم بالمدائن، وبنوا الرومية، فجاء به أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هذا السحت، قال :" تصدق به " ٢١.
حديث آخر : قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، أخبرني ابن أبي الزِّنَاد، عن عروة بن الزبير٢٢ عن نيَار بن مُكرَم الأسلمي قال : لما نزلت، ﴿ الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾، فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم ؛ لأنهم وإياهم أهل كتاب، وفي ذلك قول الله :﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾، وكانت قريش تحب ظهور فارس ؛ لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة :﴿ الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾، قال٢٣ ناس من قريش لأبي بكر : فذاك بيننا وبينك٢٤. زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك ؟ قال : بلى - وذلك قبل تحريم الرهان - فارتهن أبو بكر والمشركون، وتواضَعُوا الرهان، وقالوا لأبي بكر : كم تجعل البضع : ثلاث سنين إلى تسع سنين، فَسمِّ بيننا وبينك وَسَطًا ننتهي إليه. قال : فسموا بينهم ست سنين. قال : فمضت ست السنين قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس، فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين، قال : لأن الله قال :﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾. قال : فأسلم عند ذلك ناس كثير٢٥.
هكذا ساقه الترمذي، ثم قال : هذا ٢٦ حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد. وقد روي نحو هذا مرسلا عن جماعة من التابعين، مثل عِكْرِمة، والشعبي، ومجاهد، وقتادة، والسُّدِّي، والزهري، وغيرهم.
ومن أغرب هذه السياقات ما رواه الإمام سُنَيد بن داود في تفسيره حيث قال : حدثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، عن عكرمة قال : كانت في فارس امرأة لا تلد إلا الملوك الأبطال، فدعاها كسرى فقال : إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشًا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك، فأشيري عَليَّ، أيَّهم أستعمل ؟ فقالت : هذا فلان، وهو أروغ من ثعلب، وأحذر من صقر. وهذا فرخان، وهو أنفذ من سنان. وهذا شهريراز٢٧، وهو أحلم من كذا - تعني أولادها الثلاثة - فاستعمل أيهم شئت. قال : فإني قد استعملت الحليم. فاستعمل شهريراز٢٨، فسار إلى الروم بأهل فارس، فظهر عليهم فقتلهم، وخرّب مدائنهم، وقطع زيتونهم.
قال أبو بكر بن عبد الله : فحدثت بهذا الحديث عطاء الخراساني فقال : أما رأيت بلاد الشام ؟ قلت : لا قال : أما إنك لو رأيتها٢٩ لرأيت المدائن التي خربت، والزيتون الذي قطع. فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته٣٠.
قال عطاء الخراساني : حدثني يحيى بن يَعْمَر : أن قيصر بعث رجلا يدعى قطمة بجيش من الروم، وبعث كسرى شهريراز٣١، فالتقيا بأذرعات وبُصرى، وهي أدنى الشام إليكم، فلقيت فارس الروم، فغلبتهم فارس. ففرحت بذلك كفار قريش وكرهه المسلمون.
قال عكرمة : ولقي المشركون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب [ ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب ] ٣٢، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرَنّ عليكم، فأنزل الله :﴿ الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ ﴾، فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا، فلا تفرحوا، ولا يُقرَّن الله أعينكم، فوالله ليظهرن الله الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم. فقام إليه أبيّ بن خَلَف فقال : كذبت يا أبا فضيل. فقال له أبو بكر : أنت أكذب يا عدو الله. فقال : أناحبُكَ عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غَرِمتُ، وإن ظهرت فارس غرمتَ إلى ثلاث سنين. ثم جاء٣٣ أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال :" ما هكذا ذكرت، إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايدْه في الخَطَر ومادّهْ في الأجل "، فخرج أبو بكر فلقي أبيّا فقال : لعلك ندمت ؟ فقال : لا تعال أزايدك في الخَطَر وأمادُّك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص لمائة قلوص إلى تسع سنين. قال : قد فعلت، فظهرت الروم على فارس قبل ذلك، فغلبهم المسلمون.
قال عكرمة : لما أن ظهرت فارس على الروم، جلس فرخان يشرب وهو أخو شهريراز٣٤ فقال لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى. فبلغت كسرى فكتب إلى شهريراز٣٥ ٣٦ إذا أتاك كتابي [ هذا ] ٣٧ فابعث إليَّ برأس فرخان. فكتب إليه : أيها الملك، إنك لن تجد مثل فرخان، له نكاية وصوت في العدو، فلا تفعل. فكتب إليه : إن في رجال فارس خلفًا منه، فعجّل إليَّ برأسه. فراجعه، فغضب كسرى فلم يجبه، وبعث بريدا إلى أهل فارس : إني قد نزعت عنكم شهريراز، واستعملت عليكم فرخان. ثم دفع إلى البريد صحيفة لطيفة صغيرة فقال : إذا ولي فرخان الملك، وانقاد له أخوه، فأعطه هذه. فلما قرأ شهريراز الكتاب قال : سمعا وطاعة، ونزل عن سريره، وجلس فرخان، ودفع إليه الصحيفة، قال٣٨ ائتوني بشهريراز٣٩ وقَدَّمَه ليضرب عنقه، قال : لا تعجل [ عليَّ ]٤٠ حتى أكتب وصيتي، قال : نعم. فدعا بالسَّفط فأعطاه الصحائف٤١ وقال : كل هذا راجعتُ فيك كسرى، وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد. فرد الملك إلى أخيه شهريراز٤٢ وكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم : إن لي إليك حاجة لا تحملها البُرُد ولا تحملها الصّحف، فالقني، ولا تلقني إلا في خمسين روميا، فإني ألقاك في خمسين فارسيا. فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق، وخاف أن يكون قد مكر به، حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلا. ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما، مع كل واحد منهما سكين، فدعيا ٤٣ ترجمانا بينهما، فقال شهريراز٤٤ إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا، وإن كسرى حَسَدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت، ثم
٢ - في أ: "غلبت"..
٣ - في ت: "فروى الإمام أحمد بإسناده إلى"..
٤ - في ف: "يظهر"..
٥ - في ت: "فذكروه" وفي ف، أ: "فذكروا"..
٦ - في ت: "خمسين"..
٧ - في ت: "ورواه"..
٨ - في أ: "الحسن"..
٩ - المسند (١/٢٧٦) وسنن الترمذي برقم (٣١٩٣) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٣٨٩)..
١٠ - في أ: "الصنعاني"..
١١ - في ف، أ: "أبو سعد"..
١٢ - تفسير الطبري (٢١/١٢)..
١٣ - في ت: "البخاري ومسلم"..
١٤ - صحيح البخاري برقم (٤٧٦٧) وصحيح مسلم برقم (٢٧٩٨)..
١٥ - في ت: "وروى ابن جرير عن"..
١٦ - في ت: "فذكروا"..
١٧ - زيادة من ت، أ..
١٨ - تفسير الطبري (٢١/١٤)..
١٩ - في ت: "روى"..
٢٠ - زيادة من ت، أ..
٢١ - ورواه أبو يعلى في المسند الكبير، كما في إتحاف المهرة للبوصيري (ق١٨٣ سليمانية) من طريق إبراهيم بن محمد بن عرعرة، عن المؤمل بنحوه، وقال البوصيري: "وله شاهد من حديث نيار بن مكرم رواه الترمذي" وهو الآتي بعده..
٢٢ - في ت: "رواه أبو عيسى الترمذي"..
٢٣ - في ت، ف: "فقال"..
٢٤ - في ت، ف: "وبينكم"..
٢٥ - سنن الترمذي برقم (٣١٩٤)..
٢٦ - في ت: "وقال الترمذي"..
٢٧ - في ت: "شهريزار"..
٢٨ - في ت: "شهريزار"..
٢٩ - في ف: "لو أتيتها"..
٣٠ - رواه الطبري في تفسيره (٢١/١٣) من طريق سنيد به..
٣١ - في ت: "شهريزار" وفي ف، أ "بشهريراز"..
٣٢ - زيادة من ت، ف..
٣٣ - في ت: "فجاء"..
٣٤ - في ت: "شهريزار"..
٣٥ - في ت: "شهريزار"..
٣٦ - زيادة من ف..
٣٧ - في ف: "عزلت"..
٣٨ - في ف: "فقال"..
٣٩ - في ت: "بشهريزار"..
٤٠ - زيادة من ت..
٤١ - في ت، ف، أ: "ثلاث صحائف"..
٤٢ - في ت: "شهريزار"..
٤٣ - في ت، ف: "فدعا"..
٤٤ - في ت: "شهريزار"..
ﰡ
مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) ﴾ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الإسكاف، ثم النسطورية أصحاب نسطورا، وهم فرق وطوائف كثيرة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة ". ١٠ والغرض أنهم استمروا على النصرانية، كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده، حتى كان آخرهم هرقل. وكان من عقلاء الرجال، ومن أحزم الملوك وأدهاهم، وأبعدهم غورا وأقصاهم رأيا، فتمَلَّكَ عليهم في رياسَة عظيمة وأبهة كبيرة، فناوأه كسرى ملك الفرس، ومَلكَ البلاد كالعراق وخراسان والرّي، وجميع بلاد العجم، وهو سابور ذو الأكتاف. وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر، وله رياسة العجم وحماقة الفرس، وكانوا مجوسا يعبدون النار. فتقدم عن عكرمة أنه بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره وكَسَره وقصره، حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية. فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه، وكانت النصارى تعظمه تعظيما زائدا، ولم يقدر كسرى على فتح البلد، ولا أمكنه ذلك لحصانتها ؛ لأن نصفها من ناحية البر ونصفها الآخر من١١ ناحية البحر، فكانت تأتيهم الميرة والمَدَد من هنالك. فلما طال الأمر دبر قيصر مكيدة، ورأى في نفسه خديعة، فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مال يصالحه عليه، ويشترط عليه ما شاء. فأجابه إلى ذلك، وطلب منه أموالا عظيمة لا يقدر عليها أحد من ملوك الدنيا١٢، من ذهب وجواهر وأقمشة وجوار وخدام وأصناف كثيرة. فطاوعه قيصر، وأوهمه أن عنده جميع ما طلب، واستقل عقله لما طلب منه ما طلب، ولو اجتمع هو وإياه لعجزت قدرتهما عن جمع عُشْره، وسأل كسرى أن يُمكّنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مملكته، ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله ودفائنه، فأطلق سراحه، فلما عزم قيصر على الخروج من مدينة قسطنطينية، جمع أهل ملته وقال : إني خارج في أمر قد أبرمته، في جند قد عينته من جيشي، فإن رجعت إليكم قبل الحول فأنا ملككم، وإن لم أرجع إليكم قبلها فأنتم بالخيار، إن شئتم استمررتم على بيعتي، وإن شئتم وليتم عليكم غيري. فأجابوه بأنك ملكنا ما دمت حيا، ولو غبت عشرة أعوام. فلما خرج من القسطنطينية خرج جريدة في جيش متوسط، هذا وكسرى مُخَيّم على القسطنطينية ينتظره ليرجع، فركب قيصر من فوره وسار مسرعا حتى انتهى إلى بلاد فارس، فعاث في بلادهم قتلا لرجالها ومن بها من المقاتلة، أولا فأولا ولم يزل يقتل حتى انتهى إلى المدائن، وهي كرسي مملكة كسرى، فقتل من بها، وأخذ جميع حواصله وأمواله، وأسر نساءه وحريمه، وحلق رأس ولده، ورَكّبه على حمار وبعث معه من الأساورة من قومه في غاية الهوان والذلة، وكتب إلى كسرى يقول : هذا ما طلبت فخُذه. فلما بلغ ذلك كسرى أخذه من الغم ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، واشتد حنقه على البلد، فاشتد١٣ في حصارها بكل ممكن فلم يقدر على ذلك. فلما عجز ركب ليأخذ عليه الطريق من مخاضة جيحون، التي لا سبيل١٤ لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها، فلما علم قيصر بذلك احتال بحيلة عظيمة لم يسبق إليها، وهو أنه أرصد جنده وحواصله التي معه عند فم المخاضة، وركب في بعض الجيش، وأمر بأحمال من التبن والبعر والروث فحملت معه، وسار إلى قريب من يوم في الماء مصعدا، ثم أمر بإلقاء تلك الأحمال في النهر، فلما مرت بكسرى ظن هو وجنده أنهم قد خاضوا من هنالك، فركبوا في طلبهم فشغرت المخاضة عن الفرس، وقدم قيصر فأمرهم بالنهوض في الخوض، فخاضوا وأسرعوا السير ففاتوا كسرى وجنوده، ودخلوا القسطنطينية. وكان ذلك يوما مشهودًا عند النصارى، وبقي كسرى وجيوشه ١٥ حائرين لا يدرون ماذا يصنعون. لم يحصلوا على بلاد قيصر، وبلادُهم قد خَرّبتها الروم وأخذوا حواصلهم، وسبوا ذراريهم ونساءهم. فكان هذا من غَلب الروم فارسَ، وكان ذلك بعد تسع١٦ سنين من غلب الفرس للروم١٧.
وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم حين غلبت الروم بين أذرعات وبُصرى، على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما، وهي طرف بلاد الشام مما يلي بلاد الحجاز.
وقال مجاهد : كان ذلك في الجزيرة، وهي أقرب بلاد الروم من فارس، فالله١٨ أعلم.
ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين، وهي تسع ؛ فإن البِضْعَ في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع. وكذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي، وابن جرير وغيرهما، من حديث عبد الله بن عبد الرحمن الجُمَحي، عن الزهري، عن عبُيَد الله بن عبد الله، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في مُنَاحَبَة١٩ ﴿ الم غُلِبَتِ الرُّومُ ﴾ ألا احتطت يا أبا بكر، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع ؟ "، ثم قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه٢٠.
وروى ابن جرير، عن عبد الله بن عمرو : أنه قال ذلك٢١.
٢ - في ف: "وكان"..
٣ - في ت: "القندقانية" وفي ف: "الغندقانية"..
٤ - زيادة من ت، ف، أ..
٥ - في ت: "جماعته"..
٦ - في ت، ف، أ: "وصلوا إلى الشرق".
٧ - في ف، أ: "والقرابين"..
٨ - في أ: "زمانه"..
٩ - في ف: "بثلاث"..
١٠ - سنن أبي داود برقم (٤٥٩٦) وابن ماجه في السنن برقم (٣٩٩٢) وقال البوصيري في الزوائد: "إسناد عوف بن مالك فيه مقال، وراشد بن سعد قال فيه أبو حاتم: صدوق. وعباد بن يوسف لم يخرج له أحد سوى ابن ماجه، وليس له عندي سوى هذا الحديث قال ابن عدي: روى أحاديث تفرد بها. وذكره ابن حبان في الثقات وباقي رجال الإسناد ثقات".
١١ - في ت: "في"..
١٢ - في ت: "الأرض"..
١٣ - في أ: "فجد"..
١٤ - في أ: "لا مسلك"..
١٥ - في ت، ف، أ: "وجنوده"..
١٦ - في ت: "ثلاث"..
١٧ - في ت، ف: "من غلب فارس للروم" وفي أ: "من غلب فارس الروم"..
١٨ - في ف: "والله"..
١٩ - في ت: "مبايعته"..
٢٠ - سنن الترمذي برقم (٣١٩١) وتفسير الطبري (٢١/١٢)..
٢١ - تفسير الطبري (٢١/١٦)..
﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾ أي : للروم أصحاب قيصر ملك الشام، على فارس أصحاب كسرى، وهم المجوس. وقد كانت نصرة الروم على فارس يوم وقعة بدر في قول طائفة كبيرة من العلماء، كابن عباس، والثوري، والسُّدِّي، وغيرهم. وقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والبزار، من حديث الأعمش، عن عطية١ عن أبي سعيد قال : لما كان يوم بدر، ظهرت الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين وفرحوا به، وأنزل الله :﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾٢.
وقال آخرون : بل كان نصرة الروم على فارس عام٣ الحديبية ؛ قاله عكرمة، والزهري، وقتادة، وغيرهم٤. ووجه بعضهم هذا القول بأن قيصر كان قد نذر لئن أظفره الله بكسرى ليمشين من حمص إلى إيليا - وهو بيت المقدس - شكرا٥ لله عز وجل، ففعل، فلما بلغ بيت المقدس لم يخرج منه حتى وافاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه مع دحية بن خليفة، فأعطاه دحية لعظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر. فلما وصل إليه سأل من بالشام من عَرَب الحجاز، فأحضرَ له أبو سفيان صخر بن حرب الأموي في جماعة من كفار قريش كانوا في غزة، فجيء بهم إليه، فجلسوا بين يديه، فقال : أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ فقال أبو سفيان : أنا. فقال لأصحابه - وأجلسهم خلفه - : إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذب فكذّبوه. فقال أبو سفيان : فوالله لولا أن يَأثُرُوا عليّ الكذب لكذبت. فسأله هرقل عن نسبه وصفته، فكان فيما سأله أن قال : فهل يغدر ؟ قال : قلت : لا ونحن منه في مُدّة لا ندري ما هو صانع فيها - يعني بذلك الهدنة التي كانت قد وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفار قريش يوم٦ الحديبية على وضع الحرب بينهم عشر سنين، فاستدلوا بهذا على أن نصر الروم على فارس كان عام الحديبية ؛ لأن قيصر إنما وَفَّى بنذره بعد الحديبية، والله أعلم.
ولأصحاب القول الأول أن يجيبوا عن هذا بأن بلاده كانت قد خربت وتشعثت، فما تمكن من وفاء نذره حتى أصلح ما ينبغي إصلاحه وتفقد بلاده، ثم بعد أربع سنين من نصرته وفَّى بنذره، والله أعلم.
والأمر٧ في هذا سهل قريب، إلا أنه لما انتصرت فارس على الروم ساء ذلك المؤمنين، فلما انتصرت الروم على فارس فرح المؤمنون بذلك ؛ لأن الروم أهل كتاب في الجملة، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس، كما قال [ الله ]٨ تعالى :﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [ المائد : ٨٢، ٨٣ ]، وقال تعالى هاهنا :﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا صَفْوان، حدثنا الوليد، حدثني أسيد الكلابي، قال : سمعت ٩ العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه، قال : رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم، كل ذلك في خمس عشرة سنة.
وقوله :﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ ﴾ أي : في انتصاره وانتقامه من أعدائه، ﴿ الرَّحِيمُ ﴾ بعباده المؤمنين.
٢ - سنن الترمذي برقم (٣١٩٢) وتفسير الطبري (٢١/١٦)..
٣ - في ف: "يوم"..
٤ - في أ: "وغير واحد"..
٥ - في ت: "تشكرا"..
٦ - في ت، ف: "عام"..
٧ - في ت: "فالأمر"..
٨ - زيادة من ت..
٩ - في ت: "وروى ابن أبي حاتم عن"..
[نَزَلَتْ] (١) هَذِهِ الْآيَاتُ حِينَ غَلَبَ (٢) سَابُورُ مَلِكُ الْفُرْسِ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ وَمَا وَالَاهَا مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَأَقَاصِي بِلَادِ الرُّومِ، وَاضْطَرَّ هِرَقْلَ مَلك الرُّومِ حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَحَاصَرَهُ فِيهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ عَادَتِ الدَّوْلَةُ لِهِرَقْلَ، كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (٣)، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ﴾ قَالَ: غُلبت وغَلَبت. قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ؛ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ أَوْثَانٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ (٤) الرُّومُ عَلَى فَارِسَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، فذُكر (٥) ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ، ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا إِنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ" فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ، فَقَالُوا: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا فَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ ظَهَرْتُمْ كَانَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا. فَجَعَلَ أَجَلًا خَمْسَ (٦) سِنِينَ، فَلَمْ يَظْهَرُوا، فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:"أَلَا جَعَلَتْهَا إِلَى دُون" أَرَاهُ قَالَ: "الْعَشْرِ". "قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْبِضْعُ مَا دُونَ الْعَشْرِ. ثُمَّ ظَهَرَتِ الرُّومُ بَعْدُ، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
هَكَذَا رَوَاهُ (٧) التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا، عَنِ الْحُسَيْنِ (٨) بْنِ حُرَيْث، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ (٩) بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ، عَنْ حبيب.
(٢) في أ: "غلبت".
(٣) في ت: "فروى الإمام أحمد بإسناده إلى".
(٤) في ف: "يظهر".
(٥) في ت: "فذكروه" وفي ف، أ: "فذكروا".
(٦) في ت: "خمسين".
(٧) في ت: "ورواه".
(٨) في أ: "الحسن".
(٩) المسند (١/٢٧٦) وسنن الترمذي برقم (٣١٩٣) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٣٨٩).
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ -أَوْ سَعِيدٌ (٢) الثَّعْلَبِيُّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أَبُو سَعْدٍ مِنْ أَهْلِ طَرَسُوسَ -حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، فَذَكَرَهُ. وَعِنْدَهُمْ: قَالَ سُفْيَانُ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ غَلَبُوا يَوْمَ بَدْرٍ (٣).
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْران الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٌ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَانُ، وَاللِّزَامُ، وَالْبَطْشَةُ، وَالْقَمَرُ، وَالرُّومُ. أَخْرَجَاهُ (٤) (٥).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَامِرٍ -هُوَ الشَّعْبِيُّ -عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ (٦) ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -قَالَ: كَانَ فَارِسُ ظَاهِرًا عَلَى الرُّومِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الروم. وك ان الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى دِينِهِمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: ﴿الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ قَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ صَاحِبَكَ يَقُولُ: إِنَّ الرُّومَ تَظْهَرُ عَلَى فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ؟! قَالَ: صَدَقَ. قَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ نُقَامِرَكَ، فَبَايَعُوهُ عَلَى أَرْبَعِ قَلَائِصَ إِلَى سَبْعِ سِنِينَ، فَمَضَتِ السَّبْعُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ، فَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ وَشَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فذُكِر (٧) ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا بِضْعُ سِنِينَ عِنْدَكُمْ"؟ قَالُوا: دُونَ الْعَشْرِ. قَالَ: "اذْهَبْ فَزَايِدْهُمْ وَازْدَدْ سَنَتَيْنِ فِي الْأَجَلِ". قَالَ: فَمَا مَضَتِ السَّنَتَانِ حَتَّى جَاءَتِ الرُّكْبَانُ بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ، فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿الم. غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿ [وَعْدَ اللَّهِ] لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ (٨) (٩).
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ (١٠) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الوَكِيعي، حَدَّثَنَا مُؤَمَّل، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾، قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِأَبِي بَكْرٍ: أَلَا تَرَى إِلَى مَا يَقُولُ صَاحِبُكَ؟ يَزْعُمُ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ فَارِسَ. قَالَ: صَدَقَ صَاحِبِي. قَالُوا: هَلْ لَكَ أَنْ نُخَاطِرَكَ؟ فَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَجَلًا فَحَلَّ الْأَجَلُ قَبْلَ أَنْ تَغْلِبَ الرومُ فارسَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَاءَهُ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ، وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: "مَا دَعَاكَ إِلَى هَذَا؟ " قَالَ: تَصْدِيقًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. فَقَالَ: "تَعَرَّض لَهُمْ وَأَعْظِمِ الخَطَر وَاجْعَلْهُ إِلَى بِضْعِ سِنِينَ". فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ فِي الْعَوْدِ، فإن العود أحمد؟ قالوا:
(٢) في ف، أ: "أبو سعد".
(٣) تفسير الطبري (٢١/١٢).
(٤) في ت: "البخاري ومسلم".
(٥) صحيح البخاري برقم (٤٧٦٧) وصحيح مسلم برقم (٢٧٩٨).
(٦) في ت: "وروى ابن جرير عن".
(٧) في ت: "فذكروا".
(٨) زيادة من ت، أ.
(٩) تفسير الطبري (٢١/١٤).
(١٠) في ت: "روى".
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَاد، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ (٣) عَنْ نيَار بْنِ مُكرَم الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ، ﴿الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾، فَكَانَتْ فَارِسُ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَاهِرِينَ لِلرُّومِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ ظُهُورَ الرُّومِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَفِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُحِبُّ ظُهُورَ فَارِسَ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ وَلَا إِيمَانٍ بِبَعْثٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ: ﴿الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾، قَالَ (٤) نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي بَكْرٍ: فَذَاكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ (٥). زَعَمَ صَاحِبُكَ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، أَفَلَا نُرَاهِنُكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: بَلَى -وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهَانِ -فَارْتَهَنَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُشْرِكُونَ، وتواضَعُوا الرِّهَانَ، وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: كَمْ تَجْعَلُ الْبِضْعَ: ثَلَاثَ سِنِينَ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ، فَسمِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَسَطًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ. قَالَ: فَسَمَّوْا بَيْنَهُمْ سِتَّ سِنِينَ. قَالَ: فَمَضَتْ سِتُّ السِّنِينَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرُوا، فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ رَهْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا دَخَلَتِ السَّنَةُ السَّابِعَةُ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَعَابَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتِّ سِنِينَ، قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾. قَالَ: فَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ (٦).
هَكَذَا سَاقَهُ التِّرْمِذِيُّ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا (٧) حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مُرْسَلًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، مِثْلِ عِكْرِمة، وَالشَّعْبِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وقَتَادَةَ، والسُّدِّي، وَالزُّهْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
وَمِنْ أَغْرَبِ هَذِهِ السِّيَاقَاتِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ سُنَيد بْنُ دَاوُدَ فِي تَفْسِيرِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَتْ فِي فَارِسَ امْرَأَةٌ لَا تَلِدُ إِلَّا الْمُلُوكَ الْأَبْطَالَ، فَدَعَاهَا كِسْرَى فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ إِلَى الرُّومِ جَيْشًا وَأَسْتَعْمِلُ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ بَنِيكِ، فَأَشِيرِي عَليَّ، أيَّهم أَسْتَعْمِلُ؟ فَقَالَتْ: هَذَا فُلَانٌ، وَهُوَ أَرْوَغُ مِنْ ثَعْلَبٍ، وَأَحْذَرُ مِنْ صَقْرٍ. وَهَذَا فَرْخَانُ، وَهُوَ أَنْفَذُ مِنْ سِنَانٍ. وَهَذَا شَهْرَيَرَازُ (٨)، وَهُوَ أَحْلَمُ مِنْ كَذَا -تَعْنِي أَوْلَادَهَا الثَّلَاثَةَ -فَاسْتَعْمِلَ أَيَّهُمْ شِئْتَ. قَالَ: فَإِنِّي قَدِ اسْتَعْمَلْتُ الْحَلِيمَ. فَاسْتَعْمَلَ شَهْرَيَرَازَ (٩)، فَسَارَ إِلَى الرُّومِ بِأَهْلِ فَارِسَ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ، وَخَرَّبَ مدائنهم، وقطع زيتونهم.
(٢) ورواه أبو يعلى في المسند الكبير، كما في إتحاف المهرة للبوصيري (ق١٨٣ سليمانية) من طريق إبراهيم بن محمد بن عرعرة، عن المؤمل بنحوه، وقال البوصيري: "وله شاهد من حديث نيار بن مكرم رواه الترمذي" وهو الآتي بعده.
(٣) في ت: "رواه أبو عيسى الترمذي".
(٤) في ت، ف: "فقال".
(٥) في ت، ف: "وبينكم".
(٦) سنن الترمذي برقم (٣١٩٤).
(٧) في ت: "وقال الترمذي".
(٨) في ت: "شهريزار".
(٩) في ت: "شهريزار".
قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَعْمَر: أَنَّ قَيْصَرَ بَعَثَ رَجُلًا يُدْعَى قِطْمَةَ بِجَيْشٍ مِنَ الرُّومِ، وَبَعَثَ كِسْرَى شَهْرَيَرَازَ (٣)، فَالْتَقَيَا بِأَذْرُعَاتَ وبُصرى، وَهِيَ أَدْنَى الشَّامِ إِلَيْكُمْ، فَلَقِيَتْ فَارِسُ الرُّومَ، فَغَلَبَتْهُمْ فَارِسُ. فَفَرِحَتْ بِذَلِكَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَكَرِهَهُ الْمُسْلِمُونَ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: وَلَقِيَ الْمُشْرِكُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: إِنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَالنَّصَارَى أَهْلُ كِتَابٍ [وَنَحْنُ أُمِّيُّونَ، وَقَدْ ظَهَرَ إِخْوَانُنَا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] (٤)، وَإِنَّكُمْ إِنْ قَاتَلْتُمُونَا لنظهرَنّ عَلَيْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ﴾، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ إِلَى الْكُفَّارِ فَقَالَ: أَفَرِحْتُمْ بِظُهُورِ إِخْوَانِكُمْ عَلَى إِخْوَانِنَا، فَلَا تَفْرَحُوا، وَلَا يُقرَّن اللَّهُ أَعْيُنَكُمْ، فَوَاللَّهِ لَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ الرُّومَ عَلَى فَارِسَ، أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَامَ إِلَيْهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَف فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا أَبَا فُضَيْلٍ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَنْتَ أَكْذَبُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ. فَقَالَ: أناحبُكَ عَشْرَ قَلَائِصَ مِنِّي وَعَشْرَ قَلَائِصَ مِنْكَ، فَإِنْ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ غَرِمتُ، وَإِنْ ظَهَرَتْ فَارِسُ غرمتَ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ. ثُمَّ جَاءَ (٥) أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: "مَا هَكَذَا ذَكَرْتُ، إِنَّمَا الْبِضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ، فزايدْه فِي الخَطَر ومادّهْ فِي الْأَجَلِ"، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَلَقِيَ أُبَيًّا فَقَالَ: لَعَلَّكَ نَدِمْتَ؟ فَقَالَ: لَا تَعَالَ أُزَايِدْكَ فِي الخَطَر وأمادُّك فِي الْأَجَلِ، فَاجْعَلْهَا مِائَةَ قَلُوصٍ لِمِائَةِ قَلُوصٍ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، فَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَغَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: لَمَّا أَنْ ظَهَرَتْ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ، جَلَسَ فَرْخَانُ يَشْرَبُ وَهُوَ أَخُو شَهْرَيَرَازَ (٦) فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَقَدْ رَأَيْتُ كَأَنِّي جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِ كِسْرَى. فَبَلَغَتْ كِسْرَى فَكَتَبَ إِلَى شَهْرَيَرَازَ (٧) إِذَا أَتَاكَ كِتَابِي [هَذَا] (٨) فَابْعَثْ إليَّ بِرَأْسِ فَرْخَانَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ مِثْلَ فَرْخَانَ، لَهُ نِكَايَةٌ وَصَوْتٌ فِي الْعَدُوِّ، فَلَا تَفْعَلْ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ فِي رِجَالِ فَارِسَ خَلَفًا مِنْهُ، فَعَجِّلْ إليَّ بِرَأْسِهِ. فَرَاجَعَهُ، فَغَضِبَ كِسْرَى فَلَمْ يُجِبْهُ، وَبَعَثَ بَرِيدًا إِلَى أَهْلِ فَارِسَ: إِنِّي قَدْ نَزَعْتُ (٩) عَنْكُمْ شَهْرَيَرَازَ، وَاسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ فَرْخَانَ. ثُمَّ دَفَعَ إِلَى الْبَرِيدِ صَحِيفَةً لَطِيفَةً صَغِيرَةً فَقَالَ: إِذَا وَلِيَ فَرْخَانُ الْمُلْكَ، وَانْقَادَ لَهُ أَخُوهُ، فَأَعْطِهِ هَذِهِ. فَلَمَّا قَرَأَ شَهْرَيَرَازُ الْكِتَابَ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً، وَنَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ، وَجَلَسَ فَرْخَانُ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ الصَّحِيفَةَ، قَالَ (١٠) ائْتُونِي بِشَهْرَيَرَازَ (١١) وقَدَّمَه لِيَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ: لَا تَعْجَلْ [عليَّ] (١٢) حَتَّى أَكْتُبَ وَصِيَّتِي، قَالَ: نعم. فدعا بالسَّفط فأعطاه
(٢) رواه الطبري في تفسيره (٢١/١٣) من طريق سنيد به.
(٣) في ت: "شهريزار" وفي ف، أ "بشهريراز".
(٤) زيادة من ت، ف.
(٥) في ت: "فجاء".
(٦) في ت: "شهريزار".
(٧) في ت: "شهريزار".
(٨) زيادة من ف.
(٩) في ف: "عزلت".
(١٠) في ف: "فقال".
(١١) في ت: "بشهريزار".
(١٢) زيادة من ت.
فَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ، وَبِنَاءٌ عَجِيبٌ. وَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى كَلِمَاتِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الم. غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ "الْبَقَرَةِ". وَأَمَّا الرُّومُ فَهُمْ مِنْ سُلَالَةِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَمِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيُقَالُ لَهُمْ: بَنُو الْأَصْفَرِ. وَكَانُوا عَلَى دِينِ الْيُونَانِ، وَالْيُونَانُ مِنْ سُلَالَةِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، أَبْنَاءِ (٦) عَمِّ التُّرْكِ. وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّيَّارَةَ السَّبْعَةَ، وَيُقَالُ لَهَا: الْمُتَحَيِّرَةُ، وَيُصَلُّونَ إِلَى الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ، وَهُمُ الَّذِينَ أَسَّسُوا دِمَشْقَ، وَبَنَوْا مَعْبَدَهَا، وَفِيهِ مَحَارِيبُ إِلَى جِهَةِ الشَّمَالِ، فَكَانَ (٧) الرُّومُ عَلَى دِينِهِمْ إِلَى مَبْعَثِ الْمَسِيحِ بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ مَنْ مَلَكَ الشَّامَ مَعَ الْجَزِيرَةِ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: قَيْصَرُ. فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ النَّصَارَى مِنَ الْمُلُوكِ قُسْطَنْطِينُ بْنُ قَسْطَسَ، وَأُمُّهُ مَرْيَمُ الْهَيْلَانِيَّةُ الشَّدْقَانِيَّةُ (٨) مِنْ أَرْضِ حِرَّانَ، كَانَتْ قَدْ تَنَصَّرَتْ قَبْلَهُ، فَدَعَتْهُ إِلَى دِينِهَا، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَيْلَسُوفًا، فَتَابَعَهَا -يُقَالُ: تَقِيَّة -وَاجْتَمَعَتْ بِهِ النَّصَارَى، وَتَنَاظَرُوا فِي زَمَانِهِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْيُوسَ، وَاخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا [كَثِيرًا] (٩) مُنْتَشِرًا مُتَشَتِّتًا لَا يَنْضَبِطُ، إِلَّا أَنَّهُ اتَّفَقَ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ (١٠) ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ أُسْقُفًّا، فَوَضَعُوا لِقُسْطَنْطِينَ الْعَقِيدَةَ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَمَانَةَ الْكَبِيرَةَ، وَإِنَّمَا هِيَ الْخِيَانَةُ الْحَقِيرَةُ، وَوَضَعُوا لَهُ الْقَوَانِينَ -يَعْنُونَ كُتُبَ الْأَحْكَامِ مِنْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وغَيَّروا دِينَ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَزَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا مِنْهُ. وَفَصَلُوا إِلَى الْمَشْرِقِ (١١) وَاعْتَاضُوا عَنِ السَّبْتِ بِالْأَحَدِ، وَعَبَدُوا الصَّلِيبَ وَأَحَلُّوا الْخِنْزِيرَ. وَاتَّخَذُوا أَعْيَادًا أَحْدَثُوهَا كَعِيدِ الصَّلِيبِ وَالْقِدَّاسِ (١٢) وَالْغِطَاسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبَوَاعِيثِ وَالشَّعَانِينِ، وَجَعَلُوا لَهُ الْبَابَ وَهُوَ كَبِيرُهُمْ، ثُمَّ الْبَتَارِكَةِ، ثُمَّ الْمَطَارِنَةِ، ثُمَّ الْأَسَاقِفَةِ وَالْقَسَاقِسَةِ، ثُمَّ الشَّمَامِسَةِ. وَابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ. وبنى لهم الملك الكنائس
(٢) في ت: "شهريزار".
(٣) في ت، ف: "فدعا".
(٤) في ت: "شهريزار".
(٥) زيادة من ت.
(٦) في أ: "أتباع".
(٧) في ف: "وكان".
(٨) في ت: "القندقانية" وفي ف: "الغندقانية".
(٩) زيادة من ت، ف، أ.
(١٠) في ت: "جماعته".
(١١) في ت، ف، أ: "وصلوا إلى الشرق"
(١٢) في ف، أ: "والقرابين".
ثُمَّ حَدَثَتْ بَعْدَهُمُ الْيَعْقُوبِيَّةُ أَتْبَاعُ يَعْقُوبَ الْإِسْكَافِ، ثُمَّ النَّسْطُورِيَّةُ أَصْحَابُ نَسْطُورَا، وَهُمْ فِرَقٌ وَطَوَائِفُ كَثِيرَةٌ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إِنَّهُمُ افْتَرَقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً". (٣) وَالْغَرَضُ أَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ، كُلَّمَا هَلَكَ قَيْصَرُ خَلْفَهُ آخَرُ بَعْدَهُ، حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ هِرَقْلُ. وَكَانَ مِنْ عُقَلَاءِ الرِّجَالِ، وَمِنْ أَحْزَمِ الْمُلُوكِ وَأَدْهَاهُمْ، وَأَبْعَدِهِمْ غَوْرًا وَأَقْصَاهُمْ رَأْيًا، فتمَلَّكَ عَلَيْهِمْ فِي رياسَة عَظِيمَةٍ وَأُبَّهَةٍ كَبِيرَةٍ، فَنَاوَأَهُ كِسْرَى مَلِكُ الْفُرْسِ، ومَلكَ الْبِلَادِ كَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالرَّيِّ، وَجَمِيعِ بِلَادِ الْعَجَمِ، وَهُوَ سَابُورُ ذُو الْأَكْتَافِ. وَكَانَتْ مَمْلَكَتُهُ أَوْسَعَ مِنْ مَمْلَكَةِ قَيْصَرَ، وَلَهُ رِيَاسَةُ الْعَجَمِ وَحَمَاقَةُ الْفُرْسِ، وَكَانُوا مَجُوسًا يَعْبُدُونَ النَّارَ. فَتَقَدَّمَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِ نُوَّابَهُ وَجَيْشَهُ فَقَاتَلُوهُ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ كِسْرَى غَزَاهُ بِنَفْسِهِ فِي بِلَادِهِ فَقَهَرَهُ وكَسَره وَقَصَرَهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى مَدِينَةِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ. فَحَاصَرَهُ بِهَا مُدَّةً طَوِيلَةً حَتَّى ضَاقَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَتِ النَّصَارَى تُعَظِّمُهُ تَعْظِيمًا زَائِدًا، وَلَمْ يَقْدِرْ كِسْرَى عَلَى فَتْحِ الْبَلَدِ، وَلَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ لِحَصَانَتِهَا؛ لِأَنَّ نِصْفَهَا مِنْ نَاحِيَةِ الْبَرِّ وَنِصْفَهَا الْآخَرَ مِنْ (٤) نَاحِيَةِ الْبَحْرِ، فَكَانَتْ تَأْتِيهِمُ الْمِيرَةُ والمَدَد مِنْ هُنَالِكَ. فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ دَبَّرَ قَيْصَرُ مَكِيدَةً، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ خَدِيعَةً، فَطَلَبَ مِنْ كِسْرَى أَنْ يُقْلِعَ عَنْ بِلَادِهِ عَلَى مَالٍ يُصَالِحُهُ عَلَيْهِ، وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِ مَا شَاءَ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَمْوَالًا عَظِيمَةً لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا (٥)، مِنْ ذَهَبٍ وَجَوَاهِرَ وَأَقْمِشَةٍ وَجَوَارٍ وَخُدَّامٍ وَأَصْنَافٍ كَثِيرَةٍ. فَطَاوَعَهُ قَيْصَرُ، وَأَوْهَمَهُ أَنَّ عِنْدَهُ جَمِيعَ مَا طَلَبَ، وَاسْتَقَلَّ عَقْلُهُ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُ مَا طَلَبَ، وَلَوِ اجْتَمَعَ هُوَ وَإِيَّاهُ لَعَجَزَتْ قُدْرَتُهُمَا عَنْ جَمْعِ عُشْره، وَسَأَلَ كِسْرَى أَنْ يُمكّنه مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ وَأَقَالِيمِ مَمْلَكَتِهِ، لِيَسْعَى فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ مِنْ ذَخَائِرِهِ وَحَوَاصِلِهِ وَدَفَائِنِهِ، فَأَطْلَقَ سَرَاحَهُ، فَلَمَّا عَزَمَ قَيْصَرُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَدِينَةِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، جَمَعَ أَهْلُ مِلَّتِهِ وَقَالَ: إِنِّي خَارِجٌ فِي أَمْرٍ قَدْ أَبْرَمْتُهُ، فِي جُنْدٍ قَدْ عَيَّنْتُهُ مِنْ جَيْشِي، فَإِنْ رَجَعْتُ إِلَيْكُمْ قَبْلَ الْحَوْلِ فَأَنَا مَلِكُكُمْ، وَإِنْ لَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكُمْ قَبْلَهَا فَأَنْتُمْ بِالْخِيَارِ، إِنْ شِئْتُمُ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى بَيْعَتِي، وَإِنْ شِئْتُمْ وَلَّيْتُمْ عَلَيْكُمْ غَيْرِي. فَأَجَابُوهُ بِأَنَّكَ مَلِكُنَا مَا دُمْتَ حَيًّا، وَلَوْ غِبْتَ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ. فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خَرَجَ جَرِيدَةً فِي جَيْشٍ مُتَوَسِّطٍ، هَذَا وَكِسْرَى مُخَيّم عَلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ يَنْتَظِرُهُ لِيَرْجِعَ، فَرَكِبَ قَيْصَرُ مِنْ فَوْرِهِ وَسَارَ مُسْرِعًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى بِلَادِ فَارِسَ، فَعَاثَ فِي بِلَادِهِمْ قَتْلًا لِرِجَالِهَا وَمَنْ بِهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، أَوَّلًا فَأَوَّلًا وَلَمْ يَزَلْ يَقْتُلُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَدَائِنِ، وَهِيَ كُرْسِيُّ مَمْلَكَةِ كِسْرَى، فَقَتَلَ مَنْ بِهَا، وَأَخَذَ جَمِيعَ حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَأَسَرَ نِسَاءَهُ وحريمه، وحلق رأس ولده، ورَكّبه على
(٢) في ف: "بثلاث".
(٣) سنن أبي داود برقم (٤٥٩٦) وابن ماجه في السنن برقم (٣٩٩٢) وقال البوصيري في الزوائد: "إسناد عوف بن مالك فيه مقال، وراشد بن سعد قال فيه أبو حاتم: صدوق. وعباد بن يوسف لم يخرج له أحد سوى ابن ماجه، وليس له عندي سوى هذا الحديث قال ابن عدي: روى أحاديث تفرد بها. وذكره ابن حبان في الثقات وباقي رجال الإسناد ثقات"
(٤) في ت: "في".
(٥) في ت: "الأرض".
وَكَانَتِ الْوَاقِعَةُ الْكَائِنَةُ بَيْنَ فَارِسَ وَالرُّومِ حِينَ غُلِبَتِ الرُّومُ بَيْنَ أَذْرَعَاتَ وبُصرى، عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَهِيَ طَرَفُ بِلَادِ الشَّامِ مِمَّا يَلِي بِلَادَ الْحِجَازِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ ذَلِكَ فِي الْجَزِيرَةِ، وَهِيَ أَقْرَبُ بِلَادِ الرُّومِ مِنْ فَارِسَ، فَاللَّهُ (٦) أَعْلَمُ.
ثُمَّ كَانَ غَلَبُ الرُّومِ لِفَارِسَ بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ، وَهِيَ تَسَعٌ؛ فَإِنَّ البِضْعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ. وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجُمَحي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عبُيَد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي مُنَاحَبَة (٧) ﴿الم غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ أَلَا احْتَطْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ الْبِضْعَ مَا بَيْنَ ثَلَاثٍ إِلَى تِسْعٍ؟ "، ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (٨).
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ (٩).
وَقَوْلُهُ: ﴿لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ أَيْ: مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ وَمِنْ بَعْدِهِ، فَبُنِيَ عَلَى الضَّمِّ لَمَّا قُطع الْمُضَافُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿قَبْلُ﴾ عَنِ الْإِضَافَةِ، ونُويت.
﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ أَيْ: لِلرُّومِ أَصْحَابِ قَيْصَرَ مَلِكِ الشَّامِ، عَلَى فَارِسَ أَصْحَابِ كِسْرَى، وَهُمُ الْمَجُوسُ. وَقَدْ كَانَتْ نُصْرَةُ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ يَوْمَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فِي قَوْلِ طَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّوْرِيِّ، والسُّدِّي، وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَزَّارُ، مِنْ حَدِيثِ الأعمش، عَنْ عَطِيَّةَ (١٠) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: لَمَّا
(٢) في أ: "لا مسلك".
(٣) في ت، ف، أ: "وجنوده".
(٤) في ت: "ثلاث".
(٥) في ت، ف: "من غلب فارس للروم" وفي أ: "من غلب فارس الروم".
(٦) في ف: "والله".
(٧) في ت: "مبايعته".
(٨) سنن الترمذي برقم (٣١٩١) وتفسير الطبري (٢١/١٢).
(٩) تفسير الطبري (٢١/١٦).
(١٠) في ت: "وقد روى مالك".
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ نُصْرَةُ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ عَامَ (٢) الْحُدَيْبِيَةِ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ (٣). وَوَجَّهَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ قَيْصَرَ كَانَ قَدْ نَذَرَ لَئِنْ أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِكِسْرَى لَيَمْشِيَنَّ مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَا -وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ -شُكْرًا (٤) لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَفَعَلَ، فَلَمَّا بَلَغَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى وَافَاهُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي بَعَثَهُ مَعَ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ، فَأَعْطَاهُ دِحْيَةُ لِعَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفْعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى قَيْصَرَ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ سَأَلَ مَنْ بِالشَّامِ مِنْ عَرَب الْحِجَازِ، فأحضرَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ الْأُمَوِيُّ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ كَانُوا فِي غَزَّةَ، فَجِيءَ بِهِمْ إِلَيْهِ، فَجَلَسُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَنَا. فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ -وَأَجْلَسَهُمْ خَلْفَهُ -: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ يَأثُرُوا عَلَيَّ الْكَذِبَ لَكَذَبْتُ. فَسَأَلَهُ هِرَقْلُ عَنْ نَسَبِهِ وَصِفَتِهِ، فَكَانَ فِيمَا سَأَلَهُ أَنْ قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدّة لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا -يَعْنِي بِذَلِكَ الْهُدْنَةَ الَّتِي كَانَتْ قَدْ وَقَعَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُفَّارِ قُرَيْشٍ يَوْمَ (٥) الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، فَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا عَلَى أَنَّ نَصْرَ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ كَانَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ؛ لِأَنَّ قَيْصَرَ إِنَّمَا وَفَّى بِنَذْرِهِ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِأَصْحَابِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ يُجِيبُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّ بِلَادَهُ كَانَتْ قَدْ خُرِّبَتْ وَتَشَعَّثَتْ، فَمَا تَمَكَّنَ مِنْ وَفَاءِ نَذْرِهِ حَتَّى أَصْلَحَ مَا يَنْبَغِي إِصْلَاحُهُ وَتَفَقَّدَ بِلَادَهُ، ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ نُصْرَتِهِ وفَّى بِنَذْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْأَمْرُ (٦) فِي هَذَا سَهْلٌ قَرِيبٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا انْتَصَرَتْ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ سَاءَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا انْتَصَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرُّومَ أَهْلُ كِتَابٍ فِي الْجُمْلَةِ، فَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمَجُوسِ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ] (٧) تَعَالَى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [المائد: ٨٢، ٨٣]، وَقَالَ تَعَالَى هَاهُنَا: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا صَفْوان، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنِي أُسَيْدٌ الْكِلَابِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ (٨) الْعَلَاءَ بْنَ الزُّبَيْرِ الْكِلَابِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ غَلَبَةَ فَارِسَ الرُّومَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الرُّومِ فَارِسَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الْمُسْلِمِينَ فَارِسَ وَالرُّومَ، كُلُّ ذَلِكَ فِي خمس عشرة سنة.
(٢) في ف: "يوم".
(٣) في أ: "وغير واحد".
(٤) في ت: "تشكرا".
(٥) في ت، ف: "عام".
(٦) في ت: "فالأمر".
(٧) زيادة من ت.
(٨) في ت: "وروى ابن أبي حاتم عن".
قال الحسن البصري : والله لَبَلَغَ ٢ من أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره، فيخبرك بوزنه، وما يحسن أن يصلي.
وقال ابن عباس في قوله :﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ يعني : الكفار، يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جهال.
٢ - في ت، ف، أ: "ليبلغ"..
وَقَوْلُهُ: ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ أَيْ: هَذَا (١) الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ بِهِ -يَا مُحَمَّدُ -مِنْ أَنَّا سَنَنْصُرُ الرُّومَ عَلَى فَارِسَ، وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ حَقٌّ، وخَبَر صِدْقٍ لَا يُخْلَفُ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ وَوُقُوعِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ أَنْ يَنْصُرَ أَقْرَبَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ، وَيَجْعَلَ لَهَا الْعَاقِبَةَ، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: بِحُكْمِ اللَّهِ فِي كَوْنِهِ وَأَفْعَالِهِ الْمُحْكَمَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ الْعَدْلِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ أَيْ: أَكْثَرُ النَّاسِ لَيْسَ لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وَمَا فِيهَا، فَهُمْ حُذَّاقٌ أَذْكِيَاءُ فِي تَحْصِيلِهَا وَوُجُوهِ مَكَاسِبِهَا، وَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، كَأَنَّ أَحَدَهُمْ مُغَفّل لَا ذِهْنَ (٢) لَهُ وَلَا فِكْرَةَ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ لَبَلَغَ (٣) مِنْ أَحَدِهِمْ بِدُنْيَاهُ أَنَّهُ يَقْلِبُ الدِّرْهَمَ عَلَى ظُفْرِهِ، فَيُخْبِرُكَ بِوَزْنِهِ، وَمَا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّيَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ يَعْنِي: الْكُفَّارُ، يَعْرِفُونَ عُمْرَانَ الدُّنْيَا، وَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ جُهَّالٌ.
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (١٠) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى التَّفَكُّرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ وَانْفِرَادِهِ بِخَلْقِهَا، وَإِنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، فَقَالَ: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ يَعْنِي بِهِ: النَّظَرَ وَالتَّدَبُّرَ وَالتَّأَمُّلَ لِخَلْقِ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهَا مَا خُلِقَتْ سُدًى وَلَا بَاطِلًا بَلْ بِالْحَقِّ، وَأَنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ (٤) إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾.
ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا جَاءُوا بِهِ عَنْهُ، بِمَا أَيَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَالدَّلَائِلِ (٥) الْوَاضِحَاتِ، مِنْ إِهْلَاكِ مَنْ كَفَرَ بِهِمْ، وَنَجَاةِ مَنْ صَدَّقَهُمْ، فَقَالَ: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ﴾ أَيْ: بِأَفْهَامِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَنَظَرِهِمْ وَسَمَاعِهِمْ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾
(٢) في أ "لا ذكر".
(٣) في ت، ف، أ: "ليبلغ".
(٤) في ت: "وأنهما مؤجلين".
(٥) في ت، ف، أ: "والدلالات".
٢ - في ت: "صلى الله عليه وسلم"..
٣ - في ت: "أمر"..
وعلى هذا تكون٢ السوءى منصوبة مفعولا لأساءوا. وقيل : بل المعنى في ذلك :﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى ﴾ أي : كانت السوءى عاقبتهم ؛ لأنهم كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون. فعلى هذا تكون السوءى منصوبة خبر كان. هذا توجيه ابن جرير٣، ونقله٤ عن ابن عباس وقتادة. ورواه ابن أبي حاتم عنهما وعن الضحاك بن مُزاحم، وهو الظاهر، والله أعلم، ﴿ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ﴾.
٢ - في ف: "يكون"..
٣ - تفسير الطبري (٢١/١٨)..
٤ - في ت: "ومنقول".
وَعَلَى هَذَا تَكُونُ (٤) السوءى منصوبة مفعولا لأساءوا. وَقِيلَ: بَلِ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى﴾ أي: كانت السوءى عَاقِبَتَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يستهزئون. فعلى هذا تكون السوءى مَنْصُوبَةً خَبَرَ كَانَ. هَذَا تَوْجِيهُ ابْنِ جَرِيرٍ (٥)، وَنَقَلَهُ (٦) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُمَا وَعَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزاحم، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ﴿وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) ﴾
(٢) في ت: "أمر".
(٣) في ت، ف: "وقال".
(٤) في ف: "يكون".
(٥) تفسير الطبري (٢١/١٨).
(٦) في ت: "ومنقول".
وقال مجاهد : يفتضح المجرمون. وفي رواية : يكتئب المجرمون.
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أَيْ: كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى بَداءته فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ، ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَيْأَسُ الْمُجْرِمُونَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَفْتَضِحُ الْمُجْرِمُونَ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَكْتَئِبُ الْمُجْرِمُونَ.
﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ﴾ أَيْ: مَا شَفَعَتْ فِيهِمُ الْآلِهَةُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَكَفَرُوا بِهِمْ وَخَانُوهُمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: يَعْنِي سَمَاعَ الْغِنَاءِ. وَالْحَبَرَةُ أَعَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، قَالَ الْعَجَّاجُ:
الْحَمْدُ (١) لِلَّهِ الَّذِي أعْطَى الحَبَرْ | مَوَالِيَ الْحَقّ إِنَّ المَوْلى شَكَر (٢) |
هَذَا تَسْبِيحٌ مِنْهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ الْمُقَدِّسَةِ، وَإِرْشَادٌ لِعِبَادِهِ إِلَى تَسْبِيحِهِ وَتَحْمِيدِهِ، فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ: عِنْدَ الْمَسَاءِ، وَهُوَ إِقْبَالُ اللَّيْلِ بِظَلَامِهِ، وَعِنْدَ الصَّبَاحِ، وَهُوَ إِسْفَارُ النَّهَارِ عَنْ ضِيَائِهِ.
ثُمَّ اعْتَرَضَ بِحَمْدِهِ، مُنَاسِبَةً لِلتَّسْبِيحِ وَهُوَ التَّحْمِيدُ، فَقَالَ: ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾ أَيْ: هُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى مَا خَلَقَ في السموات وَالْأَرْضِ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ فَالْعَشَاءُ (٣) هُوَ: شِدَّةُ الظَّلَامِ، وَالْإِظْهَارُ: قُوَّةُ الضِّيَاءِ. فَسُبْحَانَ خَالِقِ هَذَا وَهَذَا، فَالِقِ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلِ اللَّيْلَ سَكَنًا، كَمَا قَالَ: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا. وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾ [الشَّمْسِ: ٣، ٤]، وَقَالَ ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى. وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ [اللَّيْلِ: ١، ٢]، وَقَالَ: ﴿وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ [الضُّحَى: ١، ٢]، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهيعة، حَدَّثَنَا زَبَّان بْنِ فَائِدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الجُهَني، عَنْ أَبِيهِ (٤) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ الَّذِي وَفَّى؟ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى: سُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تَمَسُّونَ وحين تصبحون، وله الحمد في السموات وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ" (٥).
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُطَّلِبُ بْنُ شُعَيب الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ (٦)، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾
(٢) البيت في تفسير الطبري (٢١/١٩) ولسان العرب لابن منظور مادة "حبر".
(٣) في ت: "فالعشي".
(٤) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن أنس الجهني".
(٥) المسند (٣/٤٣٩).
(٦) في ت: "وروى الطبراني بإسناده".
ثم قال :﴿ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ﴾ فالعشاء١ هو : شدة الظلام، والإظهار : قوة الضياء. فسبحان خالق هذا وهذا، فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا، كما قال :﴿ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا. وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ﴾ [ الشمس : ٣، ٤ ]، وقال ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى. وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾ [ الليل : ١، ٢ ]، وقال :﴿ وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾ [ الضحى : ١، ٢ ]، والآيات في هذا كثيرة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهيعة، حدثنا زَبَّان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجُهَني، عن أبيه٢ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال :" ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى : سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون " ٣.
وقال الطبراني : حدثنا مطلب بن شُعَيب الأزدي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث بن سعد، عن سعيد بن بشير، عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه٤، عن عبد الله بن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من قال حين يصبح :﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ﴾ الآية بكمالها، أدرك ما فاته في يومه، ومَنْ قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته ". إسناد جيد٥ ورواه أبو داود في سننه٦.
٢ - في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن أنس الجهني"..
٣ - المسند (٣/٤٣٩)..
٤ - في ت: "وروى الطبراني بإسناده"..
٥ - في أ: "إسناد ضعيف" وهو الصواب..
٦ - المعجم الكبير (١٢/٢٣٩) وسنن أبي داود برقم (٥٠٧٦)..
وقوله :﴿ وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ كقوله :﴿ وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون. وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ﴾ [ يس : ٣٣، ٣٤ ]، وقال :﴿ وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [ الحج : ٥ - ٧ ]، وقال :﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٥٧ ] ؛ ولهذا قال هاهنا :﴿ وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾.
وَقَوْلُهُ: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ هُوَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَقَابِلَةِ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمُتَتَابِعَةُ الْكَرِيمَةُ كُلُّهَا مِنْ هَذَا النَّمَطِ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ فِيهَا خَلْقَهُ الْأَشْيَاءَ وَأَضْدَادَهَا، لِيَدُلَّ خَلْقُهُ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ إِخْرَاجُ النَّبَاتِ مِنَ الْحَبِّ، وَالْحَبِّ مِنَ النَّبَاتِ، وَالْبَيْضِ مِنَ الدَّجَاجِ، وَالدَّجَاجِ مِنَ الْبَيْضِ، وَالْإِنْسَانِ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالنُّطْفَةِ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَالْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ﴾ [يس: ٣٣، ٣٤]، وَقَالَ: ﴿وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [الْحَجِّ: ٥ -٧]، وَقَالَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٧] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ أَنَّهُ خَلَقَ أَبَاكُمْ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، ﴿ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾، فَأَصْلُكُمْ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ تَصَوّر فَكَانَ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ صَارَ عِظَامًا، شَكْلُهُ عَلَى شَكْلِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ كَسَا اللَّهُ تِلْكَ الْعِظَامَ لَحْمًا، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، فَإِذَا هُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ صَغِيرًا ضَعِيفَ الْقُوَى وَالْحَرَكَةِ، ثُمَّ كَلَّمَا طَالَ عُمْرُهُ تَكَامَلَتْ قُوَاهُ وَحَرَكَاتُهُ حَتَّى آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ صَارَ يَبْنِي الْمَدَائِنَ وَالْحُصُونَ، وَيُسَافِرُ فِي أَقْطَارِ الْأَقَالِيمِ، وَيَرْكَبُ مَتْنَ الْبُحُورِ، وَيَدُورُ أقطارَ الْأَرْضِ وَيَتَكَسَّبُ وَيَجْمَعُ الْأَمْوَالَ، وَلَهُ فِكْرَةٌ وَغَوْرٌ، وَدَهَاءٌ وَمَكْرٌ، وَرَأْيٌ وَعِلْمٌ، وَاتِّسَاعٌ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كُلٌّ بِحَسَبِهِ. فَسُبْحَانَ مَنْ أَقْدَرَهُمْ وسَيّرهم وَسَخَّرَهُمْ وَصَرَّفَهُمْ فِي فُنُونِ الْمَعَايِشِ وَالْمَكَاسِبِ، وَفَاوَتَ بَيْنَهُمْ فِي الْعُلُومِ وَالْفِكْرَةِ، وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾.
(٢) المعجم الكبير (١٢/٢٣٩) وسنن أبي داود برقم (٥٠٧٦).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أصبغُ بنُ الفَرج، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ: أَنْ دَرَّاجًا أَبَا السَّمْحِ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَأْكُلُ الترابُ كلَّ شَيْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا عَجْبُ ذَنَبه (١) قِيلَ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْهُ يُنْشَئُونَ" (٢).
وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَلَفْظُهُ: "كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَبْلى إِلَّا عَجْبُ الذَّنَب، مِنْهُ خُلِقَ وَفِيهِ يُركَّب" (٣).
وَقَوْلُهُ: (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُ: كَلَّا لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ هَذَا الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ؛ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ، (لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) يَقُولُ: لَمْ يُؤد مَا فُرض عَلَيْهِ مِنَ الْفَرَائِضِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ رَوَى-هُوَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ-مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) قَالَ: لَا يَقْضِي أَحَدٌ أَبَدًا كُلَّ مَا افتُرض عَلَيْهِ. وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا. وَلَمْ أَجِدْ لِلْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِ كَلامًا سِوَى هَذَا. وَالَّذِي يَقَعُ لِي فِي مَعْنَى ذَلِكَ-وَاللَّهُ أَعْلَمُ-أَنَّ الْمَعْنَى: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) أَيْ: بَعَثَهُ، (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) [أَيْ] (٤) لَا يَفْعَلُهُ الْآنَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ، وَيَفْرَغَ الْقَدَرُ مِنْ بَنِي آدَمَ مِمَّنْ كَتَبَ تَعَالَى (٥) لَهُ أَنْ سيُوجَدُ مِنْهُمْ، وَيُخْرَجُ إِلَى الدُّنْيَا، وَقَدْ أَمَرَ بِهِ تَعَالَى كَوْنًا وَقَدَرًا، فَإِذَا تَنَاهَى ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْشَرَ اللَّهُ الْخَلَائِقَ وَأَعَادَهُمْ كَمَا بَدَأَهُمْ.
وَقَدْ رَوَى ابنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبّه قَالَ: قَالَ عُزَير، عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَالَ الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي: فَإِنَّ الْقُبُورَ هِيَ بطنُ الْأَرْضِ، وَإِنَّ الْأَرْضَ هِيَ أُمُّ الْخَلْقِ، فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ مَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ وَتَمَّتْ هَذِهِ القبورُ الَّتِي مَدّ اللَّهُ لَهَا، انْقَطَعَتِ الدُّنْيَا وَمَاتَ مَنْ عَلَيْهَا، وَلَفَظَتِ الْأَرْضُ مَا فِي جَوْفِهَا، وَأَخْرَجَتِ القبورُ مَا فِيهَا، وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا قُلْنَا مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ، وَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَقَالَ: (٦) (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) فِيهِ امْتِنَانٌ، وَفِيهِ اسْتِدْلَالٌ بِإِحْيَاءِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ الْهَامِدَةِ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَجْسَامِ بَعْدَمَا كَانَتْ عَظَاما بَالِيَةً وَتُرَابًا مُتَمَزِّقًا، (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا) أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ، (ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا) أَيْ: أَسْكَنَاهُ فِيهَا فَدَخَلَ فِي تُخُومها وتَخَلَّل فِي
(٢) ورواه الحاكم في المستدرك (٤/٦٠٩) من طريق بحر بن نصر، عن ابن وهب به، وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" قلت: دراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٨١٤)، وصحيح مسلم برقم (٢٩٥٥)
(٤) زيادة من م، أ.
(٥) في م: "ممن كتب الله".
(٦) في أ: "وقوله".
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْقَضْبُ الْعَلَفُ.
(وَزَيْتُونًا) وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أدْمٌ وَعَصِيرُهُ أُدْمٌ، وَيُسْتَصْبَحُ بِهِ، وَيُدَّهَنُ بِهِ. (وَنَخْلا) يُؤْكَلُ بَلَحًا بُسْرًا، وَرُطَبًا، وَتَمْرًا، وَنِيئًا، وَمَطْبُوخًا، وَيُعْتَصَرُ مِنْهُ رُبٌّ وَخَلٌّ. (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) أي: بساتين. قال الحسن، وقتادة: (َ غُلْبًا) نَخْلٌ غِلَاظٌ كِرَامٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: "الْحَدَائِقُ": كُلُّ مَا الْتَفَّ وَاجْتَمَعَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: (غُلْبًا) (١) الشَّجَرُ الَّذِي يُسْتَظَلُّ بِهِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) أَيْ: طِوَالٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: (غُلْبًا) أَيْ: غِلَاظُ الْأَوْسَاطِ. وَفِي رِوَايَةٍ: غِلَاظُ الرِّقَابِ (٢)، أَلَمْ تَرَ إِلَى الرَّجُلِ إِذَا كَانَ غَلِيظَ الرَّقَبَةِ قِيلَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَغْلَبُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ لِلْفَرَزْدَقِ:
عَوَى فَأثارَ أغلبَ ضَيْغَمِيًا | فَويلَ ابْنَ المَراغَة مَا استَثَارا (٣) |
وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَبُّ: نَبْتُ الْأَرْضِ مِمَّا تَأْكُلُهُ الدَّوَابُّ وَلَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ، عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب وَأَبُو السَّائِبِ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: عَدَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَالَ: الْأَبُّ: مَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ لِلْأَنْعَامِ. هَذَا لَفْظُ أَبِي كُرَيْبٍ، وَقَالَ أَبُو السَّائِبِ: مَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَتَأْكُلُ الْأَنْعَامُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَبُّ: الْكَلَأُ وَالْمَرْعَى. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوشَب، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيمي قَالَ: سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِنْ قلتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ (٤).
(٢) في م: "الأرقاب".
(٣) تفسير الطبري (٣٠/٣٧)
(٤) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص ٢٢٧)، وسبق الكلام عليه في مقدمة التفسير.
٢ - في ت، ف: "فالرجل".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، بِهِ (٢). وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ أَيْ: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ جِنْسِكُمْ إِنَاثًا يَكُنَّ لَكُمْ أَزْوَاجًا، ﴿لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٨٩] يَعْنِي بِذَلِكَ: حَوَّاءَ، خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ آدَمَ مِنْ ضِلَعه الْأَقْصَرِ الْأَيْسَرِ. وَلَوْ أَنَّهُ جَعَلَ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ ذُكُورًا وَجَعَلَ إِنَاثَهُمْ مَنْ جِنْسٍ آخَرَ [مِنْ غَيْرِهِمْ] (٣) إِمَّا مِنْ جَانٍّ أَوْ حَيَوَانٍ، لَمَا حَصَلَ هَذَا الِائْتِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَزْوَاجِ، بَلْ كَانَتْ تَحْصُلُ نَفْرَة لَوْ كَانَتِ الْأَزْوَاجُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. ثُمَّ مِنْ تَمَامِ رَحْمَتِهِ بِبَنِي آدَمَ أَنْ جَعَلَ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ مَوَدَّةً: وَهِيَ الْمَحَبَّةُ، وَرَحْمَةً: وَهِيَ الرَّأْفَةُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ (٤) يُمْسِكُ الْمَرْأَةَ إِمَّا لِمَحَبَّتِهِ لَهَا، أَوْ لِرَحْمَةٍ بِهَا، بِأَنْ يَكُونَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، أَوْ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ فِي الْإِنْفَاقِ، أَوْ لِلْأُلْفَةِ بَيْنَهُمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ العظيمة ﴿خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾ أي: خلق السموات فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا، وَشُفُوفِ أَجْرَامِهَا وَزِهَارَةِ كَوَاكِبِهَا وَنُجُومِهَا الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، وَالْأَرْضَ فِي انْخِفَاضِهَا وَكَثَافَتِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَأَوْدِيَةٍ، وَبِحَارٍ وَقِفَارٍ، وَحَيَوَانٍ وَأَشْجَارٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ﴾ يَعْنِي: اللُّغَاتِ، فَهَؤُلَاءِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَهَؤُلَاءِ تَتَرٌ لَهُمْ لُغَةٌ أُخْرَى، وَهَؤُلَاءِ كَرَج، وَهَؤُلَاءِ رُومٌ، وَهَؤُلَاءِ إِفْرِنْجُ، وَهَؤُلَاءِ بَرْبر، وَهَؤُلَاءِ تكْرور، وَهَؤُلَاءِ حَبَشَةٌ، وَهَؤُلَاءِ هُنُودٌ، وَهَؤُلَاءِ عَجَمٌ، وَهَؤُلَاءِ صَقَالِبَةٌ، وَهَؤُلَاءِ خَزَرٌ، وَهَؤُلَاءِ أَرْمَنٌ، وَهَؤُلَاءِ أَكْرَادٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنَ اخْتِلَافِ لُغَاتِ بَنِي آدَمَ، وَاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِمْ وَهِيَ حُلاهم، فَجَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ -بَلْ أَهْلِ الدُّنْيَا -مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ: كُلٌّ له عينان وحاجبان، وأنف وجبين،
(٢) المسند (٤/٤٠٠) وسنن أبي داود برقم (٣٦٩٣) وسنن الترمذي برقم (٢٩٥٥).
(٣) زيادة من ت، ف.
(٤) في ت، ف: "فالرجل".
قال الطبراني : حدثنا حجاج بن عمران السدوسي، حدثنا عمرو بن الحصين العقيلي، حدثنا محمد بن عبد الله بن عُلاثة، حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن مَعْدان، سمعت عبد الملك بن مروان يحدث عن أبيه١، عن زيد بن ثابت، رضي الله عنه، قال : أصابني أرق من الليل، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" قل : اللهم غارت النجوم، وهدأت العيون، وأنت حي قيوم، يا حي يا قيوم، [ أنم عيني و ]٢ أهدئ ليلي " فقلتها فذهب عني٣.
٢ - زيادة من ت، ف، ومعجم الطبراني..
٣ - المعجم الكبير (٥/١٢٤) ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (٧٤٥) وابن عدي في الكامل (٥/١٥٠) من طريق عمرو بن الحصين به، وقال ابن عدي: "تفرد به عمرو بن الحصين وهو مظلم الحديث، ويروي عن قوم معروفين". وله شاهد من حديث أنس، حسنه الحافظ ابن حجر كما في الفتوحات الربانية لابن علان (٣/١٧٧)..
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ عِمْرَانَ السَّدُوسِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحُصَيْنِ الْعُقَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلاثة، حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدان، سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ (٢)، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَصَابَنِي أَرَقٌ مِنَ اللَّيْلِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ غَارَتِ النُّجُومُ، وَهَدَأَتِ الْعُيُونُ، وَأَنْتَ حَيٌّ قَيُّومٌ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، [أَنِمْ عَيْنِي وَ] (٣) أَهْدِئْ لَيْلِي" فَقُلْتُهَا فَذَهَبَ عَنِّي (٤).
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) ﴾
(٢) في ت: "وروى الطبراني بإسناده".
(٣) زيادة من ت، ف، ومعجم الطبراني.
(٤) المعجم الكبير (٥/١٢٤) ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (٧٤٥) وابن عدي في الكامل (٥/١٥٠) من طريق عمرو بن الحصين به، وقال ابن عدي: "تفرد به عمرو بن الحصين وهو مظلم الحديث، ويروي عن قوم معروفين". وله شاهد من حديث أنس، حسنه الحافظ ابن حجر كما في الفتوحات الربانية لابن علان (٣/١٧٧).
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ أَنَّهُ ﴿يُرِيكُمُ الْبَرْقَ [خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ أَيْ:] (١) تَارَةً تَخَافُونَ مِمَّا يَحْدُثُ بَعْدَهُ مِنْ أَمْطَارٍ مُزْعِجَةٍ، أَوْ صَوَاعِقَ مُتْلِفَةٍ، وَتَارَةً تَرْجُونَ وَمِيضَه وَمَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنَ الْمَطَرِ الْمُحْتَاجِ إليه؛ ولهذا قال: ﴿وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أَيْ: بَعْدَمَا كَانَتْ هَامِدَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا شَيْءَ، فَلَمَّا جَاءَهَا الْمَاءُ ﴿اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الْحَجِّ: ٥]. وَفِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ ودَلالَة وَاضِحَةٌ عَلَى الْمَعَادِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ﴾ [الْحَجِّ: ٦٥]، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا﴾ [فَاطِرٍ: ٤١]. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ يَقُولُ: لَا وَالَّذِي تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ، أَيْ: هِيَ قَائِمَةٌ ثَابِتَةٌ بِأَمْرِهِ لَهَا وَتَسْخِيرِهِ إِيَّاهَا، ثُمَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُدلت الأرض
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ [النَّازِعَاتِ: ١٣، ١٤]، وَقَالَ: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ [يس: ٥٣].
﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾ أَيْ: مِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ، ﴿كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ أَيْ: خَاضِعُونَ خَاشِعُونَ طَوْعًا وَكَرْهًا.
وَفِي حَدِيثِ دَرَّاج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، مَرْفُوعًا: " كُلُّ حَرْف فِي (١) الْقُرْآنِ يُذكَرُ فِيهِ الْقُنُوتُ فَهُوَ الطَّاعَةُ" (٢).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ قَالَ [عَلِيُّ] (٣) بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس: يَعْنِي: أَيْسَرُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْإِعَادَةُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنَ البَدَاءة، وَالْبُدَاءَةُ عَلَيْهِ هَيْنٌ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَاد، عَنِ الْأَعْرَجِ، (٤) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ: كَذبَني ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بأهونَ عَلِيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ. وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ" (٥).
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ كَمَا انْفَرَدَ بِرِوَايَتِهِ -أَيْضًا -مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَر، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِهِ (٦). وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ حَسَنِ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ لهِيعة، حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ سُلَيْمُ بْنُ جُبَيْر، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، أَوْ مِثْلِهِ (٧).
وَقَالَ آخَرُونَ: كِلَاهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُدْرَةِ على السواء.
(٢) رواه الإمام أحمد في مسنده (٣/٧٥)، وتقدم الحديث عند تفسير الآية: ١١٦ من سورة البقرة. قال الحافظ ابن كثير: "وَلَكِنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ ضَعِيفٌ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَرَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ مُنْكَرٌ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ، أَوْ مَنْ دَوَّنَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في ت: "وقال البخاري بإسناده".
(٥) صحيح البخاري برقم (٤٩٧٤).
(٦) صحيح البخاري برقم (٤٩٧٥).
(٧) المسند (٢/٣٥٠).
وقال مجاهد : الإعادة أهون عليه من البَدَاءة، والبداءة عليه هَيْنٌ. وكذا قال عكرمة وغيره.
وقال البخاري : حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، أخبرنا أبو الزِّنَاد، عن الأعرج، ٢ عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" قال الله : كَذبَني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهونَ عليّ من إعادته. وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد " ٣.
انفرد بإخراجه البخاري كما انفرد بروايته - أيضا - من حديث عبد الرزاق عن مَعْمَر، عن همام، عن أبي هريرة، به٤. وقد رواه الإمام أحمد منفردا به عن حسن بن موسى، عن ابن لهِيعة، حدثنا أبو يونس سليم بن جُبَيْر، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، أو مثله٥.
وقال آخرون : كلاهما بالنسبة إلى القدرة على السواء.
قال العَوْفي، عن ابن عباس : كل عليه هين. وكذا قال الربيع بن خُثَيْم. ومال إليه ابن جرير، وذكر عليه شواهد كثيرة، قال : ويحتمل أن يعود الضمير في قوله :﴿ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ إلى الخلق، أي : وهو أهون على الخلق.
وقوله :﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ﴾ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس كقوله :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ].
وقال قتادة : مَثَله أنه لا إله إلا هو، ولا رب غيره، وقال مثل هذا ابن جرير.
وقد أنشد بعض المُفَسرين عند ذكر هذه الآية لبعض أهل المعارف :
إذَا سَكَن الغَديرُ على صَفَاء | وَجُنبَ أنْ يُحَرّكَهُ النَّسيمُ |
ترى فيه السَّمَاء بَلا امْترَاء | كَذَاكَ الشَّمْسُ تَبْدو وَالنّجُومُ |
كَذاكَ قُلُوبُ أرْبَاب التَّجَلِّي | يُرَى في صَفْوها اللهُ العَظيمُ |
وعن مالك في تفسيره المروي عنه، عن محمد بن المنْكَدِر، في قوله تعالى :﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى ﴾، قال : لا إله إلا الله.
٢ - في ت: "وقال البخاري بإسناده"..
٣ - صحيح البخاري برقم (٤٩٧٤)..
٤ - صحيح البخاري برقم (٤٩٧٥)..
٥ - المسند (٢/٣٥٠)..
٦ - في ت: "أي"..
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشُّورَى: ١١].
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَثَله أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَقَالَ مِثْلَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ المُفَسرين عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْمَعَارِفِ:
إذَا سَكَن الغَديرُ عَلَى صَفَاء... وَجُنبَ أنْ يُحَرّكَهُ النَّسيمُ...
تَرَى فِيهِ السَّمَاء بَلا امْترَاء... كَذَاكَ الشَّمْسُ تَبْدو وَالنّجُومُ...
كَذاكَ قُلُوبُ أرْبَاب التَّجَلِّي... يُرَى فِي صَفْوها اللهُ العَظيمُ...
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الَّذِي (١) لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ، بَلْ قَدْ غَلَبَ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، ﴿الْحَكِيمُ﴾ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، شَرْعًا وقَدَرا.
وَعَنْ مَالِكٍ فِي تَفْسِيرِهِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المنْكَدِر، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى﴾، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٩) ﴾
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ بِهِ، الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ، الْجَاعِلِينَ لَهُ شُرَكَاءَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُعْتَرِفُونَ أَنَّ شُرَكَاءَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادَ عُبَيْدٌ لَهُ، مِلْكٌ لَهُ، كَمَا كَانُوا فِي تَلْبِيَتِهِمْ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ أَيْ: تَشْهَدُونَهُ وَتَفْهَمُونَهُ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، ﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ أَيْ: لَا يَرْتَضِي أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ شَرِيكًا لَهُ فِي مَالِهِ، فَهُوَ وَهُوَ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ ﴿تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أَيْ: تَخَافُونَ أَنْ يُقَاسِمُوكُمُ الْأَمْوَالَ.
قَالَ أَبُو مِجْلَز: إِنَّ مَمْلُوكَكَ لَا تَخَافُ أَنْ يُقَاسِمَكَ مَالَكَ، وَلَيْسَ لَهُ ذَاكَ (٢)، كَذَلِكَ اللَّهُ لَا شريك له.
(٢) في ت: "ذلك".
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ الْفَرَجِ الْأَصْبِهَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (١)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ يُلَبِّي أَهْلُ الشِّرْكِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ [لَبَّيْكَ] (٢)، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ (٣).
وَلَمَّا كَانَ التَّنْبِيهُ بِهَذَا الْمَثَلِ عَلَى بَرَاءَتِهِ تَعَالَى وَنَزَاهَتِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، قَالَ: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا عَبَدُوا غَيْرَهُ سَفَهًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجَهْلًا ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أَيِ: الْمُشْرِكُونَ ﴿أَهْوَاءَهُمْ﴾ أَيْ: فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَنْدَادَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، ﴿فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ [أَيْ: فَلَا أَحَدَ يَهْدِيهِمْ إِذَا كَتَبَ اللَّهُ إِضْلَالَهُمْ] (٤)، ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ مُنْقِذٌ وَلَا مُجِيرٌ، وَلَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: فَسَدِّدْ وَجْهَكَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لَكَ، مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، الَّذِي هَدَاكَ اللَّهُ لَهَا، وَكَمَّلَهَا لَكَ غَايَةَ الْكَمَالِ، وَأَنْتَ مَعَ ذَلِكَ لَازِمْ فِطْرَتَكَ السَّلِيمَةَ، الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى فَطَرَ خَلْقَهُ عَلَى [مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٧٢]، وَفِي الْحَدِيثِ: "إني خلقت
(٢) زيادة من ت.
(٣) المعجم الكبير (١٢/٢٠)، وقال الهيثمي في المجمع (٣/٢٢٣) :"وفيه حماد بن شعيب وهو ضعيف".
(٤) زيادة من ت، أ.
وَقَوْلُهُ: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ لَا تُبَدِّلُوا خَلْقَ اللَّهِ، فَتُغَيِّرُوا النَّاسَ عَنْ فِطْرَتِهِمُ الَّتِي فَطَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهَا. فَيَكُونُ خَبَرًا بِمَعْنَى الطَّلَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٧]، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ خَبَرٌ عَلَى بَابِهِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَاوَى بَيْنَ خَلْقِهِ كُلِّهِمْ فِي الْفِطْرَةِ عَلَى الْجِبِلَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، لَا يُولَدُ أَحَدٌ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعي، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَمُجَاهِدٌ، وعِكْرِمة، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ (٣) فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ أَيْ: لِدِينِ اللَّهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَوْلُهُ: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ : لِدِينِ اللَّهِ، خَلْقُ الْأَوَّلِينَ: [دِينُ الْأَوَّلِينَ]، (٤) وَالدِّينُ وَالْفِطْرَةُ: الْإِسْلَامُ.
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (٥) أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانه أَوْ يُنَصِّرانه أَوْ يُمَجسانه، كَمَا تَنْتِج الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعاء، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ"؟ ثُمَّ يَقُولُ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الأيْلي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ (٦). وَأَخْرَجَاهُ -أَيْضًا -مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٧).
وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمِنْهُمُ الأسودُ بْنُ سَرِيع التَّمِيمِيُّ. قَالَ (٨) الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ (٩) عَنِ الْأُسُودِ بْنِ سَرِيع [التَّمِيمِيِّ] (١٠) قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَزَوْتُ مَعَهُ، فَأَصَبْتُ ظَهْرًا (١١)، فَقُتِلَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ، حَتَّى قَتَلُوا الْوِلْدَانَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ جَاوَزَهُمُ الْقَتْلُ الْيَوْمَ حَتَّى قَتَلُوا الذُّرِّيَّةَ؟ ". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا هُمْ أَبْنَاءُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ: "أَلَا إِنَّمَا خِيَارُكُمْ أَبْنَاءُ الْمُشْرِكِينَ". ثُمَّ قَالَ: "لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً، لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً". وَقَالَ: "كُلُّ نَسَمَةٍ تُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، حَتَّى يُعرب عَنْهَا لِسَانُهَا، فَأَبَوَاهَا يُهَوِّدَانِهَا أو ينصرانها".
(٢) في ت، ف: "والنصرانية والمجوسية".
(٣) في ت: "وسعيد بن حبير وغيرهم".
(٤) زيادة من ت، أ.
(٥) في ت: "ثم روى بسنده".
(٦) صحيح البخاري برقم (٤٧٧٥) وصحيح مسلم برقم (٢٦٥٨).
(٧) صحيح البخاري برقم (٦٥٩٩) وصحيح مسلم برقم (٢٦٥٨).
(٨) في ت: "فروى".
(٩) في ت: "بإسناده".
(١٠) زيادة من ف.
(١١) في ت، ف: "ظفرا".
وَمِنْهُمْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا هَاشِمٌ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، حَتَّى يُعرب عَنْهُ لِسَانُهُ، فَإِذَا عَبَّرَ (٣) عَنْهُ لِسَانُهُ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" (٤).
وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ الْهَاشِمِيُّ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانة، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (٥)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئل عَنِ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ إِذْ خَلَقَهُمْ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ اليَشْكُرِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا بِذَلِكَ (٦).
وَقَدْ قَالَ (٧) أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -يَعْنِي ابْنَ سَلَمَةَ -أَنْبَأَنَا عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى عليَّ زَمَانٌ وَأَنَا أَقُولُ: أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ. حَتَّى حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ (٨) فُلَانٍ: أن رسول الله ﷺ سُئِلَ (٩) عَنْهُمْ فَقَالَ: "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ". قَالَ: فَلَقِيَتُ الرَّجُلَ فَأَخْبَرَنِي. فَأَمْسَكْتُ عَنْ قَوْلِي (١٠).
وَمِنْهُمْ عِيَاضُ بْنُ حِمار الْمُجَاشِعِيُّ، قَالَ (١١) الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ مُطَرّف، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "إِنَّ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي فِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عِبَادِي حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَأَضَلَّتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ.
(٢) المسند (٣/٤٣٥) والنسائي في السنن الكبرى برقم (٨٦١٦).
(٣) في ف: "عرب".
(٤) المسند (٣/٣٥٣) وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢١٨) "وفيه أبو جعفر الرازي وهو ثقة وفيه خلاف، وبقية رجاله ثقات".
(٥) في ت: "وروى أيضا بإسناده".
(٦) المسند (١/٣٢٨) وصحيح البخاري برقم (١٣٨٣) وصحيح مسلم برقم (٢٦٦٠).
(٧) في ت: "وروى".
(٨) في ت، ف: "ابن".
(٩) في أ: "عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل".
(١٠) المسند (٥/٧٣) وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢١٨) "رجاله رجال الصحيح".
(١١) في ت: "وقال".
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ، فَرَوَاهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ قَتَادَةَ، بِهِ (٤).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ أَيِ: التَّمَسُّكُ بِالشَّرِيعَةِ (٥) وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ هُوَ الدِّينُ الْقَوِيمُ الْمُسْتَقِيمُ، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: فَلِهَذَا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، فَهُمْ عَنْهُ نَاكِبُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يُوسُفَ: ١٠٣]، ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: ١١٦].
وَقَوْلُهُ: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ جُرَيْج: أَيْ رَاجِعِينَ إِلَيْهِ، ﴿وَاتَّقُوهُ﴾ أَيْ: خَافُوهُ وَرَاقَبُوهُ، ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ وَهِيَ الطَّاعَةُ الْعَظِيمَةُ، ﴿وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أَيْ: بَلْ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُخْلِصِينَ لَهُ الْعِبَادَةَ، لَا يُرِيدُونَ بِهَا سِوَاهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: [حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيد] (٦)، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ (٧) بْنِ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: مَرَّ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فَقَالَ: مَا قِوَامُ هَذِهِ الْأُمَّةِ (٨) ؟ قَالَ مُعَاذٌ: ثَلَاثٌ، وَهُنَّ [مِنَ] (٩) الْمُنْجِيَاتِ: الْإِخْلَاصُ، وَهِيَ الْفِطْرَةُ، فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَالصَّلَاةُ وَهِيَ الْمِلَّةُ، وَالطَّاعَةُ وَهِيَ الْعِصْمَةُ. فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ.
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلابة: أَنَّ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لِمُعَاذٍ: مَا قِوَامُ هَذَا الْأَمْرِ؟ فَذَكَرَهُ نَحْوَهُ (١٠).
وَقَوْلُهُ: ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ أَيْ: لَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَدْ فَرَّقُوا دِينَهُمْ أَيْ: بَدَّلُوهُ وَغَيَّرُوهُ وَآمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ.
وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: "فَارَقُوا دِينَهُمْ" أَيْ: تَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وعَبَدة الْأَوْثَانِ، وَسَائِرِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ، مِمَّا عَدَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٥٩]، فَأَهْلُ الْأَدْيَانِ قَبْلَنَا اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى آرَاءٍ وملَل بَاطِلَةٍ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ مِنْهُمْ تَزْعُمُ أَنَّهُمْ عَلَى شيء،
(٢) في ت: "على".
(٣) في ت، ف: "الفاحش".
(٤) المسند (٤/١٦٢) وصحيح مسلم برقم (٢٨٦٥).
(٥) في ت: "المتمسك بالشرعة".
(٦) زيادة من ف، أ، والطبري.
(٧) في أ: "زيد".
(٨) في ت: "الآية".
(٩) زيادة من ت.
(١٠) تفسير الطبري (٢١/٢٦).
(٢) في أ: "ضالة".
(٣) في ف: "رسوله".
(٤) في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(٥) زيادة من: أ، والمستدرك.
(٦) المستدرك (١/١٢٨، ١٢٩)، وقال الحافظ ابن حجر في تخريج الكشاف ص (٦٣) :"إسناده حسن".
قال ابن جرير :[ حدثنا ابن حُمَيد ]١، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن يزيد٢ بن أبي مريم قال : مر عمر، رضي الله عنه، بمعاذ بن جبل فقال : ما قوام هذه الأمة٣ ؟ قال معاذ : ثلاث، وهن [ من ]٤ المنجيات : الإخلاص، وهي الفطرة، فطرة الله التي فَطرَ الناس عليها، والصلاة وهي الملة، والطاعة وهي العصمة. فقال عمر : صدقت.
حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، حدثنا أيوب، عن أبي قِلابة : أن عمر، رضي الله عنه، قال لمعاذ : ما قوام هذا الأمر ؟ فذكره نحوه٥.
٢ - في أ: "زيد"..
٣ - في ت: "الآية"..
٤ - زيادة من ت.
٥ - تفسير الطبري (٢١/٢٦).
وقرأ بعضهم :" فارقوا دينهم " أي : تركوه وراء ظهورهم، وهؤلاء كاليهود والنصارى والمجوس وعَبَدة الأوثان، وسائر أهل الأديان الباطلة، مما عدا أهل الإسلام، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٥٩ ]، فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء وملَل باطلة، وكل فرقة منهم تزعم أنهم على شيء، وهذه الأمة١ أيضًا اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة٢ إلا واحدة، وهم أهل السنة والجماعة، المتمسكون بكتاب الله وسنة رسول الله٣ صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه، كما رواه الحاكم في مستدركه أنه سئل، عليه السلام٤ عن الفرقة الناجية منهم، فقال :" ما أنا عليه [ اليوم ]٥ وأصحابي " ٦.
٢ - في أ: "ضالة"..
٣ - في ف: "رسوله"..
٤ - في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم"..
٥ - زيادة من: أ، والمستدرك..
٦ - المستدرك (١/١٢٨، ١٢٩)، وقال الحافظ ابن حجر في تخريج الكشاف ص (٦٣): "إسناده حسن"..
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ النَّاسِ إِنَّهُمْ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ، إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ [أَيْ] (١) فِي حَالَةِ الِاخْتِبَارِ يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾، هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَلَامُ التَّعْلِيلِ عِنْدَ آخَرِينَ، وَلَكِنَّهَا تَعْلِيلٌ لِتَقْيِيضِ اللَّهِ لَهُمْ ذَلِكَ.
ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ (٢)، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَاللَّهِ لَوْ تَوَعَّدَنِي حَارِسُ دَرْب لَخِفْتُ مِنْهُ، فَكَيْفَ وَالْمُتَوَعِّدُ هَاهُنَا [هُوَ] (٣) الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ، فَيَكُونُ.
ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا اخْتَلَقُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ. ﴿أَمْ أَنزلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا﴾ أَيْ: حُجَّةً ﴿فَهُوَ يَتَكَلَّمُ﴾ أَيْ: يَنْطِقُ ﴿بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ﴾ ؟ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَيْ: لَمْ يَكُنْ [لَهُمْ] (٤) شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾، هَذَا إِنْكَارٌ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، إِلَّا مَنْ عَصَمه اللَّهُ وَوَفَّقَهُ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ بَطر وَقَالَ: ﴿ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ [هُودٍ: ١٠]، أَيْ: يَفْرَحُ فِي نَفْسِهِ وَيَفْخَرُ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ شِدَّةٌ قَنط وَأَيِسَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرٌ بِالْكُلِّيَّةِ؛ قَالَ اللَّهُ: ﴿إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [هُودٍ: ١١]، أَيْ: صَبَرُوا فِي الضَّرَّاءِ، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي الرَّخَاءِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: "عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ، لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شكر فكان
(٢) في ت: "يعلمون".
(٣) زيادة من ت، ف، أ.
(٤) زيادة من أ.
ثم توعدهم بقوله :﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾١، قال بعضهم : والله لو توعدني حارس دَرْب لخفت منه، فكيف والمتوعد هاهنا [ هو ]٢ الذي يقول للشيء : كن، فيكون.
٢ - زيادة من ت، ف، أ..
٢ - صحيح مسلم برقم (٢٩٩٩) من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه..
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ أَيْ: هُوَ الْمُتَصَرِّفُ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، فَيُوَسِّعُ عَلَى قَوْمٍ وَيُضَيِّقُ عَلَى آخَرِينَ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِإِعْطَاءِ ذِي ﴿الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ أَيْ: مِنَ الْبَرِّ وَالصِّلَةِ، ﴿وَالْمِسْكِينَ﴾ وَهُوَ: الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، أَوْ لَهُ شَيْءٌ لَا يَقُومُ بِكِفَايَتِهِ، ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ وَهُوَ الْمُسَافِرُ الْمُحْتَاجُ إِلَى نَفَقَةٍ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سَفَرِهِ، ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ أَيِ: النَّظَرُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ (٣).
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾ أَيْ: مَنْ أَعْطَى عَطِيَّةً يُرِيدُ أَنْ يَرُدَّ النَّاسُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَهْدَى لَهُمْ، فَهَذَا لَا ثَوَابَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ -بِهَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَالشَّعْبِيُّ -وَهَذَا الصَّنِيعُ مُبَاحٌ (٤) وَإِنْ كَانَ لَا ثَوَابَ فِيهِ (٥) إِلَّا أَنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ [الْمُدَّثِّرِ: ٦] أَيْ: لَا تُعْطِ الْعَطَاءَ تُرِيدُ أَكْثَرَ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّبَا رِبَاءَانِ، فَرِبًا لَا يَصْحُ (٦) يَعْنِي: رِبَا الْبَيْعِ؟ وَرِبًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ هَدِيَّةُ الرَّجُلِ يُرِيدُ فَضْلَهَا (٧) وَأَضْعَافَهَا. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾.
وَإِنَّمَا الثَّوَابُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الزَّكَاةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ أَيِ: الَّذِينَ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُمُ الثَّوَابَ وَالْجَزَاءَ، كَمَا [جَاءَ] (٨) فِي الصَّحِيحِ: "وَمَا تَصْدَّقَ أَحَدٌ بِعَدْل تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلَّا أَخْذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيها لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوّه أَوْ فَصِيلَه، حَتَّى تَصِيرَ التَّمْرَةُ أَعْظَمَ مِنْ أُحُد" (٩).
(٢) صحيح مسلم برقم (٢٩٩٩) من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه.
(٣) في ت، ف: "الأخرى".
(٤) في ت: "فسره ابن عباس وغيره".
(٥) في ت: "به".
(٦) في أ: "لا يصلح".
(٧) في أ: "أفضلها".
(٨) زيادة من أ.
(٩) صحيح البخاري برقم (١٤١٠).
وقال ابن عباس : الربا رباءان، فربا لا يصح٣ يعني : ربا البيع ؟ وربا لا بأس به، وهو هدية الرجل يريد فضلها٤ وأضعافها. ثم تلا هذه الآية :﴿ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ ﴾.
وإنما الثواب عند الله في الزكاة ؛ ولهذا قال :﴿ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ أي : الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء، كما [ جاء ]٥ في الصحيح :" وما تصدق أحد بِعِدْل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه، فَيُرَبِّيها لصاحبها كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوّه أو فَصِيلَه، حتى تصير التمرة أعظم من أُحُد " ٦.
٢ - في ت: "به"..
٣ - في أ: "لا يصلح"..
٤ - في أ: "أفضلها".
٥ - زيادة من أ..
٦ - صحيح البخاري برقم (١٤١٠).
حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن سلام أبي شرحبيل، عن حَبَّة وسواء ابني خالد قالا دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلح شيئا فأعَنَّاه، فقال :" لا تيأسا من الرزق ما تَهَزّزَتْ رؤوسكما ؛ فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة، ثم يرزقه الله عز وجل " ٣.
وقوله :﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾، أي : بعد هذه الحياة ﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ أي : يوم القيامة.
وقوله :﴿ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ ﴾ أي : الذين تعبدونهم من دون الله. ﴿ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ أي : لا يقدر أحد منهم على فعل شيء من ذلك، بل الله سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق والرزق، والإحياء والإماتة، ثم يبعث الخلائق يوم القيامة ؛ ولهذا قال بعد هذا كله :﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي : تعالى وتقدس وتنزه وتعاظم وجل وعَزّ عن أن يكون له شريك أو نظير أو مساوٍ، أو ولد أو والد، بل هو الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
٢ - في ت: "كما روى"..
٣ - المسند (٣/٤٦٩)..
حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَلَّامٍ أَبِي شُرَحْبِيلَ، عَنْ حَبَّة وَسَوَاءٍ ابْنِي خَالِدٍ قَالَا دَخْلَنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصْلِحُ شَيْئًا فأعَنَّاه، فَقَالَ: "لَا تَيْأَسَا مِنَ الرزق ما تَهَزّزَتْ رؤوسكما؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ تَلِدُهُ أُمُّهُ أَحْمَرَ لَيْسَ عَلَيْهِ قِشْرَةٌ، ثُمَّ يَرْزُقُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" (٣).
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾، أَيْ: بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ﴾ أَيِ: الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. ﴿مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ أَيْ: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، ثُمَّ يَبْعَثُ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أَيْ: تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ وَتَعَاظَمَ وَجَلَّ وعَزّ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ نَظِيرٌ أَوْ مساوٍ، أَوْ وَلَدٌ أَوْ وَالِدٌ، بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) ﴾
(٢) في ت: "كما روى".
(٣) المسند (٣/٤٦٩).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وعِكْرِمة، وَالضَّحَّاكُ، والسُّدِّي، وَغَيْرُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْبَرِّ هَاهُنَا: الفَيَافي، وَبِالْبَحْرِ: الْأَمْصَارُ وَالْقُرَى، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وعَكرمة: الْبَحْرُ: الْأَمْصَارُ وَالْقُرَى، مَا كَانَ مِنْهَا عَلَى جَانِبِ نَهْرٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بِالْبَرِّ هُوَ الْبَرُّ الْمَعْرُوفُ، وَبِالْبَحْرِ: الْبَحْرُ الْمَعْرُوفُ.
وَقَالَ زَيْدُ (١) بْنُ رُفَيْع: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ﴾ يَعْنِي: انْقِطَاعَ الْمَطَرِ عَنِ الْبَرِّ يُعْقِبُهُ الْقَحْطُ، وَعَنِ الْبَحْرِ تَعْمَى (٢) دَوَابُّهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمَقْرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾، قَالَ: فَسَادُ الْبَرِّ: قَتْلُ ابْنِ آدَمَ، وَفَسَادُ (٣) الْبَحْرِ: أَخْذُ السَّفِينَةِ غَصْبًا.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: الْمُرَادُ بِالْبَرِّ: مَا فِيهِ مِنَ الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى، وبالبحر: جزائره.
(٢) في ت، ف: "يعني".
(٣) في ت، ف: "وفي".
وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ أَيْ: بَانَ النَّقْصُ فِي (١) الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ بِسَبَبِ الْمَعَاصِي.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي الْأَرْضِ فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ صَلَاحَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِالطَّاعَةِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: "لَحَدٌّ يُقَامُ فِي الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَى أَهْلِهَا مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا" (٢). وَالسَّبَبُ فِي هَذَا أَنَّ الْحُدُودَ إِذَا أُقِيمَتْ، انْكَفَّ النَّاسُ -أَوْ أَكْثَرُهُمْ، أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ -عَنْ تَعَاطِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِذَا ارْتُكِبَتِ الْمَعَاصِي كَانَ سَبَبًا فِي مِحَاقِ (٣) الْبَرَكَاتِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ وَلِهَذَا إِذَا نَزَلَ عِيسَى [ابْنُ مَرْيَمَ] (٤) عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَحَكَمَ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، مِنْ قَتْلِ الْخِنْزِيرِ وَكَسْرِ الصَّلِيبِ وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ، وَهُوَ تَرْكُهَا -فَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ، فَإِذَا أَهْلَكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الدَّجَّالَ وَأَتْبَاعَهُ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، قِيلَ لِلْأَرْضِ: أَخْرِجِي بَرَكَاتِكِ. فَيَأْكُلُ مِنَ الرُّمَّانَةِ الفئَام مِنَ النَّاسِ، وَيَسْتَظِلُّونَ بقَحْفها، وَيَكْفِي لَبَنُ اللِّقْحَةِ الجماعةَ مِنَ النَّاسِ. وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِبَرَكَةِ تَنْفِيذِ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُلَّمَا أُقِيمَ الْعَدْلُ كَثُرَتِ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرُ؛ [وَلِهَذَا] (٥) ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: (٦) "إنَّ الْفَاجِرَ إِذَا مَاتَ تَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ" (٧).
وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ وَالْحُسَيْنُ قَالَا حَدَّثَنَا عَوْف، عَنْ أَبِي قَحْذَمٍ قَالَ (٨) : وَجَدَ رَجُلٌ فِي زَمَانِ زِيَادٍ -أَوِ: ابْنِ زِيَادٍ -صُرَّةً فِيهَا حَبّ، يَعْنِي مِنْ بُرٍّ أَمْثَالِ النَّوَى، عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ: هَذَا نَبَتَ فِي زَمَانٍ كَانَ يُعْمَلُ فِيهِ بِالْعَدْلِ (٩).
وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَسَادِ هَاهُنَا الشِّرْكُ. وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أَيْ: يَبْتَلِيهِمْ بِنَقْصِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، اخْتِبَارًا مِنْهُ، وَمُجَازَاةً عَلَى صَنِيعِهِمْ، ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أَيْ: عَنِ الْمَعَاصِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٦٨].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: مِنْ قَبْلِكُمْ، ﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾ أَيْ: فَانْظُرُوا مَاذَا حلَّ بِهِمْ مِنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَكُفْرِ النِّعَمِ.
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٤٥) ﴾.
(٢) رواه أحمد في المسند (٢/٣٦٢) والنسائي في السنن (٨/٧٥) من حديث أبي هريرة، ولم يقع لي في سنن أبي داود.
(٣) في ت، ف، أ: "حصول".
(٤) زيادة من ت، ف، أ.
(٥) زيادة من أ.
(٦) في ت، أ: "الصحيحين".
(٧) صحيح البخاري برقم (٦٥١٢).
(٨) في ت: "وروى أنه".
(٩) المسند (٢/٢٩٦).
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) ﴾.
يَذْكُرُ تَعَالَى نعَمه عَلَى خَلْقِهِ، فِي إِرْسَالِهِ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، بِمَجِيءِ الْغَيْثِ (١) عَقِيبِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ أَيِ: الْمَطَرُ الَّذِي يُنْزِلُهُ فَيُحْيِيَ بِهِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ، ﴿وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ﴾ أَيْ: فِي الْبَحْرِ، وَإِنَّمَا سَيَّرَهَا بِالرِّيحِ، ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ أَيْ: فِي التِّجَارَاتِ وَالْمَعَايِشِ، وَالسَّيْرِ مِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ، وَقُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أَيْ: تَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ هَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (٢)، بِأَنَّهُ وَإِنْ كَذَّبَهُ كَثِيرٌ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنَ النَّاسِ، فَقَدْ كُذّبت الرُّسُلُ الْمُتَقَدِّمُونَ مَعَ مَا جَاءُوا أُمَمَهُمْ بِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ انْتَقَمَ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ وَخَالَفَهُمْ، وَأَنْجَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ، ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، هُوَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، تَكَرُّمًا وَتَفَضُّلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٥٤].
قَالَ (٣) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ نُفَيْلٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَب (٤)، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "ما
(٢) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
(٣) في ت: "وروى".
(٤) في ت: "بإسناده".
قال٢ ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا موسى بن أعين، عن ليث، عن شهر بن حَوْشَب٣، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ما من امرئ مسلم يَرُدُّ عن عرض أخيه، إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ". ثم تلا هذه الآية :﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾٤.
٢ - في ت: "وروى"..
٣ - في ت: "بإسناده"..
٤ - ورواه أحمد في المسند (٦/٤٤٨) من طريق إسماعيل، وابن أبي الدنيا في الغيبة والنميمة برقم (١٠٢) من طريق جرير كلاهما عن ليث - وهو ابن أبي سليم - به ولم يذكر الآية..
﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) ﴾
وقد اختلف النحاة في قوله :﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ﴾، فقال ابن جرير : هو تأكيد. وحكاه عن بعض أهل العربية.
وقال آخرون :[ وإن كانوا ]١ من قبل أن ينزل عليهم المطر، ﴿ مِنْ قَبْلِهِ ﴾ أي : الإنزال ﴿ لَمُبْلِسِينَ ﴾.
ويحتمل أن يكون ذلك من دلالة التأسيس، ويكون معنى الكلام : أنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله، ومن قبله - أيضا - قد فات عندهم نزوله وقتا بعد وقت، فترقبوه في إبانه فتأخر، فمضت مدة فترقبوه فتأخر، ثم جاءهم بغتة بعد الإياس منه والقنوط، فبعد ما كانت أرضهم مقشعرة هامدة أصبحت وقد اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج ؛ ولهذا قال :﴿ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾
ثم نبه بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها، فقال :﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى ﴾ أي : إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات، ﴿ إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
يُبَيِّنُ تَعَالَى كَيْفَ يَخْلُقُ السَّحَابَ الَّتِي (١) يَنْزِلُ مِنْهَا الْمَاءُ (٢) فَقَالَ: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾، إِمَّا مِنَ الْبَحْرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، أَوْ مِمَّا يَشَاءُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. ﴿فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ أَيْ: يَمُدّه فيكثّرهُ ويُنَمّيه، وَيَجْعَلُ مِنَ الْقَلِيلِ كَثِيرًا، يُنْشِئُ سَحَابَةً فَتُرَى فِي رَأْيِ الْعَيْنِ مِثْلَ التُّرْسِ، ثُمَّ يَبْسُطُهَا حَتَّى تَمْلَأَ أَرْجَاءَ الْأُفُقِ. وَتَارَةً يَأْتِي السَّحَابُ مِنْ نَحْوِ الْبَحْرِ ثِقَالًا مَمْلُوءَةً مَاءً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٧]، وَكَذَلِكَ قَالَ هَاهُنَا: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا﴾. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَمَطَرٌ الوَرّاق، وَقَتَادَةُ: يَعْنِي قِطَعًا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: مُتَرَاكِمًا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: أَسْوَدَ مِنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ، تَرَاهُ مُدْلَهِمًّا ثَقِيلًا قَرِيبًا مِنَ الْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ﴾ أَيْ: فَتَرَى الْمَطَرَ -وَهُوَ الْقَطْرُ -يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ السَّحَابِ، ﴿فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ أَيْ: لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ يَفْرَحُونَ بِنُزُولِهِ عَلَيْهِمْ وَوُصُولِهِ إِلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾، مَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَصَابَهُمْ هَذَا الْمَطَرُ كَانُوا قَنطين أَزِلِينَ مِنْ نُزُولِ الْمَطَرِ إِلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ، جَاءَهُمْ عَلَى فَاقَةٍ، فَوَقَعَ مِنْهُمْ مَوْقِعًا عَظِيمًا.
وقد اختلف النحاة في قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾، فقال ابن جرير: هو
(٢) في ت: "المطر".
وَقَالَ آخَرُونَ: [وَإِنْ كَانُوا] (١) مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرُ، ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾ أَيِ: الْإِنْزَالِ ﴿لَمُبْلِسِينَ﴾.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ التَّأْسِيسِ، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ قَبِلَ نُزُولِهِ، وَمِنْ قَبْلِهِ -أَيْضًا -قَدْ فَاتَ عِنْدَهُمْ نُزُولُهُ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، فَتَرَقَّبُوهُ فِي إِبَّانِهِ فَتَأَخَّرَ، فَمَضَتْ مُدَّةٌ فَتَرَقَّبُوهُ فَتَأَخَّرَ، ثُمَّ جَاءَهُمْ بَغْتَةً بَعْدَ الْإِيَاسِ مِنْهُ وَالْقُنُوطِ، فَبَعْدَ مَا كَانَتْ أَرْضُهُمْ مُقَشْعَرَةً هَامِدَةً أَصْبَحَتْ وَقَدِ اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ يَعْنِي: الْمَطَرَ ﴿كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾.
ثُمَّ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَفَرُّقِهَا وَتَمَزُّقِهَا، فَقَالَ: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى﴾ أَيْ: إِنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ لَقَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ، ﴿إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ﴾، يَقُولُ ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا﴾ يَابِسَةً عَلَى الزَّرْعِ الَّذِي زَرَعُوهُ، وَنَبَتَ وَشَبَّ وَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ، فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا، أَيْ: قَدِ اصْفَرَّ وَشَرَعَ فِي الْفَسَادِ، لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ، أَيْ: بَعْدَ هَذَا الْحَالِ يَكْفُرُونَ، أَيْ: يَجْحَدُونَ مَا تَقَدَّمَ [إِلَيْهِمْ] (٢) مِنَ النِّعَمِ، كَمَا قَالَ: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ. لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ [الْوَاقِعَةِ: ٦٣ -٦٧].
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا محمد بن عيسى بن الطباع، حَدَّثَنَا هُشَيْم (٣)، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ أَبِيهِ (٤) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: الرِّيَاحُ ثَمَانِيَةٌ، أَرْبَعَةٌ مِنْهَا رَحْمَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ عَذَابٌ، فَأَمَّا الرَّحْمَةُ فَالنَّاشِرَاتُ وَالْمُبَشِّرَاتُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَالذَّارِيَاتُ. وَأَمَّا الْعَذَابُ فَالْعَقِيمُ وَالصَّرْصَرُ، وَهُمَا فِي الْبَرِّ، وَالْعَاصِفُ وَالْقَاصِفُ، وَهُمَا فِي الْبَحْرِ [فَإِذَا شَاءَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّكَهُ بِحَرَكَةِ الرَّحْمَةِ فَجَعَلَهُ رَخَاءً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رحْمته، وَلَاقِحًا لِلسَّحَابِ تُلَقِّحُهُ بِحَمْلِهِ الْمَاءَ، كَمَا يُلَقِّحُ الذَّكَرُ الْأُنْثَى بِالْحَمْلِ، وَإِنْ شَاءَ حَرَّكَهُ بِحَرَكَةِ الْعَذَابِ فَجَعَلَهُ عَقِيمًا، وَأَوْدَعَهُ عَذَابًا أَلِيمًا، وَجَعْلَهُ نِقْمَةً عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَيَجْعَلُهُ صَرْصَرًا وَعَاتِيًا وَمُفْسِدًا لِمَا يَمُرُّ عَلَيْهِ، وَالرِّيَاحُ مُخْتَلِفَةٌ فِي مَهَابِّهَا: صَبًا وَدَبُورٌ، وَجَنُوبٌ، وَشِمَالٌ، وَفِي مَنْفَعَتِهَا وَتَأْثِيرِهَا أَعْظَمَ اخْتِلَافِ، فَرِيحٌ لَيِّنَةٌ رَطْبَةٌ تُغَذِّي النَّبَاتَ وَأَبْدَانَ الْحَيَوَانِ، وَأُخْرَى تُجَفِّفُهُ، وَأُخْرَى تُهْلِكُهُ وَتُعْطِبُهُ، وَأُخْرَى تُسَيِّرُهُ وَتَصْلُبُهُ، وَأُخْرَى تُوهِنُهُ وَتُضْعِفُهُ] (٥).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو (٦) عبُيَد اللَّهِ ابْنِ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيْاش (٧)، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصدَفي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الرِّيحُ مُسَخَّرَةٌ مِنَ الثَّانِيَةِ -يَعْنِي الْأَرْضَ الثانية -فلما أراد الله أن يهلك عادا، أَمَرَ خَازِنَ الرِّيحِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا تُهْلِكُ عَادًا، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أُرْسِلُ عَلَيْهِمْ من الريح قدر منخر الثور. قال له الْجَبَّارُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لَا إِذًا تَكْفَأُ الْأَرْضَ وما عليها،
(٢) زيادة من أ.
(٣) في أ: "هاشم".
(٤) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(٥) زيادة من ت.
(٦) في أ: "ابن".
(٧) في أ: "عباس".
﴿فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى: كَمَا أَنَّكَ لَيْسَ فِي قُدْرَتِكَ أَنْ تُسْمِعَ الْأَمْوَاتَ فِي أَجْدَاثِهَا، وَلَا تُبْلِغَ (٢) كلامَك الصُّمَّ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُدْبِرُون عَنْكَ، كَذَلِكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ الْعُمْيَانِ عَنِ الْحَقِّ، وَرَدِّهِمْ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ، بَلْ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ بِقُدْرَتِهِ يُسْمِعُ الْأَمْوَاتَ أَصْوَاتَ الْأَحْيَاءِ إِذَا شَاءَ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أَيْ: خَاضِعُونَ مُسْتَجِيبُونَ مُطِيعُونَ، فَأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ (٣) الْحَقَّ وَيَتْبَعُونَهُ، وَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَوَّلُ مَثَلُ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٣٦].
وَقَدِ اسْتَدَلَّتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بِهَذِهِ الْآيَةِ: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾، عَلَى تَوْهِيمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ مُخَاطَبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَتْلَى الَّذِينَ أُلْقُوا فِي قَلِيب بَدْرٍ (٤)، بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَمُعَاتَبَتَهُ إِيَّاهُمْ وَتَقْرِيعَهُ لَهُمْ، حَتَّى قَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُخَاطِبُ مِنْ قَوْمٍ قَدْ جَيَّفوا؟ فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَا يُجِيبُونَ". وَتَأَوَّلَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّهُمُ الْآنَ لَيَعْلَمُونِ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ" (٥).
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى سَمِعُوا مَقَالَتَهُ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا وَنِقْمَةً.
(٢) في ت: "ولا يبلغ".
(٣) في ت: "يسمعون".
(٤) في ت، أ: "في روايته أن النبي ﷺ خاطب القتلى الذين ألقوا في القليب، قليب بدر".
(٥) قال الإمام الزركشي رحمه الله في كتابه "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" ص (١٢١) :"أخرج البخاري عن ابن عمر قال: وقف النبي ﷺ على قليب بدر فقال: "هل وجدتم ما وعد ربكم حقا" ثم قال: "إنهم الآن يسمعون ما أقول"، فذكر لعائشة فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول لهم حق". قال السهيلي في الروض: "وعائشة لم تحضر، وغيرها ممن حضر أحفظ للفظه صلى الله عليه وسلم، وقد قالوا له: يا رسول الله، أتخاطب قوما قد جيفوا أو أجيفوا؟ فقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"، وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحال عالمين، جاز أن يكونوا سامعين، إما بآذان رؤوسهم، إذا قلنا: إن الروح تعاد إلى الجسد أو إلى بعضه عند المسألة. وهو قول جمهور أهل السنة، وإما بأذن القلب أو الروح على مذهب مَنْ يقول بتوجه السؤال إلى الروح من غير رجوع إلى الجسد أو إلى بعضه. قال: وقد روي أن عائشة احتجت بقوله تعالى: (وما أنت بمسمع من في القبور) وهذه الآية كقوله: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي) أي: إن الله هو الذي يهدي ويوفق ويدخل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت، وجعل الكفار أمواتًا وصمًا على جهة التشبيه بالأموات وبالصم، فالله هو الذي يسمعهم على الحقيقة إذا شاء، فلا تعلق لها في الآية لوجهين: أحدهما: أنها إنما نزلت في دعاء الكفار إلى الإيمان، الثاني: أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم، وصدق الله، فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو".
[وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ الْمُشَيِّعِينَ لَهُ، إِذَا انْصَرَفُوا عَنْهُ، وَقَدْ شَرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ إِذَا سَلَّمُوا عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ سَلَامَ مَنْ يُخَاطِبُونَهُ فَيَقُولُ الْمُسْلِمُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ يَسْمَعُ وَيَعْقِلُ، وَلَوْلَا هَذَا الْخِطَابُ لَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ خِطَابِ الْمَعْدُومِ وَالْجَمَادِ، وَالسَّلَفُ مُجْمِعُونَ عَلَى هَذَا، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْآثَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّ الْمَيِّتَ يَعْرِفُ بِزِيَارَةِ الْحَيِّ لَهُ وَيَسْتَبْشِرُ، فَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْقُبُورِ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ أَخِيهِ وَيَجْلِسُ عِنْدَهُ، إِلَّا اسْتَأْنَسَ بِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُومَ".
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِذَا مَرَّ رَجُلٌ بِقَبْرٍ يَعْرِفُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ عَاصِمٍ الجَحْدَرِي قَالَ: رَأَيْتُ عَاصِمًا الْجَحْدَرَيَّ فِي مَنَامِي بَعْدَ مَوْتِهِ بِسَنَتَيْنِ، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ مِتَّ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَأَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا -وَاللَّهِ -فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَنَا وَنَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِي نَجْتَمِعُ كُلَّ لَيْلَةِ جُمْعَةٍ وَصَبِيحَتِهَا إِلَى بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، فَنَتَلَقَّى أَخْبَارَكُمْ. قَالَ: قُلْتُ: أَجْسَامُكُمْ أَمْ أَرْوَاحُكُمْ؟ قَالَ: هَيْهَاتَ! قَدْ بَلِيَتِ الْأَجْسَامُ، وَإِنَّمَا تَتَلَاقَى الْأَرْوَاحُ، قَالَ: قُلْتُ: فَهَلْ تَعْلَمُونَ بِزِيَارَتِنَا إِيَّاكُمْ؟ قَالَ: نَعْلَمُ بِهَا عَشِيَّةَ الْجُمْعَةِ وَيَوْمَ الْجُمْعَةِ كُلَّهُ وَيَوْمَ السَّبْتِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، قَالَ: قُلْتُ: فَكَيْفَ ذَلِكَ دُونَ الْأَيَّامِ كُلِّهَا؟ قَالَ: لِفَضْلِ يَوْمِ الْجُمْعَةِ وَعَظْمَتِهِ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثَنَا بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا حَسَنٌ الْقَصَّابُ قَالَ: كُنْتُ أَغْدُو مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسْعٍ فِي كُلِّ غَدَاةِ سَبْتٍ حَتَّى نَأْتِيَ أَهْلَ الْجَبَّانِ، فَنَقِفُ عَلَى الْقُبُورِ فَنُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَنَدْعُو لَهُمْ ثُمَّ نَنْصَرِفُ، فَقُلْتُ ذَاتَ يَوْمٍ: لَوْ صَيَّرْتُ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ؟ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْمَوْتَى يَعْلَمُونَ بِزُوَّارِهِمْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَيَوْمًا قَبْلَهَا وَيَوْمًا بَعْدَهَا. قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدٌ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبَانٍ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ: بَلَغَنِي عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ زَارَ قَبْرًا يَوْمَ السَّبْتِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلِمَ الْمَيِّتُ بِزِيَارَتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِمَكَانِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاش، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي التَّيَّاح يَقُولُ: كَانَ مُطَرَّف يَغْدُو، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ أَدْلَجَ. قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا الْتَّيَّاحِ يَقُولُ: بَلَغَنَا أَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ بِغَوْطَةٍ، فَأَقْبَلَ لَيْلَةً حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الْمَقَابِرِ يَقُومُ وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ، فَرَأَى أَهْلَ الْقُبُورِ كُلَّ صَاحِبِ قَبْرٍ جَالِسًا عَلَى قَبْرِهِ، فَقَالُوا: هَذَا مُطَرِّفٌ يَأْتِي الْجُمْعَةِ وَيُصَلُّونَ عِنْدَكُمْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَنَعْلَمُ مَا يَقُولُ فِيهِ الطَّيْرُ. قُلْتُ: وَمَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ؛ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بَكْرٍ،
(٢) الاستذكار لابن عبد البر من طريق بشر بن بكير، عن الأوزاعي، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابن عباس، مرفوعا. ولفظه: "ما من أحد مر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام".
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بَسْطام، ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سُوَيْد الطُّفَاوي قَالَ: وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنَ الْعَابِدَاتِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهَا: رَاهِبَةٌ، قَالَ: لَمَّا احْتَضَرَتْ رَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَتْ: يَا ذُخْرِي وَذَخِيرَتِي مَنْ عَلَيْهِ اعْتِمَادِي فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَوْتِي، لَا تَخْذُلْنِي عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَا تُوحِشْنِي. قَالَ: فَمَاتَتْ. فَكُنْتُ آتِيهَا فِي كُلِّ جُمْعَةٍ فَأَدْعُو لَهَا وَأَسْتَغْفِرُ لَهَا وَلِأَهْلِ الْقُبُورِ، فَرَأَيْتُهَا ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَنَامِي، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمِّي، كَيْفَ أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَيْ: بُنِيَّ، إِنَّ لِلْمَوْتِ لَكُرْبَةً شَدِيدَةً، وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَفِي بَرْزَخٍ مَحْمُودٍ يُفْرَشُ فِيهِ الرَّيْحَانُ، وَنَتَوَسَّدُ السُّنْدُسَ وَالْإِسْتَبْرَقَ إِلَى يَوْمِ النُّشُورِ، فَقُلْتُ لَهَا: أَلِكِ حَاجَةٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَتْ: لَا تَدَعْ مَا كُنْتَ تَصْنَعُ مِنْ زِيَارَاتِنَا وَالدُّعَاءِ لَنَا، فَإِنِّي لَأُبَشَّرُ بِمَجِيئِكَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ إِذَا أَقْبَلْتَ مِنْ أَهْلِكَ، يُقَالُ لِي: يَا رَاهِبَةُ، هَذَا ابْنُكِ، قَدْ أَقْبَلَ، فَأُسَرَّ وَيُسَرُّ بِذَلِكَ مَنْ حَوْلِي مِنَ الْأَمْوَاتِ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ زَمَنُ الطَّاعُونِ كَانَ رَجُلٌ يَخْتَلِفُ إِلَى الْجَبَّانِ، فَيَشْهَدُ الصَّلَاةَ عَلَى الْجَنَائِزِ، فَإِذَا أَمْسَى وَقَفَ عَلَى الْمَقَابِرِ فَقَالَ: آنَسَ اللَّهُ وَحْشَتَكُمْ، وَرَحِمَ غُرْبَتَكُمْ، وَتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِكُمْ، وَقَبِلَ حَسَنَاتِكُمْ، لَا يَزِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، قَالَ: فَأَمْسَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَانْصَرَفْتُ إِلَى أَهْلِي وَلَمْ آتِ الْمَقَابِرَ فَأَدْعُو كَمَا كُنْتُ أَدْعُو، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذَا بِخَلْقٍ قَدْ جَاءُونِي، فَقُلْتُ: مَا أَنْتُمْ وَمَا حَاجَتُكُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ الْمَقَابِرِ، قُلْتُ: مَا حَاجَتُكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّكَ عَوَّدْتَنَا مِنْكَ هَدِيَّةً عِنْدَ انْصِرَافِكَ إِلَى أَهْلِكَ، قُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالُوا: الدَّعَوَاتُ الَّتِي كُنْتَ تَدْعُو بِهَا، قَالَ: قُلْتُ فَإِنِّي أَعُودُ لِذَلِكَ، قَالَ: فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ.
وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَيِّتَ يَعْلَمُ بِعَمَلِ الْحَيِّ مِنْ أَقَارِبِهِ وَإِخْوَانِهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: تُعْرَضُ أَعْمَالُ الْأَحْيَاءِ عَلَى الْمَوْتَى، فَإِذَا رَأَوْا حَسَنًا فَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا وَإِنْ رَأَوْا سُوءًا قَالُوا: اللَّهُمَّ رَاجِعْ بِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحُوَارَى قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدٌ أَخِي قَالَ: دَخَلَ عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ صَالِحٍ وَهُوَ عَلَى فِلَسْطِينَ فَقَالَ: عِظْنِي، قَالَ: بِمَ أَعِظُكَ، أَصْلَحَكَ اللَّهُ؟ بَلَغَنِي أَنَّ أَعْمَالَ الْأَحْيَاءِ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِهِمْ مِنَ الْمَوْتَى، فَانْظُرْ مَا يُعْرَضُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَمَلِكَ، فَبَكَى إِبْرَاهِيمُ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ. قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثَنَا خَالِدُ بْنُ عَمْرٍو الْأُمَوِيُّ، ثَنَا صَدَقَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجَعْفَرِيُّ قَالَ: كَانَتْ لِي شِرَّة سَمِجَة، فَمَاتَ أَبِي فَتُبْتُ وَنَدِمْتُ عَلَى مَا فَرَّطْتُ، ثُمَّ زَلَلْتُ أَيُّمَا زَلَّةٍ، فَرَأَيْتُ أَبِي فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، مَا كَانَ أَشَدَّ فَرَحِي بِكَ
وقد استدلت أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، بهذه الآية :﴿ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾، على توهيم عبد الله بن عمر في روايته مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قَلِيب بدر٣، بعد ثلاثة أيام، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم، حتى قال له عمر : يا رسول الله، ما تخاطب من قوم قد جَيَّفوا ؟ فقال :" والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون ". وتأولته عائشة على أنه قال :" إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق " ٤.
وقال قتادة : أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته تقريعًا وتوبيخًا ونقمة.
والصحيح عند العلماء رواية ابن عمر، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححًا [ له ]٥، عن ابن عباس مرفوعًا :" ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم، كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه، حتى يرد عليه السلام " ٦.
[ وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له، إذا انصرفوا عنه، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول المسلم : السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر، فروى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن عائشة، رضي الله عنها، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده، إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم ".
وروي عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال : إذا مر رجل بقبر يعرفه فسلم عليه، رد عليه السلام.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن رجل من آل عاصم الجَحْدَرِي قال : رأيت عاصمًا الجحدري في منامي بعد موته بسنتين، فقلت : أليس قد متّ ؟ قال : بلى، قلت : فأين أنت ؟ قال : أنا - والله - في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني، فنتلقى أخباركم. قال : قلت : أجسامكم أم أرواحكم ؟ قال : هيهات ! قد بليت الأجسام، وإنما تتلاقى الأرواح، قال : قلت : فهل تعلمون بزيارتنا إياكم ؟ قال : نعلم بها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس، قال : قلت : فكيف ذلك دون الأيام كلها ؟ قال : لفضل يوم الجمعة وعظمته.
قال : وحدثنا محمد بن الحسين، ثنا بكر بن محمد، ثنا حسن القصاب قال : كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت حتى نأتي أهل الجبان، فنقف على القبور فنسلم عليهم، وندعو لهم ثم ننصرف، فقلت ذات يوم : لو صيرت هذا اليوم يوم الاثنين ؟ قال : بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويومًا قبلها ويومًا بعدها. قال : ثنا محمد، ثنا عبد العزيز بن أبان قال : ثنا سفيان الثوري قال : بلغني عن الضحاك أنه قال : من زار قبرًا يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته، فقيل له : وكيف ذلك ؟ قال : لمكان يوم الجمعة.
حدثنا خالد بن خِدَاش، ثنا جعفر بن سليمان، عن أبي التَّيَّاح يقول : كان مُطَرَّف يغدو، فإذا كان يوم الجمعة أدلج. قال : وسمعت أبا التياح يقول : بلغنا أنه كان ينزل بغوطة، فأقبل ليلة حتى إذا كان عند المقابر يقوم وهو على فرسه، فرأى أهل القبور كل صاحب قبر جالسًا على قبره، فقالوا : هذا مطرف يأتي الجمعة ويصلون عندكم يوم الجمعة ؟ قالوا : نعم، ونعلم ما يقول فيه الطير. قلت : وما يقولون ؟ قال : يقولون سلام عليكم ؛ حدثني محمد بن الحسن، ثنا يحيى بن أبي بكر، ثنا الفضل بن الموفق ابن خال سفيان بن عيينة قال : لما مات أبي جزعت عليه جزعًا شديدًا، فكنت آتي قبره في كل يوم، ثم قصرت عن ذلك ما شاء الله، ثم إني أتيته يومًا، فبينا أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي فنمت، فرأيت كأن قبر أبي قد انفرج، وكأنه قاعد في قبره متوشح أكفانه، عليه سِحْنَة الموتى، قال : فكأني بكيت لما رأيته. قال : يا بني، ما أبطأ بك عني ؟ قلت : وإنك لتعلم بمجيئي ؟ قال : ما جئت مرة إلا علمتها، وقد كنت تأتيني فأسر بك ويسر من حولي بدعائك، قال : فكنت آتيه بعد ذلك كثيرًا.
حدثني محمد، حدثنا يحيى بن بَسْطام، ثنا عثمان بن سُوَيْد الطُّفَاوي قال : وكانت أمه من العابدات، وكان يقال لها : راهبة، قال : لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء فقالت : يا ذخري وذخيرتي من عليه اعتمادي في حياتي وبعد موتي، لا تخذلني عند الموت ولا توحشني. قال : فماتت. فكنت آتيها في كل جمعة فأدعو لها وأستغفر لها ولأهل القبور، فرأيتها ذات يوم في منامي، فقلت لها : يا أمي، كيف أنت ؟ قالت : أي : بني، إن للموت لكربة شديدة، وإني بحمد الله لفي برزخ محمود يفرش فيه الريحان، ونتوسد السندس والإستبرق إلى يوم النشور، فقلت لها : ألك حاجة ؟ قالت : نعم، قلت : وما هي ؟ قالت : لا تدع ما كنت تصنع من زياراتنا والدعاء لنا، فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك، يقال لي : يا راهبة، هذا ابنك، قد أقبل، فأسر ويسر بذلك مَنْ حولي من الأموات.
حدثني محمد، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن سليمان، حدثنا بشر بن منصور قال : لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبان، فيشهد الصلاة على الجنائز، فإذا أمسى وقف على المقابر فقال : آنس الله وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز عن مسيئكم، وقبل حسناتكم، لا يزيد على هؤلاء الكلمات، قال : فأمسيت ذات ليلة وانصرفت إلى أهلي ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو، قال : فبينا أنا نائم إذا بخلق قد جاءوني، فقلت : ما أنتم وما حاجتكم ؟ قالوا : نحن أهل المقابر، قلت : ما حاجتكم ؟ قالوا : إنك عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك، قلت : وما هي ؟ قالوا : الدعوات التي كنت تدعو بها، قال : قلت فإني أعود لذلك، قال : فما تركتها بعد.
وأبلغ من ذلك أن الميت يعلم بعمل الحي من أقاربه وإخوانه. قال عبد الله بن المبارك : حدثني ثور بن يزيد، عن إبراهيم، عن أيوب قال : تعرض أعمال الأحياء على الموتى، فإذا رأوا حسنًا فرحوا واستبشروا وإن رأوا سوءًا قالوا : اللهم راجع به.
وذكر ابن أبي الدنيا عن أحمد بن أبي الحواري قال : ثنا محمد أخي قال : دخل عباد بن عباد على إبراهيم بن صالح وهو على فلسطين فقال : عظني، قال : بِمَ أعظك، أصلحك الله ؟ بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى، فانظر ما يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عملك، فبكى إبراهيم حتى أخضل لحيته. قال ابن أبي الدنيا : وحدثني محمد بن الحسين، ثنا خالد بن عمرو الأموي، ثنا صدقة بن سليمان الجعفري قال : كانت لي شِرَّة سَمِجَة، فمات أبي فتبت وندمت على ما فرطت، ثم زللت أيما زلة، فرأيت أبي في المنام، فقال : أي بني، ما كان أشد فرحي بك وأعمالك تعرض علينا، فنشبهها بأعمال الصالحين، فلما كانت هذه المرة استحييت لذلك حياء شديدًا، فلا تخزني فِيمَنْ حولي من الأموات، قال : فكنت أسمعه بعد ذلك يقول في دعائه في السحر، وكان جارًا لي بالكوفة : أسألك إيابة لا رجعة فيها ولا حور، يا مصلح الصالحين، ويا هادي المضلين، ويا أرحم الراحمين.
وهذا باب فيه آثار كثيرة عن الصحابة. وكان بعض الأنصار من أقارب عبد الله بن رواحة يقول : اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة، كان يقول ذلك بعد أن استشهد عبد الله.
وقد شرع السلام على الموتى، والسلام على مَنْ لم يشعر ولا يعلم بالمسلم محال، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا رأوا القبور أن يقولوا :" سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية "، فهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد، وإن لم يسمع المسلم الرد، والله أعلم ]٧.
٢ - في ت: "يسمعون"..
٣ - في ت، أ: "في روايته أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب القتلى الذين ألقوا في القليب، قليب بدر"..
٤ - قال الإمام الزركشي رحمه الله في كتابه "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" ص (١٢١): "أخرج البخاري عن ابن عمر قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: "هل وجدتم ما وعد ربكم حقا" ثم قال: "إنهم الآن يسمعون ما أقول"، فذكر لعائشة فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول لهم حق". قال السهيلي في الروض: "وعائشة لم تحضر، وغيرها ممن حضر أحفظ للفظه صلى الله عليه وسلم، وقد قالوا له: يا رسول الله، أتخاطب قوما قد جيفوا أو أجيفوا؟ فقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"، وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحال عالمين، جاز أن يكونوا سامعين، إما بآذان رؤوسهم، إذا قلنا: إن الروح تعاد إلى الجسد أو إلى بعضه عند المسألة. وهو قول جمهور أهل السنة، وإما بأذن القلب أو الروح على مذهب مَنْ يقول بتوجه السؤال إلى الروح من غير رجوع إلى الجسد أو إلى بعضه. قال: وقد روي أن عائشة احتجت بقوله تعالى: (وما أنت بمسمع من في القبور) وهذه الآية كقوله: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي) أي: إن الله هو الذي يهدي ويوفق ويدخل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت، وجعل الكفار أمواتًا وصمًا على جهة التشبيه بالأموات وبالصم، فالله هو الذي يسمعهم على الحقيقة إذا شاء، فلا تعلق لها في الآية لوجهين: أحدهما: أنها إنما نزلت في دعاء الكفار إلى الإيمان، الثاني: أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم، وصدق الله، فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو"..
٥ - زيادة من أ..
٦ - الاستذكار لابن عبد البر من طريق بشر بن بكير، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس، مرفوعا. ولفظه: "ما من أحد مر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام"..
٧ - زيادة من ت، أ..
وَهَذَا بَابٌ فِيهِ آثَارٌ كَثِيرَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ. وَكَانَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ مِنْ أَقَارِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَمَلٍ أَخْزَى بِهِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اسْتُشْهِدَ عَبْدُ اللَّهِ.
وَقَدْ شُرِعَ السَّلَامُ عَلَى الْمَوْتَى، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْعُرْ وَلَا يَعْلَمُ بِالْمُسْلِمِ مُحَالٌ، وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ إِذَا رَأَوُا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا: "سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ"، فَهَذَا السَّلَامُ وَالْخِطَابُ وَالنِّدَاءُ لِمَوْجُودٍ يَسْمَعُ وَيُخَاطِبُ وَيَعْقِلُ وَيَرُدُّ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعِ الْمُسْلِمُ الرَّدَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ] (١).
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) ﴾.
يُنَبِّهُ تَعَالَى عَلَى تَنَقُّلِ الْإِنْسَانِ فِي أَطْوَارِ الْخَلْقِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَأَصْلُهُ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ، ثُمَّ يَصِيرُ عِظَامًا ثُمَّ يُكسَى لَحْمًا، ويُنفَخ فِيهِ الرُّوحُ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ ضَعِيفًا نَحِيفًا وَاهِنَ الْقُوَى. ثُمَّ يَشِبُّ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَكُونَ صَغِيرًا، ثُمَّ حَدَثا، ثُمَّ مُرَاهِقًا، ثُمَّ شَابًّا. وَهُوَ الْقُوَّةُ بَعْدَ الضَّعْفِ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي النَّقْصِ فَيَكْتَهِلُ (٢)، ثُمَّ يَشِيخُ ثُمَّ يَهْرَمُ، وَهُوَ الضَّعْفُ بَعْدَ الْقُوَّةِ. فَتَضْعُفُ الْهِمَّةُ وَالْحَرَكَةُ وَالْبَطْشُ، وَتَشِيبُ اللّمَّة، وَتَتَغَيَّرُ الصِّفَاتُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ أَيْ: يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَتَصَرَّفُ فِي عَبِيدِهِ بِمَا يُرِيدُ، ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ فُضَيْلٍ وَيَزِيدَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ (٣)، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا﴾ (٤)، فَقَالَ: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا﴾، ثُمَّ قَالَ: قرأتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأْتَ عَلَيَّ، فَأَخَذَ عَلَيَّ كَمَا أخذتُ عَلَيْكَ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ -وحَسَّنه -مِنْ حَدِيثِ فُضَيْلٍ، بِهِ (٥). وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سعيد، بنحوه (٦).
(٢) في ت، ف، أ: "فيتكهل".
(٣) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده".
(٤) في أ: "ضعفا وشيبة".
(٥) المسند (٢/٥٨) وسنن أبي داود برقم (٣٩٧٨) وسنن الترمذي برقم (٢٩٣٦).
(٦) سنن أبي داود برقم (٣٩٧٩).
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَهْلِ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَفِي الدُّنْيَا فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَكُونُ مِنْهُمْ جَهْلٌ عَظِيمٌ أَيْضًا، فَمِنْهُ إِقْسَامُهُمْ بِاللَّهِ أَنَّهُمْ مَا لَبِثُوا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَاعَةً وَاحِدَةً، وَمَقْصُودُهُمْ هُمْ بِذَلِكَ عَدَمُ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُنْظَروا حَتَّى يُعذَر إِلَيْهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كَذَلِكَ كَانٌوا يُؤْفَكُون. وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ﴾ أَيْ: فَيَرُدُّ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُونَ الْعُلَمَاءُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَقَامُوا عَلَيْهِمْ حُجَّةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُونَ لَهُمْ حِينَ يَحْلِفُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ: ﴿لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ أَيْ: فِي كِتَابِ الْأَعْمَالِ، ﴿إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ﴾ أَيْ: مِنْ يَوْمِ خُلِقْتُمْ إِلَى أَنْ بُعِثْتُمْ، ﴿وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ﴾ أَيْ: [لَا يَنْفَعُهُمْ] (١) اعْتِذَارُهُمْ عَمَّا فَعَلُوا، ﴿وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ أَيْ: وَلَا هُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ﴾ [فُصِّلَتْ: ٢٤].
﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (٦٠) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ أَيْ: قَدْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْحَقَّ، وَوَضَّحْنَاهُ لَهُمْ، وَضَرَبْنَا لَهُمْ فِيهِ الْأَمْثَالَ لِيَتَبَيَّنُوا الْحَقَّ وَيَتَّبِعُوهُ. ﴿وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ﴾ أَيْ: لَوْ رَأَوْا أَيَّ آيَةٍ كَانَتْ، سَوَاءً كَانَتْ بِاقْتِرَاحِهِمْ أَوْ غَيْرِهِ، لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا سِحْرٌ وَبَاطِلٌ، كَمَا قَالُوا فِي انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَنَحْوِهِ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ] (٢) تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ﴾ [يُونُسَ: ٩٦، ٩٧] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ أَيِ: اصْبِرْ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ مِنْ نَصْرِهِ إِيَّاكَ، وَجَعْلِهِ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ﴿وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ أَيْ: بَلِ اثْبُتْ عَلَى مَا بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ، فَإِنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَا تَعْدِلْ عَنْهُ وَلَيْسَ فِيمَا سِوَاهُ هُدَى يُتَّبَعُ، بَلِ الْحَقُّ كُلُّهُ مُنْحَصِرٌ فِيهِ.
قَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: نَادَى رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ -صلاة
(٢) زيادة من أ.
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ شَرِيك، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي زُرْعَة، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: نَادَى رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ عَلِيًّا وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَالَ: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، فَأَجَابَهُ عَلِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ (١).
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْد، أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ ظَبْيان، عَنْ أَبِي تَحْيَا قَالَ: صَلَّى عَلِيٌّ (٢) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، فَأَجَابَهُ عَلِيٌّ (٣)، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾.
[مَا رُوِيَ فِي فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ الشَّرِيفَةِ، وَاسْتِحْبَابِ قِرَاءَتِهَا فِي الْفَجْرِ] (٤) :
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، سمعت شبيب -أَبَا رَوْحٍ -يحدِّث عَنْ رَجُلٍ (٥) مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ، فَقَرَأَ فِيهَا الرُّومُ فَأُوهِمَ، فَقَالَ: "إِنَّهُ يُلَبَّسُ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ، فَإِنَّ أَقْوَامًا مِنْكُمْ يُصَلُّونَ مَعَنَا لَا يُحْسِنُونَ الْوُضُوءَ، فَمَنْ شَهِدَ الصَّلَاةَ مَعَنَا فَلْيُحْسِنِ الْوُضُوءَ" (٦).
وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ وَمَتْنٌ حَسَنٌ (٧) وَفِيهِ سِرٌّ عَجِيبٌ، وَنَبَأٌ غَرِيبٌ، وَهُوَ أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (٨) تَأَثَّرَ بِنُقْصَانِ وُضُوءِ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مُتَعَلِّقَةٌ (٩) بِصَلَاةِ الْإِمَامِ.
[آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "الرُّومِ"] (١٠). _
(٢) في ف، أ: "علي بن أبي طالب".
(٣) في ف، أ: "علي بن أبي طالب".
(٤) زيادة من ف، أ.
(٥) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن رجل".
(٦) المسند (٣/٤٧١).
(٧) في ت: "إسناده حسن ومتنه حسن".
(٨) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(٩) في هـ: "معدوقة".
(١٠) زيادة من ت.
قال سعيد عن قتادة : نادى رجل من الخوارج عليا، رضي الله عنه، وهو في الصلاة – صلاة الغداة - فقال :﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [ الزمر : ٦٥ ]، فأنصت له علي حتى فهم ما قال، فأجابه وهو في الصلاة :﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ﴾. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم. وقد رواه ابن جرير من وجه آخر فقال :
حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا يحيى بن آدم، عن شَرِيك، عن عثمان بن أبي زُرْعَة، عن علي بن ربيعة قال : نادى رجل من الخوارج عليا وهو في صلاة الفجر، فقال :﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾، فأجابه علي وهو في الصلاة :﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ﴾١.
طريق أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا علي بن الجَعْد، أخبرنا شريك، عن عمران بن ظَبْيان، عن أبي تحيا قال : صلى علي٢ رضي الله عنه، صلاة الفجر، فناداه رجل من الخوارج :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾، فأجابه علي٣، وهو في الصلاة :﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ﴾.
٢ - في ف، أ: "علي بن أبي طالب"..
٣ - في ف، أ: "علي بن أبي طالب"..