تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
.
لمؤلفه
ابن عجيبة
.
المتوفي سنة 1224 هـ
ﰡ
ﭑ
ﰀ
سورة الجاثية
مكية، وقيل: إلا قوله: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا.. إلخ. وهى سبع وثلاثون آية. ووجه مناسبتها: قوله:
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ «١» مع قوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي: فالذى يسرناه بلسانك هو منزل من الله، الغالب على أمره.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١ الى ٦]
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦)
قلت: (واختلاف الليل والنهار... ) الآية فيها العطف على عاملين،. سواء نصبت «آيات» أو رفعتها، فالعاملان إذا نصبت «إن» و «في» أقيمت الواو مقامهما، فعملت الجر في (واختلاف) والنصب في (آيات)، وإذا رفعت فالعاملان الابتداء، وحرف «في» عملت الواو الرفع في «آيات» والجرّ في «واختلاف» وهذا مذهب الأخفش، فإنه يُجوِّز العطفَ على عاملين، وأما سيبويه فلا يُجيزه، وتخريج الآية عنده: أن يكونَ على إضمار «في»، والذي حسّنه: تقديم ذكر «فى» في الآيتين قبله، ويؤيده: قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (وفي اختلاف الليل والنهار) وفيها أوجه أُخر.
يقول الحق جلّ جلاله: حم يا حبيب يا مجيد هذا تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، فكونه من الله عزّ وجل دلّ أنه حق وصدق وصواب، وكونه من العزيز دلَّ أنه معجز، يَغلِب ولا يُغلب، وكونه من الحكيم دلّ أنه مشتمل على الحِكَم البالغة، وأنه محكَم في نفسه، يَنسِخ ولا يُنْسَخ.
ثم برهن على عزته، وباهر حكمته، فقال: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إما فى نفس السموات والأرض فإن في شكلهما من بدائع وفنون الحِكَم ما يقصر عنه البيان، وإما في خلقهما وإظهارهما، كما في قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «٢»، لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ لدلالاتٍ على وحدانيته تعالى لأهل الإيمان،
مكية، وقيل: إلا قوله: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا.. إلخ. وهى سبع وثلاثون آية. ووجه مناسبتها: قوله:
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ «١» مع قوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي: فالذى يسرناه بلسانك هو منزل من الله، الغالب على أمره.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤)وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦)
قلت: (واختلاف الليل والنهار... ) الآية فيها العطف على عاملين،. سواء نصبت «آيات» أو رفعتها، فالعاملان إذا نصبت «إن» و «في» أقيمت الواو مقامهما، فعملت الجر في (واختلاف) والنصب في (آيات)، وإذا رفعت فالعاملان الابتداء، وحرف «في» عملت الواو الرفع في «آيات» والجرّ في «واختلاف» وهذا مذهب الأخفش، فإنه يُجوِّز العطفَ على عاملين، وأما سيبويه فلا يُجيزه، وتخريج الآية عنده: أن يكونَ على إضمار «في»، والذي حسّنه: تقديم ذكر «فى» في الآيتين قبله، ويؤيده: قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (وفي اختلاف الليل والنهار) وفيها أوجه أُخر.
يقول الحق جلّ جلاله: حم يا حبيب يا مجيد هذا تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، فكونه من الله عزّ وجل دلّ أنه حق وصدق وصواب، وكونه من العزيز دلَّ أنه معجز، يَغلِب ولا يُغلب، وكونه من الحكيم دلّ أنه مشتمل على الحِكَم البالغة، وأنه محكَم في نفسه، يَنسِخ ولا يُنْسَخ.
ثم برهن على عزته، وباهر حكمته، فقال: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إما فى نفس السموات والأرض فإن في شكلهما من بدائع وفنون الحِكَم ما يقصر عنه البيان، وإما في خلقهما وإظهارهما، كما في قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «٢»، لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ لدلالاتٍ على وحدانيته تعالى لأهل الإيمان،
(١) الآية ٥٨ من سورة الدخان.
(٢) الآية ١٩٠ من سورة آل عمران.
(٢) الآية ١٩٠ من سورة آل عمران.
299
وهو الأوفق بقوله: وَفِي خَلْقِكُمْ أي: من نطفة ثم من علقة متقلبة من أطوار مختلفة إلى تمام الخلق، وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ: عطف على المضاف دون المضاف إليه، أي: وفي خلق ما يبث، أي: ينشر ويُصرّف من دابة آياتٌ ظاهرة على باهر قدرته وحكمته، لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي: من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه، ويعرفوا فيها صانعها، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي: تعاقبهما بالذهاب والمجيء، أو: تفاوتهما طولا، وقصرا، وَفى ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ مطر لأنه بسبب الرزق، فعبَّر عن السبب بالمسبب لأنه نتيجته، تنبيهاً على كونه آية من جهة القدرة والرحمة، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بأن أخرج أصناف الزرع والثمرات والنبات بَعْدَ مَوْتِها أي: خلُوها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها، وخلو أشجارها عن الثمار والأزهار.
وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أي: هبوبها من جهة إلى أخرى، ومن حال إلى حال، وتأخيره عن نزول المطر مع تقدمه عليه في الوجود، إما للإيذان بأنه آية مستقلة، ولو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح ونزول المطر آية واحدة، أو: لأن كون التصريف آية ليس مجرد كونه مبتدأ لإنشاء المطر، بل له ولسائر المنافع، التي من جملتها: سوق السفن في البحار، وإلقاح الأشجار، آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبّرون بعقولهم، فيصلون إلى صريح التوحيد. وفي تقديم الإيمان على الإيقان، وتأخير تدبُّر العقل لأن العباد إذا نظروا في السموات والأرض نظراً صحيحاً علموا أنها مصنوعة، وأنه لا بُدَّ لها من صانع، فآمنوا بالله، وإذا نظروا في خلق أنفسهم، وتنقلها من حالٍ إلى حال، وفي خلق ما ظَهَرَ على ظَهْر الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيماناً وأيقنوا، فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدّد في كل وقت، كتعاقب الليل والنهار، ونزول الأمطار، وحياة الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح، جنوباً وشمالاً، ودَبوراً وصباً، عقِلوا، واستحكم في عقولهم، وخلص يقينهم، فكانوا من ذوي الألباب.
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ مبتدأ وخبر، ونَتْلُوها عَلَيْكَ حال، والعامل: معنى الإشارة، أي: تلك الآيات المتقدمة هي آيات الله الدالة على وجوب وجوده واتصافه بأوصاف الكمال، حال كونها متلوةً عليك، ملتبسة بِالْحَقِّ أو: نتلوها محقين في ذلك، فالجار والمجرور: حال من المفعول أو الفاعل. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ من الأحاديث بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ أي: بعد آيات الله، كقولك: أعجبني زيد وكرمه، أي: أعجبني كرم زيد، أو: بعد حديث الله، الذي هو القرآن، وآياته العامة في كل شيء، فيكون على حذف مضاف، أو: يُراد بها القرآن أيضاً، والعطف للتغاير العنواني، فالأول من جهة كونه حديثاً حسناً، والثاني باعتبار كونه معجزاً، أي: فبأي حديثٍ بعد أحسن الحديث وأبهر الآيات يُؤْمِنُونَ يُصدِّقون؟! ومَن قرأ بالخطاب «١» يُقدر: قل يا محمد.
وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أي: هبوبها من جهة إلى أخرى، ومن حال إلى حال، وتأخيره عن نزول المطر مع تقدمه عليه في الوجود، إما للإيذان بأنه آية مستقلة، ولو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح ونزول المطر آية واحدة، أو: لأن كون التصريف آية ليس مجرد كونه مبتدأ لإنشاء المطر، بل له ولسائر المنافع، التي من جملتها: سوق السفن في البحار، وإلقاح الأشجار، آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبّرون بعقولهم، فيصلون إلى صريح التوحيد. وفي تقديم الإيمان على الإيقان، وتأخير تدبُّر العقل لأن العباد إذا نظروا في السموات والأرض نظراً صحيحاً علموا أنها مصنوعة، وأنه لا بُدَّ لها من صانع، فآمنوا بالله، وإذا نظروا في خلق أنفسهم، وتنقلها من حالٍ إلى حال، وفي خلق ما ظَهَرَ على ظَهْر الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيماناً وأيقنوا، فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدّد في كل وقت، كتعاقب الليل والنهار، ونزول الأمطار، وحياة الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح، جنوباً وشمالاً، ودَبوراً وصباً، عقِلوا، واستحكم في عقولهم، وخلص يقينهم، فكانوا من ذوي الألباب.
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ مبتدأ وخبر، ونَتْلُوها عَلَيْكَ حال، والعامل: معنى الإشارة، أي: تلك الآيات المتقدمة هي آيات الله الدالة على وجوب وجوده واتصافه بأوصاف الكمال، حال كونها متلوةً عليك، ملتبسة بِالْحَقِّ أو: نتلوها محقين في ذلك، فالجار والمجرور: حال من المفعول أو الفاعل. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ من الأحاديث بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ أي: بعد آيات الله، كقولك: أعجبني زيد وكرمه، أي: أعجبني كرم زيد، أو: بعد حديث الله، الذي هو القرآن، وآياته العامة في كل شيء، فيكون على حذف مضاف، أو: يُراد بها القرآن أيضاً، والعطف للتغاير العنواني، فالأول من جهة كونه حديثاً حسناً، والثاني باعتبار كونه معجزاً، أي: فبأي حديثٍ بعد أحسن الحديث وأبهر الآيات يُؤْمِنُونَ يُصدِّقون؟! ومَن قرأ بالخطاب «١» يُقدر: قل يا محمد.
(١) قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب «يؤمنون» بالتاء، وقرأ الباقون بالغيب. انظر الإتحاف (٢/ ٤٦٦). [.....]
300
الإشارة: قال القشيري: الحاء تدل على حياته، والميم تدل على مودته، كأنه قال: بحق حياتي ومودتي لأوليائي، لا شيء أعز على أحبائي من لقائي، العزيزُ في جلاله، الحكيم في فعاله، العزيز في أزله، الحكيم في لُطفه بالعبد بوصف إقباله.
قوله تعالى: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. الآية شواهد الربوبية لائحةٌ، وأدلة الإلهية واضحةٌ، فَمَنْ صحا فكره عن سُكر الغفلة، ووضعَ سِرَّه في محل العِبْرة، حَظِيَ- لا محالة- بحقائق الوصلة. هـ. قلت: إنما يحظى بالوصلة إذا نفذت بصيرته إلى شهود المكوِّن، ولم يقف مع شيء من حس الكائنات، بل نفذ إلى ما فيها من أسرار المعاني، فعرف فيها مولاها، وشاهد فيها المتجلي بها، وإلا بَقِيَ مسجوناً محصوراً في ذاته.
قوله تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ... الآية، قال القشيري: إذا أنعم العبدُ النظرَ في استواء قدِّه وقامته، واستكمال خلقه «١»، وتمام تمييزه، وما هو مخصوص به من جوارحه وحوائجه، ثم فكّر فيما عداه من الدواب، وأجزائها وأعضائها، ووقف على اختصاصه، وامتياز بني آدم من بين البريَّة من الحيوانات، في الفهم والعقل والتمييز والعلم، ثم في الإيمان والعرفان، ووجوه خصائص أهل الصفوة من هذه الطائفة من فنون الإحسان عَرَف تخصيصهم بمناقبهم، وانفرادهم بفضلهم، فاستيقن أن الله أكرمهم، وعلى كثيرٍ من المخلوقات قَدَّمهم.
ثم قال في قوله: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ... الآية. جعل الله العلومَ الدينية كسبيةً مُصحَّحةً بالدلائل، مُحتَفةً بالشواهد، فمَن لم يستبصرْ لها زلَّتْ قَدَمُه عن الصراط المستقيم، ووقع في عذاب الجحيم، فاليومَ في ظلمة الحيرة والتقليد، وفي الآخرة في التخليد في الوعيد. هـ. قلت: النظر في دلائل الكائنات من غير تنوير، ولا صحبة أهل التنوير، لا تزيد إلا حيرة، ولذلك قال بعضهم: إيمان أهل علم الكلام كالخيط في الهواء، يميل مع كل ريح، فالتقليد حينئذ أسلم، والتمسك بظاهر الكتاب والسنة أتم، ومَن سقط على العارفين بالله، لم يحتج إلى دليل ولا شاهد، وأغناه شهود الشهيد عن كل شاهد.
كيف يُعرف بالمعارف مَن به عُرفت المعارف؟! تنزّه الحق تعالى أن يفتقر إلى دليل يدلّ عليه، بل به يستدل على غيره، فلا يجد غيره. تلك آيات شواهد نتلوها عليك لترانا فيها، لا لتراها مفروقةً عنا، ولذلك قال تعالى: (بالحق)، أي: ملتبسة بنور الحق، الله نُورُ السماوات والأرض.
قوله تعالى: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. الآية شواهد الربوبية لائحةٌ، وأدلة الإلهية واضحةٌ، فَمَنْ صحا فكره عن سُكر الغفلة، ووضعَ سِرَّه في محل العِبْرة، حَظِيَ- لا محالة- بحقائق الوصلة. هـ. قلت: إنما يحظى بالوصلة إذا نفذت بصيرته إلى شهود المكوِّن، ولم يقف مع شيء من حس الكائنات، بل نفذ إلى ما فيها من أسرار المعاني، فعرف فيها مولاها، وشاهد فيها المتجلي بها، وإلا بَقِيَ مسجوناً محصوراً في ذاته.
قوله تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ... الآية، قال القشيري: إذا أنعم العبدُ النظرَ في استواء قدِّه وقامته، واستكمال خلقه «١»، وتمام تمييزه، وما هو مخصوص به من جوارحه وحوائجه، ثم فكّر فيما عداه من الدواب، وأجزائها وأعضائها، ووقف على اختصاصه، وامتياز بني آدم من بين البريَّة من الحيوانات، في الفهم والعقل والتمييز والعلم، ثم في الإيمان والعرفان، ووجوه خصائص أهل الصفوة من هذه الطائفة من فنون الإحسان عَرَف تخصيصهم بمناقبهم، وانفرادهم بفضلهم، فاستيقن أن الله أكرمهم، وعلى كثيرٍ من المخلوقات قَدَّمهم.
ثم قال في قوله: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ... الآية. جعل الله العلومَ الدينية كسبيةً مُصحَّحةً بالدلائل، مُحتَفةً بالشواهد، فمَن لم يستبصرْ لها زلَّتْ قَدَمُه عن الصراط المستقيم، ووقع في عذاب الجحيم، فاليومَ في ظلمة الحيرة والتقليد، وفي الآخرة في التخليد في الوعيد. هـ. قلت: النظر في دلائل الكائنات من غير تنوير، ولا صحبة أهل التنوير، لا تزيد إلا حيرة، ولذلك قال بعضهم: إيمان أهل علم الكلام كالخيط في الهواء، يميل مع كل ريح، فالتقليد حينئذ أسلم، والتمسك بظاهر الكتاب والسنة أتم، ومَن سقط على العارفين بالله، لم يحتج إلى دليل ولا شاهد، وأغناه شهود الشهيد عن كل شاهد.
عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْغِي عَلَيكَ شَهَادَةً | وَأَنتَ الَّذي أَشْهَدْتَهُ كلَّ شاهد. |
(١) فى القشيري: عقله.
301
قوله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ... الآية، قال القشيري: فَمَنْ لا يؤمن بها فبأي حديث يؤمن؟ ومن أي أصل ينشأ بعده «١» ؟ ومن أي بحر في التحقيق يغترف؟ هيهات ما بقي للإشكال في هذا مجال. هـ.
ثم ذكر حال من أعرض عنها، فقال
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٧ الى ١١]
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١)
يقول الحق جلّ جلاله: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ كذَّاب أَثِيمٍ كثير الآثام، يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ التنزيلية تُتْلى عَلَيْهِ، وجملة «يسمع» صفة أخرى لأفَاك، أو استئناف، أو حال من ضمير «أثيم»، و «تتلى» : حال من «آيات الله»، ثُمَّ يُصِرُّ أي: يُقيم على كفره، حال كونه مُسْتَكْبِراً عن الإيمان بالآيات، والإذعان لما تنطق به من الحق، مُزْدرياً بها، مُعجَباً بما عنده من الأباطيل. قيل: نزلت في النضر بن الحارث، وكان يشتري من أحاديث الأعاجم، ويشغل بها الناس عن سماع القرآن «٢»، والآية عامة في كل مَن كان مضاراً لدين الله وجيء بثمّ لأن الإصرارَ على الضلالة، والاستكبار عن الإيمان عند سماع آيات القرآن، مستبعدٌ في العقول. ثم قال:
كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي: كأنه لم يسمعها، فأن مخففة، ومحل الجملة النصب على الحال، أي: يُصر شبيهاً بغير السامع، فَبَشِّرْهُ على إصراره واستكباره بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي: أخبره خبر يظهر أثره على البشرة، تهكُّماً به.
وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً أي: إذا بلغه من آياتنا شيئاً يمكن أن يتشبّث بها المعاند، ويجد له محملاً فاسداً يتوسل به إلى الطعن والمغمزة، اتَّخَذَها أي: مهزوءاً بها، لا ما يسمعه فقط، وإنما لم يقل: اتخذه للإشعار بأنه إذا أحسّ بشيء من الكلام فيه شيء بزعمه الركيك لم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه، بل يستهزئ بالجميع، ويجوز أن يرجع الضمير (لشيء) لأنه في معنى الآية. أُولئِكَ لَهُمْ بسبب جناياتهم المذكورة عَذابٌ مُهِينٌ، وصف العذاب بالإهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم بآيات الله تعالى، وجمع الإشارة باعتبار
ثم ذكر حال من أعرض عنها، فقال
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٧ الى ١١]
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١)
يقول الحق جلّ جلاله: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ كذَّاب أَثِيمٍ كثير الآثام، يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ التنزيلية تُتْلى عَلَيْهِ، وجملة «يسمع» صفة أخرى لأفَاك، أو استئناف، أو حال من ضمير «أثيم»، و «تتلى» : حال من «آيات الله»، ثُمَّ يُصِرُّ أي: يُقيم على كفره، حال كونه مُسْتَكْبِراً عن الإيمان بالآيات، والإذعان لما تنطق به من الحق، مُزْدرياً بها، مُعجَباً بما عنده من الأباطيل. قيل: نزلت في النضر بن الحارث، وكان يشتري من أحاديث الأعاجم، ويشغل بها الناس عن سماع القرآن «٢»، والآية عامة في كل مَن كان مضاراً لدين الله وجيء بثمّ لأن الإصرارَ على الضلالة، والاستكبار عن الإيمان عند سماع آيات القرآن، مستبعدٌ في العقول. ثم قال:
كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي: كأنه لم يسمعها، فأن مخففة، ومحل الجملة النصب على الحال، أي: يُصر شبيهاً بغير السامع، فَبَشِّرْهُ على إصراره واستكباره بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي: أخبره خبر يظهر أثره على البشرة، تهكُّماً به.
وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً أي: إذا بلغه من آياتنا شيئاً يمكن أن يتشبّث بها المعاند، ويجد له محملاً فاسداً يتوسل به إلى الطعن والمغمزة، اتَّخَذَها أي: مهزوءاً بها، لا ما يسمعه فقط، وإنما لم يقل: اتخذه للإشعار بأنه إذا أحسّ بشيء من الكلام فيه شيء بزعمه الركيك لم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه، بل يستهزئ بالجميع، ويجوز أن يرجع الضمير (لشيء) لأنه في معنى الآية. أُولئِكَ لَهُمْ بسبب جناياتهم المذكورة عَذابٌ مُهِينٌ، وصف العذاب بالإهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم بآيات الله تعالى، وجمع الإشارة باعتبار
(١) فى القشيري: [يستمد بعده] وهو أنسب.
(٢) ذكره فى البحر المحيط (٨/ ٤٤).
(٢) ذكره فى البحر المحيط (٨/ ٤٤).
302
ما فى لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ من الشمول، كما في قوله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ «١»، وأفرد فيما سبق من الضمائر باعتبار كل واحدٍ واحد. مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ أي: من قدّامهم، لأنهم متوجهون إلى ما أعدّ لهم، أو:
من خلفهم لأنهم معرضون عن ذلك، مقبلون على الدنيا، فإن الوراء: اسم للجهة التي يواريها الشخص من قدّام وخلف، وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ لا يدفع عنهم ما كَسَبُوا من الأموال والأولاد شَيْئاً من عذاب الله تعالى، وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أي: الأصنام، و «ما» مصدرية، أو موصولة، وتوسيط حرف النفي بين المعطوفين ينبئ أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعاً، مبني على زعمهم الفاسد، حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره.
هذا أي: القرآن هُدىً في غاية الكمال من الهداية، كأنه نفس الهدى، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي: القرآن، وإنما وضع موضع ضميره الآيات لزيادة تشنيع كفرهم وتفظيع حالهم، لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ من أشد العذاب أَلِيمٌ مؤلم، بالرفع «٢» صفة «عذاب»، وبالجر صفة «رِجز»، وتنوين عذاب في المواضع الثلاثة للتفخيم.
الإشارة: مَن لم يضبط لسانه وجوارحه، وتصاممت آذانُ قلبه عن تدبُّر القرآن، فالويل حاصل له، ويُبَشَّر بالخيبة والخسران من مراتب أهل العرفان، ومن ضبط أمور ظاهره بالتقوى، وفتحت آذان قلبه لسماع كلام المولى، فقد فار بعز الدارين. قال القشيري: فمَن استمع بسمع الفهم، واستبصر بنور التوحيد، فاز بذُخْر الدارين، وتصدَّى لعز المنزلتين، ومَن تصامم بحكم الغفلة، وقع في وهدة الجهل، ووُسِم بكى الهَجْر. هـ.
قوله تعالى: إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً. قال القشيري: وقد يُكاشَفُ العبدُ من مواطن القلب بتعريفاتٍ لا يداخله فيها ريبٌ، ولا يتخلله فيها شكٌّ فيما هو فيه من حاله، فإذا استهان بها وقع في ذُلِّ الحجْبة، وحجاب الفرقة وهوانها. هـ. فإذا صفا القلب صار مرسى لتجلي الواردات الإلهية، وهي آية من آياته، فإذا تجلّى فيه شيء بأمر أو نهي فاستهان به وخالفه أدّبه الحق على ذلك، إما في ظاهره، وهو أخف، أو في باطنه بالحجبة أو الفرقة، ولقد سمعت شيخ شيوخنا، مولاى العربي الدرقاوى رضي الله عنه يقول: لي ثلاثون سنة ما خالفت قلبي في شيء إلا أدّبني الحق تعالى عليه. هـ. أي: في ظاهره، وذلك لغاية صفائه.
من خلفهم لأنهم معرضون عن ذلك، مقبلون على الدنيا، فإن الوراء: اسم للجهة التي يواريها الشخص من قدّام وخلف، وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ لا يدفع عنهم ما كَسَبُوا من الأموال والأولاد شَيْئاً من عذاب الله تعالى، وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أي: الأصنام، و «ما» مصدرية، أو موصولة، وتوسيط حرف النفي بين المعطوفين ينبئ أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعاً، مبني على زعمهم الفاسد، حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره.
هذا أي: القرآن هُدىً في غاية الكمال من الهداية، كأنه نفس الهدى، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي: القرآن، وإنما وضع موضع ضميره الآيات لزيادة تشنيع كفرهم وتفظيع حالهم، لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ من أشد العذاب أَلِيمٌ مؤلم، بالرفع «٢» صفة «عذاب»، وبالجر صفة «رِجز»، وتنوين عذاب في المواضع الثلاثة للتفخيم.
الإشارة: مَن لم يضبط لسانه وجوارحه، وتصاممت آذانُ قلبه عن تدبُّر القرآن، فالويل حاصل له، ويُبَشَّر بالخيبة والخسران من مراتب أهل العرفان، ومن ضبط أمور ظاهره بالتقوى، وفتحت آذان قلبه لسماع كلام المولى، فقد فار بعز الدارين. قال القشيري: فمَن استمع بسمع الفهم، واستبصر بنور التوحيد، فاز بذُخْر الدارين، وتصدَّى لعز المنزلتين، ومَن تصامم بحكم الغفلة، وقع في وهدة الجهل، ووُسِم بكى الهَجْر. هـ.
قوله تعالى: إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً. قال القشيري: وقد يُكاشَفُ العبدُ من مواطن القلب بتعريفاتٍ لا يداخله فيها ريبٌ، ولا يتخلله فيها شكٌّ فيما هو فيه من حاله، فإذا استهان بها وقع في ذُلِّ الحجْبة، وحجاب الفرقة وهوانها. هـ. فإذا صفا القلب صار مرسى لتجلي الواردات الإلهية، وهي آية من آياته، فإذا تجلّى فيه شيء بأمر أو نهي فاستهان به وخالفه أدّبه الحق على ذلك، إما في ظاهره، وهو أخف، أو في باطنه بالحجبة أو الفرقة، ولقد سمعت شيخ شيوخنا، مولاى العربي الدرقاوى رضي الله عنه يقول: لي ثلاثون سنة ما خالفت قلبي في شيء إلا أدّبني الحق تعالى عليه. هـ. أي: في ظاهره، وذلك لغاية صفائه.
(١) من الآية ٥٣ من سورة المؤمنون.
(٢) قرأ «أليم» برفع الميم، ابن كثير وحفص ويعقوب، وقرأ الباقون بالجر. انظر الإتحاف (٢/ ٤٦٦).
(٢) قرأ «أليم» برفع الميم، ابن كثير وحفص ويعقوب، وقرأ الباقون بالجر. انظر الإتحاف (٢/ ٤٦٦).
303
قوله تعالى: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ.. الآية، لا عذاب أشد من الحجب بعد الإظهار، والفرقة بعد الوصال. وأنشدوا:
انظر القشيري.
ولمَّا ذكر ما منّ به عليهم من النّعم الباطنة، وهى دلائل التوحيد، ذكر ما منّ به عليهم من النّعم الظاهرة، فقال:
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٢ الى ١٣]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣)
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ أي: ذلّله، بأن جعله أملس السطح، يطفو عليه ما فوقه، ولا يمنع الغوص فيه، لمَيَعَانه، لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ بإذنه، وأنتم راكبوها، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة، والغوص لابتغاء الحلية، كاللؤلؤ والمرجان، وكالصيد وغيرها، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الموجودات، بأن جعلها مداراً لمنافعهم.
قال القشيري: إذ ما من شيء من الأعيان الظاهرة، إلا وللإنسان به انتفاع من وجوه، فالسماء لهم بناء، والأرض لهم مِهاد، وليتأمل العبدُ في كل شيء [لو لم يكن، أيّ خلل يرجع إلى الخلق؟] «١»، لولا الشمس كيف كانوا يتصرفون بالنهار، ؟ ولولا الليل، كيف كانوا يسكنون؟ ولولا القمر هل كانوا يهتدون للحساب والآجال؟
وكذلك جميع المخلوقات. هـ. وقوله: جَمِيعاً مِنْهُ: حال، وليس من التوكيد لعدم الضمير، ولو كان توكيداً لقال: جميعه، ثم التوكيد بجميع قليل، فلا يحمل التنزيل عليه، قاله في المغني. والمنفي كونه توكيداً اصطلاحياً، فلا ينافي كونه حالاً مؤكدة في المعنى. إِنَّ فِي ذلِكَ أي: فيما ذكر من الأمور العظام لَآياتٍ عظيمة الشأن، كثيرة العدد، لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في بدائع صنعه تعالى، فإنهم يقفون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها، ويُوفَّقون لشكرها.
الإشارة: الله الذي سخَّر لكم بحر التوحيد الخاص، وهو تجلِّي عظمة الذات، لتجري فلكُ الأفكار في تيار بحر الذات ونور الصفات، فتراها تعوم تارة في أسرار الجبروت الأعلى، وتارة في أنوار الملكوت الأدنى، ولتبتغوا من
فَخَلِّ سَبِيلَ الْعَيْنِ بعدك للبكا | فليس لأيام الصَّفاء رجوعُ |
ولمَّا ذكر ما منّ به عليهم من النّعم الباطنة، وهى دلائل التوحيد، ذكر ما منّ به عليهم من النّعم الظاهرة، فقال:
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٢ الى ١٣]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣)
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ أي: ذلّله، بأن جعله أملس السطح، يطفو عليه ما فوقه، ولا يمنع الغوص فيه، لمَيَعَانه، لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ بإذنه، وأنتم راكبوها، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة، والغوص لابتغاء الحلية، كاللؤلؤ والمرجان، وكالصيد وغيرها، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الموجودات، بأن جعلها مداراً لمنافعهم.
قال القشيري: إذ ما من شيء من الأعيان الظاهرة، إلا وللإنسان به انتفاع من وجوه، فالسماء لهم بناء، والأرض لهم مِهاد، وليتأمل العبدُ في كل شيء [لو لم يكن، أيّ خلل يرجع إلى الخلق؟] «١»، لولا الشمس كيف كانوا يتصرفون بالنهار، ؟ ولولا الليل، كيف كانوا يسكنون؟ ولولا القمر هل كانوا يهتدون للحساب والآجال؟
وكذلك جميع المخلوقات. هـ. وقوله: جَمِيعاً مِنْهُ: حال، وليس من التوكيد لعدم الضمير، ولو كان توكيداً لقال: جميعه، ثم التوكيد بجميع قليل، فلا يحمل التنزيل عليه، قاله في المغني. والمنفي كونه توكيداً اصطلاحياً، فلا ينافي كونه حالاً مؤكدة في المعنى. إِنَّ فِي ذلِكَ أي: فيما ذكر من الأمور العظام لَآياتٍ عظيمة الشأن، كثيرة العدد، لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في بدائع صنعه تعالى، فإنهم يقفون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها، ويُوفَّقون لشكرها.
الإشارة: الله الذي سخَّر لكم بحر التوحيد الخاص، وهو تجلِّي عظمة الذات، لتجري فلكُ الأفكار في تيار بحر الذات ونور الصفات، فتراها تعوم تارة في أسرار الجبروت الأعلى، وتارة في أنوار الملكوت الأدنى، ولتبتغوا من
(١) العبارة فى القشيري: كيف إن كان خلل فى شىء منها ماذا يمكن أن يكون؟.
فضل معرفته، وزيادة الترقي في كشف الأسرار، وهذا لمَن اتسع عليه فضاء الشهود، وزاحت عنه حُجب الكائنات، وأما مَن بقي مسجوناً فيها، السماء تُظله، والأرض تُقله، فلا يطمع أن تسرَحَ فكرته في هذه البحار، وحسبه أن يكون حَمّاراً يسافر في البَر، تعبه كثير، وربحه قليل، والغناء به بعيد، وسبب بقائه في تعب البر عدم صحبته للرجال البحرية، الذين هم رُيَّاس البحر، وشيوخ ركْب البر. وبالله التوفيق.
قال القشيري: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ تركبونه، فربما تسْلَم السفينةُ، وربما تغرق، كذلك العبد في فلك الاعتصام في بحار التقدير، تمشي بهم رياح العناية، وترفع لهم شراع التوكُّل، تجري في البحر لتَجْر اليقين، فإن هبّت رياحُ السلامة نجت السفينة، وإن هبّت نكباء الفتنة لم يبقَ بيد الملاّح شيء، فعند ذلك المقادير غالبة، وبلغت قلوبُ أهل السفينة الحناجرَ. هـ. قلت: مَن ركب مع رائس ماهر الغالب عليه السلامة.
قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ، في بعض الأثر: يقول الله تعالى:
«يا ابنَ آدم خَلَقْتُ الأشياء من أجلك، وخلقتك مِنْ أجِلْي، فَلا تَشْتَغِل بما خلقته لك عما خلقتك لأجله» «١» أي: لا تنشغل بخدمة الكون عن خدمة المكوّن، فما أفلح مَن انشغل بدنياه، وآثر هواه على خدمة مولاه، كان حرّاً والأشياء كلها عبيد له، فصار عبداً لعبيده، بحبه للأشياء وتعشُّقه لها، كانت الأشياء تعشقه وتخدمه، ثم صار يخدم الأشياء ويعشقها، أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك، فاعرف قدرك أيها الإنسان، وارفع همتك عن الأكوان، وعلِّق قلبك بالملك الديّان، يُعطك الحق تعالى من العرش إلى الفرش، تتصرف فيه بهمتك كيف شئت، وما ذلك على الله بعزيز.
ثم بيّن الطريق الموصل إلى هذا، وهو حسن الخلق مع كل مخلوق، فقال:
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٤ الى ١٥]
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥)
قلت: (يغفِروا)، قيل: جواب الأمر المذكور، أي: إن تقل يغفروا، وقيل: لأمر محذوف، أي: قل لهم اغفروا يغفروا، وقيل: حذف لام الأمر، أي: ليغفروا، وقرأ أبو جعفر: (ليُجزي قوماً) بالبناء للمفعول، ونصب (قوما) إما
قال القشيري: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ تركبونه، فربما تسْلَم السفينةُ، وربما تغرق، كذلك العبد في فلك الاعتصام في بحار التقدير، تمشي بهم رياح العناية، وترفع لهم شراع التوكُّل، تجري في البحر لتَجْر اليقين، فإن هبّت رياحُ السلامة نجت السفينة، وإن هبّت نكباء الفتنة لم يبقَ بيد الملاّح شيء، فعند ذلك المقادير غالبة، وبلغت قلوبُ أهل السفينة الحناجرَ. هـ. قلت: مَن ركب مع رائس ماهر الغالب عليه السلامة.
قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ، في بعض الأثر: يقول الله تعالى:
«يا ابنَ آدم خَلَقْتُ الأشياء من أجلك، وخلقتك مِنْ أجِلْي، فَلا تَشْتَغِل بما خلقته لك عما خلقتك لأجله» «١» أي: لا تنشغل بخدمة الكون عن خدمة المكوّن، فما أفلح مَن انشغل بدنياه، وآثر هواه على خدمة مولاه، كان حرّاً والأشياء كلها عبيد له، فصار عبداً لعبيده، بحبه للأشياء وتعشُّقه لها، كانت الأشياء تعشقه وتخدمه، ثم صار يخدم الأشياء ويعشقها، أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك، فاعرف قدرك أيها الإنسان، وارفع همتك عن الأكوان، وعلِّق قلبك بالملك الديّان، يُعطك الحق تعالى من العرش إلى الفرش، تتصرف فيه بهمتك كيف شئت، وما ذلك على الله بعزيز.
ثم بيّن الطريق الموصل إلى هذا، وهو حسن الخلق مع كل مخلوق، فقال:
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٤ الى ١٥]
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥)
قلت: (يغفِروا)، قيل: جواب الأمر المذكور، أي: إن تقل يغفروا، وقيل: لأمر محذوف، أي: قل لهم اغفروا يغفروا، وقيل: حذف لام الأمر، أي: ليغفروا، وقرأ أبو جعفر: (ليُجزي قوماً) بالبناء للمفعول، ونصب (قوما) إما
(١) رواه الشيخ محى الدين ابن عربى فى «مشكاة الأنوار فيما روى عن الله سبحانه من الأخبار، ح ٥٨» وقال: «رويته من جزء الرّبعى».
305
على نيابة المصدر، أي: ليجزي الجزاء قوماً، أو ليجزي الخيرُ قوماً، فأضمر الخير لدلالة الكلام عليه، أو ناب الجار مع وجود المفعول به، وهو قليل.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أي: يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون نِقَمه ووقائعه بأعدائه، من قولهم: «أيام العرب»، لوقائعها، أو: لا يؤمّلون الأوقات التي وقّتها الله تعالى لثواب المؤمنين، ووعدهم بالفوز فيها، قيل: نزلت قبل آية القتال ثم نُسخت. قال ابن عطية: ينبغي أن يقال:
إن الأمور العظام، كالقتل والكفر مجاهدة ونحو ذلك، قد نَسخ غفرانَه آيةُ السيف والجزية، وإن الأمور الحقيرة، كالجفاءِ في القول ونحو ذلك، يحتمل أن تبقى مُحكمة، وأن يكون العفو عنها أقرب للتقوى. هـ.
قيل: نزلت في عمر رضي الله عنه حين شتمه رجل من غفار، فهَمَّ أن يبطشَ به، فنزلت «١». وقيل: نزلت في ناس من أصحاب النبي ﷺ كانوا في أذّى شديد من المشركين، قبل أن يُؤمروا بالقتال، فشكَوْا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت «٢»، وعلى هذا تكون الآية مكية. وقال ابن عباس: لَمَّا نزل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «٣» قال فنحاص: افتقر رَبُّ محمد، فلما بلغ ذلك عُمر، طلبه بالسيف ليقتله، فنزلت، فوضع السيف، وقال: والذي بعثك بالحق لا يُرى الغضب في وجهي «٤». وقيل: في شأن أُبيّ بن سلول، رأس المنافقين، لَمّا قال في غزوة المريسيع: ما مثلُنا ومثل هؤلاء- يعني المهاجرين- إلا كما قيل: سَمِّنْ كلبَك يأكلك، فبلغ ذلك عمر، فاشتمل السيف، يريد التوجه إليه، فنزلت «٥». وعلى هذا تكون مدنية.
لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي: إنما أُمروا أن يغفروا ليوفيهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة. وتنكير (قوم) مدح لهم، كأنه قيل: لِيَجزي قوماً- أيَّما قوم، أو قوماً مخصوصين- بالصبر بسبب ما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة، التي من جملتها الصبر على إذاية الكفار، والإغضاء عنهم، بكظم الغيظ، واحتمال المكروه، ما يقصر عنه البيان من الثواب العظيم، ويجوز أن يُراد بالقوم: الكفرة، وبما كانوا يكسبون: سيئاتهم، التي من جملتها ما كانوا يؤذون به المسلمين.
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أي: لها الثواب وعليها العقاب، لا يكاد يسري عمل إلى غير عامله، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أعمالكم، خيراً كان أو شرًّا.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أي: يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون نِقَمه ووقائعه بأعدائه، من قولهم: «أيام العرب»، لوقائعها، أو: لا يؤمّلون الأوقات التي وقّتها الله تعالى لثواب المؤمنين، ووعدهم بالفوز فيها، قيل: نزلت قبل آية القتال ثم نُسخت. قال ابن عطية: ينبغي أن يقال:
إن الأمور العظام، كالقتل والكفر مجاهدة ونحو ذلك، قد نَسخ غفرانَه آيةُ السيف والجزية، وإن الأمور الحقيرة، كالجفاءِ في القول ونحو ذلك، يحتمل أن تبقى مُحكمة، وأن يكون العفو عنها أقرب للتقوى. هـ.
قيل: نزلت في عمر رضي الله عنه حين شتمه رجل من غفار، فهَمَّ أن يبطشَ به، فنزلت «١». وقيل: نزلت في ناس من أصحاب النبي ﷺ كانوا في أذّى شديد من المشركين، قبل أن يُؤمروا بالقتال، فشكَوْا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت «٢»، وعلى هذا تكون الآية مكية. وقال ابن عباس: لَمَّا نزل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «٣» قال فنحاص: افتقر رَبُّ محمد، فلما بلغ ذلك عُمر، طلبه بالسيف ليقتله، فنزلت، فوضع السيف، وقال: والذي بعثك بالحق لا يُرى الغضب في وجهي «٤». وقيل: في شأن أُبيّ بن سلول، رأس المنافقين، لَمّا قال في غزوة المريسيع: ما مثلُنا ومثل هؤلاء- يعني المهاجرين- إلا كما قيل: سَمِّنْ كلبَك يأكلك، فبلغ ذلك عمر، فاشتمل السيف، يريد التوجه إليه، فنزلت «٥». وعلى هذا تكون مدنية.
لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي: إنما أُمروا أن يغفروا ليوفيهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة. وتنكير (قوم) مدح لهم، كأنه قيل: لِيَجزي قوماً- أيَّما قوم، أو قوماً مخصوصين- بالصبر بسبب ما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة، التي من جملتها الصبر على إذاية الكفار، والإغضاء عنهم، بكظم الغيظ، واحتمال المكروه، ما يقصر عنه البيان من الثواب العظيم، ويجوز أن يُراد بالقوم: الكفرة، وبما كانوا يكسبون: سيئاتهم، التي من جملتها ما كانوا يؤذون به المسلمين.
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أي: لها الثواب وعليها العقاب، لا يكاد يسري عمل إلى غير عامله، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أعمالكم، خيراً كان أو شرًّا.
(١) ذكره القرطبي (٧/ ٦١٦٢) وعزاه للنحاس والمهدوى، عن الضحاك عن ابن عباس.
(٢) ذكره البغوي فى تفسيره (٧/ ٢٤٣). عن القرظي والسدى.
(٣) الآية ٢٤٥ من سورة البقرة.
(٤) أخرجه الواحدي فى أسباب النّزول (ص ٢٩٣- ٢٩٤) عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنه، بسند ضعيف.
(٥) ذكره الواحدي فى أسباب النّزول (٢٩٣) والقرطبي (٧/ ٦١٦٧) عن ابن عباس فى رواية عطاء.
(٢) ذكره البغوي فى تفسيره (٧/ ٢٤٣). عن القرظي والسدى.
(٣) الآية ٢٤٥ من سورة البقرة.
(٤) أخرجه الواحدي فى أسباب النّزول (ص ٢٩٣- ٢٩٤) عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنه، بسند ضعيف.
(٥) ذكره الواحدي فى أسباب النّزول (٢٩٣) والقرطبي (٧/ ٦١٦٧) عن ابن عباس فى رواية عطاء.
306
الإشارة: مذهب الصوفية: العفو عمن ظلمهم، والإحسان إلى مَن أساء إليهم لأنهم رحمة للعباد، ومقصدهم بذلك رضا الله، لأن الخَلقُ عِيَالُ اللَّهِ، وأحبُّ الخَلْقِِِ إلى اللَّهِ أَنفَعُهُم لعياله. قال اللجائى رضي الله عنه في شمائل الخصوص:
قصد السادات بالعفو عمن ظلمهم، ابتغاء مرضاة الله، لا ابتغاء الثواب، فإنه تعالى يحب العفو، وتسمَّى به.
ومقصدهم بالعفو أيضاً: قطع العداوة والحقد عن الظالم، وترك الانتصار منه، بيدٍ أو لسان، استعداداً منهم لسلامة الصدور. ومقصدهم أيضاً: زوال الذِّلة عن الظالم في موقف الحساب، من أجل ما يطالَبُ به من الحقوق، وهو ضرب من الشفقة على العبيد، وهو مقام محمود، فشأنهم رضا الله عنهم إذا حلّ بالعباد في الموقف بلاء، أرادوا أن يكونوا للخلق فداء، فهذا أدنى مقام في العفو. هـ.
وفي الحديث: «إذا جمع الله الخلائقَ يَوْمُ القِيَامَةِ، نَادَىَ مُنَادٍ: أين أهل الفضل، فيقوم ناس، وهم يسير، فينطلقون إلى الجنة سِراعاً، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: إنَّا نراكم سراعاً؟ فيقولون: نحن أهل الفضل، فيقولون: وما فضلُكُم؟ فيقولون: كنا إذا ظُلِمنا صَبَرْنا، وإذا جُهلَ علينا حَلُمنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة: فنعم أجر العاملين» «١».
قال القشيري بعد كلام: فمَن أراد أن يعرف كيف يحفظ أولياءَه، وكيف يُدمِّر أعداءَه، فليصبرْ على أيامٍ قلائل، ليعلم كيف صارت عواقبُهم، مَن عمل صالحاً فله مَهْناه، ومَن ارتكب سيئة قاسى بلواه، ثم مرجعه إلى مولاه. هـ.
ثم ذكر ما منّ به على بنى إسرائيل، بعد ما ذكر ما منّ به على عباده جملة، فقال:
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ أي: الفصل بين العباد، لأن الملك لم يزل فيهم حتى غيّروا، أو: الحكمة النظرية والعملية والفقه في الدين، وَالنُّبُوَّةَ حيث كثر فيهم الأنبياء ما لم
قصد السادات بالعفو عمن ظلمهم، ابتغاء مرضاة الله، لا ابتغاء الثواب، فإنه تعالى يحب العفو، وتسمَّى به.
ومقصدهم بالعفو أيضاً: قطع العداوة والحقد عن الظالم، وترك الانتصار منه، بيدٍ أو لسان، استعداداً منهم لسلامة الصدور. ومقصدهم أيضاً: زوال الذِّلة عن الظالم في موقف الحساب، من أجل ما يطالَبُ به من الحقوق، وهو ضرب من الشفقة على العبيد، وهو مقام محمود، فشأنهم رضا الله عنهم إذا حلّ بالعباد في الموقف بلاء، أرادوا أن يكونوا للخلق فداء، فهذا أدنى مقام في العفو. هـ.
وفي الحديث: «إذا جمع الله الخلائقَ يَوْمُ القِيَامَةِ، نَادَىَ مُنَادٍ: أين أهل الفضل، فيقوم ناس، وهم يسير، فينطلقون إلى الجنة سِراعاً، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: إنَّا نراكم سراعاً؟ فيقولون: نحن أهل الفضل، فيقولون: وما فضلُكُم؟ فيقولون: كنا إذا ظُلِمنا صَبَرْنا، وإذا جُهلَ علينا حَلُمنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة: فنعم أجر العاملين» «١».
قال القشيري بعد كلام: فمَن أراد أن يعرف كيف يحفظ أولياءَه، وكيف يُدمِّر أعداءَه، فليصبرْ على أيامٍ قلائل، ليعلم كيف صارت عواقبُهم، مَن عمل صالحاً فله مَهْناه، ومَن ارتكب سيئة قاسى بلواه، ثم مرجعه إلى مولاه. هـ.
ثم ذكر ما منّ به على بنى إسرائيل، بعد ما ذكر ما منّ به على عباده جملة، فقال:
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ أي: الفصل بين العباد، لأن الملك لم يزل فيهم حتى غيّروا، أو: الحكمة النظرية والعملية والفقه في الدين، وَالنُّبُوَّةَ حيث كثر فيهم الأنبياء ما لم
(١) رواه الأصبهانى فى الترغيب (٢٣٧٤) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
يكثر في غيرهم. وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ما أحلّ الله لهم من اللذائذ، كالمن والسلوى، وغيره من الأرزاق، وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ على عالمي زمانهم.
وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ دلائل ظاهرة من أمر الدين، ومعجزات قاهرة. قال ابن عباس: هو العلم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وما بُيّن لهم من أمره، وأنه يُهاجر من تهامة إلى يثرب، ويكون أنصاره أهل يثرب، فَمَا اخْتَلَفُوا في ذلك الأمر إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بحقيقته وحقيّته، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجباً له، بَغْياً بَيْنَهُمْ أي: عداوة وحسداً، حدث بينهم، لا شك وقع لهم فيه، إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بالمؤاخذة والجزاء فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين.
الإشارة: كانت بنو إسرائيل في أول أمرها متمسكة بكتاب ربها، عاملة بما شرعت لها أنبياؤها، فرفع الله بذلك قدرها، حتى تحاسدوا، وتهاجروا على الدنيا والرئاسة، فأعقبهم الله ذل الأبد، فهذه سُنَّة الله تعالى في عباده، من تمسك بالكتاب والسنة، وزهد في الدنيا، وتواضع لعباد الله، رفعه الله وأعزّه، فإذا خرج عن هذا الوصف انعكس حاله إلى أسفل، والعياذ بالله.
ولما ذكر شريعة موسى أعقبه بشريعة نبينا- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فقال:
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)
يقول الحق جلّ جلاله: ثُمَّ جَعَلْناكَ يا محمد بعد اختلاف أهل الكتاب، عَلى شَرِيعَةٍ على طريقة عظيمة الشأن، ومنهاج واضح مِنَ الْأَمْرِ الدين، وأصل الشريعة في اللغة: مورد الماء، أي: الطريق الموصلة إليه، ثم جعل للطريق الموصلة إلى حياة القلوب والأرواح لأن الماء به حياة الأشباح، فَاتَّبِعْها بإجراء أحكامها في نفسك وفي غيرك، من غير إخلال بشيء منها. قال ابن عرفة: الخطاب له عليه السلام، والمراد غيره لأنه معلوم الاتباع التام، أو: دم على اتباعها. هـ.
وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي: لا تتبع آراء الجهلة واعتقاداتهم الزائغة التابعة للشهوات، وهم رؤساء قريش، كانوا يقولون له صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى دين آبائك. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً مما أراد بك إن اتبعتهم، أي: لن ينفعونك بدفع ما ينزل بك بدلاً مِنَ الله شَيْئاً إِنْ اتبعت أهواءهم، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ
وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ دلائل ظاهرة من أمر الدين، ومعجزات قاهرة. قال ابن عباس: هو العلم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وما بُيّن لهم من أمره، وأنه يُهاجر من تهامة إلى يثرب، ويكون أنصاره أهل يثرب، فَمَا اخْتَلَفُوا في ذلك الأمر إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بحقيقته وحقيّته، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجباً له، بَغْياً بَيْنَهُمْ أي: عداوة وحسداً، حدث بينهم، لا شك وقع لهم فيه، إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بالمؤاخذة والجزاء فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين.
الإشارة: كانت بنو إسرائيل في أول أمرها متمسكة بكتاب ربها، عاملة بما شرعت لها أنبياؤها، فرفع الله بذلك قدرها، حتى تحاسدوا، وتهاجروا على الدنيا والرئاسة، فأعقبهم الله ذل الأبد، فهذه سُنَّة الله تعالى في عباده، من تمسك بالكتاب والسنة، وزهد في الدنيا، وتواضع لعباد الله، رفعه الله وأعزّه، فإذا خرج عن هذا الوصف انعكس حاله إلى أسفل، والعياذ بالله.
ولما ذكر شريعة موسى أعقبه بشريعة نبينا- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فقال:
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)
يقول الحق جلّ جلاله: ثُمَّ جَعَلْناكَ يا محمد بعد اختلاف أهل الكتاب، عَلى شَرِيعَةٍ على طريقة عظيمة الشأن، ومنهاج واضح مِنَ الْأَمْرِ الدين، وأصل الشريعة في اللغة: مورد الماء، أي: الطريق الموصلة إليه، ثم جعل للطريق الموصلة إلى حياة القلوب والأرواح لأن الماء به حياة الأشباح، فَاتَّبِعْها بإجراء أحكامها في نفسك وفي غيرك، من غير إخلال بشيء منها. قال ابن عرفة: الخطاب له عليه السلام، والمراد غيره لأنه معلوم الاتباع التام، أو: دم على اتباعها. هـ.
وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي: لا تتبع آراء الجهلة واعتقاداتهم الزائغة التابعة للشهوات، وهم رؤساء قريش، كانوا يقولون له صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى دين آبائك. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً مما أراد بك إن اتبعتهم، أي: لن ينفعونك بدفع ما ينزل بك بدلاً مِنَ الله شَيْئاً إِنْ اتبعت أهواءهم، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ
بَعْضٍ
فلا يُواليهم ولا تتبع أهواءهم إلا مَن كان ظالماً مثلهم، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ أي: ناصر المتقين، الذين أنت قدوتهم، فدمْ على ما أنت عليه من توليته خاصةً، والإعراض عما سواه بالكلية.
هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ أي: هذا القرآن واتباع الشريعة بصائر لقلوب الناس، كما جُعل روحاً وحياة لها، فإنَّ من تمسك بالكتاب والسنة، وأمعن فيها النظر، وعمل بمقتضاهما، فُتحت بصيرته، وحيي قلبُه، وَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةٌ من العذاب، لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ لمَن كَمُلَ إيمانه وإيقانه بالأمور الغيبية.
الإشارة: الشريعة لها ظاهر وباطن، وهو لُبها وخالصها، فالعامة أخذوا بظاهرها، فأخذوا بكل ما يبيحه ظاهر الشريعة من الرخص والسهولة، ولا نظر عندهم لقلوبهم من النقص والزيادة، والخاصة أخذوا بباطنها، فأخذوا منها بالمُهم، وتركوا كل ما يَفتنهم أو ينقص من نور إيقانهم، فوصلوا بذلك إلى حضرة ربهم، فيقال للمريد: ثم جعلناك على طريقة واضحة من أمر الخاصة، فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ما يزيد في قلوبهم وما ينقص. إنهم لن يغنوا عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أبعدك بميلك إليهم واتباع أغراضهم.
قال القشيري: إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أراد بك نعمة، فلا يمنعُها أحد، وإن أراد بك فتنة فلا يصرفها عنك أحد، فلا تُعلِّقْ بمخلوقٍ فكرك، ولا توجه ضميرك إلى شيء، وثِقْ به، وتوكلْ عليه. هـ. وأهل الغفلة بعضهم أولياء بعض، يتوالون على حظوظ الدنيا وشهواتها، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ الذين اتقوا كل ما يشغل عن الله، هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ أي: سبب فتح بصائرهم، وَهُدىً أي: إشارة لطريق الوصول، ورحمة للأرواح والقلوب، لقوم يوقنون، أي: لأهل اليقين الكبير.
قال القشيري: هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ، أنوار البصيرة إذا تلألأت انكشفت دونها تهمةُ التجويز، ونظرُ الناس على مراتب، مَن نظر بنور نجومه، فهو صاحب عقل، ومَن نظر بنور فراسته فهو صاحب ظن، يقوّيه لوح، ولكنه من وراء ستر، ومَن نظر بيقين فهو على تحكُّم برهان، ومَن نظر بعين إيمان فهو بوصف اتباع، ومَن نظر بنور بصيرة، فهو على نهار، وشمسه طالعة، وشمسه عن السحاب مصحية. هـ.
ثم بيّن حال من لا يرجو أيام الله ومن يرجوه، فقال:
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢)
فلا يُواليهم ولا تتبع أهواءهم إلا مَن كان ظالماً مثلهم، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ أي: ناصر المتقين، الذين أنت قدوتهم، فدمْ على ما أنت عليه من توليته خاصةً، والإعراض عما سواه بالكلية.
هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ أي: هذا القرآن واتباع الشريعة بصائر لقلوب الناس، كما جُعل روحاً وحياة لها، فإنَّ من تمسك بالكتاب والسنة، وأمعن فيها النظر، وعمل بمقتضاهما، فُتحت بصيرته، وحيي قلبُه، وَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةٌ من العذاب، لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ لمَن كَمُلَ إيمانه وإيقانه بالأمور الغيبية.
الإشارة: الشريعة لها ظاهر وباطن، وهو لُبها وخالصها، فالعامة أخذوا بظاهرها، فأخذوا بكل ما يبيحه ظاهر الشريعة من الرخص والسهولة، ولا نظر عندهم لقلوبهم من النقص والزيادة، والخاصة أخذوا بباطنها، فأخذوا منها بالمُهم، وتركوا كل ما يَفتنهم أو ينقص من نور إيقانهم، فوصلوا بذلك إلى حضرة ربهم، فيقال للمريد: ثم جعلناك على طريقة واضحة من أمر الخاصة، فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ما يزيد في قلوبهم وما ينقص. إنهم لن يغنوا عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أبعدك بميلك إليهم واتباع أغراضهم.
قال القشيري: إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أراد بك نعمة، فلا يمنعُها أحد، وإن أراد بك فتنة فلا يصرفها عنك أحد، فلا تُعلِّقْ بمخلوقٍ فكرك، ولا توجه ضميرك إلى شيء، وثِقْ به، وتوكلْ عليه. هـ. وأهل الغفلة بعضهم أولياء بعض، يتوالون على حظوظ الدنيا وشهواتها، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ الذين اتقوا كل ما يشغل عن الله، هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ أي: سبب فتح بصائرهم، وَهُدىً أي: إشارة لطريق الوصول، ورحمة للأرواح والقلوب، لقوم يوقنون، أي: لأهل اليقين الكبير.
قال القشيري: هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ، أنوار البصيرة إذا تلألأت انكشفت دونها تهمةُ التجويز، ونظرُ الناس على مراتب، مَن نظر بنور نجومه، فهو صاحب عقل، ومَن نظر بنور فراسته فهو صاحب ظن، يقوّيه لوح، ولكنه من وراء ستر، ومَن نظر بيقين فهو على تحكُّم برهان، ومَن نظر بعين إيمان فهو بوصف اتباع، ومَن نظر بنور بصيرة، فهو على نهار، وشمسه طالعة، وشمسه عن السحاب مصحية. هـ.
ثم بيّن حال من لا يرجو أيام الله ومن يرجوه، فقال:
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢)
309
قلت (أم) : منقطعة، والهمزة لإنكار الحسبان، مَن قرأ «سواء» بالرفع «١» فخبر مقدّم، (ومحياهم) : مبتدأ، ومَن قرأ بالنصب فحال من ضمير الظرف، أي: كائنين كالذين آمنوا، حال كونهم مستوياً محياهم ومماتهم، و «محياهم» - حينئذ-: فاعل بسواء، وقرأ الأعمش: «ومماتهم» بالنصب على الظرفية.
يقول الحق جلّ جلاله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
اكتسبوا السَّيِّئاتِ
من الكفر والمعاصي، وسميت الأعضاء جوارح لاكتسابها الخير والشر، ويقال: فلان جارحة أهله أي: كاسبهم، أي: أظنُّوا أن نصيِّرهم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
، وهم فيما هم فيه من محاسن الأعمال، ونعاملهم معاملتهم في رفع الدرجات، أي: حتى يكونوا سَواءً
في مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
، كلاَّ، بل نجعل أهل الإيمان في محياهم ومماتهم متنعمين بطاعة مولاهم، مطمئنين به، يَحيون حياة طيبة، ويموتون موتة حسنة، وفي مماتهم مكرمين بلقاء مولاهم، في روح وريحان، وجنات نعيم، ونجعل أهل الكفر والعصيان في محياهم في ذُلّ المعصية، وكد الحرص وكدر العيش، وفي الممات في ضيق العذاب الخالد، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
أي: ساء حكمهم هذا، أو: بئس شيئاً حكموا به.
قال النسفي: والمعنى إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً ومماتاً لافتراق أحوالهم أحياء، حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات، وأولئك على اقتراف السيئات، ومماتاً، حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والكرامة، وأولئك على اليأس من الرحمة والندامة. وقيل: معناه: إنكار أن يستووا في [الممات، كما استووا في] «٢» الحياة في الرزق والصحة. ساء ما يحكمون، فليس مَن أُقْعِدَ على بساط الموافقة، كمَن أُبعد في مقام المخالفة، بل تفرّق بينهم، فنعلي المؤمنين، ونخزي الكافرين. هـ.
وسبب نزول الآية: افتخار وقع للكفار على المؤمنين، قالوا: لئن كانت آخرة كما تزعمون لنفضلن فيها كما فضلنا في الدنيا، فردّ الله عليهم، وأبطل أمنيتهم «٣».
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ لتدل على قدرته على البعث وغيره، قال البيضاوي: كأنه دليل على الحُكم السابق، من حيث إن خلق ذلك بالحق المقتضي للعدل، يقتضي انتصار المظلوم من الظالم، والتفاوت بين المحسن والمسيء، إذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات. هـ. وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ: عطف
يقول الحق جلّ جلاله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
اكتسبوا السَّيِّئاتِ
من الكفر والمعاصي، وسميت الأعضاء جوارح لاكتسابها الخير والشر، ويقال: فلان جارحة أهله أي: كاسبهم، أي: أظنُّوا أن نصيِّرهم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
، وهم فيما هم فيه من محاسن الأعمال، ونعاملهم معاملتهم في رفع الدرجات، أي: حتى يكونوا سَواءً
في مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
، كلاَّ، بل نجعل أهل الإيمان في محياهم ومماتهم متنعمين بطاعة مولاهم، مطمئنين به، يَحيون حياة طيبة، ويموتون موتة حسنة، وفي مماتهم مكرمين بلقاء مولاهم، في روح وريحان، وجنات نعيم، ونجعل أهل الكفر والعصيان في محياهم في ذُلّ المعصية، وكد الحرص وكدر العيش، وفي الممات في ضيق العذاب الخالد، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
أي: ساء حكمهم هذا، أو: بئس شيئاً حكموا به.
قال النسفي: والمعنى إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً ومماتاً لافتراق أحوالهم أحياء، حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات، وأولئك على اقتراف السيئات، ومماتاً، حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والكرامة، وأولئك على اليأس من الرحمة والندامة. وقيل: معناه: إنكار أن يستووا في [الممات، كما استووا في] «٢» الحياة في الرزق والصحة. ساء ما يحكمون، فليس مَن أُقْعِدَ على بساط الموافقة، كمَن أُبعد في مقام المخالفة، بل تفرّق بينهم، فنعلي المؤمنين، ونخزي الكافرين. هـ.
وسبب نزول الآية: افتخار وقع للكفار على المؤمنين، قالوا: لئن كانت آخرة كما تزعمون لنفضلن فيها كما فضلنا في الدنيا، فردّ الله عليهم، وأبطل أمنيتهم «٣».
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ لتدل على قدرته على البعث وغيره، قال البيضاوي: كأنه دليل على الحُكم السابق، من حيث إن خلق ذلك بالحق المقتضي للعدل، يقتضي انتصار المظلوم من الظالم، والتفاوت بين المحسن والمسيء، إذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات. هـ. وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ: عطف
(١) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر برفع «سواء» وقرأ حفص وحمزة والكسائي وخلف بالنصب. انظر الإتحاف ٢/ ٤٦٧. [.....]
(٢) ما بين المعقوفتين من تفسير النّسفى، وأثبته لاقتضاء السياق ذلك.
(٣) ذكره البغوي فى التفسير (٧/ ٢٤٤).
(٢) ما بين المعقوفتين من تفسير النّسفى، وأثبته لاقتضاء السياق ذلك.
(٣) ذكره البغوي فى التفسير (٧/ ٢٤٤).
310
على هذه العلة المحذوفة، أي: لتدل ولتُجزى، أو على «بالحق» لأن فيه معنى التعليل إذ معناه: خلقها مقرونة بالحكمة والصواب، دون العبث ولتُجزى... الخ، أو: ليعدل وتُجزى كل نفس بما كسبتْ، وَهُمْ أي: النفوس، المدلول عليها بكل نفس لا يُظْلَمُونَ بنقص الثواب أو زيادة عقاب.
الإشارة: أم حَسِبَ الذين ماتوا على دنس الإصرار، أن نجعلهم كالمطهرين الأبرار، أم حسب الذين عاشوا في البطالة والتقصير أن نجعلهم كالذين عاشوا في الجد والتشمير؟ «أم حسب الذين عاشوا في غم الحجاب، وصاروا إلى سوء الحساب، أن نجعلهم كالذين تهذّبوا حتى ارتفع عنهم الحجاب، وصاروا إلى غاية الكرامة والاقتراب؟
لا استواء بينهم في المحيا ولا في الممات، الأولون عاشوا معيشة ضنكاً، وصاروا بعد الموت إلى الندامة والحسرة، والآخرون عاشوا عيشة راضية، وماتوا موتة طيبة، وصاروا إلى كرامة أبدية، ولهذا بكت الأكابرُ عند قراءتها، فَرُويَ عن تميم الداري: أنه كان يُصلي ليلة عند المقام، فبلغ هذه الآية، فجعل يبكي ويرددها إلى الصباح. وعن الفُضيل: أنه بلغها، فجعل يبكي، ويقول: يا فضيل! ليت شعري من أيّ الفريقين أنت؟. وعن الربيع بن خيثم: أنه قام يصلي ليلة، فمرّ بهذه الآية، فمكث ليلةً حتى أصبح يبكي بكاءً شديداً، وكانت تُسمى مَبْكاة العابدين.
وسبب تسوية العاصي مع المطيع الانهماك فى الهوى، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله:
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ٢٣]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣)
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي: أباح لنفسه كل ما تهواه، سواء كان مباحاً أو غير مباح، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه، وإليه أشار في المباحث بقوله:
ومَن أباح النفس ما تهواه... فإنما معبوده هواه
فالآية وإن نزلت في هوى الكفر فهي متناولة لكل هوى النفس الأمَّارة، قال ابن جبير: نزلت في قريش والعرب، كانوا يعبدون الحجارة والذهب والفضة، فإذا وجدوا شيئاً أحسن أَلْقَوه وعبدوا غيره «١». هـ. ومتابعة الهوى كلها مذمومة، فإن كان ما هوته مُحرّماً أفضى بصاحبه إلى العقاب، وإن كان مباحاً بقي صاحبه في غم الحجاب وسوء الحساب، وأسْرِ نفسه وكدِّ طبعه. وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم: «ما عُبد تحت السماء أبغض إلى الله تعالى من
الإشارة: أم حَسِبَ الذين ماتوا على دنس الإصرار، أن نجعلهم كالمطهرين الأبرار، أم حسب الذين عاشوا في البطالة والتقصير أن نجعلهم كالذين عاشوا في الجد والتشمير؟ «أم حسب الذين عاشوا في غم الحجاب، وصاروا إلى سوء الحساب، أن نجعلهم كالذين تهذّبوا حتى ارتفع عنهم الحجاب، وصاروا إلى غاية الكرامة والاقتراب؟
لا استواء بينهم في المحيا ولا في الممات، الأولون عاشوا معيشة ضنكاً، وصاروا بعد الموت إلى الندامة والحسرة، والآخرون عاشوا عيشة راضية، وماتوا موتة طيبة، وصاروا إلى كرامة أبدية، ولهذا بكت الأكابرُ عند قراءتها، فَرُويَ عن تميم الداري: أنه كان يُصلي ليلة عند المقام، فبلغ هذه الآية، فجعل يبكي ويرددها إلى الصباح. وعن الفُضيل: أنه بلغها، فجعل يبكي، ويقول: يا فضيل! ليت شعري من أيّ الفريقين أنت؟. وعن الربيع بن خيثم: أنه قام يصلي ليلة، فمرّ بهذه الآية، فمكث ليلةً حتى أصبح يبكي بكاءً شديداً، وكانت تُسمى مَبْكاة العابدين.
وسبب تسوية العاصي مع المطيع الانهماك فى الهوى، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله:
[سورة الجاثية (٤٥) : آية ٢٣]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣)
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي: أباح لنفسه كل ما تهواه، سواء كان مباحاً أو غير مباح، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه، وإليه أشار في المباحث بقوله:
ومَن أباح النفس ما تهواه... فإنما معبوده هواه
فالآية وإن نزلت في هوى الكفر فهي متناولة لكل هوى النفس الأمَّارة، قال ابن جبير: نزلت في قريش والعرب، كانوا يعبدون الحجارة والذهب والفضة، فإذا وجدوا شيئاً أحسن أَلْقَوه وعبدوا غيره «١». هـ. ومتابعة الهوى كلها مذمومة، فإن كان ما هوته مُحرّماً أفضى بصاحبه إلى العقاب، وإن كان مباحاً بقي صاحبه في غم الحجاب وسوء الحساب، وأسْرِ نفسه وكدِّ طبعه. وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم: «ما عُبد تحت السماء أبغض إلى الله تعالى من
(١) ذكره القرطبي (٧/ ٦١٧٣) والبغوي (٧/ ٢٤٥).
311
هوى» «١»، وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ مهلكات شحٌّ مطاع، وهوىً متبع، وإعجابُ المرء بنفسه» «٢» وقال أيضاً: «الكِّيسُ من دانَ نَفْسَه، وعَمِلَ لِما بعد الموت، والعاجز من أتْبَعَ نفسه هواها، وتمنَّى على الله» «٣»، وسيأتي في الإشارة تمامه.
ثم قال تعالى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي: خذله على علم منه، باختياره الضلالة، أي: عالماً بضلاله، وتبديله لفطرة الله التي فطر الناس عليها. وقيل: نزلت في أمية بن أبي الصلت، وكان عنده علم بالكتب المتقدمة، فكان ينتظر بعثة الرّسول صلّى الله عليه وسلم، فلما ظهر، قال: ما كنتُ لأومن لرسول ليس من ثقيف، وأشعاره محشوة بالتوحيد، ولكن سبق له الشقاء، فلم يؤمن، وختم على سمعه فلا يقبل وعظاً وقلبه، فلا يعتقد حقاً، أي: لا يتأثر بالمواعظ، ولا يتفكر في الآيات والنُذر. وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً أي: ظلمة مانعة من الاعتبار والاستبصار، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ من بعد إضلال الله إياه؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أفلا تتعظون، فتُسلمون الأمور إلى مولاها، يُضل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء.
الإشارة: حقيقة الهوى كل ما تعشقه النفس، وتميل إليه من الحظوظ العاجلة، ويجري ذلك في المآكل، والمشارب، والملابس، والمناكح، والجاه، ورفع المنزلة، فليجاهد العبد نفسه في ترك ذلك كله، حتى لا تحب إلا ما هو طاعة يقرب إلى الله، كما قال صلّى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يكُون هواه تابعاً لما جئتُ به» «٤» فإن كان في طريق الإرادة والتربية ترك كل ما تميل إليه نفسه وتسكن إليه، ولو كان طاعة، كما قال البوصيرى رضي الله عنه:
فإنَّ حلاوة الطاعة سموم قاتلة، يمنع الوقوف معها من الترقي إلى حلاوة الشهود ولذة المعرفة، وكذلك الركون إلى الكرامات، والوقوف مع المقامات، كلها أهوية تمنع مما هو أعلى منها من مقام العيان، فلا يزل المريد يُجاهد نفسه، ويرحلها عن هذه الحظوظ، حتى تتمحّض محبتها في الحق تعالى، فلا يشتهي إلا شهود ذاته الأقدس، أو ما يقضيه عليه، فإذا ظهر بهذا المقام لم تبقَ له مجاهدة ولا رياضة، وكان ملكاً حرّاً، فيقال له حينئذ:
ثم قال تعالى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي: خذله على علم منه، باختياره الضلالة، أي: عالماً بضلاله، وتبديله لفطرة الله التي فطر الناس عليها. وقيل: نزلت في أمية بن أبي الصلت، وكان عنده علم بالكتب المتقدمة، فكان ينتظر بعثة الرّسول صلّى الله عليه وسلم، فلما ظهر، قال: ما كنتُ لأومن لرسول ليس من ثقيف، وأشعاره محشوة بالتوحيد، ولكن سبق له الشقاء، فلم يؤمن، وختم على سمعه فلا يقبل وعظاً وقلبه، فلا يعتقد حقاً، أي: لا يتأثر بالمواعظ، ولا يتفكر في الآيات والنُذر. وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً أي: ظلمة مانعة من الاعتبار والاستبصار، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ من بعد إضلال الله إياه؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أفلا تتعظون، فتُسلمون الأمور إلى مولاها، يُضل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء.
الإشارة: حقيقة الهوى كل ما تعشقه النفس، وتميل إليه من الحظوظ العاجلة، ويجري ذلك في المآكل، والمشارب، والملابس، والمناكح، والجاه، ورفع المنزلة، فليجاهد العبد نفسه في ترك ذلك كله، حتى لا تحب إلا ما هو طاعة يقرب إلى الله، كما قال صلّى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يكُون هواه تابعاً لما جئتُ به» «٤» فإن كان في طريق الإرادة والتربية ترك كل ما تميل إليه نفسه وتسكن إليه، ولو كان طاعة، كما قال البوصيرى رضي الله عنه:
وَراعِها وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ | وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المرعى فلا تُسِمِ |
(١) الحديث ذكره القرطبي فى تفسيره (٧/ ٦١٧٣) عن أبى أمامة.
(٢) أخرجه مطولا البزار (كشف الأستار/ ٨١)، وأبو نعيم فى الحلية (٢/ ٢٤٣) من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه الطبراني فى الأوسط (ح ٥٧٥٤) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(٣) أخرجه أحمد (٤/ ١٢٤) وابن ماجه فى (الزهد، بات ذكر الموت والاستعداد له، ح ٤٢٦٠) والترمذي، وحسّنه فى (صفة القيامة والرّقائق، ح ٢٤٥٩) والحاكم (٤/ ٢٥١) «وصحّحه وأقره الذهبي» والطبراني فى الكبير (٧/ ٣٣٨، ح ٧١٤١) وابن المبارك فى الزهد (٥٦ ح ٢٥) من حديث شداد بن أوس.
(٤) أخرجه البغوي فى شرح السنة (٢١٣) والبغدادي فى تاريخ بغداد (٤/ ٣٦٩) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وقد بسط الكلام على هذا الحديث الحافظ ابن رجب فى «جامع العلوم والحكم» فراجعه إن شئت.
(٢) أخرجه مطولا البزار (كشف الأستار/ ٨١)، وأبو نعيم فى الحلية (٢/ ٢٤٣) من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه الطبراني فى الأوسط (ح ٥٧٥٤) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(٣) أخرجه أحمد (٤/ ١٢٤) وابن ماجه فى (الزهد، بات ذكر الموت والاستعداد له، ح ٤٢٦٠) والترمذي، وحسّنه فى (صفة القيامة والرّقائق، ح ٢٤٥٩) والحاكم (٤/ ٢٥١) «وصحّحه وأقره الذهبي» والطبراني فى الكبير (٧/ ٣٣٨، ح ٧١٤١) وابن المبارك فى الزهد (٥٦ ح ٢٥) من حديث شداد بن أوس.
(٤) أخرجه البغوي فى شرح السنة (٢١٣) والبغدادي فى تاريخ بغداد (٤/ ٣٦٩) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وقد بسط الكلام على هذا الحديث الحافظ ابن رجب فى «جامع العلوم والحكم» فراجعه إن شئت.
312
لك الدهر طوع، والأنام عبيد | فعش، كل يوم من أيامك «١» عيد. |
واحْتَلْ عَلَى النَّفْسِ فَرُبَّ حِيله | أنفعُ في النُّصْرة مِن قبيلهْ |
قال القشيري: مَن لم يَسْلك سبيلَ الاتباع، ولم يستوفِ أحكام الرياضة، ولم ينسلخ عن هواه بالكلية، ولم يؤدبَه إمامٌ مُقتدًى به، فهو ينحرفُ في كل وَهْدةٍ، ويهيمُ في كل ضلالة، ويضلُّ في كل فجٍّ، خسرانه أكثر من ربحه، ونقصانه أوفر من رجحانه، أولئك في ضلال بعيد، زِمامُهم بيد هواهم، أولئك أهل المكر، استدرجوا وما يشعرون. هـ. وفي الحِكَم: «لا يُخَافُ أن تلتبس الطرقُ عليك، وإنما يُخَافُ من غلبة الهوى عليك» «٣». فمَن غَلَبَه الهوى غَلَبَه الوجود بأسره، وتصرّف فيه، أحبَّ أم كَرِهَ، ومَن غلب هواه غلب الوجود بأسره، وتصرف فيه بهمته كيف شاء.
حكي عن أبي عمران الواسطي، قال: انكسرت بنا السفينة، فبقيت أنا وامرأتي على ألواح، وقد وَلَدَتْ في تلك الليلة صبية، فصاحت بي، وقالت: يقتلني العطش، فقلت: هو ذا يرى حالنا، فرفعتُ رأسي، فإذا رجل جالس في يده سلسلة من ذهب، فيها كوز من ياقوت أحمر، فقال: هاك اشربا، فأخذتُ الكوز، فشربنا، فإذا هو أطيب من
(١) هكذا، وأرى- أنها «زمانك» ليستقيم الوزن.
(٢) أخرجه البيهقي السنن (٣/ ١٨) والبزار (٧٤) والحاكم فى معرفة علوم الحديث (ص ٩٦) والشهاب القضاعي فى مسنده (ح ١١٤٧، وح ١١٤٨) عن جابر مرفوعا، بلفظ «إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، فإنّ المنبت..» إلخ الحديث، وزاد القضاعي بعد «فأوغل فيه برفق» :«ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله» وأخرجه بنحوه البيهقي فى الشعب (ح ٣٨٨٥) عن السيدة عائشة رضي الله عنها، و (ح ٣٨٨٦) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
وانظر الشذرة فى الأحاديث المشتهرة (ح ٨٩٣) وكشف الخفاء (٢٣٣٩).
(٣) حكمة رقم (١٠٧) انظر تبويب الحكم ص ١٧.
(٢) أخرجه البيهقي السنن (٣/ ١٨) والبزار (٧٤) والحاكم فى معرفة علوم الحديث (ص ٩٦) والشهاب القضاعي فى مسنده (ح ١١٤٧، وح ١١٤٨) عن جابر مرفوعا، بلفظ «إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، فإنّ المنبت..» إلخ الحديث، وزاد القضاعي بعد «فأوغل فيه برفق» :«ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله» وأخرجه بنحوه البيهقي فى الشعب (ح ٣٨٨٥) عن السيدة عائشة رضي الله عنها، و (ح ٣٨٨٦) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
وانظر الشذرة فى الأحاديث المشتهرة (ح ٨٩٣) وكشف الخفاء (٢٣٣٩).
(٣) حكمة رقم (١٠٧) انظر تبويب الحكم ص ١٧.
313
المسك، وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، فقلتُ: مَن أنتَ؟ فقال: أنا عبد لمولاك، فقلت: بِمَ وصلتَ إلى هذا؟
فقال: تركت هواي لمرضاته، فأجلسني في الهواء، ثم غاب ولم أره. هـ. وقال سهل رضي الله عنه: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك، وقال وهب: إذا عرض لك أمران، وشككت في خيرهما، فانظر أبعدهما من هواك فأته. هـ. ومثله في الحِكَم: «إذا التبس عليك أمران، فانظر أثقلهما على النفس، فاتبعه، فإنه لا يَثْقُل عليها إلا ما كان حقاً». فالعز كله في مخالفة الهوى، والذل والهوان كله في متابعة الهوى، فنُونُ الهوان سُرقت من الهوى، كما قال الشاعر:
وقال آخر:
وقال ابن المبارك:
ولابن دُريد:
وقال أبو عُبيد الطوسي:
هذا، وللآية إشارة أخرى، رُويت عن بعض مشايخنا، قال: يمكن أن تكون الآية مدحاً، يقول تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ، وهو الله تعالى، ومحبوبَه وهواه، لا يهوى معه غيره، وأضله الله، في محبته، على علم منه بالله، وختم على سمعه وقلبه بمحبته، فلا يسمع إلا منه، ولا يُحب غيره، وجعل على بصره غشاوة، فلا يرى سواه، فمن
فقال: تركت هواي لمرضاته، فأجلسني في الهواء، ثم غاب ولم أره. هـ. وقال سهل رضي الله عنه: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك، وقال وهب: إذا عرض لك أمران، وشككت في خيرهما، فانظر أبعدهما من هواك فأته. هـ. ومثله في الحِكَم: «إذا التبس عليك أمران، فانظر أثقلهما على النفس، فاتبعه، فإنه لا يَثْقُل عليها إلا ما كان حقاً». فالعز كله في مخالفة الهوى، والذل والهوان كله في متابعة الهوى، فنُونُ الهوان سُرقت من الهوى، كما قال الشاعر:
لون الهوانِ من الهوَى مسروقةٌ | أسير كل هوى أسير هوان. |
إن الهوَى لهو الهوانُ بعينه | فإذا هوَيْتَ فقد لَقِيتَ هَوانَا |
وإذا هَوِيتَ فقد تعبَّدكَ الهوَى | فاخضعْ لحِبّك كائناً مَنْ كانا |
ومن البلاءِ للبلاءِ علامةٌ | ألاّ يُرى لك عن هَوَاكَ نُزُوعُ |
العبدُ أعنَى النفسَ في شهواتها | والحرُّ يَشبَعُ تارةً ويجوعُ. «١» |
إذا طالبتك النفسُ يوماً بشهوةٍ | وكان إليها للخلافِ طريقُ |
فدعْها وخالِفْ ما هويتَ فإنما | هَواك عدوٌ والخلاف صديقُ |
والنفسً إن أعطيتها مُنَاها | فاغِرَةٌ نحوَ هواها فَاهَا |
(١) انظر ديوان ابن المبارك (ص ٨٢) والبيت فيه: [والعبد عبد النّفس] كما جاء البيتان فى ديوان سيدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، (ص ١٢٢) ومعهما بيت ثالث، هو: