تفسير سورة الطور

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة الطور من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

سورة الطور
مكية
وآياتها تسع وأربعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالطُّورِ (١) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً (١٣) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦)
شرح الكلمات
والطور: أي والجبل الذي كلم الله عز وجل عليه موسى عليه السلام.
وكتاب مسطور: أي وقرآن مكتوب.
في رق منشور: أي في جلد رقيق أو ورق منشور.
والبيت المعمور: أي بالملائكة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون أبداً.
والسقف المرفوع: أي السماء التي هي كالسقف المرفوع للأرض.
والبحر المسجور: أي المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض.
173
يوم تمور السماء موراً: أي تتحرك وتدور.
في خوض يلعبون: أي في باطل يلعبون أي يتشاغلون بكفرهم.
يدعون إلى نار جهنم دعا: أي يدفعون بعنف دفعاً.
أفسحر هذا: أي العذاب الذي ترون كما كنتم تقولون في القرآن.
أم أنتم لا تبصرون: أي أم عدمتم الأبصار فأنتم لا تبصرون.
اصلوها: أي اصطلوا بحرها.
فاصبروا أو لا تصبروا: أي صبركم وعدمه عليكم سواء.
معنى الآيات:
قوله تعالى ﴿وَالطُّورِ١ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ هذه خمسة أشياء عظام أقسم الله تعالى بها، وبالتتبع لما يقسم الله تعالى به يرى أنه إذا أقسم بشيء إنما يقسم به إما لكونه مظهراً من مظاهر القدرة الإلهية، كالسماء مثلاً، وإما لكونه معظما نحو لعمرك إذ هو إقسام بحياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإما لكونه ذا فائدة للإنسان ونفع خاص به كالتين والزيتون وقوله تعالى ﴿وَالطُّورِ﴾ وهو جبل الطور الذي كلم تعالى عليه موسى وهو مكان مقدس، وقوله ﴿وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ٢﴾ أي منشور في ورق أو جلد رقيق وهو التوراة أو القرآن والإقسام به لما فيه من حرمة وقدسية عند الله تعالى، والبيت المعمور٣ وهو بيت في السماء تغشاه الملائكة كل يوم وتعمره بالعبادة وهو بحيال الكعبة بحيث لو وقع لوقع فوقها والسقف المرفوع وهو السماء وهي كالسقف للأرض وهي مظهر من مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه ومثلها البحر المسجور٤ أي المملوء بكميات المياه الهائلة فإنه مظهر من مظاهر القدرة والعلم والحكمة الإلهية هذا القسم الضخم جوابه أو المقسم عليه هو قوله إن عذاب ربك يا رسولنا لواقع ماله من دافع ليس له من٥ دافع يدفعه أبداً، وإن له وقتاً محدداً يقع فيه، وعلامات تدل عليه وهي
(الطور) : الجبل باللغة السريانية ونقل إلى العربية بهذا اللفظ بمعنى الجبل وأصبح علماً بالغلبة على جبل طور سيناء الذي ناجى الله تعالى فيه نبيه موسى عليه السلام.
٢ الرق: بفتح الراء، ما رق من الجلد ليكتب فيه، والمنشور: المبسوط وجائز أن يكون المراد به التوراة أو القرآن، إذ القرآن يقرؤه المؤمنون من المصاحف وتقرأه الملائكة من اللوح المحفوظ والرق بكسر الراء الملك.
٣ جائز أن يكون المراد بالبيت المعمور الكعبة المشرفة بمكة المكرمة،
وجائز أن يكون بيتاً في السماء كما في التفسير، ويقال له: الضراح بضم الضاد وفي الطبري: أن علياً سئل عن البيت المعمور فقال: بيت في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبداً.
٤ جائز أن يكون المراد بالبحر: البحر الأحمر، (القلزم) الذي أغرق الله تعالى فيه فرعون وملأه. لمناسبة ذكر الطور، وجائز أن يكون المحيط ووصف بالمسجور وهو المملوء: حتى لا يدخل فيه الأنهار التي تملأ بالأمطار والأودية والسيول.
٥ زيدت (من) في قوله تعالى (ما له من دافع) لتأكيد النفي.
174
قوله تعالى ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ ١مَوْراً﴾ أي تتحرك بشدة وتدور وتسير الجبال سيراً فتكون كالهباء المنبث هنا وهناك فويل يومئذ للمكذبين والويل واد في جهنم مملوء بقيح وصديد أهل النار، والمكذبون هم الكافرون بالله وبما جاءت به رسله عنه من أركان الإيمان وقواعد الإسلام وقوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ﴾ أي في باطلهم وكفرهم يتشاغلون به عن الإيمان الحق والعمل الصالح المزكى للنفس المطهر لها. وقوله ﴿يَوْمَ٢ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً﴾ أي يوم يدفعون بشدة وعنف إلى جهنم ويقال لهم توبيخاً وتقريعاً لهم هذه النار التي كنتم بها تكذبون. أخبرونا: أفسحر٣ هذا أي العذاب الذي أنتم فيه الآن تعذبون أم أنتم لا تبصرون فلا تعاينونه. ويقال لهم أيضا تبكيتاً وتقريعاً فاصبروا على عذاب النار أو لا تصبروا سواء عليكم أي صبركم وعدمه عليكم سواء. إنما ٤تجزون ما كنتم تعلمون أي في الدنيا من الشرك والمعاصي.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير البعث والجزاء.
٢- لله تعالى أن يقسم بما يشاء من خلقه وليس للعبد أن يقسم بغير الله تعالى.
٣- عرض سريع لأهوال القيامة وأحوال المكذبين فيها.
٤- تقرير قاعدة الجزاء من جنس العمل.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠)
شرح الكلمات:
إن المتقين: أي الذين اتقوا ربهم فعبدوه وحده بما شرع لهم فأدوا الفرائض واجتنبوا النواهي.
١ المور: التحرك باضطراب، ومور السماء: اضطراب أجسامها من الكواكب، واختلال نظامها عند نهاية الحياة.
(يوم يدعون) بدل اشتمال من ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً﴾.
(أم) هي المنقطعة التي تقدر ببل والاستفهام، والاستفهام هنا للتهكم والتوبيخ والتقدير: بل أنتم لا تبصرون أي المرئيات.
(إنما تجزون) : جملة تعليلية وإن حرف توكيد وما الموصولة بها هي الكافة وإنما المركبة من إن المشددة وما: الكافة لها عن العمل أفادت التعليل.
175
فاكهين: أي متلذذين بأكل الفواكه الكثيرة التي آتاهم ربهم.
ووقاهم عذاب الجحيم: أي وحفظهم من عذاب الجحيم عذاب النار.
على سرر مصفوفة: أي بعضها إلى جانب بعض.
وزوجناهم بحور عين: أي قرناهم بنساء عظام الأعين حسانها.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى حال أهل النار ذكر حال أهل الجنة وهذا أسلوب الترغيب والترهيب الذي أمتاز به القرآن الكريم فقال تعالى مخبراً عن حال أهل الجنة: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ أي الذين اتقوا في الدنيا الشرك والمعاصي ﴿فِي جَنَّاتِ﴾ أي بساتين ونعيم مقيم يحوي كل ما لذ وطاب مما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين. فاكهين١ بما آتاهم ربهم أي متلذذين بأكل الفواكه الكثيرة الموصوفة بقول الله تعالى: لا مقطوعة ولا ممنوعة. ﴿وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ أي حفظهم من عذاب النار. ويقال لهم: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا٢ هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي بسبب ما كنتم تعملونه من أعمال البر والإصلاح بعد الفرائض واجتناب الشرك والمعاصي. وقوله ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ أي حال كونهم وهم في نعيمهم متكئين على سرر٣ مصفوفة قد صف بعضها إلى جنب بعض. وقوله تعالى ﴿وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ أي قرناهم بزوجات من الحور العين والحور جمع حوراء وهي التي يغلب بياض عينهم على سوادها والعين جمع عيناء وهي الواسعة العينين. جعلنا الله ممن يزوجون بهن إنه كريم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- فضل التقوى وكرامة أهلها.
٢- بيان منة الله وفضله على أهل الإيمان والتقوى وهم أولياء الله تعالى.
٣- مشروعية الدعاء بكلمة هنيئا لمن أكل أو شرب ائتساء بأهل الجنة.
٤- الإيمان والأعمال الصالحة سبب في دخول الجنة وليست ثمنا لها لأن الجنة أغلى من عمل
(فاكهين) : أي: ذوي فاكهة كثيرة، يقال: رجل فاكه: أي ذو فاكهة كما يقال: لابن وتامر أي: ذو لبن وتمر، قال الشاعر:
وغررتني وزعمت أنك لابن بالصيف تامر
وفعله فكه كفرح فهو فاكه وفكه، وقرأ الجمهور بالأول وقرأ أبو جعفر بالثاني، والفاكه: من طابت نفيه وسرت بما به من نعيم.
٢ الهنيئ: مالا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر يقال لهم: ليهنأكم ما صرتم إليه (هنيئاً).
(سرر) جمع سرير، وفي الكلام حذف تقديره: متكئين على نمارق سرر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، والسرير كما بين مكة وأيلة.
176
الإنسان، وإنما العمل الصالح يزكى النفس فيؤهل صاحبها لدخول الجنة فالباء في قوله ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ سببية وليست للعوض كما في قولك بعتك الدار بألف مثلا.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٢٥) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨)
شرح الكلمات:
والذين آمنوا: أي حق الإيمان المستلزم للإسلام والإحسان.
واتبعتهم ذريتهم بإيمان: أي كامل مستوفٍ لشرائطه ومنها الإسلام.
ألحقنا بهم ذريتهم: أي وإن لم يعملوا عملهم بل قصروا في ذلك.
وما ألتناهم من عملهم من شيء: أي وما نقصناهم من أجور أعمالهم شيئاً.
كل امرئ بما كسب رهين: أي كل إنسان مرهون أي محبوس بكسبه الباطل.
يتنازعون فيها كاساً: أي يتعاطون بينهم فيها أي في الجنة كأساً من خمر.
لا لغو فيها ولا تأثيم: أي لا يقع لهم بسبب شربها لغو وهو كل كلام لا خير فيه ولا إثم.
ويطوف عليهم غلمان: أي ويدور بهم خدم لهم.
كأنهم لؤلؤ مكنون: أي مصون.
وأقبل بعضهم على بعض: أي يسأل بعضهم بعضاً عما كانوا عليه في الدنيا وما وصلوا إليه في الآخرة.
177
قالوا إنا كنا قبل: أي قالوا مشيرين إلى علة سعادتهم إنا كنا قبل أي في الدنيا.
في أهلنا مشفقين: أي بين أهلنا وأولادنا مشفقين أي خائفين من عذاب الله تعالى.
فمن الله علينا: أي بالمغفرة.
ووقانا عذاب السموم: أي وحفظنا من عذاب النار التي يدخل حرها في مسام الجسم.
إنا كنا ندعوه: أي في الدنيا نعبده موحدين له.
إنه هو البر الرحيم: أي المحسن الصادق في وعده الرحيم العظيم الرحمة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر افضال الله تعالى وإنعامه على أوليائه في الجنة إذ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي حق الإيمان الذي هو عقد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان واتبعتهم١ ذريتهم بإيمان كامل صحيح إلا أنهم لم يبلغوا من الأعمال الصالحة ما بلغه آباؤهم ألحقنا بهم ذريتهم لتقر بذلك أعينهم وتعظم مسرتهم وتكمل سعادتهم باجتماعهم مع ذريتهم. وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَلَتْنَاهُمْ٢ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ أي وما نقصنا الآباء من عملهم الصالح من شيء بل وفيناهموه كاملاً غير منقوص ورفعنا إليهم ابناءهم بفضلٍ منا ورحمة. وقوله تعالى: ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ٣ رَهِينٌ﴾ إخبار منه تعالى أن كل نفس عنده يوم القيامة مرتهنة بعملها تجزى به إلا أنه تعالى تفضل على أولئك الآباء فرفع إلى درجاتهم أبناءهم تفضلا وإحسانا. وقوله عز وجل: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ﴾ أي الآباء والأبناء من سكان الجنة بفاكهة ولحم مما يشتهون من اللحمان. هذا طعامهم أما الشراب فإنهم ٤يتنازعون أي يتعاطون في الجنة كأساً من خمر لا لغو فيها. أي لا تسبب هذاياناً من الكلام إذ اللغو الكلام الذي لا فائدة منه. وقوله: ﴿وَلا تَأْثِيمٌ﴾ ٥ أي وليس في شربها إثم وقوله تعالى: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ﴾ أي خدم لهم كأنهم في جمالهم وحسن منظرهم لؤلؤ مكنون في أصدافه.
١ قرأ الجمهور ﴿وَاتَّبَعَتْهُمْ﴾ وقرأ أبو عمرو وحده ﴿وأتبعناهم﴾ وقرأ الجمهور (ذريتهم) بالإفراد، وقرأ ابن عامر بالجمع: ﴿ذرياتهم﴾ مفعول لأتبعناهم، وقرأ نافع ﴿ذرياتهم﴾ الأخيرة بالجمع وقرأ حفص بالإفراد ﴿ذريتهم﴾ كالأولى.
٢ ﴿وما ألتناهم﴾ قرأ الجمهور بفتح اللام، وق {وقرأه ابن كثير بكسر اللام، والواو للحال، فالجملة حالية، والمعنى: أن الله تعالى ألحق بهم ذرياتهم في الدرجة من دون أن ينقص من حسناتهم شيئاً.
٣ الجملة معترضة بين جملة: ﴿وما ألتناهم﴾ وجملة ﴿وأمددناهم﴾ والجملة تقرير لعدالة الرب تعالى في الحكم بين عباده فيجزي كل نفس بما كسبت، وله أن يتفضل ويرفع من يشاء درجات.
٤ أطلق التنازع على التداول والتعاطي والمعنى: أن بعضهم يصب للبعض ويناوله إيثاراً له وكرامة.
٥ اللغو: سقط الكلام وهذيانه الصادر عن الخلل في العقل. والتأثيم: ما يؤثم به فاعله من ضرب أو شتم أو تمزيق ثوب.
178
وقوله تعالى: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾ أي عما كان لهم في الدنيا، وما انتهوا إليه في الآخرة من هذا النعيم المقيم. وقالوا مشيرين إلى سبب نعيمهم في الآخرة إنا كنا أي في الدنيا في أهلنا مشفقين أي خائفين من عذب ربنا فترتب على ذلك أن من الله علينا بدخول الجنة ووقانا عذاب السموم الذي هو عذاب النار الذي ينفذ إلى المسام والعياذ بالله تعالى. إنا١ كنا من قبل أي في الدنيا قبل الآخرة ندعوه ونتضرع إليه أن يجيرنا من النار ويدخلنا الجنة إنه هو تعالى البر بأوليائه الرحيم بعباده المؤمنين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- وصف كامل لأهل الجنة وهو تقرير في نفس الوقت للبعث والجزاء بذكر ما يكون فيه.
٢- فضل الإيمان وكرامة أهله عند الله بإلحاق الأبناء قليل العمل الصالح بآبائهم الكثيري العمل الصالح.
٣- تقرير قاعدة أن المرء يوم القيامة يكون رهين كسبه لا يفكه إلا الله عز وجل فمن استطاع أن يفك رقبته فليفعل وذلك بالإيمان والإسلام والإحسان.
٤- فضيلة الإشفاق في الدنيا من عذاب الآخرة.
٥- فضل الدعاء والتضرع إلى الله تعالى.
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (ا٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (٣٤)
١ قرأ نافع بفتح همزة أنه على تقدير حرف جر لأنه للتعليل، وقرأ حفص بالكسر. والجملة تعليلية.
179
شرح الكلمات:
فذكر فما أنت بنعمة ربك: أي فذكر بالقرآن وعظ من أرسلت إليهم من قومك وغيرهم فلست بنعمت ربك عليك بالعقل وكمال الخلق والوحي إليك.
بكاهن ولا مجنون: أي بمتعاطٍ للكهانة فتخبر عن الغيب بواسطة رئي من الجن ولا أنت بمجنون.
نتربص به ريب المنون: أي تنظر به حوادث الدهر من موت وغيره.
أم تأمرهم أحلامهم بهذا: أي أتأمرهم أحلامهم أي عقولهم بهذا وهو قولهم إنك كاهن ومجنون لم تأمرهم عقولهم به.
أم هم قوم طاغون: أي بل هم قوم طاغون متجاوزون لكل حد تقف عنده العقول.
أم يقولون تقوله؟ : أي أختلق القرآن وكذبه من تلقاء نفسه.
فليأتوا بحديث مثله: أي فليأتوا بقرآن مثله يختلقونه بأنفسهم.
إن كانوا صادقين: أي في أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختلق القرآن.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض لأحوال أهل النار وأهل الجنة فلم يبق إلا التذكير يا رسولنا فذكر أي قومك ومن تصل إليهم كلمتك من سائر الناس بالقرآن وما يحمل من وعد ووعيد، وما يدعوا إليه من هدىً وطريق مستقيم، فما أنت بنعمة ربك أي بما أولاك ربك من رجاحة العقل وكمال الخلق وكرم الفعال وشرف النبوة بكاهن تقول الغيب بواسطة رئي من الجن، ولا مجنون تخلط القول وتقول بما لا يفهم عنك ولا يعقل. وقوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ ١نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ ٢ أي بل يقولون هو شاعر كالنابغة وزهير نتربص به حوادث الدهر حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء ولا ندخل معه في خصومة وجدل قد يغلبنا. وقوله تعالى قل تربصوا٣ أي ما دمتم قد رأيتم التربص بي فتربصوا فإني معكم من المتربصين، وقوله تعالى: ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا﴾ والاستفهام للنفي والتوبيخ والجواب لم تأمرهم عقولهم بهذا بل هم قوم طاغون أي إن طغيانهم هو الذي يأمرهم بما يقولون
١ أم: هي المنقطعة المفسرة ببل والاستفهام قيل للإضراب الإنتقالي من قول إلى آخر والاستفهام إنكاري.
٢ روى الطبراني عن قتادة: أنهم كانوا يقولون: تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه كما كفاكم شاعر بني فلان وشاعر بني فلان، (والمنون) من أسماء الموت، والريب: أحداث الدهر. والمعنى: ينتظرون به أحداث الدهر المفضية به إلى الموت.
٣ أمر الله رسوله أن يقول لهم (تربصوا) بي ريب المنون فإني متربص بكم ما سيحدث لكم من أحداث تهلكون فيها وبهذا: معنى المفاصلة وإنهاء الجدال والمخاصمة.
180
ويفعلون من الباطل والشر والفساد وقوله أم يقولون تقوله والجواب وإن قالوا تقوله فإن قولهم لم ينبع من عقولهم ولم يصدر من أحلامهم بل عن كفرهم وتكذيبهم بل لا يؤمنون، والدليل على صحة ذلك تحدي الله تعالى لهم بالإتيان بحديث مثله وعجزهم عن ذلك فلذا هم لا يعتقدون ولا يرون أن الرسول تقول القرآن من عنده، وإنما لما لم يؤمنوا به لابد أن يقولوا كلمة يدفعون بها عن أنفسهم فقالوا تقوله فقال تعالى ﴿بَلْ لا يُؤْمِنُونَ١ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ﴾ أي مثل القرآن ﴿إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ في قولهم إن الرسول تقوله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- وجوب التذكير والوعظ والإرشاد على أهل العلم بالكتاب والسنة لأنهم خلفاء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمته.
٢- ذم الكهانة بل حرمتها لأنها من أعمال الشياطين، والكاهن من يقول بالغيب.
٣- ذم الطغيان فإنه منبع كل شر ومصدر كل فتنة وضلال.
٤- حرمة الكذب مطلقا وعلى الله ورسوله وبخاصة لما ينشأ عنه من فساد الدين والدنيا.
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣)
(بل لا يؤمنون) أي: علة لقولهم (تقوله). إذ هم يعرفون تمام المعرفة أنه ليس من قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما مما يوحى إليه من الله تعالى وإنما قالوا: تقوله لعدم إيمانهم، ثم تحداهم الحق تعالى بقوله ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ في دعواهم أنه تقوله أي: فليتقولوا مثله!!
181
شرح الكلمات
أم خلقوا من غير شيء؟ : أي من غير خالقٍ خلقهم وهذا باطل.
أم هم الخالقون؟ : أي لأنفسهم وهذا محال إذ الشيء لا يسبق وجوده.
أم خلقوا السماوات والأرض؟ : أي لم يخلقوهما لأن العجز عن خلق أنفسهم دال على عجزهم عن خلق غيرهم.
بل لا يوقنون: أي أن الله خلقهم وخلق السماوات والأرض كما يقولون إذ لو كانوا موقنين لما عبدوا غير الله ولآمنوا برسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أم عنهم خزائن ربك: أي من الرزق والنبوة وغيرهما فيخصوا من شاءوا بذلك من الناس.
أم هم المسيطرون: أي المتسلطون الغالبون فيتصرفون كيف شاءوا.
أم لهم سلم يستمعون فيه: أي ألهم مرقىً إلى السماء يرقون فيه فيسمعون كلام الملائكة فيأتون به ويعارضون الرسول في كلامه.
فليأتوا بسلطان مبين: أي بحجة بينة تدل على صدقه١ وليس لهم في ذلك كله شيء.
أم له البنات ولكم البنون؟ : أي أله تعالى البنات ولكم البنون إن أقوالكم كلها من هذا النوع لا واقع لها أبداً إنها افتراءات.
أم تسألهم أيها الرسول أجراً: أي على إبلاغ دعوتك.
فهم من مغرم مثقلون: أي فهم من فداحة الغرم مغتمون ومتعبون فكرهوا ما تقول لذلك.
أم عندهم الغيب فهم يكتبون: أي علم الغيب فهم يكتبون منه لينازعوك ويجادلوك به.
أم يريدون كيداً: أي مكراً وخديعة بك وبالدين.
فالذين كفروا هم المكيدون: أي فالكافرون هم المكيدون المغلوبون.
أم لهم إله غير الله: أي ألهم معبود غير الله والجواب: لا.
سبحان الله عما يشركون: أي تنزه الله عما يشركون به من أصنام وأوثان.
182
معنى الآيات:
بعد أن أمر تعالى رسوله بالتذكير وأنه أهل لذلك لما أفاض عليه من الكمالات وما وهبه من المؤهلات. أخذ تعالى يلقن رسوله الحجج فيذكر له باطلهم موبخاً إياهم به ثم يدمغه بالحق في أسلوب قرآني عجيب لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى. ومنه قوله: ﴿أَمْ خُلِقُوا١ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾ أي أخلقوا من غير خالق ﴿أَمْ هُمُ٢ الْخَالِقُونَ﴾ والجواب لم يخلقوا من غير خالق، ولا هم خلقوا أنفسهم إذ الأول باطل فما هناك شيء موجود وجد بغير موجد؟! والثاني محال، إن المخلوق لا يوجد قبل أن يخلق فيكف يخلقون أنفسهم وهم لم يخلقوا بعد؟! ويدل على جهلهم وعمي قلوبهم ما رواه البخاري عن جبير بن مطعم أنه ذكر أنه لما قدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد وقعة بدر في شأن فداء الأسرى سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور قال فلما بلغ في القراءة عند هذه الآية ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ كاد قلبي يطير. سمعها وهو مشرك فكانت سبباً في إسلامه فلو فتح القوم قلوبهم للقرآن لأنارها وأسلموا في أقصر مدة. وقوله تعالى: ﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ٣ وَالْأَرْضَ﴾ والجواب: لا، إذ العاجز عن خلق ذبابة فما دون عن خلق السماوات والأرض وما فيهما أعجز. وقوله تعالى ﴿بَلْ لا يُوقِنُونَ﴾ أن الله هو الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض فقولهم عند سؤال من خلقهم: الله، وعن خلق السماوات والأرض: الله لم يكن عن يقين إذ لو كان عن يقين منهم لما عبدوا الأصنام ولما أنكروا البعث ولما كذبوا بنبوة محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله تعالى: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ﴾ أي من الأرزاق والخيرات والفواضل والفضائل فيخصوا من شاءوا منها ويحرموا من شاءوا والجواب ليس لهم ذلك فلما إذاً ينكرون على الله ما أتى رسوله من الكمال والإفضال؟ أم هم المسيطرون أي الغالبون القاهرون المتسلطون فيصرفون كيف شاءوا في الملك؟ والجواب: لا، إذاً فلما هذا التحكم الفاسد. وقوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ٤ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ أي ألهم مرقى
١ هذا إضراب إنتقالي إلى إبطال نوع آخر من شبهتهم في إنكار البعث إذ السورة مكية، والغالب على هذه السورة معالجة عقيدة البعث الآخر والاستفهام المقدر بعد (أم) تقريري.
٢ الاستفهام المقدر هنا إنكاري.
٣ الاستفهام تقريري، ويل المقدرة قبل الاستفهام للانتقال وهكذا يورد. قولهم مقررا لهم ثم يكر عليه فيبطله في جميع هذه الجمل المبدوءة بـ أم المنقطعة.
٤ السلم: المصعد، وجمعه سلالم قال الشاعر:
ومن هاب أسباب المنية يلقها
ولو رام أسباب السماء بسلم
وقال آخر:
لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا
يبنى له في السماوات السلاليم
أحجاء البلاد: أرجاؤها ونواحيها.
183
يرقون فيه إلى السماء فيستمعون إلى الملائكة فيسمعون منهم ما يمكنهم أن ينازعوا فيه رسولنا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليأت مستمعهم بحجة واضحة ظاهرة على دعواه ومن أين له ذلك وقد حجبت الشياطين والجن عن ذلك فكيف بغير الجن والشياطين.
وقوله: ﴿أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ﴾ أي لله تعالى البنات ولكم البنون إن جميع ما تقولونه من هذا النوع هو كذب ساقط بارد، وافتراء ممقوت ممجوج إن نسبتهم البنات لله كافية في رد كل ما يقولون ومبطلة لكل ما يدعون فإنهم كذبة مفترون لا يتورعون عن قول ما تحيله العقول، وتتنزه عنه الفهوم. وقوله: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ﴾ أي أتسألهم يا رسولنا عما تبلغهم عنا أجراً فهم لذلك مغتمون ومتعبون فلا يستطيعون الإيمان بك ولا يقدرون على الأخذ عنك. وقوله: ﴿أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ١ يَكْتُبُونَ﴾ أي أعندهم علم الغيب فهم منهمكون في كتابته لينازعوك في ما عندك ويحاجوك بما عندهم، والجواب من أين لهم ذلك، وقوله: ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً﴾ أي أيريدون بك وبدينك كيداً؛ ليقتلوك ويبطلوا دينك فالذين كفروا٢ هم المكيدون ولست أنت ولا دينك. ولم يمض عن نزول هذه الآيات طويل زمن حتى هلك أولئك الكائدون ونصر الله رسوله وأعز دينه والحمد لله رب العالمين.
وقوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ﴾ أي ألهم٣ إله أي معبود غير الله يعبدونه والحال أنه لا إله إلا الله ﴿فسُبْحَان٤َ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تنزه الله وتقدس عما يشركونه به من أصنام وأوثان لا تسمع ولا تبصر فضلا عن أن تضر أو تنفع.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير التوحيد بذكر دلائله.
٢- تقرير النبوة المحمدية.
٣- تسفيه أحلام المشركين.
٤- عدم مشروعية أخذ أجرٍ على إبلاغ الدعوة.
٥- لا يعلم الغيب إلا الله.
١ حاصل معنى هذا: أنهم لا قبل لهم بإنكار ما جحدوه من البعث والوعيد والنبوة ولا بإثبات ما أثبتوه من الشرك وما وصفوا به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صفات مستحيلة الوقوع.
٢ لم يمض يسير زمن حتى هلك رؤساء الشرك في بدر مصداق قوله تعالى: ﴿هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ كقوله: ﴿وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه﴾.
٣ الاستفهام إنكاري.
٤ نزه تعالى نفسه أن يكون له شريك كما زعم المشركون وادعوا باطلا فأبطل بذلك كل دعاويهم في تأليه غيره تعالى من الأصنام والشياطين.
184
٦- صدق القرآن في أخباره آية أنه وحي الله وكلامه صدقاً وحقاً إنه لم يمض إلا قليل من الوقت أي خمسة عشر عاماً حتى ظهر مصداق قول الله تعالى فالذين كفروا هم المكيدون.
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥)
يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (٤٩)
شرح الكلمات:
وإن يروا كسفا من السماءساقطا: أي وإن ير هؤلاء المشركون قطعة من السماء تسقط عليهم.
يقولوا سحاب مركوم: أي يقولوا في القطعة سحاب متراكم يمطرنا ولا يؤمنوا.
فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون: أي فاتركهم إذاً يجاحدون ويعاندون حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون وهو يوم موتهم.
يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاولا هم ينصرون: أي اتركهم إلى ما ينتظرهم من العذاب ما داموا مصرين على الكفر وذلك يوم لا يغني عنهم مكرهم بك شيئاً من الإغناء.
وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك: أي وإن لهؤلاء المشركين الظلمة عذاباً في الدنيا دون
185
عذاب يوم القيامة وهو عذاب القحط سبع سنين وعذاب القتل في بدر.
ولكن أكثرهم لا يعلمون: أي أن العذاب نازل بهم في الدنيا قبل يوم القيامة.
واصبر لحكم ربك: أي بإمهالهم ولا يضق صدرك بكفرهم وعنادهم وعدم تعجيل العذاب لهم.
فإنك بأعيننا: أي بمرأى منا نراك ونحفظك من كيدهم لك ومكرهم بك.
وسبح بحمد ربك حين تقوم: أي واستعن على الصبر بالتسبيح الذي هو الصلوات الخمس والذكر بعدها والضراعة والدعاء صباح مساء.
معنى الآيات:
يذكر تعالى من عناد المشركين أنهم لو رأوا العذاب نازلاً من السماء في صورة قطعة كبيرة من السماء ككوكب مثلا لما أذعنوا ولا آمنوا بل قالوا في ذلك العذاب سحاب مركوم الآن يسقى ديارنا فنرتوي وترتوي أراضينا وبهائمنا. إذاً فلما كان الأمر هكذا فذرهم١ يا رسولنا في عنادهم وكفرهم حتى يلاقوا وجهاً لوجه يومهم الذي فيه يصعقون أي يموتون يوم لا يغني عنهم كيدهم٢ شيئا ولا هم ينصرون، فيذهب كيدهم ولا يجدون له أي أثر بحيث لا يغنى عنهم أدنى إغناء من العذاب النازل بهم ولا يجدون من ينصرهم، وذلك يوم القيامة. وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أي أنفسهم أي بالكفر والتكذيب والشرك والمعاصي عذباً دون ٣ ذلك المذكور من عذاب يوم القيامة وهو ما أصابهم به من سني القحط والمجاعة وما أنزله بهم من هزيمة في بدر حيث قتل صناديدهم وذلوا وأهينوا ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك، ولو علموا لما أصروا على العناد والكفر. وقوله تعالى: واصبر لحكم ربك وقضائه بتأخير العذاب عن هؤلاء المشركين، ولا تخف ولا تحزن فإنك بأعيننا أي بمرأى منا نراك ونحفظك، وجمع لفظ العين على أعين مراعاة للنون العظمة وهو المضاف إليه (بأعيننا) وقوله ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ أي قل سبحان الله وبحمده حين تقوم٤ من نومك ومن مجلسك
١ يقال في مثل هذا: هو منسوخ بآية السيف.
٢ هو ما كانوا يكيدون للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما يمكرون به.
٣ جائز أن يكون عذاب القبر.
٤ شاهده ما رواه الترمذي بإسناد حسن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذاك".
186
ومن الليل أيضاً فسبحه بصلاة المغرب والعشاء والتهجد وكذا إدبار النجوم أي بعد طلوع الفجر فسبح بصلاة الصبح وغيرها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- بيان عناد كفار قريش ومكابرتهم في الحق ومجاحدتهم فيه.
٢- تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي للدعاة بعده أيضا.
٣- تقرير وخامة عاقبة الظلم في الدنيا قبل الآخرة.
٤- وجوب الصبر على قضاء الرب وعدم الجزع.
٥- مشروعية التسبيح عند القيام من١ النوم بنحو: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير والحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور.
١ يرى ابن مسعود رضي الله عنه أن قوله: (حين تقوم) شامل لكل قيام يقومه من أي مكان.
187
سورة النجم
مكية
وآياتها اثنتان وستون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (٢) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (٧) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩)
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (١٠) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (١١) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ
187
Icon