تفسير سورة المزّمّل

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة المزمل
مكية عددها عشرون آية كوفي

قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ ﴾ [المزمل: ١] يعني الذي ضم عليه ثيابه، يعني النبى صلى الله عليه وسلم، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم خرج من البيت وقد لبس ثيابه، فناداه جبريل، عليه السلام: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ ﴾، الذي قد تزمل بالثياب، وقد ضمها عليه ﴿ قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [آية: ٢] ﴿ نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ﴾ [آية: ٣] يقول: انقص إلى ثلث الليل ﴿ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ﴾ يعني على النصف إلى الثلثين، فخيره هذه الساعات، كان هذا بمكة قبل صلوات الخمس، ثم قال: ﴿ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ﴾ [آية: ٤] يقول: ترسل به ترسلاً على هينتك رويداً يعني عز وجل بينه تبيناً ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾ [آية: ٥] يعني القرآن شديداً، لما في القرآن من الأمر والنهى والحدود والفرائض ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ ﴾ يعني الليل كله والقراءة فيه ﴿ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾ يعني مواطأة بعضاً لبعض ﴿ وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾ [آية: ٦] بالليل وأثبت، لأنه فارغ القلب بالليل، وهو أفرغ منه بالنهار.﴿ إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً ﴾ [آية: ٧] يعني فراغاً طويلاً لنومك ولحاجتك، وكانوا لا يصلون إلا بالليل، حتى أنه كان الرجل يعلق نفسه بالليل، فشق القيام عليه بالليل ﴿ وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ ﴾ يعني بالتوحيد والإخلاص ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ [آية: ٨] يعني وأخلص إليه إخلاصاً في الدعاء والعبادة، ثم عظم الرب نفسه، فقال: ﴿ رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ ﴾ يعني حيث تطلع الشمس ﴿ وَ ﴾ رب ﴿ وَٱلْمَغْرِبِ ﴾ حيث تغرب الشمس، قال: ابن عباس: تطلع الشمس عند مدينة يقال لها: جابلقا لها ألف باب على كل باب منها ألف حارس، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه، فقال:﴿ تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً ﴾[الكهف: ٩٠]، وتغرب عند مدينة يقال لها: جابرسا لها ألف ألف باب على كل باب ألف حارس، فيتصايحون فرقاً منها، فلولا صياحهم لسمعتم وجبتها إذا هي سقطت. ثم عظم الرب نفسه، فقال: ﴿ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً ﴾ [آية: ٩] هو رب المشرق والمغرب، يعني يوم يستوى فيه الليل والنهار، فذلك اليوم اثنتا عشرة ساعة، وتلك الليلة اثنتا عشرة ساعة، فمشرق ذلك اليوم في برج الميزان ومغرفة لا إله إلا هو، فوحد الرب نفسه ﴿ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً ﴾ يقول: اتخذ الرب ولياً ﴿ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ ﴾ من تكذيبهم إياه بالعذاب ومن الأذى ﴿ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ﴾ [آية: ١٠] يعني اعتزلهم اعتزالاً جميلاً حسناً، نسختها آية السيف في براءة ﴿ وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ ﴾ يقول: خل بيني وبين بني المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم، فإن لي فيهم نقمة ببدر ﴿ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ ﴾ في الغنى والخير ﴿ وَمَهِّلْهُمْ ﴾ هذا وعيد ﴿ قَلِيلاً ﴾ [آية: ١١] حتى أهلكهم ببدر.
ثم قال: ﴿ إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً ﴾ [آية: ١٢] فالأنكال عقوبة من ألوان العذاب، ثم ذكر العقوبة، فقال: وجحيماً، يعني ما عظم من النار ﴿ وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ ﴾ يعني بالغصة الزقوم ﴿ وَعَذَاباً أَلِيماً ﴾ [آية: ١٣] يعني وجيماً موجعاً ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ ﴾ يعني تحرك الأرض و ﴿ الجِيال ﴾ من الخوف ﴿ وكانت الجبال ﴾ يعني وصارت الجبال بعد القوة والشدة ﴿ كَثِيباً مَّهِيلاً ﴾ [آية: ١٤] والمهيل الرمل الذى إذا حرك تبع بعضه بعضاً ﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ ﴾ يا أهل مكة ﴿ رَسُولاً ﴾ يعني النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ولد فيهم فازدروه ﴿ شَاهِداً عَلَيْكُمْ ﴾ أنه بلغكم الرسالة، وقد استخفوا به، وازدروه لأنه ولد فيها ﴿ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً ﴾ [آية: ١٥] يعني موسى، عليه السلام، أي أنه كان ولد فيها فازدروه.
﴿ فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً ﴾ [آية: ١٦] يعني شديداً، وهو الغرق يخوف كفار مكة بالعذاب، أن لا يكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم فينزل بهم العذاب كما نزل بفرعون وقومه حين كذبوا موسى، عليه السلام، نظيرها في الدخان [آية: ٧، ٢٤].
﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ ﴾ يعني وكيف لا يتقون عذاب يوم يجعل فيه الولدان شيباً، ويسكر الكبير من غير شراب، ويشيب الصغير من غير كبر من أهوال يوم القيامة ﴿ إِن كَفَرْتُمْ ﴾ في الدنيا ﴿ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً ﴾ [آية: ١٧] وذلك يوم يقول الله لآدم: قم، فابعث بعث النار، من كل ألف تسع مائة، وتسع وتسعين، وواحد إلى الجنة فيساقون إلى النار سود الوجوه زرق العيون مقرنين في الحديد، فعند ذلك يسكر الكبير من الخوف، ويشيب الصغير من الفزع، وتضع الحوامل ما في بطونها من الفزع تماماً وغير تمام. ثم قال عز وجل: ﴿ السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ ﴾ السقف به يعني الرحمن لنزول الرحمن تبارك وتعالى ﴿ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ﴾ [آية: ١٨] أن وعده مفعولاً في البعث، يقول: إنه كائن لا بد ﴿ إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ ﴾ يعني آيات القرآن تذكرة يعني تفكرة ﴿ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾ [آية: ١٩] يعني بالطاعة.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ ﴾ إلى الصلاة ﴿ أَدْنَىٰ ﴾ يعني أقل ﴿ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ ﴾ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يقومون في أول الإسلام من الليل نصفه وثلثه، وهذا من قبل أن تفرض الصلوات الخمس، فقاموا سنة فشق ذلك عليهم، فنزلت الرخصة بعد ذلك عند السنة، فذلك قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ ﴾ من المؤمنين يقومون نصفه وثلثه، ويقومون وينامون ﴿ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ ﴾ يعني قيام ثلثي الليل الأول، ولا نصف الليل، ولا ثلث الليل.
﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ يعني فتجاوز عنكم في التخفيف بعد قوله: ﴿ قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ﴿ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ ﴾ ﴿ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ ﴾ عليكم في الصلاة ﴿ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ ﴾ فلا يطيوقون قيام الليل لله ﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ تجاراً ﴿ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ ﴾ يعني يطلبون من فضل الله الرزق ﴿ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ ولا يطيقون قيام الليل، فهذه رخصة من الله عز وجل لهم بعد التشديد. ثم قال: ﴿ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ ﴾ عليكم ﴿ مِنْهُ ﴾ يعني من القرآن فلم يوقت شيئاً، في صلواتكم الخمس منه ﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾ يعني وأتموا الصلوات الخمس، وأعطوا الزكاة المفروضة من أموالكم، فنسخ قيام الليل على المؤمنين، وثبت قيام الليل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بين أول هذه السورة وآخرها سنة حتى فرضت الصلوات الخمس، والزكاة، فهما واجبتان، فذلك قوله: ﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ﴾ يقول: وأعطوا الزكاة من أموالكم ﴿ وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهًَ ﴾ يعني التطوع ﴿ قَرْضاً حَسَناً ﴾ يعني بالحسن طيبة بها نفسه يحتسبها تطوعاً بعد الفريضة ﴿ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ ﴾ يعني من صدقة فريضة كانت أو تطوعاً، يقول: ﴿ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً ﴾ ثواباً عند الله في التقديم، هو خيراً.
﴿ وَأَعْظَمَ أَجْراً ﴾ يقول: أفضل مما أعطيتم من أموالكم وأعظم أجراً يعني وأكثر خيراً، وأفضل خيراً في الآخرة ﴿ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ ﴾ من الذنوب ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾ لكم عند الاستغفار إذا استغفرتموه ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٢٠] حين رخص لكم بالتوبة.
Icon