ﰡ
قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذلك، وكانت مدة سحره - ﷺ - أربعين يومًا، وقيل: ستة أشهر، وقيل: عامًا، قاله ابن حجر وهو المعتمد، وعن زيد بن أرقم قال: سحر رجل من اليهود النبي - ﷺ -، فاشتكى ذلك أيامًا، فأتاه جبريل فقال: إن رجلًا من اليهود سحرك وعقد لك عُقَدًا في بئر كذا فأرسل رسول الله - ﷺ - عليًا فاستخرجها، فجاء بها فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة، فقام رسول الله - ﷺ - كأنما نُشط من عقال، فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجه قط أخرجه النسائي، وروي أنه كان تحت صخرة في البئر، فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة، فإذا فيه مشاطة من رأسه - ﷺ - وأسنان من مشطه، وقيل: كان في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة، وقيل: كان مغروزًا بالإبر، فأنزل الله هاتين السورتين، وهما إحدى عشرة آية، سورة الفلق خمس آيات، وسورة الناس ست آيات، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها، فقام النبي - ﷺ - كأنما نُشط من عقال، وروي أنه لبث ستة أشهر واشتد عليه ذلك ثلاث ليال، فنزلت المعوذتان.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿أَعُوذُ﴾؛ أي: أستعيذ وألتجىء وأتحصن وأتحفظ ﴿بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾؛ أي: بمالك الصبح أو الخلق، أو هو واد في جهنم أو جُبٌ فيها، وقيل غير ذلك كما سيأتي، والأول أولى؛ أي: قل أستعيذ برب المخلوقات ومبدع الكائنات ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (٢)﴾؛ أي: من كل ضرر وأذى يصيبني من مخلوقاته طرًا.
وعبارة "الروح": والفلق (١): الصبح؛ لأنه يفلق عنه الليل ويفرق، فهو من باب الحذف والإيصال، فهو فَعَل بمعنى مفعول كالصمد والقَبَض بمعنى المصمود إليه والمقبوض، كما مر، فإن كلل واحد من المفلوق والمفلوق عنه مفعول، وذلك
وخص (١) الفلق بالذكر؛ لأنه وقت دعاء المضطرين وإجابة الملهوفين، فكأنه يقول: قل أعوذ برب الوقت الذي يفرج فيه عن كل مهموم، ولأنه أنموذج من يوم القيامة؛ لأن الخلق كالأموات والدور كالقبور، ثم منهم من يخرج عن داره مفلسًا عريانًا، ومنهم من كان مديونًا فيجر إلى الحبس، ومنهم من كان ملكًا مطاعًا فتقدم إليه المراكب ويقوم الناس بين يديه، وكذا في يوم القيامة بعضهم مفلس عن الثواب عار عن لباس التقوى، فيجر إلى الملك الجبار، وبعضهم كان مطيعًا لربه في الدنيا فصار ملكًا مطاعًا في العقبى يقدم إليه البراق.
وقيل الفلق (٢): الخلق؛ لأن الممكنات بأسرها كانت أعيانًا ثابتة في علم الله مستورة تحت ظلمة العدم، فالله تعالى فلق تلك الظلمات بنون التكوين والإيجاد، فأظهر ما في علمه من المكونات، فصارت مفلوقًا عنها.
وقيل (٣): الفلق سجن جهنم، أو واد أو جُبٌّ فيها، روي عن بعض الصحابة أنه قدم الشام، فرأى دور أهل الذمة وما هم فيه من خصب العيش، فقال: لا أبالي أليس من ورائهم الفلق؟، فقيل له: وما الفلق؟ قال: بيت في جهنم إذا افتتح صاح جميع أهل النار من شدة حره، وإنما خصه بالذكر هاهنا؛ لأنه القادر على مثل هذا التعذيب، وقد ثبت أن رحمته تعالى أعظم من عذابه، فكأنه يقول: يا صاحب العذاب الشديد أعوذ برحمتك التي هي أعظم وأقدم من عذابك، وقيل: اسم شجرة في جهنم، وقيل: هو الجبال والصخور؛ لأنها تفلق بالمياه؛ أي: تشقق، وقيل: هو التفليق بين الجبال؛ لأنها تنشق من خوف الله، قال النحاس: يقال لكل ما اطمأن من الأرض فلق، قال الرازي: وأقرب التأويلات أن الفلق هو كل ما يفلقه الله تعالى، كالأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن الأمطار،
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
وفي تعليق (٢) العياذ باسم الرب المضاف إلى الفلق المنبىء عن النور عقيب الظلمة والسعة بعد الضيق والفتق بعد الرتق عِدَة كريمة بإعاذة العائذ مما يعوذ منه وإنجائه منه وتقوية لرجائه بتذكير بعض نظائره، ومزيد ترغيب له في الجد، والاعتناء بقرع باب الالتجاء إليه والإعاذة بربه.
قالوا: إذا طلع الصبح تتبدل الثقلة بالخفة والغم بالسرور، روي أن يوسف عليه السلام لما ألقي في الجب وجعت ركبته وجعًا شديدًا، فبات ليلته ساهرًا، فلما قرب طلوع الصبح نزل جبريل بإذن الله تعالى يسأله ويأمره بأن يدعو ربه، فقال: يا جبريل أدع أنت وأؤمن، فدعا جبريل وأمَّن يوسف عليهما السلام، فكشف الله تعالى ما كان به من الضر، فلما طاب وقت يوسف قال: يا جبريل وأنا أدعو أيضًا وتؤمِّن أنت، فسأل يوسف ربه أن يكشف الضر عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت، فلا جَرَم ما من مريض إلا ويجد نوع خفة في آخر الليل.
٢ - ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (٢)﴾ أي: من شر وضرر ما خلقه من الثقلين وغيرهما كائنًا ما كان من ذوات الطبائع والاختيار من إنس وجن وسباع وهوام، فيشمل جميع الشرور والمضار بدنية كانت أو غيرها من ضرب وقتل وشتم وعض ولدغ وسحر ونحوها.
(٢) روح البيان.
والخلاصة: أي أعوذ برب الفلق من شر كل ذي شر خَلَقَه الرب من إبليس ومن جهنم، ومن أصناف الحيوانات المؤذيات كالسباع والهوام وغيرهما.
٣ - ثم خصص من بعض ما خلق أصنافًا يكثر وقوع الأذى منهم، فطلب إليه التعوذ من شرهم ودفع أذاهم، وهم ما ذكره بقوله:
١ - ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ﴾؛ أي: ومن شر ليل مختلط ظلامه شديدة ظلمته، وتنكيره لعدم شمول الشر لجميع أفراده ولا لكل أجزائه، ﴿إِذَا وَقَبَ﴾؛ أي: إذا دخل ظلامه في كل شيء بغيبوبة الشفق.
وهذا تخصيص (٣) لبعض الشرور بالذكر مع اندراجه فيما قبله؛ لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه لكثرة وقوعه، ولأن تعيين المستعاذ أدل على الاعتناء
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
والحاصل: أنه ينبعث أهل الحرب في الليل، وتخرج فيه عفاريت الجن والهوام والسباع وجميع المؤذيات، ونهى رسول الله - ﷺ - من السير في الليل، وأمر بتغطية الأواني وإغلاق الأبواب وإيكاء الأسقية وضم الصبيان، وكل ذلك للحذر من الشر والبلاء، وقيل: الغاسق القمر إذا امتلأ نورًا، ووقوبه امتلاؤه نورًا أو خسوفه واسوداده؛ لما رواه أحمد والترمذي وابن جرير عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أخذ رسول الله - ﷺ - بيدي، فأشار إلى القمر، فقال: "تعوذي بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب"، وقال الترمذي حسن صحيح، وشره الذي يتقى منه ما يكون في الأبدان، كالآفات التي تحدث بسببه، ويكون في الأديان كالفتنة التي بها افتتن من عبده وعبد الشمس، وقيل: التعبير عن القمر بالغاسق؛ لأن جرمه مظلم، وإنما يستنير بضوء الشمس، وقيل: وقوبه محاقه في آخر الشهر، والمنجمون يعدونه نحسًا، ولذلك (١) لا تشتغل السحرة بالسحر المورث للتمريض إلا في ذلك. قيل: وهو المناسب لسبب النزول،: وقيل: الغاسق الثريا، ووقوبها سقوطها؛ لأنها إذا سقطت كثرت الأمراض والطواعين، وإذا طلعت قلَّت الأمراض والآلام، وقيل: هو
٢ - ٤ ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ﴾؛ أي: ومن شر النساء أو النفوس السواحر اللاتي ينفثن وينفخن ﴿فِي الْعُقَدِ﴾؛ أي: في عقد الوتر أو الحبال عند القراءة على تلك العقد؛ ليسحرن بها، جمع نفاثة بالتشديد، صيغة مبالغة يراد منها تكرار الفعل والاحتراف به من النفث، وهو شبه النفخ يكون في الرقية ولا ريق معه، فإن كان معه ريق فهو التفل، يقال منه نفث الراقي ينفُث - بالضم - وينفِث بالكسر إذا نفخ على المريض بعد القراءة عليه، والعُقَد جمع عقدة، وهي ما يعقده الساحر ويربطه ويمسكه على وتر - بفتحتين - القوس، أو حبل أو شعر، وهو ينفث عليه ويرقي، وأصله من العزيمة، ولذلك يقال: لها عزيمة، كما يقال: لها عقدة، ومنه قيل للساحر معقد.
والمعنى: وأعوذ بالله من شر النفوس، أو النساء السواحر اللاتي يعقدن عقدًا في خيوط، وينفثن في عقدة الخيط حين يرقين عليها، وتعريفها (١) إما للعهد، أو للإيذان بشمول الشر لجميع أفرادهن وتمحضهن فيه، وقيل: المراد بالنفاثات بنات لبيد بن الأعصم اللاتي سحرن النبي - ﷺ -؛ لما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - وعائشة - رضي الله عنها - أنه كان غلام من اليهود يخدم النبي - ﷺ -، وكان عنده أسنان من مشطه - ﷺ -، فأعطاها اليهود فسحروه - ﷺ - فيها، ولذا ينبغي أن يقطع بعد التقليم، وكذا الشعر إذا أُسقط من اللحية، والرأس نصفين أو أكثر؛ لئلا يسحر به أحد، وتولاه لبيد بن الأعصم اليهودي وبناته وهن النفاثات في العقد، فدفنها في بئر أريس، وفي "عين المعاني": في بئر لبني زريق تسمى ذروان، فمرض النبي - ﷺ -، روي أنه لبث فيه ستة أشهر، فنزل جبريل بالمعوِّذتين - بكسر الواو - كما في
والنفث (٢): النفخ مع ريق قليل، وقيل: إنه النفخ فقط، واختلفوا في جواز النفث في الرُّقى والتعاويذ الشرعية المستحبة، فجوَّزه الجمهور من الصحابة والتابعين ومَن بعدَهم، ويدل على ذلك حديث عائشة في "الصحيحين" وغيرهما قالت: (كان رسول الله - ﷺ - إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات) الحديث، وأنكر جماعة التفل والنفث في الرقى، وأجازوا النفخ بلا ريق، قال عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد، وقيل: النفث في العقد إنما يكون مذمومًا إذا كان سحرًا مضرًا بالأرواح والأبدان، وإذا كان النفث لإصلاح الأرواح والأبدان.. وجب أن لا يكون مذمومًا ولا مكروهًا، بل هو مندوب إليه، ذكره في "الخازن"، وهذا الذي ذكرناه في معنى الآية هو التفسير الصحيح، وقيل: المراد (٣) بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل مستعار من تليين العقدة بنفث الريق عليها؛ ليسهل حلها، فالمعنى على هذا أعوذ برب الفلق من شر النساء النفاثات؛ أي: اللاتي شأنهن أن يغلبن علي الرجال، ويحولنهم عن آرائهم، ويصرفنهم عنها بأنواع المكر
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
وقيل المعنى (١): أعوذ برب الفلق من شر النمامات والنمامين الذين يقطعون روابط المحبة، ويبددون شمل المودة، وقد شبه عملهم بالنفث، وشبهت رابطة الوداد بالعقدة، والعرب تسمي الارتباط الوثيق بين شيئين عقدة، كما سمي الارتباط بين الزوجين عقدة النكاح.
فالنميمة تحول ما بين الصديقين من محبة إلى عداوة بالوسائل الخفية التي تشبه أن تكون ضربًا من السحر، ويصعب الاحتياط والتحفظ منها، فالنمام يأتي لك بكلام يشبه الصدق، فيصعب عليك تكذيبه، كما يفعل الساحر المشعوذ إذا أراد أن يحل عقدة المحبة بين المرء وزوجه؛ إذ يقول كلامًا ويعقد عقدة وينفث فيها، ثم يحلها إيهامًا للعامة أن هذا حل للعقدة التي بين الزوجين، وهذا المعنى والذي قبله يخالف ما ورد في سبب نزول السورتين، كما أشرنا إليه آنفًا.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿النَّفَّاثَاتِ﴾ - بفتح النون - جمع نفاثة على صيغة المبالغة، وقرأ الحسن بضم النون، وقرأ عيسى بن عمر ويعقوب في رواية، وعبد الرحمن بن ساباط وعبد الله بن القاسم والحسن أيضًا ﴿النافثات﴾ جمع نافثة، وقرأ أبو الربيع والحسن أيضًا ﴿النَّفَّاثَاتِ﴾ بغير ألف نحو الحذرات.
فص
واعلم (٣): أن السحر تخيل لا أصل له عند المعتزلة، وعند الشافعي: تمريض بما يتصل به، كما يخرج من فم المتثائب ويؤثر في المقابل، وعند الحنفية: سرعة الحركة ولطافة الفعل فيما خفي فهمه، وقيل: طلسم يبنى على تأثير خصائص الكواكب، كتأثير الشمس في زئبق عصا سحرة فرعون، والمعتزلة أنكروا صحة رواية الأحاديث المذكورة، وتأثير السحر في النبي - ﷺ -، وقالوا: كيف يمكن القول بصحتها؟ والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾، وقال: ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾، ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة، ولأن الكفار كانوا
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
وبالجملة: فالله تعالى ما كان يسلط لا شيطانًا ولا إنسيًا ولا جنيًا يؤذيه فيما يتعلق بنبوته وعقله، وأما الإضرار من حيث بشريته وبدنه فلا بُعد فيه، وتأثير السحر فيه - ﷺ - لم يكن من حيث إنه نبي، وإنما كان في بدنه من حيث إنه إنسان وبشر، فإنه - ﷺ - يعرض له من حيث بشريته ما يعرض لسائر البشر من الصحة والمرض والموت والأكل والشرب ودفع الفضلات، وتأثير السحر فيه من حيث بشريته لا يقدح في نبوته، وإنما يكون قادحًا فيها لو وُجد للسحر تأثير في أمر يرجع إلى النبوة، ولم يوجد ذلك، كيف؟! والله تعالى يعصمه من أن يضره أحد فيما يرجع إليها، كما لم يقدح كسر رباعيته يوم أحد فيما ضمن الله له من عصمته في قوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾. وفي "كشف الأسرار": فإن قيل: ما الحكمة في نفوذ السحر وغلبته في النبي - ﷺ -، ولماذا لم يرد الله كيد الكائد إلى نحوه بإبطال مكره وسحره؟.
قلنا: الحكمة فيه الدلالة على صدق رسول الله - ﷺ - وصحة معجزاته، وكذب من نسبه إلى السحر والكهانة؛ لأن سحر الساحر عمل فيه حتى التبس عليه بعض الأمر، واعتراه أنواع من الوجع، ولم يعلم النبي - ﷺ - بذلك حتى دعا ربه، ثم دعا، فأجابه الله وبين أمره، ولو كان ما يظهر من المعجزات الخارقة للعادات من باب السحر على ما زعم أعداؤه لم يشتبه عليه ما عُمل من السحر فيه، ولتوصل إلى دفعه من عنده، وهذا بحمد الله تعالى من أقوى البراهين على نبوته، وإنما أخبر النبي - ﷺ - عائشة - رضي الله عنها - من بين نسائه بما كشف الله تعالى له من أمر السحر؛ لأنه - ﷺ - كان مأخوذًا من عائشة - رضي الله عنها - وهذا السحر على ما روى يحيى بن يعمر قال: حُبس رسول الله - ﷺ - عن عائشة، فبينما هو نائم أو بين النوم واليقظة إذ أتاه ملكان جلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فهذا يقول للذي عند رأسه ما شكواه؟ قال: السحر، قال: من فعل به؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي، قال: فأين صنع السحر؟ قال: في بئر كذا، قال: فما دواؤه؟ قال: ينبعث إلى تلك البئر،
٣ - ٥ ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (٥)﴾ بالوقف، ثم يكبر؛ لأن الوصل لا يخلو من الإيهام؛ أي: وقيل يا محمد أعوذ برب الفلق من شر كل حاسد إذا أظهر ما في نفسه من الحسد، وعمل بمقتضاه ترتيب مقدمات الشر ومبادي الإضرار بالمحسود قولًا أو فعلًا، والتقييد (١) بذلك لما أن ضرر الحسد قبله إنما يحيق ويضر بالحاسد لاغتمامه بنعمة المحسود، قال عمر بن عبد العزيز: لم أر ظالما أشبه بالمظلوم من حاسد، ونظم الشاعر هذا المعنى، فقال:
قُلْ لِلْحَسُوْدِ إِذَا تَنَفَّسَ طَعْنَةً | يَا ظَالِمًا وَكَأنَّهُ مَظْلُوْمُ |
أَلَا قُلْ لِمَنْ بَاتَ لِيْ حَاسِدًا | أَتَدْرِيْ عَلَى مَنْ أَسَاتَ الأَدَبْ |
أَسَأتَ عَلَى اللهِ فِيْ فِعْلِهِ | لأَنَّكَ لَمْ تَرْضَ لِيْ مَا وَهَبْ |
فَكَانَ جَزَاؤُكَ أَنْ خَصَّنِيْ | وَسَدَّ عَلَيْكَ طَرِيْقَ الطَّلَبْ |
اصْبِرْ عَلَى حَسَدِ الْحَسُوْدْ | فَإنَّ صَبْرَكَ قَاتِلُهْ |
فَالنَّارُ تَأكُلُ بَعْضَهَا | إِنْ لَمْ تَجِدْ مَا تَأكُلُهْ |
قلت: عرَّف النفاثات؛ لأن كل نفاثة شريرة، ونكَّر غاسق؛ لأن كل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك كل حاسد لا يضر، ورب حسد محمود وهو الحسد في الخيرات بمعنى الغبطة، والحسد الأسف على الخير عند الغير، وفي "فتح الرحمن": تمني زوال النعمة عن مستحقها سواء كانت نعمة
وأول ذنب عُصِيَ الله به في السماء حسد إبليس لآدم، فأخرجه من الجنة، فطُرد وصار شيطانًا رجيمًا، وفي الأرض قابيل لأخيه هابيل فقتله.
وقد أرشد الله (١) سبحانه وتعالى في هذه السورة رسول الله - ﷺ - إلى الاستعاذة من شر كل مخلوقاته على العموم، ثم ذكر بعض الشر وعلى الخصوص مع اندراجه تحت العموم لزيادة شره ومزيد ضره؛ وهو الغاسق والنفاثات والحاسد، فكأن هؤلاء - لما فيهم من مزيد الشر - حقيقون بإفراد كل واحد منهم بالذكر.
قال بعضهم: إن الله تبارك وتعالى جمع في هذه السورة الشرور كلها وختمها بالحسد؛ ليعلم أنه أخس الطبائع وأقبح الصفات المذمومة، وهذه السورة من أنفع أدوية الحسد، فإنها تتضمن التوكل على الله والالتجاء إليه من شر حاسد النعمة، وفي كشف ما يلتبس من القرآن كرر قوله: ﴿وَمِنْ شَرِّ﴾ أربع مرات؛ لأن شر كل واحد منها غير شر البقية عنها.
فإن قلت: أولها يشمل البقية، فما فائدة إعادتها؟
قلت: فائدتها تعظيم شرها ودفع توهم أنه لا شر لها لخفائه فيها.
ومعنى الآية: أي (٢) ونستعيذ بك يا ربنا من شر الحاسد إذا أنفذ حسده بالسعي والجد في إزالة نعمة من يحسده، ويُعمِل الحيلة وينصب شباكه لإيقاع المحسود في الضرر بأدنى الوسائل ولا يمكن إرضاؤه، ولا في الاستطاعة الوقوف على ما يدبره، فهو لا يرضى إلا بزوال النعمة، وليس في الطوق دفع كيده ورد عواديه، فلم يبق إلا أن نستعين عليه بالخالق الأكرم، فهو القادر على رد كيده ودفع أذاه وإحباط سعيه، نسألك اللهم وأنت الوزر والنصير أن تقينا أذى الحاسدين، وتدفع عنا كيد الكائدين، إنك أنت الملجأ والمعين. آمين.
الإعراب
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (٣)
(٢) المراغي.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿أَعُوذُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَعُوذُ﴾. ﴿مِنْ شَرِّ مَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَعُوذُ﴾ أيضًا، وجملة ﴿خَلَقَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما خلقه، ويجوز أن تكون مصدرية. ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على ما قبله. ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بـ ﴿شَرِّ﴾. ﴿وَقَبَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿غَاسِقٍ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾ ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على ما تقدم أيضًا. ﴿فِي الْعُقَدِ﴾ متعلق بـ ﴿النَّفَّاثَاتِ﴾. ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على ما تقدم أيضًا. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بـ ﴿شَرِّ﴾. ﴿حَسَدَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿حَاسِدٍ﴾، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾ الظرفية.
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ الفلق الصبح، قال الزمخشري: الفلق والفَرَق الصبح؛ لأن الليل يفلق عنه ويفرق، وهو فَعَل بمعنى مفعول، كالقَبَض بمعنى المقبوض، وفي المثل هو أبين من فَلَق الصبح، ومن فَرَق الصبح، ومنه قولهم: سطح الفرقان إذا طلع الفجر، وقال الشاعر:
يَا لَيْلَةً لَمْ أَنَمْهَا بِتُّ مُرْتَقِبَا | أَرْعَى النُّجُوْمَ إِلَى أَنْ قُدِّرَ الْفَلَقُ |
حَتَّى إِذَا مَا انْجَلَى عَنْ وَجْهِهِ فَلَقٌ | هَادِئَةٌ فِيْ أُخْرَيَاتِ اللَّيْلِ مُنْتَصِبُ |
﴿غَاسِقٍ﴾ الغاسق الليل إذا اعتكر واشتد ظلامه، قال الشاعر:
يَا طَيْفَ هِنْدٍ لَقَدْ أَبْقَيْتَ لِيْ أَرَقَا | إِذْ جِئْتَنَا طَارِقًا وَاللَّيْلُ قَدْ غَسَقَا |
﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ﴾: جمع نفاثة، كعلَّامة صيغة مبالغة من النفث، وهو النفخ مع ريق يخرج من الفم، وهن السواحر اللاتي تنفث في العُقَد التي تعقدها، كما في "المختار"، وشبيه بالنفخ، وهو أقل من التفل، وقد نفث الراقي من بابي ضرب ونصر.
﴿فِي الْعُقَد﴾: جمع عقدة، وهي الربطة التي تُعقد في الخيط والوتر.
﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (٥)﴾ والحسد: أن تتمنى زوال نعمة المحسود عنه مطلقًا دينية كانت أو دنيوية، يقال: حسده يحسده من باب دخل، وقال الأخفش وبعضهم يقول: يحسِد - بالكسر - حَسَدًا - بفتحتين - وحسادة بالفتح وا هـ. "مختار". وفي "المصباح": حسدته على النعمة، وحسدته النعمة حسدًا بفتح السين أكثر من سكونها يتعدى إلى الثاني بنفسه وبالحرف إذا كرهتها عنده وتمنيت زوالها عنه اهـ.
فائدة: قال بعض الحكماء: بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه:
أولها: أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره.
ثانيها: أنه ساخط قسمة ربه كأنه يقول: لم قسمت هذه القسمة.
ثالثها: أنه يعاند فعل الله تعالى.
رابعها: أنه يريد خذلان أولياء الله تعالى.
خامسها: أنه أعان عدو الله إبليس اللعين. انتهى.
وقال بعضهم: الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة وبغضًا، ولا ينال في الخلوة إلا جزعًا وغمًا، ولا ينال في الآخرة إلا حزنًا واحتراقًا، ولا ينال من الله إلا بعدًا ومقتًا. انتهى.
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الجناس الناقص بين ﴿الْفَلَقِ﴾ و ﴿خَلَقَ﴾.
ومنها: الإطناب بتكرار لفظ ﴿شَرِّ﴾ أربع مرات ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (٢)﴾ ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ﴾ ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ﴾ ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِد﴾ تنبيهًا على شناعة هذه الأوصاف.
ومنها: تخصيص بعض الشرور بالذكر في قوله: ﴿وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ...﴾ إلخ، مع اندراجه فيما قبله من قوله: ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (٢)﴾ فإنه عام يدخل تحته شر الغاسق وشر النفاثات وشر الحاسد؛ لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه لكثرة وقوعه، ولأن تعيين المستعاذ منه أدل على الاعتناء بالاستعاذة منه وأدعى إلى الإعاذة.
ومنها: إضافة الشر إلى الغاسق الذي بمعنى الليل لملابسته له بحدوثه فيه.
ومنها: تنكير ﴿غَاسِقٍ﴾؛ لعدم شمول الشر لجميع أفراده.
ومنها: تعريف ﴿النَّفَّاثَاتِ﴾ إما للعهد، أو للإيذان بشمول الشر لجميع أفرادهن وتمحضهن فيه.
ومنها: جناس الاشتقاق بين: ﴿حَاسِدٍ﴾ و ﴿حَسَدَ﴾.
ومنها: توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب
* * *
سورة الناس نزلت بعد سورة الفلق، وهي مدنية، وقيل: مكية، والأول أصح؛ لأنها نزلت بالمدينة سنة سبع بسبب أنه - ﷺ - سحرته اليهود.
والخلاف فيها كالخلاف الذي تقدم في سورة الفلق، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزل بمكة: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١)﴾ وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: أنزل بالمدينة: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١)﴾ وقد قدمنا في سورة الفلق ما ورد في سبب نزول هذه السورة وما ورد في فضلها، فارجع إليه، وهي: ست آيات، والتي قبلها: خمس، فتكون الجملة إحدى عشرة آية عدد العقد والإبر الحاصلَين في السحر، وعشرون كلمة وتسعة وسبعون حرفًا.
ومناسبتها لما قبلها ظاهرة؛ لاتحادهما في سبب النزول وفي الاستعاذة، وسميت بسورة الناس؛ لذكر لفظ الناس فيها.
الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الناس محكمة كلها لا ناسخ فيها ولا منسوخ.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *