تفسير سورة الأنبياء

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ﴾ ؛ أي اقتربَ لأهلِ مكَّة حسابُهم، والمعنى : اقتربَتِ القيامةُ، واقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ، والْحِسَابُ هنا : إظْهَارُ مَا لِلْعَبْدِ وَمَا عَلَيْهِ لِيُجَازَى عَلَى ذلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ﴾ ؛ أي في غفلةٍ عمَّا يفعلُ الله بهم ذلكَ اليوم، مُعرضون عن التَّأَهُّب له بالإيْمانِ بمُحَمَّدٍ ﷺ والقُرْآنِ. وَقِيْلَ : معناهُ : وهم في غَفْلَةٍ عن قُرْب الحساب والموت، معرضون عن الفكرةِ في ذلك، والتَّأَهُّب لهُ، وهذا مِن اللهِ تنبيهٌ وعِظَةٌ ؛ لئَلاَّ يغفَلُوا عن الآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ ؛ أي ما يأتيهم من وَحْيٍ، ﴿ مُّحْدَثٍ ﴾ ؛ تَنْزِيْلُهُ، والإحْدَاثُ يعودُ إلى الانزالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ مُسْتَهْزِئِيْنَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ ﴾ ؛ منصوبٌ بقولهِ (يَلْعَبُونَ)، ومعناهُ : غَافِلَةً قلوبُهم عما يرادُ بهم، معرضةً عن ذِكْرِ اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى ﴾ ؛ أي تَنَاجَوا فيما بينهم سِرّاً.
ثم بَيَّنَ مَنْ هم فقال :﴿ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ ؛ أي الذين أشْرَكُوا باللهِ، و(الَّذِيْنَ) في موضعِ الرفع بدلٌ من الضمير في (أسَرُّوا) كما في قولهِ تعالى﴿ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾[المائدة : ٧١]، ويجوزُ أن يكون (الَّذِيْنَ) خُفِضَ نعتاً للناسِ ؛ أي اقتربَ للناسِ الذين هذا حالُهم.
ثُم بَيَّنَ النَّجْوَى الذي أسرُّوهُ بقوله :﴿ هَلْ هَـاذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾ أطْلَعَ اللهُ النبيَّ ﷺ أنَّهم قالوا : هَلْ مُحَمَّدٌ مِثْلُكُمْ، فإذن تتبعون بشر مثلكم، ﴿ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ ؛ وأنتم تعلمونَ أنه سِحْرٌ. قال السديُّ :(قَالُوا مُتَابَعَةُ مُحَمَّدٍ مُتَابَعَةُ السِّحْرِ)، والمعنى : أتَقْبَلُوا السِّحرَ، وأنتم تعلمون أنهُ سِحْرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَآءِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ أي قل لَهم يا مُحَمَّدُ : ربي الذي أعبدهُ وأدعوا إلى عبادتهِ هو اللهُ الذي يعلمُ ما تُسِرُّهُ العبادُ من القولِ في السَّماء والأرضِ، ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ ؛ لذلك كلِّه، العَالِمُ بما يجري عليه، ومَن هذه صفتهُ، فهو الذي يَجِبُ أن يُعْبَدَ دون الأصنامِ. وقرأ أهلُ الكوفةِ :(قَالَ رَبي) على الخير. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ أي السميعُ لأقوالِهم، العليمُ بأفعالِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ ﴾ ؛ أي قالَ الكفارُ : إنَّ ما أُتِيَ به مُحَمَّدٌ تَخالِيْطُ رُؤْيَا رآها في الْمَنَامِ، و (بَلْ) ها هنا انتقالٌ إلى خبرٍ آخرَ عنهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلِ افْتَرَاهُ ﴾ أي قالوا اخْتَلَقَهُ كَذِباً من تلقاءِ نفسه، ثُم قالوا :(بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) فجعلوا يَنْقِضُونَ أقوالَهم قولَ متحيِّرٍ لا يُمْكِنُهُ الجزمُ على أمرٍ واحد. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ﴾ ؛ بالآياتِ، نحوُ انقلاب البحر، وإحياءِ الموتى، والناقة والعصا.
فقال اللهُ تعالى مُجيباً لَهم :﴿ مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؛ أي ما آمَنَتْ قَبْلَ مشركي مكَّة ﴿ مِّن قَرْيَةٍ ﴾ يعني أهلَها، والمعنى : ما آمَنَتْ من قريةٍ مُهْلَكَةٍ بالآياتِ الْمُرْسَلَةِ، فكيفَ يُؤْمِنُ هؤلاء ؟ والمعنى : أنَّ مَجِيْءَ الآياتِ لو كان سَبَباً للإيْمانِ من غيرِ إرادة الله لكان سَبباً لإيْمانِ أولئكَ، فلما بَطَلَ ذلك بَطَلَ هذا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ ﴾ ؛ يعني ما أرْسَلْنَا قَبْلَكَ من الرُّسُلِ إلاّ رجَالاً مثلكَ، وهذا جوابٌ لقولِهم﴿ هَلْ هَـاذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾[الأنبياء : ٣]، فقال اللهُ تعالى : لَمْ أُرْسِلْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ إلاّ رجَالاً من بَنِي آدمَ لا الملائكةَ، ﴿ فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ وأرادَ بأهلِ الذِّكر علماءَ أهلِ الكتاب ؛ لأن اليهودَ النصارى لا ينكرونَ أن الرُّسُلَ كانوا بَشَراً، وإنْ أنكَرُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَقِيْلَ : أرادَ بالذِّكر القُرْآنَ، والمعنى : فاسألوا المؤمنينَ مِن أهلِ القُرْآنِ إن كنتم يا أهلَ مكَّة لا تعلمون. قال عَلِيٌّ (كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ) : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ :(نَحْنُ أهْلُ الذِّكْرِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ﴾ ؛ أي وما جعلنا الأنبياءَ ذوي أجسادٍ لا يأكلون الطعامَ، ولا يشربونَ الشراب، ﴿ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ ﴾ ؛ لا يَمُوتُونَ، وذلك أنَّهم قالوا : مَا لِهَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ ؟ فأُعْلِمُوا أن الرُّسُلَ جميعاً كانوا يأكون الطعامَ، وأنَّهم يَموتون كسائرِ البشر، وإنَّما وحَّدَ الجسدَ ؛ لأنه مصدرٌ كالخلقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ ﴾ ؛ أي ثُم أنْجَزْنَا وعدَ الأنبياءِ في إنْجائنا إياهم، وإهلاكِ الكفار المكذِّبين بهم، وأرادَ بالمسرفين الكفارَ، لأن الْمُسْرِفَ في اللغة هو الذي يتجاوزُ حَدَّ الحقِّ بما تباعدَ عنه، فالكافرُ أحقُّ بهذه الصفةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَنجَيْنَاهُمْ ﴾ أي مِن العذاب ﴿ وَمَن نَّشَآءُ ﴾ يعني الذين صَدَّقُوهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ ؛ أي لَقَدْ أنزَلْنَا إلَيْكُمْ كِتَاباً يا معشرَ قُرَيْشٍ، كِتَاباً فيه شَرَفُكُمْ وعِزُّكم أن يَمسكم به يعني القُرْآن، والذِّكْرُ هو الشَّرَفُ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾[الزخرف : ٤٤] أي شَرَفٌ، يقال : فلانٌ مذكورٌ في العُلاَ ؛ إذا كان رَفِيْعاً. وقال الحسنُ :(مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ ذِكْرُكُمْ ﴾ أيْ مَا تَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أمْرِ دِيْنِكُمْ)، ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾، ما فَضَّلَكُمْ به على غيرِكم، أنْزَلْتُكُمْ حَرَمِي، وبعثتُ فيكم نَبيّاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً ﴾ ؛ أي كم أهلكنا مِن قريةٍ كانوا مُشركين، والْقَصْمُ : الْكَسْرُ وَالدَّقُّ، ﴿ وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ ﴾ ؛ أي وأحْدَثْنَا مِن بعدِ إهلاكهم قوماً آخرين، فسَكَنُوا دِيَارهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ ﴾ ؛ أي فلمَّا أحسَّ أهلُ القرية الكافرةِ عذابَنا إذا هم منها يهرُبون سِرَاعاً هَرَبَ الْمُنْهَزِمِ مِن عدُوِّه. ومعنى قوله ﴿ أَحَسُّواْ ﴾ أي رَأوا، وَقِيْلَ : معناهُ : لَمَّا ذاقُوا. والإحْسَاسُ : هُوَ الإدْرَاكُ بحَاسَّةٍ مِنَ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ ﴾ ؛ أي قِيْلَ لَهم : لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إلَى مَا نُعِّمْتُمُ فيه وإلى منازلكم، تقولُ الملائكة ذلكَ استهزاءً بهم وتقريعاً على ما فُرِّطَ منهم بحيثُ يسمعون النداءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ﴾ ؛ يقال لَهم ذلكَ على طريق الْهُزْؤِ بهم وهو توبيخٌ في الحقيقةِ، والمعنى : لكي تُسألوا شيئاً من دُنياكم فأنتم أهل برٍّ ونعمةٍ، فـ ﴿ قَالُواْ ﴾ عند ذلك :﴿ ياوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ ؛ لأنفسِنا حيثُ كذبنَا الرُّسلَ، اعترفوا بالذنب حين رأوا العذابَ، فقالوا هذا على سبيلِ النَّدمِ، ولَم ينفعْهم حينئذٍ الندمُ. والوَيْلُ : الوقوعُ في الْهَلَكَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ ﴾ ؛ أي فما زالت تلكَ الكلمةُ وهو قولُهم :﴿ ياوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ لَم يزالوا يردِّدُنَها إلى أن ماتُوا وخَمَدُوا فصاروا كالزَّرْعِ الحصيدِ، والحصيدُ : هو الزَّرْعُ الْمَحْصُودُ، والْمَخْمُودُ : وهو الْمَهْمُودُ كَخُمُودِ النَّارِ إذا أُطْفِيَتْ.
قِيْلَ : نزلت هذه الآيةُ في أهلِ خَضُورٍ وهي قريةٌ من اليَمَنِ كان أهلُها من العرب، بعثَ اللهُ إليهم نبيّاً يدعوهم إلى اللهِ فكَذبوهُ وقتلوهُ، فسَلَّطَ اللهُ بخْتْنَصِّرَ حتى قَتَلَهُمْ وسَبَاهُم ونَكَّلَ بهم، فلما أثْخَنَ فيهم القتلَ نَدِمُوا وهربوا وانْهزمُوا، فقالت لَهم الملائكةُ على طريقِ الاستهزاء : لا تركُضُوا وارجِعُوا إلى مساكنكم وأموالكم، فَاتَّبَعَهُمْ بخِتْنَصِّرِ وأخذتْهُمُ السيوفُ، ونادَى مُنَادٍ من السَّماء : يا ثاراتِ الأنبياءِ، فلمَّا رأوا ذلك أقَرُّوا بالذنوب حيث لَم ينفعهم، فقالوا : يَا وَيْلَنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِيْنَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيْداً بالسيُّوف، كما يُحْصَدُ الزرعُ، خَامِدِينَ أي مَيِّتِيْنَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ ﴾ ؛ أي ما خلقنَاهُما عَبَثاً ولا بَاطِلاً بل خلقنَاهُما لأمرٍ ؛ أي لأُجَازي أوليائي، وأُعذِّبَ أعدائي. وَقِيْلَ : معناهُ : خلقناهما دلالةً على قُدرتِنا ووحدانيَّتنا ؛ ليعتَبرُوا بخلقِهما ويتفكَّروا فيهما، فيعلمونَ أن العبادةَ لا تكونُ إلاَّ لخالِقِهما.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ ﴾ ؛ قال قتادةُ :(اللَّهْوُ بلُغَةِ الْيَمَنِ الْمَرْأةُ)، وقال ابنُ عبَّاس :(يُرِيْدُ النِّسَاءَ)، وَقِيْلَ : جاء طاووسُ وعطاء ومجاهدُ إلى الحسنِ فسألوه عن هذه الآية، فقالَ :(اللَّهْوُ الْمَرْأةُ). وفي رواية الكلبيِّ :(اللَّهْوُ الْوَلَدُ). وَقِيْلَ : معناهُ : لو أردنا أن نَتَّخِذ شَرِيكاً أو ولَداً أو امرأةً لَم يكن لنتَّخذها مما نسَبتُمونا إليه من الذي لا يسمع ولا يعقلُ ولا مِن هذه النساء والولدان، بل كما نَتَّخِذُهُ من جنسٍ أشرفَ من هذا الجنسِ كما قَالَ تَعَالَى في آيةٍ أُخرى﴿ لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾[الزمر : ٤]. وَقِيْلَ : معناهُ : لو أردنا أن نتخذ ولداً نَلْهُو به لاتَّخذناهُ عندَنا لا عندكم ؛ لأن ولدَ الرجل وزوجتهُ يكونان عندَهُ وبحضرتهِ.
نزلت هذه الآيةُ في الَّذين قالوا اتَّخَذ اللهُ ولداً، ولو كان ذلكَ جائزاً في صِفَةِ الله تعالى لَم يتخذ بحيثُ لَم يظهر لكم، ويسترهُ حتى لا تطَّلعوا عليه، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوّاً كَبيْراً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ ؛ أي كُنَّا مِمَّن يفعلُ ذلك، ولسنا مِمن يفعلهُ، وَقِيْلَ :(إنْ) هنا بمعنى (مَا) أي مَا كُنَّا فَاعِلِيْنَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ ﴾ ؛ أرادَ بالحقِّ القُرْآنَ، وبالباطلِ الكُفْرَ، وَقِيْلَ : معناهُ : دَعْ ذاكَ الذي قالوا فإنه كذبٌ وباطل، بل نَقْذِفُ بالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ من كذِبهم، ﴿ فَيَدْمَغُهُ ﴾ أي فيُهْلِكُهُ ويذهِبهُ، ﴿ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ ؛ أي زائلٌ ذاهب، والمعنى : إنَّا نُبْطِلُ كذِبَهم مما تبيَّن من الحقِّ حتى يضمحلَّ ويذهبَ، ثم أوعَدَهم على قولِهم فقال :﴿ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ ؛ أي لكم العذابُ مما تصفونَ اللهَ تعالى به من الصَّاحبة والولدِ.
ثُم بيَّن أن جميعَ الخلقِ عبيدهُ، فقالَ :﴿ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ عَبيداً وملكاً، ﴿ وَمَنْ عِنْدَهُ ﴾ ؛ يعني الملائكةَ، ﴿ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ﴾ ؛ قال الزجَّاج :(إنَّ الَّذِيْنَ ذكَرْتُمُوهُمْ بأَنَّهُمْ أوْلاَدُ اللهِ هُمْ عِبَادُهُ وَلاَ يَأْنَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَلاَ يَتَعَظَّمُونَ عَنْهَا)، ﴿ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ﴾ ؛ أي ينقَطِعون عن العبادة من الإعيَاءِ والتَّعب، مِن قولِهم : بَعِيْرٌ حَسِيْرٌ اذا أعْيَا وقام.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُسَبِّحُونَ الَّيلَ وَالنَّهَارَ ﴾ ؛ أي يصَلُّون للهِ تعالى الليلَ والنهار، ﴿ لاَ يَفْتُرُونَ ﴾ ؛ أي لا يَضْعُفُونَ عن عبادتهِ ولا يَمَلُّونَ، وَقِيْلَ : معناهُ : يُنَزِّهُونَ اللهَ، وإنَّما يقولون سُبْحَانَ اللهِ لا يَمَلُّونَ. قال الزجَّاج :(مَجْرَى التَّسْبيْحِ مِنْهُمْ كَمَجْرَى النَّفَسِ مِنَّا، كَمَا لاَ يَشْغَلُنَا عَنِ النَّفَسِ شَيْءٌ فَكَذلِكَ تَسْبيْحُهُمْ دَائِمٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَمِ اتَّخَذُواْ آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ﴾ ؛ استفهامٌ بمعنى الإنكارِ ؛ أي أعَبَدَ أهلُ مكة أصناماً يُحيُونَ الموتَى؟! وفيه تقريعٌ لَهم بأنَّهم كاذبون أنَّها آلهةٌ، لأن الإلهَ يُحيي الموتى، وهي لا تُحيي، فكيفَ يستحقُّ العبادةَ ؟ قِيْلَ : معنَى الآيةِ : لِمَ تَتَّخِذُون آلهةً مِن الأرضِ، وأصنامُهم كانت من الأرضِ ؛ من أيِّ شيء كانت، من خشبٍ أو حجارةٍ أو فضَّة أو ذهب، هم يُنْشِرُونَ، أيُحْيُونَ الْمَوْتَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ ؛ لخَرَبَتَا وهَلَكَ مَن فيهما، وعيَّن صفةَ الآلِهَةِ ؛ أي لو كان فيهما آلِهةٌ غيرُ اللهِ ؛ أي لو كانَ في السَّماءِ والأرضِ آلِهةٌ غيرُ الله لَمَا قامتِ السَّمواتُ والأرض ؛ لأنه لو أرادَ أحدُهما اتِّخاذ جسمٍ في مكان، وأرادَ آخرُ اتِّخاذ جسمٍ آخر في ذلكَ المكان لَمْ يَخْلُ : إما أن يُوجَدَ مرادُهُما أو لا يوجدُ مرادُهما، أو يوجدُ مرادُ أحدِهما دونَ الآخرِ.
فالأولُ باطلٌ ؛ لأن في وجودُ جِسمَين في مكانٍ واحد. والثانِي باطلٌ ؛ لأنَّ في ذلك كونُهما عاجِزَين، والعاجزُ لا يستحقُّ الأُلُوهيَّة، وإن وُجِدَ مرادُ أحدِهما دونَ الآخرِ، فالذي لا يوجدُ مرادهُ يكون عاجِزاً لا يصلحُ أن يكون إلَهاً.
والمعنى : لَو كانَ فيهما آلِهةٌ غيرُ الله كما يزعمُ المشركون، هذا قولُ جميعِ النحويِّين ؛ قالوا :(إلاَّ) ليسَ ها هنا باستثناءٍ، ولكنهُ مع ما بعده صفةٌ للآلِهة في معنى (غَيْرَ). قال الزجَّاج :(فَلذَلِكَ ارْتَفَعَ مَا بَعْدَهَا عَلَى لَفْظِ الَّذِي قَبْلَهَا، قَالَ الشاعرُ : وَكُلُّ أخٍ مُفَارِقُهُ أخُوهُ لَعَمْرُو أبيكَ إلاَّ الْفَرْقَدَانِقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ ؛ أي تَنْزِيهاً عمَّا يقولون عليه من الولدِ والشَّريكِ، ﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ﴾ ؛ أي لا يُسأَلُ عن أفعالهِ وقضائه في خلقِه من إعزازٍ وإذلال، وهداية وإضلالٍ، وإسعاد وإشقاء ؛ لأنه الربُّ مالكُ الخلقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ ؛ أي يقالُ لَهم يومَ القيامةِ لِمَ فعلتُمْ كذا ؟ لأنَّهم عبيدٌ يجبُ عليهمُ امتثالُ أمرِ مَوْلاَهُمْ، واللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس فَوْقَهُ أحدٌ يقول لهُ لشيءٍ فَعَلَهُ لِمَ فَعَلْتَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً ﴾ ؛ هذا إنكارٌ عليهم وتوبيخٌ، ﴿ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ﴾ ؛ أي حُجَّتَكُمْ بأن رَسُولاً من رُسُلِ الله أنْبَأَ أُمَّتَهُ بأن لَهم إلَهاً غيرَ الله.
قولهُ تعالى :﴿ هَـاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي ﴾ ؛ معناهُ : هذا الْقُرْآنُ فيه ذكرُ مَن معي لِمَا يلزمهُم من الحلالِ والحرام والخطأ والصَّواب. وَقِيْلَ : خَبَرُ مَن معي على دِينِي بما لَهم من الثواب والعقاب، وذِكْرُ مَنْ قَبْلِي مِن الأُمم مَن نَجَا منهم بالإيْمَانِ، وأُهْلِكَ بالشِّركِ. وَقِيْلَ : معناهُ : هذا الْقُرْآنُ الذي هو ذِكْرُ مَن معي، والتوراةُ والإنجيل هُما ذِكْرُ مَن قبلي، هل في جميعِ ذلك غيرُ توحيدِ الله تعالى؟
والمعنى : هذا الْقُرْآنُ وهذه الكُتُبُ التي أُنزلت مِن قبلي، فانظرُوا هل في واحدٍ منهم أن الله أمر باتخاذ آلهة سواه ؟ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ ؛ عن النظرِ في دلائلِ الله مقصِّرين على جهلِهم وتقليدهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ ﴾ ؛ أي ما أرْسَلْنَا مِن قبلك يا مُحَمَّدُ من رسولٍ إلاّ يُوحَى إليه أن يقولَ لقومهِ أنَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ فَاعْبُدُوهُ أي وحِّدُوهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَـانُ وَلَداً سُبْحَانَهُ ﴾ ؛ أراد به قولَهم إنَّ المسيح ابنُ الله، والملائكةَ بناتُ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ﴾ ؛ معناهُ : بل هم عبيدٌ أكرمَهم اللهُ بالطاعة واصطفَاهُم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ﴾ ؛ لا يخرجُون بقولِهم عن حدِّ ما أمرَهم، ﴿ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ ؛ قَوْلُهُ :﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ ؛ أي يعلمُ ما قدَّموا وما أخَّرُوا من أعمالِهم، ويقالُ :﴿ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ من الدُّنيا ﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ من الآخرةِ، ويقال : يعلمُ ما عمِلُوا وما هم عامِلُون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ﴾ ؛ أي لا يشفعونَ إلاّ لِمن رَضِيَ اللهُ عنهُ وارتضى عملَهُ، قال ابنُ عبَّاس :(لِمَنْ قَالَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ)، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ ؛ أي وهم مِن خشيتِهم منهُ، فأضافَ المصدرَ إلى المفعولِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُشْفِقُونَ ﴾ أي خَائِفُونَ، لا يأمَنُون مَكْرَهُ، وفي هذا بيانُ أنّ مَن هذه صفتهُ لا يكون إلَهاً مع اللهِ ولا ولداً لهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَـاهٌ مِّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ﴾ ؛ أي مَن يقُلْ مِن الملائكة إنِّي إلهٌ من دون اللهِ فذلك يَجْزِيْهِ جهنَّمَ، قال المفسرون : يعني إبليسَ لأنه أمَرَ بطاعة نفسهِ، ودعا إلى نفسهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أي كما جَزَيْنَاهُ جهنمَ، نَجزي الظالمين الْمُشْركينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس وعطاءُ والضحَّاك :(يَعْنِي كَانَتَا شَيْئاً وَاحِداً مُلْتَزِقَتَيْنِ، فَفَصَلَ اللهُ بَيْنَهُمَا بالْهَوَاءِ)، قال كعبُ :(خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ خَلَقَ ريْحاً وَسْطَهُما، فَفَتَحُمهَا بهَا).
وقال مجاهدُ :(كَانَتِ السَّمَوَاتُ طَبَقَةً وَاحِدَةً فَفَتَقَهَا، فَجَعَلَهَا سَبْعَ سَمَوَاتٍ، وَكَانَتِ الأَرْضُونَ مُرْتَفِعَةً طَبَقَةً وَاحِدَةً فَفَتَقَهَا اللهُ تَعَالَى، فَجَعَلَهَا سَبْعَ أرْضِيْنَ)، وقال عكرمةُ :(كَانَتِ السَّمَاءُ رَتْقاً لاَ تُمْطِرُ، وَالأَرْضُ رَتْقاً لاَ تُنْبتُ، فَفَتَقَ السَّمَاءَ بالْمَطَرِ، وَالأَرْضَ بالنَّبَاتِ).
وأصلُ الرَّتْقِ السِّدُّ، ومنهُ قيلَ للمرأةِ التي فرجُها ملتحمٌ : رَتْقَاءَ. وأصلُ الفَتْقِ الفتحُ، وذلك أنَّ السمواتِ والأرضَ كانت مُستويَتين لا فَتْقَ فيهما لِخروج الزَّرْعِ ونزولِ الغيث، ففُتِقَتِ السماءُ بالمطر، والأرضُ بالنباتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ ؛ أي أحيينا بالمطرِ والنبات كلَّ ما على الأرضِ من حيوانٍ، يعني أنه سببُ كلِّ شيء. وقال بعضُهم : يعني أنَّ كل شيءٍ حيٍّ فهو مخلوقٌ من الماءِ لقوله تعالى﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ ﴾[النور : ٤٥].
قال أبو العالية :(يَعْنِي النُّطْفَةَ)، فعلى هذا لا يتعلقُ هذا بما قَبْلَهُ، وهو احتجاجٌ على المشركينَ بقُدرةِ الله تعاَلى، ﴿ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؛ أي أفلا يصدِّقُون بالإلهِ الذي فَعَلَ ذلك ؛ ليعلموا أنهُ الإلهُ دونَ غيرهِ. وإنَّما قال (رَتْقاً) ولَم يقل رَتْقَيْنِ ؛ لأن الرِّتْقَ مصدرٌ. المعنى : كانتا ذوَي رَتْقٍ فجعلناهما ذوَاتَي فَتْقٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ ﴾ ؛ أي جعلنا فيها جِبَالاً أوْتَاداً فهي راسيةٌ كي لا تَميد بهم الأرضُ، والْمَيْدُ : الاضطرابُ بالذهاب في الجهات، قال ابنُ عبَّاس :(إنَّ الأَرْضَ بُسِطَتْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، فَكَانَتْ تَمِيْدُ بأَهْلِهَا كَمَا تَمِيْدُ السَّفِيْنَةُ، فَأَرْسَاهَا اللهُ بالْجِبَالِ الثِّقَالِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ ؛ أي جعلنا في الأرضِ طُرُقاً واسعةً ليهتدوا إلى مواطِنهم، والفَجُّ : الطريقُ الواسع بين الجبلَين. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سُبُلاً ﴾ تفسيرُ الفِجَاجِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً ﴾ ؛ أي مَحفوظاً من السُّقوط، وَقِيْلَ : مَحْفوظاً من الشياطينِ بالنُّجوم، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾[الحجر : ١٧]. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ﴾ ؛ يعني المشركينَ يُعرِضُونَ عن آياتِها، يعني شَمسها وقمرَها ونجومها، لا يتفكَّرون فيها فيعلمون أن خالِقَها لا شريكَ له.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ ؛ أي خلَقَهما بعد رَفْعِ السَّماء عن وجهِ الأرض وَسخَّرَ ﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ ﴾ ؛ من الشَّمس والقمر في مواضِعها التي رُكِّبَتْ فيها، ﴿ يَسْبَحُونَ ﴾ ؛ أي يَجْرُونَ بسرعةٍ كالسَّابحِ في الماء، وقد قال في مواضعٍ آخر﴿ وَالسَّابِحَاتِ سَبْح ﴾[النازعات : ٣] يعني النُّجومَ، قال الضحَّاك :(الْفَلَكُ هُوَ الْمَجْرَى الَّذِي يَجْرِي فِيْهِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)، ويقالُ : هو موجٌ كغرف يَجريان فيهِ. قال القتيبيُّ :(الْفَلَكُ الْقُطْبُ الَّذِي تَدُورُ بهِ النُّجُومُ، وَهُوَ كَوْكَبٌ خَفِيٌّ بقُرْب الْفَرْقَدَيْنِ، وَبَنَاتِ نَعْشٍ عَلَيْهِ تَدُورُ السَّمَاءُ). وقال الحسنُ :(هُوَ الطَّاحُونَةُ كَهَيْأَةِ فَلَكَة الْمِغْزَلِ)، فالفَلَكُ في كلامِ العرب : هو كلُّ شيءٍ دَائِرٌ، وجمعهُ أفْلاَكٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ﴾ ؛ رويَ أنّ هذا نَزَلَ جواباً لقولِ الكفَّار : ننتظرُ بمُحَمَّدٍ ريبَ المنونِ فنستريحُ منه، والمعنى : وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ البقاءَ الدائم ؛ يعني أن سَبيْلَهُ سبيلَ من مضى مِن بني آدم في الموت، ﴿ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴾ ؛ يعني مشركي مكةَ لَمَّا قالوا : نتربصُ بمُحَمَّدٍ ريبَ المنون، ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ﴾، فقيلَ لَهم : إنْ ماتَ فأنتم أيضاً تَموتون ؛ لأن كلَّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ.
قالت عائشةُ :(اسْتَأْذنَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَقَدْ مَاتَ وَأُسْجِيَ عَلَيْهِ الثَّوْبُ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَوَضَعَ فَمَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى صَدْغَيْهِ وَقَالَ : وَا نَبيَّاهُ ؛ وَا خَلِيْلاَهُ ؛ وَا صَفِيَّاهُ، صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ ؛ أي نَبْلُوكُمْ بالشدَّة والرَّخاء ؛ والمرضِ والعافيةِ ؛ والفقر والغنَى، كلاهُما ابتلاءٌ من الله، وتشديدٍ في التَّعَبُّدِ ؛ ليظهرَ شكرُهم فيما يُحبُّون، وصبرُهم فيما يكرهون ﴿ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ ؛ للجزاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً ﴾ ؛ روي أنَّ النَّبيَّ ﷺ مَرَّ بأَبي سُفْيَانَ وَأبي جَهْلٍ، فَقَالَ أبُو جَهْلٍ لأبي سُفْيَانِ : هَذا نَبيُّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، كَالْمُسْتَهْزِئ، فنَزلت هذه الآيةُ، ومعناها : وَإذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَتَّخِذُونَكَ إلاَّ هُزُواً، يستهزؤن بكَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَهَـاذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ﴾ ؛ أي يقولُ بعضُهم لبعضٍ : أهذا الذي يُعيبُ آلِهَتكم ويلومَكم على عبادتِها، تقولُ العرب : فلانٌ يذكرُ الناسَ ؛ أي يغتابُهم ويعيبُهم، وفلانٌ يذكرُ اللهَ ؛ أي يصفهُ بالعَظَمَةِ ويُثني عليهِ، فيحذفون من الذِّكر ما يُعْقَلُ معناهُ، فيكون معنى قوله :﴿ يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ﴾ أي يذكرُ آلِهتَكم بسوءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَـانِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ ؛ أي يَجحدون الألوهيَّة ممن هو منعمٌ عليهم، الْمُحيي الْمُمِيْتُ، وهذا في نِهاية جهلهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ ؛ أي خَلَقَ اللهُ الإنسانَ من عَجَلٍ مشتَهياً للعجلةِ فيها هواهُ، ولذلك تستعجلُ أهلُ مكة الوعدَ والوعيدَ، يقالُ : فلانٌ خُلِقَ مِن كذا ؛ أي أكثرَ ذلك الشيءَ كما يقال : خُلق فلانٌ من اللعب واللَّهو، والإنسانُ اسم جنسٍ.
وقال عكرمةُ :(لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيْهِ الرُّوحَ وَصَارَ فِي رَأسِهِ، أرَادَ أنْ يَنْهَضَ قَبْلَ أنْ تَبْلُغَ رجِلَيْهِ فَسَقَطَ، فَقِيْلَ : خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ). وقال السديُّ :(لَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ عَيْنَي آدَمَ نَظَرَ إلَى ثِمَار الْجَنَّةِ، فَلَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ فِي جَوْفِهِ اشْتَهَى الطَّعَامَ، فَوَثَبَ قَبْلَ أنْ يَبْلُغَ الرُّوحُ رجْلَيْهِ عَجَلاً إلَى ثِمَار الْجَنَّةِ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾. وإذا كان خَلْقُ آدمَ من عجلٍ وُجِدَ ذلك في أولادهِ، وأورثَ أولاده العجلةَ حتى استعجلوا في كلِّ شيءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي ﴾ ؛ يعني القتلَ ببدرٍ، ﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ ﴾ ؛ إنه نازلٌ بكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ؛ أي يقولُ المشركونَ متَى هذا الوعدُ الذي تَعِدُنَا، يريدون وعدَهم يومَ القيامة إن كنتَ مِن الصادقين في هذا الوعدِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ ؛ أي لو يعلمون ذلكَ ما استعجلوهُ ولا قالوا متَى هذا الوعدُ. وَقِيْلَ : معناهُ : لو عَلِمُوا ذلكَ لعلموا صِدْقَ مُحَمَّدٍ ﷺ فيما توَعَّدهم به.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً ﴾ ؛ معناهُ : بل تأتيهم الساعةُ فُجْأَةً وهم غافلون، ﴿ فَتَبْهَتُهُمْ ﴾ ؛ أي تُحَيِّرُهُمْ، يقال : بَهَتَهُ ؛ إذا واجَهَهُ بشيءٍ فَحَيَّرَهُ، ﴿ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ ؛ يُمهلون التوبةَ، أو عُذراً، أو صلاحَ عملٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ ﴾ ؛ أي ولقد استهزأتِ الأمَمُ من قبلك برُسُلهم، كما استهزأ بك قومُكَ، ﴿ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ ؛ بهم ؛ أي فَحَلَّ بهم وبَالَ استهزائِهم، وكان ما أرادوهُ بالداعي عائداً عليهم، كما قال تعالى :﴿ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾[فاطر : ٤٣]، وَقِيْلَ في الفَرقِ بين الْهُزْؤ وبين السُّخرِية : أن في السُّخرية طلبَ الذِّلَّةِ ؛ لأن التسخيرَ هو التذليلُ، وأما الْهُزْؤُ فهو استصغارُ القَدْر بضربٍ من القول.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَـانِ ﴾ ؛ أي قُل مَن يحفَظُكم من بَأْسِ الرَّحمن، وعوارضِ الآفات في الليل والنهار وعقوبات الدُّنيا والآخرة، ﴿ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ ؛ لا يلتفتون إلى شيءٍ من الْحُجَجِ والمواعِظ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا ﴾ ؛ مِن عذابنا، ﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ ﴾ ؛ معناه : أنَّ آلِهتَهم لا يقدرون على الدفعِ عن أنفسهم في دَرْءِ ما يَنْزِلُ بهم من كَسْرٍ أو فساد، فكان ينصرُهم ويَمنعُ عنهم مل يَنْزِلُ بهم، وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ ﴾ ؛ يعني الكفارَ. قال الكلبيُّ :(مَعْنَاهُ : وَلاَ هُمْ مُجَارُونَ مِنْ عَذابنَا) أي لا يُجيرهم منَّا أحدٌ، لأن الْمُجِيْرَ صاحبُ الْجَار، يقال : صَحِبَكَ اللهُ ؛ أي حَفِظَكَ اللهُ وأجاركَ. وقال قتادةُ :(مَعْنَاهُ : وَلاَ هُمْ يُصْحَبُونَ مِنَ اللهِ بخَيْرٍ) يقالُ أصْحَبْتُ الرجلَ إذا أعطيتهُ أمَاناً يأمنُ به.
وقولهُ :﴿ بَلْ مَتَّعْنَا هَـاؤُلاءِ وَآبَآءَهُمْ ﴾ ؛ يعني أهلَ مكَّة متَّعَهم اللهُ بما أنعمَ عليهم، ﴿ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ﴾ ؛ فاغْتَروا بذلكَ، والمعنى ما حَملهُم على الإعراضِ إلاّ الاغترارُ بطول الإمهالِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ ﴾ ؛ معناهُ : أفلا يُشاهدون أنَّا نفتحُ الآرضَ مِن جوانبها، وننقصُ من الشِّركِ بإهلاك أهلِها، فيزدادُ هو كلَّ يوم تَمكُّناً، وتزدادون ضَعْفاً ونقصاً ؟ والمعنى : ألَم يَرَ المشركون الذين يُحاربون النبيَّ ﷺ ويقاتلونَهُ أنا ننقصُهم، ونأخذ ما حولَهم من قُراهم وأرضهم ؟ أفلا يَرَون أنَّهم هم المنقوصُون والمغلوبون؟
ومعنى قولهِ تعالى :﴿ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ أي هم الغالبون للنبيِّ ﷺ، بل هو الغالبُ لَهم. وعن ابنِ عبَّاس في معنى نقصِها من أطرافها :(أيْ بذهَاب فُقَهَائِهَا وَخِيَار أهْلِهَا، فَكَيْفَ يَأمَنُ الرُّذالُ؟).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ ﴾ ؛ أي قل لَهم يا مُحَمَّدُ : إنَّما أخوِّفُكم من عذاب الله بالقُرْآنِ الذي يُوحَى إلَيَّ لا مِن قِبَلِ نفسي، وذلك أنَّ اللهَ أمَرَهُ بإنذارِهم، كقولهِ﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ ﴾[الأنعام : ٥١].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ﴾ ؛ هذا تَمْثِيْلٌ للكفار بالصُّمِّ الذين لا يسمعونَ النِّداءَ، والمعنى أنَّهم مُعانِدون، فإذا أسْمَعْتُهُمْ لَم يعملُوا بما سمعوهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ﴾ أي اذا ما يَخافُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ ياويْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ ؛ أي لو أصابَهم أدنَى عذابٍ لأيقَنُوا بالهلاكِ، وقال ابنُ كَيسان :(مَعْنَاهُ : وَلَئِنْ مَسَّهُمْ قَلِيْلٌ مِنْ عَذاب اللهِ)، وقال ابنُ جُريجٍ :(نَصِيْبٌ مِنْ عَذاب اللهِ)، والمعنى : ولئن مسَّهُم طَرَفٌ من العذاب لأيقنوا بالهلاك، ودَعَوا على أنفُسِهم بالويلِ مع الإقرار أنَّهم ظلَمُوا أنفُسَهم بالشِّركِ، وتكذيب النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وَالنَّفْحَةُ : هي الدفعةُ اليسيرة الواقعةُ مِن الشيء دون مُعْظَمِهِ، يقالُ : نَفَحَهُ نَفْحَةً بالسَّيْفِ ؛ أي ضَرَبَهُ ضربةً خفيفةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ﴾ ؛ أي نضعُ الموازينَ ذواتِ القسط لأهلِ يوم القيامة. قال الحسنُ :(هِيَ مِيْزَانٌ لَهُ كَفَّتَانِ وَلِسَانٌ، لاَ يُوزَنُ فِيْهَا غَيْرُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، يُجَاءُ بالْحَسَنَاتِ فِي أحْسَنِ صُورَةٍ، وَبالسَّيِّئَاتِ فِي أقْبَحِ صُورَةٍ، فَلاُ يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتٍ أحَدٍ، وَلاَ يُزَادُ فِي سَيِّئَاتِ أحَدٍ). وقال مجاهدُ :(هَذا مَثَلٌ، وَإنَّمَا أرَادَ بالْمِيْزَانِ الْعَدْلَ).
ويروى : أنَّ داودَ عليه السلام سألَ رَبَّهُ أن يُرِيَهُ الميزانَ، فلما رآهُ غَشِيَ عليهِ ثُم أفاقَ، فقال : إلَهِي مَن الذي يقدرُ أنْ يَملأ كفَّته حسناتٍ ؟ فقالَ : يا داودُ إنِّي إذا رضيتُ عن عبدي ملأتُهما بتمرةٍ. ويقالُ : إنَّما يُوزنُ خاتِمَةَ العملِ، فمَن كان خاتِمةُ عملهِ خيراً، جُوزيَ بخيرٍ، ومَن كان شرّاً جُوزيَ بشَرٍّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ﴾ ؛ وإن كان العملُ الذي عَمِلَهُ وزنَ حبَّة من خَرْدَلٍ أتَيْنَا بهَا للجزاءِ، وَقِيْلَ : معناهُ : وإنْ كان الظلامةُ مثقالَ حبَّة من خردلٍ أحضرناها للمجازاة حتى لا يبقى لأحدٍ عند أحدٍ ظلامةٌ.
قرأ أهلُ المدينةِ (مِثْقَالُ) بالرفع على (إنْ كَانَ) بمعنى وَقَعَ لا خبرَ لَها، وقرأ العامةُ بالنصب على معنى وإن كانَ ذلك الشيءُ، ومثلهُ في لقمان. قوله تعالى :﴿ وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ ؛ أي مُحْفِظِيْنَ، وَقِيْلَ : حافِظِين ؛ لأن مَن حَسَبَ شيئاً عَلِمَهُ وحَفِظَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ﴾ ؛ أي التوراةَ يُفَرَّقُ بها بين الحقِّ والباطلِ ؛ والحلالِ والحرامِ، ﴿ وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ ﴾ ؛ مِن صِفَةِ التوراة مثلُ قولهِ تعالى :﴿ هُدًى وَنُورٌ ﴾[المائدة : ٤٤]، والمعنى : أنَّهم استضاؤُا بها حتى اهتَدَوا في دِينهم، وقولهُ تعالى :﴿ وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ ﴾ أي موَعِظَةً للمتقين الكبائرَ والفواحشَ. وعن ابنِ عبَّاس : أنهُ كان يقرأُ (ضِيَاءً) بحذف الواوِ، وكان يقولُ :(آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ضِيَاءً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ﴾ ؛ في الدُّنيا غائبين عن الآخرةِ، ﴿ وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ﴾ ؛ أي خائفون من أن تلحَقَهم الساعةُ، مما يَجري فيها من الْمُحَاسَبَةِ قبلَ إصلاح أعمالِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ﴾ ؛ أي هذا القُرْآنُ الذي أنزلناهُ عليكَ يا مُحَمَّدُ، ذِكْرٌ يَتَبَرَّكُ به قارئهُ فيجزيه الأجرَ العظيم، ﴿ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ﴾ ؛ يا أهلَ مكَّة، وهذا توبيخٌ لَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ ﴾ ؛ أي مِن قبل بُلُوغِهِ، وَقِيْلَ : معناهُ : مِن قَبْلِ مُوسَى وهارون، والمعنى : آتيناهُ هُدَاهُ وهو صغير حين كان في السِّرْب حتى عرفَ الحقَّ من الباطلِ، ﴿ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾ ؛ أي آتيناهُ رُشْدَهُ، ﴿ إِذْ ﴾، حين، ﴿ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ﴾، في الوقت الذي خرجَ من أي التصاويرُ التي لأجلِها مقيمون عليها، ﴿ مَا هَـاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ بيَّنُوا بهذا الجواب أنه لا حُجَّةَ لَهم في عبادةِ الأصنام إلاَّ تقليدَهم لآبائهم، فأجابَهم إبراهيم، ﴿ قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴾ ؛ فِي عبادةِ الأصنام، ﴿ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ ؛ عن الحقِّ ظاهرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالُواْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ ﴾ ؛ قالوا له أجَادٌّ أنتَ فيما تقولُ ؟ مُحِقٌّ أم لاعبٌ مازحٌ ؟ وذلك لأنَّهم كانوا يستبعدون إنكارَ عبادتِها، ﴿ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فطَرَهُنَّ ﴾ ؛ أي بَلْ إلَهُكم مَالِكُ السَّمواتِ والأرضِ الذي خَلَقَهُن ﴿ وَأَنَاْ عَلَى ذالِكُمْ ﴾ ؛ ما قلتُ لكم ؛ ﴿ مِّنَ الشَّاهِدِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ﴾ ؛ أي لأُبْطِلَنَّهَا ولأَكْسِرَنَّهَا ولأَمْكُرَنَّ بها وقتَ مغيبكم عنها، وذلك لأنَّهم كانوا يعزمونَ على الذهاب إلى عِيدهم، فقال لَهم عند ذلك هذا القولَ. والكَيْدُ في اللغة : هو الإضْرَارُ بالشَّيءِ، قال مجاهدُ وقتادة :(إنَّمَا قَالَ إبْرَاهِيْمَ هَذا الْقَوْلَ فِي نَفْسِهِ مِنْ قَوْمِهِ سِرّاً، وَلَمْ يَسْمَعْ ذلِكَ إلاَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ الَّذِي أفْشَاهُ سِرَّهُ عَلِيْهِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ : سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبْرَاهِيْمُ).
قال الشعبي :(كان لَهم في كلِّ سنةٍ مَجْمَعٌ وَعِيْدٌ، وكانوا إذا رجعوا من عِيدهم دخلوا على الأصنامِ فسجَدُوا لَها، فلما كان ذلك العيدُ قال أبو إبراهيمَ لهُ : يا إبراهيمُ لو خرجتَ معنا إلى عيدنا لأَعْجَبَكَ دينُنا! فخرجَ إبراهيمُ معهم، فلما كان في بعضِ الطريق ألقَى نفسَهُ، وقال : إنِّي سَقِيْمٌ ؛ أي اشتَكِي رجْلِي، فربَطُوا رجلَهُ وهو صريع، فلما مضَوا نادى في آخرِهم : وَتَاللهِ لأَكِيْدَنَّ أصْنَامَكُمْ، ﴿ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ ﴾.
ثُم رجعَ إبراهيمُ إلى بيتِ أصنامهم، فوجدَ معهم صَنَماً كَبيراً إلى جنبه أصنامٌ أصغَرُ منه، وإذا هم قد جَمعوا طعاماً فوضعوهُ بين يَدَي الأصنامِ وقالوا : إذا كان وقتُ رجوعِنا رجعنا وقد باركَتِ الآلِهةُ لنا في طعامِنا فأكلنا، فلما نظرَ إبراهيمُ إليهم وإلى ما بين أيدِيهم من الطعام، قال لَهم على طريقِ الاستهزاء بهم : ألا تَأْكُلُونَ ؟ فلما لَم يُجيبوهُ، قال لَهم : مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ، فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بالْيَمِيْنِ، وجعل يكسِرُهم بفأسٍ في يده حتى لَم يبقَ إلاَّ الصنمُ العظيم، فعلَّقَ الفأسَ في عُنُقِهِ ثُم خرجَ). فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ ﴾ ؛ فإنه لَم يكسرْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ ﴾ فيه إضمارٌ ؛ أي لَمَّا ولَّوا مدبرينَ جعلَهُم جُذاذاً. قرأ الكسائيُّ بكسرِ الجيم أي كَسْراً وقطعاً، جمع جَذِيْذٍ وهو الهشيمُ مثل خَفِيْفٍ وخِفَافٍ وكريْمٍ وكِرَامٍ، وقرأ الباقون بضمِّ الجيم ؛ أي جعلهم حُطَاماً ورُفَاتاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ ﴾ فإنه لَم يكسره، ﴿ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ﴾ فيحتجُّ عليهم إبراهيم ويُبرهِنَ لهمْ على أن أصنامَهم لِمَ لَمْ تقدِرْ على دفع الكسرِ عن أنفُسِها ؟ فلِمَ يعبدُوها ؟ وكيف يكونُ إلَهاً مَن لا يقدرُ على دفعِ ما نَزَلَ به؟. وَقِيْلَ : معناهُ : لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ؛ أي إلى دِين إبراهيم، وإلى ما يدعوهم إليه بوجوب الْحُجَّةِ عليهم في عبادةِ ما لا يدفعُ الضُّرَّ عن نفسهِ، وينتهوا عن جهلهم وعِظَمِ خطاياهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالُواْ مَن فَعَلَ هَـاذَا بِآلِهَتِنَآ ﴾ ؛ فلمَّا رجعُوا مِن عيدهم ورأوا أصنامَهم مكسَّرةً، قَالُوا : مَنْ فَعَلَ هَذا بآلِهَتِنَا ؟ ﴿ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ أي فَعَلَ ما لَم يكن لهُ أن يفعلَ، فقال الذي سَمع إبراهيمَ ؛ ﴿ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ﴾ ؛ وذلك أن بعضَهم كانوا قد سَمعوهُ يذكرُ أصنامَهم بالعيب ويقولُ : إنَّها ليست بآلِهة.
فقالوا : ينبغي أن يكون ذلك الفتَى هو الذي كَسَرَها، ﴿ قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ ﴾ ؛ بذلك الفتَى، ﴿ عَلَى أَعْيُنِ ﴾ ؛ أي مَرْأى مِنَ، ﴿ النَّاسِ ﴾ ؛ لكي يشهدَ الذين عرفوهُ أنه يعيبُ الأصنامَ. وَقِيْلَ : إنه لَمَّا بلغَ النمرودَ وأشرافَ قومه ما فُعِلَ بأصنامِهم وما قالوهُ، في إبراهيمَ أنه هو الذي فعلَ ذلك، قال النمرودُ ومن معه : فَأْتُوا بهِ عَلَى أعْيُنِ النَّاسِ، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ﴾ ؛ أنه هو الذي فعَلَ ذلك بهم، وكَرِهُوا أن يأخذوهُ بغيرِ بَيِّنَةٍ. وَقِيْلَ : معناه : لعلَّهم يشهدون ما يُصنَعُ به من العقوبةِ ؛ أي يحضرون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالُواْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَـاذَا بِآلِهَتِنَا ياإِبْرَاهِيمُ ﴾ ؛ أي فلمَّا أتوا به قالوا : أنتَ فعلتَ هذا الكسرَ بآلِهتنا، ﴿ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـاذَا ﴾ ؛ الذي الفأسُ في عُنُقِهِ، ﴿ فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ ﴾ حتى يُخبرُوكم، وأراد بهذا تقريرهم بأنَّهم ظالِمون في عبادتِهم ما لا يدفعُ عن نفسه ؛ لأن جماعتَهم كانوا يعلمون أن الصنمَ لا يعقلُ ولا ينطق، فأرادَ إبراهيمُ بذلك تَبْكِيْتَ القومِ وتوبيخَهم على عبادةِ مَن لا يعقلُ ولا يفعل، ولذلك قال : فاسألوهم إنَّ كانوا يقدرون على النُّطقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ ﴾ ؛ أي فرَجَعُوا إلى أنفسهم بالْمَلاَمَةِ، ﴿ فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ ؛ في سؤالهِ ؛ لأنَّها لو كانت آلِهةً لَم يَصِلْ إلى كسرِها أحدٌ ؛ ﴿ ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ ﴾ ؛ أي أدركَتْهُم حيرةٌ فَنَكَّسُوا لأجلِها رؤوسَهُم، وأقرُّوا بما هو حُجَّةٌ عليهم، فقالوا :﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ ﴾ ؛ يا إبراهيم، ﴿ مَا هَـاؤُلاءِ يَنطِقُونَ ﴾ ؛ فكسَرْتُهم لذلكَ.
وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : تذكَّروا بقلوبهم، ورجَعُوا إلى عقولِهم، فقالوا : ما نراهُ إلاّ كما قالَ إنَّكُمْ أنْتُمُ الظَّالِمُونَ بعبادتِكم آلِهَةً لا تنطقُ ولا تبطشُ، ثُم أدركَتْهم الشقاوةُ، فعادوا إلى قولِهم الأوَّل وضلالِهم القديم، وهو قوله ﴿ ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ ﴾ أي رُدُّوا إلى الكفرِ بعد أن أقَرُّوا على أنفسِهم بالظُّلم، فقالوا لإبراهيم : لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤلاَء يَنْطِقُونَ فلذلِكَ كسرتَهم.
فلما اتَّجهت الْحُجَّةُ عليهم بإقرارهم، وبَّخَهُمْ إبراهيمُ و ﴿ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً ﴾ ؛ ولا يرزقُكم ﴿ وَلاَ يَضُرُّكُمْ ﴾ ؛ إذا لَم تعبدوهُ، ﴿ أُفٍّ لَّكُمْ ﴾ ؛ أي تَبّاً لكم، ﴿ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ ؛ أنَّ هذه الأصنامَ لا تستحقُّ العبادةَ، إذ هي أحجارٌ لا حركةَ لَها ولا بيانَ، أفليس لكم ذهنُ الإنسانيَّةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ ﴾ ؛ أي لَمَّا ألزمَتْهُم الحجةُ، وعجزوا عن الجواب غَضِبُوا فقالوا : حرِّقوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بتحريقهِ ؛ لأنه يعيبُها ويطعنُ فيها، فإذا حرقتموهُ كان ذلك نصراً منكم إياها. وَقِيْلَ : معناهُ : وانتقموا لآلِهتِكُم وعظِّمُوها، ﴿ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ ؛ في هذا شيئاً.
فاشتَغَلوا بجمعِ الحطب حتى كان الشيخُ الكبير يأتِي بالحطب تقرُّباً إلى آلِهتهم، وحتى أن المريضَ كان يُوصِي بكذا وكذا من مالهِ فيشتري به حَطَباً فيُلقَى في النار، وحتى أن المرأةَ لتغزلُ فتشتري به حطباً، وتلقيه في النارِ. قال ابنُ عمر :(إنَّ الَّذِي أشَارَ عَلَيْهِمْ بتَحْرِيْقِ إبْرَاهِيْمَ رَجُلٌ يُسَمَّى (هِيْزَنَ) فَخَسَف اللهُ بهِ الأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيْهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
فلما أجمعَ النمرودُ وقومه على إحراقِ إبراهيمَ حبسوهُ في بيتٍ وبَنَوا بيتاً كالحظيرةِ، فلذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ﴾[الصافات : ٩٧] ثُم جمعوا له أصلابَ الحطب مِن أنواع الخشب، حتى أن المرأةَ كانت إذا مرَّت تقولُ : إذا عافانِي اللهُ لأجمعنَّ حطباً لإبراهيمَ، وكانت المرأةُ تنذرُ في بعض ما تطلب لئن أصابته لتحطبنَّ في نار إبراهيم التي يحرقُ فيها احتساباً لدينها.
قال ابنُ اسحق :(كانوا يجمعون الحطبَ شهراً، فلما أجمعوا الحطبَ شعَلُوا في كلِّ ناحية ناراً، فاشتعلت النارُ واشتدَّت حتى أن الطائرَ كان إذا مرَّ بها احترقَ من شدَّة وَهَجِهَا، ثُم عمَدُوا إلى إبراهيمَ وقيَّدوهُ، ثُم اتخذوا مَنْجَنِيْقاً ووضعوهُ فيه مقيَّداً مغلولاً.
فصاحَتِ السمواتُ والأرض والملائكة صيحةً واحدة : يا ربَّنا إن إبراهيمَ ليس في أرضِكَ أحدٌ يعبدُكَ غيرهُ، أيُحْرَقُ؟! فَأْذنْ لنا في نُصرتهِ، فقال اللهُ : إن استعاذ بشيءٍ منكم أو دعاهُ فلينصره، فقد أذنتُ له في ذلك، وإن لَم يدعُ أحداً غيري فأنا أعلمُ به، فأنا وَلِيُّهُ، فَخَلُّوا بيني وبينَهُ.
فلما أرادوا إلقاءَهُ في النارِ، أتاهُ خازنُ الماء فقال لهُ : إن أذنتَ أخمدتُ النارَ، فإن خزائنَ المياه والأمطار بيدي، وأتاهُ خازن الرِّياحِ وقال : إن شئتَ طيَّرتُ النارَ في الهواء، فقال إبراهيمُ : لا حاجةَ لِي إليكم، ثُم رفعَ رأسَهُ إلى السَّماء وقال : اللَّهُمَّ أنتَ الواحدُ في السماء، وأنا الواحدُ في الأرضِ، ليس في الأرضِ أحدٌ يعبدك غيري، حَسْبي اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيْلُ).
وروي : أن إبراهيمَ قال حين أوثقوهُ ليلقوه في النارِ : لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ رَبُّ الْعَالَمِيْنَ، لَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الْمُلْكُ، لاَ شَرِيْكَ لَكَ. قال : ثُم رَمَوا به في المنجنيقِ، فاستقبلَهُ جبريلُ عليه السلام وقال : يا إبراهيمُ ألَكَ حاجةٌ ؟ قال : أمَّا إليكَ فلا.
قال جبريل : قال : حَسْبي من سؤالِي علمهُ بحالِي، فقال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(لَوْ لَمْ يُتْبعْ بَرْدَهَا سَلاَماً لَمَاتَ مِنْ بَرْدِهَا، فَلَمْ تَبْقَ يَوْمَئِذٍ نَارٌ فِي الأَرْضِ إلاَّ طُفِئَتْ وَخُمِدَتْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً ﴾ ؛ أي وأرادوا الحيلةَ في الإضرارِ، ﴿ فَجَعَلْنَاهُمُ ﴾ ؛ الكفارَ الذين أرادوا إحراقَهُ، ﴿ الأَخْسَرِينَ ﴾ ؛ بأن لَم يَتِمَّ ما عَزَمُوا عليه، وتبيَّن عجزُهم عن نصرهم لآلِهتهم، فخَسِرَ سعيُهم. وقال ابنُ عبَّاس :(هُوَ أنَّ اللهَ سَلَّطَ الْبَعُوضَ عَلَى النَّمْرُودِ وَجُنْدِهِ حَتَّى أخَذتْ لُحُومَهُمْ وَشَرِبَتْ دِمَاءَهُمْ، وَوَقَفَتْ وَاحِدَةٌ فِي دِمَاغِهِ حَتَّى أهْلَكَتْهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ ؛ أي نَجَّيْنَا إبراهيمَ من كيدِ النمرود، ونَجَّينَا لوطاً معهُ ؛ أي ورفعنا إبراهيمَ من الْهَلَكَةِ إلى الأرضِ المباركة وهي أرضُ الشَّام. وسُميت أرضُ الشامِ مباركةً ؛ لكثرةِ الأنبياء الذين بعثَهم اللهُ فيها. وعن أبي العاليةِ :(أنهُ ليس ماءٌ عذب إلاّ وهو يجرِي من الصخرة التي ببيت المقدسِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ﴾ ؛ أي ووهَبْنَا لإبراهيمَ وَلَدَهُ اسحقَ وولدهُ يعقوبَ، سُميَ يعقوبُ (نَافِلَةً) لأنه وَلَدُ وَلَدِهِ، والنافلةُ في اللغة : زيَادَةٌ على الأصلِ، ونوافِلُ : الصلاةُ ما تطوَّعَ به المصلِّي. ويقال : إنَّهما جميعاً نافلةٌ ؛ لأنَّهما عطيَّةً زائدةٌ على ما تقدَّم من النِّعَمِ. قال ابنُ عبَّاس وقتادةُ :(سَأَلَ إبْرَاهِيْمُ رَبَّهُ وَلَداً وَحِداً، فَقَالَ : رَب هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِيْنَ، فَأَعْطَاهُ اللهُ اسْحَقَ وَلَداً وَزَادَهُ يَعْقُوبَ)، قال ابنُ عبَّاس :(نَفَلَهُ يَعْقُوبَ ؛ أيْ زَادَهُ إيَّاهُ عَلَى مَا سَأَلَ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ﴾ ؛ يعني إبراهيمَ وإسحق ويعقوب، وجعلناهم أنبياءَ عاملين بطاعتنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً ﴾ أي قَادَةً في الخيرِ، ﴿ يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ﴾ ؛ أي يدعونَ الخلقَ إلى أمرِنا ودِيننا، ﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ﴾ ؛ أي شرائعَ النبوَّةِ، وَقِيْلَ : أمَرناهم بفعلِ الخيرات، ﴿ وَإِقَامَ الصَّلاَة وَإِيتَآءَ الزَّكَـاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ ﴾ ؛ أي خاضِيعين مطيعين. وإنَّما قال (وَإقَامِ الصَّلاَةِ) بغير (هاء) ؛ لأن الإضافةَ صارت عِوَضاً عن الهاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ﴾ ؛ أي وَآتَينا لوطاً النبوَّةَ والعلمَ، ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ ﴾ ؛ يعني سَدُومَ، كان أهلُها يأتون الذُّكران في أدبارهم، ويتضارطون في مجالسِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ﴾ ؛ قِيْلَ : إنَّهم كانوا يعملونَ مع ذلك أشياء أُخَرَ من المنكراتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ ﴾ ؛ بإنجائِنا إيَّاهُ من القومِ السُّوء وهلاكِهم، ﴿ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ ؛ أي مِن الأنبياءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ ﴾ ؛ أي واذكُرْ نوحاً إذْ نَادَى رَبَّهُ من قَبْلِ إبراهيمَ ولوطٍ يعني دعَا على قومه بالهلاكِ، فقالَ :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ﴾[نوح : ٢٦]، ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴾ ؛ ومَن معهُ من غَمٍّ الغرق وَكرْبهِ، والكَرْبُ أشدُّ الغَمِّ. ﴿ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ ؛ أي منعناهُم مِن أن يَصِلوا اليه بسوءٍ، ﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ ﴾ ؛ أي كفاراً، ﴿ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ ؛ بالطُّوفَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ﴾ ؛ أي وأكرَمْنا داودَ وسليمان بالنبوَّة والحكمةِ إذ يحكُمان في الحرثِ، وقال قتادةُ :(زَرْعاً)، وقال ابنُ مسعود :(كَانَ كَرْماً قَدْ نَبَّتَ عِنَباً)، قِيَّدَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ﴾ أي وقعت فيه باللِّيلِ ورَعَتْهُ وأفسدتهُ، والنَّفْشُ في اللغة : الرَّعْيُ بالليلِ، يقال : نَفَشَتِ السَّائمةُ بالليلِ، وهَمَلَتْ بالنهارِ إذا رَعَتْ، والْهَمَلُ الرعيُ بالنهارِ، وكلاهما الرعيُ بلا راعٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾ ؛ أي لا يخفَى علينا منه شيءٌ، ولا يغيبُ عن علمِنا، وإنَّما قال (لِحُكْمِهِمْ) بلفظ الجمعِ لإضافة الحكم إلى مَن حَكَمَ وإلى الْمَحكومِ لَهم، وقد يُذْكَرُ لفظُ الجمعِ في موضع التثنية﴿ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ﴾[النساء : ١١] أي أخَوَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾ ؛ أي فَهَّمْنَا القصةَ سليمانَ دون داود، ﴿ وَكُلاًّ ﴾ ؛ منهما ؛ ﴿ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ﴾ ؛ العلمُ والفصلُ بين الخصومِ.
قال ابنُ مسعودٍ وقتادةُ والزهريُّ :(وَذلِكَ أنَّ رَجُلَيْنِ دَخَلاَ عَلَى دَاوُدَ عليه السلام، أحَدُهُمَا صَاحِبُ حَرْثٍ، وَالآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ، فَقَالَ صَاحِبُ الزَّرْعِ وَالْكَرْمِ : إنَّ هَذا نَفَشَتْ غَنَمُهُ لَيْلاً فَوَقَعَتْ فِي حَرْثِي، فَلَمْ تُبْقِ مِنْهُ شَيْئاً. فَقَالَ : لَكَ رِقَابُ الْغَنَمِ - وَكَانَا فِي الْقِيْمَةِ سَوَاءً - فَأَعْطَاهُ الْغَنَمَ بالْحَرْثِ وَخَرَجَا.
فَمَرَّا عَلَى سُلَيْمَانَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ أحَدَ عَشَرَ سَنَةً، فَقَالَ : كَيْفَ قَضَى بَيْنَكُمَا ؟ فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ : نِعْمَ مَا قَضَى، وَغَيْرُ هَذا كَانَ أرْفَقَ بالْكُلِّ، وَلَوْ وُلِّيْتُ أمْرَكُمَا لَقَضَيْتُ بغَيْرِ مَا قَضَى. فَأُخْبرَ دَاوُدُ بذلِكَ فَدَعَا فَقَالَ : كَيْفَ تَقْضِي بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : أدْفَعُ الْغَنَمَ إلَى صَاحِب الْحَرْثِ فَيَكُونُ لَهُ نَسْلُهُمَا وَرسْلُهُمَا وَمَنَافِعُهَا وَسَمْنُهَا وَصُوفُهَا إلَى الْحَوْلِ، وَيَقُومُ أصْحَابُ الْغَنَمِ عَلَى الْكَرْمِ حَتَّى يَعُودَ كَهَيْأَتِهِ يَوْمَ أُفْسِدَ، ثُمَّ يَدْفَعُ هَؤُلاَءِ إلَى هَؤُلاَءِ غَنَمَهُمْ، وَيَدْفَعُ هَؤُلاَءِ إلَى هَؤُلاَءِ كَرْمَهُمْ.
فَقَالَ دَاوُدُ عليه السلام : نِعْمَ مَا قَضَيْتَ فِيْهِ، فَالْقَضَاءُ قَضَاؤُكَ. وَحَكَمَ دَاوُدُ بَيْنَهُمْ بذلِكَ، فَقُوِّمَ بَعْدَ ذلِكَ الْكَرْمُ وَمَا أصَابُوهُ مِنَ الْغَنَمِ فَوَجَدُوهُ مِثْلَ ثَمَرِ الْكَرْمِ)، وهكذا رُوي عن ابنِ عبَّاس.
قال الحسنُ :(كَانَ الْحُكْمُ مَا قَضَى بهِ سُلِيْمَانُ، وَلَمْ يُعْفِ اللهُ دَاوُدُ فِي حُكْمِهِ) وهذا يدلُّ على أنَّ كلَّ مجتهدٍ يصيبُ، وإلى هذا ذهبَ بعضُ الناسِ فقالوا : إذا نَفَشَتِ الغنمُ ليلاً في الزرعِ فأفسدتهُ، كان على صاحب الغنم ضمانُ ما أفسدته، وإن كان نَهاراً لَم يضمن شيئاً، واستدلُّوا أيضاً بما رُوي :" أنَّ نَاقَةً كَانَتْ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَئِطَ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْهُ، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى أهْلِ الأَمْوَالِ حِفْظَهَا بالنَّهَارِ، وَعَلَى أهْلِ الْمَوَاشِي حِفْظَهَا باللَّيْلِ ".
وأما أصحابُنا فلا يَرَوْنَ في هذه المسألةِ ضَمَاناً ليلاً ولا نَهاراً، إذا لَم يكن صاحبهُ هو الذي أرسله فيه، ولا حُجَّةَ لَهم في هذهِ الآية ؛ لأنهُ لا خلافَ أن مَن نَفَشَتْ إبلهُ أو غنمهُ في حرثِ رجلٍ أنه لا يجبُ عليه أن يُسَلِّمَ الغنمَ، ولا يسلمُ أولادَها وألبانَها وأصوافها إليه، فثبتَ أنَّ الْحُكْمَيْنِ اللذين حَكَمَ بهما داودُ وسليمان (عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ) مَنْسُوخَانِ بشريعةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وقد رُوي عن رسولِ الله ﷺ أنهُ قال :" الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ " وهذا خبرٌ مستعمل مُتَّفَقٌ على استعمالهِ في البهيمة الْمُنْفَلِتَةِ إذا أصابت إنساناً أو مالاً أنه لا ضمانَ على صاحبها إذا لَم يرسلْها هو عليه، وليس في قصَّة البراءِ بن عازب إيجابُ الضمان، ولأنّ الأشياءَ الموجبةَ للضمانِ لا تختلفُ بالليل والنهار.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ﴾ ؛ اي وسخَّرنا الجبالَ والطيرَ يسبحن مع داودَ ؛ أي أن الجبالَ كانت تسيرُ مع داود أين يذهبُ، ومما يؤيدُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ ؛ أي وسخَّرنا لسليمان الريحَ عاصفةً ؛ أي شديدَ الْهُبُوب. قال ابنُ عبَّاس :(إنْ أمَرَ الرِّيْحَ أنْ تَعْصِفَ عَصَفَتْ، وَإذا أرَادَ أنْ تُرْخَى أرْخَتْ). وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾[ص : ٣٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ ﴾ أي تجري بأمرِ سُليمان من اصْطَخَرَ إلى الأرضِ التي باركَ اللهُ فيها بالماءِ والشَّجر وهي الأرضُ المقدَّسة. روي : أنَّ الريحَ كانت تجري بسليمانَ وأصحابه إلى حيث شاءَ سليمانُ، ثُم يعودُ إلى منْزِله بالشَّامِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ﴾ ؛ بصحَّة التدبيرِ فيه، عِلمْنا أن ما يُعطى سليمان من تسخيرِ الريح وغيره يدعوهُ إلى الخضوعِ لربهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ ﴾ ؛ أي وسخَّرنا له مِن الشياطين في البحرِ لاستخراج ما شاء من لُؤْلُؤٍ ومَرْجَانٍ وغيرِ ذلك من الجواهر. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ ﴾ ؛ أي ويعملون دون الغواصة من أعمالِ البناء، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ﴾ ؛ أي مِن أنْ يُفسدوا ما عملوا، ومن أن يَهيجوا على أحدٍ في زمانه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ ﴾ ؛ أي دَخَلَ الضرُّ في جسدِي، ﴿ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ ؛ بالعبادِ، فكان هذا تَعْرِيْضاً منهُ بالدعاءِ لله لإزالة ما بهِ من الضُّرِّ، ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ﴾ دعاءَهُ، ﴿ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ﴾ ؛ وقولهُ تعالى :﴿ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ ﴾ ؛ قال ابنُ مسعود وقتادة والحسنُ :(أحْيَا اللهُ لَهُ أوْلاَدَهُ الَّذِيْنَ هَلَكُوا فِي الدُّنْيَا بأَعْيَانِهِمْ وَرَدَدْنَا لَهُ مِثْلَهُمْ).
ويقالُ : أبْدَلَهُ اللهُ بكلِّ شيء ذهبَ عنه ضِعْفَ، " وعن ابنِ عبَّاس قال : سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ ﴾ [ص : ٤٣] فقالَ :" يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، رَدَّ اللهُ امْرَأتَهُ وَزَادَ فِي شَبَابهَا حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً وَعِشْرِيْنَ ذكَراً ". قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا ﴾ ؛ أي فَعَلْنَا ذلك به رحمةً من عندنا، ﴿ وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ ؛ أي وموعظةً للمطيعين.
قال وهبُ بن مَنبه :(كان أيوبُ عليه السلام رجلاً من الرُّوم من ذريَّة اسحق بن إبراهيمَ وكانت أمُّهُ من ولدِ لُوطٍ، وكان اللهُ قد اصطفاهُ وبناه وبسطَ عليه الدُّنيا، وآتاهُ من أصناف المال من البقرِ والإبل والغنم والخيل والْحُمُرِ ما لا يؤتيهِ أحداً، وكان قد أعطاهُ الله أهلاً ووَلداً من رجالٍ ونساء، وكان له خمسمائة عبدٍ، لكلِّ عبدٍ امرأةٌ وولد ومال.
وكان أيوبُ عليه السلام بَرّاً تَقِيّاً رحيماً بالمساكين، يُكْرِمُ الأراملَ والأيتام ويَكْفُلُهُمْ، ويُكْرِمُ الضيفَ، وكان شَاكراً لأنْعُمِ اللهِ، مؤدِّياً لحقِّ الله، قد امتنعَ من عدوِّ الله إبليسَ أن يصيبَ منه ما يصيبُ من أهلِ الغِنَى من الفتنةِ والغفلة والشَّهوة والتشاغُلِ عن أمر الله بما هو فيه من الدُّنيا، وكان كثيرَ الذكرِ لله تعالى مجتهداً في العبادةِ، وكان إبليسُ لا يُحْجَبُ عن شيءٍ من السَّموات.
ومن هنا وصلَ إلى آدمَ عليه السلام حين أخرجَهُ من الجنةِ، فلم يزلْ على ذلك يصعدُ في السَّموات حتى رفعَ اللهُ عيسى عليه السلام فحُجِبَ من أربعٍ، وكان يصعدُ في الثلاثِ، فلمَّا بعثَ الله مُحَمَّداً ﷺ جُجِبَ من الثلاثِ الباقيات، فهو وجنودهُ مَحْجُوبُونَ من جميعِ السموات إلى يوم القيامةِ إلاّ مَن اسْتَرَقَ فأتبعهُ شهابٌ ثاقب.
فلما كان إبليسُ في زمان أيوبَ يصعدُ إلى السَّماء، سَمِعَ تحاديثَ الملائكة بصلاة أيوبَ، وذلك حين ذكَرَهُ اللهُ وأثنى عليهِ، فأدركَهُ الحسدُ بأيوب، فصعدَ سريعاً حتى وَقَفَ مِن السموات موقفاً كان يَقْفُهُ، وقال : إلَهي ؛ عبدُكَ أيوبُ قد أنعمتَ عليه فشكركَ، وعَافَيتَهُ فَحَمِدَكَ، ولَم تُجَرِّبْهُ بشدَّة ولا بلاءٍ، وأنا لك زعيمٌ لَئِنْ جرَّبتَهُ بالبلاءِ ليَكْفُرَنَّ بكَ.
فقالَ اللهُ تعالى : انطلق ؛ فَقَدْ سَلَّطْتُكَ على مالهِ، فانقضَّ إبليسُ حتى وقعَ على الأرضِ وجَمَعَ عفاريتَ الجنِّ وقال لَهم : ماذا عندَكُم من القوَّة ؟ فإنِّي قد سُلِّطْتُ على مالِ أيُّوبَ، وهي المصيبةُ الكبرى والفتنةُ التي لا تَصْبرُ عليها الرجالُ، فقال عفريتٌ من الجنِّ : أعطيتُ من القوةِ ما إذا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ إعصاراً من النار، وأحرقتُ كلَّ شيءٍ أتى عليه، فقال لهُ ابليسُ : إذهب إلَى الإبلِ ورُعاتِها، فذهب إلى الإبلِ فوجدَها في المرعى، فلم يشعُرِ الناسُ حتى ثارَ إعصارٌ تنفخُ منه السَّموم، لا يدنو منهُ أحدٌ إلاّ احترقَ، فلم يزل يُحرِقُها ورعاتَها حتى أتى على آخرِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً ﴾ ؛ يعني يُونُسَ بْنَ مَتَّى أحْبَسَهُ الله في بَطْنِ النُّونِ، وهو الحوتُ، ومعنى الآية : وَاذْكُرْ ذا الحوتِ إذْ ذهَبَ مُغَاضِباً لقومهِ. روي : أنهُ خرجَ مِن بينهم قَبْلَ أن يؤذنَ له في الخروجِ، وكان خروجهُ من بينهم خطيئةً، وإنَّما خرجَ منهم على تركِهم الإيْمانَ به، هكذا رُوي عن ابنِ عبَّاس والضحَّاك.
وَقِيْلَ : كان يونسُ وقومُهُ يسكنون فلسطين فعداهم مَلِكٌ فسبَى منهم خَلْقاً كثيراً، فأوحَى اللهُ إلى أشعيا النبيِّ عليه السلام : إذْهَبْ إلى الملكِ حزقيا فقُل له : تَوِّجْهُ نبيّاً قوياً أميناً، فإنِّي أُلقِي في قلوب أولئك التخلية حتى يُرسلوا معه بني إسرائيل، فقال الملكُ : مَن ترى يرسلُ ؟ وكان في مَملكته خمسةً من الأنبياءِ، فقال لهُ : أرسِلْ يونسَ فإنه قويٌّ أمين، فأتى الملكَ يونسُ فأخبرَهُ أن يخرجَ، فقال يونسُ : هل أمَرَكَ اللهُ بإخراجي ؟ قال : لاَ، فقال : فهل سَمَّانِي لكَ ؟ قال : لا، قال : فهنا أنبياءٌ غَيري أثوياءُ أمناءُ، فألَحَّوا عليه فخرجَ مُغاضِباً للنبيِّ والملكِ ولقومه.
فأتَى بحرَ الرُّوم، فإذا سفينةٌ مشحونةٌ فرَكِبَ مع أصحابها، فلما صارت في لُجَّةِ البحرِ انكفأَتْ حتى كادوا يغرَقون، فقال الملاَّحون : ها هنا عبدٌ آبقٌ عاصٍ، فاقترِعُوا، فمَن وقعت عليه القرعةُ ألقيناهُ في البحرِ، لئن يغرقَ واحدٌ منَّا خيرٌ مِن أن تغرقَ السفينةُ بما فيها. فاقترعوا ثلاثاً فوقعت القرعةُ كلُّها على يونسَ، فقال يونسُ : أنا الرجلُ العاصي والعبدُ الآبقُ، وألقَى نفسَهُ في الماءِ. فجاءَ حوتٌ فابتلعه، ثُم جاء حوتٌ آخر أكبرَ منه فابتلعَ الحوتَ أيضاً. فأوحىَ الله إلى الحوتِ لا تُؤْذِي منه شعرةً، فإنِّي قد جعلتُ بطَنَكَ سِجْنَهُ، ولَم أجعلْهُ رزْقاً لكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾، بالعقوبةِ، يقال قَدَرَ اللهُ الشيءَ وَقَدَّرَهُ ؛ أي قَضَاهُ. وَقِيْلَ : معناه : فَظَنَّ أن لن نُضَيِّقَ عليه السجنَ، من قولهِ تعالى :﴿ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ﴾[الطلاق : ٧] أي ضُيِّقَ، وَقولهِ﴿ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾[الروم : ٣٧]، وقد ضَيَّقَ اللهُ على يونس أشدَّ تضييقٍ. وَقِيْلَ : معناهُ :﴿ فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ ما قَدِرْنَا من كونه في بطنِ الحوت.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :(هِيَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ وَظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ)، وقال سالِمُ ابن أبي الْجَعْدِ :(كَانَ حُوتاً فِي بَطْنٍ حُوتٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أي الظَّالِمين لنفسِي في خُروجي من قومي قبلَ الإذن. قال الحسنُ :(وَهَذا مِنْ يُونُسَ اعْتِرَافٌ بذنْبهِ، وَتَوْبَتِهِ مِنْ خَطِيْئَتِهِ، تَابَ إلَى رَبهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ وَرَاجَعَ نَفْسَهُ). قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" إنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لاَ يَقُولُهَا مَكْرُوبٌ إلاَّ فَرَّجَ اللهُ عَلِيْهِ، كَلِمَةُ أخِي يُونُسَ : لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ﴾ ؛ أي أجَبْنَا دعوته ونَجَّيْنَاهُ من تلكَ الظُّلمات، ﴿ وَكَذالِكَ نُنجِـي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ إذا دَعَوْنِي، كما نَجَّينا ذا النُّون. قال رسولُ اللهِ ﷺ :" اسْمُ اللهِ إذا دُعِيَ أجَابَ، وَإذا سُئِلَ بهِ أُعْطَي : دَعْوَةُ يُونُسَ بْنِ مَتَّى " قِيْلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ هِيَ لِيُونُسَ خَاصَّةً أمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِيْنَ ؟ قَالَ : لِيُونُسَ خَاصَّةً، وَلَهُ وَلِلْمُؤْمِنِيْنَ عَامَّةً، أُدْعُوا بهَا، ألَمْ تَسْمَعْ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ وَكَذالِكَ نُنجِـي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ".
واختلفَتِ القراءاتُ في قولهِ ﴿ وَكَذالِكَ نُنجِـي الْمُؤْمِنِينَ ﴾، قرأ ابنُ عامرٍ وأبو بكرٍ :(نُجِّي الْمُؤْمِنِيْنَ) بنون واحدةٍ وتشديد الجيمِ وتسكين الياءِ. وجميعُ النحويين حَكَمُوا على هذه القراءةِ باللَّفظِ، وقالوا : هي لَحْنٌ، ثُم ذكرَ الفرَّاء لَها وجهاً فقالَ : أضْمَرَ الْمَصْدَرَ فِي (نُجِّي) أي نُجِّيَ النِّجاءُ الْمُؤْمِنِيْنَ، كَقَوْلِكَ : ضَرَبْتُ الضَّرْبَ زَيْداً عَلَى إضْمَار الْمَصْدَر ؛ أي ضُرِبَ الضَّرْبَ زَيْداً، وقال الشاعر : وَلَوْ وَلَدَتْ قُفَيْرَةُ جَرْوَ كَلْبٍ لَسُبَّ بذلِكَ الْجَرْو الْكِلاَبَاومِمن صوَّبَ هذه القراءةَ أبو عُبيد، وأما أبو حاتَم السَّجستانِيُّ فإنه لَحَنَهَا ونسبَ قارئَها إلى الجهلِ وقال :(هَذا لَحْنٌ لاَ يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ، وَلاَ يُحْتَجُّ بمِثْلِ ذلِكَ الْبَيْتِ عَلَى كِتَاب اللهِ، إلاَّ أنْ تَقُولَ : وَكَذِكَ نُجِّيَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَوْ قَرَأ ذلِكَ لَكَانَ صَوَاباً).
قال أبو علي الفارسيُّ :(هَذا إنَّمَا يَجُوزُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، فَإنْ قِيْلَ : لِمَ كُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ بنُونٍ وَاحِدَةٍ ؟ قِيْلَ : لأنَّ الثَّانِيَةَ لَمَّا سُكِّنَتْ وَكَانَ السَّاكِنُ غَيْرَ ظَاهِرٍ عَلَى اللِّسَانِ حَذفَهُ، كَمَا فَعَلَ ذلِكَ فِي (ألاَّ) فَحَذفُوا النُّونَ مِنْ (أنْ لاَ) لخفائها إذا كَانْتْ مُدْغَمَةً فِي اللاَّمِ).
وقولهُ تعالى :﴿ وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ﴾ ؛ أي وَاذْكُرْ دعاءَ زكريَّا إذْ نَادَى رَبَّهُ فقالَ رب لا تترُكْني وحيداً ؛ أي ارزُقْنِي ولداً آنسُ به ويعينني على أمرِ الدِّين والدُّنيا، ويقومُ بأمرِ الدين بعد وفاتِي، وأنتَ وارثُ جميعِ الخلق ؛ لأنَّ مردَّهم صَائرُون إليكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ﴾ ؛ أي فأَجَبْنَا له دعاءَه هذا، ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ﴾ ؛ عَقْرَ امرأتهِ، قال قتادةُ :(كَنَتْ عَقِيْماً فَجَعَلْنَاهَا وَلُوداً)، وَقِيْلَ : كانت سيِّئة الْخُلُقِ فرزَقَها اللهُ حُسن الْخُلقِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ﴾ ؛ أي يُبَادِرُونَ إلى الطاعات مخافةَ أن يَعْرِضَ لَهم ما يَشْغَلُهُمْ عنها، ويعني بذلكَ زكريَّا وامرأتَهُ ويَحيى، وقال بعضُ المفسِّرين : الكنايةُ تعود على الأنبياءِ الذين ذكَرَهم اللهُ في هذه السورةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً ﴾ ؛ أي طَمَعاً في ثوابنا وخَوْفاً من عقابنا، ﴿ وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ ﴾ ؛ أي خاضِعين حَذِرينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ﴾ ؛ وهي مَرْيَمُ بنتُ عِمْرَانَ، ﴿ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ﴾ ؛ أي نَفَخَ جبريلُ في جَيْب دِرْعِهَا بأمرِنا، والمعنى : وَاذْكُرِ التي حَفَظَتْ فرجَها مما لا يحلُّ.
وقولهِ تعالى :﴿ وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ ؛ أي دلالةً للعالَمين من حيث أنَّها جاءت بالولدِ من غير بَعْلٍ، تكلَّم في المهدِ بما يوجبُ براءةَ شأنِها من العيب، وفي ذلك دليلٌ على مَقْدُورَاتِ الله، وعلى هذا لَم يقل آيَتَينِ ؛ لأنَّ شأنَهما في الدلالةِ كان واحداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ هَـاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ قال ابنُ عبَّاس ومجاهدُ والحسن :(مَعْنَاهُ إنَّ هَذا دِيْنَكُمْ دِيْنٌ وَاحِدٌ) والأُمَّةُ الدِّيْنُ، ومنهُ قولهُ﴿ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ﴾[الزخرف : ٢٢] أي على دِيْنٍ. الأصلُ أنه يقالُ للقومِ الذين يجتمعون على دِيْنٍ واحد : أُمَّةٌ، فتقوم الأمَّةُ مقامَ الدِّينِ. وهو نُصِبَ على الحالِ ؛ أي حالَ اجتماعها على الحقِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ ؛ أي لا دِيْنَ سِوَى ديني ولا ربَّ غيرِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ﴾ ؛ معناهُ : كان أمرُهم في الدِّين واحداً، ولكن تفرَّقُوا واختلفوا بما لا يجوزُ ؛ وهم اليهودُ والنصارى والْمَجوس. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ﴾ أي جميعُ أهلِ هذه الأديان راجعون إلى حُكْمِنَا يومَ القيامةِ، فنجزيَهم بأعمالِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ﴾ ؛ أي لا جُحُودَ لعملهِ، بل يتقبَّلُها اللهُ ويُثنِي عليها، والمعنى : لا يَمْنَعُ ثوابَ عملهِ، ولا يَجْحَدُ إحسانَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ﴾ ؛ أي نَأْمُرُ الْحَفَظَةَ أن يكتُبوا لذلكَ العاملِ عملَهُ لنجازيَهُ عليهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ ؛ أي واجبٌ على كلِّ قرية اذا أُهْلِكَتَ لا ترجعُ إلى دُنيَاهَا. قال الكلبيُّ :(يَعْنِي بقَوِلِهِ ﴿ أَهْلَكْنَاهَآ ﴾ عَذبْنَاهَا أنَّهم لا يرجعونَ إلى الدُّنيا). والمعنى : أنَّ الله تعالى حَكَمَ على مَن أُهْلِكَ أن يبقَى في الأرضِ مدفوناً إلى يومِ القيامة، وأن لا يرجعَ إلى الدُّنيا. قرأ حمزةُ والكسائي :(وَحِرْمٌ) بكسرِ الحاء وجزمِ الراء من غير ألِفٍ، وهما لُغتان مثل حِلٍّ وَحِلاَّنٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ﴾ ؛ أي إذا فُتحت جهة يأجوجَ ومأجوج، وفتحُها إخراجُها من السدِّ. قرأ ابنُ عامر ويعقوب :(فُتِّحَتْ) بالتشديدِ على التكثير.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ ﴾ ؛ أي من كلِّ أكَمَةٍ ورَبْوَةٍ مرتفعةٍ من الأرض يخرجون بإسراع، والْحَدَبُ : الارتفاعُ ومنه الْحَدَبَةُ خروجُ الظَّهرِ، وتبيِّنهُ. والنُّسُولُ : هو الخروجُ بسرعةٍ كَنَسَلاَنِ الذِّئْب يعني مشيه اذا أسرعَ فيها.
والمعنى : أنَّهم مِن كلِّ نَشْرٍ من الأرضِ يُسرعون ويتفرَّقون في الأرضِ، فلا يُرَى أكمةً إلاَّ وفوقَها قومٌ منهم يهبطون منها مُسرعينَ، فلا يَمرُّونَ بماءٍ إلاّ شَرِبُوهُ ولا بشيءٍ إلاّ أفسدوهُ.
قال المفسِّرون : أولادُ آدمَ عشرةُ أجزاءٍ، تسعةٌ يأجوجُ ومأجوجُ، وقد ذكرنا قصَّتَهم في سورةِ الكهف.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ﴾ ؛ قِيْلَ : إن الواوَ ها هنا مُقْحَمَةٌ، والمعنى : حَتَّى إذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ، يكون ذلكَ عندَ اقتراب السَّاعة، وذكَرَ الوعدَ والمراد به الْمَوْعِدَ.
رُوي عن حذيفةَ رضي الله عنه أنَّهُ قالَ :(لَوْ أنَّ رَجُلاً اقْتَنَى فُلُوّاً بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَمْ يَرْكَبْهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ؛ أي تَشْخَصُ أبصارُهم يومَ القيامة نحو الجهةِ التي يتوقَّعون نزولَ العذاب بهم منها. وَقِيْلَ : خَشَعَتْ أبصارُهم من شدَّة الأهوالِ ذلكَ اليوم. قال الكلبيُّ :(شَخَصَتْ أبْصَارُهُمْ فَلاَ تُطِيْقُ تَطْرُفُ مِنْ شِدَّةِ الأَهْوَالِ)، فأما الضميرُ في قولهِ ﴿ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ ﴾ يعودُ إلى معلومٍ قد بَيَّنَهُ وهو قولهُ ﴿ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، كقولِ الشاعر : لَعَمْرُ أبيْهَا لاَ تَقُولُ ظَعِيْنَتي إلاَّ فَرَّ عَنِّي مَالِكُ بْنُ أبي كَعْبفكنى عن الظعينة ثم أظهرها ويكونُ تقديرُ الكلامِ : فإذا الأَبْصَارُ شَاخِصَةٌ أبْصَارُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا. وَقِيْلَ : يكون قوله (هِيَ) عمادٌ مثلُ قوله﴿ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ ﴾[الحج : ٤٦]. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياوَيْلَنَا ﴾ ؛ أي قالوا يَا وَيْلَنَا ؛ ﴿ قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـاذَا ﴾ ؛ اليومِ في الدُّنيا، ﴿ بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ ؛ لأنفُسِنا بالكفرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ ؛ معناه : إنَّكم يا أهلَ مكَّة وما تعبدون من الأصنامِ وَقُودُ جهنَّم. والْحَصَبُ في اللغة : هو كُلُّ ما يُرمى بهِ، يقال : حَصَبَةُ بالْحَصَا إذا رماهُ بها، وفي القراءةِ الشاذة :(حَصَبُ جَهَنَّمَ) وهي قراءةُ ابنِ عبَّاس، والْحَضَبُ : ما يُهَيَّجُ به النارُ، ومنه قيلَ لدِقَاقِ النار حَصَبٌ. وقرأ عليٌّ وعائشةُ :(حَطَبُ جَهَنَّمَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ أي فيها خالدون، والحكمةُ في إدخالِ الأصنام النارَ مع أنَّها لا ذنْبَ لَها في عبادةِ مَن يعبدُها : أن يُقصدَ بإدخالِها تعذيبُ عُبَّادِهَا، فما كان منها حَجَراً أو حديداً يُحْمَى فَيَلْتَزِقُ بعُبَّادها، وما كان منها خَشَباً جُعِلَ جَمْرَةً فيعدبون بها، أو يكون في إدخالِ معبُودِهم معهم في النار زيادةَ ذُلٍّ وصَغَارٍ عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَوْ كَانَ هَـاؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا ﴾ ؛ اسْتِجْهَالاً لَهم في عبادة الأصنامِ ؛ أي لو كان الأصنامُ آلِهَةً كما يزعمُ الكفار ما وَرَدُوهَا ؛ أي دخلَ عابدُوها النارَ، ﴿ وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ ؛ يعني العابدُ والمعبودُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ ؛ الزَّفِيْرُ شِدَّةُ النَّفَسِ بهَوْلِ ما يردُ على صاحبهِ، وهم فيها لا يَسْمَعُونَ شيئاً، ولا يرَى أحدٌ منهم أنَّ في النارِ أحداً يُعَذبُ غيرهُ. قال ابنُ مسعودٍ :(يُجْعَلُونَ فِي تَوَابيتَ مِنْ نَارٍ، ثُمَّ جُعِلَتْ تِلْكَ التَّوَابيْتُ فِي تَوَابيْتَ أُخْرَى فَلاَ يَسْمَعُونَ شَيْئاً).
" وعن رسولِ الله ﷺ : أنَّهُ أتَى قُرَيْشاً وَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ مُجْتَمِعُونَ وَحَوْلَهُمْ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَماً مَصْفُوفَةً، لِكُلِّ قَوْمٍ صَنَمٌ لَهُمْ، فَقَالَ ﷺ :" إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ " ثُمَّ ذهَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَشُقَّ عَلَيْهِمْ ذلِكَ، فَأَتَاهُمْ عَبْدُاللهِ بْنُ الزُّبْعَرِىِّ فَرَآهُمْ يَتَهَامَسُونَ، فَقَالَ : فِيْمَ حَوْصُكُمُ؟! فَأَخْبَرَهُ الْوَلِيْدُ بْنُ الْمُغِيْرَةِ بمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبْعَرِىِّ : أمَا وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ لَخَصَمْتُهُ.
فَدَعَوا رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ ابْنُ الزبعرى : أنْتَ قُلْتَ أنَّا وَمَا نَعْبُدُ فِي النَّار ؟ قَالَ : خَصَمْتُكَ وَرَب الْكَعْبَةِ، ألَيْسَتِ الْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْراً، وَالنَّصَارَى تَعْبُدُ الْمَسِيْحَ، وَبَنِي مَلِيْحٍ يَعْبُدُونَ الْمَلاَئِكَةَ! أفَتَرَى أنَّ هَؤُلاَءِ لاَ يَكُونُونَ فِي النَّار ؟ فَبَيَّنَ لَهُ النَّبيُّ ﷺ أنَّ اللهَ تَعَالَى أرَادَ بهِ الأَوْثَانَ ". وفي الآية ما يدلُّ على ذلكَ ؛ لأنَّ قولَهُ تعالى﴿ وَمَا تَعْبُدُونَ ﴾[الأنبياء : ٩٨] لا يكون إلاَّ لِمَا لا يعقلُ، إذ لو أرادَ الملائكةَ والناسَ لقال (وَمَنْ تعبدون). ثُم أنزلَ اللهُ تعالى :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ ؛ معناهُ : أنَّ عيسى وعُزَيراً والملائكةَ هم الذين سَبَقَتْ لَهم مِنَّا الْحُسْنَى ؛ أي وَجَبَتْ لَهم العِدَةُ من اللهِ تعالى بالبُشرى والسعادة.
ويدخلُ في هذه الآية جُملة المؤمنين ؛ لما رُوي لأنَّ عثمان سَمِعَ عليّاً كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ يقرأ هذه الآيةَ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ قال :(أنَا مِنْهُمْ وَأبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ وَسَعِيْدُ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ وَأبُو عُبَيْدَةَ). وقال الجنيدُ :(سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْعِنَايَةُ فِي الْهِدَايَةِ، فَظَهَرَتِ الْوِلاَيَةُ فِي النِّهَايَةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾[الأنبياء : ١٠١] مُنَحَّوْنَ عن النار، ﴿ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ﴾ ؛ أي حِسَّهَا وحركةَ تلهُّبها، والمعنى : لا يسمعون صوتَ النارِ، ﴿ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ﴾ ؛ أي فِي مَا اشْتَهَتْ أنفُسُهُمْ من نعيمِ الجنَّة مقيمون دائمون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ ﴾ ؛ قال أكثرُ المفسِّرين : يعني إطباقَ جهنَّم على أهلِها، وقال ابنُ عباس :(النَّفْخَةُ الأَخِيْرَةُ). وَقِيْلَ : هو ذبحُ الموتِ بين الفريقين. وَقِيْلَ : هو حين يؤمرُ بأهلِ النار إلى النار، وذلك حين يقالُ﴿ وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ﴾[يس : ٥٩]. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ﴾ ؛ أي بالتَّهنئةِ على باب الجنَّة، فيقولون لَهم :﴿ هَـاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس ومجاهدُ :(السِّجِلُّ هُوَ الصَّحِيْفَةُ تُطْوَى بمَا فِيْهَا مِنَ الْكِتَابَةِ) وَاللاَّمُ في قوله (لِلْكُتُبِ) : بمعنى (على)، وقال السديُّ :(هُوَ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بالصُّحُفِ، إذا مَاتَ الإنْسَانُ رُفِعَ كِتَابُهُ إلَيْهِ فَطَوَاهُ). وَقِيْلَ : إن السِّجِلَّ كاتبٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم. ويقالُ : هو الرجلُ بلغة الحبَشَة.
قرأ أبو جعفرٍ :(تُطْوَى السَّمَاءُ) بالتاء، ورفعَ (السَّمَاءُ) على ما لَم يُسَمَّ فاعلهُ. وقرأ أهلُ الكوفة :(لِلْكُتُب) على الجمعِ.
والمرادُ بطَيِّ السَّماءِ أنَّ اللهَ تعالى يَطْوِيْهَا، ثُم يفتحُها ثم يُعيدها، ولذلك قال :﴿ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ﴾ ؛ أي كما بدأناها أوَّلَ مرَّة، نعيدُها إلى الحالةِ الأُولى. ويجوزُ أن يكون معنى قولهِ ﴿ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ﴾ نعيدُ الخلقَ للبعثِ كما بدأناهُ في النُّطفةِ، ودليلُ هذا القولِ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾[الأعراف : ٢٩].
والطَّيُّ في هذه الآيةِ يحتملُ معنَيين ؛ أحدهما : الدَّرْجُ الذي هو ضِدُّ النَّشْرِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾[الزمر : ٦٧]. والثَّانِي : الإخفاءُ والتَّعْمِيَةُ والْمَحْوُ والطَّمسُ ؛ لأن اللهَ تعالى يَمحُو رسُومَها ويُكْدِرُ نُجومَها. وَقِيْلَ : معنى قولهِ تعالى ﴿ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ﴾ : كما بدأنَاهُم في بطُونِ أمَّهاتِهم حفاةً عُراة غُرْلاً، كذلك نعيدُهم يومَ القيامةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعْداً عَلَيْنَآ ﴾ ؛ نُصِبَ على المصدرِ بمعنى : قد وَعَدْنَاهم هذا وَعْداً، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ ؛ ما وعَدْنَاكم مِن ذلك، وَقِيْلَ : فاعلينَ الإعادةَ والبعثَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ ؛ أي كَتَبْنَا في زَبُورِ داودَ مِن بعدِ توراةِ مُوسى. وقال ابنُ عبَّاس والضحَّاك :(الذِّكْرُ التَّوْرَاةُ، وَالزَّبُورُ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ بَعْدِ التَّوْرَاةِ). وَقِيْلَ : الزبورُ زبورُ داودَ، والذِّكْرُ الفرقانُ، و(بَعْدِ) بمعنى (قَبْلِ) كقولهِ تعالى﴿ وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ ﴾[الكهف : ٧٩] أي أمَامَهُم، وقولهُ﴿ وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾[النازعات : ٣٠] أي قَبْلَ ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ يعني أرضَ الجنَّة يرِثُها عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَقِيْلَ : جميعُ المؤمنينَ العاملين بطاعة الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ فِي هَـاذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ﴾ ؛ أي إنَّ في هذا القُرْآنِ بلاغاً للكفاية، والمعنى : أن من اتبع القرآن وعمل به كان بلاغهُ في الجنَّة، وقولهُ تعالى ﴿ لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ﴾ ؛ قال كعبٌ :(هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّذِيْنَ يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَيَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ). ورُوي :" أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَرَأ ﴿ إِنَّ فِي هَـاذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ﴾، ثُمَّ قَالَ :" هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ ؛ معناهُ : وَمَا أرْسَلْنَاكَ يا مُحَمَّدُ إلاّ نِعْمَةً للعالَمين. قال ابنُ زيد :(يَعْنِي لِلْمُؤْمِنِيْنَ خَاصَّةً)، وقال ابنُ عبَّاس :(هُوَ عَامٌّ، فَمَنْ آمَنَ بهِ كُتِبَ لَهُ مِنَ الرَّحْمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ عُوفِيَ مِمَّا أصَابَ الأُمَمَ مِنَ الْمَسْخِ وَالْخَسْفِ وَالْغَرْقِ). والمعنى : أنهُ كان إذا أُرْسِلَ نبيٌّ من الأنبياءِ ؛ فإنْ آمَنَ به قومهُ وإلاّ عُذِّبُوا، وأُرسل النبيُّ ﷺ فكان كلُّ مَن كفرَ به يؤخَّرُ إلى يومِ القيامة فهو نعمةٌ على الكافرِ إذ عُوفِيَ مما أصابَ الأممَ من المسخِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَيَّ ﴾ ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : إنَّما يُوحَى إلَيَّ في القُرْآنِ ؛ ﴿ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ ﴾ وهو اللهُ لا شريكَ له ؛ ﴿ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ يا أهلَ مكَّة مُسلمونَ مُخلصون لهُ بالعبادة والتوحيدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ ؛ أي فإنْ اعرضضُوا عن قبولِ قولِكَ، ﴿ فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ ﴾ ؛ أي أعلمْتُكم بالوحي من اللهِ على سواءٍ في الإعلامِ ؛ أي لَم أُظْهِرْ بعضَكم على شيءٍ كتمتهُ عن غيرهِ. وَقِيْلَ : عَلَى سَوَاءٍ في العلمِ، إنِّي حربٌ لكم لا صُلْحَ بيننا، وإنِّي مخالفٌ لدِينكم فتأهَّبوا لِما يُراد بكم ؛ إذ ليس العِنَادُ من أخلاقِ الأنبياء صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾ ؛ أي مَا أدْري متى توعدون به من العذاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ﴾ ؛ معناهُ : إن اللهَ يعلمُ ما تُعْلِنُونَ به من القولِ، ويعلمُ ما تَكْتُمُونَ من سرِّكم، لا يغيبُ مِن عِلْمِهِ شيءٌ منكم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ ﴾ ؛ أي ومَا أدْري لعلَّ تأخيرَ العذاب اختبارٌ لكم ؛ ليَرَى كيفَ صُنْعُكُمْ، ﴿ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ ؛ آجالِكُم ؛ أي تُمتَّعون إلى انقضاءِ آجالِكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ ﴾ ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : رب احْكُمْ بعذاب أهلِ مكَّة الذي هو حقٌّ نازلٌ بهم، والحقُّ : ها هُنا هو العذابُ، كأنه استعجلَ العذابَ لقومه، فعُذِّبُوا يومَ بدرٍ. قال قتادةُ :" كَانَ النَّبيُّ ﷺ إذا شَهِدَ قِتَالاً قَالَ :" رَب احْكُمْ بالْحَقِّ " قال الكلبيُّ :(فَحَكَمَ عَلَيِهِمْ بالْقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَيَوْمَ الأَحْزَاب، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ، وَيَوْمَ الْخَنْدَقِ). والمعنى : أفْصِلْ بَيْنِي وبين المشركين بما يظهرُ به مِن الحقِّ للجميعِ.
وقرأ حفصٌ :(قُلْ رَب احْكُمْ بالْحَقِّ) على الخبرِ ؛ أي قالَ الرسولُ ذلك. وقرأ الضحَّاك ويعقوب :(قِيْلَ رَب احْكُمْ بالْحَقِّ) بإثبات الياءِ على وجه الخبرِ ؛ أي هو أحكَمُ الحاكِمين، وكيفَ يجوزُ أن يسألَهُ أن يَحْكُمَ بالحقِّ، وهو لا يحكمُ إلاّ بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَرَبُّنَا الرَّحْمَـانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ ؛ أي على كَذِبكُمْ وباطلِكم وقولِكم : ما هَذا إلاَّ بَشَرٌ مثلُكم، وقولكم : اتَّخَذ الرحمنُ ولَداً. والوَصْفُ بمعنى المكذب كقولهِ تعالى﴿ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ﴾[الأنعام : ١٣٩]، وقولهِ﴿ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾[الأنبياء : ١٨].
Icon