تفسير سورة الأعراف

زهرة التفاسير
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب زهرة التفاسير المعروف بـزهرة التفاسير .
لمؤلفه محمد أبو زهرة . المتوفي سنة 1394 هـ

(المص) قد تقدم القول في الحروف المفردة التي تبتدئ بها أوائل بعض السور، وهي من المتشابه الذي اختص به علم الله.
* * *
(كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ... (٢)
* * *
كتاب خبر لمبتدأ محذوف، أو خبر (المص) على نظر بعض الذين قالوا: إنها اسم للسورة أو الكتاب، والتنكير هنا لبيان شرفه العظيم، أي أنه كتاب بالغ الغاية في شرفه ورفعته ومؤداه، لأنه منزل من عند الله تعالى العالم بكل شيء،
2781
والقادر على كل شيء العزيز الحكيم، وقال: (أُنزِلَ إِلَيْكَ)، أي أنه أنزل إليك وهو المعجزة التي تتحدى بها الخليقة أن يأتوا بسورة من مثله، فلا يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
والحرج الضيق، وأن يحس بأن الناس يجب أن يؤمنوا فلا يؤمنوا، كما قال تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وكما قال تعالى:
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)، فحرص النبي - ﷺ - على إجابة الكافرين كان يجعله في حرج نفسي، إذ إن المؤمن بالحق يكون دائما حريصا على إجابة الناس له، فإن لم يجيبوا ضاق بذلك صدره من غير مغاضبة ولا معاندة، كما هو شأن النبيين - عليهم الصلاة والسلام - وقد قال تعالى: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢).
والمؤدى في كل هذا أن النبي - ﷺ - كان يضيق من الإنكار لأمر صادق لَا مرية فيه، فالله تعالى يبين له أنه ليس عليه إلا الإنذار.
وقوله تعالى: (فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ منْهُ)، الفاء هنا لترتب ما بعدها على ما قبلها، والمعنى: هذا كتاب مبارك هاد مرشد، منير للحق، فإذا لم يجيبوا فلا يكن في صدرك ضيق، فليس ذلك لنقص فيك أو فيه، وإنما هو لنقص فيهم وقد أنذرتهم، وحسبك ذلك وكفى.
وقد ذكر الله غاية الكتاب والرسالة فقال: (لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ).
فالغاية من الكتاب الخالد أنه معجز بذاته، ولتنذر به الذين يكفرون، بأن تبين بالكتاب عاقبة كفرهم، وسوء النتيجة التي تنزل بهم، وهي العذاب الأليم، وليس عليك تبعة كفرهم، إنما أنت منذر ولكل قوم هاد، وإنك لَا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.
2782
هذا بالنسبة لمن لم يؤمن، فهو لهبم منذر مبين يحمل دليله في ذاته، وبالنسبة للمؤمنين قال تعالى: (وَذِكرَى لِلْمؤْمِنِينَ) والذكرى هي التذكير الدائم، فهذا الأمر ذكرى لكذا، أي مذكر دائم مستمر، يرجعون إليه، والقرآن ذكرى دائمة فيه التذكير الدائم برسالة النبي - ﷺ -، وفيه تذكير بالشريعة؛ لأن فيه كلياتها، وفيه تذكير بالرسل أجمعين؛ لأنه سجل معجزاتهم، وفيه تذكير دائم بالله تعالى وهو العلي الحكيم، وفيه الأوامر والنواهي، ولذلك قال تعالى:
* * *
2783
(اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٣)
* * *
إذا كان القرآن فيه ذكرى للمؤمنين، وإنذار للكافرين فاتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم مما يشتمل عليه القرآن الكريم، وما جاء به النبي - ﷺ -، فما أمركم به فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، فكل ما أمر به فقد أمر به الله، فما كان ينطق عن الهوى (من يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ... ).
وقوله: (اتَبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكم مِّن رَّبكِمْ) فيه إشارات بيانية:
الأولى: أن ما اسم موصول صلته أنزل إليكم من ربكم، والصلة تكون سببا للحكم أو الأمر، فاتبعوا ما جاء به القرآن والنبي. وسبب ذلك أنه أنزل من ربكم الذي هو أعلم بما فيه صلاحكم في الدنيا والآخرة؛ لأنه ربكم الذي ذرأكم وإليه مرجعكم.
الثانية: أن قوله: (اتَّبِعُوا) فيه ملازمة لما أمر الله تعالى باقتفاء أثر النبي الذي أنزل إليه وأتباعه، وأتباعه أتباع لله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ...).
الثالثة: قوله تعالى: (مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) فيه إشارة إلى أن فيه خيرهم في الدنيا، وفيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، وفيه إشعار بكمال ما كلفوه.
2783
(وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ). بعد الأمر بالاتباع للرسول فيما أنزل إليكم من ربكم، كان النهي عن اتباع غيره، فمعنى: (وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)، أي غيره، ممن يوسوسون بغير ما أمر، وتشمل كلمة أولياء، كل من يأمرون بغير أمر الله تعالى من الشياطين الذين يوسوسون بالشر، فمن لم يتبع ما أنزل الله يتبع أولياء الشيطان، وأن أولياء الشيطان يضلون ولا يهتدون، وكذلك الحلفاء الذين يدعون إلى الشرك ويحرضون عليه ولا يناصرون على الخير ككبار المشركين، أمثال أبي جهل وأبي لهب وغيرهما ممن كانوا يدعون إلى الشرك ويحرضون عليه، وممن دون الله من أولياء، الذين يجرون إلى الأهواء، وهكذا يكون اتباع ما أنزل إليكِم من ربكم هو الصراط المستقيم الذي قال تعالى فيه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمَا فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ...).
واتباع غير ما أنزل الله هو اتباع للسبل الضالة التي تتفرق بها عن الحق، وفى قوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) ضمن إشارة بيانية مؤداها أن قوله: (وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) النهي عن أن يتخذوا غير الله أولياء لهم فالله ولي المؤمنين كما قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ...)، (قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) أي أنه مع هذه البيانات ومع النهي المتوالي في القرآن عن اتخاذ غير الله أولياء لَا تتذكرون إلا قليلا، وقليلا مفعول لـ " تذكَّرون " و " ما " دالة على قلة التذكر. والمعنى قليلا أي قلة تتذكرون أوامر ربكم وتتعظون بعظاته، (... إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) أالرعد، ، ويقول الله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى).
وإن الله تعالى ذكر بالقرى التي كان هلاكها لعدم تذكرها ولنسيانها أمر الله تعالى، فقال تعالت كلماته:
* * *
2784
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (٤)
* * *
2784
إن سنة الله تعالى أن يأتي بعذابه الدنيوي، وهم لاهون غافلون؛ وذلك لأن كفرهم يجعلهم في غفلة، وينسون معه بأس الله تعالى، لأنهم يكفرون به ولا يؤمنون، فيأتيهم من حيث لَا يحتسبون ولا يتوقعون، وإن ذلك كان شأن كل الذين عتوا عن أمر ربهم، ولذلك قال مذكرا من لم يتذكر إلا بقارعات العذاب الذي ينزل بهم: (وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) و " كم " هنا دالة على الكثرة من غير عدد. و " مِن " لعموم الاستغراق، ولتأكيد معنى الكثرة، والقرية المدينة الكبيرة؛ لأنها تقري الناس وتجمعهم فيها، البأس هنا العذاب الشديد أو الهلاك، كما جاء لقوم لوط، ولقوم هود، ولقوم شعيب، والبيات الليل، ومعنى (بَيَاتًا) وهم بائتون، والمعنى: وكثير من القرى أهلكناها، فجاءها عذابهنا بياتا (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ)، أي نائمون في القيلولة من شدة الحر، أو مستريحون.
وإن المراد أنهم يحسبون أنهم في أمن واطمئنان، فيأتيهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون.
وإن هذه سنة الله تعالى في الكافرين يمهلهم ويجيئهم العذاب في مأمنهم، ولقد قال تعالى في ذلك: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٤٧).
وهكذا تكاثرت آيات الله تعالى في كتابه العزيز تنبئ بأن الله تعالى يقصم الظالمين، وهم في غفلة ساهون، حتى إذا أخذهم رأوا الويل.
وإن ذلك فيه إنذار للعرب بأنهم لَا يصحح لهم أن يأمنوا مكر الله، وإنه نازل بهم لَا محالة، وإذا كان أمهلهم فلم ينزل بهم مثل ما نزل بغيرهم، فلأن الرسالة إليهم خالدة وأنها ليست لهم وحدهم، وإنما هي للأجيال كلها، وإن ما ينزل بهم
2785
يكون بتوفيق الله لنبيه بعمل بشري ينتصر به عليهم، أو بريح صرصر عاتية تهزمهم ولا تمحوهم.
وماذا كانت حال الذين أنزل الله تعالى عليهم بأسه في قراهم وقد طغوا وبغوا وأثاروا الفساد، إنهم يحسون بظلمهم بعد أن فات وقت الإيمان، وقد قال، الله تعالى فيهم: (فَمَا كَان دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهم بَأسُنَا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ).
لقد قرعتهم هذه القارعة، وذهب غرورهم الذي دلاهم الشيطان به، وصغوا بعد أن استكبروا فنطقوا بالحق الذي أنكروه، وضرعوا إلى الله أن ينجيهم من العذاب الذي نزل بهم، ولات حين منجاة، بل إنهم يذوقونه وبال ما كسبوا، فهو جزاء لَا فرصة معه لتوبة.
الدعوى هنا: الدعاء، كقوله تعالى: (... وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
ويصح أن تكون الدعوى هنا بمعنى الإقرار، وفي التعبير عن الإقرار بالدعوى مجاز؛ لأن كليهما في مقام الخصومة، وإذ كانوا قد وضعوا أنفسهم في مقام الخصومة مع الله تعالى بما افتروا من عبادة الأوثان وكذبوا عليه كان التعبير عن الإقرار بالدعوى للإشارة إلى أنهم قد خفضوا من دعاويهم وغطرستهم ولم يبق إلا أن يقروا خانعين، أغراهم الكفر ابتداء، وأذلتهم القارعة انتهاء.
" الفاء " هنا للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كانت القوية قد نزل بها هذا العذاب الحاسم، ماذا كان جواب أهلها؟ فكان الجواب:
* * *
2786
(فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ... (٥)
* * *
ولتضمن الدعوى معنى الإقرار لم تلحق تاء التأثيث بالفعل " كان " وهنا نفي وإثبات، وذلك يتضمن معنى الاختصاص والقصر، أي أنه لَا جواب لهم إلا الإقرار بالظلم، وإنه كان وصفا اتصفوا به في كل ما قالوا من كذب على الله تعالى. فما كان قولهم: (ظلمنا)، بل كان قولهم: (إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)، وذلك تأكيد لظلمهم، فقد كان بالجملة الاسمية وبتصدرها بـ " إنا "، و " إنَّ " دالة على التوكيد، وتأكيد القول بـ " كنا " الدالة على الالمعتموار، وبالوصف بالظلم الدائم، اللهم وفقنا للعدل، وجنبنا الظلم.
* * *
2786
(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (١٠)
* * *
2787
الفاء هنا عاطفة على ما قبلها، وهو إقرارهم بأنهم كانوا ظالمين، والذين أرسل الرسل إليهم هم الذين خوطبوا برسالاتهم، كقوله تعالى في بيان سؤالهِم: (وَيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)، وقوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١٠٩).
أكد الله تعالى أنه سيسألهم بنون التوكيد الثقيلة، واللام الممهدة للقسم، أكد - سبحانه وتعالى - أنه سيسألهم، وهو سؤال العارف العالم بما وقع وما كان منهم، وما سيجيبون به، ولكن غاية السؤال أن يقروا بما كان منهم وما يستحقون ولنسألن الرسل الذين أرسل إليهم، وإجابة المرسلين إليهم لتسجيل الحجة عليهم، ولتكون الحجة قائمة عليهم بإقرارهم وقائمة عليهم بشهادة الرسل الذين بعثوا إليهم بأن الحق قد بلغهم (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفسُهُمْ...)، والسؤال في هذه الحال نوع من بيان بطلان ما فعلوا، مع عدم قدرتهم على تغيير ما كان، وأنهم لَا سبيل لهم لأن يتداركوا ما فات، فالسؤال لهم يلقي في نفوسهم بالحسرات، وسؤال الرسل يلقي بحسرات أشد، لأنهم قاوموهم ومنعوهم من الحق وآذوا المؤمنين.
وأنهم بذلك يعلمون أنهم إن عذبوا إنما يعذبون باستحقاق جزاء ما ظلموا.
ولقد روي عن عبد الله بن مسعود أن النبي - ﷺ - قال: " لن يهلك الناس حتى
2787
يعذروا من أنفسهم " (١) ولقد أكد - سبحانه وتعالى - أنه لَا سبيل لإنكارهم لأن الله تعالى يعلم غيب أمرهم إن أخفوه، فقال:
________
(١) رواه أحمد: باقي مسند الأنصار (٢٢٠٠٠)، وأبو داود: الملاحم - الأمر والنهي (٤٣٤٧).
2788
(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ).
الفاء عاطفة ما قبلها على ما بعدها، واللام لام القسم دالة هي والنون والقاف على التوكيد. و " نقص ": معناها نخبر خبر من يتقصى ويتتبع لَا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، والضمير في " عليهم " يعود على من أرسل إليهم، ويحتمل أن يعود إليهم وإلى المرسلين معا، فيعلم المرسلون من الله ما كان يقع عليهم ويدركون أن الله كان عليما بالعنت الذي أعنتوه، يعلمون ذلك عند الحساب، كما علموه في الدنيا بإطلاع الله تعالى عليه، فعلمهم في الدنيا بالحساب والعقاب، كان علم إيمان بالغيب، ويقين من خبر الله، وعلمهم الآن بالحساب والعقاب والثواب علم معاينة. أما الكفار الذين أرسل إليهم فعلمهم يقيني بما أنكروا من قبل وهو علم بما جهلوا علم معاينة أو علم عقاب أنكروه، وبعث ونشر، وقد كابروا فيه.
وأكد الله تعالى قصصه الحق المتتبع بأمرين:
أولهما: قوله تعالى: (بِعِلْمٍ)، أي أنه قصص لأعمالهم وأعمال رسلهم بعلم صادق ليس فيه حدس وتخمين. كما كانوا يدعون من علم من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهو يعلم الظاهر والباطن والأول والآخر.
ثانيهما: أنه علم من عاين وشاهد، وإذا قال تعالى: (وَمَا كنَّا غَائِبِينَ) أي كنا حاضرين حضورا مستمرا ما كنا غائبين فأخبرنا، ولكن كنا شاهدين، فعاينا، وليس علم الخبر، كعلم المعاينة والمشاهدة في الصدق واليقين.
2788
وإن هذا العلم الذي ثبت بالعيان والشهادة هو الذي يبنى عليه الحساب والعقاب؛ ولذا قال تعالى:
* * *
2789
(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨)
* * *
(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)، أي يكون الوزن للأعمال وزنا حقا ثابتا لَا يميل إلى باطل، ولا يكون مبنيا إلا على الحق، و " الوزن " مبتدأ و " الحق " خبره، وتعريف الطرفين يكون دالا على القصر، أي أن الوزن يكون مقصورا على الحق لَا يأتي بباطل، فهو مقياس دقيق يميز خير الأعمال من شرها، (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ)، موازينه جمع ميزان، أي من رجحت كفة موازينه بأن كانت أعماله في كفة الميزان كبيرة ثقيلة، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون، أي أنهم المفلحون وحدهم لا يفلح غيرهم، وذلك لتعريف الطرفين، والإشارة إلى من ثقلت موازينه، وهنا يقال: أن الميزان واحد، فلماذا كان التعبير بالجمع بكلمة (موازينه)؟ فنقول في الإجابة عن ذلك، إنه لتعدد الأعمال الوزونة يكون كل صنف منها قد ثقل فيها ميزانه، فيكون قد ئقلت موازينه.
وكذلك يقال فيمن خفت موازينه، وقد قال تعالى فيمن خفت موازينه:
* * *
(وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (٩)
* * *
قوله تعالى: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) أي علت كفة أعمالهم لخفتها، فأولئك بسبب هذا خسروا أنفسهم، والتعبيص هنا بقوله تعالى: (خَسِرُوا أَنفُسَهُم) وهي كناية عن أن العذاب ينزل ولا يخفف عنهم، وخسران نفوسهم في هذا يشير إلى معان ثلاثة:
أولها - أنهم هم الذين كانوا بأعمالهم في الدنيا عاملين على خسارتها، فلم تكن الخسارة لاحقة بهم من غيرهم.
2789
ثانيها - أن العذاب خسحارة للنفس أي خسارة، وأنهم هم الذين جلبوا لها هذه الخسارة الخالدة.
ثالثها - أنهم كانوا يحسبون في ضلالهم في الدنيا أنهم يكسبون بغطرستهم وكبريائهم واغترارهم بمظاهر القوة فبين الله تعالى أنهم الأخسرون أعمالا، وذلك عند ميزان الأعمال بميزان الخير والشر، لَا بميزان الغرور والاستكبار.
وقوله تعالى: (بِمَا كانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)، أي أن هذه الخسارة التي خسروا بها أنفسهم بسبب أنهم كانوا مستمرين طول حياتهم الدنيوية مكذبين بآياتنا الدالة على وحدانية الله - سبحانه وتعالى - وأضاف - سبحانه وتعالى - الآيات إليه للإشارة إلى عظم تكذيبهم، لأنهم يكذبون الآيات المنسوبة إليه - سبحانه وتعالى - فتكذيب أكبر من في الوجود، ومنشئ الوجود، أكبر تكذيب وأكبر ظلم.
وقدَّم قوله تعالى: (بِآيَاتِنَا) على (يَظْلِمُونَ)؛ لأن آيات الله هي محور الحق وميزانه وبرهانه، ونلاحظ هنا أن ظلم ويظلم تتعدى بنفسها من غير باء، وهنا تعدت بالباء، ونقول في ذلك: إن ظلمهم كان لتكذيبهم بالآيات وكفرهم بها، فكان التعبير بقوله تعالى: (بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) تضمن معنى التكذيب والكفر والظلم وذلك ضلال كبير؛ ولذا تعدى بالباء.
وهنا موضوع يجب أن نذكره وهو يتعلق بقوله تعالى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئذٍ الْحَقُّ) وقوله تعالى: (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) أيكون يوم القيامة وزن حقيقي حسي وموازين حقيقية حسية؟ أم هذه كناية عن إحقاق الحق وأن يعطى كل امرئٍ حقه، فلا يضيع لمحسن حسنة، ولا يحمل مسيء فوق إساءته.
نقول في الجواب عن ذلك: إننا نؤمن الإيمان كله بأن يوم القيامة ونعيم الجنة وعذاب جهنم وغيرها من أحوال اليوم الآخر كلها حسي، ولكن نميل إلى قول ابن عباس إلى أن المذكور في القرآن عن نعيم وطعام الذين كتبها الله تعالى
2790
لهم مجازي مقرب، فإذا كان فيها فاكهة ورمان وخمر لذة للشاربين وعسل مصفًّى، وغير ذلك فإن ذلك مجاز مقرب وليس كطعامنا في الدنيا، إنما هي فاكهة أعلى من فاكهتنا، وليس لها لغة إلا ما تقربه لغتنا؛ ولذا قال - عليه الصلاة والسلام -: " فيها ما لَا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " (١).
بعد هذا نقول: إن قوله تعالى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) أهو وزن محسوس بميزان محسوس يوم القيامة؟ فنقول مقلدين بعض المفسرين أن ذلك مجاز عن أن كل ذي حق يأخذ حقه بالحق لَا ينقص ولا يزاد عليه شيء إلا أن يكون ذلك من رحمته تعالى وغفرانه.
وإنه يكون ثمة استعارة أو تشبيه، شبهت عدالة الله تعالى يوم القيامة، وهو لا يظلم شيئا بالميزان الذي توزن به الأشياء التي تخف الكفة فيها وتثقل؛ وذلك لدقة الحكم، ونسب ذلك القول إلى مجاهد والأعمش والضحاك، وقد قال هذا أبو السعود في تفسيره وذكره الغزالي في كتابه: (المضنون به على غير أهله) إذ قال رضي الله تعالى عنه: " تعلق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائق الأمور، وبالموت ينكشف الغطاء " كما قال تعالى: (... فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرك الْيَوْمَ حَدِيدٌ)، ومما يكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى الله تعالى ويبعده وهي مقادير تلك الآثار، وإن بعضها أشد تأثيرا من البعض، ولا يمتنع في قدرة الله أن يجعل سببا يعرف الخلق في لحظة مقادير الأعمال بالإضافة إلى تأثيرها في التقريب والتبعيد، فهذا الميزان المعروف، ومنه القبان للأقطان والإصطرلاب لحركات الفلك والأوقات، والمسطرة للمقادير والخطوط، والعروض لمقادير حركات الأصوات، فالميزان الحقيقي إذا مثله الله تعالى للحواس مثله بما شاء من هذه الأمثلة، فحقيقة الميزان موجودة في جميع ذلك، وهو ما يعرف به الزيادة والنقص وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل، وللخيال عند التمثيل، والله
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: بدء الخلق - ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (٣٢٤٤)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها - باب (٢٨٢٤).
2791
أعلم بما يقدره من صنوف التشكيلات، والتصديق بجميع ذلك واجب " من تفسير القاسمي ". وفي مقابل ذلك الرأي المجازي الذي قاله من السلف مجاهد والأعمش والضحاك، وقاله الغزالي وأبو السعود، ونميل إليه، قول آخر، وهو أن كل ما ذكر عن اليوم الآخر من الميزان والصراط وغير ذلك حسي حقيقي يجري على ظاهره؛ لأن المجاز حيث تتعذر الحقيقة، ولا تتعذر الحقيقة هنا، فلا مسوغ للتأويل، وعلى ذلك الأكثرون.
وهنا سؤال يعرض: كيف يكون الوزن، سواء أكان معنويا مجازيا أم كان حسيا، والله تعالى يعلم كل شيء.
وقيل في الجواب عن ذلك: إن ذلك لإقامة العدل ولبيان حقيقة الأفعال، وليقروا بما كان منهم، والله عليم خبير قد أحاط بكل شيء علما.
* * *
2792
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (١٠)
* * *
بين الله - تعالى - ما أنعم به على الناس أجمعين وثنيين ومؤمنين، طائعين وعاصين، فنعم الله تعالى الدنيوية تعم ولا تخص (... وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ).
وقوله: (مَكَّنَّاكُمْ)، أي جعلناكم ممكنين منها تفترشونها، وقد مهدها لكم تمهيدا وجعلها لكم مستقرا ومقاما تنتفعون بها، وجعل لكم من زروعها وثمارها ومعادنها، وما أودع أرضها من فلزات ما تتمتعون، وجعل - سبحانه وتعالى - لكم فيها معايش وهي جمع معيشة، والمراد ما تتعيشون مما أخرجت الأرض، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢).
وإن المعايش التي جعلها لنا في الأرض قد ذكر بعضها، من ذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرع مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ
2792
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢).
هذه بعض النعم التي اتخذ الإنسان منها معايش له.
وإن قوله تعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ) فيه توكيد من الله تعالى بهذا التمكين وذلك الاستقرار وذلك التأكيد اللفظي باللام وقد، وهو تأكيد للفعلين اللذين جاءا بعد ذلك.
وكان هذا التأكيد لتذكير الذين لَا يؤمنون بفضل هذه النعم وحق شكرها ولكن الشاكرين قليلون في عددهم بالنسبة للكافرين بها للذين لم يؤدوا حقها.
ولذا قال تعالى: (قَلِيلًا مَّا تَشْكرونَ)، " قليلا " نائب عن المفعول المطلق لـ " تشكرون ". و " ما " ليقوي معنى القلة، والمعنى تشكرون شكرا قليلا، أيَّ قلة بالنسبة لهذه النعم، إنه مهما يكن شكر المؤمنين فهو قليل بالنسبة لنعم الله تعالى، وهو ولي النعم.
* * *
(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (١٧) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)
* * *
2793
ذكر - سبحانه وتعالى - في هذه الآيات وما يليها قصة خلق آدم ومعاندة إبليس، وقد سبق ذكرها في سورة البقرة وليس ذكرها هنا تكرارا لما ذكر هناك أولا، فإنه إذا كررت بعض الوقائع، فإنه قد زيد هنا الفتنة التي فتن به الشيطان النفس البشرية فعلا، وهي تشابه مع ما أدى إليه الاندفاع وراء إبليس من بدء السورة، وأن آدم وحواء قد بدآ يخصفان عليهما من ورق الجنة، فقد فتن المشركين، حتى جعلهم يطوفون عراة كما أدت وسوسته لآدم وحواء إلى أن بدت لهما سوءاتهما.
2794
(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ).
الخلق الإنشاء، والتقدير خلق الله تعالى الناس من الطين، فقال له كن فكان إنسانا، ثم صوره على هذا الشكل الإنساني الذي جعله في أحسن تقويم، و (ثُمَّ) هنا ليست للتراخي الزمني، فإن ذلك إنما يكون بالنسبة للحوادث، أما بالنسبة لله تعالى فلا تفاوت ولا تراخي؛ لأن الزمن لَا يكون بالنسبة لله تعالى، إنما هو التفاوت بين حالي الخلق، وإن كان كلاهما يتم بقوله تعالى: (... كُن فَيَكُونُ).
بعد أن تم خلق الإنسان الأول وهو آدم، كرمه الله تعالى بأن أمر الملائكة بأن يسجدوا، لعلمه بالأشياء، إذ علمه الله تعالى الأسماء كلها، وهذا قد ذكر في سورة البقرة، ولم يذكره هنا، وعلى ذلك لم يكن تكرارا.
وقوله تعالى: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) (ثُمَّ): هنا للتفاوت بين تقويم الخلق والتكوين والأمر بالسجود.
واستثنى من إطاعة الأمر فتي السجود - إبليس، والاستثناء لأنه لم يسجد، سواء أكان الاستثناء متصلا؛ لأنه من جملة من كان مع الملائكة أم كان منقطعا، فإنه لم يسجد، مع أن الأمر بالسجود يشمله، فلم يكن منه سجود، سأله الله تعالى عما منعه من أن يسجد قائلا له تعالت كلماته:
(مَا مَنَعَكَ أَلَّاتَسْجُدَ إِذْ
2794
أَمَرْتُكَ) وسياق النص أن يكون: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك، قال بعض المفسرين أن " لا " زائدة ونحن لَا نرى أن في القرآن حرفا زائدًا، ومن يقول ذلك يسرف في قوله، ونقول في ذلك أن: " منع فلانا من أن يؤذى " أي حماه، ويقال: " فلان في منَعَة "، أي في قوة حامية، سواء أكانت نفسية أم من جماعة، والمعنى على ذلك، ما منعك حاميا لك ألا تسجد إذ أمرتك، أي أنه وجد المقتضي للسجود، وهو أمر الله تعالى، وأمر الله واجب النفاذ للملائكة، ومن يكون معهم.
فكان جوابه: (أَنَا خَيْرٌ منْهُ) وذكر سبب الخيرية التي ادعاها، فقال: (خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) وهو في هذا غافل، ومدع ما لَا دليل فيه على دعواه، أما غفلته، فهو أن الله تعالى خالق النار وخالق الطين وما في خلقه تفاوت، فهما خلق الله تعالى، وهو الذي اختار النار له، واختار الطين لآدم، واختار أن يسجد إبليس الناري لآدم الذي هو من طين، فكيف يعترض عليه بخلقه، وإن هذا ضلال في الفهم، وغفلة في الإدراك، ولذا قال بعض العلماء: أشد العالمين غفلة إبليس. ودعواه أن الطين خير من النار، وأنه بذلك خير من آدم هذه دعوى لَا دليل عليها، بل الدليل يناقضها، لأن الطين خلق الله منه الخصب، وكان من الخصب الزروع والثمار والأشجار والنخيل، وكل طعام أهل الأرض، والماء ينزل عليه غيثا فيكون منه ثمر كل شيء، وطعام الإنسان، والحيوان، والنار تدمر وتحرق، فإذا كان من الطين العمران، فمن النار الدمار، وكل خلق الله تعالى.
ولأن الباعث على قوله هذا التكبر، وليس الدليل؛ لذلك قال الله تعالى له:
* * *
2795
(قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا... (١٣)
* * *
والهبوط هنا هبوط معنوي، إذ يخرج من الجنة إلى الابتلاء والاختبار، يمد الله تعالى له، ويختبر به الناس، فتكون العداوة، كما قال تعالى في قصة سورة البقرة: (... وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ...) وقد ذكر - سبحانه - أنه
2795
تكبر في غير موضع تكبر، وكذلك شأن المتكبرين دائما، فقال: (فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا) أي في الجنة، فليس من شأن هذا المكان الطاهر أن يكون فيه تكبر من مخلوق على مخلوق، ولذا قال (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) الصاغر هو الذليل، أو الأذل، من الإذلال، وهذه معاملة له بعكس ما يريد يبتغي لنفسه ابتغى الكبر فعاقبه الله تعالى بالإذلال، وشأن المتكبرين دائما أنهم يستعلون، فيذلهم الله، و " الفاء " في قوله تعالى: (فَاخْرُجْ) تشير إلى أن سبب الأمر بالهبوط هو التكبر، والمعنى إذا كنت تتكبر ذلك التكبر فالأولى لنفسك أن تهبط فتكون من الصاغرين.
ولكن إبليس اللَّجوج لم يرد أن يترك جهلا محادته لله - سبحانه وتعالى -
* * *
2796
(قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤)
* * *
أي أمهلني فلا تعجل بموتي إلى يوم يبعثون، وقد ذكر من بعد ما يريد عمله من ذلك الإمهال وهو إضلال الناس، فأجابه الله تعالى - وهو العزيز الحكيم - إلى مطلبه ليتحقق اختيار الإنسان، وسلطان إبليس عليه أو على الأشقياء من خلقه.
* * *
(قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥)
* * *
وإبليس الذي كان في غفلة قال من بعد ذلك مبينا لماذا كانت المهلة التي طلبها، قال إبليس:
* * *
(قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦)
* * *
الإغواء إيفاع الغي في القلب، وهنا نجد أن إبليس يعترف بسلطان الله تعالى الكامل على العقول والنفوس، وأن الغفلة التي سترت مداركه، وأضلت تفكيره هي بإرادة الله تعالى وبعمل منه، وقوله تعالى عن إبليس: (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) اللام لام القسم، و " أقعدن ": تأكيد لقصده الآثم (صرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) ظرف مكان أي لـ أقعدن لهم في صراطك المستقيم، وأضلهم، حتى لا يسيروا، في هدى، بل يسيرون في مسارات مختلفة يضلون فلا يهتدون سبيلا.
وبين إبليس أنه يحيط بالأشرار فلا يفلتون منه، فيقول:
* * *
(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (١٧)
* * *
2796
ومعنى ذلك أنه يحيط بهم بأعوانه، فيحيط بهم إحاطة الدائرة بقطرها، لا يفلتون منه، وهذا التصوير الحسي كناية عن الإحاطة النفسية التي لَا يخرجون عن دائرتها، وينتهي من قوله بأنه سيضل الأكثرين، ولذا يقول: (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُم شَاكِرِينَ). وإذا كان قد استعلى واستكبر أولا فقد دفعه الاستعلاء إلى أن يضل باستمرار ويتحدى رب العالين في حماقة منه، ولذا قال الله تعالى طاردا له من رحمته:
* * *
2797
(قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)
* * *
المذءوم المذموم المعيب المشنوء المبغض، والمدحور: المطرود الهالك، و " اللام " في قوله تعالى: (لَّمَن تَبِعَكَ) لام القسم، وهي لتأكيد العذاب النازل بهم، وتمتلئ جهنم منهم أجمعين، من إبليس ومن معه.
* * *
(وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (٢٠) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٢٤) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (٢٥)
* * *
2797
كشف الله - سبحانه وتعالى - ما في إبليس من خبث في ذاته وإرادة الشر، وقصد إلى إغواء آدم وذريته.
اتجه - سبحانه وتعالى - إلى آدم يحذره، ويبين له ما بوأ له في الجنة، قال سبحانه:
2798
(وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩).
نادى الله - تعالى - آدم باسمه تكريما له، أباح له ليسكن هو وزوجه حواء الجنة، وأن يأكلا منها من حيث شاءا من ثمارها في أي ناحية شاءا منها، ولكن حرم عليهما شجرة معينة، اختبارا لقوة أنفسهما، وإرادتهما، وردهما إغواء إبليس لهما، حيثما أراد، وبين أنهما إذا أكلا منها كانا من الظالمين لعصيان أمر ربهما ولضعف إرادتهما، وأول الظلم ضعف إرادة الظالم، وكان نهى الله تعالى لهما ألا يقربا هذه الشجرة، والنهي عن القرب نهي عن الأكل بالأولى، ولا نعلم ما هذه الشجرة فلا نحاول تعرفها ما دام الله تعالى لم يسمها، ولكن إبليس وجد الباب الذي يدخل منه ليوسوس لهما، فكان في ذلك قوله تعالى:
* * *
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا... (٢٠)
* * *
فوسوس الشيطان وهو إبليس اللعين، وعبر عنه هنا بالشيطان لفساده وحركاته الفاسدة، والوسوسة: الصوت الخفي، وتطلق الوسوسة على حديث النفس، فيقال: وسوست إليه نفسه، أي حدثته بفعل معين. تحدث إليهما موسوسا بأن يأكلا من الشجرة، وكانت النتيجة أن بدت لهما سوءاتهما، وهي العورة التي يسوء النظر إليها، وكانت هذه نتيجة الوسوسة، ولأنها نتيجة تأكد وقوعها، جعلت كأنها الباعث على هذه الوسوسة إذ جاء باللام في قوله: (لِيُبدِيَ لَهُمَا) وكيف كانت الوسوسة؟ ذكرها الله تعالى متحدثا عنه مبينا: (وَقَالَ مَا نَهَاكمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ).
2798
إنه يؤتى الإنسان من رغبة العلو والبقاء، وقد أتاهما الشيطان من هذه الناحية التي يبتغيها الإنسان بفطرته فقال كاذبا: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ) أي إلا لمنع أن تكونا ملكين (أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخالِدِينَ) ويكون تقدير الكلام إلا كراهية أن تكونا ملكين والنفس الإنسانية طامحة إلى العلو وحب البقاء فكان ذلك السبيل لإغوائهما إلى الأكل وقد غرَّهما، ثم أراد أن يثبت لهما أنه ناصح لهما فأقسم بأنه لهما من الناصحين.
* * *
2799
(وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١)
* * *
والمعنى وأقسم لهما أنه من الناصحين، وذكر القسم بلفظ المفاعلة؛ لأنه أقسم لهما وأوقع في أنفسهما أنه صادق في قسمة وأكده بكل مؤكد حتى كأنهما صدقاه وبادلاه القسم، وأكد أنه من الناصحين وذلك بعدة مؤكدات، أولا: بالقسم الذي شدد فيه حتى وقع في أنفسهما صدقه، كأنهما أقسما معه، وثانيا: بـ " إنَّ " المؤكدة، والجملة الاسمية، وإدخاله في زمرة الناصحين حتى وقعا في مغبة تغريره؛ ولذا قال تعالى في أثر هذه اليمين الفاجرة التي أقسمها.
* * *
(فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ... (٢٢)
* * *
الغرور هو ظن الضار مصلحة، والباطل حقا. ودلاه من التدلية، وهي إلقاء الدلو في البئر، وهي هنا إلقاء النفس في الغرور، والمعاصي، والمعنى دلاهما في المعاصي بالغرور الذي أوجده فيهما، فذاقا الشجرة التي نهاهما عن القرب منها، فلما ذاقاها بدت عوراتهما التي يسوء منظوها، ولما بدت أردا أن يستراها فطفقا، أي أخذا يخصفان أي يقطفان من ورق الجنة ما يستر عوراتهما، وقد بدت لهما، وكانت من قبل مستورة عنهما، وبذلك ظهو لهما بينا ألم المعصية وأثرها، وناداهما ربهما وهما في هذه الحال مذكرا بالنهي، فقال تعالى:
(وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ).
ناداهما نداء منبها قويا قائلا لهما وربهما الذي خلقهما، فسوى، وهو يعرف ما تخفي نفوسهما يلومهما في أمرين:
2799
أولهما - أنه نهاهما ولم ينتهيا وقال لهما: (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) أي لقد نهيتكما عن تلكما الشجرة نهيا مؤكدا، ولكن أكلتما كما قال في آية أخرى: (... وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى).
الأمر الثاني - أنهما أطاعا الشيطان في تغريره، وحسبا أنه ناصح، وقد بين الله تعالى أنه عدو واضح العداوة، ولذا قال: (وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَان لَكُمَا عَدُو مُّبِينٌ) أي لقد قلت مؤكدا القول: إنه عدو واضح العداوة فما كان لكما أن تغترا به، أحس آدم بغرور الشيطان الذي ظهر في أثر العصيان، وأنهما بالعصيان ما صارا ملكين ولا صارا في الخالدين.
فقالا نادمَيْن:
* * *
2800
(قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣)
* * *
اتجهوا معترفين بذنوبهم مقرين بخطئهما وقد أحسوا بأن مغبة العصيان وقعت فنادوا ربهم (رَبَّنَا).
وهنا حرف نداء محذوف، وهو نداء ضراعة وخشية: أي يا ربنا ظلمنا أنفسنا، وظلمهما لأنفسهما كان باديا لعيانهما عندما ذاقا الشجرة فقد بدت لهما سوءاتهما وأخذا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وظلما أنفسهم بعصيان الله وذلك ظلم مبين، وظلمهما أنفسهما باغترارهما بالشيطان وقد قال لهما ربهما: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُو مُّبِينٌ) واضح العدوان.
كان هذا الإحساس العميق بظلم أنفسهما مصحوبا بضراعة إلى الله تعالى أن يغفر لهما ويرحمهما، ولذا قالا: (وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) يطلبان المغفرة من الله تعالى ولا يكتفيان بها، بل يطلبان مع المغفرة أن يتغمدهما الله برحمته، ولئن لم تكن المغفرة والرحمة ليكونن من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم بظلمهم لها وخسروا غفران الله تعالى ورحمته، وذلك هو الخسران المبين.
ولذا قال الله تعالى:
* * *
(قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٢٤)
* * *
2800
ليست الجنة دار ابتلاء، إنما الأرض هي دار الابتلاء التي يتنازع فيها الخير والشر، والحق والباطل، والبر الفاجر، وهي دار الابتلاء فيها تتجلى عداوة إبليس ومن معه لابن آدم وذريته؛ ولذا أخرج آدم من الجنة ومعه زوجه، وأخرج إبليس مذءوما مدحورا قال الله تعالى: (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُو) اهبطوا جميعا بعضكم لبعض عدو، فإبليس عدو لآدم وزوجه وذريتهما من بعدهما، ويكون بعض هذه الذرية لبعضهم عدوا لإغواء الشياطين، فالشيطان عدو لبني آدم، وبإغوائه يكون بنو آدم بعضهم لبعض عدو.
ولكم أيها المذنبون وذريتكم فيها مستقر أي موضع استقرار ومتاع، تنتفعون بخيراتها وكل ما فيها أو ينتفع بعضكم، وكل ذلك إلى حين أي زمن محدود.
ثم بين الله تعالى حال الناس في الدنيا فقال تعالت كلماته:
* * *
2801
(فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (٢٥)
* * *
والمعنى فيها تعاقب الأحياء بعضهم من ذرية بعض، والأحياء يموتون ويخلفهم أحياء من بعدهم، والأموات يبعثون من قبورهم ثم تكون القيامة، ويجازى المحسن إحسانا والمسيء الذي أطاع الشيطان، يناله عذاب أليم، والله ولي المؤمنين الصادقين.
ما بين قصة خلق الإنسان في سورة البقرة وقصته هنا يبدو بادي النظر وظاهره، أن القصة هنا هي بحذافيرها المذكورة أولا في البقرة، وأن ذلك تكرار في القرآن. ونحن نرى أن كون الله خلق آدم، وأمر الله الملائكة أن يسجدوا، وامتناع إبليس عن السجود وطرده وهبوطه هو وآدم وزوجه من الجنة، مذكور في القصتين، ولكن كان الاختلاف فيما وراء ذلك فذكر في إحداهما ما لم يذكر في الأخرى ومجموعهما يأتي بالقصة متكاملة الأجزاء، فيما تعرضت السورتان له، الثمرة من ذكر القصة مختلف في كل واحدة عن الأخرى.
أولا - أن قررت أن ثمرتها عداوة إبليس لآدم من أصل التكوين، وحذرت الإنسان من أثر هذه العداوة، وبينت الآية الكريمة ما يترتب على هذه العداوة،
2801
وذكرت بني إسرائيل، وما وسوس به الشيطان في نفوسهم، وكانوا أوضح مثل في البشرية لتحكم إبليس فيهم، حتى كأنه هو - أي إبليس - وَهُم شيء واحد، لولا أنه من الجن، وهم من الإنس، وهم مع ذلك صورته الحية الواضحة، جعلهم الله تعالى عبرة المعتبرين من أهل الفضيلة.
والثمرة هنا في هذه الآية هو تحكم إبليس في العرب حتى جعلهم يطوفون عراة رجالا ونساء، كما حمل إبليس أبوى الإنسان على أن يأكلا من الشجرة، فبدت لهما سوءاتهما.
ثانيا - أن قصة البقرة فيها تعليم الله تعالى لآدم، وبيان استعداده لأن يعلم الأشياء كلها، واختبار الله تعالى للملائكة، ثم كان الأمر بالسجود نتيجة لأن آدم أنبأهم بأسماء ما جهل الملائكة أسماءهم، ولم يذكر ذلك في هذه القصة، بل طوى وكان الأمر بالسجود فحذف من هنا ما ذكر هنالك مفصلا.
وفى قصة التكوين في سورة الأعراف التي تتكلم في معانيها، ذكرت الطريقة التي أزل بها إبليس الزوجين الكريمين، إذ قال لهما: (مَا نَهَاكُمَا رَبُكمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)
ثالثا - وفي سورة البقرة بينت أنه أزلهما ولم تبين الطريقة التي أزلهما بها، فكانت القصة هنا موضحة لذلك، فهي متممة لها، وليست مكررة معها.
رابعا - في هذه السورة ذكر ما ترتب على الأكل من الشجرة، من أن بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، فإن ذلك لم يذكر في سورة البقرة وذكر هنا، وهو تتميم لما ذكر.
وما ذكر هنا فيه بيان مشابهة ما دعا إليه الله تعالى من النهي عن عري العرب في مكة بإغواء إبليس، فتشابه عمله مع ذرية آدم بما عمله مع آدم وزوجه.
خامسا - في قصة التكوين في الأعراف، أن آدم وزوجه قد أحسا بما صنعا، (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ولم يذكر
2802
ذلك في سورة البقرة إلا قوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ...)، فكانت الآية متممة أو موضحة لما جاء في سورة البقرة ولم يذكر في سورة البقرة نداء الله تعالى للزوجين قالا: (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ)، وهكذا كان ما هنا متمما لما هناك.
سادسا - ذكر في سورة البقرِة إرادة الله تعالت حكمته أن يجعل خليفة وما قاله الملائكة في هذا: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ثم بيان الله بتعليمه الأسماء كلها وبيان أنه أحق بخلافة الأرض منهم، ولم يذكر هذا هنا في الأعراف.
وذكر هنا إغواء إبليس، وطريقته في إغوائه وأنه يحيط بهم دائما من عن أيمانهم وعن شمائلهم، ولم يذكر هنالك في سورة البقرة، وأنه بهذه الموازنة بين ما اشتملت عليه القصة في السورتين يتبين أمران:
أولهما - أنه لَا تكرار، بل كل قصة تكمل الأخرى، وتتكون قصة كاملة لا تتضارب الأجزاء فيها.
ثانيهما - أن الثمرة في كل جزء مختلفة، وأن القرآن مَعِين المعرفة لَا يغيض أبدًا.
* * *
(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ
2803
لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
* * *
ذكر الله - سبحانه وتعالى - ما كان في خلق آدم وزوجه، وما وقع لهما مع إبليس، وكيف وسوس لهما، حتى ذاقا الشجرة فبدت لهما سوءاتهما.
ويبين في هذه الآية أن الثياب نعمة أنعمها الله على عباده، ويقول الزمخشري: إن هذه الآية استطراد لما جاء في أصل التكوين، أي أنها في معنى البيان والتفسير لكونهما أخذا يخصفان عليهما من ورق الجنة، والمعنى أن ذلك أمر فطري، وقد قوى الله تعالى المعنى الفطري، بأنه أنعم على الناس باللباس اسجابة للفطرة وذلك صيانة للحياة.
ولا نحسب آن الآية استطرادية، بل الآيات تمهيد لبيان أن ما كان يفعله بعض العرب من الطواف عرايا، هو خروج على الفطرة، وهو خروج على الحياء الإنساني، الذي جعل آدم وحواء يخسفان عليهما من ورق الجنة:
2804
(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا).
النداء لبني آدم جميعا؛ لأنه مجاوبة للفطرة الإنسانية التي جعلت أبوي البشر يخصفان عليهما من ورق الجنة؛ ولذا كان النداء إلى أولاد آدم، وفيه إشارة إلى تلك الفطرة السليمة، وإلى ذلك الحياء الفطري الذي هو سمة الإنسانية الرفيعة، لا إلى تلك الإنسانية المسيخة، التي تظهر في العرى الفاحش الذي يقره بعض الذين تبلدت مشاعرهم وأحاسيسهم.
(قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ) وذلك بإِنزال المطر الذي ينبت منه النبات، وتأكل منه الأنعام، ويحيا به كل شيء حي في هذه الأرض، ثم يكون من
2804
النبات القطن والكتان، ويكون من الأنعام الأصواف والأوبار والأشعار، مما يتخذ لباسا تستر به العورة.
فالله - سبحانه - يعبر بالسبب، وهو نزول الماء الذي يكون منه النبات وغذاء الجسم، ويكون من ذلك اللباس الذي يواري السوءة، وهي العورة، وقد بينا أن السوءة وهي العورة، وقد بينا أن السوءة ما يسوء النظر إليه، ولا تقره الفطرة السليمة.
وأقول: إن تفسير قوله تعالى: (قَدْ أَنزَلْنَا) بالمطر الذي يكون منه اللباس تفسير سليم، ولكن كلمة " أنزل "، كما تدل على نزول الماء كما في قوله تعالى:
(... وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً...)، كما في قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السمَاءِ مَاءً...)، فإننى أرى أنها كما تدل على ذلك، تدل أيضا على الأنعام، فهو سبحانه أنعم بهذا اللباس الذي يواري السوءة، فهو الذي أنزل علينا نعمه ظاهرة وباطنة.
ويقول سبحانه وتعالى: (وَرِيشًا) الريش والرياش لباس الزينة، وما تزين به البيوت من فراش، وأطلق الريش على لباس الزينة، على أنه من قبيل التشبيه بريش الطير الذي يتزين به، وتصيبه الحسرة إن خلع منه.
والمعنى أن الله تعالى أنزل لبني آدم، اللباس الذي يواري السوءة، ولباس الزينة.
(وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْر).
إن اللباس الضروري هو الذي يواري السوءة، والريش هو الزينة، وهو الرياش في البيوت، وكل ذلك في الأجسام، وما يتصل بها من المسكن والمأوى، فللقلوب لباس يكسو باطن الإنسان، وهو التقوى؛ ولذا قال تعالى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى) وقد شبه في هذه الحال، ما يملأ النفس من تقوى سابقة وإيمان قوي، وباللباس الذي يلازم الجسم ويستره ويتزين به، فإن التقوى ستر لعيوب النفس،
2805
ووقاية لها من غضب الله تعالى، وهي زينة القلوب ونورها المشرق، ولذلك قال فيها: (ذَلِكَ خَيْرٌ) في ذاته، وخير عما سواه من زينة الناس، فإن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
وفسر بعض العلماء لباس التقوى، بأنه لباس الجهاد من لأمة (١) الحرب، واتخاذ الترس والدرع، وغير ذلك مما يدرع به المقاتل مجاهدا مدرعا، فإن هذا لباس تقوى من جهة أنه لَا يكون إلا ممن امتلأت قلوبهم بتقوى الله، وباعوا أنفسهم له سبحانه وتعالى، وذلك أعلى درجات التقوى، لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ...).
وذلك لَا شك تحتمله الآية، ولكنه ليس الظاهر المتبادر منها، ونحن في منهاجنا نتجه إلى الظاهر المتبادر وقد يصح لنا أن نقول: إن الآية تعم الأمرين والله تعالى أعلم.
وإن الله تعالى، إذ خلق لنا نعمة الكساء: ما يكون منه ساترا، وما يكون منه زينة، فإنه آية من آيات الله ونعمه يجب أن نتذكرها، ونعتبر بها في كل تصرفاتنا، وخصوصا في الحج، الذي هو منسك إبراهيم - عليه السلام - باني الكعبة، وأبي العرب، ولذا قال تعالى في ختام الآية: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّه لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).
والإشارة بـ " ذلك " إلى نعمة الله تعالى في إنزال الأمطار التي يكون منها الزرع والحرث والنسل ثم يكون منها للناس والرياش.
لقد حكم - سبحانه وتعالى - أنه من آيات الله في إنزال المطر الذي كان منه كل شيء حي، والذي به أنشأ الله جنات معروشات وغير معروشات، فهذا كله من آيات الله تعالى ونعمه، التي توجب الشكر وتمنع الكفر، وهي مع ذلك، دالة على وحدانيته.
________
(١) اللأمة: لباس الحرب.
2806
وختم الله سبحانه قوله العزيز بقوله: (لَعَلَّهمْ يَذَّكَّرونَ)، الضميران يعودان إلى المشركين الذين كفروا بالله والذين يكفرون بنعمة الله، ويطوفون بالبيت الحرام عراة، وقد أنزل عليهم لباسا يواري سوءاتهم وريشا يتزينون به، فلعلهم يتذكرون فينخلعوا عن هذه العادات انخلاعا.
والرجاء هنا منهم لَا من الله تعالى، وقد مهد الله تعالى لهم من الأسباب، وذكر لهم من الآيات ما به يتذكرون.
* * *
2807
(يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا... (٢٧)
* * *
النداء للناس أجمعين، وكان النداء بقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ) لهذا العموم، ولتذكير الأبناء بما كان للآباء من عداوة إبليس، وتهديده بإغوائهم، وأنه يقعد لهم الصراط المستقيم، وأنه وسوس لأبوي الآدميين.
قال الله تعالى ناهيا: (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) النهي للآدميين، والفاتن هو الشيطان ولم يوجه النهي إليه؛ لأنه تمرد على أمر ربه، وخرج مذءوما مدحورا، وكان النهي لبني آدم مع أن الفاعل غيرهم؛ لأن معنى النهي حينئذ ألا يمكنوه منهم، وذلك بطاعة الله تعالى وحده ورد الأوهام والأهواء، فإنها باب الشيطان فإن سُدَّ باب الوهم والهوى، فقد سُدَّت مسالك الشيطان، واستقام في النفس أمر الرحمن، فالحصن الذي يقي المؤمن فتنه الشيطان، هو الطاعة لأوامر الله تعالى، وتقوية العزيمة.. والإرادة وأن يكون للرحمن وليا ويتقي ولاية غير الله تعالى.
والفتنة معناها في أصل اللغة: فتن الفلزات من الذهب والفضة والحديد والنحاس، لإخراج ما يكون فيها من مادة ليست من جوهرها. ثم أطلقت على كل شدة يتميز بها الخبيث من الطيب، وتختبر فيها الإرادات ويتميز فيها ذوو العزائم، ثم كانت للنتيجة وهي محاولة خداع النفوس بالإتيان بما يهد العزيمة
2807
ويضعف الإرادة، بخداع النفس، وإرهاق الإرادة والطغيان على حكم العقل وإضعاف سلطانه.
وهي هنا من هذا القبيل، فالله تعالى ينهانا عن أن ننخدع بالشيطان، وله ماض في إيذائنا وخدع أبوينا: آدم وزوجه حواء، اللذين كان منهما التناسل الإنساني الدائم، إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.
وقد عزز الله تعالى النهي عن الانخداع بإبليس، بماضيه، إذ خدع آدم وحواء، فأتى نفوسهما من جهة ما هو في فطرة الإنسان، من حب العلو والخلود، فقال لهما مُقْسِما لهما: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) ومن هذا الباب دخل إلى أنفسهما وأتباعه من بعده، يسلكون هذا الطريق ذاته فهم يأتون النفوس من قبل ما تحب وتشتهي، فالأهواء والشهوات الباب الذي يدخل منه الشيطان إلى النفوس، والسلطان والطغيان بابان مفتوحان من أبواب الشيطان.
وقد كان لوسوسة إبليس لأبوي الخليقة، أثران: ذكرهما الحق - سبحانه - في كريم آياته الأولى:
أولهما: إخراجهما من الجنة. فقال فيها: (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ) وهو - كما أخرجهما من جنة الله تعالى - يخرجكم يا بني آدم، من جنة الطاعة وعزتها، إلى ذلة المعصية وغوايتها.
ثانيتهما: أنه ترتب على ذلك أن بدت لهما سوءاتهما، وصارا تحصنان عليها من ورق الجنة، كما قال تعالى: (يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا).
كذلك الشيطان ينزع عن المؤمن كل ما استكن في قلبه من خير، ويكشف عورات الناس، وسوءات المجتمع الإنساني.
2808
وإن في ذلك لإشارة واضحة إلى أن الشيطان الذي نزع لباس آدم وحواء هو الذي ينزع عن العرب لباسهم في الطواف حول أقدس بيت الله في الأرض، أول بيت وضع لعبادة الناس وهو البيت الحرام.
وإذا كان إبليس قد تراءى في الجنة الأولى لآدم وحواء فدلاهما بغرور، فإن أتباعه لَا يظهرون، ولكن يوسوسون؛ ولذا قال تعالى: (إِنَّه يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهمْ).
إن إبليس يختفي ولكن له سلطان قوي على النفوس والقوة الخفية له هو وقبيله أي جماعته التي يجمعها، هذه القوة تبعث في النفس بقدر لَا يقل عن القوة الظاهرة التي كانت لأبوي الخليقة آدم وزوجه، وهذه القوة يؤثر بها في نفوس الكبراء بإغرائهم بالسلطان وتسليطهم على الضعفاء فيكون على الضعفاء قوتان تسيطران على أنفسهم: قوة أصحاب السلطان الظالم، وقوة الشيطان والاستخذاء له في نفوسهم. والمؤمن القوي يدفع الإغراءين ولا يستمع إلا لله سبحانه وتعالى، فإذا كانت هذه تسيطر، فقوة الحق عند أهل الحق أقوى، ولو كانوا عبيدا أو ضعفاء، لأنهم مؤمنون بالله - سبحانه وتعالى - وقد ذكر النبي - ﷺ - في تأثير الشياطين الخفية وتأثير الملائكة " أن للملك لمة وللشيطان لمة، فأما لمة الملك فوعد بالخير وتصديق بالحق، وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق " (١).
واللمة ما يلم بالقلب ويتصرف القلب والنفس بمقتضاه، قالقلب تتنازعه قوة الحق وهي من الله أو من الملك، وقوة الشر، وهي من الشيطان، وهو يرهب من الحق، ونتائجه، ويغري بالهوى والشهوة.
وإن قوة الإيمان تدفع إغراء الشيطان، فالإيمان والتقوى حصنان للحق، والكفر والهوى حظيرة الشيطان؛ ولذا قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنونَ).
________
(١) رواه بنحوه الترمذي: التفسير - ومن سورة البقرة (٢٩٨٨) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
2809
إنه إذا كانت التقوى قوية، تكون إرادتها للحق، وعزيمتها في الخير عزيمة صادقة، لَا يقوى الشيطان على قهرها، أما النفوس المضطربة بالباطل التي فسدت فطرتها، فإن الشيطان يجد السبيل لبث شروره وإغرائه وفتنته وخديعته فيها؛ فإنها لفساد فطرتها واضطراب فكرهم - تجد فيها الشياطين داعيتهم، وهذا معنى جعلهم أولياء للشياطين، فمعنى قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ).
أي أنهم لإفساد فطرتهم المستقيمة وجعلها معوجة، والاعوجاع دائما، يفتح ثغرات لهذا الشر، وتلك الوسوسة التي بها يكون الشياطين أولياءهم، وإنما جعل الله تعالى الولاية ليست في النفوس الإنسانية، وإنما جعلها للشياطين أنفسهم، فقال سبحانه: (إِنَّا جَعَلْنَا الشيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)؛ لأن الشياطين يفعلون والنفوس الإنسانية تتقبل، واعوجاجها يسهل دخول الشر فيها، والولي هنا هو الموالي والنصير المتصل، فالله - سبحانه - جعل الشياطين موالى وأحباء وأصدقاء للذين لَا يؤمنون، الذينِ ليست قلوبهم مؤمنة مذعنة للحق؛ ولذا ذكر الفعل المضارع بقوله: (لِلَّذِين لَا يُؤْمِنُونَ)، أي لمن ليس من شأنهم الإيمان والإذعان للحق، فالكافرون أولياؤهم الشياطين والطاغوت.
وإن من إغواء الشياطين لبني آدم، أن ينسبوا أفعالهم إلى الله، وإلى أتباع آبائهم؛ ولذا قال تعالى:
* * *
2810
(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا... (٢٨)
* * *
أشرنا إلى ما كان يفعله المشركون في الحج، وما كانوا في هذا إلا متبعين لما كان عليه آباؤهم، وفي هذا يتبين ما جاء عن مفسري التابعين في هذا الموضوع.
الفاحشة: الأمر الزائد عما تقبله العقول المستقيمة، والاحتشام الإنساني والحياء الخلقي، ولا شك أنهم بطوافهم عراة، يرتكبون أفحش الأعمال الخارجة عن حدود العقل، والاتزان، والحياء الفطري.
ولقد روى مجاهد في ذلك، أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة، فكانوا يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا، وكانت المرأة تضع على قُبُلها شيئا تستره به،
2810
فأنزل الله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا) وقد قال الحافظ ابن كثير في ذلك: وكانت العرب ما عدا قريشا، لَا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لَا يطوفون في ثياب عصوا الله تعالى فيها، وكانت قريش، وهم الحمس (جمع أحمس) يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسي ثوبا طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه لئلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوبا جديدا، ولا أعاره أحمسي ثوبا طاف عريانا، وربما كانت امرأة فتطوف عريانة فتجعل على فرجها شيئا يستره بعض الستر فتقول:
اليوم يبدون بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
" وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل، وكان هذا شيئا ابتدعوه من تلقاء أنفسهم ".
وإن هذا الكلام يدل على أمرين خطيرين:
أولهما - أن ذلك كان يحدث من العرب مخالفا كل عرف، ومخالفا لكل تفكير سليم فما كان ليرضى أحدًا مثل هذا، وهو أشد أحوال الفحش في الأفعال! ثانيهما - ما يزعمون من أنهم لَا يطوفون بثياب ارتكبت فيها معاص لهم.
وكأن قريشًا لَا معاصي لهم، مع أن بعضهم ما كان يتحاشى المفاخرة بالمعاصي، فقد كان منهم من هو رجس في رجس. وإذا كان منهم من كان يمتنع من التدلي فيما يخدش مروءته كعبد المطلب، وأبي طالب، والعباس، فقد كان منهم أيضا من لَا يمتنعون عن بعض المعاصي، كالربا ونحوه.
وإنهم إذ يفعلون هذه الفاحشة يبررونها بأمرين:
أولهما - أمر يتفق مع العقل الجاهلي، وهو أنهم يقولون: (وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا)، ولو كانت فحشا، ولو كان آباؤهم لَا يعقلون شيئا ولا يهتدون.
2811
الأمر الثاني - أنهم يفترون على الله، ويقولون: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) ويتأولون ذلك بأنه ما دام لم ينهنا عنها فقد أمرنا بها.
وهذا تفكير جاهلي، يقولون أمر الله بالشرك وبتحريم بعض الذبائِح، وِتحريم بعض ما تخرجه الأرض، ويقولون: (... لَوْ شَاءَ اللَّه مَا أَشْرَكنَا وَلا آباؤنَا ولا حرَّمْنَا مِن شَيْء...)، وهذا ما يبرر به المعاصي بعض الجاهلين في هذا الزمان، وقد رد الله كلامهم بقوله تعالى: (قلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمر بالْفَحْشَاء أَتَقولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
أمر الله تعالى نبيه بأن يواجههم بافترائهم على الله تعالى، ببيان أنه يستحيل على الله ما يفترون عليه؛ لأن الله تعالى له الكمال المطلق، ومن له الكمال المطلق لا يأمر بالفحشاء؛ لأنه لَا يصدر عنه إلا ما هو كمال في ذاته، ولا يتنافى مع عقل عاقل ويرضاه ذو ذوق سليم، وقال تعالى: (لا يَأمر بِالْفَحْشَاءِ) ولم يقل " ما أمر بذلك "، أو ما أمر بالفحشاء، بل قال نافيا الأمر بالفعل المضارع: (لا يَأْمُر بِالْفَحْشَاءِ) فلا يمكن أن يأمر بذلك لَا في الماضي ولا في المستقبل، وليس من شأنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وكان النفي بالمضارِع؛ لأنه نفي لشأن الله ثم قال تعالى، كما أمر نبيه أن يستنكر قولهم: (أَتَقولُون عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)؟! الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، أي لتوبيخهم على ما وقع منهم؛ لأنهم فعلا افتروا على الله افتراء، فقالوا ما لَا يعلمون صدقه، ولم يصل إليهم عن الله تعالى أمره فيه وحكمه.
وإن ذلك فوق أنه توبيخ لهم، واستنكار لفعلهم - فيه توجيه لهم لئلا يتكلموا إلا بعلم، وأن الشيطان لينفذ إلى ما يحكمون به بأوهامهم وأهوائهم.
وتقديم قوله تعالى: (عَلَى اللَّهِ) لبيان وجه الاستنكار الشديد، وهو أنهم يقولون على الله جل جلاله، فكان قولهم هذا أشد الافتراء.
ثم بين سبحانه فقال بعد أن نفي أنه يأمر بالفحشاء:
* * *
2812
(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩)
* * *
2812
ذكر الله تعالى في الآية السابقة أن الله تعالى لَا يأمر بالفحشاء، أي لَا يأمر بالأمر الذي يفحش، فلا تستطيع العقول المستقيمة المدركة أن ترضى به، وهنا يبين ما يأمر به سبحانه، فيقول: (قلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ)، وإن السياق يقتضي أن يكون ما أمر الله به نقيض الفحشاء، فالقسط هنا يفسر بأنه العدل، والعدل كل أمر في ذاته مستقيم تقره العقول ولا ينكره الذوق السليم، فالعدل يشمل العدل في الحكم، والعدل في الأقوال والأفعال، والاعتدال في كل ما يختار في الأمور، فلا يمتد إلى الحرمان، ولا إلى الاعتداء، بله الإفحاش؛ ولذلك قال بعض المفسرين: إنه يشمل كل ما أمر الله به، فما يأمر إلا بما هو عدل، وما نهى إلا عما هو ظلم. وقال أبو مسلم في تفسيره: إنه الطاعات كلها، والتعبير بالماضي في " أمر " فيه تكذيب لافترائهما وأنه لم يأمر به الله سبحانه، فالله - سبحانه وتعالى - ما أمر بالفحشاء، بل أمر بالقسط، وما به تستقيم الأمور في العقول.
ولقد صرح - سبحانه - بما يجب للمساجد، من تعظيم، لَا أن يطَّوَّفوا عراة بالمسجد الأعظم، الذي كرمه الله تعالى، وتشد إليه الرحال؛ ولذا قال تعالى: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كلِّ مَسْجِدٍ).
هذا أمر معطوف على خبر في الظاهر، ولكن قالوا إن قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكمْ) " أن " مطوية في الكلام ومقصودة والسياق هكذا: " أمر ربي بالقسط وبأن أقيموا وجوهكم عند كل مسجد ". وأقول إن: " أقيموا " معطوف على " أمر؛ لأن " أمر " يتضمن معنى الطلب، فهو عطف طلب على طلب.
وإقامة الوجه عند كل مسجد، هي الاتجاه إلى الله تعالى، مثل قوله تعالى: (فأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا...)، والوجوه هي الذوات، أي اتجهوا إلى الله تعالى بكل أنفسكم عند كل مسجد، وكذلك ما يطلبه الله تعالى عند كل مسجد، مع توقير المساجد، وإعطائها حقها في الاحترام والإجلال، فلا يصح أن يكون فيها عرى أو ما يكون رذيلة في ذاته، أو ما يبعث على الرذيلة، وأن يكون
2813
الاحتشام هو الزي الأكمل، وإقامة الذات لله تعالى أن تكون خالصة له سبحانه، ومستشعرة خشيته، وجلاله، وقرن هنا بالمسجد، لكرامة المسجد كما ذكرنا؛ ولأنه رمز الصلاة، فإقامة الوجه في الصلاة بأن تكون مقومة فيها استحضار عظمة الله سبحانه في قراءتها وأدعيتها وكل حركاتها، لَا يعمر القلب فيها غير الله تعالى.
وقرن - سبحانه وتعالى - الأمر بإقامة الوجوه لله بالأمر بالدعاء مخلصين له الدين، فقال تعالى: (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، الأمر بالدعاء هو الأمر بالعبادة، لأن العبادة دعاء، والدعاء في ذاته اتجاه إلى الله بضراعة وخشوع وخضوع، فقد أمر الله تعالى بمعاملة الناس بالقسط بين الناس، ثم أمر من بعد بإقامة الوجه لله تعالى بالانصراف إليها بذواتنا، بأن نجعل كل مشاعرنا، وخلجات قلوبنا لله تعالى، بحيث لَا نحب إلا لله، ولا نبغض إلا لله، وأن نكون ربانيين في أنفسنا، وعقولنا، وقلوبنا، ثم أمرنا من بعد أن نعبده وحده، قد خلصت قلوبنا له؛ ولذا قال: (مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ) والدين هنا الطاعة، وكل العبادات.
مخلصين له كل هذا، بحيث لَا نشرك في عبادته أحدا، فلا نعبد أحدا سواه، ولا نرائي في عبادته، فالرياء في العبادة هو الشرك الخفي، ولذا ورد أن النبي - ﷺ - قال: " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك " (١).
وقد قرن - سبحانه وتعالى - هذه الأوامر بالتحذير من عصيانه، والتذكير بالبعث، وأنه وراء البعث القيامة والحساب والثواب أو العقاب، ولذا قال تعالى: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).
وفى هذا النص دعوة إلى الإيمان بالبعث، وتذكير به، وهذا التذكير يحمل في نفسه دليله، و " الكاف " دالة على التشبيه، والمعنى بهذا البدء بالخلق والتكون تعودون، أي يعيدكم كما بدأكم، ففي الآية ذكر للبعث، ودعوة إلى الإيمان به، والدليل عليه بقياس الإعادة على الإنشاء، وأنه أهون، والله على كل شيء قدير،
________
(١) سبق تخريجه
2814
وأنه يكون من بعده الجزاء، فمن اهتدى فله الثواب، ومن ضل نزل به العقاب، ولذا قال تعالى:
* * *
2815
(فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
* * *
يبين الله - سبحانه وتعالى - أن الناس عند عودتهم إلى فريقان: فريق هداه الله تعالى في الدنيا وفريق كان من أولياء المثحياطين، وحق عليه الضلالة.
و (فَرِيقًا هدَى) حال من (تعودون) في الآية، أي يعودون فريقا هداه الله تعالى، وفريقا حقت أي ثبتت عليه الضلالة، والفريق الذي هداه الله قد اتخذ الطريق المستقيم سبيلا، ولم يتخذ طريقا عوجا، فإنه يُضل، والفريق الذي ثبتت وتقررت عليه الضلالة، هو الذي اتخذ الشياطين أولياء له يودهم ويحبهم؛ لأنه اتجه إلى المعاصي يشتار عسلها، وجعل قلبه موطنا للشيطان يسكنه، ويغويه ليحقق قسمه لله تعالى بقوله: (... لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ).
ولقد بين النبي - ﷺ - في أحاديث عدة أن الناس يولدون على الفطرة، والفطرة التي فطر الله الناس عليها مستقيمة دائما لَا تخرج عن سنن الحق بمقتضى العهد الفطري الذي أخذه على بني آدم من ظهورهم وذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا، وإن الشياطين هي التي تحولهم عن الفطرة إلى الضلالة، ولقد قال - ﷺ -: دزكل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصرانه، أو يمجِّسانه) ((١)، وروى مسلم في حديث قدسي عن النبي - ﷺ -: " إني خلقت عبادي حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم " (٢)، فالله سبحانه خلق الخلق، وهم يدركون بفطرهم أن لهذا الكون خالقا، وأنه وحده الذي انفرد بالخلق والتكوين، وذلك بمقتضى الميثاق الذي أخذ عليهم بمقتضى الفطرة والغريزة، كما أشرنا.
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) جزء من حديث رواه مسلم: (٥١٠٩) من حديث عياض المجاشعي رض الله عنه. ورواه أحمد (١٧٠٣٠) بلفظ (فأضلتهم عن دينهم).
2815
وإن من يسلك طريق السعادة يتجنب الاستجابة للشيطان، ويستيقظ لفِتَنِه، فلا يمكنها من أن تسيطر عليه، وتستمكن من منازعه، وحتى مكن للشيطان من أَن يصل إلى توجيه فكره، ونفسه، وإرادته، فقد اتخذه من دون الله وليا، وقد روي في الصحيحين " من كان من أهل السعادة فيُيَسَّر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فيُيَسَّر لعمل أهل الشقاوة " (١).
والآية الكريمة تقول: (فَرِيقًا هَدَى) ولم يذكر الفاعل وهو الله تعالى، تكرما من الله تعالى، يشير إلى أن الهداية ابتداء باتجاه من الذي هداه الله تعالى، كما أن أهل الضلالة قد حقت وثبتت عليه الضلالة بعمل ممن ضل وغوى، وقال سبحانه في أهل الغواية: (اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ) أي أنهم فتحوا قلوبهم وسخروا عقولهم وإراداتهم للشيطان، فكان لهم وليا من دون الله؛ لأنهم هجروا فطرتهم، وهجروا أوامر الله تعالى ونواهيه، ومعنى (مِن دونِ اللَّهِ) تعالى، أي من غير إطاعة الله.
ولقد قال تعالى في الآية السابقة: (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)، وفي هذه الآية يقرر الله تعالى أن أهل الضلالة اتخذوا الشياطين أولياء، فالولاية ئبتت من الجانبين: الشياطين أرادوها للإغواء، وأهل الضلالة فُتِنوا بالإغواء، فاتخذوهم أولياء، وإنه لاتخاذهم الشياطين أولياء كان منهم ضلال فكري، بهذا الاتخاذ؛ ولذا قال تعالى: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهم مُّهْتَدُونَ) الضمير يعود على فريق الضلالة الذين حقت عليهم و (وَيَحْسَبُونَ) معناها يظنون متوهمين أنهم مهتدون، أي أنهم بسبب عملهم الإيجابي في اتخاذهم الشيطان أولياء من دون الله تعالى انقلبت أفهامهم، وأركس إدراكهم، فزين لهم سوء أعمالهم فحسبوه حسنا، فظنوا بأوهامهم أنهم مهتدون، وهذا شر أنواع الضلال، بأن يسير المرء في طريق الباطل، وهو يحسب أنه الحق والهداية.
________
(١) متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية علي رضي الله عنه.
2816
وإن هؤلاء في حسبانهم الغواية - محاسبون على ذلك؛ لأن الله بين الحق فأعرضوا، وعاندوا واستكبروا، فلم يطيعوه عنادا واستكبارا، حتى فسدت مداركهم، وضلت أفهامهم، فحسبوا الباطل حقا، والضلالة هداية ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* * *
(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٣)
* * *
هذه الآيات الكريمة تبين ما أحل الله تعالى وما حرم، وأن ما أحله الله تعالى طيب فإنه تعالى طيب لَا يحل إلا طيبا، وما حرمه هو خبيث في ذاته من أفعال وأشياء، وقد ابتدأ - سبحانه وتعالى - بإحلال ما كان العرب يحرمونه من ستر أنفسهم في الحج عند الطواف بالبيت الحرام، فقال تعالى:
2817
(يَا بَنِي آدَمَ خذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) كان بعض العرب يطوفون عراة، كما بينا في ذكر معاني الآيات السابقة، وإن الله تعالى قد أنعم علينا باللباس الذي يواري سوءاتنا والريش من الثياب الذي نتزين به، لنبدو في أقوم صورة، أو في صورة لَا تشنأها الأنظار، فقد ورد عن النبي - ﷺ - أنه قال: " إن الله جميل يحب الجمال " (١)؛ ولذا قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا
________
(١) رواه مسلم: الأيمان (١٣١) باب: تحريم الكبر وبيانه، وأحمد: مسند المكثرين من الصحابة (٢٦٠٠) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
2817
زِينَتَكُمْ عِندَ كلِّ مَسْجِد) النداء لبني آدم يشمل الناس أجمعين لقوله تعالى (يَا بَنِي آدَمَ)، فلماذا اختص النداء هنا بقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ) ونقول في الجواب عن ذلك الاستفهام المفروض أن ذلك للتذكير بحال آدم وزوجه عند إخراجهما من الجنة، وبدت سوءاتهما وأخذا يخصفان عليهما من ورق الجنة.
وقوله تعالى: (خُذوا زِينَتَكمْ عندَ كلِّ مَسْجد)، معناه البسوا لباسا يكون فيه زينة وتجمل لكم، وقال تعالى: (خذوا زِينَتَكمْ) شاه تحروا أن تأخذوا بأسكم متزينين متجملين بها، عندما تدخلون أي مسجد، وإن ذلك لتكون المساجد نظيفة دائما، ويحسن فيها الطيب ليكون فيها أريج تطيب له الأنفس وتقبل عليه جموع المصلين، وإن ذلك يوجب أمرين.
أحدهما - لستر العورة باللباس السابغ الطيب الذي هو زينة في ذاته، والعرى فيه ظهور للعورات، والعورات سوءات يسوء النظر إليها.
ثانيهما - أن يكون ثمة تجميل، وقد حسَّن النبي - ﷺ - التجمل عند دخول المساجد، وكان النبي - ﷺ - يتجمل في ثيابه، ولا يتبذل فيها، وخصوصا في المسجد، وعند استقبال الوفود.
ويقول تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، هذا أمر بالأكل وهو في معنى الإباحة بالجزاء بأكل أي جزء، أو أي نوع فيأكل بُرا أو تمرا، أو شعيرا أو أرزا. ويجب بالكل، فلا يصح أن يحرم نفسه من الطعام، وإلا أودى بنفسه إلى الهلاك ولا يحرم على نفسه نوعا من الطعام دون نوع، كالذين يحرمون على أنفسهم أكل اللحوم فإنه يجب عليهِم أن يتناولوها، حتى لَا يقعوا في النهي في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تُحرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكمْ...).
ولقد روى الإمام أحمد بن حنبل أن النبي - ﷺ - قال: " كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة "، والإسراف يكون في ناحيتين:
2818
إحداهما - أن ينفق مبذرا فوق طاقته، بأن يكثر من الضيفان فوق طاقته فإن ذلك تبذير منهي عنه، وقد قال تعالى: (إِنَّ الْمبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ...).
والثانية - أن ينال من الطعام ما يثقل معدته وأمعاءه، وجسمه، ولقد قال النبي - ﷺ - فيما رواه النسائي والإمام أحمد: " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنٍ؛ حسب ابن آدم أُكلات يُقِمْن صُلبَه فإن كان لَا محالة، فثلث طعامٍ وثلث شراب وثلث لنفسه " (١).
وإن الإسراف في الطعام يختلف مقداره ونوعه باختلاف حال الطعام، وإن كان مريضا، فما يؤدي إلى زيادة مرضه إسراف، وإن كان قويا معافى فلا يتناول ما يؤدي إلى إتخامه، فإن زاد فقد أسرف، وقد قال تعالى في صفات المؤمنين: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا).
وقد بغض الله تعالى الإسراف للناس ببيان أنه سبحانه لَا يحبه ولا يرضاه لعباده فقال تعالى: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) لأن الإسراف يؤدي إلى إضرار أبدانهم، وحرمان لغيرهم، وضياع لذوي الحاجة في الجماعة الإسلامية كما قال ابن عباس: ما من مسرف إلا ووراءه حق مضيع. وقد أكد - سبحانه وتعالى - بغضه للإسراف بنفي المحبة، ومحبة الله مطلب المؤمنين، ولقد كان من العرب من حرم زينة الله وأوجب العري عند الطواف فاستنكر الله تعالى فعلهم، وقال:
* * *
________
(١) رواه أحمد: مسند الشاميين - حديث المقداد بن معدي كرب (١٦٧٣٥)، والترمذي بلفظ مقارب: الزهد - ما جاء في كراهية كثرة الأكل (٢٣٨٠)، وابن ماجه: الأطعمة - الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع (٣٣٤٩).
2819
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ... (٣٢)
* * *
أمر الله تعالى نبيه الكريم بأن يستفكر ما كان من الذين حرموا زينة اللباس افتراء على الله تعالى كما كان يفعل المشركون، أو تزهُّدا كما فعل جهلة المتعبدين
2819
فقال: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) الاستفهام إنكاري لنفي الواقع لا لنفي الوقوع؛ لأنه وقع من المشركين، وإنكار الواقع توبيخ لهم على ما وقع.
وقد وقع في هذا بعض العرب، فطافوا عراة في المسجد الحرام، كما ذكرنا، وقد كان الأمر في الآية السابقة يأخذ الزينة في المسجد الحرام وعند كل مسجد، وفى هذه الآية يستنكر تحريم الزينة في المساجد وغيرها، وهي آمرة باتخاذ الزينة أمْر إباحة، وكان النبي - ﷺ - يتحمل في ثيابه، وإن كان يرقعها أحيانا (١)، وكان يحث أصحابه على أن يتخذوا أحسن الثياب حتى إذا أوشكت على البلى تصدقوا بها، وكان السلف من الصحابة والتابعين يعنون بثيابهم، وإذا كان قد روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه في مدة خلافته كان يلبس أحيانا ثوبا تعد رقعاته، فما ذلك لتحريم التجمل على نفسه، بل لمعنى في الحكم الآمر نفسه، فهو يقول: لا أكون أمير المؤمنين إن لم أعش كأضعف المؤمنين.
وكان علي بن أبي طالب إمام الهدى يعنى بثيابه ويتجمل بها، فلما ولي أمر المؤمنين كانت أول كلمة قالها: سأرفع من ثوبي ما كنت أجر.
وقوله تعالى: (الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ)، أي أنه - سبحانه وتعالى - مكن عباده من إخراجها ونسجها، وأنشأ لهم مصدر وجودها، فهو - سبحانه وتعالى - هو الذي أنزل المطر بالماء العذب من السماء فكان النبات، وعاش بالنبات الحيوان، وكان من النبات القطن والكتان، وكان من الحيوان الصوف والوبر والشعر، وكان من كل ذلك اللباس والرياش، وما خلق ذلك عبثا، بل كان وفق ما سنه - سبحانه وتعالى - ولا يليق بمؤمن أن يرد إنعام الله، ولقد قال - ﷺ -: " إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " (٢). وكما استنكر القرآن الكريم الذي أنزله رب العالمين تحريم الزينة استنكر أيضا تحريم الطيبات، والطيبات هي الأطعمة التي تستلذ وتستطاب ما دامت لَا تضر الأجسام، وهي ضد الخبائث كما قال تعالى: (... وَيُحِلُّ لَهُمُ
________
(١) وذلك كما رواه أحمد: باقي مسند الأنصار - باقي المسند السابق (٢٥٥٢٧).
(٢) رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال: هذا حديث حسن. سنن الترمذي: الأدب - ما جاء في أن الله يحب أن يرى أثر نعمته (٢٨١٩).
2820
الطَّيِّبَاتِ وَيحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ...) فهي الطعام الطيب الهنيء المريء الذي تقبل عليه النفس وتهنأ به وهو لَا يعقبه ضرر: من لحم طري، وسمك شهي، وغير ذلك مما يستطيبه الإنسان.
ولا يتم الطعام الطيب ويكمل إلا إذا كان طيبا في طريق كسبه، فلا يكون قد أحذ من حرام لقوله عليه الصلاة والسلام " من نبت لحمه من حرام فالنار أولى به" (١).
فالطيب من الطعام له خاصتان أولاهما - أن يكون مستطابا في ذاته مريئا في عاقبته، والثانية أن يكون من كسب حلال.
وإنه من المقررات العلمية أن يكون من غير إسراف كما ذكر الله تعالى في الآية السابقة، ويجب أن يعالج العاقل نفسه، حتى لَا تندفع إلى الإسراف؛ ولذلك يحسن ألا يأكل كل ما يشتهي ولو كان حلالا، بل يفطم النفس في بعض الأحيان أو كلها لأمرين:
أولهما - أن ذلك تقوية للإرادة فلا يكون عبدا لبطنه، فلا يقع في الإسراف المنهي عنه.
ثانيهما - أن التمكن من أكل الحلال أمر كله لَا يدوم، فقد يصاب بالحرمان فيستعد له قبل الابتلاء به، فيكون قادرا على الصبر، وإن الله تعالى مكن الذين آمنوا من هذه الطيبات في الدنيا فقال تعالى: (قلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَئوا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
أي أنها مباحة في الحياة الدنيا للذين يستمتعون بحلالها من غير إسراف، ولا تقتير وقوله تعالى: (خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، يحتمل أن يكون المعنى أن هذه المتع يشترك في الدنيا معهم فيها غير المؤمنين، أما يوم القيامة وفي الآخرة فتكون خالصة للمؤمنين؛ لأنها تكون جزاء وفاقا لما قدموا في الدنيا،
________
(١) سبق تخريجه.
2821
ويحتمل أن المعنى أنها تكون في الدنيا صادرة عن نفوس طيبة مؤمنة، وتكون خالصة لله تعالى، وخالصة من كل إثم، أما غير المؤمنين فإن تناولهم لهذه الطيبات قد يكون إثم مبطئ من الخير، فحبطت أعمالهم، والاحتمالان جائز جميعهما، فيكون المعنى خالصة يوم القيامة لهم، وخالصة من الآثام في الدنيا، وختم الله - سبحانه وتعالى - الآية بقوله تعالت كلماته:
(كَذَلِكَ نُفَصَلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، أي كهذا البيان الذي بينه تعالى في هذا الشأن يفصل، أي يبين الآيات القرآنية والكونية لقوم من شأنهم أن يعلموا، فلا تغطي غواشي الأوهام والأهواء قلوبهم، فيدركون الحق ويعلمون بنور بصائرهم، ومن شأنهم أن يعلموا؛ ولذا عبر بالفعل المضارع والله تعالى أعلم.
* * *
2822
(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٣)
* * *
حرم أركون أو بعضهم اللبس في الطواف، وحرموا بعض الأطعمة، وأباح الله تعالى ذلك للمسلمين في غير إسراف ولا لتفاخر، بل بتجمل وتستر، بعد ذلك بين الله ما حرمه على الناس، وتحريمه مستمد من الفطرة؛ ولذا أمر الله تعالى نبيه أن يبين لهم ما حرم والفطرة تحرمه. قال عز من قائل: (قلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
أمر النبي - ﷺ - بقوله (قلْ)؛ لأنه مبين شريعة القرآن، والمبلغ لها، وبين لهم قصر التحريم على الفواحش والإثم والبغي، والشرك والكذب على الله.
و (إِنَّمَا): للقصر، أي أن التحريم مقصور على هذه المحرمات كلها، وأهل الشرك ما كانوا يتحرجون عنها بل ارتكبوها كلها، وقال سبحانه: (حَرَّمَ رَبِّيَ) للإشارة إلى أن المحرِّم هو رب الوجود ورب الإنسان الذي يعلم الفطرة، وفى ذلك إشارة إلى أن الذي حرم هذا، إنما حرمه متسقا مع الفطرة التي فطر الناس عليها، وهو رب كل شيء، والفواحش هي الأمور التي تفحش وتزيد على
2822
الفطرة، وهي تشمل كل المعاصي، وخصوصا كبائر الذنوب فتشمل كل الموبقات المفسدة للنفوس والجماعات، وبذلك كل ما يجيء من إثم وبغي يدخل في عمومها، ويكون ذكر الإثم والبغي، تخصيص بعد تعميم، فيكون العطف عليها من عطف الخاص على العام.
وقد نقول: إذا اجتمعنا خصص كل واحد بمعنى، فتخصص الفواحش بالمعاصي الصارخة التي تفسد النفس والمجتمع كالزنى، والخمر، والربا، وغير ذلك، وبعضهم خصصها بالزنى وما يتصل به من قذف للمحصنات وغير ذلك والفواحش على معناها العام والخاص يحرم ما ظهر منها وما بطن، وما يظهر منها وما يعلن، وجريمته جريمتان جريمة الفعل، وجريمة الإعلان، وما بطن ما استتر كاتخاذ الأخدان، ويشمل ما بطن فسق القلوب وذلك بالعزم على فعل هو شر في ذاته، ولكن يحول دون تنفيذه أمر فوق إرادته فهذا يكون معصية، ولا يدخل في ضمن حديث النفس الذي تجاوزه الله عن أمة محمد؛ لأنه حدث ونوى واعتزم التنفيذ ولكن حيل بينه وبينه بغير إرادته وعلى رغمه، وقد تكلمنا في ذلك فيما مضى والإثم ذنب لَا يتجاوز أذاه فاعله، فهو يبطئه عن فعل الخير، وآثامه على نفسه كشرب الخمر، وتناول الآفات التي تضر نفسه، ولا تتعدى إلى غيره، وإن كانت التفرقة بينهما في بعض المجتمعات عسيرة، والبغي هو المعصية التي تتعدى إلى غيره، ووصفه سبحانه بقوله: (وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) ولا يكون البغي إلا بغير الحق، وهو تنبيه إلى ما يتضمنه البغي فهو يتضمن إثم التعدي، وإثم أنه فعل غير الحق فهو تصريح بما هو قبيح في ذاته.
ومن البغي أكل أموال الناس بالباطل في الربا، والرشوة والسحت ومن البغي أكل مال اليتيم، ومن البغي النميمة والغيبة، وأشد البغي الحكم بغير ما أنزل الله، والحكم بين الناس بالباطل ومن أفحش البغي ظلم الحكام للرعية والغلظة عليها، وإرهاقها، وإيذاؤها في حرياتها، ولقد قال - ﷺ -: " اللهم مَن وَلِيَ من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومَن وَلِيَ من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق
2823
به " (١) هذا هو القسم الأول مما حر مه الله تعالى وهذا القسم الآتي داء الشر، ولذا قال تعالى: (وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا).
هذا أشد المحرمات، وهو محرم بأمر الله، ومحرم ببديهة العقول، حتى لقد قال العلماء: إن وحدانية الله تعالى أمر تصل إليه العقول بالبديهة أو النظر القريب.
قال تعالى: (وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ)، أي أن تجعلوا شريكا لله تعالى في العبادة شيئا، أو جحرا، أو شخصا، لم ينزل الله به سلطانا، ويقول العلماء: إن السلطان هنا الحجة أو الدليل.
وأرى ما رأوا، ولكن في التعبير عن الحجة بـ " سلطان " إشارة إلى معنى أن هذه الأوثان وما شابهها لَا قدرة لها، ولا تثبت أن لها قوة تنفع وتضر، ومهما يكن، فإنهم يعبدونها بالأوهام المسلطة من غير سلطان من حجة أو دليل، ومن غير أن يعرفوا بالعيان أن لها سلطانا في الأفعال أو التوجيه في الكون، إنما هي الأوهام التي تصورها صالحة للعبادة مع الله تعالى لَا شريك له.
إن من الأمور التي حرمها الله تعالى أن نقول على الله مفترين؛ ولذا قال تعالى: (وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
هذا ثالث نوع من أنواع المحرمات، وهو الافتراء بأن يقولوا على الله ما لا يعلمون أن الله حكم به وقاله أو شرعه، كتحريم بعض الأحكام، وتحريم لبس اللباس في الطواف، ويقولون أنه من عند الله، وما هو من عند الله. وكما قال الله - تعالى - في الآية السابقة: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّه أَمَرَنَا بِهَا)، فذلك افتراء، وهو من أشد الافتراء (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّه كذِبًا...).
* * *
________
(١) رواه مسلم: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (١٨٢٨)، وأحمد: باقي مسند الأنصار - حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (٢٤١٠١).
2824
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (٣٧)
* * *
لقد فعل الناس ما فعلوا في الدنيا منكرين ما أنكروا من بعث ونشور وحساب وعقاب، ومنهم من آمن بالله وبالبعث، وبإرادة الله تعالى الذي يختار ما يشاء، ويبتدئ من بعد ذلك بيان الحقائق لمن آمن واهتدى ولمن ضل وغوى كتابا منشورا ويبتدئ ذلك من البعث، وقد بين الله - سبحانه وتعالى - أن الجميع إلى نهاية ومن بعدها البعث فقال تعالى:
2825
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)، هذا بيان نهاية كل إنسان في هذه الحياة الدنيا، فهو يعيش إلى أجل محدود قد عينه الله تعالى له، لَا يتأخر ولا يتقدم، وأجل الإنسان هو نهاية حياته.
وقال - سبحانه وتعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ)، ولم يقل لكل إنسان أجل مع أنه لكل إنسان أجل فعلا فلماذا اختار - جل جلاله - ذكر أجل الأمة تلك حكمة الله تعالى فيما يختار من بيان في الذكر الحكيم، ونتلمس الحكمة في ذلك، نقول: إنه - سبحانه وتعالى - ذكر الأمة، دون الآحاد بآحادها أولا - لأنه إذا كان للأمة بآحدها وجماعاتها أجل فأولى أن يكون للآحاد آجالها، ثانيا - ولأن الأمة
2825
هى الجماعة التي يجمعها عصر وعادات وتقاليد، ويكون فيها توجيه إلى الخير أو إلى الشر، فهي جيل له أحواله، وعليه تبعاته، فالله - سبحانه - أخبرنا أن لكل جيل من الأجيال أجله الذي ينتهي عنده، ويذهب بأثقاله ويجيء من بعده جيل آخر له شأنه.
وقوله تعالى: (لا يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً) والساعة أقل من الزمان، والسين والتاء في (يَسْتَأخِرُونَ) للطلب، والمعنى لَا يتأخرون، والتعبير بالسين والتاء هنا إشارة إلى أنه لَا يتأخر، ولو طلبوا تأخيره، بما يقتضيه حب الحياة بالنسبة للعصاة فإنهم يتمنون الحياة، ولا يتمنون الموت أبدا.
(وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)، " أى لَا يُقَدَّم ولو طلبوا أن يقدموا؛ كأولئك المؤمنين الذين يستعجلون لقاء ربهم لَا طلبا للموت ولكن رغبة في الحياة الآخرة ولقاء ربهم، طمعا في ثوابه، أو رغبة في رضوانه.
والمعنى لكل أجل كتاب والموت بأي سبب من الأسباب هو نهاية الأجل الذي لَا يتأخر ولا يتقدم فالموت بمرض، أو بقتل أو حرق أو غرق، أو استشهاد في سبيل كلمة حق لأجل الله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ...).
وقدم قوله تعالى: (لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً) على (يَسْتَقْدِمُونَ)؛ لأن الرغبة
كثيرة، والرغبة في التقديم قليلة والله يتولى الأنفس وهو بكل شيء عليم.
وإن من بعد انتهاء الآجال يكون البعث، ويكون بعد البعث الحساب على التصديق والتكذيب لما جاء به الرسل، ولذا قال عز من قائل:
* * *
2826
(يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥)
* * *
خاطب الله تعالى بني آدم، وفي ذكر آدم - عليه السلام - نبيه وتذكير بما كان من إبليس لآدم - عليه السلام - وعمله على إغوائه وإغواء ذريته من بعده، وقوله:
2826
(إِمَّا يَأتِيَنَّكُمْ) فيه " إن " الشرطية، و " ما " المؤكدة لمعنى الشرطية، وهذا تأكيد من الله تعالى بأنه سيرسل رسلا مبشرين ومنذرين، كما قال تعالى: (... وَإن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)، وقولى: (... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسولًا)، ولذا أكد الشرط مع " ما " بالنون. ومؤدى الآيات أن الله تعالى مرسل الرسل لَا محالة ولكن ذلك ليس بواجب عليه تعالى، لَا يجب عليه شيء، ومن الذي يوجب عليه شيئا، (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، فالكمال كله له تعالى.
ورسل: جمع رسول، وقد أشار - سبحانه - إلى عملهم، وهو التبليغ عن الله تعالى بقوله تعالت كلماته: (يَقُصُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي) والقصص الإخبار والتكليف، وتوجيه الأنظار إلى الكون قصا وتتبعا، لَا يترك أمرًا واجب البيان ولا يبينه والآيات تشمل لعمومها الآيات المبينة للأحكام التكليفية، والآيات الكونية الدالة على قدرة الله تعالى، وعلى وحدانيته في الخلق والكون، والصفات العلية، وتشمل المعجزات الباهرة التي تدل على الرسالة.
وإن هذا القصص الحكيم، والذكر الذي يهدي ويرشد، هو كالمطر، تتلقاه بعض النفوس فتؤمن به، وتتلقاه أخرى فتكفر به؛ فالغيث ينزل فيأتي بالخصب والخير الكثير للمؤمنين، ولا ينبت نباتا، ولا يسقي حرثا في الأرض الحدباء، قال تعالى: (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يحْزَنُونَ).
الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، والمعنى إذا جاءتهم الرسل بآياتي فمن اتَقى وأصلح... ، ونسب الله - سبحانه وتعالى - الهدى إليه - سبحانه وتعالى - تعظيما لمعناه، ولبيان أن الرسل يتكلمون عن الله: (مَن يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، ولبيان ما يترتب على ذلك، وهو نفي الخوف والحزن، ولذا قال تعالى: فلا خوف عليهم من عذاب، بل هم في أمن وسلام؛ لأن الهداية أمن واطمئنان، ولأن الطاعة لَا عقاب منها بل ثواب فلا خوف من عقاب.
2827
ولا يحزنون، أي لَا يصيبهم حزن، ولا ألم نفسي أو وجداني، ولا تؤثر فيهم زوابع الحياة لأن نفوسهم مطمئنة بإيمانها، راضية بقضاء الله وقدره، كما قال تعالى: (... أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، فمن اهتدى فقد حصن نفسه بالأمن والرضا، فلا يخاف ولا يحزن.
وقد بين الله تعالى حال الذين لَا يؤمنون بما جاءت به الرسل من الهدى والبينات فقال:
* * *
2828
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٦)
* * *
هنا ذكر للذين يعصون الرسل، ويكفرون بما جاءوا في مقابل الذين اهتدوا بهديهم، وهو هدى الله تعالى، وقد ذكر الله تعالى وصفين لهما هما اللذان أديا بهم إلى عذاب الله تعالى وهما:
الوصف الأول - أنهم كذبوا بآيات الله تعالى كذبوا آيات التكليف فلم يؤمنوا بصدقها عن الله تعالى مع قيام الأدلة على صدقها، والبراهين الدالة على أن الرسل يتكلمون عن الله، فهم إذ يكذبون الرسل يكفرون بمن أرسلهم، ويكذبون بما تدل عليه الآيات الكونية من خلق السماوات والأرض، وما يكون منها من زروع وثمار، وحياة كاملة، وما في السماء من نجوم وبروج إلى آخر ما في الكون من دلالات على أن خالقها واحد أحد هو الفرد الصمد.
الوصف الثاني - أنهم استكبروا عن آيات الله فحسبوا أن اتباع الرسل ينافي عزتهم، وينقص من كبريائهم، فأخذتهم العزة الواهمة بالإثم الحقيقي، وهنا نجد أن الله تعالى يقول: (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا) فعبر هنا التجاوز وذلك للإشارة إلى المجاوزة للحقيقة، أي أن استكبارهم تجاوز بهم عن فهم الآيات وإدراكها لتضمين استكبروا معنى التجاوز، وإن التعدي بـ (عن)، والسياق هذا مؤداه: استكبروا متجاوزين عنها تاركين لها ولقد ذكر سبحاثه جزاءهم فقال: (أُوْلَئكَ أَصْحَابُ النًارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
2828
الإشارة هنا إلى الذين كذبوا آيات الله، واستكبروا معرضين عنها متجاوزين، والإشارة إلى الموصوف بصفات فيها إيماء إلى أن هذه الصفات هي السبب في الجزاء، فهذا الاستكبار، وذلك التكذيب هو السبب في هذا العقاب وهو دخول النار، وتخليدهم فيها، وأنهم لَا خروج لهم منها، وقد أكد - سبحانه وتعالى - خلودهم في النار بمؤكدات ثلاثة أولها - القصر، فقد قصرها عليهم بتعريف الطوفين، وتعريف الطرفين من أنواع القصر، فالمعنى أولئك وحدهم هم أصحاب النار، ثانيها - أنهم أصحاب النار أي الملازمين لها ملازمة الصاحب لصاحبه. ثالثها - التأكيد بضمير الفصل، إذ يقول سبحانه: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وتقديم (فيها) في معنى قصرهم على النار، أي أنهم فيها لَا في غيرها خالدون.
وقد بين - سبحانه وتعالى - ظلم أولئك المكذبين للرسل المفترين على الله تعالى وما يكون لهم يوم القيامة فقال تعالت كلماته:
* * *
2829
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ... (٣٧)
* * *
بعد أن بين الله الذين اتبعوا هدى الله، وما منحهم الله من فضله من اطمئنان وأمن ورحمة، وذكر الذين شقوا فكذبوا بآيات الله تعالى واستكبروا - وصف بعض أفعال المكذبين الكافرين ومآلهم، فقال: إنهم افتروا على الله الكذب، وهم بذلك ظالمون، وكذبوا بآياته، وذلك ظلم ثان عظيم، فقال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كذِبًا أَوْ كذبَ بِآيَاتِهِ).
الاستفهام هنا إما للتعجب أو للإنكار، وعلى الأول يكون المعنى: أي ظلم أفحش وأشد من الكذب على الله تعالى، والافتراء عليه، بهذا أمر من شأنه التعجب منه، وإما على كونه للإنكار فيكون إنكار للواقع للتوبيخ على هذا الذي وقع منه، والتعجب أو الإنكار من أمرين: أحدهما - الافتراء على الله، وهو الكذب عليه عن جهل قاطع للحق، والثاني - تكذيب الآيات، وإن الافتراء على الله تعالى قد وقع من بعض، فمنهم حرم بعض الطعام الطيب ونسب ذلك إلى الله تعالى، ومنهم من زعم أن الملائكة بنات الله تعالى، ومن زعم أن الأوثان
2829
تقرب إلى الله تعالى، فكل هذا افتراء عليه - سبحانه وتعالى - عما يقولون علوا عظيما.
وهذا ظلم عظيم بذاته يتعجب منه ويستنكر، والظلم الثاني التكذيب بآياته، ومعناها ألا يأخذ بما يهديه إليه من معجزات باهرات، وآيات في الكون ظاهرات، ومنها آيات توجب الإيمان بها إيمانا بالرسائل الإلهية كآيات التكليف التي أنزلها الله تعالى على رسله، وعلى رأسها القرآن الكريم.
وهنا إشارتان بيانيتان:
الأولى - قوله: (افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا).. " افترى " هنا معناها قال قولا مخترعا له لم يكن له أصل وهو كذب في ذاته، فالمعنى أنه في حقيقته كذب، قد اخترعه أو افتراه كما في قوله: (... إِفْكٌ افْتَرَاهُ...).
الثانية - في التعبير بأو بدل الواو، وهي للترديد، وهي تشير أن الافتراء على الله بمثل ما ذكرنا من اتخاذ الولد، وغير ذلك من المفتريات ظلم فاحش يستنكر ويتعجب منه، فليس الاستنكار منهما مجتمعين، بل من كل واحد منهما منفردا، ومجتمعا.
بعد ذلك بين الله تعالى ما يترتب على افترائهم وتكذيبهم، فقال تعالت حكمته: (أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهم مِّنَ الْكِتَابِ) الإشارة هنا إلى أولئك الذين ارتكبوا أشد الكذب نكرا، وأفحشه كفرا، وكما ذكرنا هذه الإشارة تفيد أن ذلك الوصف هو سبب ذلك الحكم عليهم.
و (الْكِتَابِ) المراد به عند بعض المفسرين ما كتب لهم في الدنيا من رزق، وما مكنوا منه من متع وما ينالون من مكاسب ومن سلطان، ومن بعد ذلك يأخذهم الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، ولذلك ختم قوله تعالى بقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَوْنَهُمْ) فهذا الذي ينالهم هو في الحياة الدنيا، وذلك كقوله: (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)، ومثل قوله تعالى:
2830
(وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (٢٤)، وهذا توجيه قول الذين فسروا الكتاب بما كتب في الدنيا من رزق، وما كتب لهم من أجل. ولكن يرد على هذا التعبير بـ (يَنَالُهُمْ) لَا بـ " ينالون "، فالرزق والمتع إذا كانت هي المكتوبة ينالونها، وهذا يخالف التعبير بـ " ينالهم " إنما نيلهم بأمر يكون عقابا لهم لَا متعة ينالونها ويقترفونها.
ولذا نرى أن الكتاب الذي هو كتب لهم في الآخرة من حساب وعقاب، إذ يجدون كتابهم قد سجلت فيه أعمالهم وينالهم هذا النصيب من الكتاب الذي سجل ما فعلوا، والتعبير بـ " نصيبهم " من الكتاب تعبير دقيق يصور عدل الله تعالى فنصيبهم من العذاب هو نصيبهم في أعمالهم، فجزاؤهم مشتق من أعمالهم، فكل نفس تجزى ما كسبت أي جزاؤها من كسبها، فلولا ما كسبت ما عذبت، فعقابهم جزاء وفاق لعملهم.
وإن ذلك الكتاب الذي سجلت فيه أعمالهم يأخذهم بنصيبهم منه من وقت قبض أرواحهم، ولذا قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يتوفَوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ).
" حتي " هنا على قول من يقول: إن النصيب هو الأرزاق والمتع والآجال تكون بمعنى " إلى " أو للغاية، أي أنهم يتمتعون بما كتب لهم حتى تجيء إليهم رسل الموت، الملك عزرائيل ومن معه فيما كلفه الله تعالى إياه، وكان جمع " الرسل " لهذا ومن قال - وهو ما نختار - أن الكتاب ما كتب عليهم من أعمال تنالهم بالعذاب عليها - تكون " حتي " تفريعية أي مبينة تفريعًا العذاب من أول نزولها بإحصائها عليهم من أول لقائهم في الآخرة.
يقول لهم رسل الله تعالى التي تقبفأرواحهم: (أَيْنَ مَا كنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) أي تدعون دعاء عباده تشركون بالله بهم، والاستفهمام هنا للتعجيز والتوبيخ والتبكيت، وتذكيرهم بسوء ما كانوا في دنياهم يفعلون.
2831
وكقوله تعالى: (يَتَوَفَوْنَهُمْ)، أي يفيضون أرواحهم وقد توفوهم نصيبهم من الحياة الدنيا وبقي ما ينالهم من حساب وعقاب في الحياة الآخرة.
ويكون جوابهم ما عبر الله عنه بقوله: (قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ).
فالوا: (ضَلُّوا عَنَّا)، أي غابوا غيبة من لَا يستطيع أن يعودوا منها، وبذلك ثبت عجزهم وثبت لهم بهذا الإقرار أنهم لَا يستطيعون أن ينفعوهم أو يضروهم وفى هذا اليوم العصيب الذي استقبلهم، (وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) الشهادة هنا إقرار وحكم على أنفسهم أنهم كانوا في حياتهم الدنيا كافرين بالحق وبالله وحسب ذلك دليلا عليهم، وعلى استحقاقهم كل عقاب ينزله الله تعالى بهم.
* * *
(قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)
* * *
أشار - سبحانه وتعالى - إشارات بينات واضحات إلى ما أغرق فيه المشركون أنفسهم في الدنيا، وبين - سبحانه وتعالى - طغيان أنفسهم، وفساد عقولهم،
2832
وضلال تفكيرهم، وفي هذه الآيات يذكر - سبحانه - عاقبة أمرهم وهي دخولهم في مجتمع أهل النار فقال تعالى:
2833
(قَالَ ادْخلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ).
القائل هو الله تعالى ولم يصرح به بجوار الفعل؛ لأنه مذكور دائما في الأفهام وفي القلوب فلا حاجة إلى ذكره (ادْخلُوا فِي أممٍ) " فى " هنا قيل: إنها بمعنى " مع "، أي ادخلوا مع أمم قد خلت أي مضت من قبلكم في النار، ونحن نرى أن " في " معناها الظرفية كأصل وصفها، وإدخالها في هذه الأمم فيه إشارة إلى أنها وليست غيرا عنها، والمعية قد توهم المغايرة، ولا مغايرة بل هم أمم في ذواتهم، وهم أمة واحدة في كفرهم، فإن فرقتهم الأجيال فقد جمعهم الضلال وجمعهم العقاب، والتكذيب لآيات الله تعالى، والمعاندة لأحكامه.
وقوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم)، أي مضت قبلكم منتحلة ما انتحلتم، مكذبة ما كذبتم من الحق والآيات، كاذبة على الله وغير مصدقة لآياته، ومستكبرة عنها.
وهذا النص يفيد أولا - أن الكفر كله ملة واحدة لَا تفريق بينها، فالباطل قد جمعها والعقاب قد وحدها، ويفيد ثانيا أنه يتسلسل في الأجيال جيلا بعد جيل، وبعد تفرقهم في الأجيال تجدهم قد التقوا في النار جميعا، وإن تنظر إلى تاريخ الملل والديانات الإنسانية تجدها أحيانا تتلاقى في نوع واحد من الكفر، فتجد مثلا عقيدة التثليث في الاعتقاد المزعوم من آلهة ثلاثة يوجد عند المصريين وعند البراهمة، وعند البوذية وعند الأفلاطونية الحديثة التي قبست من البرهمية والبوذية.. وعند النصارى الذين اتبعوا بولس، وقد قبسوها من البرهمية الذين قالوا في " كرشنة " ما قاله هؤلاء في يسوع عند بولس، وقبسوها أيضا من كلام البوذيين في بوذا، فنحلوه ليسوع في زعمهم، ثم قبضوا القبضة الكبرى من الأفلاطونية، وسموا ذلك نصرانية بعد أن انحرفوا عن المسيح - عليه السلام - الذي علمهم التوحيد واعتنقوه حتى غيروا وبدلوا.
2833
وهكذا نجد فكرة وثنية عمت أجيالا، وكذلك عبادة الأوثان سيطرت على اليونان والرومان والعرب في عصر واحد.
فإذا كانت هذه الأجيال والأمم من الإنسان والجن فإنها تدخل النار جميعا، يلحق التابع المتبوع، وقد جمعهم الشرك بالله تعالى ووحد بينهم العقاب، ولذا يقول - سبحانه وتعالى - يوم القيامة: (ادْخُلُوا فِي أُمَم قَد خَلَتْ مِن قَبلِكُم)، أي مضت من الإنس والجن، والنار متسعة للجميع.
و" مِنْ " في قوله تعالى: (مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ) بيانية لبيان شمولها الضالين من الجنسين، الجن أتباع إبليس والإنس الذين أضلهم.
وفى هذا المجتمع الجهنمي يكون التابع والمتبوع، ولقد ذكر الله - تعالى - ما يكون بينهما في ذلك المحشر:
(كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ).
إن الله - تعالى - ذكر تلاحق هذه الأمم التي ضلت، وكان ضلالها واحدا، أو متقاربا مختلفا في شكله، متحدا في معناه؛ إذ كله وثنية وإشراك بالله تعالى، وكفر بالحقيقة الإلهية، وضلال أي ضلال في فهم حقيقة خالق الوجود ومنشئه، وقال تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) التي دخلت معها، أو التي سبقتها، وذلك يدل على النفرة التي تكون بينهما، فإن من أشد العقوبات النفرة النفسية بين المجتمعين في واحد، ويدل أيضا على أن الاتحاد في عقيدة ضالة جعل واحدا من المتحدين يلغيها ويلعن من يعتنقها، لأنه يحسب أنه هو الذي سهل دخولها عليه، ثم يلعن الأتباع المتبوعين؛ ولذا قال تعالى: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكوا فِيهَا جَمِيعًا) أي تلاحقوا فيها جيلا وراءه جيل، وسلفا وراءه خلف وآباءً وراءهم أبناءُ.
قال المتأخر للمتقدم، أو التابع للمتبوع: (هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا) وعبر الله تعالى عن ذلك بقوله: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ).
2834
أي أن الأخلاف قالوا عن أسلافهم أعطهم يا رب العالمين عذابا مضاعفا عنا لأنهم هم الذين اتبعناهم فأضلونا، فالعرب كانوا يقولون نتبع ما كان عليه آباؤنا، أو نتبع ما ألفينا عليه آباءنا - فكانوا ضالين بضلالهم والضِّعف هو المثْل، والمعنى اجعل لهؤلاء الذين أضلونا عذابا زائدا بمقدار الضعف المماثل لعذَابنا وكأنهم يريدون أن جريمتهم جريمتان: إحداها ما فعلوه وفعلناه، والثانية أنهم أضلونا فعليهم وزر مثل وزرنا وعليهم وزر آخر؛ لأنهم أضلوا. وقد رد الله قولهم بأنهم فعلوا مثل ما فعل أسلافهم فكانوا مضلين لمن بعدهم كما أضلهم من سبقوهم.
وكذا قال تعالى: (قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لَا تَعْلَمونَ).
أي يقول لهم رب العزة لكل منكم أنتم التابعون والمتبوعون ضعف من العذاب مثل العذاب الذي نزل بكل منكم؛ لأن كلا منكم ضال ومضل، فالخلف ضلوا بسلفهم وأضلوا من بعدهم، فإذا كان منطقكم أن يزيد من أضل على من ضل فأنتم أضللتم ولكن لَا تعلمون سريان الفساد من جيل بعد جيل، وكل يضل من بعده.
وإن الترامي بالضلال يتبادل بين التابع والمتبوع، وكل تابع هو متبوع لمن بعده، وقد ردت الطائفة الأولى على من بعدها فقالت:
* * *
2835
(وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)
* * *
وأولاهم هي المتبوعة أي هي السلف، والثانية الحلف، وهذه معان نسبية فكل جيل يكون طائفة أولى لمن يليه وتكون ثانية بالنسبة له، وهكذا تتعاقب الأجيال، وتتطارح الوزر، كل تطرحه على من سبقها والجميع. في ضلال مبين.
(وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) و " من " هنا للاستغراق أي ليس لكم علينا أي فضل يخفف العذاب، أو يوجب أن يثقل العذاب علينا فوق عذابكم؛ فأنتم ضللتم كما ضللنا والعذاب للضلال والعناد أو الكفر وقد شاركتمونا في ذلك، وإذا كنا قد أضللناكم واتبعتمونا في ضلالنا، فقد أضللتم غيركم، واتبعوكم في ضلالكم كما اتبعتمونا.
2835
و " الفاء " في قوله تعالى: (فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) تفصح عن شرط مقدر تقديره مثلا، فإذا كنتم قد ضللتم مثلنا، فما لكم علينا أي فضل يخفف لكم أو يزيد علينا.
ثم يسوق - سبحانه وتعالى - على لسان أولئك المتنابزين قولهم: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كنتُمْ تَكْسِبُونَ) " الفاء " لعطف ما بعدها على ما قبلها، وقوله تعالى: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ)، أي ادخلوا في النار ذائقين لها محسين بآلامها، وعبر عن ذلك بالذوق، للإشارة إلى شدة آلامه، ومتاعبه.
وقوله تعالى: (بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)، أي بسبب ما كنتم تكسبون من ظلم وعبث وفساد، فهذا هو الأصل في سبب العقاب، وكل امرئٍ بما كسب رهين، لا فرق في دْلك بين ضال، ومضل، ما دام قد وقع كلانا في الضلال مختارا، ما دام له عقل يدرك وما دام قد أنذرته الرسل، وقامت بين يديه البينات، فإذا كان قد اتبع من قبله فعليه إثمه، وقد جاءه الهادي الرشيد، فلم يتبعه.
وقريب من هذه المراجعة بين التابعِ والمتبوع قوله تعالى في سورة أخرى:
(... وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢).
وقد وصف الله تعالى في بيان أن العذاب بالكافرين لَا مناص منه، فقال تعالت كلماته:
* * *
2836
(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠)
* * *
السماء في الحس المكان الذي يجيء منه المطر، والخير والبركات، ولقد جعل الله تعالى السماء موطنا لذلك، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ...) وعندما يدعو الإنسان الله تعالى يتجه
2836
إلى السماء ضارعا، والله تعالى لَا مكان له؛ لأنه منزه عنه والسماء لأنها علو يتجه الناس إليها، لأنهم يريدون العلو، ويبتغونه، وإن المشركين الذين يكذبون بآيات الله لَا يكون لهم رجاء؛ ولذا قال تعالى: (إِن الَّذِينَ كذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ).
يلاحظ أن الله تعالى قال: (كذبُوا بِآيَاتِنَا)، قد عدى التكذيب بالباء، وهو يتعدى بنفسه، فيقال: كذبت هذا القول وكذبت هذا القائل، وكذبت الآيات كذلك، ولكن هنا تعدت بالباء، كما في الآية السابقة، وذلك لتضمن التكذيب معنى الكفر، فالمعنى كذبوا رسلنا كافرين بآياتنا، واستكبروا عادلين أو متجاوزين عن اتباعها.
ذكر الله تعالى للكافرين بآيات الله تعالى جزاءين:
الجزاء الأول - أنه لَا تفتح لهم أبواب السماء، والمعنى في ذلك يحتمل أمورا يصح أن تراد كلها، الاحتمال الأول: أن المراد أن تغلق أبواب الرحمة في الآخرة، وعبر عن ذلك بأبواب السماء؛ لأن الرحمة تكون في كثير من الأحيان من السماء، فالشمس فيها، وهي مصدر النور والحرارة، والنجوم وبروجها، والقمر وضياؤه، ومنها المطر الذي يكون غيث ورحمة، وذكر أبواب السماء إشارة إلى أنهم سدوا على أنفسهم كل مصادر الرحمة والغفران؛ لأنهم سدوا كل سبل الخير على أنفسهم في الدنيا، فحق عليهم هذا في الآخرة. الاحتمال الثاني: أن يكون المراد أرواحهم، فأرواحهم لَا تفتح لها أبواب السماء، بل تغلق دونها؛ لأنها أرواح خبيثة نتنة يتقزز منها أهل السماء والأرض إذ تكون أعمالهم الخبيثة قد أفسدت فطرتها.
والاحتمال الثالث: أعمالهم، فلا تتفتح لها أبواب السماء؛ لأنها في بعثهم يجزون عليها، وإننا نرى أن تفتح أبواب السماء، لَا يكون لهم؛ لأنهم لَا يرحمون ولا يغفر لهم، وأرواحهم خبيثة وأعمالهم لَا ترفع إلى علو السماء بل تهبط إلى أوهاد الأرض، والمراد في كل الأحوال ألا تنالهم رحمة السماء.
2837
الجزاء الثاني - أنهم لَا يدخلون الجنة وأن ذلك مستحيل عليهم، كاستحالة دخول الجمل في سم الخياط؛ ولذا قال عز من قائل: (وَلا يدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ).
أي أنهم لَا يمكن أن يدخلوا الجنة؛ لأنهم لم يعملوا لها، بل كان عملهم لجهنم، وشبه استحالة ذلك باستحالة دخول الجمل بضخامته في سم الخياط، والخياط هو ما يخاط به، وهو (الإبرة) وسمِّها هو ثقبها الضيق الذي لَا يدخل فيه إلا الخيط الرفيع، وليس مُيَسرا.
فهذا حكم الاستحالة كما يقول الرجل لامرأته: أنت طالق إذا قبضت على الشمس، فهذا نفي مؤكد للطلاق؛ لأنه علق على مستحيل.
وكذلك هنا في المعنى لَا يدخلون إلا إذا ولج، أي دخل الجمل في ثقب الخياط، وذلك مستحيل، فلن يدخل الجنة إلا إذا تحقق هذا المستحيل ولن يتحقق، فهو نفي مؤكد لدخولهم، وبيان استحالته عليهم، وإذا لم يدخلوا الجنة، فإنهم يدخلون النار، وإنها للجنة أبدا، وللنار أبدا، قال تعالى:
(وَكذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ).
الواو واصلة هذا الكلام السامي بما قبله، والتشبيه معقود ما بين عذابهم، واستحالة الرحمة بهم، وبين ما أعده الله تعالى بالنسبة لكل من يجرم ويأثم في حق الله تعالى، والمعنى فهذا الجزاء الذي علمتموه يجزي الله المجرمين، والإجرام ارتكاب الجريمة وهي بمعنى المعصية والذنب، بيد أن في لفظها إشارة إلى الاعتداء على غيره، فالمعاصي قسمان معاصٍ هي الآثام، ولا يتعدى فسادها صاحبها ابتداء، وإن كان شيوع الفساد يضر بالرأي العام فيتعدى انتهاءً، ومعاصٍ تتضمن ابتداء معنى الاعتداء كالقتل والقذف والسرقة، وغير ذلك من المعاصي التي تتعدى ابتداء.
2838
ولقد فصل الله القول في عذاب الكافرين المكذبين لآيات الله تعالى:
* * *
2839
(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)
* * *
المهاد: المكان الممهد للإقامة فيه، كما قال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)، وكما قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا).
وأحسب أن التعبير عن جهنم بأن لهم مهاد منها فيه نوع تهكم، أي أنه تعالى مهّد لهم جهنم بدل الراحة التي كانت لهم في الدنيا، بتمهيد الأرض يتمتعون من خيراتها.
وغواش، جمع غاشية وهي الغطاء، وغطاؤهم هنا نار موقدة، فبعد أن كانوا يلتحفون بالرياش، ويفترشون الوسائد، صار مهادهم جهنم، وغطاؤهم نار مشتعلة تشتعل عليهم، (... كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودَا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ...).
وخلاصة المعنى أن مهادهم أو فراشهم نار، وغطاءهم نار، والنار تحيط بهم يلتفون فيها وتشوى بها جباههم وجنوبهم، وكل أجسادهم، ولا منفذ منها إلا إليها، فلا يخلصون منها أبدا، وإن ذلك جزاء من كذبوا بآيات الله كافرين بها ظالمين، ولذا قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).
أي كهذا الجزاء الذي جازى الله تعالى به الذين كذبوا بآياته واستكبروا، شأن الله تعالى في جزاء الظالمين، فهو العادل القادر الذي لَا يظلم أحدا.
والتعبير هنا بالظالمين، وفي الآية السابقة بالمجرمين؛ لأن الوصفين متحققان فيهما، فهم أجرموا في حق المجتمع فأفسدوه؛ وظلموا أنفسهم، وظلموا الحقائق بما ارتكبوا من معاصٍ، وتعدوا الحدود، ومن تعدى حدود الله فقد ظلم نفسه، وكان ما ينزل بهم يوم القيامة جزاء وفاقا لما ارتكبوا، والله تعالى يتغمدنا بعطفه ومغفرته.
* * *
2839
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (٤٥)
* * *
وبعد أن بين - سبحانه وتعالى - ما ينزل بالمشركين أو الكافرين، عموما أخذ - سبحانه تعالى - يبين في مقابله ما يناله المؤمنون من جنة ونعيم مقيم، وروح وريحان وزوال للأحقاد وغل للأنفس، وذلك نعيم فوق كل نعيم، ولذا قال تعالى:
2840
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الواو هنا عاطفة، عطفت جزاء الصالحين على جزاء الكافرين من مشركين وكتابيين وصابئين ومجوس وغيرهم من براهمة وبوذيين.
وبالموازنة بين الجزاءين، يتبين الفرق بينهما في الآخرة كالفرق بينهما في الحياة الدنيا، فجزاء الآخرة هو ثمرة ما وقع في الدنيا، إن خيرا فخيرا وصف الله تعالى المؤمنين بوصفين هما صلة الموصول، الأول بقوله تعالى: (آمَنُوا) أي اعتقدوا اعتقادا جازما مع الإذعان لكل ما طالب به الله تعالى، وأحبوا الله تعالى، وقدموا أنفسهم له سبحانه:
2840
الوصف الثاني ما عبر عنه - سبحانه وتعالى: (وَعَمِلُوْا الصالِحَاتِ) أي كانت ثمرة إيمانهم واضحة في أنهم صاروا قوما صالحين والصلاح وصف يقتضي أن يكون نافعا، وصالحا في ذات نفسه، ليس في قلبه فساد، ولا يسيطر عليه هواه، وأن يقوم بالعمل الصالح من طاعة لله تعالى في أوامره ونواهيه، فلا يعصي الله تعالى، ولا يرتكب ما نهاه عنه، ولا يتخاذل عن القيام بما أمر به.
ولا تجد في آيات الذكر الحكيم ذكر جزاء المؤمنين إلا كان هذان الوصفان الإيمان والعمل الصالح مذكورين معا فإن العمل ثمرة الإيمان، وغصونه، والشجرة تتغذى من الغصون، كما تتغذى من الجذر، فالعمل يثبت الإيمان، ويغذيه ويقويه.
وقد ذكر - سبحانه وتعالى - الجزاء، وهو خبر الموصول، فقال: (أولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الإشارة إلى المتصفين بهاتين الصفتين، وهما صلة الموصول، وذكرهما دليل على أنهما سبب هذا الاستحقاق، وقد أكد الله تعالى استحقاق الذين آمنوا وعملوا الصالحات للجنة بقصرها عليهم، وذلك بتعريف الطرفين، وبضمير الفصل " هم " فهم أصحابها الملازمون لها، وأكدها لهم بخلودهم فيها، والله تعالى ذو المن والإكرام.
وقد ذكرت جملة معترضة بين متلازمين، وهما المبتدأ في قوله تعالى:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا)، والخبر في قوله تعالى: (أولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ).
وكانت هذه الجملة التي توسطت بين هذين المتلازمين هي قوله تعالى: (لا نُكَلِّف نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) والوسع هو مما يمكن عمله بيسر وسهولة، كما فسر بذلك معاذ بن جبل - رضي الله تعالى عنه -، والمعنى لَا يكلف الله تعالى نفسا مؤمنة، واعترض بهذه الجملة السامية بعد كلمة " الصالحات "، لبيان أن القيام بالتكليفات الإسلامية سهل ميسر، وليس شاقا إلا على من عصى الله تعالى، فهو سهل في
2841
ذاته، لمن تكون له إرادة، لم يخالطها الهوى، ولم تسيطر عليها الشهوة، وإن النبي - ﷺ - قال: " بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا " (١).
ولقد روت عائشة - رضي الله عنها: " ما خير النبي - ﷺ - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن معصية " (٢).
وإن الله تعالى أنعم على المؤمنين يوم القيامة بهذا النعيم المقيم، وأنعم عليهم مع ذلك بنعمة المحبة، والرضا واطمئنان النفس؛ ولذا قال تعالى:
* * *
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) متفق عليه، وقد سبق تخريجه.
2842
(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ... (٤٣)
* * *
إن الجنة مكان طاهر مطهر اختاره الله تعالى سكنا لعباده الأتقياء الأطهار، وإنه في مقامه لأطيب من أحب مسكن يختاره في الدنيا، كما ورد في الأثر.
وإنه لطهارته كان من فيه جميعا في طهارة كاملة حسية ومعنوية، طهارة الأبدان وطهارة القلوب التي في الصدور، وإن أشد ما يدرن القلوب الغل والحسد، والأحقاد الدنيوية، فإنها أمراض تصيب القلوب، لتجعل الإنسان في هم مستمر، وعذاب مقيم، فكان من مقتضى النعيم الذي أنعم الله به على الأبرار أن يتم عليهم نعمته بأن يكونوا في نعيم في قلوبهم، كما أن أجسامهم في نعيم؛ ولذا قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ).
ونزعنا: أي استخرجنا، والنزع أقوى من الاستخراج، لأن النزع إخراج ما هو متأشب (٣) بالقلب لَا يسهل إخراجه، ولكن الله تعالى ينزعه نزعا، ويبقى القلب مصقولا بنور المحبة والمودة، فيتحابون ويتوادون، ولا يتباغضون، ولقد قال
________
(٣) من التأشب، وهو التجمع من ههنا ههنا. لسان العرب - أشب.
2842
النبي - ﷺ -: " الغل على باب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله تعالى من قلوب المؤمنين " (١).
ورد في بعض الآثار أن أهل الجنة إذا سيقوا وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان، فإذا شربوا من إحداهما ينزع الله ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأخرى، فجرت عليهم نضرة النعيم، فلم يشعثوا، ولم يشيخوا بعدها أبدا، ولقد قال تعالى: (وَسِيقَ الَّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا...).
هذا النعيم معنوي، وهناك نعيم حسي قال الله تعالى فيه: (تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ) أي أنهم في غرفات تجري الأنهار، وكأنها تجوس خلالها، فيكون منظر النهر العذب ينساب انسيابا، ومنظر الظلال والأشجار ينسرق (٢) من تحتها الماء، ويرزقهم الله تعالى أمرا معنويا هو الاطمئنان إلى الهداية، وفيها إدراك ما وصلوا إليه بفضل الله تعالى، وقد حمدوا الله تعالى على ما وصلوا إليه في الدنيا، وأورثهم الله ثمراته في الآخرة، فيقولون ما حكى الله تعالى عنهم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ).
إن قولهم هذا سرور وفرح واطمئنان إلى الغاية التي آل إليها أمرهم، ويقول صاحب الكشاف في هذا: يقولون ذلك سرورا واغتباطا بما نالوا، وتلذذا بالتكلم به.. كما ترى من رُزق خيرا في الدنيا، يتكلم بنحو ذلك، ولا يتمالك أن يقوله للفرخ.
وقوله تعالى: (وَمَا كنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) أي ما كان من شأننا ونحن لَا نملك من أمرنا شيئا أن نرشد ونهتدي إلى الحق لولا أن هدانا الله تعالى،
________
(١) ذكره القرِطبى، والثعالبي في مستهل تفسيره لهذه الآية دون إسناد. ورواه البخاري بنحو: التفسير (٦٣٨٨) - (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ...).
(٢) أي ينساب بخفاء وفتور.
2843
و " لولا " يقول النحويون عنها: إنها امتناع لوجود، ومعنى ذلك لولا هداية الله لامتنعت علينا، فهو يملك كل أمورنا هو الذي وفقنا وهدانا وأرسل إلينا الرسل ْهداة مرشدين إلى الحق؛ ولذا قالوا: (لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
النداء لم يذكر فيه المنادى أهو من وحي الله تعالى في نفوسهم أم من الملائكة الأطهار، والميراث هو العطاء من الله تعالى، قد جعل هنا خلفا للعمل الصالح، فهو ملكية ثابتة بالخلافة عن العمل الدائم الذي كان مستمرا في الدنيا، وهذا قوله تعالى: (بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، أي بالذي كنتم تعملونه مستمرين دائبين عليه ترجون رحمة الله وتخافون عذابه.
والتعبير بقوله تعالى: (أُورِثْتُمُوهَا) والميراث عطاء بغير عوض فيه إشارة إلى أن الله تعالى هو الذي جعل ذلك النعيم عطاء للعمل، فليس العمل وحده منتجا للعطاء، إنما هو يجعل النعيم ميراثا للعمل، والفضل في كل الأحوال لله تعالى صاحب المن والفضل، ولقد روى في الصحيحين أن النبي - ﷺ - قال: " اعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله؛ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " (١)، وقد روت عائشة أم المؤمنين عن النبي - ﷺ - أنه قال: " سددوا وقاربوا وبشروا، فإنه لَا يدخل أحدا الجنة عمله " (٢) اللهم اغفر لنا وارحمنا.
* * *
________
(١) متفق عليه، وقد سبق تخريجه، وهذا لفظ مسلم عن أبي هريرة.
(٢) متفق عليه وقد سبق تخريجه.
2844
(وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا... (٤٤)
* * *
إن الذين آمنوا بالبعث والنشور، والجنة والنار فرحون مغتبطون بأنه تحقق لهم وعد الله تعالى لهم بالجنة، وقد عاشوا فيها غير حاقدين ولا حاسدين،
2844
حامدين الله تعالى على هدايتهم، وقد أرادوا أن يزدادوا سرورا باهتدائهم، وأن يعرفوا هذا الذي جاءهم وعد الحق، جاء مقابله للذين كذبوا بآيات الله تعالى واستكبروا عنها نالهم ما أوعدوا به من عذاب دائم خالد.
وقد نادى الملائكة مؤكدين إجابتهم التي لم يجدوا عنها حولا (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).
أي أعلم معلم من الملائكة بينهم، أي بين الفريقين اللذين يتبادلان ذلك الحديث (أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)، أي أن الحال المستقر الثابت لعنة الله والطرد من رحمته ومن نعيم الجنة للظالمين الذين ظلموا أنفسهم بتضليلها وكفرها وظلموا الحق بالكفر به، وظلموا الآيات الإلهية بتكذيبها، وظلموا الناس بأفعالهم.
ومثل هذا أو فيما معناه، قوله تعالى: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧).
ونلاحظ أن " قد " في قوله تعالى: (أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا) للتحقيق أن ذلك محقق لَا محالة وقد عرَّف الله تعالى الظالمين الذين استحقوا لعنة الله، فقال عز من قائل:
* * *
2845
(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (٤٥)
* * *
هذا بيان للظالمين، فذكر - سبحانه وتعالى - لهؤلاء ثلاثة أوصاف:
أولها - (يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) أي يعرضون عنها، ويمنعون غيرهم منها، كالسخرية ممن يؤمنون، واستضعافهم والتشكيك في عقائدهم والغطرسة عليهم، وإيذائهم والاستخفاف بهم والإصرار على باطلهم، والتواصي بالباطل بينهم على مقاومة الهداة المرشدين وتهديدهم بالأذى، كما قالوا: (... وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ...)، وهكذا. وسبيل الله تعالى هي الصراط المستقيم الموصل إلى الحق فهم يصدون عنه، وكأنهم يقفون على رأس الطريق يمنعون من يدخل فيه، فهم يترصدون أهل الهدى، ويردونهم.
2845
الوصف الثاني - (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا)، وعوج: مصدر موصوف به، ويبغون يطلبون بشدة كأنها أمر هو بغيتهم التي يبتغونها، والمعنى يريدون الصراط المستقيم معوجة متعرجة سبلا للباطل. إن الفطرة تتجه نحو الاستقامة، فلا تطلب إلا المستقيم الذي لَا عوج فيه فهم يريدون تحويل فطرتهم وفطرة غيرهم عن طريقها، ويعبدون الأوثان، ويعلمون أنها لَا تضر ولا تنفع، ولكنهم يعوجون بها فيقولون (... مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى...)، وهكذا يتركون كل مستقيم، ويريدون كل معوج، وذلك لسيطرة الأوهام عليهم، وتسلط الأهواء والشهوات، والعصبية والغطرسة والعنجهية الجاهلية فيهم.
الوصف الثالث - وهو الذي ذهب بهم في متاهات الضلال وقد ذكره الله - سبحانه وتعالى - بقوله: (وَهُم بِالآخِرَةِ كافِرُونَ) أي أنهم لَا يؤمنون بالبعث والنشور والحساب والعقاب، أو الثواب ويقولون: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).
وقد أكد - سبحانه وتعالى - كفرهم باليوم الآخر، وهو يبتدئ من البعث إلى أن توفى كل نفس ما كسبت بأن تنال جزاءها من النعيم أو الجحيم.
أكد كفرهم بعدة مؤكدات أولها - ذكر ضمير الفصل " هم "، فذلك - يؤكد الحكم، وثانيها - تقديم الجار والمجرور، وهو قوله تعالى: (بِالآخِرَةِ) على (كافِرُونَ) ففي ذلك تأكيد لكفرهم به، وثالثها - التعبير بالجملة الاسمية، فإنها تدل على استمرارهم على هذا الكفر، وأنهم جاحدون جحدا (لا مثنوية فيه) (١).
* * *
________
(١) لَا مثنوية فيه، ولا اسثناء بمعنى واحد، أي لَا تحلل منه، من المثنوية في اليمين.
2846
(وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠)
* * *
أشار - سبحانه - إلى ما عليه أهل الجنة من نعيم روحي بنزع الغل من قلوبهم، ونعيم حسي بكون الأنهار تجري من تحتهم في ظلال الجنة، وما كان بين أهل الجنة والنار من نداء، وهنا يبين أن بينهما حجابا حاجزا لَا يمنع أن يصل صوت كل فريق إلى الآخر بدليل هذه المجاوبة، وقد قال تعالى في ذلك:
2847
(وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ) " وبينهما " أي بين أهل الجنة وأهل النار (حجاب) أي حاجز يمنع الاختلاط بينهما، والضمير في " بينهما " يعود إلى الفريقين: فريق الجنة، وفريق السعير، وقد قال الله تعالى في هذا السور الحاجز: (... فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ). وفي أعلى هذا المسور أعراف وهي جمع عرف وهو أعلى السور، فالعُرف أعلى الشيء ومن ذلك عُرف الديك وعُرف الفرس.
2847
على أعراف هذا السور الحاجز رجال، وإن التعبير برجال يفيد أنهم ليسوا من الملائكة؛ لأن الملائكة لَا يعبر عنهم برجال فليسوا ذكورا ولا إناثا، ولكن من هم أولئك الرجال؟!.
اختلف المفسرون في ذلك على أقوال كثيرة، فروي عن النبي - ﷺ - أنهم ناس استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقد سئل رسول الله - ﷺ -: عمن استوت حسناته وسيئاته فقال: " أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون "، ومع أن الحديث مقوى بنص الآية إذ نصها (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعونَ) ولكن قال ابن كثير وهو من أهل العلم بالروايات: إنه حديث مرفوع، ولكن فيه غرابة.
هذا قول، وهناك قول آخر، وهو أنهم ناس من أهل الفضل فرغوا من أعمالهم في الجنة، وأخذوا يتكلمون إلى الناس، ويتعرفون أمورهم، ويحكمون عليهم، وقد وقفوا على أطراف الصراط.
وقريب من هذا القول، قول من قال: إنهم قوم من المؤمنين نصبوا بفضلهم للشهادة على الناس، ومن بعد سنوازن بين القولين لنختار واحدا منهما.
ويقول الله تعالى في أوصاف أهل الأعراف: (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ)، و " كُلًّا " مضاف إلى محذوف، أي كل فريق من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم، أي علاماتهم، فالسيما العلامة ويقولون: إن علامة أهل الجنة البياض، وعلامة أهل النار السواد، والله تعالى أعلم بسيماهم، وهم لَا يكتفون بموقف التعرف، ولكن ينادون أهل الجنة وأهل النار، ونداؤهم لأهل الجنة مقصود، لأنهم مقصودون بالتحية والتكريم، وأما أهل النار فهم غير مقصودين، ولكن بالصرف إليهم؛ ولذا قال تعالى: (وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ).
نادوا أهل الجنة مقبلين عليهم مهنئين مرحبين، ونداؤهم لهم (أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أن مخففة من أنَّ واسمها ضمير الشأن؛ أي أن حالكم وشأنكم سلام، أو أن قولنا لكم سلام، وهو تهنئة وأمن، ومشاركة لهم في سرائهم بالقول، وهذا
2848
قريب من قوله تعالى: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠).
وقوله تعالى: (لَمْ يَدْخلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ)، الضمير في قوله تعالى: (لَمْ يَدْخلُوهَا) يعود على أهل الأعراف وهو ظاهر السياق، وهذا يقتضي أنهم لم يكونوا قد تقرر لهم دخول الجنة، ولكن لأنهم لَا تنزل بهم سيئاتهم إلى جهنم، ولم تنهض بهم أعمالهم إلى الجنة يطمعون في الجنة، وإن هذا بلا ريب يعين في ترجيح أن أهل الأعراف هم الذين لم تنهض حسناتهم حتى يدخلوا الجنة ولم تحبطهم (سيئاتهم) إلى النار.
فهم يطمعون في الجنة، ويرغبون فيها، ولكن لم يدخلوا بعد فيها.
وإن ذلك هو التقسيم العادل الذي لَا يكون إلا من الله، وهو أنه بعد أن توزن السيئات والحسنات بميزان الله وهو الوزن يومئذ بالقسط، منهم من ترجح حسناته فيكون للجنة، ومنهم من ترجح سيئاته فيكون في النار وبئس المهاد، ومنهم من لم يرجح ميزانه.
وقد يرد على هذا أنهم في مكان من الأعراف، فظاهر أنهم فوق الفريقين، ونقول: إن علوهم ليروا الفريقين، لَا لمنزلة لهم فوق أهل الجنة.
وبعض العلماء يرى أن أهل الجنة لم يكونوا قد دخلوا الجنة بعد، فالضمير في " دخلوا " يعود إليهم، والحق أن ذلك ليس متسقا مع السياق؛ لأنهم صاروا أصحابها، ويقتضي ذلك أن يكونوا دخلوا فيها، والله تعالى أعلم.
إن أهل الأعراف يقصدون إلى أهل الجنة قصدا؛ لأنها مطمعهم، ولكن لا يلتفتون إلى أهل النار لأنهم لَا يريدون الاتجاه إليهم، ولكن قد تصرف أنظارهم إليهم؛ ولذا قال تعالى:
* * *
2849
(وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)
* * *
2849
" التلقاء " على وزن تفعال من اللقاء وهي هنا الناحية، و " صرفت " مبني للمفعول وجهل فاعله لعدم الحاجة إلى ذكر من صرفهم، إنما المراد أنهم صرفوا بوجوههم تلقاءهم غير عامدين ولا قاصدين ولا متجهين، فهم يقع نظرهم عرضا على أهل النار فيقع بصرهم تلقاءهم،
وذلك لطمعهم في الجنة، ورغبتهم في دخولها يتجهون إلى أهل الجنة عامدين مستبشرين راجين أن يكونوا معهم، أما نظرهم لأهل النار، فهو عرض صُرفوا إليه ولا يريدونه، والتعبير بقوله ئعالى: (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ) إشارة إلى أن أبصارهم وقعت على أهل النار، أو تلقاءهم من غير إرادة، بل هي إرادة مَن صرفهم.
وإنهم إذا وقعت أنظارهم رأوا هول ما فيهم، فإذا كانوا قد فرحوا عندما رأوا المؤمنين فهم عندما وقعت أنظارهم على أهل النار، اعترتهم رهبة، وخافوا على أنفسهم فقالوا: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
عندما يرون النار متأججة في الأجسام البشرية يأخذهم الهول، فيتجهون إلى الله تعالى قائلين: ربنا الذي خلقتنا وكونتنا، وقمت في الوجود علينا وأنت الحي القيوم لَا تجعلنا مع القوم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الحق وكذبوا طاغين بالآيات، واستكبروا عن اتباع الأنبياء، وأنغضوا رءوسهم عن الحق إذ دعوا، لا تجعلنا مع هؤلاء، لَا تجعلنا في هذه النار مثلهم فقد عَتَوْا عُتُوَّا كبيرا، ودخلوا في عذاب أليم اللهم قنا غضبك.
هذا ما قاله أهل الأعراف لأنفسهم، وضرعوا إلى الله حماية لأنفسهم، ولم يصبوا بالملامة يوجهونها لأهل النار، وطمعهم في الجنة يلهمهم قول الحق.
* * *
2850
(وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨)
* * *
2850
هذا الكلام موجه من أهل الأعراف لكبراء الشرك وزعمائه، الذين كانوا يعتزون بعصبيتهم وبأنهم أكثر وأعز نفرا، فإنهم كانوا يستكبرون عن أن يكونوا تابعين، وهم أهل الجاه الدنيوي، والكبرياء المادي، ينادونهم، لينبهوهم إلى ما يقولون لهم وقد قال الله تعالى في ذلك: (وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُم).
نادوهم ليستمعوا إليهم في قول الحق، وقد كانوا ينادون أهل الجنة يعرفونهم بسيماهم، أما في هذه المرة، فينادون: (رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُم)، التي لم تغيرها النيران وإن كَبتْهم وسودتهم، وذكر الرجال هنا للإشارة إلى أنهم يخاطبونهم فرادى تقريعا وتذكيرا بسيئاتهم متفردين عن غيرهم.
(قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكبِرُونَ).
قال لهم وقد عرفوهم وعينوهم: (مَا أَغنى عَنكُمْ جَمْعُكمْ)، وهو العصبية الجاهلية التي كانت تجمعهم على العناد والغطرسة، ويتعاونون لَا لإحقاق الحق، ولكن على الإثم والعدوان، ويدخل فيه قوة المال الذي يعتزون به والنفر الذي يستنصرون به ونظرهم لأنفسهم على أنهم أعلى من غيرهم واستكبارهم عن الإيمان بالآيات بتكذيبها.
ومن استكبارهم أيضا أنهم يرون أن أتباع النبيين ضعفاء فقراء عبيد فقط، كما قاله قوم نوح لنوح: (... وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأْيِ...).
فسألهم أهل الأعراف: هل أغنى عنكم هذا فلم يعذبكم الله تعالى، بل أنتم هؤلاء في الجحيم تذوقون عاقبة ذلك، تريدون النجاة ولا منجاة.
ويلتفت أهل الأعراف إلى أهل الجنة، فيجدون الضعفاء الذين كانت تزدريهم أعين هؤلاء الطغاة فيخاطبونهم وهم في النار بقولهم:
* * *
2851
(أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩)
* * *
هذا القول فيه بيان لمقام الإيمان، ودرك الكفر، لقد كانوا يسخرون منهم لفقرهم، ويحسبون أنهم أعلى منهم منزلة في الدنيا، فيجب أن يكونوا أعلى منزلة في الآخرة، وكانوا يقسمون بأن هؤلاء الفقراء أتباع النبيين لن ينالهم الله برحمة من عنده، أخذا من حال الفقر وازدرائهم التي كانوا عليها في الدنيا.
فأهل الأعراف رأوهم في الجنة، فقالوا لأهل النار مشيرين إلى الضعفاء في الدنيا، وهم في الجنة أقوياء مستمتعون: (أَهَؤُلاء الَّذينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ).
أهم الذين ترونهم رأي العين في رحمة الله تعالى في جنة الخلد، أهؤلاء والإشارة إليهم وهم في الجنة تجري من تحتهم الأنهار، (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ)، أن الله لَا ينالهم برحمة، والتنكير الذي جاء على ألسنتهم في الدنيا لتصغير الرحمة. أي أنهم أقسموا أن الله تعالى لَا ينالهم بأي رحمة مهما صغرت وضؤلت.
وذلك لأفن عقولهم، وضلال أفهامهم، إذ ظنوا أن من ينالون القوة والثراء في الدنيا هم الذين ينالونها في الآخرة إن كانت، وما كان قسمهم هذا إلا لازدرائهم، وتكريم الأنبياء لهم، ووعدهم بالثواب عند الله، وإن الله تعالى يجزيهم أحسن الجزاء فما كان قسمهم إلا تكذيبا للأنبياء الذين وعدوهم الحسنى في الآخرة، وإن هذا التوسل على لسان أهل الأعراف نذير لما كان من أهل النار في الدنيا وبيان أنهم في ضلال مبين، وقد كان ضلالهم بالعيان المحسوس، لا بالحدس المتلمس.
وقد وجهوا بعد ذلك الخطاب لأولئك ملتفتين إليهِم من التحدث عنهم إلى خطابهم فقالوا: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزنُونَ).
2852
ادخلوا أيها المخلصون الذين أخلصوا دينهم، وصبروا وصابروا الجنة بما فيها من نعيم حسي، وراحة نفسية، وطلب الدخول هنا تقرير للدخول؛ لأنهم دخلوا فعلا، وما كان دخولهم بعد الطلب، إنما كان قبله، كما ترى إنسانا في أرض طيبة فينتفع وهو فيها، ويستحقها، تقول له: ادخلها وابق فيها.
(لا خَوْفٌ عَلَيْكُم) من شر يحيق بكم، ولا هم يغمكم، بل أنتم في رَوح وريحان، (وَلا أَنتُمْ تَحزنونَ) على الخير لكم، وحاضر نعيم، وسعادة، وقد نزع الله تعالى من قلوبكم الغل فأنتم تنعمون براحة البال والمحبة والتواد بينكم، فلا تنغص من حقد أو حسد، أو تباغض.
تنبيه: إن أهل الأعراف يحبسون عن دخول الجنة، ويرون ما عليه أهل النار، وما عليه أهل الجنة، ويقول. في ذلك الزمخشري في الكشاف: " فائدة ذلك بيان أن الجزاء على قدر الأعمال، وأن التقدم والتأخر على حسبها، وإن أحدا لا يسبق عند الله إلا بسبقه في العمل، ولا يتخلف إلا بتخلفه فيه وليرغب السامعون في حال السابقين ويحرصوا على إحراز قصبتهم، ولتصور أن كل أحد يعرف في ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشر، فيرتدع المسيء عن إساءته، ويزيد المحسن في إحسانه، وليعلم أن العصاة موبخهم كل أحد حتى أقصد الناس عملا ".
فإنك كما ترى أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة، وهم يطمعون فيها ومع ذلك كان فيهم ذلك التوبيخ والتنديد بالعصاة.
* * *
2853
(وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ... (٥٠)
* * *
انتهت المجاوبة التي كانت بين أهل الأعراف وأصحاب الجنة التي لم يدخلوها، وكانوا يطمعون فيها، وهي دلت على أن الأعمال هي تدخل الجنة، وأن التقاصر عنها هو الذي يدخل غيرها.
وإن أهل النار كانوا في لثمقاء، فعند أهل الجنة ما يشتاهون من لحم، وعسل مصفى، وحور عين، وأنهار تجري.. أما أهل النار ففي حرمان مطلق من كل
2853
هذا، ولقد صورهم القرآن الكريم يتقدمون طالبين الماء وبعض هذه الخيرات؛ ولذا قال تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ) رادوهم مستصرخين من شدة العطش، وحرارة النار (أَنْ أَفِيضوا)، " أن " هنا تفسيرية، لأن المطلوب هو إفاضة الماء، فكان المعنى نادوهم: أفيضوا علينا الماء.
وإفاضة الماء التوسعة في إعطائه، ويبدو أن أهل الجنة كانوا في مرتفع تجري فيه الأنهار والعيون، وأهل النار في منحدر والماء يفيض من الأعلى إلى الأدنى، والمعنى لَا يمنعونه بسدود، حتى يفيض عليهم مدرارا، وينهمر أنهارا.
والماء أهم شيء للأحياء، والصدقة به أبر الصدقات، وقد سئل النبي - ﷺ - عن أبر الصدقات فقال: الماء، وهل معنى هذا أن أهل النار كانوا محرومين من الماء حرمانا مطلقا؛ نقول لَا، بل كان عندهم، ولكنه حميم، وغساق يمزق الأحشاء فلم يكن عندهم النمير العذب الذي تجري به الأنهار وتنضح به العيون.
نادوهم، وفيهم آباء لمن ينادونهم، وأخلاء في الدنيا، ولكن الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو، فهي قطيعة بين أهل النعيم وأهل الجحيم قطعوها في الدنيا، فسجل الله تعالى عليهم ذلك في الآخرة.
ولقد طلبوا مع الماء شيئا مما هو عند أهل الجنة من طعام شهي، وفاكهة ورمان ولذا قالوا: (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) أي أعطاكم من خيرات من لبن سائغ للشاربين، وعسل مصفى، وخمر لَا غول فيها ولا يصدعون منها، طلبوا هذا، ولكن ذلك حرام عليهم، ولذا أجاب أهل الجنة وقالوا: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ).
قال أهل الجنة معتذرين عن عدم الإجابة، أو مقررين الوقائع التي غابت عن أهل النار تحت تأثير العطش الشديد، والحاجة الملحة إلى الطعام، وهو أن ذلك
2854
جزاء الله تعالى، ووعده الذي وعدهم به وإن الله لَا يخلف الميعاد، قالوا لهم: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) ذلك أن لكل نصيبه وجزاءه، وحسبكم ما تمتعتم به في الدنيا آثمين ظالمين كافرين بالحق مستكبرين عن اتباعه مكذبين لدعاته.
والتعبير بالكافرين إشارة إلى أن سبب الحرمان هو الكفر، ولا خلاص لكم مما كتب عليكم بأعمالكم.
* * *
(الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
* * *
هذا بيان للكافرين وأعمالهم في الدنيا، وقد ذكر - سبحانه - ما ينزل بهم في الآخرة، وأنهم في شقاء جهنم يطلبون الماء العذب فلا يجدونه، بل يجدون حميما وغساقا، ويطلبون الطعام، فلا يجدون إلا شجرة الزقوم.
وقد ذكر - سبحانه وتعالى - حالهم في الدنيا ليبين عدالة ما يستحقون في الآخرة، وأنه جزاء ما كسبوا. ذكر الله تعالى لهم وصفين خطيرين كانا السبب فيما ينالهم في الآخرة:
2855
أولهما - أنهم اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، ودينهم هو ما خوطبوا به من الرسل الذين أرسلوا إليهم، إذ هو الدين الذي طلبوا بالقيام بحقه، فأعرضوا عنه، واتخذوه لهوا وهو ما يلهيهم عن الحق، ويموِّهون به الباطل، ويتعابثون به على الرسل وأتباعهم وازدرائهم، وقالوا هم أراذلنا، فكل هذا ألهاهم عن الحق، ولم يفكروا أن الدلائل الموصلة بل فكروا في أهواء ضالة. واللعب هو الأعمال العابثة التي لم يكن لها حد مقصود بل ترفع إليه أهواء جامحة كشربهم الخمر ولعبهم بالميسر، واتخاذهم القِيان (١)، وانغماسهم في حياة عابثة.
ثانيهما - أنهم غرتهم الحياة الدنيا بزخرفها، وشهواتها، وما ينالون منها، وظنوها الحياة التي لَا حياة بعدها، فاغترارهم بهذه الحياة جعلتهم ينكرون البعث، ويقولون: (... أَئِذَا كنا تُرَابًا أَئا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ...).
ولقد كانوا يتهكمون على هذه العقيدة، ويقولون متهكمين لاعبين: أرجع آباءنا، أرجع قُصَيًّا؛ فإنه رجل خير... وهكذا كانوا يعبثون بالحقائق؛ وذلك لأنهم قوم ماديون، لَا يؤمنون بالغيب، ولا يؤمنون إلا بما يرون ويحسون. وقد نسوا الله تعالى، ونسوا مقدرته في هذا الوجود، فكان أن تركهم كما تركوه.
ولذا قال تعالى:
________
(١) القيان جمع قينة، وهي الجارية المغنية.
2856
(فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) النسيان على الله تعالى لَا يجوز، لأنه - سبحانه - لَا يغفل عن شيء قلَّ أو جَلَّ، وكل شيء عنده في كتاب أحصاه لَا يتخلف عن علمه شيء، وأريد بالنسيان لازمه، وهو الترك بل بعض علماء اللغة يقول: إن الأصل في معنى النسيان هو الترك، والمعنى في قوله تعالى: (فَالْيَوْمَ) الذي تجزى فيه كل نفس بما كسبت نتركهم في جهنم يريدون الماء فلا يجدونه إلا في حميم، ويطلبون الطعام، فلا يذوقون إلا طعام الزقوم.
2856
وقد ذكر - سبحانه وتعالى - أن ذلك في مقابل أمرين أو عقاب لأمرين: أولهما - أنهم نسوا لقاء يومهم هذا مع كثرة النذر، ومع إرسال الرسل، ومع أنه يوجبه منطق الحياة، وأن الله تعالى لم يخلق الإنسان سدى، يأكل ويلعب كالحيوان، إنما هو مخلوق مدرك، وأن الدنيا فيها الخير والشر، وأنه لَا بد للخير من أن ينتصر، ولا بد للشر من أن ينهزم، وأنه يتناسب مع علو مكانة الإنسان في هذه الأرض.
ثانيهما - ما كانوا بآياتنا يجحدون " ما " هنا على تقدير الكاف، وهي معطوفة على قوله تعالى: (كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا)، أي أن الله تعالى نسيهم، كما نسوا لقاء يومهم هذا، وكما كانوا بآياتنا يجحدون، وجحود الآيات إنكار ما تدل عليه من دلائل التوحيد، ومعاندتهم لله تعالى، وتكذيبهم لأنبيائه، فكان نسيان الله تعالى لهم وتركهم في جهنم يصلونها، من مقابل نسيانهم، وجزاء لجحودهم.
والله على كل شيء قدير.
ولقد بين الله - سبحانه وتعالى - أنه ما تركهم هملا من غير كتاب يعلمهم ويهديهم ويرشدهم، فقال تعالى.
* * *
2857
(وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
* * *
ما تركهم رب العالمين سدى من غير هاد ولا مرشد، بل أعذر إليهم بإنزال كتاب قد فصله على علم بما يدل عليه من عظات، وما يوجههم إليه من آيات، فقال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْنَاهم بِكِتَاب) أكد مجيء الكتاب لهم بـ " اللام " و " قد "، وقد عبر بأنه جاء إليهم ولم يقل أنزل عليهم؛ لأنه نزل على محمد - ﷺ - والرسول جاء به إليه على أنه معجزته الكبرى، وكلام الله تعالى الذي خاطبهم هم والأجيال القادمة إلى يوم القيامة، فالمراد من الكتاب القرآن، وجاء نكرة ومقامه التعريف؛ للإشارة إلى فخامته، وإلى أنه كتاب لَا يتسامى إلى مثله كتاب.
2857
ويقول تعالى: (فَصَّلْنَاهُ) بيناه ووضحناه، وأتينا بفصوله كاملة على علم بل اشتمل عليه من معرفة بالشرائع وأخبار النبيين، وتنبيه إلى أن يكون القرآن وآياته، للدلالة على وحدانية الله تعالى لَا شريك له، وذلك كقوله تعالى: (... كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢)، ولقد قال تعالى في آية أخرى: (... أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ...).
وقد وصفه - سبحانه وتعالى - بوصفين جليلين:
أحدهما - أنه (هُدًى)؛ وذلك لأنه معجزة هادية إلى الحق وصدق الرسول، وكل ما يشتمل هداية ببيان الشرائع والأحكام، وما فيه مصلحة الناس في معادهم ومعاشهم، وما فيه تنظيم جمعهم، والسير بهم في سبيل الخير.
وثانيهما - أنه (رَحْمَةً) لما فيه من أحكام كلها نفع وخير للمجتمع وفيها العدالة، وهي الرحمة الكاملة بالمجتمع، وفيه الأمانة وفيه شرعية القتال، وفيه رحمة ودفع للفساد، (... وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٢٥١).
وإن رحمة الله وهدايته وعلمه لَا تؤتي أكلها إلا في قلوب مؤمنة غير جافية فهي التي ينبت فيها زرع الخير ويؤتي أكله؛ ولذا قال تعالى: (لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
أي لناس من شأنهم الإيمان بالحق إذا جاءهم، ومن شأنهم الإذعان للحقيقة، يؤمنون بها إذا عوفوها، وهناك قلوب جافية طمس عليها، هي غلف لا يدخلها النور، ولا تصل إليها الهداية، وهذه ليس من شأنها أن تؤمن، ولو جاءتها الأدلة واحد بعد الآخر؛ لأن عليها غشاوة تمنع وصول النور، فالذين يجدون الرحمة والهداية في القرآن هم الذين من شأنهم الإيمان بالحق إذا جاءهم؛ ولذا عبر بالمضارع الدال على الاستمرار، والله تعالى أعلم.
2858
لقد كفر المشركون والكفار من أهل الكتاب، وانتظروا تحقيق ما يدل عليه من بعث وحساب وعقاب وثواب؛ ولذا قال تعالى:
* * *
2859
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ... (٥٣)
* * *
إن الكفار من وثنيين وكتابيين لم يؤمنوا بالقرآن، ولا بما اشتمل عليه، يوجه الله تعالى إليهم سؤالا استنكاريا فقال: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأوِيلَهُ)، و " النظر " هنا بمعنى الانتظار كقوله: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ منَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وِإلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ).
والاستفهام هنا إنكاري لنفي الوقوع، والمعنى لَا ينتظرون إلا تأويله.
والتأويل هنا معرفة المآل والعاقبة، أي لَا ينظرون إلا أن يروا مآلهم وعاقبتهم، لقد أنكروا البعث وأنكروا الحساب والعقاب، فهل ينتظرون أن ينزل ذلك بهم واقعا لا فكاك عنه، حيث يأتيهم ما أنكروه من بعث، وحساب ومن ذلك عقاب وثواب. وإن تأويل القرآن كما قال ربيعة: لَا يزال يجيء آنًا بعد آنٍ، فكل خبر فيه يتحقق حتى يجيء الخبر الأكبر، وهو البعث والنشور والحشر والميزان، والصراط وما أخبر به مما ينكرونه، ولا يؤمنون به.
وعلى ذلك لَا تكون كلمة التأويل مرادا بها التفسير، إلا أن يراد هذا التفسير الواقعي الذي يكون يوم القيامة، وإنه عندم يجيء ذلك المآل الحق يتذكر الناسون، ويتنبه الغافلون، ويرون لنا عيانا ما أنكروه في الدنيا جهارا؛ ولذا قال تعالى: (يَوْمَ يَأتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)، أي الذي نسوا تأويل الكتاب من قبل أي وهم في الدنيا متذكرين قد ذكرتهم الزواجر وقرعت حسهم العقوبات (قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)، أي ور جاءت هذه الرسل منذرة ومبشرة داعية إلى الحق، ولتتميم قولهم وعاندناهم وجحدنا بالآيات
2859
وكذبناها. ويقرون الآن بالحق الذي أنكروه فَيَنُصُّون على أن الرسل جاءوا بالحق، أي الأمر الثابت الذي لَا يرد ولا ينكر، وأحسوا بغفلتهم عنه في الدنيا وأن العذاب واقع بهم لَا محالة، فيتجهون إلى طلب الشفعاء، فيقولون؛ (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا).
" الفاء " هنا لتفصل ما اعترى نفوسهم في هذا الهول، ومع أن الله قد قال في كتابه عن هذا اليوم لَا يُقبل فيها شفاعة ولا عدل، مع ذلك طلبوا الشفعاء، أو رجوا أن تكون ثمة شفاعة، فقالوا: (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا)، و (من) هنا لاستغراق الطلب، والمعنى هل يوجد لنا من شفعاء أي شفعاء كانوا، سواء أكانوا أولياء أم كانوا أعداء ولو شامتين، ولكنها أمنية لَا تتحقق؛ ولا يمكن أن تتحقق؛ لأن الله تعالى نفي ذلك في الدنيا، وهو لَا يخلف موعده.
ولأنهم يئسوا من أن يكون لهم شفعاء قالوا أمرا آخر وهو أن يردوا إلى الدنيا، فيعملوا غير الذي عملوا فيقولون: (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ).
ولكنهم إذا عادوا إلى الدنيا سيطرت أهواؤها وغرتهم بغرورها فكانوا كما هِم، ولقد قال الله تعالى في آية أخرى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٢٨).
ولقد ختم الله تعالى الآية بتسجيل الخسارة عليهم، وتخلي أوليائهم عنهم فقال عز من قائل: (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).
أكد الله تعالى خسارتهم بقيد، فقد خسروا في ذات أنفسهم إذ ضلوا، والضلال خسارة للنفس، وخسروا أنفسهم فأوقعوها في الهلاك الذي يكون يوم تأويله، وخسروا الحق فكانوا من المبطلين، وخسروا أيضا أولياء لهم يناصرونهم، ولذا قال تعالى: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي غابوا غيبة منقطعة لَا يعرفون أين هم، وهم الأوثان التي كاتوا يفترونها، فخسروا خسرانا مبينا، وعبر - سبحانه
2860
وتعالى - عن الأصنام بما كانوا يفترونه؛ لأنهم لَا وجود لهم إلا في افترائهم، فصنعوها بأيديهم، وأضافوا عليها افتراء من عند أنفسهم معاني العبودية فكان ضلالهم كبيرا.
* * *
آيات الله في الكون
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
* * *
بعد أن ذكر الله تعالى حال الكافرين يوم القيامة، وحال المؤمنين وبين حال كفرهم في الدنيا الذي تأدّى بهم إلى العذاب في الآخرة.
أخذ يبين - سبحانه وتعالى - آياته في الكون التي تدل على أنه الواحد الأحد؛ لأنه الذي خلق الكون كله، والمشركون من العرب كانوا يعرفون ذلك، ويؤمنون به (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ...)، ولكنهم كانوا يعبدون الأوثان ويقولون. (... مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَربُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى...).
ولقد قال تعالى:
2861
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ).
2861
إن ربكم الذي خلقكم وبرأكم أخرجكم من بطون أمهاتكم هو الله - جل جلاله - وكمل كماله، الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، و " ستة " أصلها " سدسة " فقلبت الدال تاء وأدغمت في السين فصارت ستة؛ ولذا تجمع على " أسداس "، ومنه الوصف " السادس " جريا على مقتضى الأصل لبنية الكلمة. وقد أكد الله - سبحانه وتعالى - ذلك بـ " إنَّ " الدالة على التوكيد وذكر لفظ الجلالة الذي يكسوا الكلام مهابة وجلالا، و " رَبَّكُم " مبتدأ، ولفظ الجلالة هو خبر القول، وقد وصفه الله (١) - سبحانه - بأنه الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
فما هي هذه الأيام، إن اليوم الذي نعرفه هو الذي يتم بدورة الأرض حول الشمس مرة، وهو يبتدئ من الغروب إلى الغروب، ولا يمكن أن يكون ذلك قبل السماوات والأرض، وخلق الشمس والقمر والنجوم، قال بعض المفسرين: إنه ألف سنة كما قال تعالى: (... وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كألْفِ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ). وإن الذي يقدح في ذهني أن اليوم هنا هو دور التكوين للسماوات والأرض، وقد أشار - سبحانه وتعالى - إلى ذلك بشكل يبين أدوار خلق السماوات والأرض، فقال تعالى:
(قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢).
ونستطيع أن نحصي الأيام الستة من هذه الأدوار؛ فالأرض والسماوات السبع قضاهن في يومين، إذ قال: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرضِ
________
(١) أي وصف الخبر، وهو لفظ الجلالة.
2862
ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ...)، وهما اليومان نفسهما الذي قضى فيهما الأرض.
ثم كانت الأرض، كون - سبحانه وتعالى - القشرة الأرضية وجعل فيها رواسي، وبارك فيها، وقدر أقواتها، وجعل من الماء كل شيء حي فيها، وكان ذلك في أربعة أيام سواء للسائلين.
فنحن نرى أن الأيام الستة هي أدوار التكوين الذي قدره الله تعالى في خلقه، وهو العزيز العليم، وهو الأعلم بخلقه بعد أن خلق الله - سبحانه وتعالى - السماوات والأرض في ستة أيام أي في ستة أدوار كونية، ذكر - سبحانه وتعالى - أنه يدير أمرها ويشرف على وجودها، ويسيرها في مدارجها، فقال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ).
العرش: يطلق على كرسي الحكم كما في قوله تعالى: (... نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا...). وما قال تعالى عن يوسف - عليه السلام: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْش...).
واستوى بمعنى استقر، والعلو على هذا العرش.
ويقول علماء الكلام: إن للعلماء في مثل هذا النص السامي (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) منهاجين: أحدهما يفسر، فيقول: إن معنى استوى استولى على عرش هذا الوجود، وصار له السلطان الكامل فيه، لأنه مالك كل شيء، ولا شيء لغيره فيه، فهو المالك وحده. والثاني يفوض، فيقول: إن الله ذكر أنه استوى على العرش، فنؤمن بذلك ولكن لَا نحاول أن نبحث عن مدى هذا المعنى، كما قال الإمام مالك - رضي الله عنه: " الاستواء معلوم والكيف مجهول، والسؤال عن ذلك بدعة "
فهو يرى أننا نؤمن بالحقيقة، ولا نسأل عن كيفها، ونؤمن بنزاهة الله، فننزهه عن أن يكون له مكان، فإن ذلك شأن الحوادث، والله تعالى لَا يماثل
2863
الحوادث في شيء، كما قال تعالى: (... لَيْسَ كمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير).
وإنه ليبدو لنا غير مفتاتين، ولا مدعين، أن قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) تعبير مجازي، قصد به استيلاء الله تعالى على حكم هذا الذي خلقه فهو تشبيه سلطان الله تعالى فيما خلق من السماوات والأرض وما بينهما وتدبيره لهما، وتسييره أمرهما - بمن يستوي على عرش ملك يدبره ويسير أمره، ولله - سبحانه وتعالى - المثل الأعلى في السماوات والأرض.
بعد ذلك وجه الأنظار إلى ما يجري بين الناس كل يوم من ليل ونهار، شمس وقمر ونجوم مسخرات بين السماء والأرض، فقال عز من قائل: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ أي يجعل الليل غاشيا للنهار؛ لأنه ظلام، والظلام هو الذي يغشى النور، وذلك في الحس، فالظلام يجيء ويستر النور، والنور يعقبه، وكل ذلك في ترتيب مستمر، وكان كل واحد منهما يطلبه حثيثا (١)، ولا يتخلف، لَا الليل يسبق النهار، ولا النهار يسبق الليل كما قال تعالى: (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
وقوله تعالى: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي خلقهما، فـ " الشمس " معطوفة على " السماوات والأرض " - في يومين، وقوله تعالى: (وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) أي خلق الله - سبحانه وتعالى - النجوم مذللات بأمره، تسير في مداراتها كل نجم يسير في مداره باستمرار بأمر الله تعالى، وهذا يدل عليه قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا...)، فكل شيء يسير بأمر الله تعالى، وهو على كل شيء قدير.
________
(١) حَثِيثًا أي مُسْرِعا حَريصا. لسان العرب - حثث.
2864
وقد أكد هذا المعنى بقوله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْق وَالأَمْر تَبَارَكَ اللَّه رَبُّ الْعَالَمِينَ).
" ألا " للتنبيه، وهي كثمرة، لما ذكر - سبحانه وتعالى - من أمر خلق الكون، وما يسير عليه فله وحده الخلق ولو الإنشاء والتكوين، والآمر فيه والسلطان عليه والمسير له والمدبر لبقائه، لَا إله إلا هو الحي القيوم.
فتبارك الله تعالى وعلت بركته - سبحانه وتعالى - على هذا الوجود، وهو أحسن الخالقين. وأفعل التفضيل ليس على بابه، أي أنه - سبحانه وتعالى - خلقه خلقا هو الكمال في الحسن والتنسيق، ولا خالق سواه حتى يقال أن خلق الله تعالى أحسن من خلقه! إنه عزيز حكيم.
* * *
2865
(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥)
* * *
كان الأمر بالدعاء بعد أن بين أن الله تعالى خلق السماوات والأرض، وأن الله صاحب السلطان فيها، والأمر بالدعاء يشمل دعاء الله تعالى وعبادته وحده سبحانه، فقال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً).
ادعوا ربكم: اعبدوه، فالدعاء مخ العبادة. ادعوه وحده؛ لأنه ربكم الذي خلقكم، ويربكم ويربيكم، ويدبر أموركم، ولا تدعوا مع الله أحدا، وادعوه تضرعا، أي في ضراعة وخضوع وتذلل إلى الله - سبحانه وتعالى - وخُفية " أى في خفاء مستترين غير مجاهرين، ولا معلنين، فإن الإعلان قد ترفقه برياء، وإن الله لَا يقبل الدعاء إلا أن يكون له وحده، فالعبادة له - سبحانه وتعالى - وحده لا يشاركه فيها أحد.
والدعاء كما قلنا يشمل العبادات من صلاة وصوم وأدعية فيها ذكر الله كثيرا، وقد حث النبي - ﷺ - كما أمر الله تعالى بأن يكون الدعاء خفية، وإن جهر لا يكون بإعلان وضجة، فقد روى البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع رسول الله - ﷺ - في سفر، فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا،
2865
فقال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ " (١).
وإن المأثور عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يدعون الله تعالى، ويعبدونه متسترين إلا ما يكون في جماعة، ولقد كانوا وهم في أعمالهم يدعون الله تعالى بالتوفيق والعمل الصالح، حتى وهم في المجاهدين يدرعون بالصبر، والالتجاء إلى الله تعالى ورجاء رحمته ونصرته، وهم في خيرهم يتسترون ولا يجهرون، لأن الستر يجعله خالصا لله، مخلصين له الدين، روي عن الحسن البصري أنه قال: " إن كان الرجل قد جمع القرآن وما يشعر به أحد، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزَّوْرُ وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان مع الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدا، ولقد يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم؛ وذلك أن الله يقول: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)؛ وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا وحكى عنه فقال: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا).
وكان الدعاء " خفية " ذا فضل عظيم، لأنه مناجاة الله، وكأنه يُودع ربه سرَّه وعلانيته، وهو مظهر المحبة، وهو بعيد عن كل رياء، ولأن النية مطلوبة قالوا: إن الإشارة في الدعاء إلى السماء ليست مطلوبة، ونحن نقول:
إن الدعاء الخفي أفضل من الدعاء الجلي، بيد أن الدعاء بالجهر قد يكون مطلوبا كالتلبية، وفي هذه الحال تجوز الإشارة بالأيدي لأن ذلك انفعال ضارع. وقد كان النبي - ﷺ - يدعو ويشير بيديه (٢)، وقالوا: إنه كان يدعو وهو
________
(١) متفق عليه؛ رواه بهذا اللفظ البخاري: الجهاد والسير - ما يكره من رفع الصوت في التكبير (٣٩٩٢)، ومسلم بنحوه: الذكر والدعاء (٢٧٠٤). عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(٢) من ذلك ما رواه البخاري: الحج - إذا رمى الجمرتين (١٧٥١).
2866
على ناقته، فإذا مالت أخذ بزمامها بيد، واستمرت يده الثانية الكريمة ممتدة بالدعاء (١).
ويختم سبحانه الآية الكريمة بقوله: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
إنه - سبحانه وتعالى - لَا يحب الذين يعتدون، أي يتجاوزون الحدود المحدودة عليهم، فيعتدون على غيرهم، أو يتجاوزون الأمور المفروضة عليهم، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، فتعدى الحدود أمر لَا يحبه الله تعالى، وقد يكون حراما، كالاعتداء على حق غيره، وقد ذكروا أن ذكر الاعتداء عقب طلب الدعاء يدل أن الاعتداء قد يكون في الدعاء.
والاعتداء في الدعاء كأن يقضي وقته كله في دعاء، ولا يقوم بواجب الحياة، كأولئك الذين ينقطعون للعبادة ويتركون أمر الحياة ولا يدبرون أمرها، فذلك اعتداء في الدعاء، وقد جىء برجل للنبي - ﷺ - فقالوا: هذا عابدنا، فقال - ﷺ -: ومن يؤكله، قالوا: أخوه يؤكله، فقال - ﷺ -: أخوه خير منه. وكأولئك الذين ينقطعون في الزوايا، أو ما يسمونه الخانقاه، بحسبان أنهم يدعون الله تعالى ويعبدونه، فإن ذلك اعتداء في الدعاء وتجاوز لحد المطلوب، وقد روي أن النبي - ﷺ - قال: " سيكون قوم يعتدون في الدعاء " (٢). ولعله سبحانه ينبئ بهؤلاء.
ولقد ذكر القرطبي وجوها في الاعتداء في الدعاء منها:
الجهر الكثير والصياح، ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي أو يدعو في محال، ونحو هذا من الشطط، ومنها أن يدعو طالبا معصية، ومنها أن يدعو ما ليس في الكتاب والسنة.
________
(١) رواه النسائي: مناسك الحج - رفع اليدين بالدعاء في عرفة (٣٠١١).
(٢) رواه أحمد: مسند العشرة - مسند أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص (١٤٨٦)، وأبو داود: الصلاة - الدعاء (١٤٨٠).
2867
وفى بعض هذه الوجوه نظر، فالدعاء بطلبه المعصية معصية وليس بدعاء يدخل في باب العبادة، وتجاوز المراتب الإنسانية شطط وليس بدعاء.
والله تعالى لَا يستجيب إلا لما يكون حقا، ولا يقبل من الدعاء إلا ما يكون خالصا لله، ولا يكون قاطعا عن الحياة ومطالبها، فإنه لَا رهبانية في الإسلام.
ويقول - سبحانه - في عمارة الأرض والدعاء مع الإصلاح:
* * *
2868
(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
* * *
ذكرنا أن من الاعتداء في الدعاء، أن ينصرف عن العمل في الدنيا كاسبا متكلا على الدعاء كما يفعل الرهبان، وإنما يجب مع ذكر الله أن يندمج مصلحا في الأرض منتجا مثمرا فإن ذلك فيه إرضاء لله؛ لأن فيه خيرا للعباد ونفعا لهم، و " خير الناس أنفعهم للناس " (١).
وإن الله تعالى في وسط الأمر بالدعاء نهى عن الإفساد في الأرض، ويتضمن ذلك العمل فيها بالإنتاج والإنماء يقوله تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا).
إصلاح الأرض: خلقها صالحة لأن يعيش عليها الإنسان في زرعها وغرسها، ومستمتعا بكل حلالها وطيباتها، وقد أرسل الرسل منذرين ومبشرين، وهداة إلى الحق ومصلحين وعاملين للخير.
وإفسادها إشاعة الظلم، وإفساد ما تنتج، والتعدي التعاون على الإثم والعدوان وقطع الأشجار وحرق الثمار، وجاء في القرطبي (تجارة الحكام من الفساد في الأرض).
________
(١) سبق تخريجه.
2868
ونرى أنه قد جاء النهي عن الفساد، ولم يجئ الأمر بالإصلاح؛ وذلك لأن الله تعالى تولى جعل الأرض صالحة لأن يعيش فيها أهلها آمنين مطمئنين بأن جعلها مهادا، وجعل الجبال أوتادا، وأنزل من السماء ماء فأخرج به ثمرات كل شيء: أخرج به حبا متراكبا، وغروسا ذات ثمار يانعة، فهو - سبحانه وتعالى - تولى ما به صلاح ذات الأرض، وأرسل الرسل تصلح ما بين الناس بالحق، وأجرى على أيديهم شرائع تهديهم إلى الرشاد، وتأخذهم إلى الحق إن استقاموا على الطريقة، وإذا عرفنا معنى الإصلاح الذي كان من الله تعالى في الأرض، عرفنا معنى الإفساد الذي يكون بعد الإصلاح الأزلي الذي قرره الله تعالى فيكون الإفساد تخريب العامر، وقطع القائم وإهلاك الحرث والنسل، وتعطيل شرائع الله، وإشاعة الأخلاق الفاسدة، وإثارة الغرائز الفتاكة والقاتلة لكل فضيلة بين الناس، وفتح باب الرشا وأكل السحت.
وقوله: (بَعْدَ إِصْلاحِهَا)، تقرير لواقع الأمور؛ لأن الفساد لَا يكون إلا تقويضا لصالح، وإنه في وسط تلك المعرفة القائمة بين الصلاح والفساد، مع الامتناع عن الثاني يكون الالتجاء إلى الله تعالى؛ ولذا قال تعالى: (وَادْعُوهُ خَوفَا وَطَمَعًا).
أي ندعو إليه - سبحانه وتعالى - بدعاء: ربكم الذي خلقكم ويكلؤكم بعنايحَه وتدبيره وحكمته (خَوْفًا وَطَمَعًا)، أي خائفين من مغبة أعمالكم في الحياة (الدنيا)، ومن آثارها في اليوم (الآخر)، وطامعين في غفرانه ورحمته التي وسعت كل شيء رحمة وفضلا. فمعنى (خَوْفًا) أي خائفين من عذابه، و (طَمَعًا) أي طامعين في غفرانه - وإن الله تعالى يقرن رجاءه بخوفه، ورحمته بخوف عذابه.
قال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (٥٠).
وقدم - سبحانه وتعالى - الخوف على الطمع؛ بأنه يجب على المؤمن أن يغلب الخوف على الرجاء؛ لأن من غلب الخوف على الرجاء أمن
2869
واحترس، وسار على الصراط المستقيم آمنا، وإن غلب الطمع، ربما انساق وراءه، وإذا انساق ربما سار في غير الطريق السوي.
ولقد قرب الله تعالى رحمته لعباد، فقال: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّه قَرِيبٌ منَ الْمُحْسِنِينَ).
المحسنون هم الذي أجادوا أعمالهم في الدنيا، وبلغوا بها الكمال الإنساني، وبالغوا في أداء واجبهم، وزادوا عليه وأطاعوا ربهم في كل ما أوجبه عليهم وألزمهم به.
ورحمة الله غفرانه (ذنوبهم)، والإنعام عليهم، وأن يكتب لهم الثواب بففمل منه وكرم، وقد قال تعالى في دعاء الأبرار:
(وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٦).
وقوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ منَ الْمُحْسِنِينَ) فيها إشارة إلى أن الله تعالى يعطي رحمته لمن يستحقها بغير حساب، ومن غير تسويف، والمسافة بين الرحمة وطالبها قريبة إن قدم لها العمل الصالح وعدم الإفساد.
وهنا بحث لفظي، يقول الله تعالى: (قَرِيبٌ) على أنها خبر لرحمة، وهي مؤنث لفظي لحقته التاء، وكان مقتضى السياق اللغوي أن يقول " قريبة " بدل " قريب ".
خرج بعض النحاة ذلك على أن (رحمة) مؤنث مجازي، ولا يلزم في خبره التأنيث، بل يجوز فيه التذكير.
وبعضهم قال بتقدير مكانها، فقال السياق: " وإن رحمة الله مكانها قريب " أي أنها سهلة في الوصول إليهم؛ لأنه كلما قرب المكان كان الوصول إليها أسهل.
2870
وخرج آخرون بأن الرحمة متضمنة معنى الثواب أو الغفران، وهو مُذكَّر.
وهذه وغيرها تخريجات نحاة ليستقيم إعرابهم، أما كلام الله فهو فوق طرائق إعرابها وهو سليم منزه عن أي عيب بياني.
* * *
(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
* * *
بين الله تعالى آياته في الكون كيف خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وبين - سبحانه وتعالى - وجوب الضراعة من بني الإنسان كما يسبح له كل ما في الوجود، وإن كنا لَا نفقه تسبيحهم، (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ)، وفى هاتين الآيتين: يعدد - سبحانه - على الإنسان ما سخر له في الأرض، فقال عز من قائل:
2871
(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) " الواو " هنا عاطفة على قوله تعالى: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا)، أي أنه وقد أنعم بنعمتي الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات أنعم بالماء يسقي الأرض فتنبت نباتا طيبا، وهو - سبحانه وتعالى - الذي يوزعه في الأرض، على حسب حاجة كل بلد إليه، وتوزيعه عادل صالح يحي الأرض بعد مواتها.
(وَهُوَ) الضمير يعود على الله تعالى جل جلاله، وتعالى كماله، يثيرها سبحانه، ثم يرسلها بقدرته (بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)، أي أمام رحمته مبشرة
2871
الناس بأن السماء ستمطر، والمطر غيث يغيثهم، يشربون منه، وينبتون به زرعهم ويسقون به أنعامهم، وغرسهم، ويجنون به ثمارهم، فهي بشرا لهم، مبشرة لهم برحمة من الله ويكون المطر. وبشرا: جمع بشير، كقُلب جمع قليب، وأصلها " بُشُرًا "، وسكنت للتخفيف، وهناك قراءة بالنون، لَا بالباء، وبضم الشين، أي (نُشُرًا) (١)، وهي جمع ناشر، كما أن شهدًا جمع شاهد، والمعنى أن الرياح تنتشر، مبشرة بأن السحاب سيمطر مطرا يكون غيثا، وحول هاتين القراءتين قراءات أخرى يبلغ عددها سبعا، والفرق بينها في الكلمة، ولا يؤثر اختلافها في مضمونها.
وهي تكون منتشرة معلمة بالبشرى بالماء الذي يحيي الأنفس، ويحيي موات الأرض.
ويقول سبحانه في تحقيق البشارة: (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا) حتى ثارت هذه الرياح فبخرت البحار فتكون منه الماء، وحملت السحاب، وتكاثفت الرياح..
و (أَقَلَّتْ) أي حملت، ولا تقال كلمة (أَقَلَّتْ) بمعنى " حملت " إلا إذا كان سحابا ثقالا أي ممتلئة ماء.
وسحاب اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء أو بياء النسب كتمر، وتمرة، وبقر وبقرة، وعرب وعربي، وروم ورومي. والثقال جمع ثقيل.
امتلأت السحاب بالماء، وحملتها الرياح، ولم تنزل حيث كانت، بل إن الله تعالى المنعم الموزع لرحمته لَا ينزلها إلا في مواطن الحاجة إليها على ما مضت به حكمته، وعلى مقتضى علمه - سبحانه وتعالى - فهو الحي القيوم المدبر للوجود، ولأهل الأرض (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي سقنا السحاب، فالضمير يعود إليها، وهي تذكر وتؤنث، فأوما - سبحانه وتعالى - إليها مذكرا. ساق: تتعدى بـ " اللام " وتتعدى بـ (إلى)، ومعنى سوقها دفعها، وتعديتها باللام هنا لمعنى الاختصاص
________
(١) قرأها: (نُشْرًا)، بضم النون ابن عامر، و (نَشْرًا) بفتح النون حمزة والكسائي وخلف والمفضل، و (بُشْرًا) بباء مضمومة عاصم إلا المفضل، و (نُشُرًا)، بضم النون والشين نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب. غاية الاختصار: الجزء الثاني - برقم (٨٩٦).
2872
بقسمة الله تعالى العادلة، فالمعنى سقناه إلى هذا البلد، ليكون مختصا بها حتى يحيي مواتها، فإذا ماتت أرض أخرى اختصصناها بما يحييها من غير تثريب (١) فسبحان الرزاق الحكيم.
والبلد الميت، هو الأرض الميتة التي لَا ماء فيها، ولا ينتفع بها في زرع أو غرس، ولا يوجد ما يأكل منه حيوان أو يحيا به إنسان، فيحيي الماء بعد مواتها بإذن الله العليم الحكيم الرزاق ذي القوة المتين.
وقال تعالى: (فَأنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأخْرَجْنَا بِهِ مِن كُل الثمَرَاتِ).
إن السحاب الذي ساقه الله تعالى إلى البلد الميت يلقي حمولته من الماء بإذن الله وبأمره وبنعمته؛ ولذا قال: (فَأنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ) والضمير في (به) يعود على البلد الميت، أي فاخرجنا بهذا البلد الميت، الذي لَا ينبت زرعا (مِن كُل الثمَرَاتِ) من: هنا بيانية، أي أخرجنا كل الثمرات بهذا البلد الميت، أخرجنا حبا وزيتونا ورمانا، متشابها وغير متشابه، وأخرجنا نخلا وعنبا، وأخرجنا كل شيء، وجعلنا منه كلأ تأكل منه الإبل والبقر والغنم، وكل ذي كبد رطبة ينتفع بها، ويختبر بها.
فكان من هذه الأرض الموات تلك الحياة، وذلك الخَضِر من كل شيء، وإن ذلك يقرب لكم إعادة الأموات إلى الحياة؛ ولذا قال تعالى خاتما الآية الكريمة: (كذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَرُونَ).
أي كهذا الذي رأيتم من إخراج ثمرات كل شيء نباتا حيا، وغرسا مثمرا، وحبا متراكبا، وكلأ طعاما للنعم كهذا الذي شاهدتم، وتشاهدون كل يوم يخرج الله تعالى الأموات من قبورهم أحياء، فالتذكير بقدرة الله تعالى على البعث ثابت في كل ما يشاهدون، يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي.
________
(١) التثريب: كالتأنيب والتعيير والاستقصاء في اللوْم، يقال: لَا تثريب عليك.
2873
فشبه الله تعالى إخراج الأموات من قبورهم وبعثهم، وإنشارهم بعد موتهم بإخراج النبات من الأرض الميتة أحياها. ولقد جاء في بعض الأخبار أن الله عند إحياء الأموات ينزل المطر، أربعين يوما فيخرج الأموات أحياء كالنبات (١).
ولقد قال: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، أي رجاء أن تتذكروا، وأنتم ترون ذلك في الأقوام، والبلدان. إنه عليم حكيم.
* * *
________
(١) وذلك كما ورد في الصحيحين عَنْ أبِى هُرَيرَةَ رَضي اللَّهُ عَنْهُ.
[البخاري: تفسير القرآن - (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (٤٩٣٥)، ومسلم: الفتن وأشراط الساعة - ما بين النفختين (٢٩٥٥)].
2874
(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
* * *
البلد: الأرض، وهي الأرض ذات التربة الخصبة المشتملة على كل ما يتكون منه النبات أو الغراس مع الماء والحرارة، وما تقتضيه طبيعة النبات، وما يكون غذاء له، والأرض الخبيثة أو البلد الخبيث ما تكون تربته غير منبتة كالحجارة أو ما يشبهها، وكالأرض التي تكون قريبة من المالح، فيكون ملحها مفسدا لطينتها وخصبها، وخبيثها حجارتها وسبخها، وكل ما لَا ينبت، ومنه الرمال التي لا تحبس الماء، فالبلد الطيب يخرج نباته طيبا غزيرا كثيرا يشبع، ويرضى الزارع بإذن الله، والذي خبث لَا يخرج إلا نكدا، أي القليل الذي لَا يسمن ولا يغني من جوع، فالنكد هو القليل، هو يصيب الزارع بنكد وغم وحزن، وكأنه ينبت ذلك النكد الذي لَا طيب فيه ولا نفع منه.
وإن ذلك مثل لتقسيم الأرزاق، فمن الناس من رزقه الله تعالى أرضا طيبة تأتي له بالخيرات والثمرات، ومن الناس من اختبره الله بأرض خبيثة لَا تخرج إلا
2874
نكدا، وهذه تدعوه إلى أن يبحث عن أرض خير منها (... فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)، وأن يبحث عن خيرات الأرض من باطنها مما اختزنته من معادن وفلزات وكنوز، وأحجار وماس، وكل ما له نفاسة، فكل أرض الله تعالى لَا تخلو من خير.
وهذا معناه أنه لَا يمكن أن يمحى الفقر والغنى أو يذاب ما بينهما من فروق كما يقول الجهلاء الذين لَا يؤمنون بشيء، وقد نقص إدراكهم عن أن يصل إلى حقائق الوجود، وإن تزعموا وتحكموا، وحكموا بالباطل.
وإن بيان معاني هذه الآية المحكمة على أنها حقيقة تبين قدرة الله وتصريف خيرات الوجود بمقتضى علم الله تعالى، وتدبيره وحكمته، وأن بلاد الله فيها الطيب الذي يحييه خير الله، وينزل الماء فيه، وفيها الجدب الخبيث الذي لَا ينبت إلا نكدا، وإن كان قد ضم باطنه خيرا آخر، لَا في الطعام والثمر والزرع، ولكن في منافع الناس.
وقد رأى ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، فالمؤمن كالبلد الطيب يخرج نباته وثماره بإذن ربه، فقلب المؤمن كالأرض الرطبة لَا يكون منها ما هو طيب، وقلب الكافر خبيث كالبلد الخبيث الذي لَا ينتج إلا نكدا، قبيحا وشرا.
وإنا نقول غير جامعين بين الحقيقة والمجاز، إن الآية تدل على تصريف الله تعالى، وتشير عن بعد إلى قلب المؤمن وقلب الكافر، وتقاربهما من البلدين، الأول من البلد الطيب، والثاني من البلد الخبيث.
وقد روى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلَأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا
2875
هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ". (١).
ولقد ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته: (كَذَلِكَ نصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْم يَشْكرُونَ). التشبيه والإشارة هنا (كَذَلِكَ) الذي رأيت من تصريف القول من بيان نعمة الله على الوجود بخلق السماوات والأرض في ستة أيام، وبيان النعم في الإنبات والإثمار، وإخراج كل ما هو نافع للأحياء، كهذا الذي رأيت نصرف الآيات، ونبينها في تصريف محكم مقرب للنفوس، أي كهذا التصريف في ذكر هذه الآيات، نصرف في بيان الحقائق دائما، لقوم من شأنهم الشكر، وتقبل النعمة بالقيام بحقها؛ ولذا عبر بالمضارع الدال على تجدد الشكر المنبعث من النفس الإنسانية المؤمنة، والله غفور شكور.
* * *
القصص القرآني
* * *
بعد الآيات الكونية التي ذكرها الله تعالى دالة على وحدانيته - سبحانه وتعالى - ساق أنباء الرسل، ودعوتهم إلى التوحيد، وتبليغهم رسالات ربهم في إصلاح الإنسان، والقيام بحق ما أنعم الله به عليه، وأنباء من أرسلوا إليهم، وكفر من كفر، وعناده، وأخبر عن دعوة كل رسول وما أجيب به، وذلك لأمور كثيرة: أولها - العبرة بأحوال السابقين والوثنيين الذين اعترضوا على الأنبياء، لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب.
________
(١) متفق عليه، وقد سبق تخريجه.
2876
وثانيها - بيان ما نزل بالمشركين الذين كفروا بالله وكذبوا الأنبياء وعاندوهم وآذوا من اتبعوهم، من عذاب حتم عليهم، ومن خسف جعل عالي ديارهم سافلها، ومن ريح صرصر عاتية، وليعلم الوثنيون الذي يخاطبون النبي - ﷺ - أن الله تعالى يمهلهم ولا يهملهم، كما قال تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (٦).
وثالثها - أن الآيات مهما تكن شديده قارعة حسية لَا تجعل من القلب الجاحد مؤمنا، فهؤلاء السابقون جاءتهم الآيات الحسية القارعة، ولكن لم تحمل الوثنيين على الإيمان، بل جحدوا وإن كانوا مستيقنين.
ورابعها - التسرية عن النبي - ﷺ - بأنه لم يكن أول من كُذِّب وجُحدت آياته بل كذبوا من قبل.
وخامسها - أن في نبأ كل نبي من الأنبياء تساق الحجج على التوحيد، والتنبيه إلى آيات الله تعالى في الكون.
وسادسها - أن في القصص علم الأمم، وأخلاقها، وضلالها، وهداية من يُهتدى.
* * *
من نبأ نوح - عليه السلام -
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٦٠) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ
2877
مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (٦٤)
* * *
ابتدأ نوح كلامه مع قومه مستدنيا قلوبهم، مقربا القول إلى نفوسهم، وكان إرساله إليهم، ولم يوجد ما يدل على أنه أرسل لغيرهم، كما قامت رسالة رسول الله محمد - ﷺ - إلى الناس.
قال عليه السلام:
2878
(يَا قَوْمِ) نادى بالرابطة التي تربطه بهم، وهي أنهم قوم الذين يستنصرهم، ويعتز بصلتهم ويريد الخير لهم، ويجب كل كمال لهم: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) والجملة الأولى دعوة إلى عبادته لأنه خالق الكون ومنشئ الوجود، والجملة الثانية تدل على انفراده وحده بالألوهية، فهي نفي وإثبات؛ نفي أن يكون لهم إله غير الله، ولذا قال: (مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)، أي ليس لكم من إله غيره سبحانه، و " من " لاستغراق النفي، والمعنى: ليس لكم أي إله يعبد غيره، لأنه الخالق، ولأنه ليس كمثله شيء في ذاته أو صفاته، فهو المعبود وحده.
وقد حذرهم من عصيان الله تعالى، والكفر به، وعبادة غيره، فقال: (إِنِي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوم عَظِيم) وفي هذا يظهر عطفه عليهم داعما دعوته بخشية ما ينزل بهم، ومع ذلك هو تهديد لهم بعاقبة إنكارهم. وقد أكد خوفه عليهم بكل مؤكدات القول، بـ " إن "، وبقوله (عَلَيْكُمْ)، وتنكير العذاب، و (عَظِيم)، وأنه لا يدرك جهته، ولا تدرك المشاعر الآن حقيقته. هذه هي الدعوة إلى التوحيد والترغيب فيها، والترهيب من عصيانها؛ فبماذا أجاب قومه؟.
قال الملأ من قومه، أي قال الكبراء والرؤساء والأشراف من قومه مستنكرين مستهترين: إنا نراك في ضلال مبين، وكذلك نجد الكبراء في كل قرية أكابر
2878
مجرميها كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم. كانت إجابتهم إصرارا على غيهم، واستمساكا بما هم عليه، وعدوا غيره ضلالا وسفهًا:
2879
(إِنَّا لنرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)، أي إنا نراك في بعد عن الهداية، والحق واضح. وقد أكدوا ذلك بـ " إنا "، وبأنهم يرونه كذلك، وإنه يستفاد من هذا أمران:
أولهما - أنهم يردون قوله، ولا يقبلونه ويعصونه، وأنهم يرون أن صاحبه في ضلال واضح لَا هداية معه، وأنهم بهذه الحال لَا يمكن أن يجيبوه بل أن يفكروا في إجابته.
وثانيهما - أنه يلاحظ أن ذلك من كبرائهم، كما ذكرنا، أما ضعفاؤهم فإنه لم تعرف لهم إجابة، لأنهم مغمورون غير مذكورين، كما كان الأمر من بعد ذلك للنبي - ﷺ -، إذ مكث وقت الدعوة المحمدية في مكة، ما كان يتردد في جنباتها إلا صوت أبي جهل وأبي لهب، والوليد بن المغيرة، ولا يتردد صوت عمار، وبلال وأبي بكر، وإن نوحا النبي الأمين، منهي عنهم ولا يرد عليهم، بل يقول في أناة المؤمن:
(يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) يقول مبتدئا القوم بندائهم، بما يقربهم ويدنيهم لَا بما يبعدهم، وينبئهم، يناديهم يا قومي يا من أنا منكم وقطعة من جمعكم يضيرني ما يضيركم، ويؤلمني ما يؤلمكم ثم يقول نافيا (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أي ليس بي حال أضلتني عن الحق، وكأنهم قصدوا من الضلالة أنه مسحور قد ضل عقله وغاب، فهو يقول ما بي ضلال، بل أنا برشدي الكامل وأنا فوق ذلك هاد مرشد متحدث عن الله تعالى، ولذا أردف نفي الضلالة بقوله: (وَلَكِنِّي رَسُولٌ من رَّبِّ الْعَالَمِينَ) والاستدراك من نفي الضلالة إلى مرتبة عالية، وذكر أنه رسول، قد أرسله الله تعالى رحمة بهم، وإنقاذا لهم من ضلالهم، وأضاف الرسالة إلى الله تعالى معبرا بقوله: (رَبِّ العَالَمِينَ)، أي الذي ربى الناس وكونهم، وهو القائم عليهم، والمصرف لأمورهم، وللوجود كله سبحانه وتعالى.
وإنه لهذا ما أرسل الرسالة إلا رحمة بكم، وهداية وتوجيها إلى الصراط المستقيم.
2879
ثم بين الرسول الأمين واجبه وهو التبليغ والنصيحة، والدعوة إلى الهداية فقال الله تعالى عنه:
* * *
2880
(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦٢)
* * *
(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي) وعبر عنها بصيغة الجمع للدلالة على أنها متعددة النواحي، فهي للتوحيد، وهو رأسها، وعمادها. وإصلاح الجماعة، ونشر الفضيلة، وتكوين الأسرة، وتنظيم المعاملات الإنسانية على أساس العدل ومنع البغي ولتعميم الإحسان، وإصلاح الأرض ومنع الفساد.
ولقد قال بعض العلماء: ما كانت بعثة نوح لقومه فقط، بل لجيله ومن يتبعه إلى أن يجيء من ينسخ شريعته، وأضاف الرسالات إلى ربه - سبحانه وتعالى - لأنه منزلها، ولأنه القائم على الوجود، والمربي له، والعالم بكل ما يصلحه، وذكر أمرين يقوم بهما بعد تبليغ رسالات ربه، وإعلانها لهم:
أولهما - أنه ينصح لهم، بمحض الحق مخلصا لهم، لَا يأتي إلا بما فيه نفعهم، والخير العميم لهم، والنصيحة والنصح إخلاص النية من الغرض وقصد الفساد، نصحته ونصحت له، أي أخلصتها له.
ثانيهما - الإشارة إلى أنه عنده علم من الله لَا يعلمونه؛ لأنه يخاطبه الله تعالى وحيا أو برسول من الملائكة أرسله إليه؛ ولذا قال في تأكيد نصحه، وبيان صدقه، وأنه هاد مرشد: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فاقبلوا نصحي وإرشادي، فإنه ليس مني، ولكن من الله ربكم ورب العالمين.
ولقد أدرك أنه يجوز أن يكونوا في استغراب، وهو يريد هدايتهم، فيريد أن بزيل غرابتهم، فقال متقربا متحببا مخاطبا وجدانهم مزيلا اسنغرابهم:
* * *
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣)
* * *
2880
الواو هنا عاطفة ما بعدها على ما قبلها، فهي عاطفة كلام نوح - عليه السلام - الأخير على ما قبله، ولكنها أخرت في الذكر عن الهمزة، وهو بهذا ينبههم إلى ما يزيل عجبهم واستغرابهم، فهو استفهام في معنى النفي، أي لا يصح أن تعجبوا من ذلك فإن الله لَا يَنزل، ويكلم الناس، ولا يُنزل الملائكة، (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩).
ولقد أزال عجبهم، وأمرهم بألا يعجبوا.
وموضع العجب الواهم هو (أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِن رَّبِّكُمْ) " أن " تذكير بالحقيقة المستكنة في قلوبهم التي يطمسونها طمسا، حتى لَا يذكروا، (عَلَى رَجُلٍ منكمْ)، أي على لسان رجل منهم، أو أن " على " بمعنى " مع " أي: مع رجل منهم، وكذلك قال المشركون لمحمد - ﷺ -: (... أَبَعَثَ اللَّه بَشَرًا رَّسولًا)، (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسولِ يَأكل الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ...)، وقد بين الله الغاية من الرسالة التي جاء بها نوح - عليه السلام - وهي غاية الرسل أجمعين فقال: (لِيُنذِرَكمْ) بهذا الذكر الذي يثير العلم الذي تطمسونه فيذكركم به منذرا من عذاب، ومبشرا بثواب (وَلِتَتَّقُوا) ولتعملوا على أن تتخذوا من عملكم وقاية لكم من العذاب، (وَلَعَلَّكُمْ ترْحَمُونَ)، أي ولترجوا أن يرحمكم الله باتباع ما أمركم به من توحيد، وإصلاح، فإن ذلك هو الرحمة الحقيقية بكم.
قال نوح ذلك متوددا متحببا، مخاطبا بما يجمعهم من مودة، ولكنهم نفروا من دعوته، ومن هدايته فكذبوه.
* * *
2881
(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (٦٤)
* * *
الفاء: هنا للإفصاح، أو للترتيب، أي أنه ترتب على هذا الذكر، وهذه الدعوة الهادية الباعثة على العبرة أن كذبوه، وكان لَا بد بعد هذا التكذيب القاطع للحق، والهادم لكل صالح أن يكون العذاب لمن طغى، والنجاة لمن هدى، أمره الله تعالى بأن يصنع الفلك، لينجى فيه من آمن من قومِ نوح، وأن يغرق من عاند وكفر، فقال: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)، أي بسبب تكذيبهم؛ لأن الصلة في الموصول هي سبب الحكم،
2881
وقد أكد - سبحانه تعالى - وصفهم بالضلال، فقال: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ) عمين جمع عم، وهو صفة مشبهة من عَمِي، فهم ضالون قد أعمى الله تعالى بصائرهم. وإنها لَا تعمى الأبصار، ولكن تعمى الأفئدة التي في الصدور.
هذا ما ذكره الله تعالى في هذا الموضع من قصة نوح - عليه السلام - ونكتفي بالكلام هنا، ونتكلم في باقي قصة نوح مع قومه في مواضعها من القرآن الكريم، فلكل جزء منها عظة قائمة بذاتها.
وسيدنا نوح - عليه السلام - هو أبو الأنبياء بعد آدم، وقيل: إن إدريس أكبر منه، ولكن الظاهر من سياق القرآن للأنبياء، أنه أبو البشرية بعد آدم، والله - سبحانه وتعالى - أعلم.
* * *
من قصة هود عليه السلام
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٦٥) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٦٦) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ
2882
يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)
* * *
يدل ما ذكره - سبحانه وتعالى - هنا من قصة هود - عليه السلام - أنه جاء من بعد نوح - عليهما السلام - فقد قال تعالى: (وَاذْكرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نوحٍ) إلى آخر الآية الكريمة. يقول تعالى:
2883
(وَإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا)، الواو عاطفة على قوم نوح، وهي على نية تكرار العامل أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، وقدم قوم هود، وهم عاد؛ لأنهم كانوا في عتو شديد. قال لهم هود الهادي المرشد: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقونَ).
ابتدأهم بدعوة النبيين إلى التوحيد، وهي دعوة نوح من قبل، ودعوة من بعد عاد إلى أن تكون دعوة محمد - ﷺ - (قَالَ) لهم: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُة)، فـ " من " هنا لاستغراق النفي وانحصار الألوهية في الله تعالى وحده، وحذرهم من الكفر كما حذر نوح إذ قال: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم)، وقال هود محذرا ومحرضا على أن يجعلوا لأنفسهم وقاية بينهم وبين العذاب، فقال: (أَفَلا تَتَّقُونَ) والفاء للترتيب والتعقيب، وموضعها مقدم على الهمزة، ولكن الاستفهام له الصدارة، والمعنى، أنه يترتب على المطالبة بعبادة الله وحده أن تتقوا عذابه، وتخافوه، فهي تتضمن ذكر الخوف والتحذير من عذاب الله تعالى، وأن يجعلوا لأنفسهم منه وقاية، فأجابوه إجابة المتعنت المستخف.
* * *
(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٦٦)
* * *
وإن الذين يردون هم الكبراء البارزون، فيهم كشأن أعداء الأنبياء دائما؛ لأنهم الذين يخافون على سلطانهم، كما رأيت في الذين عاندوا نوحا وكفروا به، وكما رأيت في الذين عاندوا محمدا - ﷺ -. وكما نرى في الذين عاندوا هودا أخا عاد، وقد بادروه بالطعن في شخصه. قالوا في شخصه: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ) وأكدوا ذلك بـ " إنَّ " وباللام، أي: إنا لنراك في خفة عقل وحمق وطيش وذلك استخفاف به، لأنهم ضالون. ودعاهم إلى الحق الذي لَا ريب فيه. وأما طعنهم في قوله، فهو قولهم: (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) والظن هنا هو العلم المزعوم عندهم، بدليل أنه أكدوا حكمهم بـ (إن) و (اللام)، وكونه داخلا في زمرة الكاذبين، وقد يطلق الظن بمعتي العلم، وهو هنا كذلك. أجاب هو إجابة النبيين:
* * *
(قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٧)
* * *
ناداهم مدنيا
مقربا لهم، بقوله يا قوم وقد اختاره الله على أنه أخ لهم، إذ قال: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ)، ليس بي سفاهة فما خالفتكم، ودعوتكم إلى عبادة الله تعالى وحده لحمق أو سفه، وإنما لأني أرسلت بذلك؛ ولذا قال: (وَلَكِنِّي رَسُولٌ من رَّبِّ الْعَالَمِينَ) أرسلنى إليكم، داعيا إلى عبادته وحده قال:
(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي) من شرائع وأحكام فيها صلاحكم في الدنيا والآخرة، وإني مع الرسالة (نَاصِحٌ أَمِينٌ)، أي أنصحكم النصيحة بأمانة لَا أغشكم ولا أخدعكم بل أدعوكم إلى سواء السبيل، وقد توقع استغرابهم من أن يكون منهم رسول، وقد ذكروا ذلك كما ذكروه من بعد لمحمد - ﷺ -، فالعقلية الوثنية الجاحدة واحدة، تختلف الأقوام، ولا يختلف المنزع.
* * *
2884
قال لهم مقالة نوح:
2885
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ... (٦٩)
* * *
وأنذرهم بالعذاب
الشديد إن لم يؤمنوا، وذكرهم بما كان من قوم فرعون، ونعم الله تعالى فقال: (لِيُنذِرَكُمْ)، أي يببن لكم عقاب الله، وإني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). ذكرهم بثلاثة أمور تدنيهم، وتجعلهم يشعرون بأن الله أنعم عليهم، وأعطاهم العبر ليعتبروا:
ذكراهم أولا - بأنهم خلفاء قوم نوح، وإن ذلك فيه عبرة لهم لأنهم كيف أُغرقوا، ولم ينج إلا من حملته السفينة الربانية، وخلفاء جمع خليفة، أي أنهم خلفوهم في سكنى أرضهم وأرسل هو إليهم، كما أرسل نوح من قبل.
وذكرهم ثانيا - بأن الله زادهم في الخلق بصطة، أي قوة في الجسم فكانوا عمالقة، وبصطة أصلها بسطة، وتكتب السين صادا، لاتصالها بالطاء، وهي ساكنة.
وذكرهم ثالثا - بنعم الله تعالى عليهم من زروع وثمار، فقال: (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ) أي نعمه، واحدها " إلي " و " ألي ".
ذكرهم بهذه الأمور الثلاثة رجاء أن يعتبروا ويتعظوا ويؤمنوا، وبذلك ينالون الفلاح والفوز، ولذا قال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، أي لترجوا الفلاح والفوز بالصلاح في الدنيا والنعيم في الآخرة.
ولكنهم مع هذا التذكير الواعظ المرشد، لم يهتدوا، بل قالوا مجادلين: (أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠)
يستنكرون أن يجيئهم، ليدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده، و " نذر "، أي نترك ما كان يعبد آباؤنا. وهكذا يذهب بهم الغلو في الكفر إلى درجة أن يعتبروا أمرًا نكرًا يستحق الاستنكار أن يعبدوا الله ويتركوا ما كان عليه آباؤهم، وهكذا قال المشركون، عند قول الله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (١٧٠).
أنذرهم هود بعذاب شديد فتحدوه أن ينزله، وقالوا: (فَأتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِن الصَّادِقِينَ) تحدوا هودا أن ينزل الله العذاب الذي هددهم به، وطلبوا من نبيهم أن ينزله كأن الأمر بينهم وبينه، وذلك للاستمرار على كفرهم وجحودهم، إذ إنهم لا يعتبرونه مرسلا من الله تعالى، ولقد وقع بهم ما استعجلوه، وقال لهم قبل وقوعه:
(قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ... (٧١)
* * *
وقد أنزل اللهً تعالى - بهم عذابين أحدهما " الرجس "، وهو الضلال الذي أدى إلى هذا الكفر، و " غضب الله " وهو وحده عذاب من الله، وسيؤدي إلى العذاب الذي نزل بهم في الدنيا والآخرة وإنه لقريب؛ ولذا: (فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ).
وقد اشتمل كلام هود - عليه السلام - على أمور ثلاثة هي إشارات بيانية. أولها - قوله: (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا) فهذا استفهام توبيخي على ما وقعوا من عبادة أشياء لَا تنفع ولا تضر.
ثانيها - أنها لَا وجود لها في ذاتها إلا أن تكون أحجارا، ليس لها إلا أسماؤهما الباطلة التي سموا بها.
ثالثها - أنه ما أنزل معها بحجة تسوغ عبادتها، أو قوة فيها تكون سلطانا لها.
2886
وما كان من بعد هذا إلا العقاب، فنزل بهم عذاب ساحق أهلكهم الله تعالى، وأنجى الله تعالى هودا ومن معه من المؤمنين، ولذا قال تعالى:
* * *
2887
(فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا... (٧٢)
* * *
وترى التشابه التام، بين ما لقي النبي محمد - ﷺ - من المشركين، وبين ما لقي نوح، وهود من قبله - عليهم الصلاة والسلام - وإن ذلك يجعل النبي - ﷺ - يصبر، ويحمل التبعة، وشدائدها فإن تلك سنة الله مع الدعاة، والذين يدعونهم، وما كنت بدعا من الرسل.
بيد أن الله تعالى أهلك المجرمين الذين يعصون الأنبياء، أما قوم محمد - ﷺ - فإنه - سبحانه - أمهلهم ليكون من أصلابهم من يعبد الله، وليجاهدهم على الحق هو ومن اتبعه إلى يوم الدين.
* * *
من قصة صالح - عليه السلام
* * *
نذكر من قصص الأنبياء في هذا الموضع، ما قصه الله تعالى في هذه السورة الكريمة، ونترك بقية قصص الله تعالى فيها إلى موضعها، وبمجموع ما يذكره سبحانه يكون خبر النبي من الأنبياء، ولكنه مفرق في السور، كل جزء منه في موضع عبرته، وإرادة مغزاه.
* * *
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ
2887
الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)
* * *
كان بعث صالح بعد هود، وكانت ثمود خلائف لعاد، قال الله تعالى:
2888
(وَإِلَى ثَمودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا)، أي أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا، كما كان لعاد أخوهم هود، وذكر الأخوة في هذا المقام فيه إشارة إلى أنه واحد منهم قد ربط بينهم برباط الأخوة، وكذلك كان يبعث الله تعالى لكل أمة رسولا منهم، كما بعث محمدا - ﷺ - من أنفسهم.
قال صالح لقومه: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). هذه دعوة التوحيد، وهي دعوة النبيين أجمعين ودعوة الفطرة، ودعوة المنطق العقلي.
ولقد أردف دعوته إلى الله، ببيان أنه مرسل إليهم من الله تعالى، ومعه البينة الدالة على إيمانه، ولذا قال لهم: (قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ من رَّبِّكُمْ)، أي معجزة
2888
مبينة من ربكم دالة على رسالته، هذه البينة هي: ناقة لكم آية، أي دليل على الرسالة، ويظهر أنها كانت لها أوصاف خاصة تميزها عن غيرها، قال بعض الناس: إن الله تعالى خلقها من حجر صلد، ولكن لم يثبت ذلك بسند صحيح عمن بين القرآن للناس، ولم يرد بسند صحيح شيء عن أوصاف هذه الناقة، ولكنها على أي حال كانت مميزة عندهم معروفة بشخصها لديهم، ولذا قال لهم: (فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، أي: فاتركوها تأكل.
وأردف نبي الله صالح - عليه السلام - يبين لهم العبرة من أسلافهم عاد، ونبيهم هود - عليه السلام - قال لهم:
2889
(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا... (٧٤)
* * *
أي اذكروا أنه جعلكم خلفاء لهؤلاء الذين كانوا أقوياء وطغوا، ورأيتم ما آل إليه أمرهم، من العذاب الذي نزل بهم جزاء عصيانهم، وسكنتم في مساكنهم الذين ظلموا فيها أنفسهم، وقد بوأكم في الأرض وثبتكم، وجعلكم مستمتعين مترفهين، فجعلتم من سهل الأرض قصورا بنيتموها، ونحتم الجبال فجعلتم منها بيوتا، وذلك أعلى درجات الترفة في المسكن قصور في السهول، وبيوت في أكناف الجبل، فكانت لكم الوقاية من البرد والحرور.
وإذا كنتم تمكنتم من ذلك، فاذكروا آلاء الله تعالى ونعمه، وقوموا بحق شكرها، (وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين) لَا تطغوا وتظلموا، فيؤدي ذلك إلى فساد، ولذا قال: (وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)، العثى والعثو، لغتان في مصدر عثى، وهو الفساد، والمعنى لَا تفسدوا في الأرض ويستمر فسادكم حتى تكونوا مفسدين، وقوله مفسدين حال دالة على استمرار الفساد، هذا قول صالح - عليه السلام - وهو كلام يتضمن الدعوة الرفيقة الحكيمة إلى عبادة الله تعالى وحده، والتذكير بنعمه تعالى عليهم، وتحذيرهم من الإفساد، والاستمرار عليه بالإشراك والظلم وترك أمورهم فوضى، لَا ضابط من دين ولا خلق.
2889
وهنا نجد الكبراء وأشرافهم الذين يعارضونه، والضعفاء هم الذين يتبعونه، ويتوجه الكبراء بالاستعلاء على المستضعفين، وقد قال تعالى عنهم:
* * *
2890
(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ... (٧٥)
* * *
وقوله تعالى: (لِلَّذِينَ اسْتضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ منْهُمْ) فيه أن قوله السامي: (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل اشتمال، والمعنى أي قال الملأ للمؤمنين، وسبق بقوله تعالى: (لِلَّذِينَ اسْتضْعِفُوا) للإشارة إلى أن المجيبين هم الضعفاء، وكذلك يسارع الضعفاء لاتباع النبيين، لسلامة فطرتهم، وعدم وجود الأهواء التي توجب الإعراض، ولأنهم يرون في الأوامر النبوية ما يرفع الظلم عنهم، ولأنهم أقرب إلى الحق دائما، فالمساكين أقرب إلى الاستجابة، وكذلك كان أتباع محمد الأولين من أمثال بلال، وصهيب، وآل ياسر، وغيرهم من العبيد والفقراء.
قال المستكبرون من ثمود قوم صالح للمستضعفين المؤمنين: (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ من رَّبِّهِ) كأنهم مستنكرون ذلك منهم، ويسخرون منهم، فرد عليهم المؤمنون الرد القاطع الحاسم قائلين: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنونَ) أكدوا إيمانهم بالتعبير بالجملة الاسمية، وبـ " إن " وبالقصر إذ قدموا (بِمَا أُرْسِلَ بِهِ)، وهذا يفيد القصر أي أنهم يؤمنون به، ولا يؤمنون بالشرك، فلا يؤمنون بغير ما أرسل به.
وقال المستكبرون يحسبون أنهم يغرونهم بتقليدهم وحكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله:
* * *
(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٧٦)
* * *
وقدْ أكدوا كفرهم، كما أكد المؤمنون إيمانهم، وفي هذا إيماء إلى أنهم يجب أن يتبعوهم؛ لأنهم أهل القوة، ولكنهم لم يفعلوا وإن آذوهم. استرسل المستكبرون في غيهم فأخبر الله عنهم فقال:
* * *
(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧)
* * *
2890
تحدى هؤلاء صالحا، وتحدوا معه ربهم، أمرهم بالحفاظ على الناقة لأنها ناقة الله، فشرفها بالنسبة إليه سبحانه، وأمرهم بأن يجعلوا لها شربا ولهم شرب معلوم، وأن يتركوها تأكل في أرض الله، فعقروها، أي ضربوا قوائمها وذبحوها وتحدوا نبي الله أن يأتيهم بالإنذار، إن كان من المرسلين، وعتوا: أي استكبروا بذلك التحدي.
وعظهم صالح أقوى الوعظ، وأبلغه، فلم يتعظوا وتحدوه، فنزل بهم ما أنذرهم به في الدنيا فأخذتهم هزة أرضية، زلزال شديد، فالتصقوا بالأرض، وهذا معنى قوله تعالى في أمرهم:
2891
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي الهزة الشديد بالزلزال، (فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ)، أي هدمت مبانيهم، والتصقوا بالأرض، ميتين إلى يوم يبعثون.
وانتهت مهمة صالح بهذا التبليغ الحكيم، والنهاية المحتومة التي انتهوا إليها بتحديهم رسولهم وربهم، وقال صالح متأسيا، آسفا، ولذا قال تعالى عنه:
(فَتَوَلَى عَنْهُمْ) أي أعرض ض، (وقَالَ) مخاطبا من بقي أو مخاطبا من مات، ولصق بالأرض كما خاطب محمدٌ - ﷺ - أهل القليب من قتلى بدر (١)، قال لهم صالح: (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لَا تُحِبُّونَ النَّاصحِينَ) بغلبة أهوائكم، واستكباركم، وعتوكم وفسادكم.
* * *
________
(١) عن ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ القَلِيبِ، فَقَالَ: «وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟» فَقِيلَ لَهُ: تَدْعُو أَمْوَاتًا؟ فَقَالَ: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لاَ يُجِيبُونَ. رواه البخاري: الجنائز - ما جاء في عذاب القبر (١٣٧٠).
2891
لوط - عليه السلام - وقومه
قال تعالى في هذه القصة في هذا الموضع، وقد كان لوط في عصر إبراهيم، وله قرابة، وما بينه وبين إبراهيم نؤجله للبيان القرآني في موضعه.
* * *
(وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)
* * *
كان قوم لوط، أفحش الأقوام العربية فجورا، وانحرافا وإسرافا، فكانوا مع إشراكهم قد انحرفوا عن الفطرة وشذوا عنها؛ ولذا كان أول ما واجههم به نبي الله لوط أن ذكر لهم تلك الجريمة البشعة التي شذوا بها عن الفطرة، والإنسانية، والأخلاق العربية.
2892
(وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ).
وقوله تعالى: (وَلُوطًا) مفعول لفعل محذوف، تقديره واذكر لوطا، وهو في هذا يذكر مساوئ الشرك وأهله، فإذا أضلهم عبادة غير الله فهو انحراف في الفكر والنفس يؤدي إلى أعظم الانحراف في العمل: (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ)، وذكر قومه يدل على أنه ليس دخيلا بينهم، بل هو من أسرتهم وجماعتهم، ولكنهم انحرفوا عن الإنسانية، قال لهم: (أَتَأتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَد مِّن
2892
الْعَالَمِينَ) الفاحشة: الأمر الزائد زيادة فاحشة بعيدة عن كل معقول، ما سبقكم بها أحد من البشر أي اخترعتموها لانحراف نفوسكم وعقولكم عن حكم الفطرة، فارتكبتم فاحشة لم يقع أحد من الناس قبلكم، وفسرها بعد ذلك الحكم القاسي الذي يليق بهم وأمثالهم من شواذ بني الإنسان
2893
(إِنَّكمْ لَتَأتُونَ الزِجَالَ شَهْوة مِّن دُونِ النِّسَاءِ) أكد لوط - عليه السلام - فعلتهم النكراء، بـ " إنَّ " وباللام. يأتونهم أي يضعون فيهم ما يوضع في النساء، وعبر بالرجال لبيان مخالفة الفطرة بوضع ما هو للنساء في الرجال، وهذه شناعة لَا حدود لها، ويظهر أنها كانت معروفة عند اليونان والرومان ولكن ليست شائعة؛ ولذا وجد خالد بن الوليد عند فتح الشام مثل هذه فأرسل إلى خليفة رسول الله أبي بكر - رضي الله عنه - يخبره بأنه رأى عجبا، رأى الرجل يفترش الرجل كما تفترش النساء، فسأل عن هذه الحال، فاستشار الصحابة في حكم هذه الحال والحد الواجب.
وقوله: (شَهْوَةً) مفعول مطلق لمحذوف تقديره، تشتهونهم شهوة من دون النساء، أي يكون منكم ما يكون للنساء، وهو في الفطرة. وهذا بيان لعكسهم للفطرة، إذ يشتهون ما ليس موضع شهوة لانحراف نفوسهم وعقولهم، وإنسانيتهم، مُضْرِبا عن ذلك بالترقِّي في أوصافهم بقوله: (بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مسْرِفُونَ) وبل هنا للإضراب ببيان أوصافهم، فوصفهم بأنهم مسرفون في البهيمية، إذ أتوا ما لا ترضى به البهائم، ومسرفون في التفحش إذ خرجوا على سنة الإنسانية، ومسرفون في هذه العادة الشاذة، فهم يُعرِضُون عن النساء، ويطلبون الرجال، ومسرفون في أفعالهم، فإن من يشيع فيهم هذه الحال تكون كل أفعالهم شذوذا في شذوذ، كما ترى الآن في أمريكا، وما يشبهها ممن تقع فيهم هذه الحال، حتى إنه في إنجلترا يعترف بأن للشاب أن يتزوج الشاب، وتحترم هذه العلاقة الشاذة.
ومعنى شيوع هذه العادة الشاذة في قوم لوط، أنها كانت تقع ولا تستنكر، وكان ذلك كثيرا، وكان أكثرهم لَا يتناهى عن ذلك، ولا يعده سبة وأمرا غير جائز، ويروى الحسن البصري أنهم كانوا يفعلون ذلك فيمن يجيئون إليهم من
2893
الغرباء. فهل أجاب قوم لوط بالارتداع؛ بل طلبوا إخراجه؛ لأنه يتطهر؛ ولذا قال تعالى:
2894
(وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) استمكن ذلك الفساد، حتى أصبحوا لَا يطيقون أن يكون معهم من يتطهرون عن فعله، وقد أجابوا شاعرين بأنهم ليسوا على خير، وأنهم في دنس لَا يلتئم معهم من يتطهرون عن إثمهم، و " القرية " كما علمنا هي المدينة التي يجتمع الناس فيها.
أنزل الله تعالى على هولاء الذين رضوا بهذه المهانة الإنسانية، وذلك الشذوذ عذابا مهينا، بينه في آية أخرى نستعيرها من موضعها في هذا الموضع، فقد قال تعالى مبينا الحال عند نزول العذاب في الدنيا: (قَالُوا) أي الملائكة (... إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣).
قال تعالى:
(فَأَنجَيْنَأ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَة كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)).
وهكذا عاقبهم الله تعالى بجعل أرضهم عاليها سافلها، وبحجارة نزلت عليهم؛ ولذا قال مالك إمام دار الهجرة: إن عقوبة الذين عندهم هذا الشذود الرجم؛ لأن الله تعالى رجمهم، سواء أكانوا محصنين أم كانوا غير محصنين.
وقال أبو حنيفة: إن هذا فساد ولم يوجد له حد منصوص عليه فتكون عقوبته التعزير، وقال الشافعي: عقوبته كعقوبة الزنى في حالتي الإحصان وعدمه، وروي عن علي وأبى بكر وتبعهما بعض المجتهدين: الإحراق بالنار؛ لأن أبا بكر عندما أرسل إليه خالد كتابه الذي أشرنا إليه استشار الصحابة، فأشار علي بحرقهم بالنار فارتضاه.
2894
وإن هذا الشذوذ نراه الآن ذائعا في إنجلترا حتى أباحته قوانينها بالنص عليه، ويشتهر بينهم، حتى صار زواجا بين رجلين، كما أشرنا.
وهو في أمريكا شائع ذائع، حتى رأينا من يشغل مناصب سياسية يقبض عليه متلبسا لَا بأنه فاعل، بل على أنه مفعول به؛ ولذا شاعت عندهم السياسة المتبجحة التي لَا تخجل قط!!
* * *
من قصة شعيب عليه السلام
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٧)
* * *
2895
بعث الله - سبحانه وتعالى - بعد لوط صالح إلى مدين، أخاهم شعيبا، ولم يذكر في القرآن الكريم معجزته التي ثبت بها أنه رسول الله، ولكن عدم ذكرها لا يدل على عدم وجودها، فإن كل نبي بعث ومعه ما مثله آمن عليه البشر، فما بعث نبي إلا ومعه حجته، وإن لم يكن من حجة فلا بد أن يطالبوه بها، وإذا كان القرآن الكريم لم يذكر معجزته فلم يذكر أنهم طالبوا بمعجزة دالة على الصدق ولكنهم جحدوا واستكبروا.
وما ذكره القرآن الكريم من رسالة شعيب - عليه السلام - يدعو على أنه دعا إلى ثلاثة أمور:
أولها - عبادة الله تعالى وحده، وهي لب الرسالة، وهي أول ما نادى به:
2896
(قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَينَةٌ من رَّبِّكُمْ) ناداهم: (يَا قَوْمِ) للإشارة إلى ما يربطهم به من نسب، وأنهم أولى بتصديقه، وأولى الناس بأن يَصْدُقْهم ولا يكذبهم، وقال: (قَدْ جَاءَتْكُم بيِّنَةٌ من رَّبِكمْ) أي معجزة مبينة رسالته، وهذا دليل على أنه كانت مع هذا الرسول الأمين معجزة ملزمة تحدى بها، وعجزوا عن أن يأتوا بمثلها.
ثانيها - أنه جاء بإصلاح اقتصادي اجتماعي، ومظهره الوفاء بالكيل والميزان في التعامل: (فَأوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) ومقتضى هذا الأمر بالوفاء في الكيل والميزان في كل ما يتعاملون فيه، ومقتضاه ثانيا ألا يبخسوا أي لَا ينقصوا الناس أشياءهم أي حقوقهم، فلا يأكلوا أموال الناس بالباطل، ولا يرشوا الحكام، ولا يمطلوا الدين وهم قادرون، وأن يعطوا كل ذي حق حقه كاملا غير منقوص، ولا ممطول، ولا يكون تطفيف فيه على وجه ولا تصعيبا في الأداء.
ثالثها - ألا يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها؛ ولذا قال - عليه السلام - فيما طلبه إلى - قومه: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لكُمْ إِن كُنتُم
2896
مُّؤْمِنِينَ)، أي بالحق؛ ذلك أن إعطاء الناس حقوقهم كاملة غير منقوصة خير لكل جماعة؛ لأنها متوادة متراحمة، ويكون أداء الحقوق قوة لها في نفسها وأمام أعدائها، فلا قوة لأمة إلا بإقامة العدل والقسطاس، وإعطاء كل ذي حق حقه من غير وكس.
ولقد كان منهم من يقطعون الطريق، ويحاربون أمن الناس، ومنهم من كان يمنع الذين يريدون أن يستمعوا إلى شعيب، وكان منهم المكاسون الذين يفرضون من أنفسهم ضرائب على الناس ليمروهم إلى مأمنهم، ففي سبيل منع الفساد، والتهيئة للقضاء على المفسدين قال لهم - عليه السلام:
* * *
2897
(وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا... (٨٦)
* * *
" الصراط " الطريق المعبَّد المستقيم الذي يسير فيه السابلة وينتقلون فيه من مكان إلى مكان أو قرية إلى قرية أو مصر إلى مصر، لَا تقعدوا فيه توعدون المارة، وتقطعون الطريق، وهذا هو القعود الحسي والمنع الحسي الواضح الأذى، وهناك منع معنوي، وهو ليس لمنع المارة وقتلهم، أو سرقتهم، ولكنه للصد عن سبيل الله بمنع الناس من الإيمان بالله وحده، يصدون بهذا عن سبيل الله تعالى من آمن ويبغونها عوجا أي معوجة لا استقامة، وهم يغفلون الأمرين بكل صراط مستقيم، يقطعون السبيل على المارة، ويصدون عن سبيل الله.
ويصح أن يفسر " الإيعاد " بإيذاء المؤمنين وتعذيبهم أو التهديد بتعذيبهم، كما يتبين من بعد. وصد من آمن، يراد به منع من هم بصدد الإيمان من أن يدخلوا فيه، وإيذاء من آمنوا، وإيعادهم بالعذاب الشديد. ويذكرهم بأمرين، بنعمة الله تعالى عليهم إذ كثر جمعهم بعد قلة، والثانية بعاقبة من أفسدوا من قوم نوح، وعاد وثمود، فقال لهم:
(وَاذْكرُوا إِذْ كنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ) أي جعلكم كثيرين، (وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) الذين أفسدوا في دينهم، فأشركوا مع الله تعالى غيره، وأفسدوا
2897
في جمعهم، فلم يوفوا الكيل والميزان، وبخسوا الناس أشياءهم وأكلوا أموالهم، وظلموهم.
وقد استجاب ناس من قومه، فآمنوا، وعصى آخرون فجحدوا، فذكر القسمين، وأن الله تعالى هو الذي يحكم بينهم، فقال لهم - عليه السلام:
* * *
2898
(وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٧)
* * *
وهذا فيه تبشير للذين آمنوا؛ لأنهم يعبدونه وحده؛ لأنه لَا يمكن أن يحكم لصحة ما يقول الذين يشركون معه حجارة، وهو إنذار للذين لم يؤمنوا؛ لأنهم يشركون ويعبدون غيره وهو - سبحانه وتعالى - وحده خير الحاكمين، وأفعل التفضيل ليس على بابه، لأنه لَا خير في حكم سواه، فهو أحكم الحاكمين.
كان هذا ما بين شعيب وقومه، فماذا كان جواب قومه؟، قد أشار - سبحانه - في النص الكريم السابق إلى أن منهم من آمن، ومنهم من لم يؤمن وكان رأس من لم يؤمنوا، كبراؤهم، وقد قال تعالى في موقف هؤلاء الكبراء:
* * *
(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (٨٩) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا
2898
كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (٩٣)
* * *
هكذا كانت دعوة شعيب الهادية المرشدة بعد أن بين لهم الحجة الدالة على رسالته، ولقد آمن بعضهم، وأعرض غيرهم، فماذا كان جواب قومه الذين يقودون الشرك منهم؟.
قال رؤساؤهم المسيطرون: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ)، وإليك ذكر القرآن الكريم لأقوال هؤلاء:
2899
(قَالَ الْمَلأُ) أي الكبراء وسادتهم، ووصفهم - سبحانه - بأنهم الذين استكبروا وكذبوا بآيات الله تعالى وصموا آذانهم عن الحق: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) أكدوا بالقسم بأن يخرجوهم من قريتهم، أو يعودوا في ملتهم، مؤكدين الإصرار على الخروج بالقسم، أو الإصرار على العودة في ملتهم.
فأجابهم شعيب نبي الله - عليه السلام - موبخا بأن ذلك ضد الحق، والحرية فقال: (أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ)، أي تخرجوننا على الرغم منا، ولو كنا كارهين فعلتكم لأنها غير الحق، وأنها الباطل الذي لَا ريب فيه.
ويؤكد لهم شعيب أن مطلبهم العود لن يكون أبدا، فهما حاولتم الإيذاء والتهديد فيقول - عليه السلام - لهم:
(قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا) " قد " هنا للتحقيق كما هي في كل استعمالات القرآن الكريم، سواء أدخلت على فعل ماض أم دخلت على فعل مستقبل (افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أن نعود إلى ملتكم أي كذبنا على الله تعالى كذبا مقصودا متعمدا إذا عرفنا الحق، واعتنقناه، ثم كفرناه، وأكد - عليه السلام - هذا المعنى بقوله: (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا) أي بعد نجاتنا، وإخراجنا من الضلال إلى نور الهداية، ثم قال - عليه السلام - مؤكدا عدم العود: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا) أي ليس لنا بعد أن
2899
رأينا النور وسرنا فيه، أن نعود إلى الظلمة، (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا) أي إلا أن يريد ربنا وخالقنا لنا الضلالة بعد الهداية، ويكون ذلك بعمل منا، ثم صرح - عليه السلام - بالتفويض لله تعالى فقال: (وَسِع رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) وعلما هنا تمييز محول عن مفعول، ومعناه وسع ربنا علم كل شيء، فهو يعلم ما كان وما يكون، وما هو كائن ثابت، ولذا لَا يتوكل إلا على الله (عَلَى اللَّهِ تَوَكلْنَا) وذلك رد لتهديدهم بالإخراج، فالله ربنا عليه توكلنا، ولن يغلبه تهديدكم، فإذا كنتم تستعينون بجبروتكم وكبريائكم، وغطرستكم، فنحن نعتمد على الله، ومع ذلك تذهب رحمة النبوة إلى تجنب العداوة والاتجاه إلى الله تعالى الذي يعلم الحق كله: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ)، أي افصل بيننا وبين قدمنا بالحق، (وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).
وقد ذكر - سبحانه - تهديد الكافرين للمؤمنين بالإيذاء فقال تعالى عنهم:
* * *
2900
(وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (٩٠)
* * *
انتقلوا من التهديد العام لشعيب ومن معه إلى تخصيص الذين اتبعوه بتهديد خاص، وواضح أنه للمؤمنين الذين آمنوا بالله تعالى استجابة لدعوة شعيب ليستغلوا ضعفهم، وهم الكبراء، مؤكدين خسارتهم بسبب اتباعهم لشعيب، وأكدوا تهديدهم بالقسم بما يقسمون به وبقوله (إِنَّكُمْ)، واللام في قوله تعالى: (لَخَاسِرونَ) ويترتب ذلك على الاتباع، بذكر الإيذاء باعتبار الخسران نتيجة للخسران.
وما كان الله ليذر المشركين يهددون المؤمنين، ويصدون عن سبيل الله، وهي سبيل الحق، ولذا أنزل تعالى بهم ما أوعدهم، وما تحدوا به شعيبا، أن يأتي به إن كان من المرسلين؛ ولذا قال تعالى: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩١)
الفاء هنا فاء السببية، أي أن ما قبلها سبب لما بعدها، أي أنه بسبب تكذيبهم وكفرهم وصدهم عن سبيل الله تعالى أخذتهم الرجفة، وهي زلزال شديد، هز ديارهم هزا عنيفا فتهدمت على أهلها، وصاروا مقيمين أمواتا تحت ركامها، وذهب تعالى بهم كافرين، وكأنهم لم يكونوا فيها، ولم يقيموا بأرضها؛ ولذا قال تعالى:
(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (٩٢) لم يغنوا أي كأن لم يكونوا مقيمين فيها، فقد قطع دابر القوم الظالمين، وذلك بسبب تكذيبهم لشعيب وصدهم عن سبيل الله، وإن الله تعالى غالب على كل شيء.
لقد تهدد الكافرون المتغطرسون المؤمنين بأن يكونوا خاسرين إن استمروا على اتباعهم لشعيب، فذكر - سبحانه - أن أولئك المكذبين هم الخاسرون حقا وصدقا، فقد خسروا أنفسهم فكفروا وضلوا، وخسروا ديارهم فهدمت، وخسروا يوم القيامة، فكانوا حطب جهنم، وهم فيها خالدون.
وماذا كان من أمر نبي الله تعالى الذي كذبوه وهو شعيب فقال سبحانه:
(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم عندما علم أنهم قد أصروا على الكفر إصرارا، وآذوا المؤمنين، أعرض عنهم ونزل بهم ما نزل، وعند إعراضه، قال لهم - عليه السلام - عند نزول البلاء عليهم، وقد توقعه فوقع (وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْم كَافِرِينَ) كيف أحزن على قوم كفروا، وأصروا على كفرهم حتى ماتوا وهم كافرين.
وفى هذا الكلام من نبي الله شعيب إشارة إلى محبته لهم ابتداء، وطلب الهداية لهم، ولكنهم كفروا، فلم يحزن عليهم، وكان غريبا أن يحزن عليهم مع موتهم كافرين.
* * *
2901
سنة الله في الأمم
(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (١٠١) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (١٠٢)
* * *
بعد أن قص الله - سبحانه وتعالى - قصص نوح، وهود وصالح ولوط، وشعيب، أخذ يبين - سبحانه وتعالى - سنته في الناس، ومعاملتهم لأنبياء الله،
2902
وكيف يختبرهم بالشر والخير فتنة، وذكر هذه السنة سبحانه، ليعتبروا بالقصص، ويروا ما يصلح حالهم، وما يحملهم على السير في طريق الخير، وليعلموا أن الله تعالى يختبر بالنعمة، ويعاقب من لَا يشكر، وليروا بأعينهم سنة الله تعالى في الظالمين، وما ينزله من عقاب دنيوي يحل بديارهم فوق العقاب الأخروي الذي يستقبلهم، فقال:
2903
(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ).
هذا بيان الله تعالى للأمة من الأمم إذا بعث فيها نبيها الذي يدعوها إلى الإيمان بالله تعالى وحده، ويدعوها إلى الخير الذي يصلحون به في الدنيا والآخرة، ويقدمون على الله يوم القيامة بالعمل الصالح، فيجزيهم جزاءه وفقا لما قدموا، فيقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ) أي في مجتمع أمة من الأمم (مِّن نَبِيٍّ) من هنا بيانية، والمعنى وما أرسلنا في مجتمع كبير، فالقرية المجتمع الكبير الذي يقرى إليه الناس (إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَاسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) أي أن الله تعالى لا يرسل نبيا مؤيدا بالمعجزات، إلا يوطن النفوس به - عليه السلام - ببيان قدرة الله تعالى، فيأخذها (بِالْبَأسَاءِ) وهي شدائد الفقر والحرمان والتعرض للطغيان من الحكام، (وَالضرَّاءِ)، وهي ما يصيب الأبدان من مرض شديد مختلف الأنواع، لا قبل لهم به، وإذا مسهم الضر دعوا الله تعالى، وضرعوا إليه، كما نزل بأهل مكة عند مقدم النبي - ﷺ - إلى هذا الكون الإنساني.
وأخْذ الله تعالى للقرى التي بعث فيها النبي بذلك؛ لأن الشدة تُولِّد في قلب من عنده استعداد للإيمان الاتجاه إلى طلب النجاة، فتخضع النفس للحق إذا دعيت إليه، فإنه حيث الضعف أو الشعور به تنبع منابع الإيمان، وتتجه النفوس إلى الديان، وإن الله تعالى يختبرهم بذلك رجاء أن يضرعوا ويخضعوا، ويذلوا له - سبحانه وتعالى - وحده، فإنه وحده الخالق لكل شيء الذي يلجأ إليه عند هذه الشدائد.
2903
ولذا قال تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) أي ليرجو الضراعة والخشوع لله تعالى، وحيث كانت الضراعة، كان انفتاح القلب للإيمان، لأن الضراعة أعظم العبادة، كما قال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تضَرعا وَخُفْيَةً...). يختبرهم سبحانه من بعد الشدة بالنعمة، ولذا قال سبحانه:
* * *
2904
(ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ... (٩٥)
* * *
(ثُمَّ) هنا لبيان التراخي والافتراق بين ما كانوا عليه من بأساء أصابت أحوالهم، وضراء أصابت أجسامهم وما اختبرهم من نعماء عمتهم، فالفارق المعنوي والحسي بينهما عظيم.
وقوله تعالى: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي جعلنا بدل السيئة في مكانها الحسنة، والسيئة هي ما يسوء وهي هنا البأساء والضراء، لأنهما تسوءان، والحسنة هي هنا الخير الذي يفيض به عليهم بعد الشدة، وصور الله زيادة الخير بقوله تعالى: (حَتَّى عَفَوْا)، أي كثروا، ونموا وزادوا، فالعفو يطلق بمعنى الكثرة وبمعنى اليسير، وبمعنى درس، وقدم.
وهي هنا بمعنى كثروا ونموا، وزاد الخير فيهم، فعندئذ لَا يذكر الجاحدون أنه فضل الله تعالى ونعمته، وأنه إذا كانت الشدة توجب الضراعة، فالنعمة توجب الشكر، ولكنهم بدل أن يشكروا، يقولون ذلك لنا وهو ما كان لأسلافنا وآبائنا مستهم الضراء والسراء، وهكذا دواليك، نسوا الله، وحسبوها أمرا ينزل بهم خيرا بعد ضر، وإذا كانوا ضرعوا في الشدة، فقد كفروا بالنعمة وهم يمرحون، وكذلك شأن الجاحد دائما كما قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ...)، كما قال تعالى في شأن النفس الإنسانية: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١).
2904
وهكذا شأن الكافر، تبئسه الشديدة، وتطغيه النعمة، فهو غير ثابت النفس، منكر لحكم الله تعالى، وأما المؤمن فقلبه مطمئن بالإيمان ثابت قار؛ ولذا قال - ﷺ -: " عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " (١) - فالنعم والنقم للمؤمن سواء في خيريتها؛ النقم تصقله وتهذبه والنعم يحس فيها بوجوب شكر المنعم، ولقد قال - ﷺ -: " إن المؤمن إذا أصابه السقم ثم أعفاه الله منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه وموعظة له فيما يستقبل، وإن المنافق إذا مرض ثم أعفى كان كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلم يدر لم عقلوه، ولم يدر لم أرسلوه " (٢).
إن الجاحدين أذلتهم المحنة، وأطغتهم النعمة وكفروا بالنبي الذي بعث لهم، ولم تُجْدِ فيهم الشديدة ذاقوها، ولا النعمة فاضت عليهم، بل زادتهم النعمة جحودا، وقالوا هكذا كان آباؤنا مستهم الضراء والسراء، فسنة الأولين تجري علينا، ونسوا الله تعالى فأنساهم أنفسهم، وبينا هم يرتعون فيما أنعم الله عليهم لاهين عنه - أنزل بهم عذابه فقال: (فَأَخذْنَاهُم بَغْتَةً وهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).
" الفاء " هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه بسبب أنه لم تُجْدِ فيهم الشدة، وأغرتهم النعمة، عاقبناهم، فأخذناهم إلى الهلاك، بالرجفة أو بريح فيها عذاب شديد، أو جعلنا قريتهم عاليها سافلها، وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل، وكان ذلك بغتة، لم يتوقعوا وقوعه، بل جاءهم فجأة وهم لَا يشعرون، أي لا يحسون بأنه سينزل بهم، وإن الفجاءة تكون شديدة على من لَا يؤمن بالله تعالى " لأنها تأخذه وهو في مرحه وعبثه، وذلك بخلاف المؤمن؛ ولذا قال - ﷺ -: " موت الفجأة راحة للمؤمن، وأخذه أسف للكافر " (٣).
* * *
________
(١) سبق تخريجه.
(٢) رواه الدارمي، وأبو داود بزيادة فيه، وراجع الفتح الكبير ١/ ٣٣٢، ومشكاة المصابيح ٢/ ٦١٢.
(٣) رواه أحمد: باقي مسند الأنصار - باقي المسند السابق (٢٤٥٢١).
2905
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦)
* * *
2905
إن الكون يسير على سنة الله وعلى نواميس محكمة يدبرها منشئ الكون وخالقه، والقيوم عليه بحكمته وإرادته المختارة، فهو الفعَّال لما يريد.
وإن من سنته - سبحانه وتعالى - أن يوزع الأرزاق علمي من يستحقها في علمه المكنون، وهو العزيز العليم، وفي هذا النص الكريم يتبين أنه - سبحانه - يعطي القرى حسب إيمانها وتقواها، ويشير إلى أنه إن أمهل الظالمين قاطع عليهم خيرهم جزاء ما اكتسبوا.
يقول سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا).
(وَلَوْ) يُسمُونها امتناع لامتناع، وهي داخلة على فعل مقدر تقديره: لو ثبت أن أهل القرى - أي المجتمعات الكبيرة - التي يقرى إليها الناس آمنوا بالله حق إيمانه، واتقوه حق تقاته لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، وقوله تعالى:
(لَفَتَحْنَا) جواب، و " اللام " دالة على الجواب، والمراد - والله أعلم - أنزلنا عليهم من السماء، وأنبتنا لهم النبات في الأرض، على أن يكون ذلك بركة، أي خيرا كثيرا ناميا، فالظاهر إنزال المطر، وإنبات ثمرات كل شيء من عند الله تعالى.
والتعبير بـ " فتحنا "، تعبير مجازي، شبه فيه نزول المطر وانهماره بفتح السماء والأرض فشبه نزول المطر مدرارا من السماء عليهم بفتح باب يدخل فيه الناس أفواجا أفواجا، وذكر قوله تعالى: (عَلَيْهِم) قرينة على أنه المطر، وإن ارتباط الأرزاق بالتقوى والإيمان ذكره الرسل في دعواتهم إلى أقوامهم، فقد قال نوح لقومه: (... اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا)، وقال هود لقومه: (... ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرارًا...)، ورسل الله تعالى لَا يخدعون أقوامهم، بل إنهم الصادقون المبعوثون رحمة للعالمين. ولقد قال في يونس وقومه: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَة أَلْفٍ أَوْ يَزِيدونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)، وقال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (٩٨).
2906
وهكذا نجد النصوص الكريمة تفيد أن مقت الله تعالى من الضراء، والشدائد تنزل بالعاصين كما قال سبحانه، وكما جرى على ألسنة أنبيائه عليهم الصلاة والسلام.
ولقد رأينا ذلك رأي العين، فقد وجدنا رجالا كفروا بأنعم الله وساقوا أممهم إلى الفجور، والعصيان، فنزل عليهم غضب الله تعالى في خذلان مستمر، ونكسة وراء نكسة.
وإنا لَا نقول مقالة بعض الفلاسفة الذين يربطون الأخلاق الإنسانية بنظام الكون، فيقولون: إذا فسدت الأخلاق، اضطرب الكون، وانعكس الفساد في سير الأفلاك، وفي السماء وفي الأرض، وهي الفلسفة الكونفوشيوسية.
لا نقول ذلك، ولكنا نرى أن الله تعالى ربط الكفر والعصيان بهلاك الأمم، وربط فتح الأرزاق بالتقوى والإيمان، لنؤمن به، ولكن لَا نغالي مغالاة الفلاسفة. ويجب أن ننبه إلى أن المؤمنين قد يختبرون بالشدائد والمكاره ليتبين صبرهم، ويحق جزاؤهم، ولذا قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).
فإن ذلك الاختبار للقوى المؤمنة في تقواها، لَا يمنع أن الله تعالى ينزل عليهم خيرهم، والعاقبة للمتقين.
بين الله تعالى أن أهل القرى لو آمنوا لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض، ولكنهم لم يفعلوا، ولذا قال: (وَلَكِن كذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ) الاستدراك هنا من الوعد بفتح السماء والأرض بالبركات، فهم كذبوا ولم يؤمنوا، ولم يتقوا، فحق عليهم العذاب الشديد في الدنيا والآخرة، ولذا قال تعالت كلماته: (فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) " الفاء " هنا لترتب ما بعدها على
2907
ما قبلها، أي بسبب هذا التكذيب أخذناهم بالرجفة أحيانا، وبإمطار الحجارة أحيانا، وبعذاب من رجز أليم.
وذلك بسبب ما كانوا يكسبون من كفر وجرائم إنسانية، واغترار بالحياة الدنيا.
ومع توالي العبر، ووقوع عذاب الله بالكافرين يفترون بالدنيا، ولا يحسبون حسابا لعذاب الله النازل بهم في الدنيا؛ ولذا قال تعالى:
* * *
2908
(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (٩٧)
* * *
" الفاء " عاطفة ترتب ما بعدها على ما قبلها، وهي داخلة على ألف الاستفهام، ولكن قدمت ألف الاستفهام، لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع، أي ما آمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون.
إن الذين تأخذهم الدنيا بغرورها ينسون بأس الله تعالى، ولو كانوا يذكرونه ما غفلوا، وما نسوا أنه قادر على كل شيء، وفي أي وقت، فليس لهم أن يأمنوا أنهم مستمرون في غيهم من غير أن يبغتهم الله ببأس شديد.
فهذا الاستفهام تنديد لهم بفعلتهم، فهم لَا يأمنون هذا، ولكن حالهم توهم أنهم آمنوا، فالله تعالى ينبههم إلى أنه أمان الغافل الذي لايعرف أنه يعاند الله.
و (بَأْسُنَا) أي الشدة التي تنزل بهم عقابا على جحودهم، وعبرة لغيرهم تجيئهم ليلا، وتجيئهم ضحى، والله محيط بهم، وقوله ثعالى: (بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ) يشير إلى أن بأس الله تعالى يأتيهم وهم في غفلتين، غفلة الليل والبيات فيه حيث الأمن والدعة والقرار، والغفلة الثانية - غفلة النوم حيث يكون النعاس قد غشيهم، وهم لَا يفكرون فيما ارتكبوه من عناد وجحود لله تعالى الذي لَا يغفل عنهم أبدا.
2908
فهل أمِنوا هذا، وهم لَا يملكون شيئا بجوار قدرة الله تعالى: وإذا كانوا لا يامنون بأس الله (بَيَاتًا)، فإنهم لَا يأمنونه ضحى؛ ولذا قال تعالى:
2909
(أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨)
" الواو " واو العطف دخلت على همزة الاستفهام، ولكن قدمت الهمزة في السياق؛ لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام هنا إنكاري، بمعنى نفي الوقوع مع التوبيخ، أي لَا يؤمنون أن بأس الله وشدته التي تكون نكالا وعبرة، أن يأتيهم ضحى، في النهار وضحاه، والشمس ساطعة تبين كل شيء وتكشفه، (وَهُم يَلْعَبُونَ) سمى الله تعالى عملهم لعبا، واللعب هو العمل العابث الذي لَا يقصد ضرا ولا نفعا، سمى - سبحانه وتعالى - عملهم لعبا لأنهم ما داموا لَا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر يكون عملهم كاللعب؛ لأن القصد الطيب هو أن يكون طاعة لله تعالى، وقد عصوه، فإن العمل الذي يخرج عن اللعب هو عمل الخير، ولا خير في معصية، ولا خير يكون من جاحد، يشرك مع الله أحدا.
وإن الآيتين الكريمتين تفيدان أولا أنهم في غفلة لاهون لا يشعرون بعاقبة أعمالهم، وآثامها، وإنهم عمون غير مدركين. وتفيدان ثانيا أن بأس الله تعالى يأتيهم من حيث لَا يحتسبون ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم يلعبون، وإن ذلك بتدبير الله تعالى، ولذا قال بعد ذلك:
(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩)
" الفاء " هنا عاطفة يترتب ما بعدها على ما قبلها، لأنهم إذا كانوا لم تجدهم النقمة ولا النعمة، وبأس الله يأتيهم في مأمنهم ليلا وهم نائمون، وضحى وهم يعملون عملا لَا جدوى فيه فهو لعب أو كاللعب، فهم لَا يأمنون.
ومكر الله تعالى تدبيره المحكم الذي يُنزل به العذاب السريع على من يستحقه، والأمن والطمأنينة لمن يستحقه، وهو الحكيم، وقد فسر بعض المفسرين بأنه العذاب، أو البأس الشديد، وهو تفسير بالنتيجة، إنما هو من الله التدبير
2909
المحكم. والمكر قسمان: مكر سيئ وهو الذي يكون من الأشرار، ونتيجته شر، ومكر طيب وهو رد مكر الأشرار، ونتيجته طيبة، ولقد قال في شأن قريش في تدبيرهم للنبي - ﷺ - أن يثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، أي أنهم كانوا يدبرون لإيذاء النبي - ﷺ -، ويمكرون المكر السيئ الذي لَا يحيق إلا بأهله، والله تعالى يدبر لنبيه نجاته منهم، وهجرته من أرضهم من غير إخراج، حتى يكون الفصل بينه وبينهم.
والاستفهام إنكاري بمعنى النفي والتوبيخ، فهم لَا يأمنون مكر الله، ويوبخهم الله - سبحانه وتعالى - لأنهم غفلوا عن الحق، ونسوا تدبير الله تعالى المهلك لهم جزاء بما كسبوا، وبما كذبوا بآيات الله، لأنهم يامنون مع ذلك العذاب الشديد ينزل بهم، وهذه غفلة شديدة، وعدمِ اعتبار بما كان لمن قبلهم؛ ولذا ختم الله - سبحانه وتعالى - الآية بقوله: (فَلا يَأمنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
إن المؤمن يتفطن دائما لمقام قدرته تعالى بجوار قدرته، وإذا عصى يتوقع عذاب الله تعالى من عصيانه، ويتخوف ولا يأمن أن تنزل به العقوبة، وإن المؤمن لفرط حسه بمعصيته، وإيمانه بالله يخاف دائما عذابه، ولا يرجو إهماله وقد عصاه؛ ولذا كان من المبادئ الصوفية (تغليب) الخوف على الرجاء، لأن الخوف من غيبر إسراف على النفس من ورائه التقوى، والرجاء من غير أسبابه يفضي إلى الغرور، ووراء الغرور الاستهانة بأمر الله تعالى ونهيه.
والكافر يعصي، ويرى عصيانه حسنا، وينسى قوة الله، وأنه يعاند ويحارب أمره ونهيه، ناسيا أنه يعاند القوي القادر القهار الذي هو غالب على كل شيء، وأنه لَا إرادة لمخلوق بجوار إرادته - سبحانه وتعالى - وعلى ذلك يأمن عذاب الله وتدبيره، وإن ذلك هو الخسران المبين، ولذا حكم الله تعالى بأنه: (فَلا يَأمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
وحكم الله تعالى بخسارتهم، مؤكدا الخسارة بالقصر، وأن الخسارة مقصورة عليهم، وخسارتهم في أنهم خسروا أنفسهم فليسوا في حال عقلية مدركة،
2910
وخسروا أنفسهم بالاستمرار على غيهم، وخسروا بالعذاب الأليم الذي ينزل والله سبحانه هو الذي يقي المؤمنين شر الغفلة والنسيان وأمن عذاب الله، وجعلهم في فطنة دائمة واعتبار بأمر الله ونهيه، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
وقد حذر الله تعالى الذين يرثون الأرض بأسه الذي ينزل بهم، ولذا قال:
2911
(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (١٠٠) الواو عاطفة، وقدمت عليها همزة الاستفهام؛ لأن الاستفهام له الصدارة في الذكر، وإن هذه عبرة القصص من ذكر أولئك الذين ذكر الله - تعالى بيانه - ذكرهم، وورث هؤلاء أرضهم.
والاستفهام إنكاري، للنفي، وهو حض للذين يرثون الأرض بعد أولئك الذي أنزل الله تعالى بأسه بهم، ومن الذين ورثوا الأرض أهل مكة، فهو تحريض لهم على النظر في العبر من هذا القصص الذي ذكر فيه مال الكافرين من قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب، وآثارهم بجوار الأرض التي يقيمون فيها، فعليهم أن ينظروا ويعتبروا إن كانت لهم أبصار يعتبرون بها وعقول يهتدون بها.
وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا)، معناه يتبين لهم، وقرئ بقراءة مشهورة متواترة: " أولم نهد "، بالنون بإسناد الهداية إلى الله، ومعنى القول الكريم على هذ!: أولم نبين لهم هادين مرشدين معتبرين بالقصص، أن لو نشأ أخذناهم بذنوبهم، وأنزلنا عليهم البأس الذي نزل بغيرهم.
و" هدى " يتعدى بنفسه، في المفعول الأول، وباللام أو " إلى " في المفعول الثاني، فيقال: هديناه إلى الخير، أو: إلى الطريق، أو للطريق.
وهنا في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ) فيه نهدي، أو يهدي متضمنا معنى يبين، وذكر لفظ الهداية للدلالة على أنه بيان للهداية الحقة.
2911
وقوله تعالى: (أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصباهُم بِذُنُوبِهِمْ) و " أن " هنا مخففة من الثقيلة أي أنه الحال والشأن لو نشاء أصبناهم أي أنزلنا عليهم بأسنا، كما أنزلناه على من سبقوهم بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها من شرك ومحاربة لله تعالى، وكفر بالمبادئ التي جاء بها النبيون معاندين جاحدين، وأسباب الصدق ثابتة، وطرائق الهداية قائمة.
وقوله تعالى: (وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ)، أي الحال أننا في على قلوبهم بخاتم الضلالة فلا يسمعون. وإن مغزى الكلام السامي في هذا أن المشركين الذين كانوا يستعجلون العذاب، كما قال تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ...)، إنهم كانوا يستعجلون العذاب، وساق لهم الله من قصص الكافرين وما نزل بهم، ألم يبين لهم؟! وقد استدرك - سبحانه - فقال: (وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعونَ)، أي أن الله طبع على قلوبهم، فهم لَا يسمعون القصص الحق، ولا يحاولون أن يدركوا مغزاه، وختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، وفي هذا المعنى قال الله تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لأوْلِي النُّهَى)، وقال تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٦).
* * *
قال تعالى: (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (١٠١) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (١٠٢)
* * *
الخطاب في قوله تعالى:
2912
(تِلْكَ الْقُرَى) للنبي - ﷺ -، لأنه - ﷺ - قد جاء بالحق الذي يتفق مع الفطرة، فكان يجد الكفر والإنكار والعصيان ومعاداة الله ورسوله،
2912
فتذهب نفسه عليهم حسرات، حتى قال الله تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، فالله تعالى يبين له العبرة في قصص النبيين، وأن أقوامهم كفروا بهم وعاندوهم، حتى جاء أولئك بأسُ الله، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، إنما أنت منذر، ولكل قوم هاد.
والقرى: المجتمعات الكبيرة التي قص الله تعالى قصصها من أخبار قوم نوح، وعاد وثمود، وآل مدين، وقوم لوط.
وقوله تعالى: (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا) نتبع أخبارها بالقصيص، والأنباء: هي الأخبار ذات الشأن الخطر التي تفيد العظة والاعتبار، والاطمئنان للنبي - ﷺ -. هذه أخبارهم أو أنباؤهم ذات الشأن (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبينَاتِ)، أي بالأدلة المعجزة الموجبة للإيمان، وأكد - سبحانه - أن الرسل جاءتهم بالبينات بقوله (وَلَقَدْ)؛ لأن اللام للتأكيد، وقد للتأكيد، والتأكيد ليس لمجيء الرسل، إنما هو لمجيئهم بالبينات التي فيها الحجج القاطعة التي لَا يرتاب فيها طالب للحق، وإنما يرتاب المرتابون الذين لَا يؤمنون بحق، ولا يطلبون الهداية، ولا يخضعون للحق إن بدت أماراته، وظهرت بيناته.
وقد وصف الله تعالى حال الذين يصلون، ويختم على قلوبهم بالباطل، فذكر أنهم مبادرون بالإنكار والتكذيب من غير أن يفحصوا ما جاء به الرسول من أدلة فإذا سبق الإنكار والتكذيب تشبثوا بهما وقد حجبوا عن أنفسهم النور وكلما أمعنوا في التعلق بما سبق إلى نفوسهم ازدادوا جحودا ولا تزيدهم الآيات إلا كفرا، وإعناتا.
ولذا قال تعالى: (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ) " الفاء " للإفصاح إذ تفصح عن شرط مقدر، وقوله تعالى: (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا)، أي مما كان من شأنهم أن يؤمنوا وقد سارعوا إلى التكذيب بمعنى قبل أن يفحصوا بميزان الفعل،
2913
ويثبتوا، ولقد قال في ذلك ابن كثير في تفسيره والباء في قوله تعالى: (بِمَا كَذَّبُوا) للسببية أي ما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد لهم، حكاه ابن عطية رحمه الله، وهو متجه حسن.
وذلك لأن أول خاطر يتعلق بالنفس، ويلتصق بالفكر، فيكون التخلي عنه محتاجا إلى جهد لَا يستطيعه إلا الصابرون، وإن أولئك الذين يكذبون لأول وهلة من غير نظر يصلون إلى الحق بمجهودين أولهما الانخلاع مما سبق إليهم، والثاني التماس البينات بلب سليم، وفكر مستقيم قد خلا مما يعوقه.
ولقد بين تعالى أن هذا طريق إغلاق القلوب عن نور الحق (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ).
أي كهذه الحال التي رأيتموها من المسارعة بالتكذيب لأول وهلة والاستمساك بأهدابه، ليطبع الله على قلوب الكافرين، فلا يدخلها نور الحق، فهم سلكوا الباطل مسارعين إليه، قبل أن يتبعوا، فلما جاءهم الحق بالبينات فكان القلب قد أغلق على الباطل، فضلوا وما أضلهم الله، إذ هم الذين سدوا الطريق وإن أولئك الذين طبع الله تعالى على قلوبهم قد أفسدوا فطرتهم بإصرارهم على التكذيب، وخالفوا العهد الذي أخذ الله على بني آدم من ظهورهم ذريتهم؛ ولذا قال تعالى:
2914
(وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (١٠٢)
الفطرة الإنسانية توجب الإيمان، لو استقامت على طريقتها من غير وسوسة الشياطين؛ ولذا قال - ﷺ - كما في صحيح البخاري ومسلم: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبوه يهودانه، وينصرانه ويمجسانه " (١).
وروى مسلم بسنده أن رسول الله - ﷺ - قال: يقول الله تعالى: " إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " (٢).
_________
(١) سبق تخريجه.
(٢) سبق تخريجه.
2914
وإن الله تعالى عهد إلى بني آدم من ظهورهم ذريتهم أن يؤمنوا بالله، فقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢).
هذا عهد الله على بني آدم، وهم في ضلال آياتهم، قبل أن يصلوا إلى أرحام أمهاتهم، وهذا يدل على أن الإيمان الذعن هو استجابة للفطر، ومن يكفر بالحق إذ جاءه إنما يحيد بالإنسان عن طريق الفطرة المستقيمة.
وقوله تعالى: (وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) الذين فسقوا عن أوامر الله تعالى ونواهيه التي جاء بها النبيون وكذبوا ليس لهم من عهد، يوفون به، حتى عهد الفطرة التي فطرهم الله تعالى، فهم خالفوا العهد الأول، وخالفوا كل عهد عاهدوه، حتى انحلت نفوسهم انحلالا، و " مِنْ " هنا لاستغراق النفي، أي ما وجدنا لأكثرهم أي عهد يحترمونه، وينفذونه، وأولها وأقواها عهد الفطرة الذي أخذه الله تعالى في الأصلاب.
وإذا كانوا لَا عهد لهم، وخالفوا فطرة الله التي فطرهم، فهو فاسقون خارجون عن قضايا العقل البديهية؛ ولذا قال تعالى: (وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) إن هنا هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن اسمها، وقوله تعالى: (وَجَدْنَا أَكثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)، والمعنى إنه أي الحال والشأن وجدنا.
واللام في قوله (لَفَاسِقِينَ) لام التوكيد، واقعة في خبر إن.
ونجد هنا حكم الله تعالى العادل، يحكم بالكثرة الغالبة، لَا بالكلية الشاملة، فمنهم صالحون ومنهم فاسقون وإن الأمم لَا توصف كلها بالفسوق؛ لأنها تفسق كلها، إنما توصف بالفسق، لأن كثرتها الغالبة المسيطرة، الفاسقة فهي الظاهرة البارزة، وهي المسيطرة على الجماعة، وهي التي توجد رأيا عاما فاسدا، يسوده الشر، ويختفي فيه الخير والله رءوف بالعباد.
* * *
2915
موسى وفرعون وبنو اسرائيل
(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٠٥) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (١١٠) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (١١٣) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (١٢٠) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٢)
* * *
2916
ذكر الله تعالى أخبار الأنبياء الذين أشرك أقوامهم، ودعوة الأنبياء لهم فذكر نوحا وقومه، وما نزل بهم، وذكر عادا، ونبيهم هود، وثمود ونبيهم صالحا، وذكر لوطا وقومه وما كانوا عليه من مفاسد لم يسبقهم بها أحد من العالمين.
وقد بين - سبحانه وتعالى - سنته في هداية الأقوام، وكيف يضلون.
ومن بعد ذلك ذكر موسى - عليه السلام - وأنه لقي أكبر طاغية في عصره، وإن وجد من حاول محاكاته من بعده ومع موسى وفرعون ذكر لأحوال بني إسرائيل، بعد أن أنقذهم موسى - عليه السلام - من فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم.
وإن هؤلاء في الزمن بعد من سبق ذكرهم في القرآن من نوح إلى شعيب، وأكثر أولئك كانوا في البلاد العربية. وموسى - عليه السلام - نشأ في مصر، وبعث في أرض مصر، وتقدم هو وأخوه هارون لدعوة فرعون.
قال تعالى:
2917
(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).
والتعبير بـ (ثُمَّ) يدل على بعد الزمان والمكان ما بين هؤلاء الذين جاء ذكرهم من الأنبياء، وموسى - عليه السلام - فأولئك كانوا قبله بقرون وكانوا في أرض العرب، وموسى في أرض مصر، وأولئك خاطبوا أقوامهم في صحراء أقرب إلى البادية ولم تعرف لهم حضارة، وموسى - عليه السلام - كان في أرض فرعون، وفيها ملك ثابت، وإن لم يقم على الإيمان، وكانت مصر ذات علوم وفنون.
ويقول الله تعالى في بعث موسى: (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) فلم يكن إلى فرعون وحده، بل كان إليه وإلى الكبراء من قومه فذكرهم مع أنه إذا ذكر جاءوا في ذكره ضمنا، ونقول: إن كل ذي طاغوت لَا يكون طاغوته من شخصه وحده،
2917
بل منه ومن حاشيته فهم مطبوعون بطابعه، يزينون له ما يفعل، ويحسنونه ويؤيدونه، ويشجعونه، ولولا أنهم حوله ما طغى وبغى، أو ما كان طغيانه بالمقدار الذي وصل أو يصل إليه كل طاغية، ولقد رأينا بعض الطواغيت في هذا الزمان يتخذ حاشية تعينه على الظلم، بل تطغى عليه وهو لَا يشعر، رأينا ذلك رأي العيان؛ ولذا خص الله تعالى ملأ فرعون بالذكر، وسنجد من سياق القصص الحكيم في أمر فرعون أنه ملأه كان يعاونه بالقول والفعل، ويسكت عن جرائمه من اعتراض دائما.
وقد نسب الله تعالى الظلم إليهم مع فرعون ولم يفرده بالظلم، فقال: (فَظَلَمُوا بِهَا) فلم يكن الظلم من فرعون وحده بل كان منه ومن هذا الملأ والشعب مأكول فيهما ومأسور بظلمهما.
والظلم يشمل ظلم الرعية، ويشمل الظلم في العقيدة بالشرك، وإن الشرك لظلم عظيم، والظلم يؤدي الفساد، فالشرك في العقيدة إفساد للعقل والفكر والنفس بالضلال، والضلال أبلغ أنواع الشرك، والشرك ينشأ من الأوهام ويؤدي إلى كثرة الأوهام والضلال، ألم تر أنهم كانوا يعبدون العجل، والظلم يؤدي إلى فساد الرعية بالخنوع والطاعة للظالم، والرضا بالهون، وفقد الحرية والاندفاع في الظلم، حتى ساغ له أن يقول لهم: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى.
ولذا قال تعالى بعد أن ذكر الظلم: (فَانظُرْ كيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) انظر يا محمد مآل الذين أفسدوا في الأرض بشركهم وإرهاقهم للرعية، واستبدادهم إني عاقبتهم أن أغرقوا في اليم، ولم يُجْد فرعون وملأه أن قالوا: آمنا برب هارون وموسى.
فلننظر إلى ما كان من فرعون أكبر طاغية في عصره، ويحاكيه الطغاة في كل عصر، وقد كان فرعون جاهل في أرض مصر، وسام أهلها سوء العذاب، لجنونه وحمقه وجهله، حتى أرداها فيما لم تترد فيه شيء أي عصر من عصورها.
2918
أيد الله موسى بمعجزات كثيرة، عدها الله تعالى آيات، أيده بالعصا، وباليد البيضاء من غير سوء والسنين، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات، وكانت هذه الآيات الكثيرة لإمعانهم في الضلال والطغيان، وكانت كل آية تأتي في حال تناسبها، ووقت الحاجة إليها.
* * *
موسى يواجه فرعون
2919
(وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٤)
* * *
" الواو " عاطفة على (بَعَثْنَا) وهذا الكلام تفصيل لمعنى بعثة موسى، واجه فرعون ومعه أخوه كما جاء في سورة طه، وكما سيجيء في هذه، وتقدما إليه، وهما في وجل بَشَرى (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى)، والطاغي يرهب لأنه لَا قيد من حق أو دين أو إيمان أو خلق، ولكن الله أيدهما، فقال: (... لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى).
تقدم موسى إذ علم أن الله معه، وهو فوق الجبارين قاهر فوقهم.
(وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يُشعر فرعون بالخوف من الله كما شعر أولا بالخوف من فرعون حتى ثبته الله وإشعاره بالخوف بذكر الحق، وهو أنه رسول من الذي خلق الناس ورباهم وهو المسيطر على كل من في الوجود، ولست المسيطر.
وقد جابه فرعون بأنه يخاطبه بالحق الذي لَا ريب فيه، وأنه يطالب برفع الظلم عن قومه بني إسرائيل، قال له:
(حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ... (١٠٥)
(حَقِيق): فعيل من الحق، وفيها مبالغة في التمسك، أي حقا عليَّ ألا أقول على الله إلا الحق، أي أنه حق عليَّ ألا أقول على الله إلا أنه رب العالمين، وإني لَا أعترف لك بشيء مما تدعيه لنفسك، وهذه مجابهة لمن هو في حال فرعون
2919
الذي يقول: ما علمت لكم من إله غيري، فهذا صدع بالحق من غير أي مواربة، وقال ذلك موسى، ولم ينتظره حتى يطلب دليلا، بل قال له موقنا مفحما (قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَة مِّن رَبِكُمْ) أي قد جئتكم بحجة مثبتة مبينة من ربكم، وخاطبة بقوله: (مِّن رَّبِّكُمْ) سالبا منه كل معاني الربوبية، وقاصرا لها على رب العالمين، فهو ربي وربكم، وأول طلب طلبه رفع الظلم القائم، وابتدأ بما يخصه فقال: (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) الفاء للإفصاح عن شرط، أي إن كنت قد أرسلت إليك وملئك من رب العالمين، فأطلق معي بني إسرائيل من الذل الذي هم فيه. ونلاحظ بعض إشارات بيانية:
الأولى - أنه حصر الألوهية في الله تعالى وأن فرعون ليس بإله، وأن الله وحده هو الإله الحق في قوله: (أَن لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) أي في ألوهيته وعدله، ولتكن أنت ما تكون.
الثانية - أنه أفرد الخطاب لفرعون في قوله: (يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ)، وجمع في قوله: (قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ)، وأفرده في قوله: (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بنِي إِسْرَائِيلَ)؛ لأنه بسلطانه أسرهم، وما كان ملؤه له إلا معاونين.
وجمعهم في قوله: (قَدْ جِئْتُكُم)؛ لأن الدعوة الموسوية، لهم جميعا، ولأنهم أعوانه المشاركون له في ظلمه.
الثالثة - الإشارة بالرسالة بأنه حق عليه أن يبلغها صادقا.
أجابه فرعون، ولم يفرط عليه أو يطغى، كما توقع أولأ لأنه أحس برهبة الحق، ولأن الله تعالى ألقى في روع فرعون مع طغيانه رهبة الحق، أجابه بقوله: وقال:
2920
(قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) إن ذا الجبروت إذا وجد في الموقف ما يرهبه اتزن في القول ولم يشطط في الخطاب، ومعنى قوله: إن كنت قد جئت إلينا بآية أي معجزة تدل على أنك رسول، أو على صحة ما تدعو
2920
إليه، فأتنا بها إن كنت من الصادقين، أي إن كنت من زمرة الصادقين الذين لا يفترون ولا يكذبون.
أمر الله تعالى موسى - عليه السلام - بأن يجيب جوابا عمليا، والعمل يبهت الظالمين،
2921
(فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨).
معجزتان من المعجزات التسع التي أيد الله تعالى بها موسى أمام فرعون الطاغية، لعنه الله تعالى، ولعن كل من حاكاه من الطغاة، أما المعجزة الأولى فإنها العصا، ألقاها على الأرض، وهي في يده عصا، فإذا هي على الأرض حية تسعى، أذهلت وأفزعت، وأثارت العجب.
هذه هي الأولى، وقد جاءت على الصورة من انقلاب العصا إلى ثعبان واضح مبين، وذلك في مظهره قريب من السحر، وقد كان أهل مصر اشتهروا بالسحر، فالسحرة علماؤهم وكهنتهم، وما كان فرعون يحكمهم إلا بهذه الأوهام، وكذلك تجد كل الطغاة الذين حاكوه وخصوصا في مصر يستجلبون كل من يتعاطون السحر، ويقربهم زلفى إليهم.
وعلم السحرة - كما سيأتي - أن ما جاءهم به ليس من السحر في شيء، وإن بدا أمام الناظرين في صورته.
الآية الثانية أو المعجزة الثانية أنه أدخل يده في جيبه، فخرجت من الجيب ساطعة البياض لها نور، ولها لمعان من غير سوء أي مرض، كما قال تعالى: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ...)، ولقد روي عن ابن عباس أنه قال: " كان ليده نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض " أفزع فرعون هذا، ولم يتكلم، ولكن تكلمت الحاشية متحدية الحق والرسالة، تأكيدا لولائهم، وتشجيعا على الإنكار، وما كان لهم أن يتكلموا عن بياض اليد؛ لأنه فوق ما يستطيعون وما يعلمون، وحاولوا إبطال الأولى؛ لأنها تتعلق بنوع علم
2921
عندهم، والعاجز عن رد الحجة يختار ما يحسبه أسهل في الاستدلال عليه فيتكلم فيه، ليشغل الناس عن الآخر، وما كان كلام الحاشية إلا تشجيعا على الإنكار؛ لأنهم طوعوا أنفسهم على العيش بجوار فرعون، وقد رأوا دعوة موسى اعتداء على ألوهية فرعون في زعمهم، فسبقوه إلى الإنكار مرضاة له، حتى رموه في البحر
2922
(قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (١١٠)
اتجهوا إلى الإنكار سابقين فرعون ليرضوه بالإنكار، وليشجعوه عليه، ولم يكتفوا بتحريض فرعون، ورميه بأنه ساحر عليم بل أرادوا أن يحرضوا الشعب عليه،
وشعب مصر، وإن لم يحافظ على حريته أمام فرعون يحافظ على استقلال بلده، وأن يحكمه حاكم من أهله، ولو كان مستبدا عاتيا، كفرعون؛ ولأن موسى من بني إسرائيل جاءوهم من قبل استقلالهم، فقالوا يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره، أي يفقدكم استقلالكم ويجعلكم محكومين ببني إسرائيل كما حكمكم الهكسوس من قبل، (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) أي فماذا ترون وتأمرون يا معشر شعب مصر، فدَبِّروا الأمر لهذا الذي يفقدكم استقلالكم، وعبر عن ذلك بقولهم: (يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ) لأن من يفقد استقلاله يخرج عن أرضه، ويتسلمها من يتحكم فيها؛ إذ يتصرف فيها كما يشاء، وليس لأهلها فيها أمر، كأنما أخرجوا.
قال الممثلون للشعب، أو الحاضرون منه، أو من جمعوهم ليؤلبوهم على موسى وهارون.
(قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)
كان أمرا خطيرا ذلك الذي جاء به موسى، فما تعودوا من فرعون إلا أن يأمر وحده، وأن يطاع وحده فيجيء من تربى في بيته، ويصدع بين يديه بالحق، يشتد في دعوته، ويجيء الكبراء يحرضون الشعب عليه، إنه لأمر خطير، لم يعهدوه، فلابد أن تجمع الجموع لتتضافر في مقاومته.
2922
قال الذين تكلموا من الشعب: (أَرْجِهْ وَأَخَاهُ) أي أرجئه وأخاه، أي أجِّله زمنا، وأرجه أصلها أرجئه وأخاه، فحذفت الهمزة تخفيفا، والضمير يعود على موسى، وأخوه هو هارون الذي أرسله الله تعالى مع موسى ردءا له يعضده، ويعاونه - أرجئهما، أي أجلهما، وقيل أرجه بمعنى احبسه، ونرى أن (أَرْجِهْ) معناه تأجيلهما، والشعب أو المتكلمون باسمه كانوا أقرب إلى الحصفة؛ لأنهم يقولون لَا تتعجل أمرهما حتى ندرسه مع أهل الخبرة بالسحر (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ) في قرئ مصر وريفها (حَاشِرِينَ) اسم فاعل من حشر، أي جامعين الناس لمشهد عظيم،
2923
(يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) أي يأتوك بالمهرة من السحرة، وعبروا عن أولئك المهرة، ووصفوا أيضا بأنه (عَلِيمٍ) مدرك لألاعيب السحر، وأفانينه، فهو عمليا (سَاحِرٍ)، وعلميا (عَلِيمٍ) ذو خبرة.
تضافرت القوي ضد موسى وهارون، إذ جابها فرعون بإنكار ألوهيته الموهومة، وحرض ملؤه الناس بأنهما يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما.
اجتمعوا، وهنا يظهر الفرق بين المخلص الذي يدعو إلى الحق احتسابا لله، والمأجور الذي يطلب الأجر. استمع إلى قول الله تعالى عنهم:
(وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (١١٣)
ساوموه قبل أن يبدأوا يطلبون الأجرة، وهذا يدل على أنه مع طغيانه كان أرفق من بعض الحكام الذين حاكوه وساروا على طريقته.
أجابهم فورا:
(قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) ذكر لهم أجرين أحدهما مادي، والثاني معنوي، أما الأول فهو المال الذي طلبوه، والثاني رضاه عنهم، وتقريبه لهم، ولذا أكد الثاني بالجملة الاسمية وبـ " إنَّ " وباللام، وبإدخالهم في ضمن المقربين منه كحاشيته.
وهذا ما كان يعبر في حكم اللوك بالرضا السامي، وعبر به الطغاة في كل زمان بعد أن ضمنوا الأجر والقرب، إن كانوا هم الغالبين. اتجهوا إلى موسى في المشهد العظيم:
(قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥)
خيروا موسى - عليه السلام - بين أن يبدأواهم بإلقاء حبالهم وعصيهم أو ما معهم بشكل عام، وبين أن يلقي هو، وقدموا التخيير بإلقائه هو عن إلقائهم لأنهم يريدون أن يعرفوا ما عنده من طاقة ويقدروا طاقتهم على قدرها، وعبروا عن إلقائه بقولهم: (إِمَّا أَن تلْقِيَ) معبرين بالفعل استهانة بإلقائه غرورا وتعصبا، وليرضوا فرعون بأنهم فوق موسى في الحلبة، وعبروا عن أنفسهم بقولهم: (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) بالجملة الاسمية وتأكيدها بلفظ " نحن " وبقولهم " نكون "، وثوقا بأنفسهم وليثبتوا لفرعون أنهم الغالبون.
ولكن فطنة النبوة عند موسى جعلته يقدمهم عليه في الإلقاء، ليعرف ما عندهم:
(قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦)
ألقوا حبالهم وعصيهم، والسحر لَا يغير حقائق، فلا يجعل العصي والحبال حيات، ولكنه يؤثر في الرائي في نفسه؛ ولذا قال: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) جعلوهم يرون غير الحقيقة، (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) أي طلبوا رهبتهم بذلك السحر، وقد قلنا عند الكلام في السحر: إنه نوع من استهواء النفس، والسيطرة عليها بحيث يجعله في يد المستهوي، أو ما يعبر عنه بالتنويم المغناطيسي، فيغير إحساسها من محبة إلى بغض، ومن بغضٍ إلى محبة؛ ولذلك قال الله تعالى عما يفعله الذين يسحرون: (... يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ...) فيغيرون حال المحبة بينهما بهذا الاستهواء.
فكل ما فعله السحرة الذين نازلوا موسى - عليه السلام - أنهم استطاعوا أن يموِّهوا على الأنظار، ويسحروا الأعين لَا أن يغيروا حقائق الأشياء، فلم يجعلوا الحبل ثعبانا، ولكن العيون مسحورة، وأرهبوا الناس بعملهم وجاءوا في هذا بسحر عظيم في بابه الذي أتقنوه، إرادة الأجر من فرعون وإرضائه، ليكونوا من المقربين عنده.
2924
عندئذ أثر الحس في نفس موسى، وخاف ألا ينتصر، فأوحى الله إليه (أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ) ولقد صرحِ الله سبحانه في آية أخرى بما أوجس في نفس موسى خيفة فقال تعالى: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (٦٧) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (٦٨).
في وسط هذا المظهر السحري، أوحى الله تعالى إلى موسى أن يلقي عصاه.
2925
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧)
ألقى موسى عصاه، فإذا هي حية تسعى، وإذا هي تلقف وتبتلع حبالهم وعصيهم، (تَلْقَفُ) مضارع لقف بمعنى تلقم وتبتلع، وقد لقفت الحبال والعصي كان يراها الذين سحرت أعينهم حيات وأفاعي، وقد قال تعالى: (تَلْقَفُ مَا يَأفِكُونَ)، أي ما يصرفون به أعين الناس كاذبين، وقد أطلق على الحبال والعصي، أنها (مَا يَأفِكُونَ)؛ لأنها مادة إفكهم وكذبهم وتمويههم، وتضليلهم.
وقد رأى السحرة أن هذا ما ليس بسحر؛ لأن يعلمون أن السحر لَا يغير الأشياء، ولكن يموه على الأنظار، ولكن هذا يغير الأشياء، وليس تمويها على الأنظار، فأدركوا أن آيته تعالى حق، ولقد رأى بحس الأعين المستيقظة أن حبالهم، وعصيهم لَا وجود لها، إذ ابتلعتها العصا.
(فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨)
(فَوَقَعَ الْحَقُّ) أي ثبت وتبين وظهر، (وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون)، أي ظهر أنه كان باطلا، لَا حقيقة، وأن آية الله في العصا ثابتة لَا ريب فيها.
وبدل أن يطلبوا أجرا وتقربا، غلبوا، وقال الله تعالى:
(فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (١١٩)
غُلب أولئك السحرة، وعادوا صاغرين أذلهم الحق
وغلبهم، وبعد أن كانوا يعتزون بسحرهم أحسوا بصغار الهزيمة يذهب بافتخارهم.
2925
ولكنهم إذا كانوا قد خسروا المعركة، فقد ظفروا بما هو أعظم وهو الإيمان، إذ علموا أنها معجزة حقا وصدقا، وإن موسى وهارون صادقان بالبرهان والدليل، ولذا قال الله تعالى:
2926
(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (١٢٠)
أي ألقوا بأنفسهم خارين
سجودا لله رب العالمين
(رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ)، أي رب العالمين العاقلين، وذكر موسى وهارون على أنه ربهما لَا للاختصاص به، بل لأنهما دعوا إليه.
* * *
فرعون يعذب السحرة الذين آمنوا
(قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (١٢٦)
* * *
إن الطاغية لَا يفكر إلا في نفسه، ولا يحس بحق غيره إلا من زاوية استقامة الأمر لأهوائه وشهواته، لقد ثارت نقمة فرعون لأمور:
أولها - إنكار موسى ألوهيته.
ثانيها - تحديه بآياته، وكان يرجو ويتوهم أنه يقضى على موسى بحجته، فاستعان بالسحر والسحرة، فما أسعفوه بحجة، فكان الغلب عليه، فأثاره ذلك. ثالثها - ثم كان من بعد ذلك أن من استعان لهم ليغلبوا موسى وهارون خذلوه.
رابعها - وأيدوهما، وآمنوا بهما، وتشايع بين الناس إيمانهم، فغلت بالشر نفسه، والمعاند لَا تزيده الآيات البينات إلا كفرا، رأى فرعون ما رأى، فلم يؤمن؛
2926
لأن نفسه لم تكن نفس مؤمن، بل طغى وبغى، وقد رأى ملكه يزول، وأوهامه تضمحل فطغى وبغى وآثر الملك والحياة الدنيا على الآخرة، واتجه إلى السحرة، يعذبهم، ويصب جام غضبه عليهم.
2927
(قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ).
يوبخهم على إيمانهم قبل إذنه، فالاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، وإنكار الواقع توبيخ، وموضع التوبيخ أنهم آمنوا قبل أن يأذن لهم!!، وكان طاغوته قد سول له أنه ملك قلوبهم وألسنتهم فلا تتحرك إلا بإذنه، وقد رأينا ذلك من فرعون دونه عقلا، وفوقه طغيانا.
ولم يذهب إلى نفسه أنه حق أدركوه، وإيمانا صدقوا به موسى وهارون، بل حكم على أساس من وهمه أنه مؤامرة عليه، وهو الذي اصطفاهم واختارهم من بين رعيته وهم مختارون من الشعب فَموَّه على الشعب بباطله أنها مؤامرة عليه وعلى الشعب، فقال: (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مكَرْتُموهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا)، أي لتفرضوا على أهلها سلطانا غير سلطانها، فتفقد استقلالها، ولا تكون لها أرضها، ردف ذلك بالتهديد الشديد، والعذاب العتيد، قال: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)، أي سننزل بكم عذابا تعلمونه بالعيان، لَا بالبيان، و (سوف) هنا لتأكيد الكلام. أصدر الحكم بخياله وهواه، لَا بعقله والبرهان وهو أغلظ عقاب:
(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤)
أقسم الطاغي بما يُقسم به عنده أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أي يقطع من جانب يدا، ويقطع من الجانب الآخر رجلا، وأقسم أيضا ليصلبنهم أجمعين، ولا يستثني أحدا، وقد صرح في آية أخرى بأنه يصلبهم في جذوع النخل.
وهكذا يبتكر الطغيان هذا العقاب الشديد، روى الحسن البصري عن ابن عباس - رضي الله عنهما: إن فرعون أول من عاقب بقطع اليد والأرجل من
2927
خلاف والصلب. وقد كنا نقرأ ذلك ونعجب من أن يكون هذا من فرعون، ويرضى به الشعب المصري، ولكن رأينا ما يقرب منه؛ من طاغية يحاكيه في غير عصره، ورأينا من الشعب المصري من يهلل ويكبر، ويعاون!!
هذا ما هدد به فرعون ونفذ واختص السحرة بذلك، لأنهم أول من تمرد عليه من الشعب، وخشي أن يسري التمرد فشدد العقاب، وترك موسى وأخاه مؤقتا؛ لأنهما لم يكونا من المصريين، بل كانا من بني إسرائيل، ومع ذلك سينتبه إليهم.
وماذا كان موقف من آمنوا عن بينة، وعرفوا الفرق بين السحر والمعجزة لقد قوي إيمانهم؛ لأن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، سكن فيها، ولا يستطيع أحد ولو كان فرعون، ومن يحاكيه أن يخرجه من الصدور، لأنه وديعة القوي الجبار الرحمن الرحيم.
2928
(قالوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ).
(مُنقَلِبُونَ) أي عائدون إلى ربنا، وهو القوي، فنحن قد لجأنا إلى ركن لا تقوى عليه أنت ومن معك ممن ألفناهم أتباع ظلم وظغيان، إنا عائدون إليه، وسيكون لنا النعيم الخالد، وهو يعوضنا من أذاك، وقد تحررت قلوبنا ورقابنا من طغيانك، يا من ألعن مَن في هذه الأرض، ومعك من يحاكيك عن جهل (أو عن علم) في غير عصرك.
ثم عللوا طغيان فرعون فقالوا:
(وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا... (١٢٦)
أي ما أخذوا علينا إلا حقا، نقموه علينا هو أننا آمنا بالمعجزة أو هي من آيات الحق التي جاء بها موسى، وهي آيات ربنا.
وأعلنوا صبرهم على الأذى ضارعين إلى ربهم قائلين: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) ربنا أفرغ علينا صبرا، أي أنزل علينا صبرا يملأ فراغ قلوبنا، وتوفنا مسلمين مخلصين لك يا رب العالمين.
* * *
2928
الملأ من حاشية فرعون يحرضونه
(وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (١٢٧) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)
* * *
ذكرنا أن حاشية الطغاة لَا تقف من الطاغي موقفا سلبيا، أو محايدا، بل إنهم يحرضونه مرضاة له، وطلبا لما ينفذه إجابة لهم، فهم لَا يهمهم إلا أن يأخذوا منه ما يشبع نهمتهم، وليسوا مخلصين له يمنحونه النصيحة، إنما هم المالئون له في باطله، لم يكف الملأ والحاشية ما أنزله بالسحرة، أو ما هم أن ينزله بهم، بل نبهوه إلى موسى وقومه من بني إسرائيل، وأرادوا اجتثاثهم من الأرض، قالوا محرضين:
2929
(أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) أي أتترك موسى وأخاه وقومه من بني إسرائيل ومآل ذلك الترك أن يفسدوا في الأرض بإشاعة التمرد عليك، والانتقاض على حكمك والخروج عليك، وذلك فساد أي فساد، فاللام في قوله تعالى: (لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) هي ما تسمى لام العاقبة، أي أتتركهم لتكون عاقبة الترك أن يؤلبوا الناس عليك، وينتفضوا على حكمك.
2929
والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، وهو بمعنى لَا ينبغي لك أن تترك موسى وقومه يؤلبون عليك.
هكذا حرضوا فرعون على بني إسرائيل ذلك التحريض الخبيث ليزدلفوا إليه، وكذلك الحاشية المفسدة تسبق إلى فكر الطاغي، ليتوهم إخلاصهم له، وما هم إلا الممالئون المنافقون الكذابون، ولم يكتفوا بالتحريض على بني إسرائيل، بل علا التحريض إلى موسى، وجاءوه من جهة ما، فقالوا عن موسى: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ).
أي بتركك موسى، فيخرج عليك غير طائع لك، بل معاند، ومجاهر بالمخالفة وإنكار ألوهيتك، في أول دعوته ويترك آلهتك، ولقد كان لأهل مصر عدة آلهة كبيرهم الإله رع، وقالوا: إنه يحل في فرعون، وينتقل بينهم من سلف إلى خلف، والمعنى لَا ينبغي أن تتركه وقد تركك بالخروج عليك، وعلى آلهتك المقدسة، وقال: إن الله واحد أحد.
استجاب فرعون الطاغي لهم، لأنها رغبته، وقد سبقوه إلى ذكرها، ممالئين مزدلفين إليه بالباطل.
(قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)
قال سنقتل الأبناء ونترك النساء، وسمي تركه النساء استحياء لهن، وهو لا يحيي ولا يميت، تركهن ليكُنَّ جواري وخدما في البيوت، وأكد قدرته على ذلك وإذلاله لهم بقوله وإنا فوقهم، المسيطرون عليهم، الذين نستطيع استئصال من نحب، وإبقاء من نحب أذلاء مقهورين، وهنا قد يسأل سائل: لماذا ترك موسى وهو الرأس فلم يقتله وأخاه؟.
ونقول في الإجابة عن ذلك: إن موسى تربى في قصر فرعون، فكان له فيه أولياء، وكان على رأسهم امرأة فرعون، فكانوا يخذلونه عن أن ينزل به أذى، أو يقتله مثلا.
2930
وإن لموسى لهيبة ورهبة في نفس فرعون تمنعه من أن ينزل به ما يريد، وهو يرى الآيات تجري على يديه وهو إن لم يؤمن بها أفزعته، وأرهبته.
وإن مثل أوليائه من آل فرعون، كمثل أبي طالب في حمايته للنبي - ﷺ - من أذى قريش وأن ينالوا منه، وهكذا يؤيد الله تعالى رسله ببعض خلقه.
لم يكن لموسى وقد رأى الإرهاب لبني إسرائيل إلا أن يثبتهم، فقال لهم:
2931
(اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨)
أي اجعلوا استعانتكم بالله واتكلوا عليه، واصبروا على ما ينزل بكم، ولا تحسبوه الشر الذي لَا ينتهي فإن ملك فرعون زائل، وطغيانه منته، ولن يخلد أو يبقى، فإنه ستزول دولته. والأرض تكون لمن يرثها من الصالحين، والعاقبة والنهاية للمتقين، قال ذلك تثبيتا لقلوب بني إسرائيل، ومن اتبعه من المؤمنين: فقد حكى الله تعالى قولهم فقال:
(قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)
كان بنو إسرائيل متمليلين من عذاب فرعون من قبل موسى - عليه السلام - ورجوا من مجيئه أن يرحمهم الله تعالى من عذابه على يد موسى - عليه السلام - وقد غلبه بالحجة الباهرة، وكان هو وقومه صاغرين أمام حجة الحق وقوته.
ومن يكون من عذاب يتلهف على الرحمة، ويطلبها سريعا، ولكن فرعون قرر استمرار عذابهم فقالوا متململين: قد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض.
طمأنهم موسى بأن الله لَا يخلف وعده، وأنه وعده بهلاك الطاغية العاتي؛ ولذا قال: (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَذوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) يتضمن كلام موسى الكليم - عليه السلام - أمورا ثلاثة:
2931
أولها - رجاء هلاك فرعون؛ لأن الله أعلمه بذلك، وأن لذلك وقتا معلوما، لم يحن حينه، ثانيها - أنهم يرثون الأرض من بعده، وأنهم سيكونون مستقلين أحرارا ليس لأحد عليهم سلطان إلا الله، ثالثها - أنه قد تكون مخالفات، ومناقضات، ولذا قال: (فَيَنظُرَ كيْفَ تَعْمَلُونَ)، أي فيرى منكم عملكم أو يقدر لكم من الجزاء بمقدار عملكم، والله بكل شيء عليم.
وإن سياق القصص القرآني قد يشير إلى أن فرعون عندما كان يقتل الأبناء، ويستحيي النساء - ما كان يستأصل، بل فرض فيهم هذه العقوبة يستعملها ما يشاء.
هذا، وإننا نرى آل فرعون وسكان مصر، لم يدفعوا طغيانه، وإن الله تعالى لا يأخذ العامة بظلم الخاصة إلا إذا رأوا الظلم ولم ينكروه، والمصريون لم ينكروا فعل فرعون؛ ولذا عاقبهم الله تعالى بعقوبات دنيوية مختلفة، فقال الله تعالى في ذلك:
* * *
(وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٣٤)
2932
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (١٣٦)
* * *
إن المصريين شاركوا فرعون فيما أوقع من مظالم ومآثم ببني إسرائيل؛ لأنهم رأوا الظلم ولم ينكروه، فكانوا مسئولين، وما استمكن فرعون منهم ومن بني إسرائيل إلا بهم، لأنهم لم يقولوا: ظلمت.
ولذا قال الله تعالى:
2933
(وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ).
وآل فرعون هنا ليسوا حاشيته ولا خاصته إنما هم أهل مصر جميعا؛ لأنهم أيدوه، ولو بالرضا، أو على الأقل بالصمت من غير نكير، والدليل على أنه أريد أهل مصر جميعا، أن السنين ونقص الثمرات لم يكن خاصا بفرعون وحاشيته؛ لأنه بلاء إذا جاء يعم ولا يخص، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ)، أي آل مصر الذين هم آل فرعون، ومن يقوم بهم وبالحكم فيهم، وأخذناهم معناه اختبرناهم بالسنين، أي بالجدب والقحط، فيقال: أُصبت بالسنة، أي بالجدب والنقص والجوع. وقد أصابهم الله بسنين جدب وقحط، ونقص من الثمرات، ويقال: أخذنا فلانا بالرفق والإكرام، وأخذناه باللوم، والتأنيب بمعنى عاملنا، وتأويل القول أخذناه وضممناه معاملين له بالرفق أو معاملين له باللوم أو التأنيب.
فأخذ الله آل فرعون معاملا بالسنين بحدبة تصيبهم، ونقص الثمرات، يختبرهم سبحانه بذلك لعلهم يذكرون، أي لعلهم يتذكرون أن هناك مدبرا غير فرعون، وأن الأمر ليس بإرادتهم ولا بإرادة فرعون، إنما هو بإرادة من خلق فرعون، وخلق الزرع والثمار، وأنشأها جنات معروشات، وغير معروشات ولكنهم لم يتذكروا لفنائهم في فرعون وملئه، وكذلك أهل فرعون دائما، لَا ينفصلون في نفوسهم
2933
عن حكامهم، وإن كانت قوتهم عليهم، يقودون إلى النكسات نكسة بعد نكسة، وهم من ورائهم راضون راغبون فيهم على سوءاتهم غير راغبين عنهم. وكانت معاملتهم لموسى الهادي الرشيد، معاملة غير رفيقة يحملونه إثم ما ينزل بهم من شر، وما ينزل بهم من حسن يحسبونه استحقاقا لهم؛ ولذا قال الله تعالى فيهم:
2934
(فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣١)
(الْحَسَنَةُ) هي الحال الحسنة التي يستحسنونها، ويستطيعونها، ويرون فيها مسرة لهم، لم يذكروا أنها من عند الله تعالى؛ أفاض بها عليهم من عنده، إنما يحسبون أنها جاءتهم لأنها لهم ويستحقونها وجاءتهم من غير معط؛ ولذا وصفهم الله تعالى بقوله: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ)، أي لنا نستحقها، ولا يتصورون معطيا يستحق الشكر، والطاعة، والرضا بما أعطى، وإذا جاءتهم السيئة، أي الأمر المسيء لهم من تمحط وجدب وطوفان اطيروا بموسى ومن معه أي تشاءموا.
وأصل الطيرة في الاستعمال العربي أنهم كانوا يزعجون الطير، فإذا اتجه إلى اليمين تيمنوا به وسموه السانح، وإذا اتجه إلى الشمال تشاءموا به وقالوا البارح.
ولقد جاء في تفسير القرطبي ما يتعلق بالتطير " وكانوا يتطيرون أيضا بصوت الغراب، ويتأولونه البيْن، وكانوا يستدلون بمجاوبات الطيور بعضها بعضا على أمور وبأصواتها في غير أوقاتها المعهودة على مثل ذلك، وهكذا الظباء إذا مضت سانحة أو بارحة، ويقولون: إذا برحت بالسانح بدل البارح، إلا أن أقوى ما عندهم كان يقع في جميع الطير فسموا الجميع تطيرا من هذا الوجه، وتطير الأعاجم إذا رأوا صبيا يذهب يه إلى المعلم بالغداة، ويتيمنون برؤية صبي يرجع من عند المعلم إلى بيته، ويتشاءمون بروية السَّقاء على ظهره قربة مملوءة مشدودة، ويتيمنون برؤية فارغ السِّقاء (مركبة) مفتوحة ". وهكذا كما جاء في ذلك التفسير، وعلى أي حال التطير في اللغة العربية التشاؤم.
2934
وإن المصريين قد قالوا هذا المعنى مواجهين موسى - عليه السلام - وعبر عنه بذلك التعبير العربي، وكأنه ترجمة لتعبيرهم في لغتهم.
ولقد أجابهم بقوله كما حكى القرآن الكريم: (إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عندَ اللَّهِ)، أي إن ذلك قضاء الله تعالى وقدره فيكم. وعبر عنه بطائركم تشبيها للقدر المحتوم بالطائر المشئوم؛ لأنه في معناه لاحق بهم، فإن تَعُدُّوه شؤما فهو من سوء عملكم، وختم الآية بقوله تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون) أي لَا يعلمون أن كل شيء عند ربك بمقدار، فيتشاءمون؛ ولذا نفى النبي - ﷺ - الطيرة، وقال: " لا عدوى ولا طيرة " (١) أي لَا عدوى إلا بإذن الله تعالى العلي القدير.
ومع أن الله تعالى قد ابتلاهم (بالسِّنِينَ وَنَقْصٍ منَ الثَّمَرَات لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ) ويطمئنون إلى الله الذي هو منشئ العالم، وأنه ليس لفرعون أَية ألوهية، ومع ذلك أصروا على كفرهم، ورموا موسى بأن هذا الابتلاء سحر يسحرهم به موسى، وأنهم لَا يؤمنون؛ ولذا قال الله تعالى عنهم:
________
(١) متفق عليه؛ رواه البخاري: الطب - الفأل (٥٧٥٦)، ومسلم: السلام - الطيرة والفأل (٢٢٢٤)، وتتمة الرواية: " ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة ".
2935
(وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
مهما تأتي من معجزة باهرة قاهرة، فإنها لَا تعدو أن تكون سحرتنا بها، فما نحن بمؤمنين لك، أي بمسلمين لله بالحق الذي تدعو إليه، نفوا إيمانهم مؤكدين النفي بالباء الدالة على استغراق النفي، وبالجملة الاسمية وتقديم الجار والمجرور " لك " على " مؤمنين "، وقولك مؤمنين لك، أي إجابة لدعوتك منضمين لك، فلن نخرج عن صفوف الفرعونية الكافرة الجاحدة إلى صفك المؤمن المذعن لله تعالى. نزلت عليهم آيات قاهرة أشد من الأولى بسبب إصرارهم على الكفر، وقد ذكرها الله تعالى بقوله:
(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (١٣٣)
وأرسلنا: بمعنى أنزلنا قاصدين كأن هذه مرسلة من عندنا، والطوفان هو المطر الشديد، وفيضان النيل الطاغي الذي أغرق الزرع، وأهلك النسل، وهدم البيوت، وما كان لفرعون طاقة على إنجائهم والسيل قد طم، وحزب، وصار عبثًا، لَا غيثًا.
2935
والجراد، وهو الطير الصغير المعروف الذي يأكل الزرع، ويفسده، وخصوصا ما كان قوتا، فإنه يسلط على القمح، والشعير، والأرز، ويتعدى طعام الإنسان إلى طعام الحيوان.
وبعد البلاء في زرعهم وحرثهم ونسلهم كان البلاء في أجسامهم، فسلّط عليهم القمل، وهي دويبة صغيرة، وقال ابن عباس: القمل السوس، وهو يصيب الزرع المخزون لأكلهم فيصيبهم، وقيل: إنه القمل المعروف الذي هو داء في الأجسام ومرض من الأمراض.
والضفادع جمع ضفدع، وهي الحيوان المعروف، كثرت وكثر ضجيجها حتى أزعجتهم، وأفسدت زرعهم وملأت أرضهم فكانت الحياة مع هذه الكثرة حياة شاقة شديدة لَا تحتمل.
والدم، قالوا: إن النيل صار ماؤه دما، ومات السمك فيه، فأصبح لا يسقي، بل يميت، وإنا لَا نعترض على ذلك التفسير، وقد روي عن بعض الصحابة، ولم نر فيه حديثا صحيحا، يذعن المفسر لمثله، ولكن صريح اللفظ أنه الدم، ولعل الله تعالى اختبرهم بذلك وقتا وإن لم يكن طويلا، ولكنه أراهم آياته مفصلات، ويصح تفسير الدم بمرض أصيبوا به كرعاف ونزيف وضغط.
ولقد قال الكثرة من المفسرين: إن الله تعالى اختبرهم أولا بالطوفان الذي خرب ديارهم، وأفسد زرعهم فدعوا الله أن يكشف ذلك عنهم، ودعا لهم موسى ووعدوه بأن يؤمنوا إذا كشف عنهم الضر، فكشف فلم يؤمنوا، فأصيبوا بالجراد فطلبوا أن يدعوا لهم فاذا كشف عنهم آمنوا، فكشف فلم يؤمنوا، ثم اختبرهم بالضفادع كذلك، وبالدم كذلك ولم يؤمنوا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين.
والاستكبار عن الحق سبيل الضلال والوقوع في الذل، وقوله تعالى: (وَكانُوا قَوْمًا مّجْرِمِينَ) فيه تسجيل الإجرام والعتو عليهم، وقد أكد - سبحانه وتعالى - إجرامهم واستمرارهم على الإجرام، وسيطرة الأخلاق الفرعونية عليهم، وإنها فساد كلها،
2936
يصيب النفس، فلا تنخلع منه، والنوازل تصيب نفوسهم، ولا تصل إلى أعماقها ولا تجتث الشر منها، ككل من امتلأت نفوسهم بالشر، فإنه يكون لونا من ألوانها لا تمحوه عظة ولا يدفعه بلاء.
ولقد قال تعالى في ذلك:
2937
(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٣٤)
(الرِّجْزُ): هو العذاب، وهو يشمل ما سبق أو هو هو، وإن ذكر هذا يدل على أن طلبهم من موسى كان بعد أن نزل بهم الرجز جملة وتفصيلا وتوالى عليهم نزوله، وأن التجاءهم إلى موسى - عليه السلام - بعد ذلك التوالي.
أو نقول إن الله حكم عليهم بالاستكبار والإجرام، ثم بين بعد ذلك كيف كانوا مجرمين، وقد ذكر إجرامهم إجمالا، ثم فصل كيف كان ذلك العتو والاستكبار.
لما نزل بهم هذا الابتلاء آيات مفصلات وغيره، اتجهوا إلى موسى - عليه السلام - وكأن الشك قد عراهم بالنسبة لما كانوا عليه (قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ) أي يعهده عندك وإيمانك به، ووعده لك بالنصرة والتأييد (لَئن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، طلبوا كشف الرجز من موسى، مع أنهم طلبوا أن يدعو ربه، ونسبوا إليه كشفه، لأنهم اطمأنوا إلى أن الله سيجيبه، ولأنهم تعودوا أن يكون الأشخاص هم ذوي السلطان، ولا سلطان إلا لشخص (لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ)، أي لنؤمن بما تدعو إليه مسلمين لك بالحجة والدليل وأن كلامك الحق، ومع إيماننا لنرسلن معك بني إسرائيل، أكدوا إيمانهم بالقسم
2937
ومؤكداته، وأكدوا إرسالهم بني إسرائيل بالقسم ومؤكداته من نون التوكيد، ولام القسم.
ولعلهم كانوا في ذلك صادقين في أنفسهم، لوقع الرجز عليهم، ولإحساسهم بالضعف أمام جبروت الله تعالى الذي تخاذل أمامه جبروت فرعون، وطغيانه، ولكن الحق لم يصب قلوبهم، وليس لهم إذعان صادق، بل هو عارض عرض لهم، ولم يكونوا مؤمنين. وما هؤلاء الذين طلبوا من موسى ذلك الدعاء يظهر أنهم الكبراء والسادة من ملأ فرعون، ولعله كان معهم، أو طلبوه بأمره بدليل أنهم وعدوا موسى بأن يرسلوا معه بني إسرائيل، فما كان يملك ذلك إلا فرعون وقادته وملؤه، والكبراء، معه ومع هذا القسم الذي أقسموه، ما وفوا، ولذا قال سبحانه:
2938
(فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥)
الفاء للإفصاح عن شرط مقدر تقديره إذا كانوا قد أقسموا ذلك القسم فقد نكثوا، فلما كشفنا عنهم الرجز إذا هم ينكثون فلا يؤمنون، ولا يرسلون بني إسرائيل، والتعبير عن زوال الرجز بـ (كَشَفْنَا) تشبيه له بالغمة التي تَغم عليهم، وتكشف.
وقوله تعالى: (إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ) إشارة إلى أنه سينزل بهم ما هو أشد، فالإزالة للرجز لم تكن دائمة، بل هي إلى أجل محدود، فإن الله خبأ لهم في قدره ما هو أشد وأقوى، وهو إغراقهم في البحر؛ ولذا قال تعالى:
(فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ)، أي جازيناهم بذنوبهم، وسمى الله تعالى عقابه لهم بأنه انتقام، لأنهم مردوا على الشر، وعقابه لهم استئصال، والله تعالى هو المنتقم الجبار فعاملهم
2938
معاملة المنتقم؛ ولذا قال.
(فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (١٣٦)
أي عاملناهم معاملة من ينتقم ممن أعلن الحرب على الله ورسوله موسى - عليه السلام - اختبرناهم ثم كشفنا عنهم ما اختبرناهم به رجاء أن يتذكروا ويعتبروا، فما زادوا إلا ظلما واستكبارا وعتوا وفسادا، فليس لهم إلا أن ينزل بهم العذاب الأكبر، الذي يكون استئصالا، وهو الإلقاء في البحر، واليم هنا البحر، وذلك بسبب تكديبنهم بالآيات التي توالت لهم آية بعد آية وغفلتهم عن مغزاها ومعناها؛ ولذا قال (وكانوا عَنْهَا غَافِلِينَ)، أي أنها كانت لهم بمرأى العين والحس ولكنهم غفلوا عنها، واستهواهم الشيطان فضلوا.
* * *
بنو اسرائيل بعد الإنقاذ
(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ
2939
أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)
* * *
كان بنو إسرائيل مستضعفين في أرض مصر، ومن يكون تحت فرعون يكون مستضعفا ذليلا ولو كان من أهلها، ولكن بني إسرائيل استضعفوا لغربتهم، ولحكم فرعون.
خرجوا من ذل فرعون وملئه، وأورثهم الله تعالى مشارق الأرض ومغاربها بعد أن استضعفوا بذل فرعون، وأرهقهم ظلما خاصا بهم، وقد صار لهم بعد خروجهم من مصر مُلك عريض: شرق وغرب، وخصوصا في حكم داود وسليمان، والملوك، ووصف الأرض بأن الله بارك فيها، ويشير هذا إلى أنها الأرض المقدسة، فقد أخذوا شرقها وغربها، وما أحاط بها، وكانت أرضا قد بارك الله فيها بالخصب، وأنها يجتمع فيها النبيون في إسراء النبي - ﷺ - والمعراج.
2940
(وَتَمَّتْ كلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا) وكلمة الله هي ما وعد به تعالى بنصرهم، إذ قال: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةَ وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).
ووصف الله - سبحانه - الكلمة بأنها الحسنى - وهي مؤنث - لأن هذه الكلمة المباركة أوصلتهم إلى أحسن أحوالهم، وأبركها عليهم.
(بِمَا صَبَرُوا)، هذا ما كان لبني إسرائيل، أما ما كان لفرعون وملئه، فقد دمر الله تعالى ما كان يصنع فرعون من بناء وما كان من جنات، وما كانوا يعرشون فيها زراعات وغروس تكون بالعرش والسقف على الأرض، فلا يرى سوداؤها من خضرائها، كما قال تعالى:
(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (٢٧) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (٢٨).
2940
هذه نعم أنعم الله بها على بني إسرائيل بسبب صبرهم على ظلم فرعون، وإنه لبلاء عظيم. ولكن هل قدروا النعمة حق قدرها، ذلك ما ستبينه الآيات التالية:
قال تعالى:
(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١).
أنهى الله تعالى قصص فرعون بهلاكه وابتدأ بقص قصص بني إسرائيل، ونرى في هذا القصص الحكيم ما أحدثوه بعد أن منَّ الله تعالى عليهم بإخراجهم من استعباد فرعون وظلمه لهم، ومعاينتهم الآيات الكبرى بفلق البحر بعصا موسى، وكيف عبدوا العجل، وكيف أرادوا أن يجعل لهم موسى إلها غير الله يعبدونه، وما استرسلوا فيه من كفر ومعاص، وقال الزمخشري: ذلك ليعلم حال الإنسان، وأنه كما وصفه الله تعالى ظلوم كفار جهول كنود، إلا من عصمه الله تعالى: (... وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).
يقول تعالى:
2941
(وَجَاوَزنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا) جاوز بمعنى اجتاز، والبحر هو البحر الأحمر كما نسميه الآن، وكما كان يسمى بحر القلزم اجتازوه حتى وصلوا إلى اليابس (فَأَتَوْا) أي أقبلوا على قوم يعكفون، أي يقيمون على عبادة أصنام لهم، وقالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، إن المقام الطويل الذي أقاموه في مصر هزع (١) فيهم الوحدانية التي كانت دين آبائهم، وإنهم وإن كانوا لم يعبدوا ما عبد
________
(١) هزع: هَزَعَه يَهْزَعُه هَزْعًا وهَزَّعه تَهْزِيعًا كَسَّرَه فانْهَزع أي انْكَسَرَ وانْدَقَّ. وهَزَّعَه: دَقَّ عُنُقَه. وانْهَزع عَظْمُه انْهِزاعًا إِذا انْكَسَرَ وقُدَّ. لسان العرب - هزع.
2941
المصريون فقد لانت عقيدتهم، وصاروا مترددين لَا يؤمنون بشيء ولذلك قالوا لما قالوا؛ لأنه لم يثبت في قلوبهم التوحيد الذي جاءهم به موسى، وصاروا كالأعراب الذين قالوا لرسول الله محمد - ﷺ - آمنا، فأمر الله تعالى نبيه بأن يقول: (... قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ...).
والقوم الذين أتوا عليهم قيل إنهم كانوا بالسويس، إذ كانت أول يابسة جاءوا إليها، والله أعلم ما هؤلاء الأقوام، ولكن نستبعد أن تكون السويس؛ لأن ظواهر الأخبار تبين أنها كانت تحت حكم فرعون، وجزءا من مصر.
(قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)، أي تجهلون العقائد السليمة، والعقائد الباطلة، والمتردد جاهل، غير مدرك، وإنهم خرجوا من حال كافرة إلى حال مؤمنة موحدة، ولما يدخل الإيمان قلوبهم.
وأكد لهم موسى ببيان بطلان هذه العبادة، فقال:
2942
(إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ) هالك ما هم فيه، والتعبير يتضمن معنى التخريب والفساد، كما قال تعالى: (... وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبيرًا)، أي أنه عمل فاسد، لَا أصل له من الحق، فهم في ضلال (وَبَاطِلٌ ما كَانُوا يَعْمَلُونَ) وقدم الخبر على المبتدأ لتأكيده الحكم بالبطلان على ما يعملون، ثم أخذ رسول الله - ﷺ - يوبخهم على ما طلبوا من ناحية بطلانه في ذاته، ومن ناحية أنه كفر بالنعمة التي أنعم بها عليهم، فقال في توبيخهم في الأولى:
(قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا)، أي أطلب لكم إلها وحذفت اللام، وذلك توبيخ بالاستفهام الإنكاري، أي لَا يمكن أن أفعل ذلك وأنا الذي دعوت فرعون إلى التوحيد، وبيَّن أن ذلك كفر بنعمة الله تعالى، وهو يزيد الأمر استنكارا فقال: (وَهُوَ فَضَّلَكمْ)، أي جعل لكم فضلا (عَلَى الْعَالَمِينَ) بأن تولى هو إنقاذكم من ذل فرعون واستعباده. وهو دال على استنكار موسى بسبب ما أعطاهم الله من نعم لم ينعم بها أحد من العالمين، وهي آية عظيمة من آيات رب العالمين تدل على كمال توحيده، وأنه المتفرد بالإيجاد والخلق والتدبير، فقال:
(وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ... (١٤١)
أي اذكروا نعمة الله
2942
عليكم، وآياته فيكم، إذا نجاكم من آل فرعون وذكر آل فرعون؛ لأن آل فرعون وحاشيته هم المعاونون المُحَسّنون لما ارتكب من طغيان وظلم، والذين يسولون له كل ظلم، ويبررون ما يفعل من شر، وذكرهم ذكر له لأنه رأس الفساد، وغيره تابع له محسن، ومسول وهم كالشياطين حوله يشاركونه في الإثم، ولا يعفى منه. (يَسُومُونَكُم)، أي يذيقونكم سوء العذاب، ثم بينه سبحانه بقوله:
(يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).
أي ويل شديد اختبرتم به أشد اختبار، فهل تكفرون بالله تعالى الذي نجاكم، وتشركون به.
* * *
تلقى موسى الألواح من ربه
(وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
* * *
2943
ذهب موسى إلى جبل الطور ليتلقى تعاليم ربه على موعد منه، وكانت المدة ثلاثين ليلة، أي ثلاثين يوما، وذكرت في القرآن الليالي دون الأيام؛ لأن الأشهر القمرية أمارة ظهورها بالليل، إذ يبزغ القمر هلالا، ويتدرج في النمو حتى يصير بدرا، وتعرف الأوقات من الشهر بمقدار الهلاك.
وقد قيل: لماذا ذكر الثلاثين ثم أتم الأربعين بعشر ليال أخر؛، فقالوا: إن موسى عندما ذهب إلى التجلي استشعر روحانية، وقالوا: إنه استنشق ريح المسك، فطلب تلك العشر الزيادة، فأتمها الله تعالى أربعين ليلة، والتصريح بالأربعين مع أن العدد مفهوم من ذكر العشر بعد ثلاثين، وذلك لبيان استجابته سبحانه لما طلب موسى، وذكر ذلك من شعائر الإنعام.
خلَّف موسى بني إسرائيل، وفيهم عناصر متضاربة متباينة وهم أهواء مختلفة وفيهم تردد، كما ظهر عندما أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فطلبوا أن يكون لهم إله كما لهؤلاء آلهة.
مع هذه الحال، خَلَفَهُ فيهم أخوه هارون، فهو رِدءُ موسى ومعينه وهو نبي، ولكن الذي تلقى التوراة أو الألواح هو موسى.
قال موسى لأخيه هارون
2944
(اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي)، أي كن خليفتي في قومي، ترعاهم وتصلح أمرهم؛ ولذا قال في تحقيق الخلاقة: (وَأَصْلِحْ) أقم فيهم الحق، والعدل والإصلاح بينهم، فاحفظ وحدتهم وحارب دعاة التفرق؛ ولذا قال له: (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)، أي تجنب أن تساير المفسدين، بل اقطع عليهم الطريق، ولا تمكنهم من فسادهم، وكأنه بفطنة النبوة أدرك أنهم سيحدثون أحداثا من بعده - كما سيجيء - باتخاذهم العجل، وإن لم يكن قد توقع ذلك بالذات، ولكن توقع غيره وسبل الشيطان مثارات مختلفة.
2944
ذهب موسى - كليم الله تعالى - إلى الجبل في الميقات الذي وقته الله تعالى، وقيل: إنه ذو القعدة وعشر من ذي الحجة، والله أعلم بالميقات. قال تعالى:
2945
(وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ... (١٤٣)
استأنس كليم الله بربه
وطمع الكليم في أن يرى حبيبه (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ)، أي افتح بصري بالرؤية لأنظر إليك، أو تبين لي أنظر إليك.
قال الله الذي كلم موسى، وحسب موسى أن الرؤية كالكلام، وإن كان الكلام من وراء حجاب، وقد شجعه على طلب الرؤية أنه سمع الكلام، ومن سمع الكلام الجميل الجليل طمع في رؤية من يكلمه.
قال الله - تعالى - له: (لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي).
لن للنفي، المؤكد، وقال الزمخشري: إنها للنفي المؤبد، أي لن تراني أبدا، وهذا على مذهبه من أن رؤية الله تعالى غير ممكنة، ونحن إذا قلنا: إنها لتأبيد النفي، فإن ذلك موضوعه في الدنيا، أما في الآخرة، فأمرها عند علم الله وهو العليم بما فيها، والحياة فيها غير الحياة في الدنيا، وما يكون مستحيلا في الدنيا، أو ما يُرى كذلك لَا يكون مستحيلا في الآخرة والله بكل شيء عليم، وفسر بعضهم قوله تعالى: (لَن تَرَانِي)، أي لن تستطيع رؤيتي.
وفد استدل الجماعة على أن رؤية الله ممكنة وإلا ما طلبها موسى، وقد علقها الله تعالى على استقرار الجبل وهو أمر ممكن فهي ممكنة.
ولنترك الأقوال في ذلك، فليس القرآن موضع جدل، وهو منزه عن ذلك، وفوق جدال المتجادلين.
2945
قال تعالى: (لَن تَرَانِي) وقد علمت قول الناس في ذلك، ثم كان الاستدراك تلطف لموسى، وتقريب له لمعنى نفي الاستطاعة، فقال: (وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)، والجبل أقوى وأشد وأضخم من موسى فإن استقر حين تجلى الله وبزوغ النور الإلهي فسوف تراني، ولكنه إن لم يستقر فإنك لن تراني.
(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) أي فلما ظهر نور الله على الجبل متجليا له (جَعَلَهُ دَكًّا)، أي مستويا بالأرض، وكان لذلك ما يثير الفزع في نفس موسى (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا)، كأنما أصابته صاعقة، وغشى، (فَلَمَّا أَفَاقَ) أحسَّ بأنه طلب ما ليس له، وما هو فوق طاقته البشرية، وما لَا يتحقق في الدنيا - استغفر ربه، وسبحه، فقال: (سُبْحَانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ).
تاب موسى من هذا الطلب الذي تبين له أن الله لَا يجيبه في الدنيا، وما كان ذلك خطيئة ارتكبها، ولكنه خطأ لَا ذنب، ولكن النفس المؤمنة التي تحس تستكثر خطأها، وتستقل صوابها، أحس أنه ذنب يتاب منه، وما هو بذنب، وكذلك استتابة المرسلين تكون من أخطاء تغتفر، بل لَا حساب عليها، ولكن يعظم أمرها في نفوسهم فيتوبون.
وأكد - عليه السلام - استغفاره، وكمال إيمانه فقال: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)، أي ببعدك عن الشبيه، وأنك منزه عن كل نقص، وأول المؤمنين بأنك لَا تُرَى في هذه الدنيا.
وقد استجاب الله تعالى لاستغفاره وتوبته النصوح وقال تعالى: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
2946
نادى الله تعالى نبيه موِسى، ويبين ما ميزه به على أهل جيله، وعلى كثير من الأنبياء ناداه (يَا مُوسى) وفي النداء بالاسم نوع إدناء وتقريب، وإبداء للمحبة، والدنو منه. (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ)، أي اخترتك مفضلا لك على الناس، فـ (اصْطَفَيْتُكَ) متضمنة معنى التفضيل، ولذا تعدى بـ (عَلَى)، وقوله: (بِرِسَالاتِي)، وهي جمع رسالة، وجمعت لشمول شريعة التوراة التي نزلت على موسى - عليه السلام - من عقائد التوحيد والتنزيه وشرائع الزواجر الاجتماعية من قصاص وحدود، وشرائع مدنية في معاملات الناس وتحريم الربا، وأحكام الأسرة؛ وبعبارة أعم في التوراة شرائع كثيرة جامعة ضمت رسالات. وقوله تعالى: (وَبِكَلامِي)، أي بكوني اختصصتك من بين الأنبياء بأن كلمتك من وراء حجاب، وليس ذلك دليلا على فضله المطلق عليهم، بل هو من هذه الناحية وليس فضلا من كل النواحي.
وقال تعالى بعد بيان اختصاص موسى بأنه كليم الله، واختياره للرسالات كاملة وإن لم تكن النهائية (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ) (الفاء) هنا فاء الإفصاح، أي فإذا كنت قد اخترتك من بين الناس بالرسالات وبكلامي، فخذ ما أعطيتك، واقنع به، (وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) الذين تظهر النعم عليهم، ولا تطلب الزيادة على ذلك بالرؤية، فإن هذا ليس لك.
* * *
(وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (١٤٥) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
2947
وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)
* * *
ذكر الله - سبحانه وتعالى - ما أرسله الله لموسى من رسالات فقال:
2948
(وَكتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ) الألواح هي ما اشتملت عليه التوراة.
وقوله تعالى: (وَكتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ)، فسر بعض رواة الحديث بأن الله تعالى كتب على هذه الألواح، فقد ذكر الترمذي أنه قبض عليه جبريل بجناحه فمر به في العلا وأدناه حتى سمع صريف القلم حين كتب الله تعالى له الألواح.
وإنا لَا نرد خبرا إذا ثبتت صحته عن الرسول، ولا نعلم مقدار صحة هذا، وإن الذي نراه في هذا أن (كَتَبْنَا) معناه فرضنا وشرعنا شرعا ثابتا مقررا ومفروضا في الألواح، وقد تكون قد ألقيت عليه مكتوبة في الألواح.
وقوله: (مِن كلِّ شَيْءٍ) " مِنْ " فيها بيانية، أي كتبنا له كل شيء في أمر الشرع من حيث العقيدة، ومن الشرائع المختلفة. وتكون موعظة، وتفصيلا لكل شيء فيها بيان لنوع ما في هذا الذي كتب وفرض، ففيه العظة والاعتبار بما فيها من أصل التكوين، والإخبار عن الأنبياء الذين سبقوه، وفيه تفصيل أحكام الشرائع تفصيلا مبينا موضحا، لَا يخفى على الذين يدركون، ويطلبون الحق.
وقوله تعالى: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأخذُوا بِأحْسَنِهَا) أي يختاروا أحسنها، وكل حسنٌ، وأحسن، أي اطلبوا الأحسن فيها، فإذا كان واجبا فيه تخيير، فاختاروا الأحسن، فإذا خيرتم بين العقاب والعفو فاختاروا العفو، أو نقول: إن الأحسن وصف للتكليفات كلها، إذ كلها بلغ الأفضل في ذاته، وأفعل التفضيل ليس على بابه بل المراد الأخذ بها كلها، لأن كلها أحسنها، كقوله تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا
2948
أُنزِلَ إِلَيْكم...)، وقوله: (... يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ...)، أي يتبعون الحسن وهو القرآن أحسن القول.
وقوله تعالى: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ)، أي خذها بعزم صادق على تنفيذ أحكامها من غير هوادة، والمراد بالأخذ بقوة لازمها، وهو العمل بقوة وصدق، والأمر لموسى هو أمر لأمته، وصرح بأمر حسن بلغ أعلى درجات الحسن، كما ذكر فقال: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) وأشار - سبحانه - إلى أنه سيكون من يفسق عنها من قومه، وذلك ببيان أنه سَيُرى موسى وخاصته الفاسقين ومكانهم، فقال تعالى: (سَأُرِيكمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) أي: الفاسقين من بني إسرائيل، ومؤدى القول: ستعلم منازلهم وفسقهم ودرجاته.
ويصح أن يقال (١): (دَارَ الْفَاسِقِينَ) هي دار فرعون ومن سبقه من الفاسقين، وعندي أن التخريج الأول أوضح، ويؤكده قوله تعالى بعد ذلك:
_________
(١) في النسخة المطبوعة [سقين] وأظنها وضعت بطريق الخطأ. والله أعلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).
2949
(سَأصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ... (١٤٦)
التكبر في الأرض بغير الحق ولا يكون التكبر بحق قط، وهذا وصف كاشف لبيان مضرة الكبر وفساده أن التكبر يجعل التكبر لَا يفكر إلا في نفسه وما يستعلى به على الناس، فإذا غمره كبره في هذا لَا يرى إلا من ورائه، فلا يتجه نظره إلى ما يجب عليه، بل يتجه إلى ما يحسبه حقا له، وبذلك ينصرف عن الخير منصرفه فيصرفه الله عنه، وهذا قوله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)، فصرْف الله تعالى للمتكبرين نضيجة حتمية لانصرافهم لغمرتهم في الكبر، فهو سبب هذه النتيجة وقوله تعالى: (بِغَيْرِ الْحَقِّ)، هو كشف لحقيقة المستكبرين من الطغاة والحكام، وكل المفسدين في الأرض.
ولقد صور الله تعالى تفكيرهم فقال في نظرهم إلى الحق وإلى الباطل تعالت كلماته: (وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا)، لأن قلوبهم صرفها هواهم عن الحق، فصارت متدرنة بالباطل لَا تستسيغ الحق. إن كل آية، أي آية مهما تكن
2949
واضحة الدلالة بينة الهداية (لا يُؤْمِنُوا بِهَا) لَا يصدقون بها، لأنهم عميت عن الحق أبصارهم، وأصبحوا في صمم عنه، فإن القلب إذا أعمي كره الحق، وغفل عن آياته، ومثل ذلك آل فرعون، جاءتهم العصا فكفروا بها، وجاءت يد موسى بيضاء تلمح بالنور، فأعرضوا، وأصابهم الله بالعذاب، وأصاب أنفسهم وأموالهم وزروعهم، ورأوا آيات فيهم رأي العين، وخضعوا بالحس لله، ولكن ما زالت قلوبهم كافرة فاتجهوا إلى الله رب موسى وربهم، وطلبوا إلى موسى أن يدعو الله ليكشف عنهم، فلما كشف ذهب نور الإيمان، وبقي ما استقر في نفوسهم بسبب الكفر.
وقال تعالى في تصوير نزوعهم إلى الباطل: (وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) إن الرشد يحتاج إلى عزيمة وقوة نفس، وسيطرة على الشهوات، وحمل على الإيثار، ومنع للأثرة، والذين يستكبرون ويطغون فيهم أثره، وفيهم شهوات مستحكمة، وهو غالب، وكما قال محمد خاتم النبيين - ﷺ -: " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ". فلهذا إذا رأى المكذبون سبيل الرشد الذي يعطي لله وللناس حقوقهم فإنهم لَا يتخذونه سبيلا لسلوكهم، وطريق حياتهم لأنه يحتاج إلى بصيرة مدركة، وعزيمة صادقة، وإرادة عاقلة. (وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا)، أي إن يروا سبيل الضلال وهو الغي يتخذوه مسلكا لهم؛ لأنه سبيل الأثرة والهوى والشهوات والطغيان فهو يتفق مع نزعة التكذيب لآيات الله تعالى، والغفلة عن هدايتها، والاستكبار الذي أعماهم عن التأمل فيها، وتعرف أسرار الله في مكنونها.
ولقد ذكر الله تعالى سبب ذلك الضلال الذي يحولهم من الرشد إلى الغي، فقال سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ).
2950
الإشارة في (ذَلِكَ) إلى الحال التي آلوا إليها من استحسانهم للشر وسبيله، واستهجانهم للخير وطريقه (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)، أي بسبب أنهم كذبوا بآيات الله، سارعوا بتكذيب آيات الله، فاجتالهم الشيطان عنها، وساروا منحرفين عنها غافلين عن معانيها، ومن سار في طريق منحرفا عن الخط المستقيم أوغل في الانحراف حتى يضل ضلالا بعيدا، وكلما أمعن في السير أمعن في الضلال، حتى لا تكون هداية، أخذهم الكبر فكذبوا بآيات الله (وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)، ففسدت نفوسهم وأذواقهم حتى صاروا يذوقون المر فيحسبونه حلوا، وفسدت مداركهم، فصاروا لَا يفرقون بين الخير والشر، ولا بين الحسن والقبيح، فإن رأوا سبيل الرشد لا يختاروه وإن رأوا سبيل الغي اختاروه وهكذا إيفت مشاعرهم، وضلت أفهامهم، وإنما يستقيم الفكر إذا استقامت النفس.
ولقد قال تعالى في جزاء الذين كذبوا بآيات الله، فقال عز من قائل:
2951
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧) هذا النص السامي وصف عام لكل المكذبين لآيات الله ولقائه وأخصّ من ينطبق عليهم المشركون الذين كفروا بمحمد - ﷺ -.
قوله تعالى؛ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ).
أنكر هؤلاء أمرين وكذبوهما. أولهما - آيات الله تعالى أي معجزاته القاهرة الباهرة، فلم يؤمنوا بموجبها ولم يصدقوا ما تدعوا إليه من إيمان، وأهملوها، وافتاتوا عليها، فقالوا: سحر مبين، وكذبوا بدلائل الوحدانية فيها فغفلوا عن إدراك ما تهدي إليه.
وثانيهما - كذبوا بلقاء الآخرة، أي بلقاء الله تعالى في الآخرة، أو كذبوا بلقاء الآخرة بأن كذبوا بالبعث وما يعقبه، وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نلهو ونلعب، وما نحن بمبعوثين، وحسبوا أن الإنسان يترك سدى، ونزلوا به عن مكانته
2951
التي خلقه الله تعالى عليها، وجعل الملائكة يسجدون له خاضعين، وحسبوا أن الله خلقهم عبثا، وأنهم إليه لَا يرجعون.
وبسبب هذا التكذيب لهذين الأمرين أصدر الله تعالى الحكم، فقال: (حَبِطَتْ أَعمالهُمْ)، أي بطلت أعمالهم فلا ثواب لهم على عمل، ولو كان فيه نفع ظاهر أو ظاهره النفع؛ وذلك لأن الأعمال ثوابها بحسب القلوب، وما دامت القلوب ممتلئة بالشرك، مدرنة بتكذيب الحق فلا خير فيها، ولا خير منها، فإن إشراق الحكمة لَا يكون إلا من قلب سليم.
ومع أن أعمالهم تكون باطلة لَا ثواب فيها، إلا أن عليهم العقاب فيما يرتكبون، ولذا قال تعالى: (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانوا يَعْمَلُونَ).
الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الوقوع بمعنى النفي، وفيه معنى تأكيد النفي بمعنى أنه لَا يتصور إلا أن يجزون بعملهم، فهو نفي فيه معنى حصر العقاب فيهم.
وفى قوله تعالى: (يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا) فيه بيان عدل الله تعالى في جزائه، فالجزاء من العمل ذاته، فهو الذي يقرره، وكأن الجزاء هو ذات العمل لتساويهما وتلازمهما، إنه العليم العدل الحكيم.
* * *
عبادة العجل في بني إسرائيل
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (١٤٩)
2952
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١)
* * *
عاشر بنو إسرائيل أهل مصر زمانا فأثروا فيهم بأخلاقهم، وإن الضلال يعدى كما تعدى الأمراض البدنية، وقد سرت إليهم عدوى تقديس العجل، وعبادته، كما انحلت عقيدة الوحدانية منهم، وقد أكدها موسى - كليم الله عليه السلام - ولكنهم لما رأوا قوما عكفوا على أصنام لهم طلبوا من نبيهم موسى - عليه السلام - إلها كما لهم آلهة.
وقد ذكر الله تعالى عبادتهم العجل في آيات كثيرة، وكان يذكرها في أكثر الأحيان بالإشارة العابرة، بيانا لضلالهم، وفي هذه يذكرها - سبحانه وتعالى - ببعض التفصيل، ويذكر وقتها وهو أنه كان، وقد غاب موسى لتلقي الألواح، ومناجاة ربه، فجاءهم، وقد اتخذوا العجل، صنعوه من حلي صناعة محكمة وعبدوه، صنعوه بحليهم، وجعلوه على صورة جسد عجل، ومهارتهم في الصناعة التي اشتهرت بها مصرفي ذلك الإبان، وضعوه في وضع إذا مرّت الريح في موضعه من الخلف صار له صوت يشبه خوار البقر وادّعوه إلهًا، ولنتلُ الآيات الكريمة في ذلك:
2953
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ).
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى)، أي فعل بعضهم ذلك وسكت عنه سائرهم، فنسب الفعل إلى كلهم، فقد كان فيهم هارون، وما كان ليرضى ولم يسكت، حتى استضعفوه وكادوا يقتلونه وفيهم صفوة من الفضلاء، كان منهم النقباء.
2953
وقوله: (مِنْ حُلِيِّهِمْ)، أي صنعوا من حليهم، جمعوها وصهروها، وصنعوها على شكل عجل، يعبدونه كما يعبده المصريون و (جَسَدًا) أي جسما، (لَهُ خُوَارٌ)، أي صوت كصوت خوار البقر، لما مهروا في صناعته وفي وضعه، والجسد لم يكن فيه حياة ككل الأجسام، وقد فهم بعض الناس من كلمة جسد أنه كان فيه حياة، والحقيقة أن كلمة جسد تكون بمعنى جسم في كل دلالاتها، وسواء أكان فيها حياة أم لم تكن، وإن استعمال جسد في التعبير عن الجسم كثير في القرآن، ولقد قال الأصفهاني في مفرداته: " والجسد كالجسم، ولكنه أخص، وقال الخليل: لَا يقال الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، وأيضا فإن الجسد ما له لون، والجسم يقال لما لَا لون له كالماء والهواء، وقوله عز وجل: (وَمَا جَعَلْنَاهُم جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ).. وقال: (... عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خوَار...)، وقال تعالى: (... وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ).
والخلاصة أن الجسد بمعنى الجسم، وأنه لَا يشترط في الجسد أن تكون فيه حياة، وأنه يطلق على الجماد. وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكلُونَ الطَّعَامَ...)، أي ما جعلناهم جمادا لَا يحتاج غذاء، بل جعلناهم أحياء يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق. ولقد بين الله تعالى بطلان عبادة العجل وبيان أنه ليس بحي فقال تعالت كلماته: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ)، وفي آية أخرى في غير هذه السورة، فقال تعالى في سورة طه: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٨٩).
وإن ذلك دليل على أنه لَا حياة في هذا الجسد، وإنما هو جماد قد ذكر القرآن أصله وهو الحلي، (اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) فقد ظلموا الحق بعملهم على خلاف التوحيد، وظلموا أنفسهم بعبادة ما صنعوه بأيديهم، وظلموا موسى الذي أنقذهم من طغيان فرعون، وكذبوا آيات الله تعالى الدالة على وحدانيته وأفسدوا تفكيرهم الذي هدى موسى إليه.
2954
ولقد كان من المفسرين أو أكثرهم من أخرجوا كل بيان للقرآن على أنه من خوارق العادة، فزعموا أن العجل كان جسدا حيا، وسرت إليه الحياة من أن السامري الذي صنعه، أخذ قبضة من أثر فرس جبريل، ووضعها في صناعته، فجعلته حيًّا له خوار، وزعموا أن ذلك يؤخذ من قول السامري الذي حكاه القرآن عنه إذ قال: (... فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (٩٥) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦)، فزعموا أن قول السامري فقبضت قبضة من أثر الرسول: أي جبريل. فبض السامري قبضة من أثر فرسه فوضعها في صناعته.
وهذا تأويل بعيد عن الحقيقة، وعن مدلول الألفاظ.
أولا - لأن الرسول، " أل " فيه للعهد، ولا بد من رسول مذكور في السياق أو معهود حاضر في الذهن وهو موسى، وأثره هو شرعه، ونبذه إهماله وتركه، وهو التوحيد.
ثانيا - أنه اعتبر ذلك مما سولت به نفسه الشيطانية.
ثالثا - أن جبريل ما كان طريق خطاب الله لموسى، إذ قال: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا...)، فكان كلام الله تعالى لموسى من وراء حجاب كما قال تعالى: (... وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)، وإن قوله تعالى عن السامري أنه قال: (... بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ...)، أي في صناعة الحلي التي لم يكن غيره ذا بصر بها. وأخيرا إنه لَا حاجة إلى هذا التكلف والإغراب والتقدير.
وتخريج الآية على ما بينا ابتداء هو المعقول الذي لَا يحتاج إلى تأويل به، ولا إلى تقدير كلام مطوي بلا دليل.
2955
وخلاصته أن السامري اتخذ من الحلي شكل عجل، وبمهارة الصناعة وتمكين الرياح من أن تدخل منافذ فيه كان له صوت يشبه صوت البقر وهو الخوار، فعبدوه، وقبض قبضة من أثر موسى وهو التوحيد فنبذه وأهمله.
أدركوا أنهم ضلوا، ولقد حكى الله ذلك فقال:
2956
(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (١٤٩)
وكلمة (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) تستعمل حال الندم، ومثله أسقط في أيديهم، والأفضل سُقِط، وخطأ بعضهم أسقط، وهو مردود لكونه استعمال قرآني، قيل: إن العرب لم تسبق إليه، ومعناه اللفظي سقط تفكيرهم من رءوسهم إلى أيديهم، وصار فيها وذلك أن من يقع في خطأ يندم عليه يضرب كف على كف، وأحيانا يعض على بنانه، وهذا الكلام يدل على أن في الكلام كناية عن الندم لأنه ذكر اللازم الحسي له.
وقد سجل الله تعالى ندمهم بذكر سببه، فقال: (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلوا)، أي علموا علم اليقين أنهم ضلوا ووقعوا في الضلال، فقلدوا أتباع فرعون فيما صنعوا، وأحسوا بأنه لَا منجاة لهم إلا أن يرجعوا إلى ربهم، ويتضرعوا إليه، وقالوا: (لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا) رجوا الرحمة، والرحمة تكون بالغفران، فالغفران هو الرحمة وهي لازمة، وذكر الشيء ولازمه.
وجواب القسم (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) والخسران خسران تفكيرهم بسبب ضلالهم، وخسران الحق، والخسران المبين بشركهم، ولا منجاة من ذلك إلا برحمته وغفرانه.
وهذا الندم أكان بعد حضور موسى من الميقات ولومهم وتأنيبهم، أم كان بعده؛ والظاهر هو الثاني. وقد قال في حال موسى - عليه السلام - عندما رجع: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ... (١٥٠)
أخبر الله - سبحانه وتعالى - موسى أخبارهم، ولما رجع ظهر غضبه عليهم، فقال تعالى: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ)، أي أنه غضب غضبا شديدا، لأن التعبير بغضبان تدل على امتلاء النفس بالغضب، لأن صيغة فعلان تدل على الامتلاء كسكران وشبعان، ونحوها، و (أَسِفًا) أي حزينا، أي أنه غضب لهذا الأمر الشاذ، ولما تفكر في الحال حزن حزنا شديدًا، فالأسف: الحزن. كقول يعقوب: (... يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ...)، أي أنه في حال الحزن الذي لَا حزن وراءه.
قال لهم: (بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي)، أي بئس ما صنعتم خلفي من بعدي وفي غيبتي أي خلفتموني بشر، وهو جدير بالذم، وكان ذلك في غيبتي، فكأنهم خانوه مرتين مرة بهذا العمل الفاسد الضال المشرك، ومرة بأنهم انتهزوا فرصة غيبته وفعلوا ما فعلوا، فكانوا آثمين، إثمين، إثم العمل، وإثم أنهم خانوه في غيبته، وقال: (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) أردتم العجلة في أمر ربكم وذلك خروج عن حدودكم.
(وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ)، التي تلقاها عن ربه مكتوبة مفروضة جانبا، لَا أنه رماها حتى تكسرت كما زعم بعض المفسرين. بل ألقاها جانبا ليفرغ لمناقشة الذين غيروا وبدلوا من بعده، ومن سكتوا عن تغييرهم، وأول مسئول سأله هو أخوه هارون، قال تعالى: (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجرُّهُ إِلَيْهِ) أكثر المفسرين على أنه في غضبه، قد أخذ لحية أخيه وقبض قبضة من شعره يجره إليه، وقالوا: إن ذلك كان متعارفا عندهم، أو لأنه أراد مناجاته، أو أراد أن يسر إليه أمر الألواح، أو أراد نصحه، ونرى ذلك بعيدا عن روح النص، إنما الظاهر أنه أراد لومه لوما شديدا؛ بحسب أنه قصَّر عن مَقْدِرة بدليل رد هارون: (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي). ويصح لنا أن نقول على هذا إنه يصح أن يكون أخذ اللحية وجر الرأس لَا يراد به حقيقته إنما يراد به لازمه، وهو إلقاؤه التبعة عليه لأنه خلفه عليهم، ونهاه عن أن يتبع القوم المفسدين، وأن ذلك كناية عن هذا، لأن ذلك يكون عند اللوم الشديد، وقد اعتذر
2957
لأخيه بأنهم استضعفوه، أي عدوه ضعيفا، أو طلبوا موضع الضعف فيه، وهو أنه ليس المسئول الأصلي، وإنما هو ردْءٌ لأخيه، وقد غاب الأصل، فاستضعفوا خليفته، وقال: (وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي) أي شدد النكير عليهم حتى كادوا يقتلونه، أي قاربوا أن يقتلوه، (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) طلب من أخيه أمرين: أولهما، ألا يتمادى في مؤاخذته فيشمت الأعداء بهارون وهو المداوم على نصرته، وعرض نفسه معه لأذى فرعون الطاغية، الثاني: ألا يجعله في عداد الظالمين، بأن يعتبره ممن عبدوا العجل، أو تهاونوا في استنكاره، فإنه قد قام بحق الخلافة عن أخيه، ولكنهم وقعوا فيما وقعوا فيه بأمر لَا قبل له في دفعه، وهو له مُنْكِر.
ولقد كان موسى - عليه السلام - شديد الغضب، لكنه كان سريع الفيئة؛ ولذا قال راجعا إلى الحق في أمر أخيه معلنا الرضا. فقال:
2958
(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١)
طلب الغفران لنفسه لأنه يحس كما يحس الأبرار بقصور نفسي من تقصير حقيقي، ولأنه ألقى التبعة على أخيه، وما قصر أخوه، وأن يغفر لأخيه، إذا كان لم يحملهم على الجادة، ولم يمنعهم عن غيهم، ثم يقول: (وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ) التي كتبتها للمؤمنين، (وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
وهنا إشارة بيانية في القول فإن هارون قال (ابْنَ أُمَّ) وهو نداء استعطاف واسترحام، وخصت الأم بالذكر؛ لأنها مجتمع الحنان والرفق والمودة بين أولادها.
* * *
جزاء الذين اتخذوا العجل
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣)
* * *
2958
غضب موسى، وغضب له ربه؛ ولذا قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ).
أكد سبحانه وتعالى أن الذين اتخذوا العجل بأن صنعوه بأيديهم، وعبدوه من دون الله فاتخذوه إلها تقليدا وعماية عن الحق، وعن الإيمان بالآيات البينات، حكم الله تعالى عليهم بسبب اتخاذهم العجل فقال: (سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
السين في سينالهم لتأكيد ما ينزل بهم و (غَضَبٌ) حال تقوم بالذات العلية، وهي غير غضبنا، وإن مظهره عذاب شديد، وبعد عن رحمته (... وَلا يُكَلِّمُهمُ اللَّهُ وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ...)، وذلك إذا لم يتوبوا إليه، كما تدل على ذلك الآية التالية لهذه.
وينالهم مع الغضب ذلة، وهي ذلة المبطل إذا ظهر الحق، وتضرب عليهم الذلة إلى يوم القيامة إن لم يتوبوا إلى ربهم، ويرجعوا إليه.
وإن ذلك جزاء الجرمين؛ ولذا قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ)، أي كهذا الذي ينالهم حتما من غضب الله الذي يكون أثره العذاب الشديد، والبعد عنه، والذلة تكون جزاء المجرمين الذين مردوا على الإجرام والمخالفة والعصيان، أي صار الإجرام وصفا ملازما لهم، لَا يخرجون منا، ولا يتركهم؛ لأنهم لَا يتوبون، وقد فتح الله تعالى باب التوبة مما يدل على أن ذلك العقاب هو لغير الذين يتوبون ويعملون الصالحات.
2959
(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣)
" الواو " عاطفة واصلة بين هذه الجصلة وما قبلها، و (السَّيِّئَاتِ) جمع سيئة، وهي ما يسوء الناس، وهو قبيح في ذاته (ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمنُوا) " ثم " هنا
2959
للترتيب والتراخي لبعد ما بين السيئة والتوبة؛ لأن السيئة فعل قبيح لَا يرضي الله - سبحانه وتعالى - والتوبة رجوع إلى الله، فالمنزلتان متباعدتان تباعد البعد من الله بالسيئات، والقرب منه بالتوبة، وقوله تعالى: (تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا) يوحي إلى أن التوبة لَا تكون بعيدة الزمن، كما قال تعالى: (إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ...).
(آمَنُوا)، أي أذعنوا للحق، فكأن التوبة لها ثلاث خطوات هي الشعور بالذنب والندم، ثم التوبة، ثم الإذعان لحقائق الإيمان بحيث لَا يعودون لمثلها أبدا.
وقد وعدهم الله تعالى بقبول التوبة فقال: (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)، أي إن ربك الذي خلقك وكونك من بعد هذه التوبة النصوح (لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) إن هذا بيان لقبول التوبة ببيان وصف قابلها، وهو أنه غفور للذنوب قابل للتوب، وأنه رحيم بعباده يريد لهم التوبة، ولا يريد لهم العقاب إلا أن يصروا إصرارا.
وفى هذا النص تأكيد بقبول التوبة بالتأكيد بالجملة الاسمية، وبوصف الربوبية، وبوصف الغفران والرحمة، وبـ " إن " وباللام في قوله: (لَغَفُورٌ رحِيمٌ).
وإن الله تعالى في القرآن الكريم حيث يذكر العقاب يذكر التوبة وقبولها حتى لَا ييئس المذنب من غفرانه، فينساق في معاصيه وهو يقنط من غفران الله ورحمته، قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣).
* * *
2960
موسى بعد الغضب ينظم الدعوة للإيمان
(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)
* * *
كان الغضب أمرا عارضا لموسى بسبب أن قومه انتهكوا حمى التوحيد، وأشركوا بالله، ولم يغب عنهم إلا أربعين ليلة، فاستطالوها وعجَّلوا به مخالفين أمر ربهم، وبعد أن هذا الغضب، إذ أقام أمر الله ونهيه، وقد كان سريع الفيئة كما روينا أي سريع الرضا، وكذلك شأن النبيين لَا يلج بهم الغضب؛ حتى لا يشغلوا عن الدعوة إلى الحق الذي بعثهم الله تعالى لإقامته.
وقوله تعالى:
2961
(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) يدل على أنه عارض زال فعاد الواجب قويا قائما، بعد زواله (أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا)، أي في المكتوب فيها، وهو الأصل الثابت الذي كتب بأمر الله تعالى، وكأنه - سبحانه وتعالى - هو الذي كتبه (هُدًى وَرَحْمَةٌ)، أي في نسختها الأصلية.. (هُدًى وَرَحْمَةٌ)، أي
2961
هداية إلى الحق في وسط دياجير الباطل والظلمات ورحمة بشريعتها التي اشتملت عليها، فالشريعة في التوراة بأخذها على أيدي الظالمين وإقامة العدل، يكون ذلك رحمة، فالعدل في ذاته رحمة، كما جاء في القرآن الكريم: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ...).
وإن هذه الهداية وتلك الرحمة إنما ينتفع بها الذين يرهبون الله تعالى ويخافونه، والذين يخافون الظلم ويجتنبونه، والذين في قلوبهم رأفة بالناس، ويخافون أن يؤذوهم ويتجنبؤن الأذى، ويخافون عذاب الله، ولذا قال تعالى: (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ).
أي إن الهدى والرحمة للذين هم يخافون الله تعالى ويرهبون عذأبه، فإنه مع رهبة رب العالمين يكون الاتعاظ والازدجار، والانتفاع بالهداية، وتلقي الرحمة؛ واستحقاقها. وقوله تعالى: (لِلَّذينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبونَ) فيه تأكيد لرهبتهم لله بعدة مؤكدات: أولها ضمير الفصل (هُمْ) وثانيها: تقديم (لِرَبِّهِمْ)، ، أنهم لا يرهبون إلا ربهم، ولا يخافون غيره، وثالثها: في قوله (لِرَبِّهِمْ) فاللام هنا تفيد زيادة الرهبة، إذ إن (يَرْهَبُونَ) تتعدى بنفسها دون اللام، فذكر اللام لتقوية التعدي أي لتقوية الرهبة، وهكذا لَا ينتفع بما اشتملت عليه من الهداية إلى الطريق، والرحمة بالانتفاع بنظمها إلا هؤلاء؛ لأن هذه الرحمة لَا ينتفع بها إلا الذين يخافون الله تعالى ويرجون ثوابه ويخافون عذابه فيكونون منه دائما على حذر، فينجون.
بعد أن ذكر الله تعالى الميقات الذي واعد الله موسى عليه، وما كان من عبادة العجل، ولوم موسى لأخيه على عبادة بني إسرائيل العجل، بين الله - سبحانه - اختيار موسى لسبعين من رجال بني إسرائيل يمثلونهم، وكأنه اختار بني إسرائيل كلهم، فقال تعالى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا... (١٥٥)
2962
اختار موسى سبعين رجلا لميقات الله تعالى الذي واعده موسى - عليه السلام - وكأنهم صحبوه في هذا الميقات، ولكن انفرد بمكالمة الله موسى - عليه السلام.
وقد طلبوا أن يروا الله تعالى جهرة، ويظهر أن موسى - عليه السلام - طلب أن ينظر الله تعالى تمهيدا لأن يروه، فقال الله تعالى لن تراني، (... فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا...) وكانت رجفة في ِالأرض خر من أجلها موسى صعقا، وأخذتهم الرجفة.
وانتهى من هذا إلى أن الذهاب للميقات واحد، ذهب موسى ومعه سبعون رجلا اختارهم ممثلين لبني إسرائيل، وهذا ما يمكن أخذه من ظاهر السياق القرآني، وهو أن الميقات واحد.
ولكن يذكر محمد بن إسحاق أن هذا ميقات آخر، وهو أن موسى عندما رأى من عبادة العجل ما رأى، أخذ ميقاتا من ربه، ليذهب هؤِلاء السبعون معه، ويستغفروا ربهم، فقالوا: (... لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ...)، فصعقوا.
وإن هذا الكلام مقبول في ذاته، ولكن لَا نجد له سندا صحيحا من سنة وليس في الكتاب إشارة واضحة إليه ولعله يرشح لهذا النظر قوله تعالى:
(أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا) ولكنه لَا يقطع؛ لأنه ربما يشير إلى أن طلب الرؤية ذاته كان تعديا وسفها، ولذا استغفر عنه، على أن الاستفهام للإنكار، أي لإنكار الوقوع من الله تعالى أي أنت يا رب العالمين لَا تهلكنا بما فعل السفهاء منا، أي بما يكون بسبب خفة أو تسرع.
وهنا إشارات بيانية:
الأولى - أن الله تعالى يقول: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا) وسبعون بدل من (قَوْمَهُ) بدل بعض من كل، ولكنه يشير إلى أن اختيارهم هو اختيار لجميعهم، لأنهم يمثلونهم، وكأنهم هم أنفسهم
2963
الثانية - في قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) نادى الله بعنوان الربوبية أنه لوشاء أهلكهم وأهلك موسى معهم، وذكر نفسه معهم؛ لأن السبب، وهو طلب رؤية الله تعالى، قد اشترك فيه موسى، وتلك مساواة منصفة من كليم الله تعالى موسى مع غيره.
الثالثة - أن الله تعالى هدى موسى لأن يستنكر بنفسه طلبه الرؤية، وظنه أن ذلك سفه أو تسرع، ولكنه ليس بذنب مقصود، وإنما دقة الحس بالإيمان جعل يظن أن ذلك سفه يدخله في جملة السفهاء؛ ولذا قال هذا، وقال من قبل: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي).
الرابعة - من الإشارات البيانية، قوله تعالى: (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ)، أي من وقت الميقات وأنا معهم ثم قال موسى: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ)، الفتنة: الاختبار، وهي مضافة إلى الله تعالى، ومعناها إنك تعاملنا معاملة من يختبرنا في أنفسنا، تهدي بها من تشاء ممن يعتبرون بالعبر، ويؤمنون بقدرتك، ويطيعونك فيما تأمر به وتنهى عنه، ويضل في هذا الاختبار الحكيم، فلا يدرك عظمتك وجلالك، فيضل عن الطريق (أَنتَ وَلِيُّنَا) أي أنت ناصرنا ومعزنا، ومتولي أمورنا، والقريب منا العفو الغفور.
(فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ).
الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كنت ولينا وناصرنا، والقريب الداني منا برحمتك وعفرك، فاغفر لنا ذنوبنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
فإذا كان منا مخالفة فانت خير الغافرين، و (خَيْرُ) هنا للتفضيل، ولكنه في غير بابه، والمعنى أنت غفار بقدر لَا يتصور أن يكون فوقه قدرة، ولا يفاضل بينه وبين غيره.
* * *
2964
(وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ... (١٥٦)
هذه ضراعة إلى الله تعالى إلى أن يوفقهم للخير، وألا يجعلهم من الأشقياء، دعوا ربهم أن يكتب لهم في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة، وحسنة الدنيا هي الحال الطيبة التقية النقية الطاهرة التي تكون غايتها إرضاء الله تعالى، والبعد عن معصيته وفي الآخرة، والدعوة إلى الكتابة في الدنيا، دعوة إلى العمل الطيب، فحسنة الدنيا عمل صالح ونفع وخير، وأن يكون مصدر خير دائم، وفي والآخرة تكون الحسنة جزاء يكون وفاقا للعمل.
ولقد ذكر الله تعالى حسنة الدنيا، وطوى في الذكر حسنة الآخرة؛ لأنها ليست عملا، بل هي جزاء على عمل في الدنيا ثمرة الأولى، فمن حسنت دنياه وكانت للخير، حسنت آخرته، وكانت نعيما مقيما (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ...) وهو لمن اختار النفس والهوى، (وَرَحْمتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وذلك لمن اختار طريق الحق والهداية كما قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨).
وقال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، أي نجد الخير، ونجد الشر وقد أسند العذاب إليه وإلى مشيئته سبحانه لعظم العقاب، ولبيان أنه حق، وأنه من عند الله، وقد كتب العدل على نفسه كما جاء في الحديث القدسي (١)،
________
(١) عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا ".
جزء من ْحديث طويل رواه مسلم وقد سبق تخريجه.
2965
فهو العدل وهو خير الفاصلين، وقدم الله تعالى ذكر العذاب على الثواب، لأنه يكون لمخالفي الفطرة وللتحذير قبل التبشير، ليختار المكلف نجد الخير.
وقوله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَلسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) العموم فيها عموم كامل صادق، وقال سبحانه وتعالى: (كُلَّ شَيْءٍ) ولم يقل كل شخص، للإشارة إلى أن الرحمة شاملة عامة للأشياء والأشخاص، فشريعته عدل ورحمة وإرساله الرسل عدل ورحمة وخلقه الكون وما فيه من شمس مشرقة مضيئة للكون، وقمر منير، ونجوم ذات بروج، وسحاب ورياح مرسلات رحمة، وهكذا كل ما سخره الله تعالى للإنسان، وما مكنه منه رحمة به.
هذه إشارة إلى معنى العموم الذي اشتمل عليه ذلك النص السامي، وما ترمي إليه رحمته، وإن نعيم الجنة رحمة من الله، وقد كتبها الله تعالى للذين يؤمنون بالله وبالآخرة، ولذا قال تعالى: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ).
الفاء هنا لتفصيل بعض العام، والسين لتأكيد المستقبل، و " أكتبها "، أي أسجلها غير قابلة للمحو، وذكر أعمال أو أوصاف من يستحقونها، فكانت خصالا ثلاثا:
الأولى - التقوى واستشعار مخافة الله، وأن يتخذوا وقاية بينهم وبين الشر، وذلك بتهذيب أنفسهم بالعبادات المهذبة للنفس، التي يستشعر فيها المؤمن خشية الله تعالى، وابتدأ - سبحانه وتعالى - بها لأنها أساس قوة الخير، وهي روح التدين، وعمران القلب بذكر الله تعالى.
الثانية - الائتلاف مع المجتمع الإسلامي بالمعونة والبر، وأشار بذلك إلى إيتاء الزكاة، فهي أساس التعاون الاجتماعي، وهو سبحانه يذكرها بجوار التقوى، وهي
2966
الكلمة الشاملة لاكثر العبادات تقريبا لله - سبحانه وتعالى - وإن التعاون الإنساني قرين العبادات، بل هو منها، وأقربها عند الله - سبحانه وتعالى.
الثالثة - أنهم يؤمنون بآيات الله تعالى وحدها، يؤمنون بالمعجزات ولا يؤمنون بما يحيط به المشركون أنفسهم مما يثيرونه من أهواء ومفاسد وجحود، ولذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنونَ) وقد قدم فيه الجار والمجرور على كلمة يؤمنون للدلالة على أنه لَا يصح أن يؤمن بغيرها، والإيمان بآيات الله إيمان بما دلت عليه، وهدت إليه من إيمان بالوحدانية، وحدانية الله تعالى بألا يشرك به شيئا، وأكد سبحانه وجوب هذه الخصلة بثلاثة مؤكدات أولها - أنه كرر الموصول، فإن التكرار تأكيد، فقال: (وَالَّذينَ).
وثانيها - التعبير بالجملة الاسمية.
وثالثها - بضمير الفصل، وأخيرا بذكر كلمة (يُؤْمِنُونَ)، فإن التعبير بالمضارع يفيد استمرار الإيمان وتجديده بالزيادة آنًا بعد آنٍ. جعلنا الله تعالى ممن كتب له رحمته برحمته وغفوانه.
* * *
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)
2967
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)
* * *
إن ذلك القصص القرآني فيه تسلية للنبي - ﷺ -، وشد لعزيمته، وعزاء للنبي - ﷺ - بكفر الأقوام الذين كفروا بالأنبياء قبله كقوم نوح وصالح وهود، وموسى من بعد هؤلاء، وفي هذه الآيات الكريمات مع العزاء الرباني وشد العزم المحمدي، بيان أن النبي - ﷺ -ومبشر به في التوراة والإنجيل، وأن اليهود الذين يعاندون محمدا - ﷺ - مخاطبون، وأنه إليهم جميعا، وأن اتباعه واجب عليهم، وأنهم ينحرفون عن دين موسى - عليه السلام - إن لم يؤمنوا به، وبهديه الذي جاء إلى الخليقة الإنسانية كلها به.
ولذا قال تعالى:
2968
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ).
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) بدل اشتمال منْ قوله تعالى: (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) أو تكون منصوبة على التخصيص، ويكون المعنى أن الذين كتب الله تعالى عليهم الرحمة، الذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم به يؤمنون، ويخص - سبحانه - الذين يتبعون النبي الأُميّ الذي يجدونه إلى آخر الآية الكريمة، وكان تخصيص الذين يتبعون النبي - ﷺ -، لأنهم يؤمنون بكل الأنبياء، ولأنه خاتم النبيين، ولأن شريعته هي الشريعة الخالدة الباقية إلى يوم الدين، وهو خاتم النبيين، فكان أتباعه جديرين بالتخصيص، ولأنهم شهداء على الناس مكلفون تبليغهم والنبي - ﷺ - شهيد عليهم، وهو مبلغهم والشاهد عليهم
2968
بوجوب التبليغ، ونشر الإسلام، والدعوة إليه، من أجل هذا خصوا بالبيان بين الذين كتب الله تعالى لهم الرحمة.
وقوله تعالى: (الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ) نقول في الكلام في معناه: الرسول هو المرسل من قبل واحد إلى واحد أو جماعة، والرسول في القرآن الكريم هو المرسل من الله تعالى لخلقه لتبليغ شريعته وبيان التكليف الذي كلف الناس إياه، والنبي الذي أنبأه الله تعالى، وشرفه بتلقي وحيه، وإن وصف النبي - ﷺ - بالرسالة والنبوة فيه للملزوم واللازم، فإن الرسالة تلزمها النبوة في المعنى القرآني، لأنه لا يعد رسولا إلا إذا كان نبوة عن الله، وقد تلقى العلم عن الله جل جلاله بوحي، أو يكلمه من وراء حجاب أو يرسل رسولا.
وذكرها - أي وصف الرسالة والنبوة - مع هذا التلازم فيه إشارة إلى التبليغ، وإلى أنه يُنبأ من الله تعالى، والأُميّ نسبة إلى الأم، أي أنه جاء في العلم والكتابة كما ولدته أمه، أو نسبة إلى أمه، ذلك أن العرب لم يكونوا أهل علم وكتاب، فلم تغلب عليهم العلوم والكتابة، وإن كان فيهم من يعرفون الكتابة وبعض العلوم، ولذا كان يطلق عليهم الأميون، وذكر القرآن الكريم ذلك الوصف لهم، فقال تعالى: (هُوَ الَّذِي بعثَ فِي الأُمِّيِّينَ رسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ...).
ولقد كان النبي - ﷺ - أميا لَا يقرأ ولا يكتب لتكون الحجة عليهم قاطعة بنزول القرآن الذي فيه علم الأولين والآخرين، وهو لَا يمكن أن يكون من أمي قط، ولذا قال تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨).
ولقد حاول الذين لَا يرجون للإسلام وقارا أن يكذبوا فيدعوا أن النبي - ﷺ - كان يعرف القراءة والكتابة ليشككوا في القرآن، وقد حاول بعض المتحذلقين من المسلمين أن يقول في هذه المقالة الكاذبة فردهم القرآن الكريم ردا عنيفا؛ لأنهم يسايرون الكفار الكذابين.
2969
هذه أوصاف ثلاثة. ووصف رابع ذكره الله تعالى بقوله تعالى: (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ)، وهذا الوصف يدل على أمر بالنص، وهو أنهم يجدون النبي - ﷺ - مذكورا مكتوبا في التوراة والإنجيل، ويدل على أمرين آخرين:
أولهما - وحدة الديانات السماوية فهي تدعو إلى دين واحد، قد تتغاير بعض الفروع، ولكن الأصل واحد. كما قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ...).
وإن اليهود والنصارى قد حرفوا القول عن مواضعه، وغيروا وبدلوا، ولا يزالون يغيرون، ويبدلون على حسب أهوائهم، وقد ظهرت في مصر طبعة لإنجيل متى فيها تغيير عن سوابقها، ولا تكاد تجد نسخة مكتوبة في مصر، تتلاقى في كل أجزائها مع التي جاءت من بعد، يغيرون لفظا بدل لفظ، ويزيدون قيدا أو شرطا، ولا يلمح ذلك القارئ العادي بادي ذي بدء حتى يخفى ذلك على عامتهم بل بعض خاصتهم.
لقد ذكر النبي - ﷺ - بالاسم وذكر بالوصف، فغيروا الاسم وأحاطوه بما يجعله مبهما مع ملاحظة اختلاف اللغة العربية على اللغة العبرية.
ولكن الأوصاف لم يستطيعوا تغيير كثير منها، وهم يحاولون التغيير، ولنأت بنصين أحدهما من التوراة، والثاني من الإنجيل، وهما لم تمتد إليهم أيدي التبديل والتحريف ونرجو ألا يغيرا من بعد.
ما في التوراة - جاء في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية: " جاء الرب من سيناء، وأشرق لنا من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم ".
وصريح أن إشراق الرب من سيناء هو إنزال التوراة، وإشراقه من سعير - وهي موضع بالناصرة - إنزال الإنجيل، وإشراقه من فاران، وهي مكة أو ما
2970
حولها، لأنها التي نزل بها إسماعيل، كما جاء في التوراة نفسها فقد جاء فيها: " أنجبت هاجر ابنا لإبراهيم وكان هذا الابن قرة عينها وبهجة قلبها ولكن سيدتها سارة حاولت إذلاها فاستجارت بزوجها إبراهيم لكنه تركها لسيدها بقوله لها: هو ذا جاريتك، فاشتدت بها إيلاما وإيذاء حتى هربت ترجو النجاة مما ألم بها، فقابلها ملاك الرب في الطريق فقال: ما لك يا هاجر، وقال لها شدى بابنك لأني سأجعله أمة عظيمة، وفتح عينيها، فأبصرت بئر ماء، فذهبت وملأت القربة، وسعت بالغلام فكان الله مع الغلام فكبر وسكن في برية فاران ".
وإشراق الرب في فاران إذن هو إنزال القرآن (راجع رسالة بشرى زخارى ميخائيل بعنوان: محمد رسول هكذا بشرت الأنانجيل).
وجاء في إنجيل يوحنا وهو بعض ما في الأناجيل - التبشير بلفظ " الفارقليط "، ففي الإصحاح الرابع عشر من هذا الإنجيل جاء النص التالي على لسان المسيح: " إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الآب، فيعطيكم فارقليط آخر، ليثبت معكم إلى الأبد، وهو روحُ الحق الذي لَا يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه، ولا يعرفه وأما أنتم فتعرفونه، لأنه مقيم عندكم، وهو ماكث فيكم ".
وجاء في الإصحاح السادس عشر من هذا الإنجيل " لكني أقول لكم الحق، إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لَا يأتكم الفارقليط، فأما إذا انطلقت أرسلته إليكم، فأما إذا جاء فهو يبكتُ العالم على خطيئته وعلى بر، وعلى دينونة. أما على الخطيئة فلأنهم لايؤمنون بي ".
راجع المرجع السابق فهو يبين أن مجيء الفارقليط هو مجيء محمد - ﷺ -.
وصدق الله تعالى: (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوراةِ وَالإنجِيلِ) وقد ذكر الله تعالى ما يقوم به الرسول النبي الأُميّ، دال: (يَأمرهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ).
2971
هذا أحد أمور أربعة خص الله تعالى رسالة محمد - ﷺ - بها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصف عام للشريعة الإسلامية، فكل أمر تأمر به من الحلال، وتكلف الناس أن يقوموا به هو من الأمور التي تقرها العقول، وتعرفها، إذ المعروف الأمر الذي ترضاه العقول، وتراه صالحا مصلحا للناس، تقره وتعرفه بفطرتها، ودين الفطرة يأمر بكل ما يستقيم مع الفطرة، فالعبادات كلها، ومنها الزكاة تقرها الفطرة، والعقل المستقيم، والوفاء بالعهود، وجهاد الأشرار لحماية الفضيلة، وإقامة الحدود، والقصاص من المعتدين تقره الفطرة ويؤيده العقل.
وكل أمر نهى عنه الإسلام هو من الأمور التي لَا تقرها العقول، وتتجافاه، فالزنا والسُّكر، وقذف الأطهار، والاعتداء على الأنفس والمال، ومحاربة العدل، ونصرة الظالمين والرضا بظلمهم أمور تنكرها العقول السليمة وتجافيها. وقد سئل أعرابي أسلم: لماذا آمنت بمحمد؟ قال: ما رأيت محمدا يقول في أمر افعل والعقل يقول لَا تفعل، وما رأيت محمدا يقول في أمر لَا تفعل والعقل يقول افعل.
والأمر الثاني الذي ذكره القرآن مما يفعله النبي - ﷺ - ودعا إليه في رسالته ما ذكره الله تعالى بقوله: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)، والطيبات هي الأمور المستحسنة في ذاتها، من أطعمة طيبة مريئة، هنيئة، لَا تفسد الأجسام ولا تضر العقول، ولباس حسن من غير إسراف ولا مخيلة، ولذات طيبة في حدود الخُلق والمروءة، وتصرفات طيبة لَا اعتداء فيها، ولا نكث وخيانة، وغير ذلك مما هو طيب في ذاته، وحصل عليه بطريق طيب أحله الله تعالى ولا اعتداء فيه ولا اغتصاب.
(وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) وهي الأشياء الخبيثة في ذاتها التي تضر الأجسام، كالخنزير والميتة والدم المسفوح أو تضر العقول كالخمر، أو تلقي بالعداوة بين الناس كالميسر والبغضاء أو الاعتداء على حق غيره بالسرقة والاغتصاب أو القتل، فكل هذه خبائث تدخل في باب الفحشاء والمنكر والبغي، وكذلك أكل أموال الناس بالباطل كالربا ونحوه.
2972
والأمر الرابع ذكره سبحانه وتعالى في قص له: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ) والإصر هو الثقل، والمراد ثقل التكليفات فلم تكن تكليفاتهم يسيرة، بل كان فيها شدة وكان فيهم غلظة في طباعهم، وقسوة في نفوسهم، فكان تشديد التكليف عليهم تهذيبا لهم، وكفا لشَّره في نفوِسهم، فكان لابد لفطمهم عن بعض الطيبات، كما قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ...)، أي هي في أصلها حلال.
وقال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (١٤٦).
ومما رفعه سبحانه وتعالى: (وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) والأغلال جمع غل، وهو ما يوضع في العنق في مخنقة ليثقل ويوضع كذلك تقييدا لحركته وإثقالا عليه، والمراد هنا ما وضع من قيود في الحلال عليهم تهذيبا كتحريم الصيد يوم السبت، ومنع بعض المحللات في ذاتها، ولكنها حرمت عليهم تربية لهم.
والأغلال مجاز عن هذه القيود التي شدد الله بها على نفوسهم لقمعها عن الإسراف في الشهوات، شبهت هذه القيود بالأغلال الحسية؛ لأنها ثقيلة على النفوس المستقيمة، ولكنها علاج للنفوس المريضة السقيمة، وإن شريعة النبي الأُميّ جاءت موائمة للفطرة السليمة جاءت لليسر، دون العسر، وكانت عزاءً للإنسانية كلها لَا فرق بين أحمر وأسود، وهي الباقية ما بقي الإنسان.
وإذا كان محمد - ﷺ - قد جاء برفع الآصار فإن الواجب تأييده ونصره؛ ولذا قال تعالى: (وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر يتضمن الكلام المتقدم فحواه، ومؤدى القول إذا كان هذا النبي الأُميّ ينعم الله على يده عليكم تلك النعم، وهو قد جاء بالحق في ذاته، ورفع عنكم الآصار والأغلال؛ فعزروه أي فوقروه وأيدوه،
2973
وانصروه على من يعادونه، فإن نصرته تأكيد للحق، وشكر للنعمة، وقيام بواجب الحق على أهله.
وكلا الأمرين واجبان بالنسبة للنبي الأُميّ، وهناك واجب أعظم، وهو جماع الإيمان، وفيه تنفيذ أحكام الرشاد، وهو ما قال الله تعالى: (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ)، أي أنزل من عند الله تعالى ومصاحبا لدعوته، مؤيدا لرسالته وهو المعجزة الكبرى الخالدة، وهو القرآن، والتعبير عنه بالنور فيه استعارة فقد شبه بالنور؛ لأنه مبين للحقائق مزيل للجهالات، دافع للأوهام، كما أن النور يزيل غياهب الظلام.
واتباع القرآن اتباع لصراط الله المستقيم الذي لَا عوج فيه، وهو الخلاصة الإلهية للرسالة الإلهية، وهو سجل النبوات جميعا، فيه أحكامها، وأخبارها، ومعجزاتها.
وقد حكم الله سبحانه وتعالى على الذين قاموا بهذه الصفات بأنهم الفائزون في الدنيا باتباع الحق، وأن حياتهم كلها فاضلة وأن تكون حياتهم في الآخرة نعيما مقيما، ورضوانا من الله العزيز الحكيم، وهو أكبر الفوز العظيم، ولذا قال تعالى: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
والإشارة إلى الصفات، يفيد أنها علة الحكم وسببه، أي بسبب هذه الصفات ينالون الفلاح في الدنيا والآخرة، لأن الهداية والاستقامة فلاح لَا يدركه إلا من استقامت إلى الحق نفوسهم.
وقد أشار - سبحانه وتعالى - بالبعيد للدلالة على بعد الشرف، وعلو المنزلة، وقد قصر الله تعالى الفلاح عليهم، بتعريف الطرفين، وبضمير الفصل، أي أنهم المفلحون، ولا يفلح سواهم، والقصر قصر حقيقي، إذ إنهم سلكوا الصراط المستقيم، ومن لم يسلك سبيل الله فقد سلك مثارات الشيطان، وهذا فرق ما بين الهدى والضلال.
2974
وإذا كان ذلك طريق الفوز عند الله، وفي الحياة الدنيا والآخرة فإن الإنسانية كلها مخاطبة بها، ولذا قال تعالى آمرا نبيه بخطاب الناس كافة بهذه الشريعة السمحة البيضاء.
* * *
2975
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)
* * *
إن شريعة النبي الأُميّ هي شريعة الناس جميعا لَا فرق بين أحمر وأسود وأصفر، ولذلك أمره الله تعالى أن يخاطب بها الناس جميعا؛ ولذلك كان الخطاب بقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) لَا فرق بين قبيل وقبيل وجماعة وجماعة، فما كان ما اشتملت عليه رسالتي علاجا لجماعة ظهرت فيها أمراض نفسية واعتقادية ولكن لصلاح البشرية أينما كانوا، وكما قال تعالى على لسان نبيه: (... لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ...). ولذا نادى الناس، ولم يختص بندائه المؤمنين، بل عم بندائه الناس، وأكد هذا التعميم بقوله تعالى: (جَمِيعًا) وبأن الرسالة إليكم معشر الناس أجمعين.
وإن الرسالة السامية ذات خطر وشأن، وتجب طاعتها، والاستجابة لها، وذلك لأنها من الله تعالى: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) فله ملك الكون والسلطان وهو مالك كل شيء دهذا الوصف، لإلقاء مهابة الرسالة في نفوس الناس، فهي رسالة من ملك السماوات والأرض، وله السلطان المطلق فيها، ولا يوجد سلطان مطلق في الوجود لغيره، وهو العزيز الرحيم.
وهو لَا يملك السماوات والأرض وما فيهما من أكوان فحسب، بل يملك كل حي فيها من نبات وحيوان وإنسان، وهو الذي يملك الحياة والموت؛ ولذا قال تعالى: (يُحْيِي وَيُمِيتُ).
2975
وإذا كان له الملك هو مالك كل شيء، ومالك الحياة والموت لكل الأحياء، فإنه الجدير بالعبادة، وحده وهو الذي يكرم رسوله، فمكانة الرسول مستمدة من مكانة من أرسله، ولذا قال تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ) الفاء هنا لربط ما قبلها بما بعدها برابطة السببية، أي ما ذكر من كمال سلطانه في الكون جماده، والأحياء فيه.
والإيمان بالله تعالى هو الإيمان بوجوده، وأنه الخالق الفاعل المختار، وأنه صاحب السلطان في الأكوان والإنسان، وأنه المعبود وحده بحق، ولا معبود بحق سواه، وبعبارة أعم الإيمان بالله وبوحدانيته في الخلق والتكوين والذات والصفات والإيمان بالله تعالى إلها معبودا.
والإيمان بالرسول: التصديق به رسولا من رب العالمين، والإيمان بصدق ما يدعو إليه، وأنه من عند الله العليم الحكيم واتباعه في كل ما جاء به، والاقتداء به، واتخاذه أسوة في العمل الصالح الذي يهدي إليه، ووصفه سبحانه بثلاثة أوصاف تفيد كماله في رسالته.
الوصف الأول: أنه النبي أي الذي يخبر عن الله تعالى، وأن ما يدعو إليه هو ما كلفه الله إياه (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ...).
والوصف الثاني: أنه الأُميّ، الذي ينطق بالفطرة وبالوحي، وأن حاله تدل على صدق معجزته، وأنه لَا علم عنده إلا ما علمه الله تعالى رب العالمين، وإن ما معه من كتاب لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه تنزيل من عزيز حميد.
والوصف الثالث: ما ذكره - سبحانه وتعالى - بقوله: (الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكلِمَاتِهِ) وإيمانه بالله هو ما ذكرنا، وإيمانه بكلماته هو الإيمان بالقرآن، فهو
2976
كلمات الله التامة الكاملة التي لَا يعادلها أو تقارب أي كلام من البشر، والذي تحدى الناس أن يأتوا بسورة منه فعجزوا فقامت عليهم الحجة.
ورجح بعض المفسرين أن كلمات الله تعالى لَا تخص القرآن وحده، وإن كان أكملها، وأبقاها، إنما يشمل الكتب التي نزلت على النبيين من قبل من التوراة والإنجيل والزبور، وغيرهما مما لم يذكره الله - سبحانه وتعالى - وإن هذا يدل على أن رسالة كل الأنبياء واحدة.
وذكر الإيمان بالله وبكلماته في هذا الموضع للدلالة على أنها رسالة واحدة، وهي الإيمان بالله وأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس بوالد ولا ولد.
وإذا كان النبي - ﷺ - على هذه الأوصاف السامية التي اختصه الله تعالى بها فإن الإيمان به واجب، واتباعه اتباع لأمر الله ونهيه؛ ولذا قال تعالى: (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكمْ تَهْتَدُونَ)، الفاء لربط ما قبلها بما بعدها يالإفصاح عن سببيتها لرجاء الاهتداء، والرجاء من العباد لَا من الله تعالى؛ لأن الله تعالى لَا يرجو إنما يرجو عباده، يرجون بالإيمان بالنبي - ﷺ - واتباعه أن يهتدوا إلى الحق والبر، فيهتدوا إلى الجنة وهي نعم الجزاء الأوفى.
والآية دليل على عموم الرسالة المحمدية، وأنه - عليه السلام - بعث للألوان كلها، وكما قال - ﷺ -: " كان كل نبي يبعث في قومه، وإنما بعثت في الأحمر والأسود " (١) وروى مسلم عن النبي - ﷺ - قال: " والذي نفسي بيده لَا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لَا يؤمن بي إلا دخل النار " (٢).
* * *
________
(١) رواه أحمد باقي مسند المكثرين - مسند جابر بن عبد الله (١٣٨٥٢).
(٢) رواه مسلم: الإيمان - وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ (١٥٣)، وأحمد بنحوه: باقي مسند المكثرين (٢٧٤٢٠).
2977
عود إلى بني إسرائيل
(وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)
* * *
إن القرآن الكريم ينصف القلة من الكثرة، فإذا كانت الكثرة طاغية عاتية، وفيهم قلة هادية مرشدة؛ يذكر القرآن الكريم أهل الخير من بينهم، وإن طغى الشر في جمعهم، وصار الفساد هو المظهر فيهم.
ولذا قال تعالى في وسط بيان مآثم اليهود:
2978
(وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَق)، أي ومن هؤلاء الذين كانت فيهم عبادة العجل، وكان منهم من قالوا: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، من هؤلاء جماعة كأنهم أمة وحدها منفصلون
2978
بشعورهم وعقولهم عنها؛ ولذلك عبر بأمة من حيث إنهم قد اجممعوا على طاعة الله وطاعة رسوله موسى، وذكرهم منتسبين إلى موسى، إشارة إلى اتباعهم له، وأنهم قومه الحقيقيون الجديرون بنسبتهم إليه، وهم منه وهو منهم وذكر الله تعالى لهم وصفين هما كمال في كمال:
أولهما - أنهم يهدون بالحق، أي أنهم في وسط انحراف بني إسرائيل إخوانهم وبني جلدتهم ونسبهم يدعون بالحق، أي يعلنونه ويدعون إليه، ويؤمنون به غير محرفين، والهداية بالحق كلمة جامعة للدعوة بكل ما هو خير، يهدون إلى التوحيد، وهو الحق أو من الحق، ويدعون إلى طاعة موسى وهي حق، ويدعون إلى شكر نعمة الله التي أنعمها عليهم، ، ويذكرون آلاء الله تعالى عليهم، ونجاتهم من فرعون، ويعبدون الله وحده.
الوصف الثاني - ذكره الله تعالى بقوله: (وَبِهِ يَعْدِلُونَ)، أي بالحق وحده يزنون كل شيء، فيزنون كل قول وفعل يكون في جماعتهم بميزان الحق وحده لا بميزان الهوى والشهوة، فإنها والحق نقيضان لَا يجتمعان. وقدم الجار والمجرور للدلالة على قصر الحكم على الحق وحده لَا يحكمون بغيره، ولا يتجهون لسواه، وهذا النص الكريم مثله قوله تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣)، وقوله تعالى: (... مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مقْتَصِدَةٌ وَكثِيرٌ منْهمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ).
وهكذا شأن الكتاب الحكيم لَا يدغم الخير في الشر، بل يخص الخير بالذكر، ويخرجه من وسط ظلمات الباطل.
وقد أخذ - سبحانه وتعالى - يعرض من بعد ذلك قصص الذين انحرفوا عن الحق من بني إسرائيل، ومنعوا وصول الحق إلى قلوبهم.
وقد ذكر بعض هذا القصص في آيات أخر، ولكنه سيق لَا لأجل التكرار، بل لأنه تكملة لعبرة جديدة تساق، ولا تذكر مقطوعة عن أصلها، ولأن الذي لم
2979
يذكر في الماضي لَا يتم بيانه إلا بربطه بما مضى من القول، ليكون الكلام بينا ولتكون العبرة واضحة بينة.
ابتدأ سبحانه وتعالى بذكر تقسيمهم إلى أسباط، وشعب بني إسرائيل فقال تعالت حكمته:
* * *
2980
(وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا... (١٦٠)
* * *
قلنا: إنه ليس في القرآن قصة مكررة تكرارا كاملا من غير زيادة، إنما الذي في القرآن يكون التكرار لخبر لم يذكر في القصة في موضع، وبذكر في الموضع الآخر، ويقتضي إعادة أجزاء ذكرت ليكون التناسق بين القصة في أصلها وفي أحداثها، وكذلك الأمر في قصة أسباط بني إسرائيل، فلم يذكر تقسيمهم من قبل هذه الآيات في القرآن، وفي هذه ذكر خبر التقسيم، وحكمته، ذلك أن بني إسرائيل قطعة جماعية واحدة، فرقها الله تعالى أقساما ليعنى كل قسم بنفسه، ويندمج من بعد ذلك في المجموع بالتأليف، فإن الجماعات لَا تصلح بمجموعها ابتداء، إنما تصلح بأجزائها أولا ثم تنضم الجماعات الصغيرة أو الأجزاء بعضها إلى بعض، وتتآلف صالحة متعاونة على البر والتقوى غير متعاونة على الإثم والعدوان؛ ولذلك كان في سنة الاجتماع إصلاح المجتمعات الصغيرة في القرية أو أحياء المدينة، لتتآلف مع المجتمع الأكبر، كما فعل النبي - ﷺ - في الأمة الإسلامية التي ابتدأ بها المجتمع في المدينة، وكما قوى الإسلام مجتمع الأسرة، ليكون بتآلفه قوة المجتمع الأكبر.
قسم الله تعالى بني إسرائيل أسباطا، لتتعاون كما يتعاون أقارب القاتل خطأ في دفع الدية.
والأسباط جمع سبط وهو الفرع من فروع بني إسرائيل، وقال بعض الكتاب: إنه بمنزلة القبيلة في العرب، ولكن على أساس التعاون والمناصرة، لَا على أساس المعاداة بين القبائل والعصبية، كما هو في جاهلية العرب.
2980
وقوله تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) فيه إشارتان بيانيتان:
إحداهما - في التعبير بكلمة (قَطَّعْنَاهُمُ) فإنها تدل على كمال الصلة بينهم، وأنهم كقطعة واحدة، قطعت أجزاؤها وهي متجاذبة يجذب بعضها بعضا لا نفور بينها ولا تنافر، بل تواصل وتراحم بينهم، ولكن ليصلح كل أمره في خيره ويلتقى الجميع على مودة ورحمة.
وثانيتهما - أن قوله: (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) عبر بالجمع الدال على تأنيث المعدود مع أن أسباطا ليست جمعا لمؤنث، بل جمع سبط، وهو ولد الولد ولكن قالوا إنه - سبحانه وتعالى - بعد ذلك قال: (أُمَمًا) على أنها بدل، أي أن هؤلاء الأسباط أمم فلوحظت كلمة أمم، وهي غاية التقسيم، وهي جمع أمة وهي مؤنث لفظي.
وذكر - سبحانه وتعالى - التعبير عن الأسباط بالأمم لمعنى التعاون بين كل سبط كأنه أمة مجتمعة متحيزة متعاونة في الخير، ثم من بعد ذلك يكون التعاون بين أمة بني إسرائيل، وهي الجماعة الكبرى لهم. ولقد ذكر سبحانه أحكاما ذكرت من قبل على أنها نعمة في ذاتها، وتذكر الآن على أنها اجتمعت لطلب النعمة، واجتمع بعضها على الكفر بها، فذكر - سبحانه - ما طلبوه، وذكر - سبحانه - ما أكرمهم به رفعا للألم عنهم.
وأول أمر طلبوا وهم في هذه الصحراء المجدبة الاستسقاء أي طلب الماء لشربهم فقال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) انبجست أي انفجرت، وكلمة انبجست تدل على أن الانفجار كان من حجر، لَا من تراب سهل، وهو موضع من مواضع الإعجاز؛ لأن خروج الماء من الأرض السهلة كثير معهود، ولكن خروجه من الحجر هو أمر خارق للعادة وكانت المعجزة الأخرى أنها انفجرت عيونا على قدر عددهم، وهو اثنتا عشرة عينا، فكان إخبارا بأن كل سبط له عين قائمة بذاتها.
2981
وقد قال تعالى: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أناسٍ مشْرَبَهُمْ) معناها أنه علم كل سبط من الأسباط المكان الذي يشرب منه فلا يتزاحموا على مشرب واحد، فيأخذ كل الماء براحة من غير مشاحة ولا تزاحم.
والنعمة الثانية - أن الله تعالى ظللهم بالغمام ليدفع حر النهار ووهج الشمس، فقال تعالى: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ).
والنعمة الثالثة - أن الله أطعمهم في وسط هذه الأرض المجدبة التي لَا زرع فيها ولا ثمر، فقال: (وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) وقد ذكرنا معناهما في سورة البقرة، وكيف تململوا منها مع طيبها، وجودة غذائها، وأمرهم سبحانه أمر إباحة بأن يأكلوا منها طيبة، فقال تعالى: (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَما رَزَقْنَاكمْ) و " من " هنا بيانية والمعنى كلوا طيبات ما رزقناكم، والمغزى وصفها بأنها طيبة كلها، ومن البيانية دالة على كمال طيبها، وكمال الإنعام بها.
ولكنهم كفروا بالنعمة ولم يقوموا بشكرها، وما ظلموا الله بكفر النعمة، ولكن ظلموا أنفسهم بهذا الكفر لأنه انهواء لنفوسهم، وحط من كراماتهم، وتسهيل للذلة عليهم، لأن الطاعة عزة، والعصيان ذلة لذوي النفوس المدركة، ولذا قال سبحانه: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، أي لم يظلموا إلا أنفسهم، ولذا قدم الجار والمجرور على الفعل، وتأكد ظلمهم لأنفسهم وحدها بـ " كانوا " الدالة على الاستمرار باستمرار عصيانهم، والله تعالى هو العدل الحكيم.
وقد ذكر - سبحانه وتعالى - ما كان منهم من الكفر بهذه النعمة، فقال:
* * *
2982
(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١)
* * *
طلبوا أن يغيروا نوع الطعام الذي أنزله تعالى عليهم، وقالوا: لن نصبر على طعام واحد، وهو الذي كان في الصحراء إذ أنزل عليهم المن والسلوى، فأمرهم الله تعالى أن يدخلوا قرية فيها الطعام الذي يريدونه وقال لهم: (اسْكُنُوا هَذِهِ
2982
الْقَرْيَةَ) التي فيها أنواع من الأغذية فيها فومها وقثائها، وسائر بقلها، وقال لهم مبيحا لهم الطيب منه: (وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ)، أي مكان للنبت شئتم، مما تنبت الأرض، من طعام مختلف ألوانه.
وأمرهم - سبحانه - وقد مكنوا من العيمش الذي يريدونه رغدا أمرين: أحدهما أن يقولوا حطة، والثاني أن يدخلوا ساجدين.
ومعنى حطة: دعاء الله تعالى أن يحط عنهم ذنوبهم التي ارتكبوها، من عبادتهم للعجل، وطلبهم أن يكون لهم آلهة، كما لهؤلاء آلهة، ومن كفرهم الله، ومن قولهم لموسى: (... لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نرَى اللَّهَ جَهْرةً...)، وأمرهم سبحانه على لسان موسى - عليه السلام - أن يكونوا مع ذلك خاضعين خاشعين ساجدين، وهذا ما دل عليه قوله: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سجَّدًا)، أي ادخلوا باب المدينة سجدا، أي خاضعين خاشعين، أي طالبين في ضراعة غفران الذنب.
وقد سرنا في هذا على أن القرية قرية تحقق فيها ما طلبوه من ألوان الطعام، ولكن بعض المفسرين ذكر أنها الأرض المقدسة أو بيت المقدس، فما مقدار قولهم من الصحة.
لقد ذكر الله - سبحانه وتعالى - في سورة المائدة ما يفيد أنهم لم يدخلوها في حياة موسى - عليه السلام - بل دخلوها من بعده فقد قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٠) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (٢١) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (٢٢) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا
2983
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (٢٤) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٥) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٦)
* * *
وإن هذه الآيات الكريمة تومئ إلى أن دخول الأرض المقدسة رغبوا فيه في عهد موسى، ولكن لم يدخلوها في عهده - عليه السلام - ولكن دخلوها في عهد الأنبياء من بعده.
والآيات الكريمة التي نتكلم في معانيها السامية تومئ إلى أن طلب دخول القرية كان في عهد موسى - عليه السلام - لأنه متناسق مع ما قبلها وما بعدها.
ولذا نميل إلى أن هذه القرية غير الأرض، وإن الأرض المقدسة ذكرت بعنوان الأرض المقدسة، لَا بعنوان القرية فإنها ليست ككل القرى.
وقوله تعالى: (نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ) جواب فعل الأمر في قوله: (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبًابَ سُجَّدًا). وقد زادهم الله تعالى نعمة فوق نعمة الغفران، وهي نعمة الثواب، والرحمة بنعيم الجنة، فقال تعالى: (سَنَزيدُ الْمُحْسِنِينَ) والسين لتأكيد الزيادة للمحسنين وهم الذين يؤدون واجبهم، ويخلصون لربهم.
ولكن لم يغفر الله لهم خطاياهم، لأنهم لم يطيعوا وعصوا عابثين بأمر ربهم؛ ولذا قال سبحانه:
2984
(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)
طالبهم الله تعالى بأن يقولوا وهم يدخلون: حطة، أي حط علينا ذنوبنا، فبدلوا ذلك الأمر المعنوي الذي كلفهم الله تعالى، وهو غفار لمن تاب، بدلوه بما يدل على ماديتهم، واستغراق الملاذ الجسمية، فقالوا: " حنطة " أي طعاما، فماضيهم كحاضرهم لَا يطلبون إلا المادة ولا يبغون غيرها سبيلا ولا مطلبا، وكأنهم يستخفُّون بأمر الله تعالى، وطلب غفرانه، ويطلبون ما تهوى أنفسهم، فلا يطلبونه، كما تقول لرجل اطلب مغفرة الله، فيطلب مأكلة لَا مغفرة.
2984
وذلك كفر يضاف إلى كفرهم، ولذا قال سبحانه وتعالى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ).
أي أن الله تعالى عاقبهم عقوبة دنيوية بعذاب أنزله الله تعالى بهم من السماء بأن أرسل عليهم حاصبا يتعبهم ويعذبهم ولا يبيدهم، وقيل لطاعون أصابهم، والله أعلم بما أنزل بهم، وما دام سبحانه لم يبينه، فلنعلمه ولا نفصله؛ لأنه سبحانه لم يفصله، وقوله تعالى: (بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ) أي بسبب ظلمهم، واستمرارهم عليه، فلا يرعوون عن عيهم، ويلاحظ هنا أمران:
أولهما - أن الله - سبحانه وتعالى - نسب تبديل القول إلى بعضهم دون كلهم، فقال تعالى: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) وكأنهم كانوا صنفين ظالما وعادلا، فبدل الظالم ولم يبدل العادل، ولكن في العذاب ذكرهم جميعا، ولم يذكر بعضهم، فهل طغى ظلم الظالمين على غيرهم كقوله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِين ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةَ...). الظاهر ذلك؛ لأن العادلين رأوا ولم يَنْهَوْا، ولا يأخذ الله العامة بظلم الخاصة إلا إذا رأوا الظلم ولم ينكروا.
وثانيهما - أن الذي ذكر في سورة البقرة في هذه القصة: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ...)، ولم يذكر منهم، وقال تعالى: (... بِمَا كَانوا يَفْسُقُونَ)، وهنا (بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ).
وإنه بمجموع الآيتين يستفاد أن الذين بدلوا كانوا الكثرة، فحكم بما يعم لأنه الغالب، وفي الثانية نسب الظلم إلى بعضهم، وإن كانوا الأكثر عددا، والأقوى صوتا.
والتعبير في سورة البقرة بالفسق يدل على الانحراف العقلي والنفسي والخروج عن الحق، وفي هذا الموضع بالظلم وهو الإيذاء بالفعل للنفسر، والكفر، وهما متقاربان من حيث إنه يلزم كل واحد الآخر.
* * *
2985
يوم السبت
(وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (١٦٦)
* * *
الخطاب للنبي - ﷺ - مأمورا بأن يسأل اليهود الذين عاصروه - عليه السلام - عما كان من أسلافهم، ويقرونه ويرضونه، ولقد ذكر - سبحانه وتعالى - اعتداءهم في يوم السبت، وظلمهم فيه. وفي هذه الآية الكريمة يذكر اختبارهم بالحيتان تجيء في هذا اليوم، ولا تجيء يوم لَا يسبتون؛ أي في يوم لَا يكون يوم السبت، وذلك ليعاملهم الله معاملة المختبر لهم حتى يتميز الخميث من الطيب، وحتى تظهر حالهم، ومقدار قوة إيمانهم، وما تخبئه نفوسهم، وما تنطوي عليه جوانحهم.
2986
(وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ)، أي بجواره، يقال حضره إذا قاربه وداناه، فمعنى حاضرة البحر مشرفة عليه دانية منه على سيفه، وقد سجل الله تعالى في هذه الآية أمورا ثلاثة:
2986
أولها - أنهم كانوا لَا يحترمون السبت، ولا يلتزمون حدوده، وهذا معنى قوله تعالى: (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ)، أي في الوقت الذي كانوا لَا يلتزمون حدوده، بل يعدونه ويتجاوزون ما أمروا فيه.
وثانيها - إن الله تعالى يكشف حالهم، ويعاملهم معاملة المختبر لهم، (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ) " سبتهم " فيه إضافة اسم اليوم إليهم لأنه اليوم الذي فرض عليهم ألا يقوموا بالصيد، وقوله: (وَيَوْمَ لا يَسْبِتونَ)، أي لَا يكونون في يوم السبت، أي لَا يدخلون في السبت الذي يمنعون فيه من الصيد، والمعنى أنهم في يوم السبت تأتي حيتان السمك (شُرَّعًا)، أي شارعة معلنة نفسها، اختبارا لهم، ويوم لَا يكون الصيد محرما عليهم لَا يأتون.
وقد اختبرهم الله تعالى ليكشف حالهم، ويهذبهم بأمرين: بتحريم الصيد يوم السبت ليفطموا شهواتهم ويقرعوا نفوسهم الشرهة، والسلطة عليهم، وثانيا - بأن تأتيهم حيتان السمك شرعا، لتثور شهوتهم ويقمعوها إن كانت فيهم إرادة، فإن لم تكن ربوها وهذبوها، وقدعوها عن شهواتها استجابة لأمر ربهم؛ فالنفس الشرهة التي تسيطر عليها الشهوة لابد من فطمها.
وثالثها - أن الله تعالى ذكر أنهم كانوا يعدون في السبت، فمنهم من كان يتناول المحرم في السبت غير متأثم ولا متحرج ومنهم من يحتال، وقالوا: إنه كان يحفر حفرة بجوار البحر، ويعمقها فإذا جاءت حيتان السمك شرعا يوم السبت نزلت في هذه الحفر، فإذا جفت بعد قطع الماء عنها لَا تستطيع الخروج، فيأخذونها بأيديهم، وتلك حيلة تفوت معنى تقوية النفوس وتربيتها، وهم بذلك يعدون يوم السبت، لأنهم يخرجون بذلك عن الابتلاء الذي يكشف الله به نفوسهم.
ولقد قال تعالى في حكمة تحريم الصيد يوم السبت، وإتيان حيتانهم شرعا فيه: (كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)، أي كهذا الذي صنعناه معهم من تحريم
2987
السبت ومجيء الحيتان فيه - نعاملهم معاملة المبتلى المختبر لتهذب نفوسهم وتربي إرادتهم، وذلك بسبب استمرارهم على الفسوق، وانحراف النفوس وخضوعها لشهواتها، ولأجل تعويدهم ضبط النفس، والصبر على الحرمان، فإن الصبر نصف الإيمان.
وإن الله تعالى وصاهم، ودعاهم إلى الهدى، وشرع لهم ما يصقل نفوسهم ويهدي قلوبهم ولكن كتبت عليهم الشقوة فلم يهتدوا، ولقد شعرت بذلك أمة شهم، فقال - سبحانه وتعالى - عنها:
2988
(وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا... (١٦٤)
الأمة هي الجماعة المؤتلفة التي تجمعها فكرة واحدة وشعور متحد، بحيث يوائم كل واحد فيها من معه، و " إذ " ظرف زمان ماض، والمعنى اذكر يا محمد ذلك الوقت الذي هم فيه بلغ اليأس من اهتدى منهم حتى قالت منهم جماعة مهدية يائسة من إيمانهم، منكرة وعظ من يعظهم: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا)، والوعظ بيان الحق مقارنا بمغبة الباطل ذاكرا ما ترتب على الباطل من أذى لأهله، وهلاك لمن استمسكوا بالباطل استمساكا وتركوا الحق وانحرفوا عنه، والعاقل من اتعظ والجاهل من يأبه ولا يتعظ. يستفهم هؤلاء المهديون مستنكرين، أو متعرّفين الغاية، لم تعظون قوما قد تضافروا على الشر، وتقرر هلاكهم وهم على ضلالهم، وبعد هذا الهلاك يعذبهم عذابا شديدا، ما الباعث على ذلك، فيجيبهم فريق ممن اهتدوا وهم الواعظون: (قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ)، أي يجب علينا أن نعظ لنعتذر إلى ربنا بأننا قمنا بحق بيان الهدى والنور، وليكون استحقاقهم الهلاك على الضلال بعد بينة أقيمت وحق أعلن، ونقدم هذه المعذرة إلى ربنا عن ضلالهم.
وهذا كله على أساس أن المستفهمين مهديون وهو الأنسب لمعنى الآية، وفرض بعضهم أن المستفهمين هم الذين وقعوا في الضلالة، وكأنهم يقولون إنكم
2988
تحسبون أننا هالكون ومعذبون، ونحن مصرُّون، فاتركونا بضلالنا، حتى نلقى جزاءنا بزعمكم، ويكون الاستفهام لإنكار الواقع، وتوبيخ الواعظين على وعظهم.
وإن ذلك تحتمله الآية الكريمة، ولكنا نميل إلى الأول، وقد قسم القرطبي في تفسيره اليهود إلى ثلاثة أقسام، ونسب التقسيم إلى جهود المفسرين، فقال: " قال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق، وهو الظاهر من الضمائر في الآية؛ فرقة عصت وصادت (أي يوم السبت). وفرقة نهت واعتزلت، وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص، وأن هذه الطائفة قالت للناهية: لم تعظون قوما - تريد العاصية - الله مهلكهم، فقالت الناهية موعظتنا معذرة إلى الله ".
وإن هذا تقسيم حسن، وإن الذين اعتزلوا، ولم ينهوا، وإن اهتدوا وأطاعوا، لم تتم طاعتهم وهدايتهم لأنهم لم ينهوا العاصين، وكمال هدايتهم في نهيهم، فالتناهي عن المنكر مطلوب من الذين اهتدوا. ولقد قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩).
وإن المعذرة التي قام بها الناهون يرفعونها إلى ربهم تقربا إليه بقول الحق والدعوة إليه، والقيام بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورجاء أن يتقوا أو يخافوا العذاب، ويتوبوا إلى الله، ويقلعوا عن الذنوب التي وقعوا فيها؛ ولذا قال تعالى عنهم: (وَلَعَلَّهمْ يَتَّقونَ) ويكون الرجاء من هؤلاء، على حقيقة الرجاء؛ لأنه من المكلفين في شأن مكلفين.
وإن ذكر الذين لاموا الناهين، وإجابة هؤلاء فيها دعوة للنبي - ﷺ - إلى الاستمرار على دعوته ومداومة موعظته، ولو كان المشركون يعاندون، ويصرون على شركهم (... إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ...)، فعليه أن يستمر على دعوته، ولو كانت حال موئس من الاستجابة فإن الله تعالى قد يغير من حال إلى حال.
2989
وقد عصوا أمر ربهم، وذكروا بموعظة قومهم فنسوا ما ذكروا، ومنهم من لم ينس فقط، بل استكبروا عاتين عن أمر ربهم، وقال تعالى في مؤاخذتهم فابتدأ بمن عتوا فقال تعالى:
2990
(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥)
" الفاء " هنا لارتباط ما بعدها بما قبلها، أو للإفصاح عن شرط مقدر تقديره وإذا كان النهي من الناهين وتقدير المعذرة لرب العالمين، فقد كان استقبالهم لذلك، بين قوم نسوا ما ذكروا، ومن ذكروهم.
والنسيان غفلة العقل عن تذكر ما نبه إليه، وقد يكون غفلة النفس عن إدراك ما ذكرت به، والنسيان غفلة النفس عن الحق بعد التذكير به، والمعنى حينئذ: ولما غفلوا عن الحق وأهملوه تاركين له كان أولئك بين يدي الحق - فريقين: فريق نهى وذكر، وفريق غفل الحق وأهمل، وذكر ما يستحق كل فريق:
فقال فيمن ذكر ونهى: (أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ)، أي عن الفعل الذي هو سيئ وليس بحسن في شيء، فهو سيئ في ذاته، وسيئ إلى الناس فيفسد جماعتهم، وإلى النفوس فيمرسها بالباطل، والحق فينكره، وتسوء عقباه بالعذاب يوم القيامة.
أنجاهم الله تعالى لأنهم اهتدوا، ودعوا العصاة إلى الهداية فقاموا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وأما الذين نسوا الذكر وغفلوا عنه وأهملوه فإن الله تعالى قال فيهم: (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
بئيس مشتق من البأس، وهو الشدة والقوة، فالعذاب البئيس هو العذاب الشديد العنيف في ذاته الذي يلقي بالبؤس في ذاته.
وعبر الله تعالى عن الذين نسوا ما ذكروا به بـ (الَّذِينَ ظَلَمُوا) لأنهم إذ نسوا ما ذكروا به استمرءوا الشر الذي وقعوا فيه، وأدى بهم ذلك إلى ظلم أنفسهم والناس والحق، فكانوا ظالمين، وكان العقاب الشديد البأس في ذاته بسبب ذلك
2990
الظلم لأن صحلة الوصول في (الَّذِينَ ظَلموا)، وهذا الظلم هو سبب العقاب الشديد.
وقوله تعالى: (وَأَخَذنَا الَّذِينَ ظَلَموا) أي: أخذناهم من مراقدهم مصحوبين بعذاب شديد، فالباء للمصاحبة كقول القائل لمن أساء أخذناه بالعقاب، أي أخذناه مصاحبا للعقاب.
وذكر - سبحانه وتعالى - سبب ذلك الأخذ الشديد، فقال: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)، ، أي بسبب استمرارهم على الفسق الذي كان يتجدد ويستمر، والفسق الخروج عن الحق.
وقد وصفهم الله تعالى بوصفين؛ وهما الفسق والظلم، والفسق هو الانحراف والخروج من نور الحق، والظلم ما ترتب على ذلك من إيذاء أنفسهم وإيذاء غيرهم.
ولقد ذكر - سبحانه - أن أولئك الظالمين عتوا عن أمر ربهم، وبذلك خرجت نفوسهم عن أن تكون نفوسا آدمية، تدرك الحق وتعمل به، إلى خنزيرية شهوانية، تنزو نزو القردة، وتغلظ غلظ الخنزير، حتى لَا تسمع هاديا، ولا تجيب داعيا.
قال تعالى:
2991
(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (١٦٦)
العتو: الاستكبار وتجاوز الحد في الظلم، مستكبرين سادرين في الباطل صادين عن الحق جاعلين الدعوة إليه دبر آذانهم، لم يكن ثمة سبيل لهدايتهم، فكان اليأس منهم، ويقول تعالى في نتيجة ذلك: (قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) وقلنا هنا هي مقالة التكوين، أي جعلنا نفوسهم نفوس قردة نارية لَا تجدي فيها موعظة، ولا تهتدي بهداية، فهي كنفس القرد في شهواته ونزواته وانسياب نفسه في الشر من غير اعتبار بموعظة، ولا إدراك الحق ولا إيمان.
2991
وقوله: (خَاسِئِينَ)، أي مطرودين لَا يسمع لهم ولا يلتف إليهم، وهنا شبههم بالقردة، وفي آية أخرِى شبههم بالقردة والخنازير فقد قال تعالى: (... وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِير...)، ومن بيانية أي جعلناهم قردة وخنازير.
وإنهم بسبب فساد نفوسهم، وتجردهم من الإنسانية المهدية جعلهم الله تعالى أذلة في الأرض فأذن الله تعالى لهم بمن يسومهم سوء العذاب.
* * *
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)
* * *
في هذا القصص عبرة لأولى الأبصار، وفي أخبار بني إسرائيل العبرة الكبرى، إذ تقلبوا في النعيم، وعوقبوا بالنقم - فلم يشكروا النعمة، ولم تردعهم النقمة، وضلوا ضلالا بعيدا، ولذلك ساق الله تعالى أخبارهم للنبي - ﷺ - لتكون سلوانا له في معاندة المشركين الجاحدين، وتذكير النبي - ﷺ - بأحوالهم كثير في القرآن الكريم.
2992
(وَإِذْ) في قوله تعالى:
2993
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) هي دالة على الوقت، ومتعلقة بمحذوف تقديره اذكر، أي اذكر أيها النبي ذلك الوقت وتذكر أحداثه، واعتبر به في قومك وغيرهم ممن ناوءوك ويناوئونك ويعاندونك ويحاربونك، وتذكر هذه الأحداث من بني إسرائيل، واعتبرها في بني إسرائيل الذين عاصروك، ويعاندونك ويتمالأون مع المشركين في عداوتك ومحاربتك.
و (تَأَذَّنَ رَبُّكَ)، معناها آذنهم بقوة وشدة، فتاذن بمعنى أذن بشدة، ولشدة الإيذان والإعلام كانت متضمنة معنى القسم؛ ولذلك كان فيها لام القسم، وفيها نون التأكيد التي تلازم جواب القسمِ (لَيَبْعَثَنَّ) جواب القسم أو في معنى جواب القسم (عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ)، وعدَّى بـ " على " دون " اللام " للإشارة إلى علوه عليهم وتغلبه وسيطرته، وأنهم يكونون دونه وهو فوقهم مستعليا قاهرا.
و (يَسُومُهُمْ) يعني يذيقونهم (سُوءَ الْعَذَابِ)، أي العذاب الذي يسوؤهم، ويؤذيهم، ويكون عاقبة سوء لهم، وبئس المصير، وقد صدق وعد الله تعالى فإنه قد سيطر عليهم وعذبهم في الأرض من الشرق بختنصر والكلدانيون، ومن الغرب الرومان قبل بعث المسيح وبعده، وكانت الذلة مفروضة عليهم، واصطنعوا مع الرومان النفاق وهو صنيع الأذلاء، فنمُّوا على السيد المسيح عند سادتهم ونجى الله تعالى عيسى من الفريقين الغالب والمغلوب والقاهر والمقهور، وأذاقهم الرومان من بعد أن دخلوا في النصرانية، أكؤسا من الذل والهوان، واستمروا في أوربا أذلاء مقهورين يتَّسمون بالخسة والهوان، حتى وإن الأوربيون في أنفسهم مثلهم، ولقد صدق الله تعالى إذ يقول: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (٥) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (٦).
2993
وقد يقول قائل: إن لهم في هذه الأيام غلبا، فهم يسيِّرون دفة الأمور في الأرض الجديدة، وإن كانوا عددا قليلا، وهم يتحكمون في مال الدنيا وخيراته، وهم قد اقتطعوا من أرض العرب قطعة طاهرة مقدسة.
ونقول في ذلك: إنها فترة صغيرة في حكم الزمان، وعرض من أعراض الحياة الفاسدة في الأرض، وهم الأذلاء وإن بدوا في غطرسة، فمن يستمد القوة من غيره ذليل، ولو حكم وملك، ولقد قال تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفوا إِلَّا بِحَبْلٍ منَ اللَّهِ وَحَبْل مِّنَ النَّاسِ...).
ولقد صدق الله إذ يقول: (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ)، أي إن العقاب الذي ينزله تعالى سريع مؤكد وقوعه، والسرعة هنا تطوى في ثناياها معنى الشدة، لأنه يفجؤهم من حيث لَا يحتسبون، ويجيئهم من حيث لَا يتوقعون فيكون أشد وأقسى.
وإنه - سبحانه وتعالى - بجوار عذابه للمعاندين الكافرين المستكبرين تكون رحمته ومغفرته للمؤمنين المتقين، ولذا يقول تعالت كلماته: (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رحِيمٌ)، أي أنه يغفر الذنوب جميعا برحمته، وقد أكد غفرانه ورحمته بالجملة الاسمية، وبإن، وباللام في خبر إن، وكذلك كان تأكيد العقاب.
وقد تفرف بنو إسرائيل في الأمم، وكان منهم الصالحون، ومنهم القاسطون، ولذا قال تعالى:
2994
(وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ... (١٦٨)
إن الله تعالى كتب على المعاندين من بني إسرائيل الذلة إلى يوم القيامة، وحكم فيهم القاهرين من المغول، والرومان، وأهل أوربا، حتى ضلوا بهم، ومن أخذهم برفق أخذوه بالعنف والدس اللئيم. أشار - سبحانه - إلى أنه كان من بعد موسى أخيار صالحون، وأشرار فاسدون، فقال: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أممًا)، أي فرقناهم في الأرض أمما، أي جماعات منفصلة عن غيرها، كأنها أمم قائمة بذاتها،
2994
والتعبير بـ (قَطَّعْنَاهُمْ) يدل على أنهم وإن دخلوا في أمم أخرى في الأرض متصلون بعضهم ببعض، وكذلك الأمر في شأنهم كما نراهم حتى اليوم، وإن هذه الجماعات التي تفرقت كانت في الماضي (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) قائمون بالحق آخذون به مهتدون بهدْي الكتاب الذي نزل على موسى - عليه السلام - (وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ)، أي دون الصلاح، أي ليسوا صالحين، وعبر سبحانه بقوله: (دُونَ ذَلِكَ) للإشارة إلى أن الصالحين في المنزلة العليا مهما يكن حالهم من فقر أو غنى، وأن غير الصالحين في المنزلة الدنيا مهما كانوا من سطوة ومهما يكونوا من غنى وقوة، فالصلاح له العلا، والفساد له المنزلة الدنيا مهما يكن حال أهله.
ويذكر - سبحانه وتعالى - أنهم وهم متفرقون في الأرض إنما يختبرهم سبحانه بالحسنات، فإن شكروها كانوا صالحين، وإن كفروها كانوا في المنزلة الدون، ويختبرهم بالأمور التي تسوء فإن صبروا أُجِروا، وإن جزعوا فإن اعتبروا اهتدوا، وإلا فهم في ضلال بعيد، وذلك كقوله تعالى: (... وَنَبْلُوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً...).
والحسنة هي الحال الحسنة كالخصب وتوفير الرزق، والاطمئنان. والسيئة الحال التي لَا تسر، بل تسيء كالجدب والآفات، والله - سبحانه وتعالى - هو الحكيم الخبير.
وإن ذلك الاختبار بالحسنة والسيئة وتوالى الأمرين، والضراعة في حال النقمة، رجاء أن يوفوا قدره وأنه هو الذي ينفع ويضر، وأنه هو القادر على كل شيء، وإذا عرفوا ذلك وآمنوا به رجعوا إلى الحق ورجعوا إلى ربهم واهتدوا؛ ولذا قال تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، أي أن الله - سبحانه وتعالى - عاملهم معاملة من يريد أن يرجعوا إلى جنابه الأعلى وساحته العليا، فيهتدوا بعد بُعْدٍ عنه سبحانه.
كان هؤلاء فيهم الصالحون ومن هم دون ذلك، وكلما تقادم العهد وطال بينهم وبين موسى - عليه السلام - قست فلوب الأكثرين، ولذا كان الأكثرون من
2995
الأخلاف فيهم الشر أوضح، وقال تعالى في ذلك:
2996
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ... (١٦٩)
إن الذين سبقوهم كان منهم الصالحون، ومنهم دون ذلك، أما الذين جاءوا من بعدهم فالشر قد غلب فيهم وظهر على سطح جماعتهم، واختفى الخير، وإن كان موجودا فهو في كِن غير ظاهر، وصار جوهم العام فاسدا، والعبرة في فساد المجتمعات أن يكون الفساد هو الظاهر، والحق مختفيا وإن كان موجودا وقائما، ولكنه مغلوب.
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) - الخلف بالسكون العقب الذي لَا خير فيه، ومن ذلك قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩).
وقد قال الله تعالى فيهم أمورا تثبت وهن اعتقادهم وفساد أعمالهم: ذكر أولا أنهم ورثوا الكتاب أي جاءهم علم الكتاب، وهو التوراة، بالوراثة لا بالتلقي، فلم يفتحوا له صدورهم ولكن جاء إليهم من غير أن يتدارسوه ويتقبلوه، والشيء الموروث الذي لَا يقوم عليه وارثه يكون حجة عليه، ولا ينتفع وذكر ثانيا نظرهم إلى هذا الكتاب ونظرهم إلى الدنيا وعرضها، إذ ينظرون إليه على الغرض المقصود، والمطلب المنشود؛ ولذا قال سبحانه عنهم: (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى) - أي يأخذون عرض هذا العيش الأدنى وهو أدنى معيشة في الحياة، أي يطلبون أدنى ما في الحياة من متاع، ويطلبون المتاع الأدنى وهو الحرام، ويستمرئونه فيأكلون السحت والرشوة والربا ويتناولون الحياة في صورتها المحرمة، ويحسبون أن الاستغفار يمحو ما فيها من عصيان، ولا يتوبون توبة نصوحا، إذ إن من أركان التوبة النصوح ألا يعود إلى الذنب الذي اقترفه، ولكنهم يعودون؛ ولذا
2996
يقول سبحانه: (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ)، وهكذا يتوالى أخذ الآثام والاستغفار عنها، ولا توبة ولا إقلاع من قلوبهم.
وإن التعبير عن متع الحياة التي يأخذونها بقوله تعالت كلماته: (يَأخذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى)، والأدنى هو مذكر دنيا، أو دنيا مؤنث أدنى، والعرض هو الأموال التي ليست دراهم ولا دنانير، ولكنها أهون من ذلك فهم يتخذون عرض الأدنى من الأموال، إما لضآلتها وإما لخبثها وخبث كسبها كالميسر، والربا والرشوة والسرقة. يفعلون ذلك ويقولون: (سَيُغْفَر لَنَا)، وكأنهم متأكدون من ذلك من غير توبة ولا استغفار. ويتوالى ذلك منهم، كما حدث في عصور ضعف الإيمان، إذ يقولون: إن الذنوب تغفر ولو أصروا عليها.
ولقد روى في ذلك عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: " سَيَبْلَى الْقُرْآنُ فِي صُدُورِ أَقْوَامٍ كَمَا يَبْلَى الثَّوْبُ، فَيَتَهَافَتُ، يَقْرَءُونَهُ لَا يَجِدُونَ لَهُ شَهْوَةً وَلَا لَذَّةً، يَلْبَسُونَ جُلُودَ الضَّأْنِ عَلَى قُلُوبِ الذِّئَابِ، أَعْمَالُهُمْ طَمَعٌ لَا يُخَالِطُهُ خَوْفٌ، إِنْ قَصَّرُوا، قَالُوا: سَنَبْلُغُ، وَإِنْ أَسَاءُوا، قَالُوا: سَيُغْفَرُ لَنَا، إِنَّا لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا " (١).
وهكذا تكون الحال، إذا ضعفت القلوب والهمم وضعف الإيمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ينسون المواثيق التي أخذت عليهم؛ ولذا يوبخهم القرآن الكريم.
وإن كل المحرمات هي العرض الأدنى في هذه الحياة؛ لأن الله ما حرمها إلا لخبثها، ولأنها أدنى طرق الكسب، فالكسب الطيب يكون من كرام الرجال، ومن العرض الطيب، وليس الأدنى.
وقد بين الله تعالى أنهم كان في نفوسهم خبث، وطلبوا خبث الكسب والأدنى في الحياة مع أنهم أخذت عليهم المواثيق بأن لَا يقولوا على الله إلا الحق؛ ولذا قال تعالى: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ).
________
(١) رواه الدارمي هكذا موقوفا على معاذ بن جبل: فضائل القرآن - تعاهد القرآن (٣٣٤٦).
2997
الاستفهام للإنكار بمعنى النفي والتو بيخ، وقد دخل الاستفهام على المنفي بـ " لم " ونفي النفي إثبات، فالمعنى قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب، وهذه الصيغة فيها تأكيد لأخذ الميثاق بإقرارهم كأنهم سئلوا ذلك، وأجابوا بالإيجاب، ولأنه يتضمن استنكار وقوعهم في مخالفة الكتاب وترك الأخذ بميثاقه، أي أحكامه المؤكدة الموثقة عليهم التي توجب الطاعة (أَن لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) أي فحصوه وعلموه وأدركوا مغازيه وما يرمي إليه، ويدعوهم الله فيه، فما فعلوا ذلك عن جهالة بل قد قدمت لهم أسباب العلم كاملة، وإذا كانوا قد أهملوا الأخذ بها بعد بينة تجعلهم يحملون التبعة كاملة غير منقوصة.
ويلاحظ هنا بعض عبارات تشير إلى حقائق ثابتة:
أولاها - أن الميثاق الذي أخذ عليهم ألا يقولوا على الله إلا الحق مع أن ما فسقوا به عن أمر ربهم أمور عملية، وخلاصتها أنهم يأخذون بالعرض الذي هو أدنى وهو عمل لَا قول، ونقول في الإجابة عن ذلك:
أولا - أنه ساد فيهم الكذب على الله والادعاء عليه كقولهم: (... نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبًاؤُهُ...)، وذلك بلا ريب غير الحق، قالوا على الله تعالى كذبا وافتراء عليه، فخالفوا الميثاق الذي أخذ عليهم بألا يقولوا على الله إلا الحق.
وثانيا - أن فعل الباطل يسبقه قول باطل يحسنه، فالنفس المنحرفة يبتدئ انحرافها في الفكر، فيدفع إلى القول الباطل يزين الفعل الباطل، والذين يغيرون الشرائع يبتدئون بتزيين مخالفتها وتسهيلها فيقولون أولا على الله غير الحق، ثم يفعلون الباطل المنهي عنه، فالقول ذريعة العمل.
ثانيها - أن العصاة دائما يغرهم الغرور، فيغلب عليهم الطمع من غير عمل على الخوف الذي يدفع إلى العمل، فهؤلاء بنو إسرائيل طمعوا في الله دائما حاسبين أنه لَا يعذبهم وأهملوا أمره ونهيه، وكانوا مثلا للفاسدين، فكان من التربية للنفس المؤمنة أن تغلب الخوف من العذاب، على رجاء الثواب.
2998
هؤلاء اختاروا الدنيا، وأخذوا بأدنى ما فيها، وهي خبائثها ومحرماتها، فكانوا أشد لهجة من غيرهم، بل من بعض الذين لم ينزل عليهم كتاب سماوي به مواثيق أخذت عليهم وتدارسوه.
ونسوا الآخرة، وما فيها من نعيم مقيم لمن أطاع، وعذاب أليم لمن ضل وغوى، وقد ذكَّر الله تعالى بها في مقام نسيانها فقال تعالى: (وَالدَّارُ الآخِرةُ خَيْر لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ)، أي أنها في أعلى درجات الخير للذين يتقون الله وامتلأت قلوبهم بذكره، فأعرضوا عما نهى عنه، وطلبوا ما أمرهم به.
وخاطب الله بني إسرائيل بما يدل على أن غوايتهم وأهواءهم أفسدت عقولهم، فصاروا لَا يدركون، فقال تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الفاء هنا لترتيب إنكار أن يعقلوا على ما يفعلون، وأخرت عن همزة الاستفهام؛ لأن الاستفهام له الصدارة بحكم تنسيي القول العربي، والمعنى فانتم لَا تعقلون؛ لأن الاستفهام إنكاري توبيخي، فهو تأكيد لحضهم على التفكير، وتوبيخ على عدم التفكير في عواقب أمورهم، وإن العذاب يستقبلهم بسوء ما يفعلون.
هذا شأن العصاة منهم، وهم الأكثرون؛ إذ فعلوا الشر، ولم يستنكر أكثرهم، ولقد ذكر من بعد ذلك الصالحين بعد أن ذكر فضل الدار الآخرة على الحياة الدنيا، فقال:
2999
(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)
إذا كان عصاة بني إسرائيل قد استهانوا بأحكام التوراة، معرضين عنها إهمالا، فتقاتهم قد استمسكوا بها؛ لأنها العروة الوثقى لهم، وقال تعالى في استمساكهم بها: (وَالَّذِينَ يُمَسكُونَ بِالْكِتَابِ) وفي قراءة " يُمْسكون " بتسكين اللام وكسر السين، وقالوا إن معنى يمسكون به: يستمسكون به، وفي اللغة: مسك به واستمسك به، وتمسك به كل بمعنى واحد.
2999
وأقول مع الاتحاد في جملة المعنى أظن أن مَسَّكَ به فيه قوة في التمسك، ليست في مَسَكَ به، بل أكثر من استمسك، لأنها تتضمن الأخذ به، والعمل بما فيه والإذعان لأحكامه من غير إهمال ولا نسيان، ودعوة إلى مسكه والعمل به من دون غيره، واستنكار لمن لَا يمسك به.
ومعنى التمسيك به، الإذعان لأحكامه، والدعوة لهذا الإذعان، والعمل به مخلصين غير متحايلين لتركه، وإلقاء المعاذير عند ترك العمل به.
والتمسيك به كما ذكرنا يتضمن معنى الدعوة إلى الاستمساك، وبالأولى يستمسك الممسك فيعتقد، ويؤمن ويدعو.
وقد ذكر أعظم أعمال الطاعة بعد التمسك بالكتاب، فقال: (وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) أي أتوا بها مقومة على وجهها الأكمل، وتكون الصلاة على الوجه الأكمل إذا كان ذكر الله، واستشعار خشيته في كل ركن من أركانها، واختصها الله تعالى بالذكر، لأنها ركن الدين، ولبه، ولا دين من غير صلاة كما ذكر النبي - ﷺ -، ولأنها سبيل للابتعاد عن المنكرات التي كان بنو إسرائيل يفعلونها، وقد قال تعالى في القرآن كتابه الخالد الباقي إلى يوم القيامة: (... إِنَّ الصَّلاةَ تَنهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ...).
وقد ذكر الله تعالى جزاء هؤلاء الذين يمسكون بالكتاب، فقال: (إِنَّا لا نضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) والمعنى لَا نضيع أجرهم.
ولكن هنا إشارات بيانية لَا بد من التنبيه إليها:
الأولى - أن الله تعالى ذكر الجزاء بطريق الاقتضاء، فوصف ذاته العلية بأنه لا يضيع أجر المصلحين، وقد أصلحوا فاستحقوا أجره الذي لَا يضيعه أبدا، فهو إعطاء مع ذكر داعيه.
الثانية - أنه ذكر - سبحانه - ما يليق بذاته وهو أنه لَا يضيع أجر من أحسن عملا.
3000
الثالثة - أنه أظهر في موضع الإضمار، مصرح بقوله: (الْمُصْلِحِينَ) بدل قوله لَا يضيع أجرهم، وذلك لأمرين؛ أولهما - أنه للدلالة على أن ذلك شأن من شئون الله العلي الأعلى، وثانيهما - الإظهار للإشارة إلى السبب في الجزاء وهو الإصلاح، أي كونهم مصلحين.
وفى التعبير بقوله: (الْمُصْلِحِينَ) إشارة إلى أن تمسيكهم للكتاب يتجاوز الإمساك إلى الدعوة إليه كما أشرنا.
* * *
أخد الميثاق عليهم وعلى الإنسانية
(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)
* * *
ميثاقان يذكرهما الله تعالى، واحد منهما خاص ببني إسرائيل لأنه يتعلق بميثاق التوراة، والثاني يتعلق بميثاق الإنسانية كلها.
والأول قال الله تعالى فيه:
3001
(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَهُ وَاقِعٌ بِهِمْ).
3001
نتقنا معناها رفعنا، ولكن يظهر أنها لَا تكون إلا في رفع الثقيل الذي لا يستطيعه إلا الأقوياء، فمن الألفاظ العربية ألفاظ تحمل في نفسها قوة المعاناة في دلالتها، فلا نقول: نتقت العصا، أو نتقت السيف، ولكن قد تقول: نتقت الجبل، أو نتقت أطنان الحديد. ولقد نتق الله الجبل وعلا عليهم، وكأنه ظلة من ظلال السحاب فوق رءوسهم، ولأنه جبل أو جِرم كبير ثقيل (وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ)، أي واقع نازل بهم قاصد رءوسهم. والله يقول: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقوَّة)، أي خذوا التعاليم في الحلال والحرام، وما كلفتموه عامة بقوة، أي بتقبل منكم، ورضا به، واطمئنان إليه واذكروا ما فيه أي اذكروه وتدبروه، وعوا ما فيه، واعملوا به لعلكم تتقون، والرجاء منهم، أي راجين بذلك أن تتقوا السيئات. بل إن تتقوا شر أنفسكم الأمارة بالسوء، وهذا كقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُم الطّورَ خُذوا مَا آتَيْنَاكم بِقوَّةٍ...)، وقد يسأل سائل: لماذا كان رفع الجبل مع إعطائهم الميثاق بقوة؟ الظاهر أنهم ترددوا في قبوله وتلكأوا كشأنهم دائما في قبول الحق المنزل والعمل به، فأتى موسى - عليه السلام - معجزة حسية قاهرة تلزمهم، ولا يحيرون جوابا فيها، فكان نتق الجبل، وكانت هذه المعجزة الرهيبة الدافعة إلى الإيمان، المانعة من كل تردد، وقد جاءت الآثار بما يفيد ذلك: روى ابن كثير أن موسى - عليه السلام - قال لهم: هذا كتاب تقبلونه بما فيه، فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم، وما أمركم وما نهاكم، قالوا: انشر علينا ما فيها - أي الألواح - فإن كانت فرائضها وحدودها يسيرة قبلنا. قال: اقبلوها بما فيها. قالوا: لَا حتى نعلم ما فيها، كيف حدودها وفرائضها، فراجعوه مرارا، فأوحى الله تعالى للجبل، فانقلع، فارتفع إلى السماء حتى إذا كان بين رءوسهم والسماء فقال لهم موسى: ألا ترون ما يقول ربي عز وجل؟! فأخذوا التوراة وهو الميثاق بهذه القوة الدافعة.
وإنه مع هذا الدليل المادي الحسي القارع نجدهم غيروا وبذلوا وانحرفوا عما أمرهم به الله - سبحانه وتعالى - وقد أردف - سبحانه وتعالى - ذلك ببيان ميثاق الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فقال تعالى:
* * *
3002
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢)
* * *
" إذْ " ظرف للزمن الماضي، والخطاب للنبي - ﷺ -، وهو تذكير بأن الفطرة الإنسانية توجب الإيمان بأن الله رب هذا الوجود وحده، وأنه هو الذي خلقه، وهو واحد بذاته وبصفاته، وقد حتم تعالى ذلك بالفطرة الإنسانية.
قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) عبر عن ذي الجلالة بربك بالإشارة إلى معنى الربوبية التي تملأ نفس النبي - ﷺ - وقد أدركها قبل النبوة بالفطرة الإنسانية الكاملة، فنفر من عبادة الأوثان، وعبد الله تعالى وحده، وقال إنه الديان وحده.
(وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ) ومن بني. آدم: عطف بيان على قوله تعالى: (مِن بَنِي آدَمَ) وهذا بيان لنوع من أخذ من ذريتهم، وهم بنو آدم، وهذا مبين عموم الذين ينتسبون إلى آدم أبي الخليقة، وقوله تعالى: (مِن ظُهُورِهِمْ)، أي وهم في أصلاب آبائهم، قبل أن يصلوا إلى أرحام أمهاتهم، وهذا يدل على أن ذلك من وقت الإنشاء، فوقت إنشاء الآدمي من وقت أن يكون في صلب أبيه.
وقوله تعالى: (ذُرِّيَّتَهمْ) منصوبة على أنها مفعول أخذ، ومؤدى القول أن لربك أخذ الذرية من التي هي من الأصلاب وهي في الأصلاب ذلك العهد، أو ذلك الإقرار الذي كان بحكم الفطرة. قال لهم ربهم: (ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وهو تفسير لمعنى الأخذ.
الهمزة للاستفهام، والاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي، و (لست) للنفي، وقالوا: إن نفي النفي إثبات، والمعنى أنا ربكم الحق، وجيء بذلك النحو من القول لتأكيد الإيجاب كأنه سألهم، وأجابوا بالإثبات، أي بإثبات الربوبية، وقد أجابوا على هذا السؤال مثبتين موجب نفي النفي، قالوا: بلى، وهي تثبت ما بعد النفيين، أي أنت ربنا، وقالوا: (شَهِدْنَا)، أي أقررنا.
3003
وقوله تعالى (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ)، أي حملهم على الإقرار على أنفسهم، أو اتخذ منهم شهداء على أنفسهم فاستجابوا وشهدوا على أنفسهم فهي شهادة الفطرة الإنسانية السليمة بالربوبية لله تعالى.
وقد بين - سبحانه - حكمة هذا الميثاق فقال تعالى: (أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) أن تقولوا: مضاف إليه لمضاف محذوف تقديره: كراهية أن تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين، فإنه في فطرتكم التي خلقكم الله تعالى عليها، ولن تغفلوا عما فطركم الله تعالى عليه، إلا أن تطمسوا فطرتكم بالأهواء والأوهام التي تطمسون عليها، فلا تدرك، وتحولون بينكم وبين نورها الهادي المرشد.
وإن هذا الذي ذكره الله تعالى من أخذ ذرية بني آدم من الأصلاب فيه تصوير محكم دقيق لتكوين الفطرة الإنسانية على الإقرار بمعنى الربوبية والتوحيد، لسلامة التكوين وأنه سوَّى خلقه فأحسن تسويته، وأنه صوره فأحسن صورته وقد قال بعض المفسرين: إن هذه المجاوبة مجاز، إذ شبهت حال خلق الإنسان مفطورا على الإيمان بهذه المجاوبة، ونحن نقول تبعا لهذا التخريج: فهذا الأخذ فيه تصوير لتكوين الفطرة، ولقد قال تعالى في الإسلام ودعوة الله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٠).
وإن محمدا - ﷺ - آمَن بفطرته، وهجر الأوثان بعقله، وإبراهيم أبو الأنبياء فكر بفطرته، حتى اهتدى إلى ربه، وقال بعد اهتدائه: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا...).
ولقد قال النبي - ﷺ - فيما رواه مسلم: " يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم " (١).
________
(١) سبق تخريجه.
3004
وروى الطبري بسنده أن رسول الله - ﷺ - قال: " كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها، أو ينصرانها (١).
قلنا: إن الله تعالى ذكر قصة الفطرة الإنسانية لكيلا يكون اعتذار لمنحرف لأنه يخالف الفطرة، وأيضا لكيلا يحتج بأنه يتبع آباءه فقال تعالى:
________
(١) جزء من حديث رواه أحمد: مسند المكيين - حديث الأسود بن سريع (١٥١٦٢).
3005
(أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣)
" أو " هنا عاطفة على قوله تعالى: (أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) ومقتضى السياق أن يكون المعنى كراهية، إن تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا وكنا ذرية من بعدهم.
والمعنى أخذ عليكم الإقرار، وأنتم ذرية ليتبين أن فطرتكم تناديكم بالإيمان فلا تعتذروا بأن آباءكم كانوا مشركين، وأنتم اتبعتموهم، فإن أوخذتم فإنما تؤاخذون بشركهم، ولكن أخذ عليكم من قبلهم بالإيمان، فأنتم مسئولون عن عهدكم الذي عاهدتم الله تعالى عليه أولا، لَا عن تقليدكم لآباكم، وإنه لَا يصح هذا التقليد وفيكم فطرة الإيمان، أتتبعون آباءكم ولو خالفوا الفطرة التي شهدوا فيها بأن الله وحده هو المعبود بحق هو أنكم بمقتضى الفطرة مؤمنون فلم تتبعون آباءكم في كل حال، ولو كانوا لَا يعقلون شيئا ولا يهتدون، وخالفوا سنة الفطرة. فإن خالفوها، فإن ذلك لَا يخليكم من الإقرار الذي أخذ عليكم.
وقوله تعالى: (إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكنَّا ذُرِّيَّةً مِّنْ بَعْدِهِمْ) فيها ما يوهم أن شركهم بهان بالوراثة، وأنهم لهم تبع، فكما ورثوهم في أجسامهم ونسبهم، فقد ورثوهم في اعتقادهم.
ولذا قال الله تعالى عنهم: (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهي مؤخرة عن تقديم لأن الاستفهام له الصدارة، وهو
3005
استفهام إنكاري لأنهم ينكرون مؤاخذتهم، إنما المؤاخذة على من سبقوهم، فالله تعالى بمقتضى سياق الآيات الكريمة يبين أنهم مسئولون ومؤاخذون، هم يقولون إنا تبع لمن سبقونا ولا نؤاخذ بفعلهم وقد سرنا مسارهم، فالله - سبحانه - يبين لهم أنهم مؤاخذون بمقتضى الفطرة، وكان الواجب عليهم أن يعرفوا أنهم مأخوذ عليهم ميثاق بإقرارهم بأن الله وحده ربهم، وما كان لهم أن يتبعوهم. بعد ذلك ختم الله تعالى هذه ببيان تصريفه للآيات وتفصيله فيقول تعالى كلامه العزيز:
3006
(وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)
أي كهذا البيان الذي فصل الله تعالى هذه الآيات وبينها من تصوير الحال في الخلق والتكوين؛ يفصل الله - سبحانه وتعالى - الآيات ويقربها ببيان أصل الخلق والتكوين، وأن الذين يضلون هم المنحرفون عن أصل الفطرة. يبين البيان كذلك دائما ليهتدوا ويدركوا الحق، (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلى أصل فطرتهم التي فطرهم الله تعالى، ويعودون إلى التوبة وإلى الإنابة إلى ربهم. بعد هذا البيان وضرب الأمثال من ماضيهم، وبيان سوء حاضرهم.
* * *
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ
3006
الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٧٨)
* * *
هذا مثل ضربه الله تعالى لمن تهديه فطرته إلى الحق، ولمن يرى الآيات بينة واضحة تغمره بنورها، وتسبغ عليه كما يسبغ الثوب على لابسه، فينسلخ منها ويخلعها ويتبعه الله تعالى الشيطان فيكون من الغاوين، وقال تعالى في ذلك:
3007
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ).
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ)، أي اذكر لهم نبأ الذي آتيناه آياتنا. والنبأ الخبر ذو الخطر والشأن، وكان خطره وشأنه في أنه قد جاءته الآيات بينة قد غمرته بالنور، وصارت كأنها اللباس السابغ، الذي لَا يفارقه، ولكنه تعمد أن يخرجها من ملابسه وجسمه، وينسلخ: أي يخرج منها كما تخرج الذبيحة من إهابها.
وإنه إذ فعل ذلك يكون قد سلك سبيل الضلال وسار فيه، (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَان) أي فجعله الله يتبع الشيطان؛ لأنه إذا انسلخ من الآيات السابغة المنيرة قد اتجه إلى الضلال، فأتبعه الله للشيطان وصار تابعا له؛ لأنه ترك رحمة الرحمن بترك آياته، ومن ترك رحمة الله، أدخله الله تعالى حظيرة الشيطان، وصار من أتباعه.
وإن في هذا النص القرآني المصور لمن يغوى ويضل عدة مجازات، تبدو فيما يأتي:
أولا - أنه شبه الآيات النيرة الدالة بالثياب السابغة التي تلازم الشخص، ولا تنفك عنه حتى يخلعها.
3007
وثانيا - أنه شبه تركها وعدم الأخذ بها بالانسلاخ منها، فشبه تركه لها بالانسلاخ والذي هو خاص بسلخ الشاة الذبيحة فيتعرى كما تتعرى الشاة.
وثالثا - أنه عبر عن اتباع الهوى، والتردي في مهالكه بـ (فَأتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ) لأن السبب هو سيطرة الهوى، والهوى هو باب الشيطان الذي يدخل منه إلى القلوب، فعبر باسم المسبب وأراد السبب وهو اتباع الهوى.
وإن اتباع الهوى أو الشيطان يؤدي إلى الضلالة لَا محالة، ولذا قال تعالى: (فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ)، أي من الضالين، فغوى معناها ضل بسبب اتباع الشهوات.
وقد قلنا: إن هذا مثل من تحيط به آيات الله التي تدعم فطرته التي فطر الناس عليها، فلا يلتفت إلى دلالتها، ويتركها منسلخا عما تدعو إليه كما ينسلخ اللابس من ثوبه الذي يستره، ويجمله، وينحط إلى مهاوي الشيطان.
هذا، وإن كتب التفسير في هذه الآية مملوءة بأساطير يهودية لم تثبت بسند صحيح يصلح تفسيرا للقرآن، ولذلك ضربنا عن ذكرها صفحا، ذلك أنهم زعموا أن قوله تعالى: (نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا) يتعرض لقصة شخص معين، فاستعانوا بالإسرائيليات، ليعلموا من هو. والحقيقة أنه ليس بشخص معين، إنما هو تصوير لمن تأتيه الآيات السابقات بالنور فيتركها.
وزعموا أن قوله تعالى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) ففهموا من هذا أنها قصة لها أشخاص ورجال وحوادث، فاستعاروها من بني إسرائيل، وهذا لَا يساعده النص، إنما النص في قصص المثل ذاته، ولذلك قال تعالى: (ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، وسنتكلم في هذا إن شاء الله تعالى.
وقد صور الله تعالى حال ذلك الذي تأتيه آيات الله نيرة سابغة فينسلخ منها فقال تعالى:
(وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ... (١٧٦)
3008
أى إن ذلك الذي انسلخ من آيات الله تعالى، وقد أسبغها الله تعالى عليه لو شاء الله لرفعه بها إلى أعلى الدرجات لو سلك سبيله، واتجه إليه ولم ينسلخ عنها؛ ولذا قال تعالى: (وَلَوْ شِئنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا) لو شئنا له أن يهتدي رفعناه بها إلى مقام المؤمنين الصادقين، لو كان قد سلك سبيلنا ولم يرفض نعمة البيان وإسباغ الآيات، ولكنه أخلد إلى الأرض وسكن فيها بنزواتها وأهوائها وشهواتها، واتبع هواه، فلم يسيطر على شهواته، وكان عبدا لها، فاستوى عنده البينات والظلام، ولذلك مثله الله تعالى بالكلب الذي يندلع لسانه لاهثا دائما، فقال تعالت كلماته: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث).
أي إن حاله كحال الكلب المندلع لسانه، إن تحمل عليه بأن تهيجه ينبح مندلعا لسانه، وإن تتركه من غير تهييج ينبح مندلعا لسانه أيضا.
أي إن أولئك الذين ينسلخون من الآيات التي ينعم الله تعالى عليهم ببيانها يستوي عندهم البيان والترك بل إنهم يضلون دائما، إن ضلالهم في حال البيان أشد وأوغل، فالجامع بين المشبه والمشبه به هو البقاء على حال سوء دائما، سواء أكان البيان أم لم يكن.
وقد شبههم الله تعالى بالكلب، في أقبح صوره، وهي الحال التي يكون فيها خارج اللسان يسيل فيها لعابه، وهي أقبح مناظره؛ ولذا قال تعالى: (ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)، أي تلك الحال التي قصصناها وبيناها، حال الذين كذبوا بآياتنا نقدوا تفكيرهم وتقديرهم للأمور، فلم يعرفوا الفرق بين النور الذي تجيء به الآيات هادية مرشدة، وبين الظلام الذي يعمهون فيه متحيرين، وكانت حالهم لحال هذا الحيوان في أقبح صوره.
إذا كانت هذه حالهم، ومآل أمرهم، (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) الفاء كما ترى للإفصاح، ومعنى اقصص: اذكر حالهم وخبرهم، فإنه يصور حالهم (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، أي لعل هذا التصوير الذي تقصه عليهم يحملهم على التنبه في
3009
حالهم العقلية التي ينزلون فيها إلى الحيوان الذي لَا يدري الفرق فيما يعمل، فيتفكرون ويتدبرون الآيات ولا يتسلخون منها.
ولقد بين الله تعالى سوء حالهم، فقال:
3010
(سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)
ساء تستعمل أحيانا بمعنى التعجب، فيكون المعنى ما أسوأه مثلا هذه الحال، وتكون (مَثَلًا) تمييز، وهو يدل على المتعجب منه، أي أن حالهم بلذت أقصى أحوال السوء في الضلال، ومجافاة الحق، وجعلهم النور ظلاما والهدى ضلالة وأنهم في ذلك لَا يضرون غير أنفسهم، فالله يغضب عليهم والرسول (وَأَنفسَهُمْ كأنُوا يَظْلِمُونَ) يظلمون أي يستمرون على ظلمها باستمرارهم على تكذيب آيات الله الهادية المرشدة، وانسلاخهم عنها. وإن الله - سبحانه - تركهم في غيهم؛ لأنهم سلكوا سبيل الغي، وتركوا سبيل الرشد، فحقت عليهم كلمة الضلال؛ ولذا يقول الله تعالى:
(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٧٨)
" مَنْ " اسم شرط، أي الذي يهديه الله تعالى فهو المهتدي وحده، وليس معنى ذلك أنه ليس مختارا في سلوك طريق الهداية، فإن الله عدل، لَا يظلم أحدا، إنما يكون بين يديه طريق الرشد، وطريق الغي، فيختار طريق الغي، فيصل إلى نتيجته ويختار الله ما اختاره لنفسه، وإن كان غير راض عما اقترف، ويقترف من سيئات، (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) وإضلال الله تعالى لَا يتنافى مع اختياره؛ لأنه اختار سبيل الغي، والفساد، فسار فيه لإذن الله واختياره، وإن كان الله تعالى غير راض، فالله تعالى أراد له الشر إذ سلك طريقه، ولكنه لَا يرضى لعباده الكفر.
3010
وهنا إشارتان بيانيتان:
أولاهما - في قوله تعالى: (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) فيه تعريف الطرفين، فيفيد القصر، والمعنى لَا يهتدي غيره، فالهداية من الله تعالى.
ثانيتهما - أن الله تعالى قال: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) وفي هذا النص السامي الإشارة إلى الموصوفين بتكذيبهم لآيات الله، والإشارة إلى الأوصاف تفيد أنها سبب الحكم.
وقوله تعالى: (هُمُ الْخَاسِرُونَ) تفيد تأكيد الخسارة وقصرها عليهم، وذلك لضمير الفصل " هم "، وخسارتهم في أنهم خسروا نعيم الآخرة، وخسروا بضلالهم وفقدهم التمييز بين الحق والباطل، والضلال والهداية، وخسارتهم بتركهم نعمة الله تعالى في آياته، وخسارتهم رضوان الله، وهو أكبر.
* * *
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)
* * *
أكد الله تعالى أنه خلق الخلق من ذريات آبائهم، وعلم أنهم لَا يهتدون، بل يدخلون في الضلالة، ومن ورائها الكفر، ومن وراء الكفر جهنم، وليس معنى ذلك أنه أجبرهم على الكفر الذي يلجئهم إلى جهنم إجبارا، بل معناه أنه كتبه عليهم في علمه الذي أحاط بكل شيء، ولا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، فالله - سبحانه وتعالى - علم ما يكون منهم فهو - سبحانه - يعلم ما كان وما سيكون عالم الغيب والشهادة، وهو السميع العليم.
3011
قال تعالى:
3012
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ).
أكد الله تعالى ذلك بـ " قد "، وهي للتحقيق دائما، وباللام، وذرأنا معناها، خلقناها من ذرية، كما قال تعالى: (وجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا...)، ذرأ ليست بمعنى خلق كأي خلق، بل معناها أنه خلق من وقوله تعالى: (لِجَهَنَّمَ)، أي أن مآلهم إلى جهنم، لأنهم يختارون الضلالة، فيكفرون فتكون جهنم مآلهم وبئس المصير، ووصفهم سبحانه بأنهم كثيرون من الجن والإنس، فليس الضلال بقليل في الأرض، وإنه لكثير، كما قال تعالى: (وَإنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...)، وقد ذكر - سبحانه وتعالى - حال الذين كتب عليهم أن يكونوا لجهنم فقال: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا)، أي لهم قلوب لَا ينفذون بها إلى الحق فيذعنوا له، وهذا معنى فقهها، ولهم أعين لا يبصرون آيات الله في الكون من شمس لها ضياء، وقمر له نور، وسماء ذات أبراج، ورياح تحمل السحاب الممطر، يساق إلى بلد ميت فيحييه، ولهم آذان لا يسمعون بها نداء الحق فيجيبوه، وآيات الله تتلى فلا يدركوها، ويسمعون صوت المنادي " الله أكبر " وكأنهم لَا يسمعون.
وقد يقال: إن هذا مثل للضالين وتصوير لهم، فهم كمن لَا عقل له ولا بصر ولا سمع، وقد قال تعالى في ذلك: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ).
إن فرق ما بين الحيوان والإنسان هو العقل والتدبير، وترتيب النتائج على المقدمات، والنظر إلى المستقبل على ضوء الماضي والحاضر، فإذا فقد ذلك فقد صار كالأنعام في أنفسها، ولذلك قال سبحانه: (أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ) والإشارة إلى الذين لهم قلوب لم يدركوا بها إدراكا نافذا إلى ما وراء. وأوتوا أبصار لم يعرفوا عظمة الكون وخالقه منها، وأوتوا سمعا، لم يستمعوا به إلى المواعظ النيِّرة، والزواجر الزاجرة.
3012
هؤلاء ما دام لم ينتفعوا بهذه المواهب، يصيرون كالأنعام؛ لأن ما أعطاهم سبحانه من مواهب جعلوه هملا فكأنهم لم يعطوه كالأنعام، ويقول سبحانه: (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) لأن من أُعطي شيئا ولم ينتفع به أضل ممن لم يُعطَ شيئا.
هذا هو الحكم الأول عليهم، والحكم الثاني هو أنهم غافلون عن الأمور التي يجب عليهم إدراكها، فقال تعالى: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) عما يجب التنبه إليه ليقوموا بواجبهم وليستعملوا ما وهبهم تعالى من هبات مميزة مدركة، وأكد الله - سبحانه وتعالى - الحكم بغفلتهم بالجملة الاسمية، وبضمير الفصل، وبقصر الغفلة عليهم بتعريف الطرفين، أي أنه لَا غافل غيرهم، لأنهم غفلوا عن أهم ما يجب أن ينتبهوا له.
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى في عدة آيات معاني هذه الآية فيما يناسبها فقال تعالى: (... وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْء إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ...).
وقد شبههم سبحانه بالأنعام فقال عز من قائل: (وَمَثَل الَّذِينَ كفَرُوا كمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً...)، وهكذا كل من يعطل المواهب التي وهبها الله تعالى له.
وإن المشركين كانوا يعبدون عْير الله تعالى، وينكرون صفات الله تعالى التي تجعله وحده المستحق للعبادة، ولذا قال تعالى:
3013
(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)
تطلق الأسماء ويراد المسميات، والأسماء هنا يراد بها صفات الذات العلية التي لَا يماثلها صفات الحوادث، كما قال تعالى: (... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، مثل القاهر القادر المريد السميع البصير، والغفور
3013
الرحيم الرحمن، فإن هذه وأشباهها أسماء الله تعالى، وهي أيضا صفاته وهي ليست شيئا غير ذاته، إنما هي مبينة لها، معرفة بها، فنحن نعرفه سبحانه بهذه الصفات التي هي أسماؤه سبحانه وتعالى، وبعدد الأسماء أو الصفات لَا يقتضي تعدد المسمى، أو الموصوف، ولقد سمع مشرك قول المؤمن في وصف الله تعالى بأنه الغفور الرحيم، فقال جاهلا أو متجاهلا: إن محمدا يدعو إلى إله واحد، فما باله يذكر إلهين. وهذا إلحاد في أسمائه سبحانه، فالموصوف لَا يتعدد بتعدد الوصف، والمسمى لَا يتعدد بتعدد الاسم، وقد روى الترمذي وغيره أن لله تعالى تسعة وتسعين اسما، أي وصفا، وقد ذكر ابن كثير هذه الأسماء التي بلذت هذا العدد فقال: (هو الله الذي لَا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور).
وقد رويت هذه الأسماء في الصحاح بأحاديث مختلفة، والله قد اتصف بكل هذه الأسماء.
وصف أسماء الله تعالى بالحسنى، وهي مؤنث أحسن، وأفعل التفضيل ليس على بابه، والمعنى أنها بلغت أقصى درجات الحسن والكمال، لأنها صفات المتصف بكل كمال.
3014
وقد قال تعالى: (فَادْعُوهُ بِهَا) الفاء للإفصاح، أي إذا كانت الأسماء هي صفات الكمال المطلق، فادعوه بها أي نادوه في دعائكم وضراعتكم إليه بها.
(وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ)، أي يتخذون الإلحاد والشرك في أسمائه، وذلك بالزيادة فيها بما لايليق بالذات العلية أو يغيروها بما لَا يليق بذاته، كالمعطلة والمشبهة الذين يفسرونها بما يشبه الحوادث، أو ينقصون منها تبعا لأهوائهم، وقوله تعالى: (ذَرُوا) أي اتركوهم بمعنى لَا تقيموا لقولهم وزنا، ولا تتبعوا ما يقولون.
ثم ذكر الله تعالى جزاءهم فقال: (سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) السين هنا لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل، وقد قدروا الباء، أي: سيجزون بما كانوا يعملون.
وإن حذف الباء فيه إشارة بيانية، وهو توافق الجزاء مع العمل، حتى لكان الجزاء هو العمل ذاته، لاتحاد السبب والمسبب، فكان جزاء وفاقا للعمل لَا يزيد عليه، وقد يغفر له متغمدا له برحمته.
وقد ذكر الله تعالى الضالين ممن ذرأ من الجن والإنس، وأنهم كثيرون، وليسوا قليلا ذكر المهتدين، فقال تعالى:
3015
(وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)
ليس الناس جميعا أشرارا، بل إنه من رحمة الله تعالى بعباده أن كان الوجود لَا يخلو من الأخيار الذين يقاومون أهل الشر، ويدفعون شرهم (... وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أخيار الناس فقال تعالى: (وَمِمَّنْ خَلَقا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ)، أي من الذين خلقناهم من الجن والإنس من ذريتهم أمة طائفة مجتمعة على الهدى والخير يؤم كل واحد منها الجماعة، ويعينها ويقصدها بخير،
3015
(يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) أي اهتدوا، ويهدون غيرهم بالحق، أي هداية مصحوبة بالحق، (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي بالحق وحده يعدلون في كل أمورهم، ففي حياتهم عدل بالحق، وفي شئونهم العامة والخاصة عدل بالحق، وفي كل ما يباشرون من أعمال يبتغون الحق ولا يريدون سواه، فحياتهم كلها عدل وحق. وفي تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) قصر؛ أي لَا يعدلون بغيره، بل يزنون به الأعمال والأشياء والصلات كلها، فهو ميزان الوجود الإنساني، وبه قامت الإنسانية الفاضلة.
وقد بين الله تعالى ما يعامل به الذين يكذبون بآياته، ويعادون أولياءه، ويعاندون الحق، فقال:
* * *
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
* * *
كان ما قصه - سبحانه - من قصص لنوح وهود وصالح وشعيب، وموسى وما كان من قومه ومعاناته في سبيل هدايتهم وبث الإيمان في قلوبهم؛ تسلية للنبي - ﷺ - وبيان ما يلقاه أولو العزم من الرسل من عند الكافرين والضالين.
ومن بعد ذلك أخذ - سبحانه وتعالى - يبين حال المشركين الذي يدعوهم النبي - ﷺ - فقال سبحانه:
3016
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ).
3016
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم) هذا حكم عام بالنسبة للمكذبين بالآيات، لَا يأخذهم سبحانه بمجرد تكذيبهم، بل يمهلهم ويغدق عليهم الرزق حتى إذا تمادوا في شرهم، ولم تهدهم النعمة، ولم يحسوا بشكرها أخذهم الله تعالى من حيث لَا يحتسبون، فهو يختبرهم بالآيات فيها العبر، ثم يختبرهم بالنعم.
ومعنى (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) نأخذهم درجة بعد درجة نازلين إلى الهاوية من حيث لَا يشعرون؛ من مكان لَا يشعرون فيه أنهم كلما أنعم عليهم بنعمة وكفروها يسيرون إلى الهاوية وهم لَا يشعرون، إن الله يختبر المكذبين لآياته الكونية وما تدل عليه، والمكذبين لمعجزات النبوة كالقرآن، وسائر آياته لأنبيائه، يختبرهم بالنعيم أحيانا يذوقونه ثم يحرمون منه.
ولقد قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٥).
وإن ما يكون عليه الكافرون من ملاذ وزخارف لَا يصح أن يكون علامة الرضا، بل هو في أكثر الأحوال علامة السخط، وقد قال تعالى: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (٣٤) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥). وإن ذلك من إملاء الله تعالى، ليزدادوا ضلالا وفتنة. ولقد أكد الله تعالى ذلك فقال:
3017
(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)
في هذا النص السامي يبين سبحانه عاقبتهم، وهي العذاب الشديد الذي يستدرجون إليه فيقول: (وَأملِي لَهُمْ)، أي أطيل عليهم الأمن، أي أتركهم ملاوة من الزمن يستمتعون فيها، كما تستمتع الأنعام، وهم سادرون في طغيانهم
3017
وكفرهم، وكلما أمعنوا في لذاتهم وشهواتهم وما مكنوا منه، ازدادوا إثما، حتى إذا امتلئوا آثاما بما كسبت أيديهم أخذوا أخذ عزيز مقتدر، وما أفلتوا من عقاب شديد، ولذا قال تعالى مبينا ما بيته لهم: (إِنَّ كيْدِي مَتِين)، هو التدبير للأشرار معاملة لهم بمثل تدبيرهم وشرهم، وإيذائهم لأهل الإيمان (مَتِينٌ)، أي غليظ شديد مأخوذ من من الجسم وهو الجانب القوي في عظامه.
وإنه قد قالوا: إن هذه الآية نزلت في كبراء قريش الذين كانوا يؤذون المؤمنين وخصوصا ضعفاءهم، فالله تعالى يبين لهم أنهم مأخوذون وسينتقم الله تعالى منهم، وقد أخذهم الله تعالى بذنوبهم في موقعة بدر، أخَذ الذين بالغوا في إيذاء النبي - ﷺ - أخذ عزيز مقتدر.
ونقول: إن عموم الآية يشمل هؤلاء وغيرهم ممن يظهرون مغترين، يقولون في غرورهم نحن أكثر أموالا وأولادا، فالله تعالى يمهل ولا يهمل.
وإن اغترار المشركين بالمال والنفر يمنعهم من التفكير في مآل أمرهم، والداعي إلى الحق وماضيه، ولذا قال تعالى:
3018
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤)
لقد كان النبي - ﷺ - الأمين الصادق في قريش، وعاش بينهم أربعين سنة كان يعرف بينهم بالأمين، وإذا ذكر اسم الأمين لَا ينصرف إلا إليه، يحكم بينهم في خلافهم إذا تنازعوا، ويرتضون حكمه إيمانا بعقله وكمال تدبيره، فلما دعاهم إلى الحق وترك عبادة الأوثان قالوا مجنون، وقد رد الله قولهم بقوله: (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُون).
ولما رموه بهذا دعاهم الله أن يتدبروا ما يقولون، ويوازنوا بين قولهم هذا وما عرفوه من قبل، حتى يدركوا الحق وينفوا قولهم فيه، فقال: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) أي يقولون هذا القول، ولم يتفكروا، ويعلمون أنه ما بصاحبهم من جِنَّةٍ، فالتفكر ليرودا عقولهم إلى ماضي قولهم فيه من أنه العاقل الأمين في
3018
شبابه، حتى إذا بلغ أشده وبلغ الأربعين قالوا فيه ما قالوا، وإن نتيجة التفكر والموازنة أن ينتهوا إلى الحكم بأنه (مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ). وعبر الله تعالى بقوله: (مَا بِصَاحِبِهِم) من فيه إشارة إلى مصاحبته أربعين سنة في صحبة كريمة عاقلة أمينة يرجعون إليه في أمورهم المهمة ويشركهم في فعل الطيبات أنَّى اتجهوا إليها. وإن ما دفعكم إلى هذا الوصف الذي ينافي ماضيه وحاضره إنما هو أنه جاء بالحق بشيرا ونذيرا وهاديا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا؛ ولذا قال تعالى: (إِنْ هوَ إِلَّا نَذِيرٌ مبِينٌ) أي ذاكر لكم عاقبة الكفر، وهو العذاب الشديد، مبين لكم ذلك وموضحه.
والاستفهام هنا إنكاري للتوبيخ؛ لأنهم اندفعوا في رميه بالجنون من غير أن يتفكروا.
وقد وردت آيات كثيرة في هذا المعنى فقد قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٤٦).
فالله تعالى في هذه الآية يدعوهم إلى أن يتفكروا مجتمعين وفرادى، ومتذاكرين وستنتهون إلى أنه (مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ)، إثه الكامل فيكم صبيًّا وشابا ورجلا مكتملا، ولكنه العناد قد جركم إلى إنكار ما هو ثابت ثبوتا لَا مجال للريب فيه، وبعد أن دعاهم الله تعالى إلى التفكير في أمر النبي الصادق الأمين، دعاهم إلى النظر في الكون ليؤمنوا بالله وحده، فقال تعالى:
3019
(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)
عقيدة الإيمان الإسلامية شهادة أن لَا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنه الصادق الأمين، وقد بين سبحانه في الآية السابقة أن صدق محمد - ﷺ - ثابت عند المشركين لصحبته لهم قبل أن ينادي بأنه رسول رب العالمين، ولم تتغير حاله
3019
بعد الدعوة وليس به جنون كما ادعيتم ولكنه حمل الرسالة بالإنذار والتبشير لكم فلا مسوغ لكم في تكذيبه، وقد علمتم من ماضيه فيكم أنه الصادق، وتأيد صدقه بالمعجزة الباهرة القاهرة فيكون كل ما جاء به حق.
وإنه إذا ثبتت المعجزة، وإنها ثابتة لَا محاله، فقد ثبت كل ما جاء به ودعا إليه من التوحيد، وألا يشركوا بالله شيئا.
وقد أخذ - سبحانه وتعالى - يثبته بالأدلة الكونية، وقد دعاهم - سبحانه -
إلى النظر في الكون، وما خلق من شيء فقال تعالى: (أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) الملكوت صيغة مبالغة في الملك، وهي تدل على كمال السلطان وقوة الملك، وأن كل شيء في هذا الملكوت لَا يسير إلا بأمر الله تعالى ونهيه - سبحانه وتعالى - والاستفهام للتعجب من أمر المشركين الذين هبط حالهم إلى عبادة حجر لَا ينفع ولا يضر، وهو ملقى ككل الحجارة الملقاة ولا ينظرون إلى الكون العظيم وخالقه، لَا ينظرون إلى السماء وأبراجها والشمس وضوئها، والقمر ونوره، وتعاقب الليل والنهار، ولا إلى الأرض وسهولها وأوتادها (وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ)، والأشياء التي خلقها الله تعالى من حيوان، وجماد وفلزات في باطن الأرض، لَا ينظرون إلى ذلك ويسجدون للصنم، ويجعلونه إلها كخالق هذا الكون، وخالق الوجود كله! إن هذا قصور في الفكر والعقل، وضلال في القول والعمل، وخبط في العبادة صن غير إدراك.
وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) الفعل فيها عطف على فعل محذوف تقديره أيشركون بالله أصناما، ويجعلونها أندادا له - سبحانه وتعالي - ولم ينظروا إلى خلق الله وعظم هذا الخلق، والأثر يدل على المؤثر، والمخلوق يدل على الخالق سبحانه، وهذا الكلام فيه دعوة إلى النظر في الكون، (وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) في السماء والأرض، فقد قال تعالى: (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...)، وقال تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩)
3020
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠).
وقال تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (٢٢).
وهكذا يجب ابتداء النظر إلى الكون وما فيه، وإلى النفس الإنسانية وما هي، ومم تكونت، ولقد أمر الله تعالى في الآية بالنظر إلى مآل الإنسان، وأنه داع إلى الاعتبار، ولا يمكن أن يكون قد خلق عبثا، فقال تعالى: (عَسَى أَن يَكونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ)، و " أنْ " هنا مخففة من " أنَّ " الثقيلة، وإنها ضمير الشأن، أي: وأنه الحال والشأن أن يكون قد اقترب أجلهم.
والله - سبحانه وتعالى - يذكرهم بضرورة النظر إلى الموت، وإلى أن الأجل الذي أُقِّت لحياتهم انتهى، وهذا التذكير فيه فوائد:
أولاها - أن غرور الحياة يدفع إلى الطغيان فيها، فينهوي إلى ضلالها، فإذا ذكر بالموت علم أنها فانية فيقل طغيانه وغروره بها وتلك نافذة إلى الإيمان.
ثانيها - أن تذكر الموت يدفع إلى التفكير في قيمة الحياة فإذا عرف قيمتها عرف قيمة الدنيا؛ ولذلك كان بعض الصالحين إذا عزى في وفاة قال: اللهم انفعنا بالموت، لأنه عبرة وفيه إنذار بالنهاية فإن لم يؤمن باليوم الآخر، فالحياة تكون لغير غاية.
ثالثها - أن التفكير في الموت والنظر فيه يدفع إلى الإيمان باليوم الآخر، وأن حياته ليست عبثا كما قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعونَ). إنها آيات الله البينات، فيها عبرة وعظة لقوم يؤمنون.
ولقد قال تعالى من بعد ذلك في استفهام تعجبي: (فَبِأيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر تقديره إذا لم يؤمنوا بالله الخالق المنشئ المدبر، وآياته الدالة عليه ولا في الموت النازل بهم لَا محالة، إذا لم يؤمنوا بذلك، فبأي حديث يحدَّثون به يؤمنون.
3021
والاستفهام إنكاري توبيخي، هو نفي لإيمانهم بأي حديث مهما يكن، وذلك فيه توبيخ، وفيه إثبات أن أمثال هؤلاء لَا يؤمنون بشيء وفقدت قوة الإيمان بأي أمر، ومن فقد أصل الإيمان بالأشياء فهو حائر بائر ضال لَا يهتدي؛ ولذا قال الله تعالى بعد ذلك:
3022
(مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
إن من لَا يؤمن بشيء كتب الله تعالى عليه الضلالة؛ لأنه سلك طريق الغي، واتخذه سبيلا، فسار فيه من غير تبصر، وبذلك كتب الله تعالى عليه الضلال، وعبّر عنه بأن الله أضله، فإن الله لَا يكتب الضلالة إلا لمن سار في طريقها، واختار سبيل الغي، ولم يختر سبيل الهدى، وإن من يكتب الله تعالى عليه الضلالة - لَا هادي له لأنه ارتكس في الشر، ولم ينقذه الله تعالى منه، لأنه اختاره، ولذا قال تعالى: (مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَه)، أي من سار في طريق الغي، حتى بلغ نهايته فقد أضله، ومن كتب الله تعالى عليه الضلال فلا هادي له؛ لأن الضلالة استمكنت في نفسه وتغلغلت في أطوائها (١)، فلا مدخل للنور في قلبه الذي ختم الله تعالى عليه.
وإن الله يتركه في ضلاله، وقد قال تعالى: (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)، أي يتركهم الله تعالى في (طُغْيَانِهِمْ)، أي ظلمهم الطاغي الذي تجاوز كل حد، فطغيانهم يكون ظلما لأنفسهم، وظلما للناس وعُتُوا عليهم واستكبارا في الأرض، (يعْمَهونَ) أي يتحيرون ويترددون، والتحير أو التردد هنا في موضعه؛ لأنهم خالفوا الفطرة وقاوموها، فهم في حرب معها، وإذأكانت الحرب داخلية نفسية فإن الإنسان يكون في حيرة مستمرة بين فطرة تدعوه إلى ألا يطغى ولا يظلم، وبين حال قائمة قصدها، وهي ما عليه من طغيان وعتو، والله - سبحانه - لطيف بعباده، ولي لمن اهتدى ولم يخالف فطرته التي فطر الناس عليها.
* * *
________
(١) يعني ما تنطوي عليه. من الطي وهو ضد النشر. لسان العرب - طوى.
3022
الساعة
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
* * *
يقول ابن كثير: إن هذه الآية مكية، وإن كانت في سورة أكثرها مدني، وإن لذلك موضعا فيما نقول عن السائل من هو؟ فقيل: إن السؤال من يهودي ليعجز النبي - ﷺ -، وعلى ذلك يرجح كون الآية مدنية، وقيل - ويرجحه الحافظ ابن كثير - إن السائل من قريش قالها استبعادا لوقوعها، واستعجالا لها لأنه لَا يؤمن بها، كأنه يقول للنبي - ﷺ -: إن كنت صادقا فبين متى تجيء كما قال تعالى: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ). وقال تعالى عن كفار قريش: (وَيَقُولُون مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كنتًمْ صادِقِينَ).
ونقول: إن السؤال عن الساعة يرد على خاطر المؤمن والكافر، فالكافر يسأل مستبعدا، والمؤمن يسأل لأنه مؤمن بها، والعقل طُلَعَة يريد أن يعرف زمانها، وتعرف المجهول المستور غاية من غايات العقول، تتطلع لعرفته.
سؤالهم ذكره الله تعالى بصيغة
3023
(أَيَّانَ مُرْسَاهَا) المرسى: اسم زمان أو مكان، ويطلق على مرسى السفن، ونهاية مسير المركب إلى الأرض اليابسة.
3023
والمعنى يسألون عن وقت تنتهي إلى المرسى الذي ترسى إليه أو إلى الزمن الذي ترسى إليه، وتنتهي عنده، فشبه زمن وجودها بالمرسى الذي ترسى عنده السفن، ويكون المعنى على هذا أيان ينتهي الزمن إليها، وأي قدر من الوقت يمضي حتى نعرف منتهاها.
أجاب النبي - ﷺ - بقوله الذي أمره به ربه (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي)، أي إن علمها عند ربي وحده لَا يعلمها أحد سواه، ولذلك عبر - سبحانه - بـ " إنما " الدالة على القصر، ولقد صرح الله تعالى بهذا القصر، وقال تعالى على لسان نبيه الكريم: (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ)، أي لَا يوضحها في وقتها إذ يجيء إلا الله، فاللام هنا بمعنى " في "، كما قال تعالى: (أَقِم الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ...)، أو تتعلق بمحذوف، ويكون السياق هكذا لَا يوضحها ذاكرا لميقاتها إلا الله تعالى.
(ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) وقد وصفها الله تعالى بأنها تثقل على النفوس، لأنها تشتمل على وقت الحساب، والكافر يحس بعظم ما ارتكب، والمؤمن لَا تزين له أعماله فيحسبها كلها حسنة فهو مُشفق منها، والمغتر بما عمل من أعمال حسنة فهو مشفق منها، ثم هي عندما تجيء يختل نظام الكون ويضطرب، فإذا جاءت انشقت السماء، وانتثرت الكواكب والنجوم، وكورت الشمس، وسيرت الجبال، فثقلت على النفوس وصعب احتمال ما يصحبها.
وإنها تكون حيث لَا علم بها، ولا توقع لها؛ ولذلك قال: (لا تَأتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) إلا مباغتة لَا تتوقعون مجيئها، وذلك يزيد في ثقلها.
وقد ذكر النبي - ﷺ - أشراطا لها، تنذر بقربها، ولكنها لَا تعين ميعادها، وإذا جاءت لَا تنفي أن مجيئها كان بغتة، فالأشراط مقربة للزمان، وليست معينة له.
ويقول الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) وقالوا: إن " حَفِيٌّ " معناها عالم، وعُدِّي بـ " عن " على معنى كأنك عالم شيئا عنها، وقد فسرها عبد الله بن
3024
عباس بأنه (كأن) بينك وبينها مودة تتقاضاك أن تعرف الكثير عنها، فإنه يقال في العربية إن فلانا حَفِيٌّ بفلان أي بينه وبينه مودة تقتضي أن يعرف عنه الكثير مما عنده، والمؤدى واحد، وهو أن سؤال النبي - ﷺ - لأنهم يحسبون أنه عالم به أو (حَفِيٌّ) وَمَعْنيٌّ بأن يعرف عنها ما يُعرف.
وذكر السؤال عنها مرة أخرى لاختلاف متعلق السؤال، فالسؤال في الأول لمعرفة ميقاتها، وتكرار ذكر السؤال لبيان ظنهم بأن النبي - ﷺ - حَفِيٌّ بمعرفة شيء عنها.
وهكذا التكرار في القرآن لَا يعد تكرارا؛ لأن ذكر اللفظ المكرر يكون ذكره لمقصد آخر، غير المقصد، وقد أشرنا إلى ذلك عند الكلام في قصص القرآن الكريم.
ولقد قال الزمخشري: فإن قلت لم كرر (يَسْألُونَكَ إنما علمها عند الله)؟ قلت للتأكيد، ولما جاء به من زيادة (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) وعلى هذا تكرار العلماء الحذاق في كتبهم لَا يخلون المكرر من فائدة زائدة.
ولقدْ أمر الله تعالى نبيه بأن يقول لهم ما أمره به أولا، وهو: (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي) وذلك لتأكيد اختصاص علم الله تعالى بها، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ...).
وإنما جهَّل الله تعالى العلم بالساعة لكي يقدم الناس على أعمالهم جاهدين مثمرين مستغلين الأرض مخرجين خيراتها، ولو علموا زمانها، لقلت همتهم، وضعفت عن الإنتاج والإثمار عزيمتهم، والإسلام لَا يريد أن يفتُروا في أعمال الحياة والعبادة وإن يتموا أعمالهم، ولا يبطلوها، ولقد ورد أنه إذا جاءت، والرجل
3025
قد أخذ يزرع فسيلة فعليه أن يتم ما بدأ (١) ثم ختم الله - سبحانه - الآية بقوله تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الاستدراك هنا عما وهمه الناس من أن العلم بميقات الساعة ينفع ولا يضر، ولذا قال أكثر الناس لَا يعلمون حكمة القادر الحكيم العليم، فيما يبين ويترك بيانه لميقاتها، والله - سبحانه وتعالى - بكل شيء عليم.
ولقد بين - سبحانه وتعالى - أن النبي - ﷺ - لَا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله تعالى عليه، ولم يطلعه عن ميقات الساعة، فقال تعالى:
________
(١) عن أَنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ ". رواه أحمد: باقي مسند المكئرين (١٢٥٦٩). الَفسيلة: صغَار النخل.
3026
(قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
بعد أن بين الله - تعالى - أمر الساعة وأن علمها عند الله وحده، أمر النبي - ﷺ - أن يبين لهم أنه بشر رسول وأنه لَا يملك لهم أن يأتي بها قبل أن يقدِّر الله تعالى؛ لأنه لَا يملك في نفسه لنفسه شيئا، لَا يملك لنفسه نفعا يجلبه ولا ضرا يدفعه، بل إنه يجري عليه ما يجري على البشر، فلا يملك أن يغير في أمر الساعة شيئا، فليس لهم أن يسألوه عنها ويطلبوا منه ميقاتها، ولقد قال تعالى مثل ذلك في آية أخرى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٨) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩).
(وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ).
3026
وإن هذا النص بما فيه من رد على أسئلتهم فيما يتعلق بالساعة فيه تأكيد لبشرية النبي - ﷺ - وأنه لَا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله تعالى، فأنا تحت سلطانه وظله، لَا أملك إلا ما يملكني، وما لَا يملكني ممنوع على لَا سلطان لي فيه " وإن علم الغب لله وحده، فعلم الساعة له وحده، وأنا لَا أعلم الغيب، وإنما علمه عند الله عالم الغيب لَا يُطلع أحدا عليه، ولذا قال النبي - ﷺ - بأمر من ربه: (وَلَوْ كنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) لطلبت الكثير من الخير ونلته، فكنت أستنصر في الحروب في غير مكيدة ولا تدبير، ولدفعت أمر الشرك، ولجعلت الأرض خصبة إن كانت جدبا، ولكني أفوض أمري إلى، إن أعطاني فبإحسانه، وإن منعني فبحكمته وهو العليم.
(وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)، ولو كنت أعلم الشيب ما مسني السوء فما يمسني ضر، ولا أنهزم في حرب، ولا أغلب في أمر، إنما أنا كسائر البشر أغالب أهل الشر وأنازعهم، وأنال منهم، وربما ينالون مني.
وإنما ما اختصصت به هو الرسالة وحدها، وأن الله يكلفني؛ ولذا قال: (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لقَوْمٍ يؤْمِنونَ)، أي أنه مقصور على الرسالة لَا يتجاوزها، ولا يعدوها، فهو نذير للكافرين، بشير للمؤمنين (إِنْ) في الآية نافية، فهي نافية إلا ما ثبت بعد الاستثناء، إلا وهو الرسالة من الله ينذر بها الكافر، ويبشر بها المؤمن.
وإنما ينتفع بالبلاغ المحمدي بالإنذار والتبشير - المؤمنون، فهم الذين يخافون عذابه إن أنذروا، ويجيبون نداءه ويستبشرون برحمته إن أطاعوا، والله سبحانه هو الهادي إلى سواء السبيل.
* * *
3027
النفس الإنسانية
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٩٤)
* * *
بين الله تعالى أن الفطرة الإنسانية تتجه إلى الإيمان بالله تعالى، وأنها شهادة النفس الإنسانية، وأنها العهد الذي أخذه الله تعالى على الناس وهم في ظهور آبائهم، وقد بين كيف انحرفت، وتوالت هذه الانحرافات، وصارت الخلائف تتجه إليها في ذرياتهم، وكأنها حيلة وليست كذلك. يقول الله تعالى:
3028
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا)، أي أن الناس جميعا يرجعون إلى نفس واحدة في جنس واحد، ولذلك كانوا متجانسين ملتقين في طبيعة واحدة مهما تختلف أجناسهم أو تتباين شعوبهم وقبائلهم، فهم من جنس
3028
واحد، أو نقول النفس الواحدة هي نفس آدم وجعل الله تعالى زوجها من جنسها أو منها (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)، ليأنس روح كل منهما بصاحبه والمؤدى في التخريجين واحد، وهو التجانس التام بين النفسين، النفس التي انبعثت منها زوجهما والزوج المنبعث. وقوله تعالى: (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) توضح التجانس، سواء أذكر ابتداء، أم كان ذكر بانتهاء القول، أي سواء أفسرنا النفس بالوحدة الجنسية، أم فسرنا النفس بآدم وحواء.
وقوله: (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) أي ليستأنس ويطمئن، ويمتزج روحاهما، كقوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً...).
ويلاحظ هنا من الناحية البيانية أنه - سبحانه وتعالى - ذكر النفس في السياق بالسياق مرة بأنها مؤنثة الضمير عليها مؤنثة فقال: (خَلَقَكم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوجَهَا) فلما بين الله - سبحانه وتعالى - ثمرة ذلك التجانس، وهو التلاقح بين الذكر والأنثى ليبقى الوجود، وليكون ذلك التجانس منتجا أقصى غايته، قال: (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا) بيَّن حينئذ الذكر والأنثى، وأن الذي تغشى عند اللقاء المنتج بينهما هو الذكر، وأن التي تُغشى هي الأنثى، وبذلك تكون الثمرة الإنسانية هي نتيجة ما بينهما، ولذا عاد الضمير مذكرا، فتغشى معناها: كان بينهما ما أوجبته الفطرة.
ولقد ذكر - سبحانه وتعالى - مراتب الشعور بالحيل الذي يكون نتيجة لذلك التغشي فذكر مراتب ثلاثة:
المرتبة الأولى - مرتبة الحمل في أوله، وهي مرتبة تردد وتعرُّف، فقال تعالى: (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا)، أي سهلا محتملا، ولم يمنعها من عمل، وكان من صفات هذه المرحلة أنها لم تعقها عن عمل، ولم تمنعها من أداء واجباتها المنزلية، ولذا قال تعالى: (فَمَرَّتْ بِهِ)، أي كانت تنتقل به، فـ " الباء "
3029
بمعنى " مع "، أي أنها كانت مع هذا الحمل الخفيف تروح وتغدو وتتقلب في أمور بيتها وفي شئونها.
المرتبة الثانية - هي أن يثقل حملها، وتشغل به، ولا تفكر هي وزوجها إلا فيه، وفي هذه الحال يشركها زوجها في شعورها، ورجائها ويضرع هو وهي إلى الله تعالى أن يجعله ذرية صالحة؛ ولذا قال تعالى في هذه المرحلة: (فَلَمَّا أَثْقَلَت) أي صارت تحمل حملا ثقيلا، ونسب الإثقال إليها دون الجنين، مع أنه هو الذي أثقل؛ للإشارة إلى أن الأنس بالجنين، والفرحة به والرغبة في استقباله تنسيها ثقله، فليس ثقيلا على نفسها، وإن أثقل جسمها.
وفى هذه المرحلة كما أشرنا يشترك الزوج والزوجة في شعور واحد وهو الدعاء له بالسلامة. وهنا لَا يذكر إلا هو، ولذا قال تعالى: (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) يشتركان في الدعاء، لأنه يلتقى شعورهما، شعور الأبوة، وشعور الأمومة، ولا تفكير إلا في سلامته من الآفات، ومعنى صالحا، أي أن يولد قويا مستقيما في تكوينه سويا في خلقه، ليس به آفة من آفات الخلق والتكوين. يدعون ربهما مقسمين بالله: لئن آتيتنا مولودا قويا سويا لنكونن من الشاكرين. والشكر هو شكر النعمة بالقيام بحقها، وعدم الكفر بها.
والمرتبة الثالثة - أن يفصل عنها، ويلقى عنها ثقلها، ويكون حق الوفاء بعهدهما قد جاء ميقاته، ويلاحظ أنهما عندما ضرعا إلى الله تعالى؛ عبر عن ذلك بـ (رَبَّهُمَا) - لأنه الخالق المربي المدبر، وهو الذي يُلجأ إليه سبحانه.
ولكن هل وفيا بحق العهد واليمين:
يجيب الله تعالى عن ذلك بقوله عز من قائل:
3030
(فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠)
من شأن المشركين أنهم في الشدائد يرجعون إلى الله تعالى خائفين طامعين، يرجونه خوفا وطمعا، وإن هؤلاء عندما أثقل الحمل اعتراهم شعوران: أحدهما
3030
الخوف من أن يضر ذلك بالأم، والطمع في أن يكون منهما ولد سويّ الخلق والتكوين يفرح به ويسر، ولا ملجأ يلجأ إليه إلا الله، ولا مأمن إلا عنده، فلما ذهب الخوف، وتحقق الطمع تركا الضراعة وراءهم ظهريا، وبدت سوءات الشرك في نفوسهم، وسيطر الجحود عليهم، والكفر والبهتان حكما أمورهما، وقد صور الله تعالى هذا المعنى السامي بقوله: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا) كان يقرّان بأنه المعطي وحده، فلما أعطاهما ولدا سليم الجسم سوي البنية جعلتم ثمة شريكا في خلقه وتكوينه، فزعمتم أن ما تدعون من دونه له دخل في تكوينه وخلقه فزعمتموهم بأوهامكم أنهم شركاء لله في الخلق والتكوين.
وهكذا نفس من يضل عن سبيل الله، ويسير في طريق الغواية، وتستولي عليه الوساوس، إذا كان في شديدة يستولي عليه الخوف والذعر فيستقيم تفكيره، فإن اطمأن وذهب عنه الخوف لَا يهتدي بل يضل.
(فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْركُونَ)، أي تسامي قدر الله تعالى، وتعالى علوه عما يشركون. " ما " هنا إما مصدرية، والمعنى تعالى قدره عن إشراكهم، وطغيان الأوهام على تفوسهم، أو " ما " موصولة بمعنى " الذي "، ويكون المعنى: تعالى الله بذاته العلية الذي لَا يماثله شيء في الأرض ولا في السماء أن يكون له مماثل من هذه الأوثان التي لَا تضر ولا تنفع.
وإن هذه قصة تصور حال الإنسان في أمور ثلاثة:
أولا - أنه وزوجه من جنس واحد مؤتلف متجانس فكلاهما متمم لصاحبه، وكلاهما من خلق واحد، وتكوين واحد، وخلقا متقابلين متكاملين.
وثانيا - تصور أنه حال الخوف والطمع لَا يلجأ إلا إلى الله، فهو الذي يشبع حاجته، وهو الذي يرجى وحده في الشدة.
وثالثا - في أنه إذا ذهب الخوف غلبته الأوهام، وسيطرت عليه.
3031
يقول القفَّال في هذه القصة: لما آتاهما ولدا صالحا سويا جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما؛ لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائعيين كما هو قول الطبائعيين، وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين، وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام، وذلك الأخير أكثر ما كان عند العرب؛ ولذا قال تعالى: (أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢).
إن مقياس الألوهية هو الخلق والتكوين، فإن كان الله هو الخالق المكوِّن فهو المالك لما خلق وكوَّن، وهو وحده المستحق للعبادة، سبحانه وتعالى، والله تعالى مالك السماوات والأرض وخالقهما، وخالق الإنسان فكيف يعبد غيره؟!؛ ولذا قال تعالى مستنكرا ما عليه الضالون:
3032
(أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١)
الاستفهام إنكاري لإنكار الواقع بمعنى التوبيخ، أي أتشركون بالله في العبادة ما لا يخلق شيئا وهو ذاته مخلوق، وننبه هنا إلى ثلاثة أمور:
أولها - أنه هنا ذكر شركهم ولم يذكر من يشاركونه، وهو الله، تساميا لاسم الله تعالى عن أن يذكر مقارنا بالأوثان.
ثانيها - أنه - سبحانه وتعالى - ذكر أنهم لَا يخلقون. والله خالق كل شيء وهم مخلوقون. والله خالق وليس بمخلوق.
ثالثها - أنها لَا تضر ولا تنفع ولا ينصرون أحدا، ولا ينصرون أنفسهم، والله تعالى غالب على كل شيء ينفع ويضر وينصر من ينصره، إنهم لو كانت لهم عقول ما أشركوا مع الله أحدا أو شيئا من هذه الأوثان أو غيرها.
وكل مقدمات هذه الفارقات ثابتة بالبداهة لله جلت قدرته، والأوثان ثابت كل ما سلب عنهم. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤).
3032
وقد كان إبراهيم - عليه السلام - يقول لأبيه: (.. ، يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)، وجاء إبراهيم وكسر الأوثان جذاذا إلا كبيرا لهم فلم يستطيعوا نصرا، قال تعالى في ذلك: (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعونَ).
3033
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (١٩٣)
أي إن هذه الأصنام فوق أنها لَا تضر ولا تنفع، ولا تنصر أحدا، ولا ينصرون أنفسهم إذا رامها عدوها السوء لَا تجيب نداء، ولا ترد دعاء، ولذا قال تعالى:
(وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ) وهذا لَا يخلو من تهكم، لأن الأحجار لَا تعقل ولا تدرك، فلا يتصور منها ضلال أو هداية، إنما ذلك لصاحب العقل الذي يرشد أو يضل، وأصل العقل ليس قائما فيهم.
وإنه سواء عليكم أقلتم أم لم تقولوا فهم لَا يسمعون قولا، ولا يردون قولا، ولذا قال تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيكُمْ أَدَعَوْتموهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ).
أي أنه يستوي دعوتهم بألسنتكم أم صمتكم عنهم، وعبر في الجملة الأولى بالفعل الماضي (أَدَعَوْتُموهُمْ)، وعبر عن العادلة الثانية بالجملة الاسمية (أَنتُمْ صَامِتُونَ)، لأن الأصل هو الصمت، ولأن الصمت أولى؛ لأنه هو الجدير بالأخذ في هذا المقام، إذ القول لغو، وصون اللسان عن اللغو أولى، ولأن الأوثان غير جديرة لأنها أحجار، والخطاب شأن العقول.
ساق كتاب السير والصحاح أنه روي أن معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ ابن جبل - رضي الله عنهما - وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول الله المدينة، فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ليعتبر قومهما بذلك، ولم يؤثروا لأنفسهم، فكان لعمرو بن الجموح - وكان سيدا في قومه - صنم يعبده، ويطيبه، فكانا يجيئان في الليل، فينكسانه على رأسه ويلطخانه
3033
بالعذرة فيجيء عمرو بن الجموح فيرى ما صنعا به فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا، ويقول له: انتصر، ثم يعود لمثل ما صنعوا، ويعود لمثل صنيعه أيضا حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت ودلياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل، وقال:
تالله لو كنت إلها مُسْتَدَنْ لم تك والكلب جميعا في قَرَن
هذه صورة من صور الوثنية.
ولقد أدرك عمرو بن الجموح الدين الحق فأسلم وحسن إسلامه واستشهد يوم أحد.
تدرج الله تعالى مستنكرا لعبادتهم من أدنى حال متصورة لهم إلى أعلاها، فذكر أنها أحجار لَا تضر ولا تنفع ولا تستطيع لأحد نصرا ولا تنصر نفسها، ثم صور لهم أنها تُنادَى فلا تجيب لأنها لَا حياة فيها، إنما يجيب النداء للأحياء ولو كانت تنعق، ثم تدرج إلى تصور أنها من الأحياء، فإنها لَا تستجيب للدعاء، فقال تعالت كلماته:
3034
(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٩٤)
الخطاب للمشركين من أول الحديث في عبادتهم الأوثان، والله - سبحانه وتعالى - يتدرج في تصويره لما يعبدون من أحجار لَا تنفع ولا تضر ولا تسمع، وليس فيها حياة إلى فرض أن فيها حياة، وفي هذا الفرض البعيد لَا يعلون عليكم معشر المشركين، بل ينهدون إلى أن يكونوا عبادا مثلكم والمعبود يجب أن يكون أعلى منكم لتسجدوا له، فكيف تعبدون مثلكم، ولماذا تختارونه للعبادة وهو على أكثر تقدير له - مثلكم؟!.
3034
والحق أنه دونكم لأنه أصم لَا يسمع، أبكم لَا يتكلم، قد محيت منه آية الإبصار فلا يرى. ولقد تحداهم أن يدعوهم، فإن استجابوا كان لكم أن تدعوا ما تدعون زورا وربما تعدون في العقول، ولذا قال تعالى: (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) دعواكم الألوهية. والأمر للتحدي أو للتعجيز لَا للطلب ولا الإباحة.
وهنا ملاحظات بيانية:
الأولى - أنه سبحانه وتعالى قال عن الأحجار: (عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) وكيف يقال إنها عباد، وكيف يقال: إنها مثل المشركين، وكيف يتحدث عنها كأنها جمع مذكر سالم؟. والجواب عن هذا أن الواضح هو بيان مثليتها في أنها مخلوقة مثلهم، وعلى الأقل هي متماثلة مع المشركين في أنها خلق لله لَا تُعبد كما لا يعبدون، فكيف يعبدونها، وهذا القدر كاف لاستنكار عبادتها، وتسميتها عبادا من حيث إنها خاضعة لله، فلله يسجد طوعا أو كرها كل ما في السماء والأرض من أجرام.
والبعض يزعم أن للجماد روحًا (... وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ...). وعود الضمير عليها كضمير جمع العقل مجاراة لهم في تفكيرهم، إذ جعلوها من العقلاء فعبدوها.
الثانية - لام الأمر في قوله تعالى: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) ما موضعها من القول؟ نقول: إن موضعها أنها لام الأمر، يطلب إليهم رب العزة أن يأمروهم ليستجيبوا، أي أن الأمر بالاستجابة ليس من الله تعالى، لأن الله تعالى لَا يطلب الاستجابة ممن لَا يجيب، بل الأمر يكون من غيره ممن يعبدها وليكون التعجيز والتحدي كاملا.
وبهذا التخريج يكون طلب الاستجابة من المشركين لَا من الله تعالى.
3035
الثالثة - أن سياق القول يدل على أن الاستجابة غير ممكنة، ولذا كانوا غير صادقين، وبذلك ينتهي التحدي بالتعجيز والعجز، فعجزوا أن يثبتوا صدقهم.
ولقد بين الله من بعد ذلك أنها أدنى خلقا ممن يعبدونها فقال تعالى:
* * *
(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (١٩٨)
* * *
إن الآية السابقة، ذكرت أنهم عباد أمثالهم، وقد خرجنا معناها على ذلك، ويكون قوله:
3036
(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا) وتكون الآية هنا تنزيلا لهم عن مقام المماثلة إلى ما دونها، فأنتم لكم أجسام مصورة، لكم أرجل تمشون بها، وأيد تبطشون بها ولكم آذان.
وأُنسينا عند الكلام في معاني الآية السابقة أن نذكر قراءة (إنْ) بالتخفيف بمعنى النفي، ويكون المعنى: " ليس الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم " فتكون لنفي المماثلة بينهم، بل إن المشركين في الخلق والتكوين أكمل وأعلى فكيف يعبد الأعلى من هو أدنى منه مقاما، وأقرب منه إلى الإكرام. ويكون قوله تعالى: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا)، الآية بيانا لهذه الأفضلية، ومنع المماثلة. وأن قوله تعالى: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ
3036
آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) الاستفهام كله للإنكار بمعنى نفي الوقوع، أي ليست لهم أرجل، ولا أيد، ولا آذان. وجاء النفي بصيغة الاستفهام لتأكيده بالدعوة إلى الالتفات لهم، ثم الحكم ينفي هذه الجوارح عنهم، ومن عنده هذه الجوارح أكمل بلا ريب في الخلق والتكون والآخر أدنى منه.
وقد ذكر المشي بالنسبة للرجل، والبطش بالنسبة لليد، والسماع بالنسبة للأذن مع أنه إذا انتفى وجود الرجل انتفى المشي لَا محالة، وكذا السمع واليد، فلماذا ذكرت هذه الصفات مع أن نفي الأصل ينفيها، ذكرت للدلالة على قوة العابدين لهم، وضعف هذه المعبودات، فكيف يعبد القوي الضعيف، وكيف يعبد القادر غير القادر، وكيف يعبد من أوتي الحركة الجماد الذي لَا يتحرك، ولا يستطيع أن يدفع الباطش به أن يبطش.
ومع هذا الضعف الدال على الزراية بمن يعبدونها، كانوا يخوفون النبي - ﷺ -
منهم، كما خوف من قبل قوم نوح وعاد وثمود أنبياءهم. فقد قال تعالى عن هود إذ هددوا عاد: (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦).
كانوا يخوفون النبي - ﷺ - منها، كما كانوا هم يخافون، ولقد تحداهم الله تعالى أن ينزلوا هم وأوثانهم بالنبي ما يخوفون فيكون ذلك بيان لعجزهم؛ ولذا قال تعالى: (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرونِ).
إن كنتم تخافونهم، وتخوفون محمدا فقل يا محمد: ادعوا شركاءكم، أي من جعلتموهم شركاء لله، فالإضافة لأدنى ملابسة، أي الشركاء الذي هم شركاء في زعمكم أي هم شركاء في زعمكم أنتم (ثُمَّ كِيدُونِ)، أي دبروا لي وأعلنوا الحرب، وقد يطلق الكيد ويراد به الحرب. تقول كتب السيرة في بعض سرايا النبي - ﷺ -
3037
(عادوا ولم يلقوا كيدا) (١)، أي حربا. والمعنى أعلنوها حربا مدبرة (فَلا تُنظِرونِ)، أي لَا تؤجلوني لحظة من زمان، هذا تحد أمر الله تعالى به نبيه، وبيان لضعف ما يعبدون - وإنما هي الأوهام، ووساوس الشيطان هي التي تفرض فيهم قوة، وما هم بشيء فضلا عن أن يخوَّف عاقل مدرك بهم.
ولئن كانت لهذه الأصنام قوة، أو لكم أنتم معشر العابدين لها - قوة، فقوتكم من الشيطان وهو وليكم والله ولي المؤمنين، وأين أولياء الشيطان من أولياء الله؛ ولذا قال تعالى:
3038
(إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦)
(إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ) الولي هو الحبيب الموالي، والنصير، والمظل بالرعاية، وكل هذا يتضمنه ولاية الله لنبيه فهو حبيبه وناصره، ومن يعيش في ظله، ومن يفيض عليه برحمته وهدايته، ومن يكون الله تعالى وليه لَا يضار، ومن يرومه رد عليه. وقد أكد النبي - ﷺ - ولايته لله بالجملة الاسمية، و " إنَّ " المؤكدة. والكلام يفيد القصر، أي إن ولايتي لله تعالى وحده، لَا ولاية لأحد سواه، هنالك الولاية لله الحق، وإنه نعم المولى ونعم النصير.
وقد ذكر بعد ذلك أن الله تعالى هو منزل القرآن، وهو جدير بأن يحفظه كما وعد، وكما ذكر، وأن يؤيد من بلَّغه رحمة للعالمين، فقال تعالى: (الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ) وصلة الموصول علة في الحكم أو مؤكد لمعنى القول، أي أن الله تعالى ناصر محمدا - ﷺ -؛ لأنه صاحب الولاية المطلقة؛ ولأنه رسوله، وصاحب الكتاب المبين الذي يماري فيه الضالون، فالله ناصره.
وأمر ثالث يوجب عون الله تعالى، ونصرته، وهو أن الله تعالى من شأنه أن يتولى الصالحين، أي يتعهدهم برعايته وتأييده وتوفيقه، ولا يتولى المفسدين.
3038
وفى هذا الكلام إشارتان بيانيتان:
إحداهما - الحكم على النبي - ﷺ - بأنه من الصالحين الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون، وأن عبدة الأوثان مفسدون، قد أفسدوا في تفكيرهم وفي اعتقادهم، وأفسدوا وأضلوا باتباعهم الأوهام، وبعبادتهم من لَا ينفع ولا يضر.
والثانية - أن الله تعالى ناصر الصالحَ على الفاسد، ويتولى الصالحين برعايته، وأنه - سبحانه وتعالى - لن يضيعهم أبدا، وأن النصر في النهاية للفضيلة لا للرذيلة، وللحق لَا للباطل، وهو يتولى عبادة المخلصين دائما.
وإذا كان الله ناصر المؤمنين، فالشيطان ولي الكافرين؛ ولذا قال تعالى:
3039
(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧)
(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ) الخطاب للمشركين، وقد ذكر معناه آنفا، وكرر القول فيه لبيان الحق الذي ينكرونه، ولتثبيت القول في نفوسهم، ليخرج منها الوهم، فإن القول إذا قيل فتح خطأ في النفس، فإذا تكرر عمقه، ولا يزال يتعمق حتى يستكن فيها، فإذا كتب الله تعالى له الهداية استرشد، وعلم أنها أوهام، وإن لم يهتد فمآله الضلال. إن الأوثان لَا تضر ولا تنفع فلا تستطيع نفعا، ولا تنصر نفسها. ثم قال الله تعالى:
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (١٩٨)
الخطاب للنبي - ﷺ - وأصحابه، والمتحدث عنهم المشركون فإنهم مع هذه البراهين ومع هذه الأدلة الحسية التي تفيد أنها لَا تضر ولا تنفع، وأنها دون من يعبدها حسا ومشاهدة، وأنهم لَا ينصرون أحدا ولا ينصرون أنفسهم، مع كل هذا عاكفون على أصنامهم يعبدونها، وإذا سمعوا دعوة الحق أعرضوا عنها، ولذا قال تعالى: (وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا) أي لَا يسمعوا سماع وعي وإدراك وتأمل، بل هم معرضون، وشبهت حالهم في عدم تدبر القول، وتعرف ما فيه بعدم السماع، باعتبار أن سماعهم الحسي لَا جدوى فيه، إذ لَا يتدبرون، بل على
3039
قلوبهم أقفالها، وصور - سبحانه وتعالى - حالهم فقال عز من قائل: (وَتَرَاهُمْ يَنظُرونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)، أي أنهم بعد أن يستمعوا إلى الهدى مشدوهين متحيرين، يأخذهم نور الحق حيث يفكرون ويتدبرون ولكن لَا يلبثون أن يغلبهم التقليد وزيف الباطل، فيترددون وتصيبهم حيرة بين ماضٍ ألفوه، وحق بزغ نوره فغلب ضياؤه فعميت أعينهم عن أن ترى.
وقد صور الله - سبحانه وتعالى - بهذه الجملة السامية (وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)، أي تراهم ينظرون إليك، وما تدلي به من بينات باهرة، وأمارات للحق ظاهرة، (وَهُمْ لَا يبْصِرونَ) أي إبصار تأمل وتدبر في آياته، فهم المبصرون الذي لَا يرون، والناظرون الذين لَا يعرفون ما ينظرون إليه، فهم في حيرة أدت إلى ضلالهم.
وهذا استعارة تمثيلية، فقد شبهت حالهم التي يلوح لهم فيها الحق ولا يعرفونه، ويبرق لهم النور ولا يعرفونه، بحال الذين ينظرون ولايبصرون، لأنها رؤية لَا ترى الحق ولا تضع أيديهم عليه، فهم في ضلال مبين، والله - سبحانه وتعالى - يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
* * *
الدعوة إلى الله
(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا
3040
قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)
* * *
بعد أن بين الله - سبحانه وتعالى - أن البراهين العقلية لَا تجدي معهم، وأن الأدلة الحسية لَا ترشدهم، وأنهم في الغي يعمهون فيه - أمر الله تعالى نبيه أن يستمر في دعوة الحق في رفق، وحكمة، وأن يبين مكارم الشريعة في ذاتها، فإنها بما فيها من صلاح ودفع فساد، وهداية داعية لنفسها من غير برهان ولا دليل، مع التأليف (١)، كما قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...)، وكما قال - ﷺ -: " تآلفوا النفوس " (٢). والآيات الكريمة تبين:
أولا - جماع مكارم الأخلاق في قوله تعالى:
(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
________
(١) أي مع تأليف القلوب بالمال والخلق الحسن.
(٢) انظر كنز العمال: ج ٤، ص ٤٩ (١٠١٥٨).
وثانيا - تبين علاج النفس إذا عراها نزغ الشيطان وفساده بالغضب أو الجهل والحمق، وهو الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وذلك بقوله تعالى:
(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)
فالالتجاء إلى الله في أزمات النفس فيه النجاة، كالالتجاء إليه سبحانه في الكروب.
وثالثا - أن ذكر الله تعالى يبصر القلب بعماه إذا ضل، وما ضل الذين ضلوا إلا بتركهم لذكر الله، وقد بين ذلك بقوله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١)
ورابعا - وتبين أن عدوى الشر تجيء من إخوان السوء، وهم الذي يمدون في الغي ويجعلون الضال يسير شاردًا عن هداه. وقد بين - سبحانه وتعالى - ذلك بقوله:
(وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدونَهُمْ فِي الْغَي ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ).
وخامسا - أن ضلال الضالين إنما يكون بإغوائهم بطلب آيات يريدونها ويريدون أن يجتبيها لهم، ومصداق هذا قوله تعالى:
(وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣).
هذه آيات بينات وهي تكشف معانيها من غير تبيين مبين، ولا تفسير مفسر، فهي كتاب مبين واضح، ولكن ما نذكر من بيان ليس تفسيرا، إنما ذكر لنسق القرآن الحكيم، وضرب في ناحية من إعجازه الذي لَا تتطاول إليه الأعناق، فهي تنهد إليه وتتسامى ولا تسمو، وتحاول ولا تصل.
(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
العفو هو الزائد الميسَّر الذي يسهل أخذه، ويسهل إعطاؤه، ويسهل القيام به، فالنص داع لمن يعطي بأن يعطي السهل الذي يمكن المداومة عليه من غير ضيق وتبرم، كما قال تعالى: (... وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ...)، ويقبل من الناس القليل، ولا يكلفهم ما لَا يطيقون من قول أو عمل، ويفعل اليسير من العبادات الذي يمكن المداومة عليه، ولقد كان النبي - ﷺ - يقول: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ " (١). وكان يقول - ﷺ -: " إن الله يحب الديمة من الأعمال " (٢). وإن العفو السهل اليسير يسهل المداومة عليه، والاستمرار في عمله، واقبل من الناس ما يسهل عليهم ولا تكلفهم شططا، واجعل العفو دائما شعارك، لَا تشتط في الطلب، ولا تعاسر الناس بل خذهم برفق؛ فإنك إن فعلت كسبت خيرهم، واجتنبت شرهم، وكنت أليفا مألوفا.
________
(١) متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها.
(٢) سبق تخريجه.
3042
هذا هو الأمر الأول، أما الثاني فهو قوله تعالى لنبيه: (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ)، أي أمر بالأمر الحسن في ذاته الذي تألفه العقول، ويألفه الناس، ويدركونه، وإن هذا يجمع كل ما أمرت به الشرائع الإلهية في معاملات الناس، وفي اجتماعهم، ولقد روينا في عدة مناسبات قول الأعرابي الذي سئل لماذا آمنت بمحمد فقال: ما رأيت محمدا يقول في أمر افعل، والعقل يقول لَا تفعل، وما رأيت محمدا يقول في أمر لَا تفعل، والعقل يقول افعل.
وإن هذا النص الكريم يدل قطعا على أن كل ما أمر به النبي - ﷺ - وجاء به القرآن أمر متفق مع ما تأتي به العقول، وما أمر به هو حسن في ذاته، وما نهى عنه قبيح في ذاته، وقال بعض العلماء: إن ما كان حسنا في ذاته فهو من أمر الله، وما كان قبيحا في العقل فقد نهى الله عنه.
وقد أسرف ناس على أنفسهم وعلى الله فظنوا أن ما يستحسنونه أو يقبحونه فلهم أن يمنعوه، وإن أباحه الله، ولهم أن يوجبوه، وإن منعه الله: (... كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (٥).
وقوله في الأمر الثالث: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) أي أهل الحمق والجهل، الذين لَا يهتدون بهدى، ولا يسمعون مرشدا، بل يعملون على إيذاء الداعي، ويستهزئون بالمرشد، وهؤلاء ليس لهم إلا أن يعرضوا عن هؤلاء، كقوله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ...)، وكقوله تعالى: (... وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا).
ولما نزلت هذه الآية قال جبريل للنبي - ﷺ -: " إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك " (١)،
________
(١) رواه الحاكم في المستدرك: ج، ٢، ص ٥٦٣ برقم (٣٩٦٢).
3043
وفى الحق إن هذه الآية جمعت محاسن الأخلاق وبينت محاسن الشريعة، وحكمت بين الناس (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)
النزغ الإفساد، ومن ذلك قول الله تعالى على لسان يوسف - عليه السلام - مخاطبا أبويه: (... وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَن نَّزغً الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ...)، ويظهر لي من استعمال القرآن الكريم أن النزغ يكون إفساد ما بين من يجب الارتباط بهم بالمودة، وإسناد النزغ إلى الشيطان؛ لأنه يكون من وساوسه التي تكبر السيئات وتصغر الحسنات. وقد قالوا: إن النزغ والنغز والهمز والوسوسة بمعنى واحد، وقد قال تعالى: (وَقُل رَّبِّ أَعُوذ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ).
وإن العلاج من نزغات الشيطان هو الاتجاه إلى الله تعالى أن ينزع من النفس أضغانها، وهمزات الشيطان فيها ليرتاح نفسيا، وليكون خيرا للناس، ويفتح قلبه لهم، وينبسط بالسرور لِلِقائِهم. ومعنى استعذ بالله، أي اجعل الله تعالى معاذك وملجأك، فإن الالتجاء إليه مُطْمَأن النفوس، ومكان استقرارها، ومن علا إلى ملكوت الله تعالى أحس بعلو عن الضغن وحسك الصدر، وأحس بأنه رباني لا ينزل إلى موضع التحاسد والتباغض.
وقول تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) فيه " إن " مدغمة في " ما " الدالة على توكيد ما بعدها. والمعنى إن ينزغنك بشدة وقوة نزغ مصدره الشيطان، فاستعذ بالله، ولأن (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ) فيها توكيد ألحقت به نون التوكيد الثقيلة، وكانت في معنى القسم، وقوله: (مِنَ الشَّيْطَانِ نَزغ) بتقديم الجار والمجرور يكون تأكيد أن النزغ من الشيطان وحده، فلا يكون إلا منه، وفي ذلك حض على مقاومته، والاستعانة على مقاومته، بكل ما يدفع شره، وفي ذكر أنه من الشيطان وحده بيان أنه شر مفسد ما بين الناس دائما.
3044
وإذا كان الشيطان ينزغ دائما، فالمعاذ به هو الله، وهو وحده الفادر على دفع الشر؛ ولذا قال تعالى: (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، أي هو وحده السميع العليم، وذلك يزكي معنى الالتجاء إليه - سبحانه وتعالى - وحده فهو (عَلِيمٌ) بما نخفي النفوس، وما تظهره الألسنة، وهو سميع أي عليم علم من يسمع ومن يبصر.
ومن كان له الصفات العليا فهو الجدير بأن يلجأ إليه لتطهير النفوس من أدرا نها.
وهذا النص كقوله نعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦).
ولقد قال رسول الله - ﷺ -: " إنكم لَا تسعون الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق " (١).
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١)
إن المؤمنين الصادقين في إيمانهم لَا تتمكن منهم نوازغ الشيطان فيقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذكَّروا) ومعنى (اتَّقَوْا) جعلوا وقاية لأنفسهم من خوف الله والحرص على طاعته، بسبب ذلك (إِذَا مَسَّهُمْ)، أي إذا أصابهم إصابة تمس إحساسهم ومشاعرهم (طَائِفٌ منَ الشَّيْطَانِ)
________
(١) رواه الحاكم في المستدرك (٤٣٢) ج ١، ص ٢١٢، ورواه أبو يعلى والبزار، وزاد: " وَحُسْنُ الخُلُقِ ". وانظر: مجمع الزوائد (٢٧٦٢١).
3045
وفى قراءة (طيف من الشيطان) أي غضب، أو خيال يمس الوجدان من الشيطان بأن همز الشيطان في نفوسهم فسرعان ما يستيقظ وجدانهم العامر بتقوى الله تعالى فيتذكرون الله ويرجون ثوابه، ويخافون عقابه سبحانه، فإذا غشاوة الشيطان تزول عنهم، ويرجعون إلى ربهم، وكما قال تعالى: (فَإِذَا هُم مُّبْصرُونَ).
والتعبير بالموصول يفيد أن الباعث على ذكر الله تعالى، وحضوره في القلب واستيلائه على الإحساس والشعور بالواجب أنشأته التقوى.
والطيف والطائف معناه الغضب، ومنهم من فسره بإلمامة الشيطان، ومنهم من فسره بالهم والذنب، ومنهم من فسره بالذنب.
وإن الطائف يحتمل كل ذلك، وربما يشملها جميعا، وهي من الشيطان.
وقد يكون طائفٌ من الرحمن كما في قصة أصحاب الجنة التي قال الله تعالى فيها: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (١٧) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠).
فالطائف يطوف من الشيطان بالغضب أو الذنب، أو الهم بالذنب، أو نحو ذلك.
ومعنى النص الكريم أن الذين اتقوا ربهم إذا هموا بالشر أو أرادوه سرعان ما يرجعون فيتوبون فيقبل الله تعالى منهم. وينطبق عليهم قول الله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ...).
وإن أهل التقوى لَا يكونون بعيدين من ربهم، بل هم على مقربة منه، قلوبهم عامرة بذكره، فإن أصابتهم غمزة، فغفلوا، فسرعان ما يتنبهون، وسرعان ما يبصرون ويثوبون.
وقال تعالى في التعبير عن تنبههم للمعصية عندما تساورهم أسبابها: (فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) عبر أولا بالمفاجأة للناظر لحالهم، وطائف الشر يطوف بهم، فهو
3046
يفاجأ بقطع السير إلى الرذيلة، والمفاجأة بأنهم يبصرون، والإبصار هنا هو يقظة الضمير وقوة الوجدان وسيطرة النفس على أهوائها، وشبهت هذه الحال بالبصر الدائم المستمر، الحارس على النفس أن تنفعل لداعي الشيطان، وعبر بقوله: (هُم مُّبْصِرُونَ) بالتعبير بالجملة الاسمية، للإشارة إلى دوام البصر بالحقائق بإدراكها، وتغلبها على الأهواء والمنازع.
هذه هي النفس من داخلها تدفع شرورها وتعالج أسقامها، وإن الذين يجعلونها في معركة مستمرة وهم الذين يقاومون الفطرة، حتى إبصار الضمائر المستيقظة، هم إخوان السوء، وعشراء الشر؛ ولذا قال - سبحانه وتعالى - بعد ذلك: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)
أشار الله - تعالى - في الآية السابقة إلى ما في المؤمن التقي من حراسة على النفس من أن يتدلى إلى الشر تدليا، فإذا جاءها طائف تذكروا الله وعظمته، وآياته الباهرة، فيدركون بفطرتهم كما يدرك المبصر بنصره، فلا يتردى في معصية، ولا يصل إلى أقصاها.
ولكن لَا يكون العيب من ذات نفوسهم، بل يكون من إخوان السوء الذين يزينون له سوء الأفعال فيحسبها حسنة، ويكون ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا، فأولئك هم الذين يقاومون فطرة المؤمن ويحاولون طمس النور فيها، ويزيدونها سيرا في الغي إن سارت فيه، فبينما الحق يذكرهم، إخوان السوء يمدونهم في الغي، ولذا قال تعالى: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَي).
الإخوان هم الذين يرتبطون معهم بصلة نسب، أو صلة مودة أو صلة جوار أو يتصلون بهم بأي صلة إنسانية (يَمدُّونَهُمْ)، أي يسيرون يمدونهم بكل أسباب الطغيان والعتو. ويقال مده في عمله وزينه له وحسنه، ولذا كانت قراءة الأكثرين بفتح الياء وضم الميم، (يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَي) والمد التزيين والتحسين والتشجيع، والغي هو الضلال والفساد، وكل ما يؤدي إلى الوقوع في مراتع الهوى.
3047
وإنه توجد موازنة حكيمة، بين نفس متقية مؤمنة هدايتها من نفسها إذا جاءها الشر أو طائف منه قاومته بذكر الله وبصيرة المؤمن، وبصبر الإيمان.
والنفس الأخرى نفس شقية أغواها السوء، فلما طاف عليها طائف الشر، زينته وأغرى النفس إخوان السوء وزينوه وحسنوه، فأصرت على طائف الشر بتزيينهم، وتشجيعهم ومدهم، فهم في طغيانهم يعمهون وأن يستمروا على تحسين الشر، ولا ينهون تحسينهم وتزيينهم. فهم في غمرة من الشر لَا تنتهي، ولذا قال تعالى: (ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) أقصر معناها أنهى، و (ثُمَّ) هنا للدلالة على تَراخي الزمن واستمراره، فهي في موضعها، والمعنى ثم بعد استمرارهم في غيهم وضلالهم (لا يُقْصِرُونَ)، أي لَا ينتهون بل دائمون.
وهكذا الشر يستمر مع مقاومة الفطرة باستمرار دعاة الغي وأنصاره، وكان مدهم وتزيينهم مستمرا يغذي شجرة الشر، كما يغذي الماء القذر النبات الخبيث الذي لَا يكون إلا نكدا.
فالشر يتغذى بدعاة الشر، وينمو ويغلظ سوقه بهم، والفساد لَا يستشري في جماعة ويعمها بالشر إلا بالبيئة الفاسدة وبالرأي العام الفاسد المرذول، فإخوان السوء يمدون بالغي وسواء أكانوا آحادا، أم كانوا جماعات، وكلمة إخوانهم تنطبق عليهم.
وإن من يرد إصلاح جماعة لَا يصلح آحادها ابتداء إنما يصلح نية الإخوان الذين يسيطرون على جوها العام أولا، ثم يصلحون الآحاد، فيصلحون بالجولة الأولى.
وإنك إن علوت من رذائل الأفعال إلى فساد العقول، تجد إخوان السوء هم الذين يمدون في فساد العقول بعبادة الأوثان والكفر بالآيات؛ ولذا قال تعالى:
(وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)
3048
الشيء الغائب معظم مذكور بالخير في زعم الذين يسيرون وراء الأوهام، ولا يحكمون الحقائق في ذاتها، فكل مستور تتوهم فيه الأوهام، وتحاط به، وكذلك كان إخوان السوء يجيئون إلى تضليل الناس من وراء ما يستتر عنهم، فالغيب عن الناس لم تجئ من ورائه إلا الأباطيل.
بين أيدي الناس معجزة باهرة قاهرة تحداهم النبي - ﷺ - أن يأتوا بسورة فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة مفتراة فعجزوا، ومع ذلك طلبوا هم وإخوان الغي فيهم أن يأتيهم بآية غائبة لم تأتهم، فما دامت لم تأتهم فلها قدسية، فقال الله تعالى عنهم: (وَإِذَا لَمْ تَأتِهِم بِآية قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا).
أي إن الذي أغراهم بطلبها أنه لم يأت بهذه الآية، ولو سايرهم بمنطق تفكيرهم لتأدى بهم أنه إذا جاءتهم الآية وصارت حاضرة مهيأة بين أيديهم طلبوا آية أخرى وقالوا لولا اجتبيتها، وهكذا تتوالى الطلبات عبثا؛ لأن من لايؤمن لا يقنعه بشيء.
والأولى الوقوف عند حال معينة فاطمة للنفس، عن متطلباتها، والوقوف عندها. وقوله تعالى: (وَإِذَا لَمْ تَأتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا) لولا بمعنى هلا للحض على الإتيان باية معينة طلبوها بذاتها، (اجْتَبَيْتَهَا)، أي اخترتها، وهي آية حسية، وقد جاءت من قبلهم مثلها فكفروا، وإذا كانت الجملة شرطية فمؤداها أنهم مطالبون بما لم يأتهم آية بعد آية، وما هذا شأن المؤمنين، فالدليل إذا كان مقنعا، فهو كاف وحده.
ولقد أمر الله تعالى نبيه بأن يرد عليهم بقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
هذا هو الجواب الذي أمر الله تعالى به نبيه أن يجيبهم على الطلب الذي دفع إليه أوهامهم الباطلة وهو مكون من أجزاء ثلاثة:
الجزء الأول عبر النبي - ﷺ - بقول: (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي) وخلاصته أن الآية يختارها لي ربي لَا أبدى عليه، ولا أعين له، وقد قصر الآية
3049
على ما يوحى به الله، وحصره بـ " إنما " أي ليس لي أن أقترح عليه آية لم يأت بها، وبين الدليل على وجوب الطاعة فيما اختار، فهو ربي الذي خلقني وأرسلني، وهو أعلم بما يصلح دليلا لرسالتي وما لَا يصلح، وهو وحده الذي يوحي إليَّ فليس لي أن أقترح عليه، وإن كفرتم بآياته فقد كفرتم به، وفي هذا الجزء برهان صدق الآية التي تحداهم بها.
الجزء الثاني وصف الآيات. فقال تعالى: (هَذَا بَصَائِر مِن رَّبِّكُمْ) البصائر جمع بصيرة وأصلها من البصر وهي الرؤية والنظر ثم الإدرك والفهم ثم أطلقت على ما يؤدي إلى الإدراك أو هو آلته، فإطلاق البصائر على الآيات من قبيل المجاز؛ لأنها سبب إدراك الحقائق الربانية، والسبيل إلى معرفة الله تعالى وقدرته، ورسالاته الإلهية، فهي من قبيل إطلاق اسم السبب، وإرادة المسبب، وهو إبصار الحقائق الربانية، ومعرفتها.
وإذا كانت هي بصائر آتية من قبل الله تعالى فهو الذي يجتبيها ويختارها، ويريدها، وهي من ربكم الذي خلقكم وبرأكم، وهو أعلم بمن خلق ورلت وبرأ وهو اللطيف الخبير.
والجزء الثالث قاله تعالى في وصف هذه الآيات، وهو الذي قاله بقوله تعالى: (وهُدًى وَرَحْمَةٌ لقَوْم يُؤْمِنُونَ).
هذان وصفان وصف الله تعالى آياته، وأخصها القرآن، ففيه أمران جليلان ذا شأن في الرسالات الإلهية:
أولهما - فيه هدى يهدي إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، فهو يبين الهدى من الضلالة، والنور من الظلمات بما اشتمل عليه، وبدلالته الذاتية، وبإعجازه، وبأنه يهدي إلى الطيب من القول، ويهدي إلى الصراط الحميد.
3050
وثانيهما - أن فيه الرحمة بما اشتمل عليه من شريعة حكيمة تصلح أمور الناس، وتذهب عنها الفساد، فهي بما شرعت من النظم في الأسرة، ومعاملات بين الناس، ومنع لأكل أموالهم بينهم بالباطل.
وإن هذه الهداية وتلك الرحمة لقوم من شأنهم الإيمان؛ ولذا قال تعالى: (لِّقَوْمٍ يُؤْمِنونَ) فوصفهم بالجملة التي يتصدرها الفعل المضارع للدلالة على إيمانهم المستمر، المتجدد آنًا بعد آنٍ على وجه الدوام.
وذلك لأن شأن المؤمن أن يتجدد إيمانه، فيقوى بالعمل المستمر والمتجدد، فإن العمل الصالح يجدد الإيمان، فلو كان العمل فهو للإيمان كالماء العذب الفرات يغذي الإيمان كما يغذي الماء الزرع.
* * *
قراءة القرآن عبادة، وجزء من أكبر عبادة
(وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
* * *
بين الله - سبحانه وتعالى - في الآية السابقة أن الآية التي تحدى بها العرب أن يأتوا بمثلها هي بصائر مبينة للناس الحقائق الدينية، ومثبتة لصدقها، وهي هدى ورحمة، وهي القرآن، ولا يمكن أن ينتفع بها بعد إعجازها بأن ينتفع بهدايتها ورحمتها إلا إذا قاموا بحقها عند قراءتها بالاستماع إليها، والإنصات لها، وتدبر
3051
ما جاء فيها من تكليف هو رحمة للعالمين، ومواعظ، وعبر وقصص في ذكر
الأولين؛ ولذا قال تعالى بعد ذلك:
3052
(وَإذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمعُوا لَهُ وَأَنصتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
القراءة للقرآن عبادة من القارئ؛ لأنه يتلو كلام الله تعالى، وأي منزلة في القربى إلى الله تعالى أعلى من أن يكون متحدثا بحديث الله فهو يتكلم بكلام خالق الوجود، وتجري على لسانه عباراته جل وعلا، ويرطب لسانه بأطيب كلام، فهو عبادة؛ ولذلك وجب أن يكون متطهرا من الجنابة ويحسن أن يكون على طهارة كاملة. إن قراءة القرآن سمو إلى المكان الأعلى والمقدس الأقدس لمن تدبر موقفه عند القراءة ومقامه.
والاستماع إلى القراءة عبادة، إذا استشعر بأن الله تعالى يخاطبه بالقرآن من أعلى الملكوت، وهو إن يستمع يناهد إلى مقام رب العزة فيستمع إليه، أكاد أرى أن هذا مقام طهر، لَا يستمع إليه من به نجاسة من جنابة وإذا كان الفقهاء لم يصرحوا بهذا فإني أراه مقتضى مقام الطهر لمستمع أطهر قول في الاستماع افتعل من السماع أي طلب سماعه، والإقبال عليه، وتلقيه بقوة وتقبله وتقبل معانيه؛ ولذا قال بعض المفسرين: إن الاستماع هو تدبر المعاني، والاستبصار بها، وإدراك مراميها ومغازيها، فليس المراد مجرد السماع، بل السمع في تدبر وتفهم وتذكر واعتبار.
وقال تعالى: (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) الإنصات معناه السكوت للاستماع والمراعاة، والإصغاء، فمعنى (أَنصِتُوا)، أي هيئوا أنفسكم للاستماع وأعدوها وراعوا ما تسمعون، وكان الإصغاء تقدمه للاستماع، بأن يفرغ النفس له، ويقدم عليه، كأنه مقدم علمي صاحب الكلام، وهو رب العالمين، ألم تر الناس وهم يقدمون على استماع كلام عظيم من عظماء الأرض في سلطانه، يستعدون وينصتون فكيف بكلام مالك الملك ذي الجلال والإكرام والإنعام.
3052
القرآن قراءته عبادة، والاستماع إليه مع التدبر والتأمل وتعرف أسراره عبادة، وهو جزء من أكبر عبادة (وهى الصلاة)؛ ولذا قال تعالى: (... فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ...). وقال بعض العلماء: إن قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) نزلت للقراءة في الصلاة.
ونقول: إنها عامة، ولو نزلت في مقام خاص؛ لأن الأصوليين يقولون العبرة بعموم اللفظ لَا بخصوص السبب.
ولقد قال تعالى في ختام هذه الآية الكريمة: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، أي رجاء أن ترحموا بطلبكم للقرآن، وتدبر آياته والإنصات إليه، والأخذ بتكليفاته، ومواعظه، فهو رحمة، ومنه الرحمة، وهو نور وبرهان.
والرجاء من العباد والله تعالى يعاملهم معاملة من يرجو وهو القادر العليم.
وإذا كان تدبر القرآن والاستماع إليه وتلاوته رحمة، فذكر الله تعالى هو أصل الرحمة، فقال:
3053
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (٢٠٥)
القرآن هو الذكر الحكيم، وهو الذكر الأكبر، وهو خير أوراد المؤمنين؛ ولذلك بعد الأمر بالقراءة والاستماع إليه مع الإنصات رجاء الرحمة أمر - سبحانه وتعالى - بدوام الذكر لله تعالى، بأن يكون الله تعالى حاضرا في نفسه أطراف الليل وآناء النهار لَا يغفل عن ذكره - سبحانه وتعالى - وأن يكون حاضرا في قلبه فى كل وقت يعمر قلبه، ويملأ نفسه؛ ولذا قال تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).
فالذكر يبتدئ بامتلاء النفس بالله يعمر قلبه دائما، وأن تكون في حال تضرع وتذلل لله تعالى، فالذلة لله تعالى هي عين العزة، والتكبر في حق الله تعالى هو عين الذلة، وإن كان لَا يشعر؛ لأن من ذَلَّ لله استعلى على الناس بأمر الله تعالى، ومن تعالى على جانب الله استعان بأحط الناس قدرا فكان ذليلا، وسبحان من له العزة والكبرياء في السماوات والأرض.
3053
وذكر الله تعالى يكون في حال خوف من عقابه؛ ولذا قال تعالى: (وَخِيفَةً)، أي حال خوف فإن الخوف من الله يطهر النفس، ويجعلها لا تستحسن ما تقدم، بل تستصغر ما تقدم وتطلب المزيد من الخير فترضي الله تعالى أو تنال رضوانه، وهو أكبر جزاء، وإن الخوف يوجب استصغار شأن العبيد، ومن عز عند الله كانت له العزة، ومن عز عند العبيد كانت له الذلة، ومن خاف من الله لَا يخاف الناس.
وإن الذكر لله الأصل فيه القلب، ولكن يكون مع القلب ذكر اللسان، بحيث لَا يسمع إلا نفسه؛ ولذا يقول تعالى في حال الذاكر لله: (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).
وإن الله - سبحانه - حد النطق باللسان فجعله دون الجهر من القول، أي لا يرفعه جاهرا، ولا يخفضه خافتا ولكن لَا بد من ذكر اللسان؛ لأن ذكر اللسان، يسد منافذ الشيطان، فحركة اللسان المقصودة تضبط النفس نحو ذكر الله تعالى: ويجعل ذكر النفس ثابتا، وعمرانها بالله قائما لَا يُنسى وحدَّ الله تعالى الوقت فقال: (بِالْغُدُوِّ) أي في غداة اليوم، (وَالآصَالِ)، وهي جمع " أصيل "، كـ " يمين " و " أيمان ". إن الذكر يكون وقت الغدو أي وقت الصفاء، والآصال أي وقت استرواح النفسر من عناء عمل الناس، وبعض العلماء يقول: إن تحديد هذين الوقتين لدوام الذكر آناء النهار وطرفا من الليل، أي يكون في ذكر دائم، ويقرب هذا قراءة " وبالإيصال " أي من الغدوة وأصلا الذكر دائما ما دام صاحيا.
وقد يقول قائل: كيف يكون وقت المعاش والقيام بالصناعات؛ نقول: يجب دوام ذكر الله تعالى وهو في عمله؛ لأن العمل عبادة والذكر عبادة ولا مانع من أن يجتمعا، فيكون عاملا عابدا، مجدا ذكر الله، وينطبق على هذا قوله - ﷺ -: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لَا يحبه إلا الله " (١) فهو يعمل لينفع الناس ويقصد ذلك، وهذه عبادة؛ لأن النبي - ﷺ - يقول: " خير الناس أنفعهم للناس " (٢).
* * *
_________
(١) سبق تخريجه.
(٢) سبق تخريجه.
3054
(سُورَةُ الْأَنْفَالِ)
تمهيد
هذه السورة مدنية، وقالوا: إن سبع آيات منها مكية، وعباراتها السامية تنبئ عن أنها مكية، وهي تبتدئ من قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣٠)، فإن هذه الآيات السبع مكية، تدل عليها عباراتها وزمانها، ولكن لأنها متصلة بالهجرة أضيفت إلى سورة مدنية.
والأنفال سميت بأولها، وهو (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ)، فسميت بهذا الاسم، وإن هذه السورة تشتمل على أعمال من أجل ما قام في الإسلام، ففيها كان يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، وبهذا اللقاء كان الفرق بين عزة الحق وذلة الباطل، وفيها تشريع الأنفال والغنائم، وفيها حكم الأسرى، ومتي يكون الأسر، وفيها إعداد العدة، وفيها الوفاء بالعهد، ومتى ينقض.
وقد ابتدئت السورة بذكر الأنفال، وما يؤخذ من الحرب، وبين الله تعالى أنها في الأصل لله تعالى ورسوله، ليقوى بها الجيش، ويتخذ منها العدة والأهبة، وكان ذلك إيذانا بما يجيء بعد ذلك من يوم الفرقان.
ابتدئت السورة بالإشارة إلى ما كان من تساؤل حول الأنفال، ثم تكلمت بعد ذلك عن الاستعداد للالتقاء يوم الفرقان، وكانت أول العدة طاعة الله ورسوله، وامتلاء القلوب بهيبة الله، وبيان أن المؤمنين المجاهدين إذا ذكر الله وجِلَت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، ويتوكلون على ربهم إذا أعدوا العدة، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وإنَّ ذكر الماضي وإرادة تغييره يكون
3055
بالعمل والجهاد، وإنه يجب الصبر على فراق الأحبة، ومنع المجادلة في الحق، قال تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (٥) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)
ثم يملأ الله تعالى قلوب المؤمنين إيمانا وهو من عدة النصر، (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨).
ويبين من بعد ذلك الالتجاء إلى الله واستغاثئه فاستجاب بإمداد الملائكة الروحي الذي جعله الله تعالى بشرى لهم ولتطمئن قلوبهم.
ورزقهم الله الأمان فناموا، والنوم آمنين قوة، وأنزل الله تعالى من السماء ماءً ليطهرهم به، ويذهب عنهم رجس الشيطان، ويوحي رب العالمين إلى الملائكة أن يثبتوا الذين آمنوا فيثبتوهم، وألقى في قلوب الذين كفروا الرعب، وصار المؤمنون على استعداد للقتال يضربون فوق الأعناق، ويضربون منهم كل بنان؛ لأنهم عاندوا الله ورسوله وساقوه فليذوقوا ذلك البأس ومن بعد النار.
ثم يكون التحريض على القتال والثبات (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦).
وإنه بعد انتهاء المعركة التي كانت فيصل الحق بين قوة الإيمان والكفر، بيَّن الله أن ذلك كان بفضل الله للمؤمنين، وأنه هو الذي رد كيد الكافرين، ووهن تدبيرهم، وأنه سبحانه هو الذي جاء بالفتح وأمر من عنده، وأنه مع إرادة الله تعالى للنصر، لن تغني عنهم فئتهم من الله سبحانه، وإن ذلك من طاعة المؤمنين لله وسماعهم لأوامره، وأنهم لَا يقولون سمعنا وعصينا.
وقد بين الله بعد ذلك أن شر الدواب الذين آتاهم الله عقولا، فأصموا آذانهم عن الحق وتردَّوا في الباطل تردَّيا، وليعلموا أن الله هو المسيطر على القلوب
3056
به يهتدون، ويتركهم إن ساروا في طريق الغواية فيضلون، وبين أن الفتن إن جاءت تعمّ ولا تخصّ، وأن أشد الفتن أن يخونوا الله ورسوله ويخونوا أماناتهم، وأن التقوى حصن القلوب، وهي فرقان ما بين الحق والباطل، وبها يفرق بينهما.
ويذكر الله تعالى بعد ذلك ما كان في آخر إقامتهم بمكة إذ يدبرون لمحمد حبسه أو قتله، أو يخرجوه، ويمكرون، والله سبحانه يدبر له أمر هجرته، (وَيَمْكُرونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّه خَيْر الْمَاكِرِينَ).
ويذكر بعض ما كان المشركون ينالون بالباطل من القرآن، وما تلبى به عداوتهم فيقولون مستهينين بالحق الذي يدعوهم الله تعالى إليه: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٢)، وذلك أبلغ التحدي والاستهانة بالحق فبدل أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق فاهدنا إليه، يقولون متحدين (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ)، ولكن الله تعالى ما كان ليعذبهم والنبي - ﷺ - فيهم قائم بدعوته.
ثم يفرق الله تعالى بين المؤمنين الذين ينفقون في سبيل الله والكافرين الذين ينفقون ليصدوا عن سبيله، وأن مآلهم جهنم، ويفتح الله تعالى لهم باب الرجاء وأَلمغفرة إن ينتهوا، وإن نهاية القتال هو انتهاء الفتنة في الدين (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠).
في هذه السورة من أولها إلى هذه الآية، بيان القتال، وأن النصرة فيه بالتأييد من الله العزيز الحكيم والإيمان الصادق المستجلب لهذا التأييد، فهو قوة المسلمين، وضعف المشركين من كفرهم، وأنهم ينفقون ليصدوا عن سبيل الله تعالى.
بعد ذلك يتكلم الله تعالى في توزيع الغنائم، فيقول: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١).
3057
ويبين الله مواقع القتال يوم بدر الذي انتهى بالنصر المؤزر، وإذ يربي الله تعالى قوة روح المؤمنين برؤية الأعداء في المنام قليلًا، (وَلَوْ أَرَاكهُمْ كثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ...) وإنه في رؤية العيان تستقلونهم لتتقدموا، ويستقلونكم لأنكم فعلا قلة، وذلك (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا..).
ويدعو الله تعالى إلى الثبات مكررا له؛ لأن الثبات في الصدمة الأولى هو قوة الصبر كما قال النبي - ﷺ -: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " (١).
ويدعو مع الثبات إلى ذكر الله تعالى؛ لأنه عدة الأتقياء، وينهى عن التنازع حتى لَا تذهب القوة، ولا يكن خروجكم بطرا بالمعيشة ورجاء الترف أو رئاء الناس فإن هذه هي مفاسد الجهاد، ولا يصح أن يزين الشيطان لكم ويركبكم ويقول لكم: (لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ.. -) وإذ التقى الجمعان قال إني بريء منكم.
وعندئذ يجد المنافقون سبيلًا إلى جموعكم، ويقولون: (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ..)، فاطرحوا الشيطان وغروره، وتوكلوا على الله، وإن الملائكة يضربون وجوه الكافرين وأدبارهم عند موتهم، وقد ضرب الله تعالى الأمثال بآل فرعون إذ أخذهم الله بذنوبهم، وإذ كذبوا، وإن الله تعالى: (لَمْ يَكُ مُغَيِرًا نِّعْمَة أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنفُسِهِمْ..).
ومن بعد ذلك يعود إلى الجهاد، والوقوف أمام الأشرار وحربهم، والاستعانة بالعهد لمن يقدم عهدا، إن وفوا (وَإِمًا تَخَافَنَّ مِن قوْم خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ..) وإنه يجب أن يكون المؤمنون على حذر واستعداد (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٦٠) وأنه مع وجوب الاستعداد والإعداد، (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ..)
________
(١) متفق عليه، من حديث أنس بن مالك عن رسول الله - ﷺ -، وقد سبق تخريجه.
3058
ولا تنس التحريض على القتال، فيتجمع العهد مع الوفاء، والاستعداد للسلم وللحرب معا، ولابد مع ذلك من تأليف قلوب المؤمنين، فإنه أقوى أسباب النصر، وإن القوة المعنوية مع ائتلاف القلوب تضاهي الألوف (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا...). وإن أدُخل فيكم ضعف بوجود المنافقين فيكم، وضعاف الإيمان فإنه (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
وقد بين الله بعد ذلك وقت الأسر، وهو بعد الإثخان في الأرض، وعتب الله على نبيه والمؤمنين أن كان لهم أسرى وأخذوا فدية، فقال: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠). هذا إذا أرادوا، وإن يريدوا خيانة الرسول فقد خانوا الله من قبل.
وبعد ذلك بين الله تعالى ولاء المؤمنين فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢).
وقد بين سبحانه أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، فلا تربطنا بهم ولاية، وإلا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
وقد ذكر سبحانه بعد ذلك (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥).
هذه إشارات إلى ما اشتملت عليها سورة الأنفال، ولولا أنها سميت بذلك لقلنا إنها سورة من سور الجهاد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
3059

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
* * *
قال تعالى:
3060
Icon