ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (٥) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (٩) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (١١) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (١٢) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (١٤).قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ).
المزمل والمدثر يقتضيان معنى واحدا، على ما نذكر في سورة المدثر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ).
جائز أن يكون هذا الأمر كله منصرفا إلى وقت واحد، فإذا صرفته إلى وقت واحد، فإما أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) منصرفا إلى قوله: (قُمِ اللَّيْلَ)، أو إلى قوله: (إِلَّا قَلِيلًا)، فإن صرفت النقصان إلى قوله: (إِلَّا قَلِيلًا)، زدت في الأمر بالقيام، وإن صرفت النقصان إلى قوله: (قُمِ اللَّيْلَ)، فقد زدت في قوله: (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا)؛ فإلى أيهما صرف، اقتضى الزيادة في أحدهما، والنقصان في الآخر؛ فيتفق معناهما، وهذا نظير قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ)؛ فمنهم من جعل الكلالة اسما للميت الموروث عنه، ومنهم من أوقع هذا الاسم على الحي الذي يرث الميت، وأيهما كان فهو يقتضي معنى واحدا؛ لأن منزلة الحي من مورثه ومنزلة المورث من الحي واحدة، لا تختلف.
وجائز أن يكون هذا على اختلاف الأوقات، على ما ذكره أهل التفسير؛ فيكون قوله: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) أمرا بإحياء أكثر الليل، ثم يكون في قوله: (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا) تخفيف الأمر عليه؛ فيكون فيه أن له أن ينقص عن الأكثر.
وقوله: (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ)، أي: على المقدار الذي أبيح له الانتقاص، وإذا ارتفع
فإن صرفت النقصان إلى قوله :﴿ إلا قليلا ﴾ زدت في الأمر بالقيام.
وإن صرفت النقصان إلى قوله :﴿ قم الليل ﴾ فقد زدت في قوله :﴿ نصفه أو انقص منه قليلا ﴾ فإلى أّيهما صرف اقتضى الزيادة في أحدهما والنقصان في الآخر، فيتفق معناهما.
وهذا نظير قوله :﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾[ النساء : ١٧٦ ].
فمنهم من جعل الكلالة اسما للميت الموروث عنه، ومنهم من أوقع هذا الاسم على الحيّ الذي يرث الميت، وأيهما كان فهو يقتضي معنى واحدا لأن منزلة الحيّ من مورّثه ومنزلة الموروث من الحيّ واحدة، لا تختلف.
وجائز أن يكون هذا على اختلاف الأوقات على ما ذكره أهل التفسير، فيكون قوله :﴿ قم الليل إلا قليلا ﴾ أمرا بإحياء أكثر الليالي، ثم يكون في قوله :﴿ أو انقص منه قليلا ﴾ تخفيف الأمر عليه، فيكون فيه أن له أن ينقص عن الأكثر.
وقوله تعالى :﴿ أو زد عليه ﴾ أي على المقدار الذي أبيح له في النقصان٣. وإذا ارتفع النقص عاد الأمر إلى ما كان مأمورا[ به ]٤ في الابتداء.
ثم القليل ليس باسم لأعين الأشياء، ولكنه من الأسماء المضافة. فإذا قيل٥ : قليل اقتضى ذكره تثبيت ما هو أكثر منه حتى[ يصير ]٦ هذا قليلا إذا قوبل بما[ هو ]٧ أكثر منه. فلذلك قالوا بأن قوله :﴿ قم الليل ﴾ يقتضي أمر القيام أكثر الليل.
ولهذا، قال أصحابنا في من أقر لفلان عليه ألف درهم إلا قليلا، إنه يلزمه أكثر من نصف الألف لأنه استثنى القليل، فلا بد من أن يكون المستثنى منه أكثر من المستثنى حتى يكون المستثنى قليلا ممّا٨ استثنى، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ورتل القرآن ترتيلا ﴾ فالترتيل هو التبيين في اللغة، أي بينه تبيينا. وقيل : اقرأه حرفا حرفا على التقطيع لما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطّع القراءة.
ولكن جائز أن يكون قرأه على التقطيع لأن التبيين كان في تقطيعه، وإنما أمر بالتبيين لأن القرآن لم ينزل لتجود قراءته فقط، لكنه لمعان ثلاثة.
أحدها : أن يقرأ للحفظ والبقاء إلى يوم القيامة لئلا يذهب، ولا ينسى.
والثاني : أن يقرأ لتذكر ما فيه وفهم ما أودع من الأحكام وما لله عليهم من الحقوق وما لبعضهم على بعض.
والثالث : أن يقرأ ليعمل بما فيه، ويتعظ[ المرء بمواعظه، ويجعله المسلمون ]٩ إماما يتبعون أمره، وينتهون عما نهى عنه.
فتنفيذ قراءته في الصلاة يلزمنا هذا كله. ولا يدرك ذلك إلا بالتأمل ؛ وذلك عند قراءته على الترتيل.
وهذا الذي ذكرناه يوجب اختيار من يرى الوقوف في القرآن، لأن ذلك أدل على المعنى وأقرب إلى الأفهام.
وفيه دلالة أن المستحب فيه : ترك الإدغام وترك الهمز الفاحش، لأن ذلك أبلغ في التبيين.
والأصل أن[ سامع القرآن ]١٠ مأمور بالاستماع إليه، وإذا لزمه الاستماع، وفي الاستماع الوقوف على حسن نظمه وعجيب حكمته والوقوف على معانيه، لزم القارئ تبيينه ليصل السامع إلى معرفة معانيه، ويقف على حسن نظمه وعجيب تأليفه ؛ وذلك يكون أقرب إلى أفهام السامع والقارئ لما فيه من لطائف المعاني.
ثم الترتيل منصرف إلى القراءة قرآنا على جهة المصدر أن ما هو كلام الله تعالى لا يوصف بالترتيل، والله الموفق.
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ في الأصل و م: الانتقاص..
٤ من م، ساقطة من الأصل..
٥ ساقطة من م..
٦ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م..
٧ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل و م..
٨ في الأصل و م: كما..
٩ في الأصل و م: هو بمواعظه ويجعلونه..
١٠ في الأصل و م: السامع في القرآن..
ثم القليل ليس باسم لأعين الأشياء؛ ولكنه من الأسماء المضافة، فإذا قيل اقتضى ذكره تثبيت ما هو أكثر منه حتى يصير هذا قليلا إذا قوبل بما هو أكثر منه؛ فلذلك قالوا بأن قوله (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا)، يقتضي أمر القيام أكثر الليل؛ ولهذا قال أصحابنا فيمن أقر أن لفلان عليه ألف درهم إلا قليلا: إنه يلزمه أكثر من نصف الألف؛ لأنه استثنى القليل؛ فلا بد من أن يكون المستثنى منه أكثر من المستثنى حتى يكون المستثنى قليلا، كما استثنى، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (٤):
الترتيل، هو التبيين في اللغة، أي: بينه تبيينا.
وقيل: اقرأه حرفا حرفا على التقطيع؛ لما ذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقطع القراءة، ولكن جائز أن يكون على قراءة التقطيع؛ لأن التبيين كان في تقطيعه؛ وإنما أمر بالتبيين لأن القرآن لم ينزل لمجرد قراءته فقط، لكنه لمعان ثلاثة:
أحدها: أن يقرأ للحفظ والبقاء إلى يوم القيامة؛ لئلا يذهب، ولا ينسى.
والثاني: أن يقرأ؛ لتذكر ما فيه، وفهم ما أودع من الأحكام، وما لله عليهم من الحقوق، وما لبعضهم على بعض.
والثالث: يقرأ؛ ليعمل بما فيه، ويتعظ بمواعظه، ويجعلونه إماما يتبعون أمره، وينتهون عما نهى عنه؛ فنفذ قراءته في الصلاة يلزمنا هذا كله، ولا ندرك ذلك إلا بالتأمل، وذلك عند قراءته على الترتيل، وهذا الذي ذكرناه يوجب اختيار من يرى الوقوف في القرآن؛ لأن ذلك يدل على المعنى وأقرب إلى الإفهام.
وفيه دلالة أن المستحب فيه ترك الإدغام، وترك الهمز الفاحش؛ لأن ذلك أبلغ في
ثم الترتيل منصرف إلى القراءة، وسمى القراءة: قرآنا على جهة المصدر؛ إذ ما هو كلام اللَّه تعالى لا يوصف بالترتيل، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (٥) ولم يقل: ثقيلا على من؟ فجائز أن يكون الثقل راجعا إلى الكفرة والمنافقين، ويكون الثقيل الأمر بالجهاد؛ لأنه اشتد على الفريقين جميعا، وأيس الكفار من المسلمين أن يعودوا إلى ملتهم؛ قال اللَّه تعالى: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ)، وتخلف المنافقون عن القتال مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وثقل ذلك عليهم، فجائز أن يكون قوله (ثَقِيلًا)؛ أي: على الكفرة والمنافقين، وكذا على أهل الكبائر ثقيل أيضا؛ لأنهم لم يتمنوا أن ينزل عليهم الكتاب، وأما على المسلمين فليس بثقيل بل هو كما قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ).
وجائز أن يصرف ذلك إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أمر بتبليغ الرسالة إلى الفراعنة وإلى الخلق كافة، وفي القيام بالتبليغ إلى الفراعنة مخاطرة بالروح والجسد، والقيام بما فيه مخاطرة بالروح والجسد أمر ثقيل صعب جدًّا.
أو يكون ذلك منصرفا إلى قيام الليل؛ فيكون معنى: (قَوْلًا ثَقِيلًا): أي الوفاء بما يوجبه ذلك القول.
وجائز أن يكون هذا منصرفا إلى اتباع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأنصاره؛ فيكون ثقله من الوجه الذي كلفوا القيام بفرائضه، وحفظ حدوده، وتحليل حلاله، واجتناب حرامه.
وزعمت الباطنية أن القول الثقيل هو أن كلف الناطق - وهو الرسول عليه السلام - بتفويض الأمر إلى الأساس، وهو الباب، وذلك الأساس والباب هو علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عندهم، وهم يسمون الرسول - عليه السلام -: ناطقا، ويقولون بأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان مأمورا بتبليغ التنزيل إلى الخلق؛ فلما بلغ التنزيل إليهم،
فيقال لهم: إن في الأمر بإسناد الأمر إلى من ذكر تخفيفَ الأمر على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بزعمكم؛ لأن من مذهبكم: أنه إذا فوض الأمر إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبض هو - عليه السلام - وصورة القبض عندكم: أن يميز الصورة الروحانية النورانية من الصورة الجسدانية التي كانت محتبسة في الصورة الجسدانية، ثم تتلف الصورة الجسدانية، وتبعث الصورة الروحانية النورانية إلى دار الكرامة والحبور والخلاص من الحبس - لم يشتد ذلك عليه، ولم يثقل؛ بل كان فيه ما يرغبه إلى التفويض، ويدعوه إليه.
ومن مذهب الباطنية: أنهم لا يعلمون أحدا مذهبهم إلا بعد أن يحلفوه بالأيمان المغلظة بألا يخبر به أحدًا؛ إشفاقا على أنفسهم، ولو كان الأمر على ما قدروا أن التلف يرد على الصورة الجسدانية التي هي سبب لحبس الصورة أن روحانية، وإذا تلفت ردت الروحانية إلى دار فيها كل أنواع السرور - فما الذي يحوجهم إلى الاستحلاف، وما بالهم يشفقون على أنفسهم، وليس في إتلاف أنفسهم إلا الخلاص من الحبس، والوصول إلى الكرامات، ومن هذا وصفه حق عليه الموت؛ ليعلموا أنهم يعاملون الخلق على خلاف ما يوجبه اعتقادهم، ولو كان ما اعتقدوا حقا، لما استجازوا مخالفته، ولكن الذي دعاهم إلى ما ذكرنا تسويل الشيطان وتزيينه في قلوبهم، وما مثلهم إلا مثل اليهود، الذين ادعوا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس؛ فقيل لهم: (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)؛ لأنكم لا تصلون إلى الآخرة إلا بالموت، فإن كنتم محقين في دعواكم فتمنوا الموت؛ لتصلوا إليها؛ فكان في امتناعهم عن التمني ما يظهر كذبهم، ويبطل مقالتهم، ويبين تمويههم؛ فكذلك في إشفاق هَؤُلَاءِ على أنفسهم من الهلاك إظهار وإنباء أنهم قصدوا به قصد التمويه على الضعفة؛ ليصلوا إلى المأكلة
وبهذا الفصل الذي ذكرنا يحتج على الثنوية؛ فإن من مذهبهم تحريم القتل والذبح، وأحق من يرى القتل والذبح مباحين هم؛ لأن من مذهبهم: أن العالم إنما هو بامتزاج النور والظلمة، فما من جزء من أجزاء النور إلا هو مشوب بجزء من أجزاء الظلمة، وكانا متباينين، فغلبت الظلمة على النور، فامتزجت به؛ فصارت الظلمة حابسة للنور، ومعلوم أن في القتل تخليص أجزاء النوراني من حبس الظلمات؛ لأن في القتل إزالة السمع والبصر والعقل، ومعلوم أن السمع والبصر في هذه الأشياء، إذ بها رؤية الأنوار، فإذا امتازت هذه الأشياء من الجسد، وبقي الجسد الظلماني لا يبصر شيئا، فقد وصل جوهر النور إلى غرضه ومقصوده بالقتل، وصار إلى مقره، فإذا كان القتل يوصله إلى غرضه ويخلصه عن وثاق الظلمة وحبسه، فقد أحسن القاتل إليه بالقتل والذبح؛ فلا يجيء أن يجرَّم القتل على مذهبهم: بل يجب أن يمدح المرء على ذلك الفعل، ويستصوب ذلك منه.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: القول الثقيل كلام اللَّه تعالى، وثقله: هو تبجيله وتعظيم حرمته، ليس كلام السفهاء الذي لا يكترث به، ولا يؤبه له.
وقال الزجاج: الثقيل: الوزين، أي: الذي له وزن وقدر في القلوب، الذي يجب أن يعظم ويوقر، ليس بالقول الذي يستصغر.
وجائز أن يكون القول الثقيل هو الحق؛ على ما روي في بعض الأخبار: " إن الحق ثقيل مر، والباطل خفيف وفر ".
وروي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " حق لميزان لا يوضع فيه إلا الخير أن يثقل، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف "؛ فيكون ثقله العمل بما فيه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (٦):
قرئ: (وطاء) و (وَطْئًا)، فمن قرأ: (وطاء) بالمد، فتأويله من المواطأة، وهي الموافقة، أي: موافق للسمع، والبصر، والفؤاد؛ لأن القلب يكون أفرغ بالليالي عن الأشغال التي تحول المرء عن الوصول إلى حقيقة درك معاني الأشياء، وكذلك السمع والبصر يكون أحفظ للقرآن، وأشد استدراكا لمعانيه.
ومن قرأه: (وَطْئًا)، فهو من الوطء بالأقدام؛ فتأويله: أنه أشد على البدن وأصعب؛ لأن المرء قد اعتاد التقلب والانتشار في الأرض بالنهار، ولم يعتد ذلك بالليل، بل اعتاد الراحة فيه، فإذا كلف القيام والانتصاب برجليه في الوقت الذي لم يعتد فيه القيام، كان ذلك أشد عليه وأصعب على بدنه.
ولأن المرء بالنهار ليس ينتصب قائما في مكان واحد، فيمكث فيه كذلك؛ بل ينتقل من موضع إلى موضع، ولو كلف الانتصاب في مكان اشتد عليه ذلك، ولحقه الكلال والعناء من ذلك.
ثم أمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن ينتصب قائما يصلي إلى نصف الليل أو أكثر؛ فكان في ذلك محنة شديدة، وكلفة شاقة، واللَّه أعلم.
ثم الأصل أن المرء ينتشر بالنهار؛ لطلب ما يعيش به وليصل إلى ما يتمتع به في أمر دنياه، وينام الليل؛ طلبا للراحة، وإيثارًا للتخفيف، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ممنوعا عن اكتساب الأشياء التي يتوصل بها إلى سعة الدنيا إلا القدر الذي يقيم به مهجته، وكذلك منع عن الراحة بالليالي، وأمر بإحياء الليل إلا القدر الذي لا بد منه، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون في الأمر بقيام الليل نوع من الراحة والتخفيف؛ وذلك أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ألزم بتبليغ الرسالة إلى الناس كافة، فحُمِّل تبليغها إليهم بالنهار، ورفعت عنه الكلفة بالليل، وأمر بأن يتفرغ لعبادة ربه، وكان الأمر بالتفرغ للعبادة أيسر من الأمر بتبليغ الرسالة؛ لأن في الأمر بالتبليغ أمرًا بما فيه المخاطرة بالروح والجسد، وليس في الأمر بالانتصاب قائما أكثر الليل ذلك؛ وإنَّمَا فيه إيصال الوجع إلى بعض أعضائه؛ فيكون
فَإِنْ قِيلَ على التأويل الأول: كيف خص رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في باب النكاح؛ حيث أبيح له فضل العدد، ولم يبح لأمته، وفي ذلك زيادة تمتع بشهوات الدنيا؟
فجوابه أن يقال: بأن المعنى الذي به حظر على غيره الزيادة على الأربع، وقصر الأمر على الأربع هو خوف الجور؛ ألا ترى إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)، وإذا كان التحريم للوجه الذي ذكرنا، ارتفع الحظر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عصمه عن الجور، ومكنه من العدل بين نسائه، ثم ليس في إباحة زيادة العدد سوى فضل محنة وكلفة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنه إذا أمر أن يقوم فيما بينهن بالعدل، وأن يبتغي مرضاتهن بحسن العشرة معهن، وإنما يصل المرء إلى الإرضاء بالأموال، ولم يتمتع هو من الدنيا مقدار ما يصل إلى إرضائهن بالأموال، ولم يتهيأ له أن يصيبهن إلا بسعة الأخلاق، وأن يبين لهن لتقر أعينهن ولا يحزن - فثبت أنه ليس في إباحة العدد فضل تمتع، بل فيه زيادة محنة وابتلاء.
وفيه أيضا ما يحقق رسالته، ويثبت نبوته؛ لأن المرء إنما يصل إلى توفير الحقوق الواجبة عليه بالنكاح إذا تناول من فضول الدنيا وطعم لذاتها، وأعطى النفس شهواتها، ثم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان ممنوعا من إعطائه النفس شهواتها، ومع ذلك قام بإيفاء حقوق الأزواج؛ فثبت أنه باللطف من اللَّه تعالى وصل إلى إيفاء حقهن، ليس بأسباب البشرية.
وفي هذه الآية دلالة أن الصلاة تشتمل على الذكر والفعل جميعا؛ لأنه قال: أشد على البدن، وشدته تكون بالفعل، وقال: (وَأَقْوَمُ قِيلًا)، وذلك يرجع إلى الذكر.
ثم يجوز أن يكون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يكلف تبليغ الرسالة بالليالي؛ لأن أعداءه من الفراعنة وغيرهم كانت همتهم أن يقتلوه ويمكروا به، ولم يكن يتهيأ لهم إيصال الأذى به؛ لمكان أتباعه، والليالي هي أوقات غفلة الأتباع، فلو كلف التبليغ فيها لتمكنوا من إيصال المكر به؛ فوضع عنه التبليغ، وامتحنه بالقيام لعبادة ربه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) قيل: هو من نشأ ينشأ، أي: نما، فسميت: ناشئة؛ لأن الأوقات تحدث، وتترادف.
وجائز أن يكون المراد من ناشئة الليل، أي: ما يوجد من الأحوال في الليل من القيام للصلاة، والاشتغال بعبادة الرب، جل جلاله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (٧):
أي: فراغا وسعة ومنقلبا؛ فالسبح يذكر ويراد به الفراغ، ويذكر ويراد به المشي والتقلب، وهذا الذي قالوه محتمل، ولكن لا يجيء أن يصرف تأويل الآية إلى الفراغ، والتقلب إلى حوائج نفسه؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يتناول من الدنيا إلا قدر ما يقيم به مهجته؛ فلا يحتاج إلى فضل تقلب، ولا إلى كثير فراغ؛ ليتوسع في أمر دنياه.
ولكن حقه أن يصرف قلبه إلى تبليغ الرسالة، ودعاء الخلق إلى توحيد اللَّه تعالى، وإلى ما يحق عليهم؛ فيكون في قوله: (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا) ترخيص لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أن ينصب بالليالي للقيام بين يديه، واجتزأ منه بتبليغ الرسالة بالنهار.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ... (٨).
أي: اذكر ربك؛ دليله قوله على أثره: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا)، والتبتل يقع إليه لا إلى اسمه، ثم ذكر المولى - جل جلاله - هو أن ينظر إلى أحوال نفسه، ما الذي يلزمه من العبادة في تلك الحال؟ فيكون ذكر ربه بإقامة تلك العبادة، لا بأن يذكر اللَّه تعالى بلسانه فقط، وهو كقوله: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، واستغفارهم أن يأتمروا بما أمروا، وينتهوا عما نهوا، لا أن يقولوا بألسنتهم: " نستغفر اللَّه "؛ لأنهم وإن قالوا " نستغفر اللَّه "، لم يقبل ذلك منهم إذا كانوا كفرة؛ فثبت أن استغفارهم أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه نوح؛ فكذلك ذكر اللَّه تعالى يقع بوفاء ما يلزمهم حالة القيام به، وذلك يكون بالأفعال مرة، وبالأقوال ثانيا.
ومنهم من صرف الأمر إلى الاسم على ما يؤديه ظاهر اللفظ، فأمر بذكر اسم الرب لما يحصل له من الفوائد بذكره؛ لأن من أسمائه أسماء ترغبه في اكتساب الخيرات والإقبال على عبادة الرب، ومنها ما يدعو الذاكر إلى الخوف والرهبة، ومنها ما يوقفه على عجائب حكمته، ولطيف تدبيره، وتقرير سلطانه وعظمته في قلبه، ومنها ما يحدث له زيادة علم وبصيره، وهي الأسماء المشتقة من الأفعال، فإذا تأمل فيها عرف الوجه الذي
ثم ذكر الرب، جل جلاله، هو أن ينظر[ المرء ]٢ إلى أحوال نفسه[ ويتساءل ]٣ ما الذي يلزمه من العبادة في تلك الحال، فيكون ذكر ربه بإقامة تلك العبادة لا بأن يذكر الله تعالى بلسانه فقط، وهو كقوله :﴿ استغفروا ربكم إنه كان غفارا ﴾[ نوح/١٠ ] واستغفارهم أن يأتمروا بما أمروا، وينتهوا عما نهوا، لا أن يقولوا بألسنتهم : نستغفر الله، لأنهم وإن قالوا : نستغفر الله، لم يقبل ذلك منهم إذا كانوا كفرة. فثبت أن استغفارهم أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه نوح.
فلذلك ذكر الله تعالى يقع بوفاء ما تلزمهم حال القيام به، وذلك يكون بالأفعال مرة وبالأقوال ثانيا.
ومنهم من صرف الأمر إلى الاسم على ما يؤديه ظاهر اللفظ[ إذ أمر ]٤ بذكر اسم الرب لما يحصل له من الفوائد بذكرها ؛ لأن من أسمائه أسماء ترغبه في اكتساب الخيرات والإقبال[ على عبادة الرب ]٥ ومنها ما يدعو الذاكر إلى الخوف والرهبة، ومنها ما يوفقه٦ على عجائب حكمته ولطف تدبيره وتقرير سلطانه وعظمته في قلبه، ومنها ما يحدث له زيادة علم بصيرة، وهي الأسماء المشتقة من الأفعال، وإذا تأمل فيها عرف الوجه الذي منه اشتقت تلك الأسماء، فذكر أسمائه يحدث ما ذكرنا من الفوائد والعلوم.
وقوله تعالى :﴿ وتبتل إليه تبتيلا ﴾ فالتبتيل، هو الانقطاع إلى الله تعالى، وأن يقطع نفسه عن شهواتها، ويصرفها عن لذاتها ؛ فكأنه قال : وتبتل إليه، وبتل نفسك تبتيلا من الشهوات واللذات. ولذلك سميت مريم رضي الله عنها البتول، لأنها قطعت نفسها عن منافع الدنيا، وأقبلت إلى الآخرة، وانقطعت إليه.
٢ ساقطة من الأصل و م..
٣ في الأصل و م: فأمر..
٤ في الأصل و م: فأمر..
٥ في الأصل: عبادة، في م: على عبادة..
٦ في الأصل وم: يوقف.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا).
التبتل هو الانقطاع إلى اللَّه تعالى، وأن يقطع نفسه من شهواتها، ويصرفها عن لذاتها؛ فكأنه قال: وتبتل إليه، وبتل نفسك تبتيلا من الشهوات واللذات؛ ولذلك سميت مريم - رضي اللَّه عنها -: البتول؛ لأنها قطعت نفسها عن منافع الدنيا، وأقبلت إلى الآخرة، وانقطعت إليه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (٩).
قال أبو بكر الأصم: تأويله: ملك المشرق والمغرب، وحقه أن يقال: مالك المشرق والمغرب؛ لأنه هو المالك على التحقيق.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرب هو المصلح، ثم خص المشرق والمغرب بالذكر وإن كان هو مالكهما ومالك الخلائق أجمع؛ لأن ذكر المشرق يقتضي ذكر السماوات والأرضين، وفي ذكر السماوات والأرضين ذكر أعلى العليين وأسفل السافلين؛ لأنه إذا نظر إلى المشرق ورأى ما يطلع في المشرق من عين الشمس، ثم تجري في أقطار السماء، وتقطع كل يوم مسيرة ألف عام، ثم تغرب في عين حمئة؛ فتصير إلى أسفل السافلين، وتجري كذلك حتى تصل إلى مطلعها، ثم تطلع هنالك؛ فدل ذلك على أن مدبر السماوات والأرضين ومنشئهما واحد، وأن سلطانه في الأرض كسلطانه في السماء، ويعلم أن من بلغت قدرته هذا المبلغ في أن يسير عين الشمس في يوم واحد مسيرة ألف عام ما يشتد على الخلق قطع هذه المسافة في مدد كثيرة - لا يجوز أن يعجزه شيء، ودل على أن ملكه دائم لا ينقطع؛ لأن عين الشمس تجري في كل يوم، على ما سخرت، لا تتبدل، ولا تتغير باختلاف الأزمنة والأوقات، وجعل منافع أهل الأرض متصلة بمنافع السماء، ولو لم يكن مدبرهما واحدا لارتفع الاتصال، وانقطعت منافع السماء عن أهل الأرض؛ فكان في ذكر المشرق والمغرب دلالة وحدانيته، وإظهار قوته وسلطانه، والوقوف على عجائب حكمته ولطائف تدبيره.
ثم تخصيص ذكر المشرق والمغرب دون السماء والأرض؛ هو - واللَّه أعلم - لأن هذا أوصل إلى معرفة التوحيد، وأسرع إلى الإدراك من ذكر السماوات والأرض، وإن كان
وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)، أي: الذي أمرت بذكره هو رب المشرق والمغرب، وفيه تعريف الوجه الذي يوصل إلى معرفة ربوبيته.
وقوله: (لَآ إلَهَ إِلَّا هُوَ)، أي: لا معبود يستحق العبادة إلا هو؛ لأن الذي يحمل الإنسان على عبادة المعبود الخوف والرجاء، وإذا عرفهم بذكر المشرق والمغرب أن تدبير الخلائق كلها راجع إليه، وأنه هو القاهر عليهم والقادر عليهم، وبيده الخزائن والمنافع أجمع، علموا أنه هو الإله الحق، والرب القاهر، وأن من سواه مربوب مقهور، لا يملك نفعا ولا ضرًّا، فكيف يستوجب العبادة والإلهية؟!.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا):
جائز أن يكون أراد به أن كِلْ أمورك كلها إلى اللَّه تعالى حتى يكون هو الذي يدبر ويحكم، ولا تر لنفسك فيها تدبيرا.
والوكيل في الشاهد هو الذي يدخل في أمر آخر على جهة التبرع؛ لينصره فيه، ويعينه؛ فيكون قوله: (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا)، أي: اطلب من عنده النصر والمعونة، والمرء في الشاهد إنما يفزع إلى الوكيل؛ ليزيح عن نفسه علله، ويقضي عنه حوائجه، ويقوم عنه في النوائب؛ فكأنه يقول: افزع إلى اللَّه تعالى في نوائبك؛ فيكون هو الذي يزيح عنك العلل، ويقضي عنك الحوائج، ويكون معتمدك في النوائب، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (١٠).
قال أهل التفسير: تأويله: اصبر على تكذيبهم إياك؛ ألا ترى إلى قوله في سياق الآية: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ)، فثبت أنه دعي إلى الصبر على التكذيب.
وجائز أن يكون منصرفا إلى هذا وإلى غيره؛ لأنهم كانوا لا يقتصرون على تكذيبه، بل كانوا ينسبونه إلى الكذب مرة، وإلى السحر ثانيا، وإلى الجنون ثالثا، وإلى أنه يتيم رابعا؛ فكانوا يؤذونه بأنواع الأذى؛ فجائز أن يكون قوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) منصرفا إلى كل ذلك.
ثم الأمر بالصبر يقع بخصال ثلاث:
أحدها: ألا تجازهم على تكذيبهم إياك تكذيبك إياهم، أو لا تجزع عليهم، وفي
ولقائل أن يقول: كيف كان يشتد عليه تكذيبهم إياه حتى كاد يتحزن لذلك، والذين نسبوه إلى الكذب كانوا من أعدائه، وليس يستثقل التكذيب من العدو، ولا يستكثر منه؛ لأنه بما يعاديه يعتقد أن يسيء إليه بجميع ما يمكنه وسعه، وإنما يستثقل التكذيب من أهل الصفوة والمودة؛ فكيف استثقله؟ وكيف بلغ به التكذيب مبلغا يحزن به؛ حتى يدعى إلى الصبر بقوله: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ...) الآية، وبقوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)؟
والجواب عن هذا أن الكذب والجهل مما يستثقلهما العقل والطبع جميعا، وكذلك التكذيب والتجهيل، أمر ثقيل على الطبع والعقل جميعا، حتى إن الكذاب إذا نسب إلى الكذب، اشتد عليه ذلك، ولم يتحامل، وكذلك الجهول إذا عرف بالجهل، ثقل ذلك عليه؛ فإذا كان التكذيب مستقبحا في عقول الخلق وطبائعهم، وإن كانت طبائعهم مشوبة بالآفات وفي عقولهم نقص، فرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع صفاء عقله، وسلامة طبعه عن الآفات أحق أن يثقل عليه؛ فيحزن لذلك.
ثم ما من إنسان ينسب إلى الكذب فيما يحدث عن نفسه أو عمن سواه من الخلائق ممن علت رتبتهم أو انحطت إلا وهو يجد لذلك ثقلاً، فكيف إذا أخبر عن اللَّه تعالى وكذب فيه، أليس هذا أحق أن يثقل على القلب ويتحزن له؟!
ويجوز أن يكون حمله على الحزن شدة إشفاقه على المكذبين؛ لأن تكذيبهم يفضي بهم إلى العطب والهلاك؛ فأشفق عليهم باشتغالهم بما به هلاكهم، وحزن لذلك.
أو يكون حزنه غضبا لله تعالى؛ إذ الرسل كانوا يغضبون لله تعالى، ويشتدون على أعدائه.
والجواب عن قوله: إن المكذبين كانوا من أعدائه، فكيف اشتد عليه تكذيبهم، وذلك أمر غير مستشنع من الأعداء؟ فنقول: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يعاملهم معاملة الولي مع
فَإِنْ قِيلَ: كيف لم يؤذن بالدعاء عليهم؛ ليحملهم ذلك على الإسلام، ويمنعهم عن التكذيب؟
قيل له: لأن فيما ذكرته رفع المحنة والابتلاء؛ لأن الحجة إذ ذاك تقع من جهة الضرورة؛ لأنهم إذا علموا أنهم يستأصلون بالتكذيب، امتنعوا عنه، وأجابوا إلى الإسلام كرها؛ فتصير الحجج اضطرارية، لا تمييزية واختيارية، وحجج الرسل - عليهم السلام - اختيارية، لا ضرورية؛ لما ذكرنا أنها لو جعلت اضطرارية، لارتفعت المحنة؛ فجعلت حججهم من وجه يقع بها الشبه؛ ليوصل إلى معرفتها بالفكر؛ لئلا ترتفع المحنة.
فإن قال قائل: إن أبا حنيفة - رحمه اللَّه - ذكر في كتاب العالم والمتعلم: أن إيمان الملائكة وإيمان الرسل وإيماننا واحد، ثم قال: فإذا استوينا نحن والرسل في الإيمان، فكيف صار الثواب لهم أكمل، وخوفهم من اللَّه أشد؟
فأجاب عن هذا السؤال بأجوبة، وقال في جملة ما أجاب: إنهم لو ارتكبوا الزلات يحل بهم العقاب عقيب الزلل؛ فصار خوفهم باللَّه تعالى ألزم من هذه الجهة.
ولسائل أن يسأل على هذا، فيقول: فإذن إيمانهم باللَّه تعالى، وتركهم المعاصي ضروري لا اختياري؟!
فيجاب عنه بأن يقال بأن الأنبياء - عليهم السلام - لم يُبَيَّنْ لهم العصمة، بل كانوا على خوف من وقوعهم في المهالك؛ ألا ترى إلى قول إبراهيم - عليه السلام -: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)، ولو كانت العصمة له ظاهرة، لكان يستغني عن السؤال.
والثاني: أن الأنبياء - عليهم السلام - قد كان تقرر في قلوبهم هيبة اللَّه تعالى وعظمته؛ فكانت المعرفة هي التي دعتهم إلى الإيمان به، لا خوف حلول العقوبة بهم لو ارتكبوا الزلات، وأما الكفرة، فلم يعرفوا عظمة اللَّه تعالى، ولا قدرته، ولا سلطانه حتى يحملهم ذلك على الإيمان به، فلو حلت العقوبة بهم بالتكذيب، لكان الخوف هو الذي يحملهم على الإيمان لا غير؛ فيصير إيمانهم ضروريا؛ فلهذا لم يعاقبوا بالتكذيب؛ لئلا ترتفع المحنة، وخولف بينهم وبين غيرهم، وهذا كما نقول بأن أنباء من تقدم من الرسل حجة لرسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في إثبات نبوته، وإن كانت تلك الأنباء قد عرفها أهل الكتاب، وأخبروا بها؛ لأن أهل الكتاب عرفوا تلك الأنباء بالتعلم والتلقين، ولم يختلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى من عنده علم تلك الأنباء؛ فعلم أنه باللَّه تعالى علم، لا بتعليم أحد؛ فصارت الأنباء حججا لذلك، ولو لم تصر لغيره حجة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا):
جائز أن يكون تأويله: اهجرهم وقت سبهم، ونسبتهم إياك إلى ما لا يليق بك، ولا تعبأ بهم، ولا تكترث إليهم، وإلى ما يتقولون عليك؛ لأن ذلك بعض ما يزجر المتقول والساب عما هو فيه، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا).
ويحتمل أن يكون تأويله: أن انقطع عنهم انقطاعا جميلا، والانقطاع الجميل: ألا يترك شفقته عليهم، ولا يدعو عليهم بالهلاك، ولا يمتنع عن دعائهم إلى ما فيه رشدهم
ويحتمل أن يكون هجره إياهم هجرا جميلا هو ألا يكافئهم بالسيئة السيئة، بل يدفع السيئة بالحسنة؛ كقوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)؛ إذ ذاك أدعى للخلق إلى إجابة من يفعل ذلك بهم عند المعاملة، واللَّه أعلم.
ثم من الناس من يقول بأن هذه الآية نسختها آية السيف.
ومنهم من قال بأنها لم تنسخ، وصرفوا تأويل الآية إلى جهة لا يعمل عليها النسخ، وذلك أن في قوله: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) منع المكافاة لأجل ما آذوه، ولم يفرض عليه القتال؛ ليكافئهم بأذاهم، وينتقم منهم بذلك؛ بل رجع قتاله إلى نصرة الدِّين؛ ولتكون كلمة اللَّه تعالى هي العليا؛ لذلك لم يكن في آية السيف ما يوجب نسخ هذا، ولا نسخ العمل بقوله: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ).
الثاني: أنه ليس في قتالهم انتقام منهم، بل فيه ما يدعوهم إلى الإيمان باللَّه تعالى ورسوله، واذا آمنوا بذلك نجوا من العقاب، وفازوا بعظيم الثواب؛ فيصير القتال رحمة لهم لا عقوبة.
ووجه جعله رحمة: هو أنهم إذا رأوا غلبة المسملمين عليهم مع قلة عددهم والضعف الذي حل بأبدانهم؛ لاشتغالهم بعبادتهم ربهم، وكثرة عدد المشركين مع قوة أبدانهم - أيقنوا أنهم لم ينالوا الغلبة بالحيل والأسباب؛ بل اللَّه تعالى هو الذي قواهم عليهم، وقام بنصرهم؛ فيتقرر عندهم كون أهل الإسلام على الحق، وإذا أيقنوا بالحق التزموه فيحرزون به جزيل الثواب، وكريم المآب؛ فصار القتال رحمة لهم، لا أن يكون عقوبة عليهم؛ لسوء صنيعهم، وإذا كان كذلك، بقي العمل بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) ثابتا باقيا، وبهذا يجاب من سأل فقال: إن اللَّه تعالى يقول لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وفي القتال ترك الرحمة؛ فكيف فرض عليه؟
فيقال أن ليس في القتال ترك الرحمة؛ بل هو من أبلغ الرحمة وتمامها؛ إذ يحملهم على الإيمان، وترك التكذيب؛ فتعلو منزلتهم، ويشرف قدرهم في الدنيا والآخرة، والله أعلم.
ثم إباحة القتل يكون بالضرورة؛ لأنهم إذا علموا أنهم لا يقتلون، لم يقع لهم الخوف بالقتال، وإذا لم يخافوا تركوا الإجابة؛ فشرع القتل فيه؛ لتحقيق الخوف؛ فلم يكن فيه ترك الرحمة، وهو كقوله: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)، وفي إقامة القصاص تلف النفس، وليس فيه إحياء، ولكن وجه الإحياء فيه: هو أن القاتل إذا فكر في قتل نفسه بقتل صاحبه، ردعه ذلك عن القتل؛ فيكون فيه إحياء النفسين جميعا؛ فيصير إيجاب القصاص سببا للإحياء في الحقيقة، وإن كان في الظاهر سببا للإتلاف؛ فكذلك هَؤُلَاءِ إذا أيقنوا بالقتل بامتناعهم عن الإجابة، تركوا الامتناع، وأقبلوا على الإجابة؛ فيكون موضوع القتل للرحمة في التحقيق، وإن كان في الظاهر خارجا مخرج ترك الرحمة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (١١) ففيه أن أهل الخصب والرغد هم الذين اشتغلوا بالتكذيب، وهم الذين كانوا يصدون الناس عن سبيل اللَّه؛ كما قال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا)؛ فخص أولي النعمة بالذكر لهذا.
ثم في قوله: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) إيهام بأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سبق منه المنع، ولم يوجد من رسول اللَّه حيلولة ومنع، ولكن مثل هذا الخطاب موجود في كتاب اللَّه تعالى في غير آي من كتابه، وهو أن يخرج مخرجا يوهم أن هناك مقدمة، وإن لم يكن فيها مقدمة في التحقيق؛ قال اللَّه تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا)، ولم يكن فيه تحقيق الوضع، وإن كان الرفع يستعمل في الشيء الموضوع؛ فكان تأويل الرفع هاهنا بأنها خلقت مرفوعة.
وقال: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ)، ولم تكن مرفوعة فوضعها، وكان معناه: أنها خلقت موضوعة.
وقال يوسف - عليه السلام -: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، ولم يسبق منه دخول في دين أُولَئِكَ؛ فيكون تاركا له بعدما دخل فيه.
وقال اللَّه تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
ويذكر غير هذا في سورة المدثر.
ثم قوله: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) معناه: لا تجازهم بصنيعهم، ولا تستعجل عليهم بالدعاء؛ بل أمهلهم قليلا (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ).
وقيل في الفرق بين النِّعَمة والنَّعْمَةِ: إن النَّعْمَة ما يعطى للعبد إرادة استدراجه فيها وهلاكه، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ)، والنعم هي منة اللَّه تعالى على عباده؛ تفضلا عليهم، كقوله، (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)، واللَّه أعلم.
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (١٢) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (١٣).
قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأنكال هي السلاسل والقيود.
وقال أبو بكر الأصم: الأنكال: ما ينكل به ويعتبر به غيره؛ قال اللَّه تعالى: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً)، تأويله ما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى أيضا.
فإن كان على ما ذكره أبو بكر الأصم فقد يكون في الدنيا، ويكون منصرفا إلى يوم بدر وكأن الأول أشبه.
والجحيم: هو معظم النار.
ثم في هذه الآية دلالة نبوة نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وآية رسالته، لأن قوله: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا) وراجع إلى قوله: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ)، فإن لهم لدينا أنكالا وجحيما، وإنما ينكلون ويعذبون بالجحيم إذا ماتوا على الكفر؛ ففيه إبانة أنهم يموتون وهم كفار، وعلى ذلك ماتوا، وختم أمرهم، ولم يُسلم منهم أحد؛ فيخرج ما أخبر عن غيب كما أخبر، وذلك لا يعلم إلا باللَّه - تعالى - فثبت أنه لم يخترعه من تلقاء نفسه، بل علم
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (١٣) فالذي يغص، ولا يقدر على ابتلاعه ليس بطعام في الحقيقة، وقال: (لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ)، والحميم ليس بشراب في التحقيق؛ ولكن سمي الأول: طعاما؛ لأنه يمضغ مضغ الطعام، والصديد والحميم يسيلان سيل الشراب، فذكر في الأول طعاما، وفي الثاني شرابا لهذا.
ولأن الطعام اسم لما يطعم؛ فهو مطعوم، وإن كان كريها، والحميم مشروب وإن كان في نفسه كريها.
ثم الأصل أن الكفرة بكفرهم تركوا شكر نعم اللَّه - تعالى ذكره - وقابلوها بالكفران؛ فأبدل اللَّه تعالى لهم في الآخرة مكان كل نعمة نقمة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا)، فأبدلهم مكان البصر عمى، ومكان السمع صمما؛ لتركهم شكر ما أنعموا من البصر والسمع واللسان، وأبدلهم مكان اللباس قطرانا، ومكان المراكب: السحْب إلى النار على أقدامهم ووجوههم؛ فكذلك أبدلهم مكان الطعام والشراب زقوما وحميما؛ لتركهم شكر نعم اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (١٤).
قد ذكرنا الرجفة في غير موضع.
وقوله: (كَثِيبًا مَهِيلًا)، أي: رملا سائلا؛ ففيه إخبار عن شدة هول ذلك اليوم؛ لأن الجبال من أصلب الأشياء وأشدها في أنفسها، ثم يبلغ هول ذلك اليوم مبلغا لا يحتمله الجبال مع شدتها وصلابتها، فالإنسان الضعيف المهين أنَّى يقوم لشدته وهوله؟
فذكرهم حال ذلك اليوم؛ ليرتدعوا، وينتهوا عما هم عليه في التكذيب والضلال.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (١٥) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (١٧) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (١٨) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (١٩).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا).
قوله: (شَاهِدًا عَلَيْكُمْ) قال أبو بكر الأصم: تأويله: مبينا لكم ما لله تعالى عليكم من الحق.
وجائز أن يكون (شَاهِدًا عَلَيْكُمْ)، أي: لكم وعليكم جميعا؛ فيكون على الكفرة شاهدا بقوله: (وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ)، ويكون للمؤمنين شاهدا، وقد
فإن الإنسان الضعيف المهين أنّى يقوم لشدته وهوله، فذكرهم حال ذلك ليرتدعوا، وينتهوا عمّا هم عليه من التكذيب والضلال.
وجائز أن يكون﴿ شاهدا عليكم ﴾ أي لكم وعليكم جميعا ؛ فيكون على الكفرة شاهدا بقوله :﴿ وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ﴾ [ النحل : ٨٩ ] ويكون للمؤمنين شاهدا، وقد يذكر﴿ عليكم ﴾ ويراد به لكم كقوله تعالى :﴿ وما ذبح على النصب ﴾[ المائدة : ٣ ] أي للنصب لأنهم كانوا يذبحون لها لا عليها، وخصّ ذكر موسى عليه السلام وفرعون من بين الجملة.
ففائدة ذكر التخصيص، هو، والله أعلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منشؤه بين ظهراني الذين كذّبوه، ولم يكونوا٢ وقفوا منه على كذبة قط، بل كانوا عرفوه بالصيانة والعدالة، وكان بمحل يرونه أهلا للشهادة، فكيف ينسبونه إلى الكذب، ولم يعهدوا ذلك منه ؟ وكذلك موسى عليه السلام كان نشأ بين ظهراني أولئك الذين أرسل إليهم وكانوا عرفوه بالصيانة والعدالة، وعرفوا أنه يصلح للشهادة.
ومنهم من يقول بأنهم أزروا برسول الله صلى الله عليه وسلم واستصغروه اعتبارا بما شهدوا من حاله عند الصغر، إذ كان منشؤه فيهم، فكذلك أزروا بموسى عليه السلام حين٣ بعث إليهم، واستخفوا به استخفافهم به في حالة الصغر حتى قالوا :﴿ ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ﴾ [ الشعراء : ١٨ ] فنزل بهم ما نزل بأولئك من الاستئصال بتكذيبهم إياه وإزرائهم به، فذكّرهم حال مكذبي موسى عليه السلام وما نزل بهم من مقت الله تعالى بتكذيبهم وإزرائهم ليعتبروا به، فينقلعوا عن الإزراء لئلا يحل بهم ما حلّ بأولئك ولئلا يغتروا بقواهم وكثرة عددهم وأموالهم ؛ فإن مكذبي موسى عليه السلام كانوا أكثر أموالا وأولادا وأعدادا وأشد بطشا فلم يغنهم ذلك من الله شيئا.
وجائز أن يكون حصر ذكر موسى عليه السلام وفرعون، ونبأهما، لأن خبره منتشرا في ما بين أهل مكة، لأنهم كانوا خبرة اليهود والذين عندهم نبأ موسى عليه السلام لينتهوا عمّا هم عليه من التكذيب، ولأن الله تعالى إذ يحتج بالحجج ؛ وله أن يحتج عليهم بحلها، إذ في ذلك قطع الشبه وإزاحة العذر، أو ذكّرهم نبأ موسى عليه السلام وقومه لأن العهد به كان أقرب ؛ إذ قومه كانوا آخر قوم استؤصلوا في الدنيا.
٢ في الأصل و م: يكن..
٣ في الأصل و م: حيث..
وخص ذكر موسى - عليه السلام - وفرعون من بين الجملة؛ ففائدة ذكر التخصيص هو - واللَّه أعلم - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان منشَؤه بين ظهراني الذين كذبوه، ولم يكن وقفوا منه على كذبة قط؛ بل كانوا عرفوه بالصيانة والعدالة، وكان بمحل يرونه أهلا للشهادة؛ فكيف ينسبونه إلى الكذب، ولم يعهدوا ذلك منه، وكذلك موسى - عليه السلام - كان نشأ بين ظهراني أُولَئِكَ الذين أرسل إليهم، وكانوا عرفوه بالصيانة والعدالة، وعرفوا أنه يصلح للشهادة.
ومنهم من يقول بأنهم ازدروا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واستصغروه؛ اعتبارا بما شهدوا من حاله عند الصغر؛ إذ كان نشوءه فيهم؛ وكذلك ازدروا بموسى - عليه السلام - حين بعث إليهم، واستخفوا به استخفافهم به في حال الصغر، حتى قالوا: (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ)، فنزل بهم ما نزل بأُولَئِكَ من الاستئصال بتكذيبهم إياه، وازدرائهم به، فذكرهم حال مكذبي موسى - عليه السلام - وما نزل بهم من مقت اللَّه تعالى بتكذيبهم وازدرائهم به ليعتبروا به؛ فينقلعوا عن الازدراء؛ لئلا يحل بهم ما حل بأُولَئِكَ.
ولئلا يغتروا بقواهم، وكثرة عددهم وأموالهم؛ فإن مكذبي موسى - عليه السلام - كانوا أكثر أموالا وأولادا وأعدادا، وأشد بطشا؛ فلم يغنهم ذلك من اللَّه - تعالى - شيئا.
وجائز أن يكون خص ذكر موسى - عليه السلام - وفرعون ونبأهما؛ لأن خبره كان منتشرا فيما بين أهل مكة؛ لأنهم كانوا جيرة اليهود الذين عندهم نبأ موسى - عليه السلام - وفرعون، فكانوا يخبرونهم بما حل بفرعون وقومه بتكذيبهم الرسول؛ فذكرهم نبأ موسى - عليه السلام - لينتهوا عما هم عليه من التكذيب.
ولأن لله تعالى أن يحتج عليهم بآحاد الحجج، وله أن يحتج عليهم بجملتها؛ إذ في ذلك قطع الشبه، وإزاحة العذر.
أو ذكرهم نبأ موسى - عليه السلام - وقومه؛ لأن العهد بهم كان أقرب؛ إذ قومه كانوا آخر قوم استؤصلوا في الدنيا.
وقوله: (فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (١٦) أي: شديدا: ومنه: المطر الشديد
وقال أبو بكر: اسم لكل معضلة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (١٧) فهو يحتمل أوجها:
أحدها: أي: كيف تتقون النار في الآخرة إذا سلكتم في الدنيا سبيلها -وهو الكفر- وأنتم تعلمون أن من سلك طريقا لشيء ولا منفذ لذلك الطريق إلا إلى ذلك الشيء؛ فإنه يرد عليه لا محالة.
أو كيف تتقون النار في الآخرة، وقد تركتم القيام بما عليكم من شكر النعم.
أو كيف تتقون العذاب في الآخرة وأنتم تدفعون إليها، وتضطرون بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ)، وبقوله: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ)، وبقوله: (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ)، وقد مكنتم في الدنيا من الإيمان باللَّه تعالى، ومكنتم من الانتهاء عن الكفر، ثم لم تنقلعوا عنه، فأنى يتهيأ لكم المخلص من عذابه، وأنتم تدفعون إليه.
أو كيف تنتفعون بإيمانكم في الآخرة، ولم تؤمنوا في الدنيا، وقد مكنتم به.
والأصل أن دار الآخرة ليست بدار لاستحداث الأسباب، وإنما هي دار وقوع المسببات؛ فهم إذا لم يستحدثوا الأسباب التي جعلت لدفع العذاب في الدنيا، لم يمكنوا من استحداثها في الآخرة فينتفعوا بها، ولم يكونوا أهلا لوقوع المسببات؛ لما لم يستحدثوا الأسباب في الدنيا، وإنما قلنا: إنها ليست بدار محنة وابتلاء؛ لأن المحنة؛ لاستظهار الخفيات، والثواب والعقاب قد شوهد وعوين؛ فإذا قيل: إذا فعلت كذا، دخلت النار وهو يعاين النار، ويراها، فهو يمتنع عن الإقدام على ذلك الفعل، وإذا قيل له: إذا آمنت باللَّه تعالى أكرمت بالجنة، وهو يشاهد الجنة، ويراها، فهو يؤمن لا محالة؛ فلا وجه للابتلاء في الآخرة؛ بل هي دار وقوع المسببات يعني: الثواب والعقاب؛ والذي يدل على هذا قوله؛ (يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا)، فأخبر أنهم يشيبون لا بسبب المشيب، والمشيب في الدنيا لا يوجد إلا بعد وجود سببه، وهو الكبر ليعلم أن الدار الآخرة ليست بدار استحداث الأسباب؛ فما يستحدثون من الإيمان باللَّه تعالى لا ينفعهم في ذلك اليوم، ولا يقيهم من عذاب اللَّه تعالى.
وجائز أن يكون على التمثيل، لا على تحقيق الشيب، فمثله به؛ لعظم ذلك اليوم، وشدة هوله، وقد يجوز أن يمثل الشيء بما يبعد عن الأوهام تحقيقه؛ على تعظيم ذلك الشيء، كقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)، فذكر هذا على التمثيل؛ لعظم ما قيل فيه، لا على تحقيق الانفطار والانشقاق.
وجائز أن يكون معناه: أنه لولا أن اللَّه - تعالى - بعثهم للإبقاء وألا يتغيروا، ولا يتفانوا، وإلا كان هول ذلك اليوم يبلغ مبلغا يشيب به الولدان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (١٨).
أي: بما يجعل الولدان شيبا، وهو هول ذلك اليوم، وشدة فزعه.
أو منفطر بالغمام.
وقيل: منفطر باللَّه، أي: بقضائه وحكمه، واللَّه أعلم.
ثم قال: (مُنْفَطِرٌ بِهِ)، ولم يقل: " منفطرة "، والسماء مؤنث؛ فذكر الزجاج: أن معنى قوله: (مُنْفَطِرٌ بِهِ)، أي: ذات انفطار، فعبر بها كما يعبر عن الذكور؛ كما يقال: امرأة مرضع، أي: ذات إرضاع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا):
أي: الذي وقع به الوعد مفعول، لا أن يكون الوعد هو المفعول، وكذا قوله: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا)، والوعد لا يؤتى، بل الموعود هو الذي يؤتى، ولكن نسب الموعود إلى الوعد؛ لأنه من آثاره، وهذا كما يقال: المطر رحمة اللَّه، أي: برحمة اللَّه ما أمطروا، لا أن يكون المطر رحمته، ويقال: الصلاة أمر اللَّه، أي: بأمر اللَّه ما تقام، لا أن تكون أمره الذي يوصف به؛ فكذلك الموعود نسب إلى الوعد؛ إذ بالوعد ما استوجبوا، لا أن يكون الوعد هو المفعول وهو المأتي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ... (١٩).
جائز أن يكون قوله: (هَذِهِ) منصرفا إلى الأهوال التي ذكرها فيكون ذكرها تذكرة.
ويحتمل أن ينصرف إلى الرسالة أي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل[ أن تكون ]٢ هذه السور أو الآيات كلها تذكرة.
وقوله عز وجل :﴿ إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ﴾ إلى ما دعاه إليه ربه ؛ وذلك يكون بالإجابة إلى٣ ما دعاه إليه، أو من شاء اتخذ إلى ما وعد له ربه في الآخرة سبيلا في أن يقبل على طاعته، ويشغل نفسه بعبادته.
٢ في الأصل و م: أي..
٣ في الأصل و م: في..
ويحتمل: أي: هذه السورة، أو الآيات كلها تذكرة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا):
قَالَ بَعْضُهُمْ: من شاء اتخذ عند ربه جاهًا ومنزلة لنفسه.
أو (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا).
أي: إلى ما دعاه إليه ربه، وذلك يكون بالإجابة فيما دعاه إليه.
أو من شاء اتخذ إلى ما وعد له ربه في الآخرة سبيلا في أن يقبل على طاعته، ويشغل نفسه بعبادته.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ):
قال أبو عبيد: الصواب أن يقرأ: (وَنِصْفِهِ وثُلُثِهِ) بالخفض؛ على معنى إضافة (أَدْنَى) إليها، فكأنه يقول: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل، وأدنى من نصفه، وأدنى من ثلثه، و (أَدْنَى) يكون على الزيادة والنقصان جميعا؛ لأن فضل ما بين الثلث، إلى النصف هو السدس؛ فإذا زاد على الثلث أقل من نصف السدس، فهو إلى الثلث أدنى، وكذلك إذا نقص من الثلث شيئا قليلا، فهو إلى الثلث قريب؛ فيكون إليه أدنى، وكذلك الفضل فيما بين النصف إلى الثلثين هو السدس، فإذا زاد على النصف أكثر من نصف السدس، فهو إلى الثلثين أدنى، وإذا نقص من نصف السدس فهو إلى النصف أدنى وأقرب.
ومنهم من اختار النصب فيهما، والوجهان جميعا محتملان؛ لأن قوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ) ليس فيه إيجاب حكم مبتدأ؛ وإنما فيه إخبار عن القيام
وكذلك قال في سورة سبأ: (رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)، وقرئ: (رَبَّنَا بَاعَدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)؛ لوجود الأمرين جميعا وهو الدعاء والإجابة؛ فقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا بَاعِدْ) ودعاء، وقوله (رَبُّنَا بَاعَدَ) على الإجابة، ففرق بينهما بالإعراب؛ فكذلك هاهنا لما استقام وجود الوجهين من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، استقام أن يقرأ بالنصب والخفض جميعا، ويفرق بينهما بالإعراب، واللَّه أعلم.
ثم يجوز أن يكون المفروض من القيام قدر ثلث الليل، ويكون الزيادة بحكم النافلة.
ويجوز أن يكون كله مفروضا، وإن طال، وزاد على الثلث والنصف والثلثين، وإن كان يجوز له الاقتصار على ثلث الليل؛ ألا ترى أن فرض الركوع والسجود يقضي بإدراك جزء منه، وكذلك فرض القيام يقضي بالجزء منه، ثم إن الركوع وإن طال فهو من أوله إلى آخره فرض حتى لو أن داخلا شاركه في أول الركوع، ثم رفع رأسه، وشاركه ثالث في آخر ركوعه، ثم رفع رأسه مع الإمام، صار كل واحد منهم مدركا لفرض الركوع، وإن كان الإمام لو اقتصر على جزء منه، كفاه ذلك عن فرضه؛ فكذلك الفرض لما انصرف إلى قيام الليل فصار جميع ما يؤتى من القيام في الليل وإن طال فرضا، وإن كان قد يجوز الاجتزاء ببعضه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ):
في هذه الآية، وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) - دليل على أن فرض القيام كان على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وعلى من تبعه من المؤمنين، وإن كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو المخصوص
ثم إن اللَّه تعالى ذكر في التوبة وفيما فيه التبع خطابا يجمع الجميع بقوله: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ)، وبقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) وذكر فيما فيه الأمر خطابا يقتضي الآحاد، وهو قوله: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا)؛ ففي هذا أنه قد يجوز أن يخاطب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على إدخال غيره فيه تبعًا له، ولا يجوز أن يخاطب غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويراد به إشراك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذكر الخطاب؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو المتبوع؛ فجاز إلحاق غيره به، وغيره لا يكون متبوعا حتى يلحق به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ):
فيه أن الليل والنهار ليسا يمضيان على الجزاف؛ ولكن بتقدير سبق من اللَّه - عز وجل - وآية ذلك ظاهرة؛ لأنهما يجريان مذ خلقهما على تقدير واحد، لم يتقدما، ولم يتأخرا، ولم ينتقصا ولم يزادا؛ فيكون فيه إبانة أن مدبرهما واحد، وأن الذي قدرهما هكذا ممن لا يبيد ملكه، ولا ينفذ سلطانه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: علم أن لن تطيقوه.
قال أبو يكر الأصم: هذا لا يستقيم؛ لأنه لا جائز أن يكلفهم اللَّه تعالى ما لا يطيقونه؛ ألا ترى إلى قوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).
وليس فيما ذكره أبو بكر ما يدفع هذا التأويل؛ لأنه يقال للأمر إذا اشتد وتعسر: لا يطاف هذا الأمر، وإن لم يكن ذلك خارجا من الوسع؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)، وتأويله: لا تحملنا أمرا يشتد علينا عمله، ليس أنهم خافوا أن يحملهم أمرا لا يحتمله وسعهم؛ فيكون قوله: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) -إن كان تأويله: أن لن تطيقوه- على ذلك، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون قوله: (مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) أي: لا تحملنا أمرا تهلك فيه طاقتنا، لا أن
وجائز أن يكون قوله: (وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)، أي: اعصمنا من الشهوات واللذات؛ لئلا نؤثرها؛ فنكون مضيعين بارتكابها قوة الفعل الذي تعبدنا به؛ فلا نصل إلى فعله، وهذه هي القوة التي لا تزايل الفعل، بل تطابقه، وأما الفعل الذي هو خارج عن احتمال الوسع والطاقة، فذلك هو الذي لا يقع بمثله التكليف.
وجائز أن يكون تأويل قوله تعالى: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ)، أي: لن تحصوا حد ما أمركم به، لو أخذ عليكم في أمر بتقدير الثلث والنصف، لم يمكنكم ذلك إلا بعد جهد؛ ففرض عليكم قيام الثلث من الليل، وجعل لكم الإمكان في أن تزيدوا عليه فيحيط عملكم بقيام الثلث، ولو كان على حد واحد، لم يمكنكم حفظه إلا بعد شدة وجهد، وفي ذلك كلفة عسيرة.
ويؤيد هذا تأويل من قال: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ)، أي: لن تطيقوه، وتكون الطاقة عبارة عن التعسير، واشتداد الأمر.
ثم في هذه الآية دلالة على إباحة تعليق الحكم بالاستحسان، لأنه قد فرض عليهم قيام ثلث الليل، ولا يمكنهم تدارك الثلث بتقدير الإحاطة، وإنما يمكنهم بالتقدير الذي يغلب على القلب؛ فثبت أنه قد يجوز أن يكون الحكم معتبرا بما يقع في القلوب، ويغلب على الظنون، والاستحسان ليس إلا تعليق الحكم بما يغلب على القلوب.
والذي يدل على أن الحكم لازم بما ذكرنا: أن اللَّه تعالى ألزم الحد على القاذف وعلى الزاني، ولم يبين مبلغ وقوع الضرب فيه، ولا ما يضرب به، فقدر ذلك بما يقع في القلوب أن مثل هذا الضرب يصلح لمثل هذه الجناية، وكذلك قيم الأشياء، والأروش، والنفقات، وتسوية المكاييل، والموازين يعتبر ذلك كله بغلبة الظنون من غير أن كان في شيء من ذلك أصل تقدر النوازل به وتنتزع منه؛ فثبت أنه يجوز أن يحكم بالذي يغلب على القلوب، وأن المجتهد يرجع إلى وجهين: مرة ينظر غيره فيتمثل بها؛ فيسمى ذلك: قياسا، ومرة يحكم فيها بما يغلب على الظنون؛ فيسمى ذلك: استحسانا.
وفي هذه الآية دلالة أن سؤال من يسأل أبا حنيفة - رحمه اللَّه - أن الوتر لو كان له مشابهٌ في الفرض، لكان لا يختلف لعدده - سؤال غير مستقيم؛ لأنه قد فرض على القوم أن
ثم في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ) أن اللَّه وقتما فرض عليهم علم أنهم لا يحصونه؛ ولكن بيّن هذا؛ ليعلموا أن لله تعالى أن يكلفهم إقامة العبادة إلى وقت لا يتهيأ لهم إحاطة مبلغ ذلك الوقت إلا بعد جهد؛ ليعرفوا منة اللَّه تعالى عليهم إذا أسقط عنهم ذلك التكليف، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا)، ولكن ذكر هذا؛ ليعلموا أنهم يكلفون القيام للعشرة وإن كان بهم ضعف، لكن إذا خفف عنهم، عرفوا ما لله عليهم من عظيم المنة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) يحتمل أن تكون طائفة منهم امتنعوا عن القيام؛ فتكون التوبة راجعة إليهم؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ)، فهذا يبين أنهم جميعًا لم يقوموا معه؛ وإنما قامت معه طائفة؛ فتكون التوبة راجعة إلى الطائفة التي امتنعت عن القيام.
وجائز أن تكون راجعة إليهم، وإلى الذين قاموا معه؛ فيكون الذين قاموا معه قصروا في القيام عن الحد الذي شرط عليهم؛ فافتقروا إلى التوبة - أيضًا - كما افتقر إليها من تخلف عن القيام؛ فتاب اللَّه عليهم جميعا، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ):
فمنهم من ذكر أن قيام الليل صار منسوخا بهذه الآية.
ومنهم من يقول بأن النسخ وقع بقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)، وهي الصلاة المفروضة، وليس بينهما فرق عندنا؛ وإنما نسخ بهما جميعا.
ووجه النسخ: هو أن فرض القيام لو كان باقيا، لكان لا يجوز لهم أن يكتفوا من القراءة بما تيسر عليهم؛ لأنهم إذا قاموا إلى ثلث الليل لزمهم تبليغ القراءة إلى حدٍّ يتعسَّر عليهم ويشتد، فإذا أذن بالاقتصار على القدر الذي تيسَّر، عُلِمَ أنه قد سقط عنهم أن يقوموا ثلث الليل. ثم هو إذا قام صلاة المغرب والعشاء قد قرأ من القرآن ما تيسر عليه؛ فصار قاضيا لما اقتضاه قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ)، فمن هذا الوجه استدلوا بهذه الآية على نسخ حكم القيام بالليل، ثم هذه القراءة يقيمها في الصلاة؛ فيكون النسخ واقعا بهما.
ومنهم من زعم أنه لم يسقط عنه فرض القيام؛ بل دام عليه إلى أن قبض - عليه السلام -.
واحتج بما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " كُتب عليَّ قيام الليل، ولم يكتب عليكم "، ومعناه: بقي عليَّ مكتوبا، ورفع عنكم؛ إذ قد دللنا أن القيام في الابتداء كان واجبًا عليه وعليهم جميعا.
وقد قال بعض الناس: إن صلاة الليل، لم تكن فرضا على أمته بهذا الحديث، وما ذكرناه عليهم.
ثم الجواب عن التعلق أن قوله: (فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) معناه: غنيمة لك، لا أن يكون القيام منه تطوعا.
ووجه صرفه إلى الغنيمة: هو أن العبادة من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تخرج مخرج الشكر لله تعالى؛ فيصير بها مكتسبا للفضيلة، وليس يقع ذلك موقع التكفير للسيئات؛ لأنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فلم يكن يحتاج إلى إتيان الحسنات؛ ليكفر عنه السيئات؛ فثبت أن الفعل منه يقع موقع اكتساب الفضيلة؛ فتدوم له بذلك الفضيلة ويستوجب بها جزيل الثواب، وذلك من أعظم الغنائم.
والذي يدل على أن فعله يخرج مخرج الشكر: ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قام حتى تورمت قدماه؛ فقيل له: يا رسول اللَّه، ألم يغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال - عليه السلام -: " أفلا أكون عبدا شكورا؟ "، وأما غيره فإن الحسنات منهم مكفرة لسيئاتهم، ومطهرة لزلاتهم؛ قال اللَّه تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)؛ فهم بحسناتهم لم يصيروا مكتسبين الفضيلة في مستأنف الأوقات، فيصيروا بها مغتنمين، بل رفعوا زلاتهم، وطهروا أنفسهم من المآثم؛ فلم تصر القربة منهم، واللَّه أعلم.
فلهذا ما سمى تهجده: نافلة، لا أن يكون قيامه نفلا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
فمنهم من زعم أن هذه السورة كلها مكية، ومنهم من زعم أن أولها مكية، وآخرها مدنية، ويحتج هَؤُلَاءِ بقوله تعالى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ)، وبقوله: [(يُقَاتِلُونَ] فِي
واحتجوا - أيضا - بقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)، قالوا: إن الزكاة إنما فرضت عليهم بعدما هاجروا إلى المدينة، وفي هذا أمر بإيتاء الزكاة؛ فثبت أن نزولها كان بالمدينة، وأما أول السورة فهي في موضع المحاجة على أهل الشرك، ولم يكن بالمدينة مشرك؛ بل كانوا أهل كتاب.
ومن ذكر أنها كلها مكية، فهو يحمل قوله: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) على الوعد والبشارة، ليس على الإيجاب والوجوب؛ ألا ترى إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى)، فأخبر أنه سيكون منكم مرضى، لا أن كانوا مرضى في ذلك الوقت؛ فلم يكن فيما ذكر دلالة كونها مدنية.
ثم الآية إن كانت على الوعد؛ ففيه أنهم كانوا في ضيق من العيش، وكانوا من القوم في خوف؛ فيكون فيه بشارة أنه يرفع عنهم الضيق بما يضربون في الأرض، ويوسع عليهم العيش، وأنه يفتح لهم الفتوح، ويكثر أنصارهم حتى يقهروا العدو، ويقع لهم من ناحيتهم الأمن، وقد آل الأمر إلى ما بشروا به، فيه آية رسالته - عليه السلام - إذ أخبرهم عن علم الغيب، وكان الأمر على ما أخبر.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى) في موضع الاعتلال، أنه إنما خفف عليهم الأمر بما ذكر من الأعذار من المرض، والضرب في الأرض، والمجاهدة في سبيل اللَّه تعالى، والتخفيف إذا وجب لعذر مما لم يلاق العذر حالة الفعل، لم يخفف؛ فكيف خفف عنهم قبل وقوع الأعذار، ولكن هذه الأعذار وإن تحققت هي لا تلاقي الفعل؛ بل تتقدمه؛ لأن المجاهدة تكون بالنهار، لا بالليل، وكذلك الضرب في الأرض وقت النهار لا الليل، والقيام كان بالليل ليس بالنهار، ثم قد وضع عنهم قيام الليل وإن لم يكن العذر ملاقيا للقيام؛ فعلى ذلك جائز أن يرفع عنهم القيام بالليل وإن لم يأت بعد وقت المجاهدة، ولا كان الضرب موجودا؛ إذ ليس في ذلك كله إلا عدم ملاقاة العذر حالة القيام.
ثم الضرب في الأرض يكون للتجارة، ولغيرها من الوجوه: لطلب العلم، وغيره من الأسباب؛ فلا يحصل أمر الضرب على التجارة خاصة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ).
قال أبو بكر في قوله: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) هو دلالة أن هذه الآية مدنية؛ لأن الزكاة إنما فرضت عليهم بالمدينة، فإن كان الأمر على ما ذكر: أن فرضها نزل بالمدينة فذلك عندنا مصروف إلى زكاة المواشي خاصة؛ لأن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لم يكن لهم بمكة سوائم؛ لأنهم كانوا يخافون العدو؛ فلم يتهيأ لهم إسامة المواشي، وأما ما رجع من الزكوات إلى غيرها من الأموال، فيشبه أن تكون واجبة عليهم في حال كونهم بمكة، وبعد مفارقتهم منها، ولا يكون في الأمر بإيتاء الزكاة دلالة نزولها بالمدينة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا):
فالقرض -في لغة العرب-: القطع، يقال: قرض الفأر الجراب، أي: قطعه؛ فسمي القرض: قرضا لهذا؛ لأنه يقطع ذلك القدر من ماله فيدفعه إلى غيره، وكذلك هو بالتصدق يقطع ذلك القدر؛ فيجعله لله تعالى خالصا؛ فسمي: إقراضا لهذا.
ويجوز أن يكون أضاف إلى نفسه لئلا يمن على الفقير فيما يتصدق عليه؛ إذ الإقراض حصل فيما بينه وبين ربه؛ فيصير الفقير معاونا له في تلك القربة.
ولأن المرء في الشاهد إنما يقرض ما يفضل عن حاجته، فيدفعه إلى من يثق به، ليسترده منه عند حاجته إليه؛ فكذلك الصدقة أُوجبت في المال الذي يفضل عن حاجاته، فيقرضها لله تعالى فيجدها مهيأة عندما تمسه الحاجة.
ثم المال الذي يدفعه إلى الفقير على جهة التصدق هو مال اللَّه تعالى، ثم جعل الله تعالى ذلك منه إقراضا له جل جلاله وأضافه إلى نفسه؛ فتكون الفائدة في الإضافة إلى نفسه هي تفضيل عمله؛ ليرغبه في مثل ذلك الفعل على جهة التكرم منه؛ وهو كما سمى الثواب الذي يتفضل به على عباده أجرا بقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ)، ومن عمل لنفسه لم يستوجب الأجر على غيره، وسمى الذي يُقتل:
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) معناه: تجدوه حاصلًا لكم، وإلا فكل شيء تقدمونه من خير أو شر تجدونه حاضرًا في ذلك اليوم، ولكن الشر يكون عليهم، قال اللَّه تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)، وفي حق الكلام أن يقول: " هو خير "؛ لأن " هو " يرفع ما بعده، ولكن " هو " كالفصل هاهنا، وحقه الحذف، وإذا حذف انتصب الكلام؛ لأن معناه: تجدونه عند اللَّه خيرا لكم مما خلفتم، فيكون " خيرا " مفعولا.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) يحتمل أوجها:
أحدها: أنه خير لكم، وأعظم أجرا مما خلفتم لورثتكم؛ فيكون فيه أن الذي يخلفه لورثته له فيه خير، ولكن ما يقدم لآخرته خير له، والذي يدل على أن له فيما يخلفه لورثته خيرا قوله - عليه السلام -: " إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس ".
والثاني: أن المرء في الشاهد قد تسخو نفسه ببذل الأموال للآجلة الآجلة لما يأمل منهم من المال الثواب العاجل، فيكون في قوله: (هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) ترغيب للعباد في تقديم الأموال لوجه اللَّه تعالى؛ لأنهم إذا رغبت أنفسهم في بذل الأموال للآجلة؛ طمعا للمنافع التي تحصل لهم؛ فكان بذل المال لوجه اللَّه تعالى أعظم في الأجر، وأولى أن يقع فيه الرغبة.
ولأن النفس قد تتحمل المكروه في الشاهد لمنافع تأملها في ثاني الحال، فإذا طمعت لما تبذل لوجه اللَّه تعالى الثواب الجزيل والأجر العظيم خف عليها تحمل المكروه، والذي يناله بالبذل.
ويجوز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْظَمَ) بمعنى: عظيم؛ إذ قد يستعمل حرف " أفعل " في موضع " فعيل "؛ كما يقال " أكبر " بمعنى: " كبير "، واللَّه أعلم.
فطلب المغفرة من جهة الفعل: أن ينتهي عن الفعل الذي يستحق عليه العقاب ويجيب إلى ما دعا اللَّه إليه؛ قال اللَّه - تعالى -: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)، فجعل انتهاءهم عن الكفر ودخولهم في الإسلام سبب مغفرتهم، وقال اللَّه تعالى: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، وليس استغفارهم أن يقولوا باللسان: " اللهم اغفر لنا "، ولكن معناه: أن انتهوا عما أنتم فيه من الكفر، وأجيبوا ربكم فيما دعاكم إليه، فهذا هو الاستغفار من جهة الأفعال.
وأما الاستغفار باللسان وهو طلب المغفرة، يكون على وجهين:
أحدهما: أن تسأل ربك التجاوز عن سيئاتك.
والثاني: أن يسأل حتى يوفقه للسبب الذي إذا جاء به استوجب المغفرة، وعلى هذا التأويل يخرج استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه، وهو أنه طلب من ربه أن يوفقه لما فيه نجاته، وهو الإسلام، لا أن يسأل ربه أن يغفر له مع دوامه على الكفر؛ ألا ترى أنه امتنع عن الاستغفار له حيث تقررت عنده عداوته لله تعالى، وعلم أنه لم يوفق للسبب الذي يستوجب به المغفرة؛ قال اللَّه تعالى: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)؛ فثبت أنه لم يطلب منه المغفرة مع دوامه على الكفر، ولكن للوجه الذي ذكرنا، واللَّه أعلم.
* * *