ﰡ
(مكية حروفها خمسمائة وستة وستون كلمها مائة وست وثلاثون آياتها ثلاثون)
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ١ الى ٣٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤)هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤)
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤)
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩)
وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)
القراآت:
روى ابن مهران وابن الاسكندراني عن أبي عمرو أنه كان يقف على وَالْفَجْرِ وأشباهها من ذوات الراء بنقل حركة الراء إلى ما قبله والْوَتْرِ بكسر الواو:
حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون: بالفتح يسري وبِالْوادِ أكرمني وأهانني بالياء في الحالين: يعقوب والهاشمي عن البزي والقواس وأبو ربيعة عن أصحابه. وقرأ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل أكرمني وأهانني بالياء في الوصل وبغير ياء في الوقف بِالْوادِ بالياء في الوصل: ورش وسهل وعباس. الباقون: كلها بغير ياء فقدر بالتشديد: ابن عباس ويزيد ربي بالفتح: أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو. يكرمون ولا يحضون ويأكلون ويحبون كلها على الغيبة:
أبو عمرو وسهل ويعقوب. الآخرون: بتاء الخطاب تَحَاضُّونَ بفتح التاء الفوقانية والألف
الوقوف:
وَالْفَجْرِ هـ لا عَشْرٍ هـ ك وَالْوَتْرِ هـ ك يَسْرِ هـ ك لجواز أن يكون جواب القسم المحذوف وهو ليبعثن أو ليعذبن مقدرا قبل «هل» أو بعده. حِجْرٍ هـ ط ثم الوقف المطلق على لَبِالْمِرْصادِ وما قبله وقف ضرورة بِعادٍ هـ لا الْعِمادِ هـ لا الْبِلادِ هـ ص بِالْوادِ ك الْأَوْتادِ هـ ك الْبِلادِ هـ ك الْفَسادَ هـ ك عَذابٍ هـ ج لاحتمال التعليل ولما قيل: إن جواب القسم قوله إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ وما بينهما اعتراض. لَبِالْمِرْصادِ هـ ج أَكْرَمَنِ هـ ج لابتداء شرط أَهانَنِ هـ ج لأن «كلا» يحتمل معنى «إلا» وحقا ومعنى الردع. الْيَتِيمَ هـ لا الْمِسْكِينِ هـ ط لَمًّا هـ ط جَمًّا هـ ك دَكًّا هـ لا دَكًّا هـ ك صَفًّا هـ لا صَفًّا هـ ك بِجَهَنَّمَ هـ الذِّكْرى هـ ج لأن ما بعده مستأنف كأنه قيل: كيف يتذكر لِحَياتِي هـ ج أَحَدٌ هـ لا أَحَدٌ هـ ط الْمُطْمَئِنَّةُ هـ ط مَرْضِيَّةً هـ عِبادِي هـ جَنَّتِي هـ.
التفسير:
إقسام الله تعالى بهذه الأمور ينبئ عن شرفها وأن فيها فوائد دينية ودنيوية.
أما الفجر فعن بعضهم أنه الغيران التي تتفجر منها المياه، والأظهر ما روي عن ابن عباس أنه الصبح الصادق ويوافقه قوله في المدّثر وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [الآية: ٣٤] وفي «كورت» وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [الآية: ١٨] وذلك أن فيه عبرة للمتأمل لما يحصل من انفجار الضوء فيما بين الظلام، وانتشار الحيوان من أوكارها لطلب المعاش كما في نشور الموتى من قبورهم. وقيل: المضاف محذوف أي ورب الفجر أو أقسم بصلاة الفجر. وخصه بعضهم بفجر النحر لأنه يوم الضحايا والقرابين، وبعضهم بفجر المحرّم لأنه أوّل يوم السنة، وبعضهم بفجر ذي الحجة لقوله وَلَيالٍ عَشْرٍ والتنكير لأنها ليال معدودة من ليالي السنة أو لأنها مخصوصة بفضائل كما
جاء في الخبر «ما من أيام العمل الصالح فيهن أفضل من عشر ذي الحجة» «١»
قال أهل المعاني: ولو عرّفت بناء على أنها ليال معلومة جاز إلا أن التعظيم المستفاد من التنكير يفوت التناسب بين اللامات إذ ذاك فعدم اللام خير من وجوده مخالفا للباقية. وقيل: إنها عشر المحرم. وقيل: العشر الأخيرة من رمضان ولهذا سن فيها الاعتكاف وفيها ليلة القدر، وكان ﷺ إذا دخل العشر الأخير شدّ المئزر وأيقظ أهله أي كف
عن عمران بن حصين عن النبي ﷺ «إن الصلاة منها شفع ومنها وتر». «١»
السادس الشفع درجات الجنة وأبوابها وهي ثمانية، والوتر دركات النار وأبوابها وهي سبعة. السابع الشفع البروج الاثنا عشر، والوتر الكواكب السبعة. الثامن الشفع الشهر الذي يكون ثلاثين والوتر تسعة وعشرون. التاسع الشفع السجدتان والوتر الركوع. العاشر الشفع العيون الاثنا عشر لموسى فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [البقرة:
٦٠] والوتر معجزاته وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الإسراء: ١٠١] وأظهر الأقوال ما
روي عن النبي ﷺ أن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة لأنه تاسع أيام الليالي المذكورة.
وحين أقسم بالليالي المخصوصة أقسم على العموم بالليل إذا يسري أي إذا يمضي كقوله والليل إذا أدبر [المدثر: ٣٣] وعن مقاتل: هو ليلة المزدلفة. وعلى هذا جوّز أن يراد بالسري الإسناد المجازي لأن الساري فيه هو الحاج.
يروى أنه ﷺ كان يقدّم ضعفة أهله في هذه الليلة.
والحجر بالكسر العقل سمي بذلك لأنه يمنع من الوقوع فيما لا ينبغي كما سمي عقلا، ونهي لأنه يعقل وينهى، وحصاة لأنه يحصى أي يضبط. قال الفراء: يقال إنه لذو حجر إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها. والمراد بالاستفهام تقرير أن هذه المذكورات لشرفها وعظم شأنها يحق أن يؤكد بمثلها المقسم عليه كمن ذكر حجة باهرة ثم قال: هل فيما ذكرته حجة يريد أنه لا حجة فوق هذا ومن هنا قال بعضهم: فيه دليل على أنه تعالى أراد رب هذه الأشياء ليكون غاية في القسم. ولقائل أن يقول: المقنع والكفاية غير الغاية والنهاية. ثم إنه تعالى ذكر للعبرة ولتسلية نبيه ﷺ قصة ثلاث فرق على سبيل الإجمال لأنهم أعلام في القوة
وروي أنه كان لعاد ابنان: شدّاد وشديد، فملكا وقهرا البلاد وأخذا عنوة وملكا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشدّاد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال: أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة، وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار. ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا. ويروى أنه وضع إحدى قدميه فيها فأمر ملك الموت بقبض روحه.
ويروى أن النبي ﷺ رأى ملك الموت حين عرج به إلى السماء فسأله: هل رققت لأحد من الخلائق الذين قبضت أرواحهم؟ فقال: نعم اثنان أحدهما طفل ولد بالمفازة ثم أمرت بقبض روح أمه ولم يكن هناك إنسان يتعهد الطفل، والثاني ملك اجتهد في بناء مدينة لم يخلق مثلها ثم لم يرزق رؤيتها بعد أن وضع رجله فيها يعني شدادا، فدعا الله نبينا محمد ﷺ أن يخبره بذلك فأوحى إليه أن ذلك الملك هو ذلك الطفل الذي ربيناه وآتيناه مملكة الدنيا.
وحين قابل النعمة والملك بالكفران وبنى الجنان التي هي من مقدورات الله الرحمن جزيناه بالخيبة والحرمان. هكذا وجدت الحكاية في بعض التفاسير. وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع على تلك المدينة فحمل ما قدر عليه مما هناك، فبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه، فبعث إلى كعب الأحبار فسأله فقال: هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له. ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك
وعن عمرو بن عبيد أنه قرأ السورة عند المنصور حتى بلغ الآية فقال إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ يا أبا جعفر عرض له في هذا بأنه من الجبابرة الذين وعدوا بها. وقال الفراء: معناه إليه المصير فيكون وعدا ووعيدا للمؤمن والكافر. قال أهل النظم: لما ذكر أنه تعالى بمرصد من أعمال بني آدم عقبه بتوبيخ الإنسان على قلة اهتمامه بأمر الآخرة وفرط تماديه في إصلاح المعاش كأنه قيل: نحن مترقبون لمجازاة الإنسان على ما سعى، فأما هو فإنه لا يهمه إلا الدنيا وطيباتها فإن وجد راحة فرح بها وإن مسه ضرّ كند. والظاهر أن الإنسان للجنس.
وعن ابن عباس أنه عتبة بن ربيعة. وعن الكلبي هو أمية بن خلف. ومعنى الابتلاء في البسط والضيق هو أنه سبحانه يعامل المكلف معاملة المختبر ليظهر أنه هل يتلقى النعمة بالشكر والضيق بالصبر أم لا كقوله وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: ٣٥] وتقدير الكلام فأما الإنسان فيقول ربي أكرمن إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه وَأَمَّا هو فيقول ربي أهانن إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ أي ضيق عَلَيْهِ رِزْقَهُ فقوله فَيَقُولُ خبر المبتدأ في الموضعين إِذا مَا ابْتَلاهُ ظرف ل فَيَقُولُ وإنما قال في جانب البسط فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ أي جعله ذا نعمة وثروة ولم يقل في طرف القبض «فأهانه وقدر عليه» لأن رحمته سبقت غضبه فلم يرد أن يصرح بإهانة عبده، ولئلا يكون الكلام نصا في أن القبض دليل الإهانة من الله، فقد يكون سببا لصلاح معاش العبد ومعاده. وأما البسط فهو إكرام في الظاهر الغالب، والبسط لأجل الاستدراج قليل وعلى قلته فهو خير من خسران الدنيا والآخرة جميعا. وعلام توجه الإنكار والذّم؟ فيه وجهان: أحدهما على قوله رَبِّي أَهانَنِ فقط لأنه سمي ترك التفضل إهانة وقد لا يكون كذلك. والثاني على مجموع الأمرين لا من حيث مجموعهما بل على كل منهما. أما على دعوى الإهانة فكما قلنا، وأما على دعوى الإكرام فلأنه اعتقد حصول الاستحقاق في ذلك الإكرام كقوله إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص: ٧٨] وكان عليه أن يرى ذلك
ثم نبه الإضراب في قوله بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ على أن هناك شرا من ذلك وهو أنه يكرمهم بكثرة المال ثم لا يؤدّون حق الله فيه. وعن مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيما في حجر أمية بن خلف وكان يدفعه عن حقه فنزلت. والتراث أصله الوراث نحو تجاه ووجاه.
واللم الجمع الشديد ومنه كتيبة ملمومة مصدر جعل نعتا أي أكلا جامعا بجميع أجزائه كقوله وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً [النساء: ٦] وقال الحسن: أي يجمعون نصيب اليتامى إلى نصيبهم كقوله وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [البقرة: ٨٨] وقيل: جامعا بين حلال ما جمعه الميت وبين حرامه. وقيل: جامعا بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة اللذيذة والملابس الفاخرة كما يفعل أهل البطالة من الورّاث. والجم الكثير جم الماء وغيره يجم جموما إذا كثر جامّ، وجمّ نهي عن التهالك. والشره على جمع المال. وفي وصف الحب بالجم دلالة على أن حب المال وتعلق القلب بتحصيل ما يسدّ الخلة منه غير مكروه بل مندوب إليه لبقاء نظام العالم على أن كل السلامة وجل الفراغ في الترك كما هو دأب المتوكلين.
إن السلامة من ليلى وجارتها | أن لا تمر على حال بواديها |
استوت في الانفراش فذهب دورها وقصورها وجبالها وقلاعها حتى تصير قاعا صفصفا، ولعل هذا الذي بعد الزلزلة. قوله وَجاءَ رَبُّكَ أي أمره بالجزاء والحساب أو قهره أو
يروى أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله ﷺ حتى اشتد على أصحابه فجاء علي رضي الله عنه فاحتضنه وقبل عاتقه ثم قال: يا نبي الله بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم حتى غيرك؟ فتلا عليه الآية. فقال له عليّ: كيف يجاء بجهنم؟ قال: يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شرارة لو تركت لأحرقت أهل الجمع.
قال الأصوليون: معنى جيء بجهنم برزت وأظهرت فإن جهنم لا تنتقل من مكان إلى مكان. قوله وَأَنَّى لَهُ أي ومن أين له منفعة الذِّكْرى ثم فسر التذكر وإنما قدرنا المضاف احترازا من التنافي وإلا فلا وجه للإستفهام الإنكاري بعد إثبات التذكر بأنه يقول يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ خيرا أو عملا صالحا لِحَياتِي هذه وهي الحياة الأخيرة، أو اللام بمعنى الوقت أي وقت حياتي في الدنيا. وقد يرجح هذا الوجه لأن أهل النار لا حياة لهم في الحقيقة كما قال لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الأعلى: ١٣] ويمكن أن يجاب بأن الحياة المضاهية للموت أو التي هي أشدّ من الموت حياة أيضا، وبأن حياة الآخرة يراد بها البقاء المستمر الدائم وهذا المعنى شامل لأهل النار ولأهل الجنة جميعا. قالت المعتزلة: في هذا التمني دليل واضح على أن الاختيار كان زمامه بيده، ويحتمل أن يجاب بأن استحالة متمناه قد تكون من جهة أن الأمر في الدنيا لم يكن إليه فيتحسر على ذلك. وقال في التفسير الكبير: فيه دليل على أن قبول التوبة لا يجب عقلا. ويرد عليه أنه لا يلزم من عدم قبولها في الآخرة عدم قبولها في دار التكليف كإيمان اليأس. من قرأ لا يُعَذِّبُ وَلا يُوثِقُ على البناء للفاعل فمعناه على ما قال مقاتل: لا يعذب عذاب الله أي عذابه أحد من الخلق. ضعف بأن يوم القيامة لا يعذب أحد سوى الله فلا يتصور لهذا النفي فائدة. وأجيب بأن المراد لا يتولى يوم القيامة عذاب الله أحد لأن الأمر يومئذ لله وحده، أو لا يعذب أحد في الدنيا ولا يوثق مثل عذاب الله الكافر ومثل إيثاقه إياه في الشدّة والإيلام. وقال أبو علي الفارسي: تقديره لا يعذب أحد من الزبانية أحدا مثل عذاب هذا الإنسان وهو أمية بن خلف، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه لتناهيه في كفره وفساده. ومن قرأ بناء الفعل للمفعول فيهما فظاهر. والضمير في عَذابَهُ ووَثاقَهُ للإنسان. ويمكن أن يراد لا يحمل عذاب الإنسان أحد كقوله وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ١٦٤] قال الواحدي: وهذا أولى الأقوال. ثم ذكر بشارة الأبرار وهو أن يقول للمؤمن بذاته أو على لسان ملك يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ أي بذكر الله أو بتحصيل الأخلاق الفاضلة والعقائد الصحيحة التي تسكن النفس السليمة إليها ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ إلى حيث لا مالك سواه أو إلى ثوابه راضِيَةً بما حكم عليك وقدر لك مَرْضِيَّةً عند الله