ﰡ
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة «الأعلى».
عدد آياتها: إحدى وعشرون آية.
عدد كلماتها: إحدى وسبعون كلمة.
عدد حروفها: ثلاثمائة وعشرة أحرف
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «الشمس» بهذا العذاب الذي أوقعه الله سبحانه بثمود، فغشيهم العذاب واشتمل عليهم، ولفّهم برداء أسود كئيب..
وبدئت سورة «الليل» بالقسم بالليل إذا يغشى، فكان ظلام هذا الليل كفنا آخر لثمود، يصحبهم فى قبورهم التي ابتلعنهم، ويقيم عليهم راية سوداء تحوّم عليهم، كما تحوّم الغربان على الجيف!! بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (١- ٢١) [سورة الليل (٩٢) : الآيات ١ الى ٢١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤)فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤)
لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩)
إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١)
قوله تعالى:
«وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى» قسم بالليل حين يغشى ظلامه الكائنات، ويغطّى سواده وجه الأرض..
وبدء السورة بهذا القسم- كما قلنا- هو أشبه براية سوداء تحوّم على مواطن ثمود، التي دمدم الله عليها، كما تحوم الغربان على الرمم.. ثم إنه من جهة أخرى، يمثل الجانب الأعظم من جانبى الإنسانية، جانبى الكفر والإيمان، والضلال، والهدى، والظلام والنور.. فأغلب الناس على ضلال، وقليل منهم المهتدون، كما يقول سبحانه: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (١٠٣: يوسف) وفى التعبير بفعل المستقبل «يغشى» عن ظلام الليل- إشارة إلى أن الظلام عارض دخيل، يعرض للنور الذي هو أصل الوجود، كما يعرض الضلال للفطرة الإنسانية التي خلقها الله تعالى صافية لا شية فيها.
«وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى» معطوف على قوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى».. وهو قسم بالنهار إذا ظهر، وتجلّى على الوجود ضوءه..
وفى تقديم الليل على النهار، إشارة إلى هذا الظلام الذي كان منعقدا فى أفق الحياة الإنسانية حين كانت ثمود تتحرك بطغيانها على الأرض، فلما دمدم الله عليهم الأرض، ورمى فى أحشائها بهذا الظلام- عاد إلى الحياة صفاؤها، وطلع نهارها!! وقوله تعالى:
«وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» :
معطوف على قوله تعالى: «وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى» و «ما» هنا مصدرية.. أي وخلق الذكر والأنثى، وما أودع الخالق فى كلّ منهما من آيات علمه، وحكمته، ورحمته..
والذكر والأنثى، هو مطلق كل ذكر، وكل أنثى، فى عالم المخلوقات..
والذكر والأنثى تتم دورة الحياة وتعاقب الأجيال، كما بالليل والنهار يتولد الزمن، وبتكاثر نسله من الليالى والأيام! وقوله تعالى:
«إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى» هو جواب القسم، وهو المقسم عليه..
والسعى: العمل فى كل وجه من وجوه الحياة.. «وشتّى» أي شتيت مختلف الوجوه، متغاير الألوان.. فلكل إنسان وجهته التي هو مولّيها، وطريقه
ففى الناس المؤمن والكافر، وفى الناس المنافق الذي يجمع بين الكفر ولإيمان.. والمؤمنون، درجات، ومنازل، والكافرون، أنماط وصور، والمنافقون وجوه وأشكال..
واختلاف سعى الناس، أمر بدهىّ، يراه كل إنسان: المؤمنون والكافرون، والمحسنون والمسيئون جميعا.. فكل ذى عينين يشهد أن الناس طرائق قدد، وإلّا لاجتمعوا على عقيدة واحدة، ومذهب واحد، واتجاه واحد، فيما يأخذون أو يدعون من أمور.. هذه بديهة لا تحتاج إلى توكيد- فلم جاءت الآيات القرآنية مؤكدة لها بهذا القسم؟
والجواب على هذا، هو أن التوكيد بالقسم وإن وقع على المقسم عليه، وهو اختلاف سعى الناس- إلا أن المنظور إليه هو ما وراء هذا الاختلاف فى المسعى، وهو أن هناك محسنين ومسيئين.. وهذا أمر يدعو العاقل إلى أن ينظر إلى نفسه وأن يفتش عن مكانه فى المحسنين أو المسيئين، إذ كل إنسان عند نفسه أنه محسن، وحتى المحسن حقيقة، يقدر أن إحسانه مطلق لا تقع منه إساءة، وهذا غير واقع، فالمحسن ليس سعيه كله قائما على ميزان الإحسان، بل إن سعيه مختلف، فيه الحسن، وفيه السيّء، فلا ينبغى أن يسوّى حساب أعماله بينه وبين نفسه على ميزان الإحسان دائما.. بل يجب أن ينظر فى كل عمل، ويعرضه على ميزان الحق، والعدل، والخير، فإن اطمأن إليه، ورضى عنه، أمضاء، وإلا عدل عنه.
«فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى».
والناس فى عمومهم، يدخلون تحت وصفين عامّين: مؤمنون وكافرون، أو محسنون ومسيئون..
فأما من أعطى، أي أنفق فى سبيل الله، وفى وجوه الخير والإحسان، متّقيا بذلك ربّه، خائفا عذابه، طامعا فى ثوابه «وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى» أي مؤمنا بما للعمل الطيب من قدر، معتقدا أنه العمل الأفضل والأحسن، لا أن يكون ما يصدر منه من أعمال الخير تلقائيا، وعفوا، لا تشده إليه إرادة صادقة، أو قصد محسوب حسابه، مقدرة آثاره.. وهذا يعنى أن الأعمال إنما تحكمها النيات الباعثة لها، الداعية إليها.. أما العمل الذي لا تنعقد عليه نية، ولا ينطلق من إرادة، فإنه سهم طائش، ورمية من غير رام.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم بقوله:
«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرى ما نوى»..
وفى إطلاق الفعل «أعطى» من قيد الشيء المعطى- إشارة إلى أمرين:
أولهما: أن ما يعطى لا بد أن يكون شيئا طيبا نافعا لأن الإعطاء يقابله الأخذ، والإعطاء والأخذ لايتّمان إلا برغبة متبادلة بين المعطى والآخذ.. والآخذ لا يأخذ إلا ما ينفعه ويرضيه..
والأمر الآخر الذي يشير إليه إطلاق الفعل، هو أنه لا حدود للإعطاء، قلّة أو كثرة، كما يقول سبحانه: «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ».. (٩١: التوبة) وقوله تعالى: «فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى» أي أن من أخذ طريق الحق، وشدّ عزمه عليه، وصرف همه نحوه، يسّر الله له طريقه، وأعانه على المضي فيه، لأنه طريق الله، ومن كان على طريق الله، لم يحرم عونه، وتوفيقه..
«وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى».
وعلى عكس هذا من يبخل بماله، ويضنّ ببذله فى سبيل الله، وفى وجوه الخير، ومن وراء هذا البخل تكذيب بالإحسان، وبخس لقدره، واعتقاد بعدم جدواه- من يفعل هذا، فهو على طريق الضلال، يرصده عليه شيطان يغريه ويغويه، ويدفع به دفعا على هذا الطريق.. وهذا يعنى أن الله سبحانه وتعالى ييسّر لكل إنسان طريقه الذي يضع قدمه عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (٣٩: الأنعام) أي من يشأ الله إضلاله، أخلى بينه وبين نفسه، على طريق الضلال، وقيض له شيطانا، فهو له قرين، ورفيق، على هذا الطريق كما يقول سبحانه: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» (٣٦: الزخرف).. ومن يشأ الله هدايته أقام وجهه على طريق الهدى، وزوده بالزاد الطيب الذي يعينه على مواصلة السير فيه.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «اعملوا فكلّ ميسر لما خلق له..»
والعسرى: ضد اليسرى.. وهى من العسر، والتعقيد، بخلاف اليسرى فإنها من اليسر والسهولة.. وسميت طريق الضلال «عسرى» لأنها طريق مظلم، لا معلم من معالم الهدى فيه، وإن صاحبه ليظل يخبط فى ظلام، ويتردّى فى معاثر حتى يرد مورد الهالكين.. أما طريق الهدى، فهى طريق واضحة المعالم، لا يضل سالكها أبدا.. «أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (٢٢: الملك)
«وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى» أي أن الذي يخل بماله، وضمن بالإنفاق منه فى وجوه الخير، لن ينفعه هذا المال الذي أمسكه، ولن يجد منه عونا، إذا هو تردّى فى هاوية الجحيم!.
والتردي: الهوىّ والسقوط من عل.
وقوله تعالى:
«إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى» أي إن علينا أن نبين للإنسان طريق الهدى، ونكشف له عنه، بما أودعنا فيه من عقل، وما بعثنا إليه من رسل، وما أنزلنا من كتب.. فهذه كلها أنوار كاشفة تكشف للإنسان عن وجه الحق والخير، وعن وجوه الضلال والشر..
ثم إن للإنسان أن يختار الطريق الذي يسلكه..
فالهدى، غير الهداية.. ولهذا جاء النظم القرآنى: «إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى» ولو جاء هكذا: «إن علينا للهدآية» لكان على الله أن يهدى الناس جميعا، وأن يكون ذلك على سبيل القهر والإلزام، وهذا مالم يقع فى حكمة الله، ولم يكن من تدبيره سبحانه وتعالى.. بل جعل الله للإنسان كسبا يكسبه بإرادته، وعملا بعمله باختياره، حتى يحقق وجوده كإنسان، ويثبت ذاتيته كخليفة الله على الأرض.. وبهذا يستأهل الثواب والعقاب!، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها» (١٣: السجدة).. وهذا لا يتعارض مع مالله سبحانه من مشيئة مطلقة غالبة.. ولكنّ مشيئة الله تدور فى فلكها مشيئة الإنسان، التي بها يقضى فى أموره، ويأخذ الطريق الذي يختاره ويرضاه.
وقوله تعالى:
«وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى»..
للمفسرون مجمعون على أن الآخرة، هى الحياة الآخرة، وأن الأولى هى الحياة الدنيا..
والرأى عندنا- والله أعلم- أن الآخرة والأولى، هما اليسرى والعسرى، اللتان أشار إليهما سبحانه وتعالى فى الآيات السابقة.. وفى ذلك إشارة إلى أن اختيار الإنسان لليسرى أو العسرى، وإن بدا أنه اختيار مطلق، هو مقيد بمشيئة الله، محكوم بإرادته، إذ كلّ مردّه إلى الله، فى واقع الأمر، وكلّ صائر إلى حكمه، وما قضى به فى عباده: «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» (٢٩: التكوير).. ربّ العالمين «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (٣٩: الأنعام)..
وقوله تعالى:
«فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى»..
وهذا مما أشار إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى».. ومن هذا الهدى ما أنذر الله به عباده، على يد رسله، من عذاب أليم فى الآخرة، لمن رأى الضلال، وسلك مسالكه، ورأى الهدى، فحاد عنه، وصرف نفسه عن طريقه..
«وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى»..
والسلامة من هذا البلاء، والنجاة من ذلك العذاب، إنما هى لمن اتقى الله، وخاف عذابه، وأنفق المال طالبا زكاة نفسه، وتطهيرها، مبتغيا بذلك وجه ربه الأعلى، المالك كلّ شىء، القائم على كل شىء، لا يريد بما أنفق جزاء ولا شكورا من أحد من عباد الله.. فمن فعل ذلك ابتغاء وجه الله، أرضاه لله وأقرّ عينه بما عمل.. إنه أرضى ربه، فكان حقّا على الله أن يرضيه..
وفى لفظ «الأشقى» و «الأتقى» ما يفيد المبالغة فى كل من الشّقوة والتقوى، وفى هذا ما يدعو الشقي إلى التخفف مما يزيد فى شقوته، حتى لا يزداد بذلك عذابه، كما يدعو التقىّ أن يزداد فى تقواه ما استطاع، حتى يزداد بذلك بعدا من النار، وقربا من الجنة..