تفسير سورة الفاتحة

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ
قوله جل ذكره:
[سورة الفاتحة (١) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)
الباء فى «بسم الله» حرف التضمين أي بالله ظهرت الحادثات، وبه وجدت المخلوقات، فما من حادث مخلوق، وحاصل منسوق، من عين وأثر وغبر، وغير من حجر ومدر، ونجم وشجر، ورسم وطلل، وحكم وعلل- إلا بالحق وجوده، والحق ملكه، ومن الحق بدؤه، وإلى الحق عوده، فبه وجد من وحّد، وبه جحد من ألحد «١»، وبه عرف من اعترف، وبه تخلّف من اقترف.
وقال «بسم الله» ولم يقل بالله على وجه التبرك بذكر اسمه عند قوم، وللفرق بين هذا وبين القسم عند الآخرين، ولأن الاسم هو المسمى عند العلماء، ولاستصفاء القلوب من العلائق ولاستخلاص الأسرار عن العوائق عند أهل العرفان، ليكون ورود قوله «الله» على قلب منقّى وسر مصفّى. وقوم عند ذكر هذه الآية يتذكرون من الباء (بره) «٢» بأوليائه ومن السين سره مع أصفيائه ومن الميم منته على أهل ولايته، فيعلمون أنهم ببره عرفوا سرّه، وبمنته عليهم حفظوا أمره، وبه سبحانه وتعالى عرفوا قدره. وقوم عند سماع بسم الله تذكروا بالباء براءة الله سبحانه وتعالى من كل سوء، وبالسين «٣» سلامته سبحانه عن كل عيب، وبالميم مجده سبحانه بعز وصفه، وآخرون يذكرون عند الباء بهاءه، وعند السين سناءه، وعند الميم ملكه، فلما أعاد الله سبحانه وتعالى هذه الآية أعنى بسم الله الرحمن الرحيم فى كل سورة وثبت أنها منها أردنا أن نذكر فى كل سورة من إشارات هذه الآية «٤» كلمات غير مكررة «٥»، وإشارات غير معادة، فلذلك نستقصى القول هاهنا وبه الثقة.
(١) وردت فى ص (اللحد).
(٢) سقطت فى ص وأثبتناها لأن ما بعدها يدل عليها. [.....]
(٣) وردت فى ص (بالسنين).
(٤) من هنا ندرك أن القشيري يعتبر البسملة قرآنا خلافا لمن يعدونها من قبيل الاستفتاح والتبرك، فتبدأ بها القراءة كما يفعل فى سائر الأفعال (أنظر المغني للقاضى عبد الجبار ج ١١ ط وزارة الثقافة سلسلة تراثنا ص ١٦١).
(٥) من هنا ومما نعلم من مذهب القشيري نراه لا يعتقد فى فكرة التكرار فى القرآن لأن التكرار أليق بالمخلوقين ولأسباب أخرى لا محل لها هنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الفاتحة (١) : آية ٢]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢)
حقيقة الحمد الثناء على المحمود، بذكر نعوته الجليلة وأفعاله الجميلة، واللام هاهنا للجنس، ومقتضاها الاستغراق فجميع المحامد لله سبحانه إمّا وصفا وإمّا خلقا، فله الحمد لظهور سلطانه، وله الشكر لوفور إحسانه. والحمد لله لاستحقاقه لجلاله وجماله، والشكر لله لجزيل نواله وعزيز أفضاله، فحمده سبحانه له هو من صفات كماله وحوله، وحمد الخلق له على إنعامه وطوله، وجلاله وجماله استحقاقه لصفات العلو، واستيجابه لنعوت العز والسمو، فله الوجود (قدرة) «١» القديم، وله الجود الكريم، وله الثبوت الأحدى، والكون الصمدى، والبقاء الأزلى، والبهاء الأبدى، والثناء الديمومى، وله السمع والبصر، والقضاء والقدر، والكلام والقول، والعزة والطول، والرحمة والجود، والعين والوجه والجمال، والقدرة والجلال، وهو الواحد المتعال، كبرياؤه رداؤه، وعلاؤه سناؤه، ومجده عزه، وكونه ذاته، وأزله أبده، وقدمه سرمده، وحقه يقينه، وثبوته عينه، ودوامه بقاؤه، وقدره قضاؤه، وجلاله جماله، ونهيه أمره، وغضبه رحمته، وإرادته مشيئته، وهو الملك بجبروته، والأحد فى ملكوته. تبارك الله سبحانه!! فسبحانه ما أعظم شأنه! [فصل] علم الحق سبحانه وتعالى شدة إرادة أوليائه بحمده وثنائه، وعجزهم عن القيام بحق مدحه على مقتضى عزه وسنائه فأخبرهم أنه حمد نفسه بما افتتح به خطابه بقوله: «الحمد لله» فانتعشوا بعد الذّلة، وعاشوا بعد الخمود، واستقلت أسرارهم بكمال التعزز حيث سمعوا ثناء الحق عن الحق بخطاب الحق، فنطقوا ببيان الرمز على قضية الأشكال. وقالوا:
ولوجهها من وجهها قمر ولعينها من عينها كحل
هذا خطيب الأولين والآخرين، سيد الفصحاء، وإمام البلغاء، لمّا سمع حمده لنفسه، ومدحه سبحانه لحقّه، علم النبي أن تقاصر اللسان أليق به فى هذه الحالة فقال: «لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».
داوود لو سمعت أذناه قالتها لما ترنّم بالألحان داوود
غنت سعاد بصوتها فتخاذلت ألحان داوود من الخجل
(١) هذه كلمة زائدة يمكن الاستغناء عنها، ويرجح ذلك نظم الأسلوب وسياق المعنى، أو ربما كانت (قدمه).
45
[فصل] وتتفاوت طبقات الحامدين لتباينهم فى أحوالهم فطائفة حمدوه على ما نالوا من إنعامه وإكرامه من نوعى صفة نفعه ودفعه، وإزاحته وإتاحته، وما عقلوا عنه من إحسانه بهم أكثره ما عرفوا من أفضاله معهم قال جل ذكره: «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها»، وطائفة حمدوه على ما لاح لقلوبهم من عجائب لطائفه، وأودع سرائرهم من مكنونات بره، وكاشف أسرارهم به من خفى غيبه، وأفرد أرواحهم به من بواده مواجده. وقوم حمدوه عند شهود ما كاشفهم به من صفات القدم، ولم يردوا من ملاحظة العز والكرم إلى تصفح أقسام النعم، وتأمل خصائص القسم، و (فرق بين) «١» من يمدحه بعز جلاله وبين من يشكره على وجود أفضاله، كما قال قائلهم:
وما الفقر عن أرض العشيرة ساقنا... ولكننا جئنا بلقياك نسعد
وقوم حمدوه مستهلكين عنهم فيما استنطقوا من عبارات تحميده، بما اصطلم أسرارهم من حقائق توحيده، فهم به منه يعبّرون، ومنه إليه يشيرون، يجرى عليهم أحكام التصريف، وظواهرهم «٢» بنعت التفرقة مرعية، وأسرارهم مأخوذة بحكم جمع «٣» الجمع، كما قالوا:
بيان بيان الحق أنت بيانه... وكل معانى الغيب أنت لسانه
قوله جل ذكره: رَبِّ الْعالَمِينَ الرب هو السيد، والعالمون جميع المخلوقات، واختصاص هذا الجمع بلفظ العالمين لاشتماله على العقلاء والجمادات فهو مالك الأعيان ومنشيها، وموجد الرسوم والديار بما فيها.
ويدل اسم الرب أيضا على تربية الخلق، فهو مرب نفوس العابدين بالتأييد ومرب قلوب الطالبين بالتسديد، ومرب أرواح العارفين بالتوحيد، وهو مرب الأشباح بوجود النّعم، ومرب الأرواح بشهود الكرم.
ويدل اسم الرب أيضا على إصلاحه لأمور عباده من ربيت العديم أربه فهو مصلح أمور الزاهدين بجميل رعايته، ومصلح أمور العابدين بحسن كفايته، ومصلح أمور الواجدين
(١) وردت (وفر... ) ثم بعدها بياض فأكملناها على هذا النحو ليتم المعنى.
(٢) وردت (وظاهرهم) ولكن السياق يقتضى ما أثبتناه.
(٣) وردت (جميع الجمع) ولكن الاصطلاح الصوفي هو جمع الجمع وهو درجة فوق الجمع وجمع الجمع هو الاستهلاك بالكلية وفناء الإحساس بما سوى الله (رسالة القشيري ط سنة ١٩٥٩ ص ٣٩).
46
بقديم عنايته، أصلح أمور قوم فاستغنوا بعطائه، وأصلح أمور آخرين فاشتاقوا للقائه، وثالث أصلح أمورهم فاستقاموا للقائه، قال قائلهم:
مادام عزّك مسعودا طوالعه فلا أبالى أعاش الناس أم فقدوا
قوله جلّ ذكره:
[سورة الفاتحة (١) : آية ٣]
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣)
اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمة صفة أزلية وهى إرادة النعمة وهما اسمان موضوعان للمبالغة ولا فضل بينهما عند أهل التحقيق.
وقيل الرحمن أشد مبالغة وأتم فى الإفادة، وغير الحق سبحانه لا يسمى بالرحمن على الإطلاق، والرحيم ينعت به غيره، وبرحمته عرف العبد أنه الرحمن، ولولا رحمته لما عرف أحد أنه الرحمن، وإذا كانت الرحمة إرادة النعمة، أو نفس النعمة كما هى (عند قوم فالنعم فى أنفسها مختلفة، ومراتبها متفاوتة فنعمة هى) «١» نعمة الأشباح والظواهر، ونعمة هى نعمة الأرواح والأسرار.
وعلى طريقة من فرّق بينهما فالرحمن خاص الاسم عام المعنى، والرحيم عام الاسم خاص المعنى فلأنه الرحمن رزق الجميع ما فيه راحة ظواهرهم، ولأنه الرحيم وفق المؤمنين لما به حياة سرائرهم، فالرحمن بما روّح، والرحيم بما لوّح فالترويح بالمبارّ، والتلويح بالأنوار:
والرحمن بكشف تجلّيه والرحيم بلطف تولّيه، والرحمن بما أولى من الإيمان والرحيم بما أسدى «٢» من العرفان، والرحمن بما أعطى من العرفان والرحيم بما تولّى من الغفران، بل الرحمن بما ينعم به من الغفران والرحيم بما يمنّ به من الرضوان، بل الرحمن بما يكتم به والرحيم بما ينعم به من الرؤية والعيان، بل الرحمن بما يوفق، والرحيم بما تحقق، والتوفيق للمعاملات، والتحقيق للمواصلات، فالمعاملات للقاصدين، والمواصلات للواجدين، والرحمن بما يصنع لهم والرحيم بما يدفع عنهم فالصنع بجميل الرعاية والدفع بحسن العناية.
قوله جل ذكره:
[سورة الفاتحة (١) : آية ٤]
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)
المالك من له الملك، وملك الحق سبحانه وتعالى قدرته على الإبداع، فالملك مبالغة من المالك وهو سبحانه الملك المالك، وله الملك. وكما لا إله إلا هو فلا قادر على الإبداع إلا هو، فهو بإلهيته متوحد، وبملكه متفرد، ملك نفوس العابدين فصرفها فى خدمته، وملك قلوب العارفين فشرّفها بمعرفته، وملك نفوس القاصدين
(١) تكملة فى الهامش استدرك بها الناسخ فأثبتناها فى موضعها.
(٢) وردت (أسرى) والأصح (أسدى).
فتيّمها، وملك قلوب الواجدين فهيّمها. ملك أشباح من عبده فلاطفها بنواله وأفضاله، وملك أرواح من أحبهم (....) «١» فكاشفها بنعت جلاله، ووصف جماله. ملك زمام أرباب التوحيد فصرفهم حيث شاء على ما شاء ووفّقهم حيث شاء على ما شاء كما شاء، ولم يكلهم إليهم لحظة، ولا ملّكهم من أمرهم سنّة ولا خطرة، وكان لهم عنهم، وأفناؤهم له منهم «٢».
[فصل] ملك قلوب العابدين إحسانه فطمعوا فى عطائه، وملك قلوب الموحدين سلطانه فقنعوا ببقائه. عرّف أرباب التوحيد أنه مالكهم فسقط عنهم اختيارهم، علموا أن العبد لا ملك له، ومن لا ملك له لا حكم له، ومن لا حكم له لا اختيار له، فلا لهم عن طاعته إعراض ولا على حكمه اعتراض، ولا فى اختياره معارضة، ولا لمخالفته تعرّض، «ويوم الدين».
يوم الجزاء والنشر، ويوم الحساب والحشر- الحق سبحانه وتعالى يجزى كلّا بما يريد، فمن بين مقبول يوم الحشر بفضله سبحانه وتعالى لا بفعلهم، ومن بين مردود بحكمه سبحانه وتعالى لا بجرمهم. فأمّا الأعداء فيحاسبهم ثم يعذبهم وأمّا الأولياء فيعاتبهم ثم يقربهم:
قوم إذا ظفروا بنا... جادوا بعتق رقابنا
قوله جل ذكره:
[سورة الفاتحة (١) : آية ٥]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
معناه نعبدك ونستعين بك. والابتداء بذكر المعبود أتمّ من الابتداء بذكر صفته- التي هى عبادته واستعانته، وهذه الصيغة أجزل فى اللفظ، وأعذب فى السمع. والعبادة الإتيان بغاية ما فى (بابها) «٣» من الخضوع، ويكون ذلك بموافقة الأمر، والوقوف حيثما وقف الشرع.
والاستعانة طلب الإعانة من الحق.
والعبادة تشير إلى بذل الجهد والمنّة، والاستعانة تخبر عن استجلاب الطول والمنّة، فبالعبادة يظهر شرف العبد، وبالاستعانة يحصل اللطف للعبد. فى العبادة وجود شرفه، وبالاستعانة أمان تلفه. والعبادة ظاهرها تذلل، وحقيقتها تعزّز وتحمّل:
وإذا تذللت الرقاب تقربا... منّا إليك، فعزّها فى ذلّها
(١) مشتبهة فى ص، وربما كانت (وأحبوه).
(٢) (له) هنا معناها لأجله اى أنه أفناهم من أنفسهم لأجله ليبقوا به، وكان الأسلم أن تكون العبارة:
وأفناؤهم منهم له ولكن حرص المصنّف على مراعاة الانسجام بين عنهم ومنهم.
(٣) وردت (بابه)
وفى معناه:
حين أسلمتني لذال ولام... ألقيتنى فى عين وزاى «١»
[فصل] العبادة نزهة القاصدين «٢»، ومستروح المريدين، ومربع الأنس للمحبين، ومرتع البهجة للعارفين. بها قرّة أعينهم، وفيها مسرة قلوبهم، ومنها راحة أرواحهم. وإليه «٣» أشار صلّى الله عليه وسلّم بقوله: أرحنا بها يا بلال». ولقد قال مخلوق فى مخلوق:
يا قوم ثارى عند أسمائى... يعرفه السامع والرائي
لا تدعنى إلا بيا عبدها... فإنه أصدق أسمائى
والاستعانة إجلالك لنعوت كرمه، ونزلك بساحة جوده، وتسليمك إلى يد حكمه، فتقصده بأمل فسيح، وتخطو إليه بخطو وسيع، وتأمل فيه برجاء قوى «٤»، وتثق بكرم أزلى، وتتكل على اختيار سابق، وتعتصم بسبب جوده (غير ضعف) «٥».
قوله جل ذكره:
[سورة الفاتحة (١) : آية ٦]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)
الهداية الإرشاد، وأصلها الإمالة، والمهدىّ من عرف الحق سبحانه، وآثر رضاه، وآمن به. والأمر فى هذه الآية مضمر فمعنا اهدنا بنا «٦» - والمؤمنون على الهداية فى الحال- فمعنى السؤال الاستدامة والاستزادة. والصراط المستقيم الطريق الحق وهو ما عليه أهل التوحيد. ومعنى اهدنا أي مل بنا إليك، وخذنا لك، وكن علينا دليلنا، ويسّر إليك سبيلنا، وأقم لنا هممنا، واجمع بك همومنا.
[فصل] اقطع أسرارنا عن شهود الأغيار، ولوّح فى قلوبنا طوالع الأنوار، وأفرد
(١) وردت و (زار)
(٢) وردت (القاصرين) [.....]
(٣) أي وإلى ذلك أشار
(٤) وردت (قومى) وهى غير مناسبة للمعنى.
(٥) إما أن تكون زائدة أو ينقصها حرف الجر في فتكون (فى غير ضعف) أو تكون (غير ضعف) (أساس البلاغة ص ٥٦٣) أي غير متكثر بالأسباب لجلب المال.
(٦) ويكون المعنى على هذا أقم فينا ما يجعلنا نهتدى به إليك، ولكن نرجح أن يكون قد وقع خطأ من الناسخ وأن الأصل (اهدنا بك) لأن ذلك يتفق مع مذهب القشيري وغيره من الصوفية حيث يعتبرون كل شىء يقع من العبد مرده إلى الحق سبحانه، فلا قدرة للعبد- وحده- على معرفة الله، ولا على الاهتداء إليه، وتدل الدلائل فيما بعد على ذلك مثل قوله (فنجدك بك). واما أن يكون الأصل (اهد بنا) أي- كما جاء فيما بعد- مل بنا.
49
قصودنا إليك عن دنس الآثار، ورقّنا عن منازل الطلب والاستدلال إلى جمع ساحات القرب والوصال.
[فصل] حل بيننا وبين مساكنة «١» الأمثال والأشكال، بما تلاطفنا به من وجود الوصال، وتكاشفنا به من شهود الجلال والجمال.
[فصل] أرشدنا إلى الحق لئلا نتكل على وسائط المعاملات، ويقع على وجه التوحيد غبار الظنون وحسبان الإعلال.
«اهدنا الصراط المستقيم» أي: أزل عنّا ظلمات أحوالنا لنستضىء «٢» بأنوار قدسك عن التفيؤ بظلال طلبنا، وارفع عنا ظل جهدنا لنستبصر بنجوم جودك، فنجدك بك.
[فصل] اهدنا الصراط المستقيم حتى لا يصحبنا قرين من نزغات الشيطان ووساوسه، ورفيق من خطرات النفوس وهواجسها، أو يصدنا عن الوصول تعريج فى أوطان التقليد، أو يحول بيننا وبين الاستبصار ركون لى معتاد من التلقين، وتستهوينا آفة من نشو أو هوادة، وظن أو عادة، وكلل أو ضعف إرادة، وطمع مال أو استزادة.
[فصل] الصراط المستقيم ما عليه من الكتاب والسنة دليل، وليس للبدعة عليه سلطان ولا إليه سبيل. الصراط المستقيم ما شهدت بصحته دلائل التوحيد، ونبهت عليه شواهد التحقيق. الصراط المستقيم ما درج عليه سلف الأمة، ونطقت بصوابه دلائل العبرة.
الصراط المستقيم ما باين الحظوظ سالكه، وفارق «٣» الحقوق قاصده. الصراط المستقيم ما يفضى بسالكه إلى ساحة التوحيد، ويشهد صاحبه أثر العناية والجود، لئلا يظنّه موجب (ببذل) «٤» المجهود.
(١) وردت (ساكنة) والأصح بالميم فقد جاءت كذلك فى مواضع كثيرة أخرى.
(٢) وردت خطأ (لنصتضىء).
(٣) وردت (وفارن) فى ص، والأصح أن تكون بالقاف فالحظوط للعبد والحقوق للحق.
(٤) وردت (بذل) بدون باء والأقوى فى رأينا أن تكون بالباء وأن نقرأ موجب بفتح الجيم أي مستحق، وبذلك يتضح موقف القشيري من قضية هامة وهى هل يجب على الله أن يثيب المطيع؟ ولا يرى القشيري هذا الوجوب لأنه يربط كل عمل للعبد بالعناية الإلهية لا بالمجهود الإنسانى. وقد صدق الرسول (ص) حين قال: «ما منكم من أحد ينجيه عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدنى الله برحمته».
50
قوله جل ذكره:
[سورة الفاتحة (١) : آية ٧]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)
يعنى طريق من أنعمت عليهم بالهداية إلى الصراط المستقيم، وهم الأولياء والأصفياء.
ويقال طريق من (أفنيتهم) «١» عنهم، وأقمتهم بك لك، حتى لم يقفوا فى الطريق، ولم تصدهم عنك خفايا المكر. ويقال صراط من أنعمت عليهم بالقيام بحقوقك دون التعريج على استجلاب حظوظهم.
ويقال صراط من (طهرتهم) «٢» عن آثارهم حتى وصلوا إليك بك.
ويقال صراط من أنعمت عليهم حتى تحرروا من مكائد الشيطان، ومغاليط «٣» النفوس ومخاييل الظنون، وحسبانات الوصول قبل خمود آثار البشر (ية).
ويقال صراط من أنعمت عليهم بالنظر والاستعانة بك، والتبري من الحول والقوة، وشهود ما سبق لهم من السعادة فى سابق الاختيار، والعلم بتوحيدك فيما تمضيه من المسار والمضار.
ويقال صراط الذين أنعمت عليهم بحفظ الأدب فى أوقات الخدمة، واستشعار نعت الهيبة.
ويقال صراط الذين أنعمت عليهم بأن حفظت عليهم آداب الشريعة وأحكامها عند غلبات (بواده) «٤» الحقائق حتى لم يخرجوا عن حد العلم، ولم يخلّوا بشىء من أحكام الشريعة.
ويقال صراط الذين أنعمت عليهم حتى لم تطفئ شموس معارفهم أنوار ورعهم ولم يضيّعوا شيئا من أحكام الشرع «٥».
ويقال صراط الذين أنعمت عليهم بالعبودية عند ظهور سلطان الحقيقة.
قوله جلّ ذكره: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
(١) وردت (أقنتهم) فى ص.
(٢) وردت (ظهرتهم) فى ص.
(٣) وردت (مغاليظ) فى ص.
(٤) وردت (بواد).
(٥) نلاحظ أن القشيري يلح كثيرا على التزام آداب الشريعة مهما غلبت على العبد سطوة الانمحاء، واستلبه سلطان الفناء، ويحسن هنا أن نشير إلى اصطلاح فى مذهب القشيري وهو الفرق الثاني وهى حالة عزيزة يرد عندها العبد إلى الصحو لكى يؤدى ما يجب عليه من الفرائض فى أوقاتها، ويكون رجوعه لله بالله (انظر الرسالة القشيرية ص ٣٩).
51
المغضوب عليهم الذين صدمتهم هواجم الخذلان «١»، وأدركتهم مصائب الحرمان، وركبتهم سطوة الرد، وغلبتهم بواده الصد والطرد.
ويقال هم الذين لحقهم ذل الهوان، وأصابهم «٢» سوء الخسران، فشغلوا فى الحال باجتلاب الحظوظ- وهو فى التحقيق (شقاء) إذ يحسبون أنهم على شىء، وللحق فى شقائهم سر.
ويقال هم الذين أنسوا بنفحات التقريب زمانا ثم أظهر الحق سبحانه فى بابهم شانا بدّلوا بالوصول بعادا، وطمعوا فى القرب فلم يجدوا مرادا، أولئك الذين ضلّ سعيهم، وخاب ظنهم.
ويقال غير المغضوب عليهم بنسيان التوفيق، والتعامي عن رؤية التأييد. ولا الضالين عن شهود سابق الاختيار، وجريان التصاريف والأقدار.
ويقال غير المغضوب عليهم بتضييعهم آداب الخدمة، وتقصيرهم فى أداء شروط الطاعة.
ويقال غير المغضوب عليهم هم الذين تقطعوا فى مفاوز الغيبة، وتفرّقت بهم الهموم في أودية وجوه الحسبان.
[فصل] ويقول العبد عند قراءة هذه السورة آمين، والتأمين سنّة، ومعناه يا رب افعل واستجب، وكأنه يستدعى بهذه القالة التوفيق للأعمال، والتحقيق للآمال، وتحط رجله بساحات الافتقار، ويناجى حضرة الكرم بلسان الابتهال، ويتوسل (بتبريه) «٣» عن الحول والطاقة والمنّة والاستطاعة إلى حضرة الجود. وإن أقوى وسيلة للفقير تعلقه بدوام الاستعانة لتحققه بصدق الاستغاثة.
السورة التي تذكر فيها البقرة
قوله تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الاسم مشتق من السمو والسّمة، فسبيل من يذكر هذا الاسم أن يتسم بظاهره بأنواع المجاهدات، ويسمو بهمته إلى محالّ المشاهدات. فمن عدم سمة المعاملات على ظاهرة، وفقد
(١) يقول القشيري في الرسالة (ومنهم من تغيرهم البواده وتصرفه الهواجم، ومنهم من يكون فوق ما يفجؤه حالا ووقتا.. أولئك هم سادات الوقت) ص ٤٤. [.....]
(٢) وردت (أحبابهم).
(٣) وردت (ببريته) والصواب (بتبريه).
52
Icon