هذه السورة مكية وآياتها سبع وثلاثون. وهي كغيرها من السور المنزلة في مكة لتدعو الناس إلى التحرر من إسار الوثنية وباطل الشرك، فيوقنوا أن الله وحده الخالق المعبود وأن ما دونه من الأنداد ضلال وعمه وباطل.
وفي السورة تركيز على سوق الأدلة والحجج من الطبيعة والحياة مما يجده المشركون ويعاينونه ليستيقنوا بأن الله حق وأنه الخالق الموجد.
ويبين الله في السورة شطرا من قصة بني إسرائيل، إذ آتاهم الله التوراة والنبوة وفضلهم على العالمين في زمانهم.
وفي السورة تنديد من الله بمن اتبع هواه في كل أموره فلم يعبأ بما يقتضيه دين الله وشرعه، بل يزيغ عن منهج الله وهداه جريا وراء الشهوات وسفاسف الحياة الدنيا وزينتها، فهو بذلك إنما يعبد هواه. وذلك هو قوله :﴿ أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه ﴾ إلى غير ذلك من الأخبار والدلائل والعبر.
ﰡ
﴿ حم ١ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ٢ إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين ٣ وفي خلقكم وما يبث من دآبة آيات لقوم يوقنون ٤ واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون ﴾.
﴿ حم ﴾ حروف من حروف التهجي المقطعة في فواتح السور، التي يعلم الله حقيقة ما يراد بها.
يبين الله للناس أن ما أنزل إليهم من ربهم لهو الحق، وأن ما يدعو الناس من دونه هو الباطل. فأنى لهم بعد ذلك أن يكذبوا ويعرضوا ؟ وهو قوله سبحانه :﴿ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ﴾ يعني هذه آيات القرآن التي تحمل للناس الدلائل والحجج بما تضمنته من جليل الأخبار والمعاني، وروعة النظم والأسلوب والمباني ﴿ نتلوها عليك بالحق ﴾ أي بالصدق الذي ليس فيه باطل، والسداد الذي لا زيغ فيه.
قوله :﴿ فبأيّ حديث بعد الله وآياته يؤمنون ﴾ يعني إن كان الناس لا يصدقون أو يوقنون بهذه الآيات والدلائل والحجج فبأي كلام بعد ذلك يصدقون أو يوقنون ؟ وإن كانوا غير موقنين بآيات القرآن المعجز المنزل من عند الله الخالق الحكيم، فبأي حديث أو نظم أو كلام بعد ذلك يصدقون ؟ لا جرم أن القرآن لهو أكرم وأكمل ما عهده الكون كله من ظواهر. إن القرآن حدث رباني هائل جعله الله للعالمين هداية ونورا، فإذا لم تهتد به البشرية، فبأي شيء بعد ذلك تؤمن أو تهتدي.
قوله :﴿ أولئك لهم عذاب مهين ﴾ أولئك المجرمون العتاة صائرون إلى شديد الذل والهوان والخزي.
.
يبين الله نعمته على عباده ليتذكروا ويعتبروا ويبادروا بعبادته وشكره، فهو سبحانه قد ذلل لعباده البحر بما ذرأه في الماء من مزية خاصة يحمل بمقتضاها الأجسام الثقال على ظهره. ذلكم هو البحر تسير على متنه السفائن المحملة بالبضائع والحاجات والراكبين من الناس والدواب فتمخر بهم في البحر بأمر الله وتقديره من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم بغية اكتساب المعايش والأرزاق وغير ذلك من حاجات السفر ﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ أي لكي تشكروا الله على تذليل البحر لكم فتسير على ظهره السفن الجواري فتبادروا بالطاعة والعبادة لله وحده دون غيره من الأنداد.
قوله :﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ يعني فيما سخره الله لكم مما بيّنه في هاتين الآيتين من مختلف الخلائق والأشياء والأجرام، لهي دلالات وعلامات تكشف عن عظيم قدرة الله وأنه هو الخالق الصانع الحكيم دون غيره من الأرباب والأنداد.
وفي هذه الآية يأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للمؤمنين الذين صدقوه واتبعوا ما أنزل إليه من ربه، ليغفروا للذين لا يؤمنون بالآخرة ولا يخشون بأس ربهم وانتقامه إذا هم نالوهم بالأذى والمكروه، أي ليصفحوا عنهم ويحتملوا منهم الأذى ويصبروا على إساءاتهم. وكان هذا في ابتداء الإسلام إذ كان المسلمون مأمورين بالصبر على الشدائد والمكاره من المشركين وأهل الكتاب حتى أذن الله لهم بالجهاد فجاهدوا، وبذلك فإن حكم هذه الآية منسوخ بآيات القتال.
قوله :﴿ ليجزي قوما بما كانوا يكسبون ﴾ الجملة لتعليل الأمر بالمغفرة. والمراد بالقوم، المؤمنون، فقد أمرهم الله أن يغفروا للمشركين فيصفحوا عن إساءاتهم لهم ليجزيهم الله بما كسبوا في الدنيا من صالح الأعمال، وذلك كصبرهم على أذى الكافرين واحتمال إساءاتهم، وشرورهم.
يبين الله ما منّ به على بني إسرائيل من جزيل العطايا والنعم وابتعاث النبيين الكثيرين منهم. فقال سبحانه :﴿ ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ﴾ آتاهم الله الكتاب، وهو التوراة، لتكون هداية للناس ونورا. وآتاهم الحكم أي العلم والفقه ليحكموا بين الناس في خصوماتهم. وقيل : المراد أنهم أوتوا القضاء والحكم على الناس ﴿ والنبوة ﴾ أي جعل منهم أنبياء ورسلا إلى الناس فقد كان النبيون من زمن يوسف عليه السلام إلى عيسى عليه السلام من بني إسرائيل. قوله :﴿ ورزقناهم من الطيبات ﴾ آتاهم الله من الطيبات والخيرات ما لم يؤت غيرهم من الأمم وذلك كالمن والسلوى وغير ذلك من صنوف الثمرات والأقوات والأطعمة.
قوله :﴿ وفضلناهم على العالمين ﴾ أي فضلهم الله على عالمي زمانهم وذلك بكثرة ما أوتوه من النعم والتنجية من كيد فرعون وزبانيته وجنوده، فقد فلق الله لهم البحر ليمضوا فيه ساربين آمنين مطمئنين. ثم أخذ الله الظالمين بالتغريق والإهلاك والاستئصال، حتى إذا خرج بنو إسرائيل إلى البر سالمين أظلهم الله بالغمام في الصحراء وقاية لهم من لظى الشمس بحرارتها البالغة. ثم سخر الله لهم طعام المنّ، إذ يجدونه ظاهرا مكشوفا بين أيديهم وكذلك السلوى وهي أسراب كاثرة دانية من طير السماني يهبط نحوهم ليأكلوه في سهولة وبركة وهناء. وذلكم الذي فضل الله به بني إسرائيل في دنياهم على غيرهم من الناس. ولن يغنيهم مثل هذا التفضيل وأضعافه في أمور دنيوية ومعاشية عما جنوه في حق النبيين من تقتيل وتكذيب وما فعلوه في حق المسلمين من كيد وتربص وتمالؤ وتحريض.
وما أجدر المسلمين في كل زمان أن يحذروا المضلين من أهل الضلال والغواية الذين يريدون للمسلمين أن يزيغوا عن دينهم ويستعيضوا عن منهج الله بشرائع الضلال والكفر على اختلاف صورها ومسمياتها.
ما أجدر المسلمين أن يحرصوا على التمسك بشريعة الإسلام فيعضّوا عليها بالنواجذ، ويأخذوا بكل ما فيها من الأحكام والأوامر لكي يرضى الله عنهم وليكتب لهم الهداية والتوفيق والغلبة والسعادة في الدنيا والآخرة.
قوله :﴿ وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ﴾ الظالمون الكفرة بعضهم أنصار بعض، وهم فيما بينهم أعوان متحدون وأنصار متحابون، يظاهر بعضهم بعضا على الإسلام والمسلمين ليقضوا عليهم أو يضعفوهم ويستذلوهم ﴿ والله ولي المتقين ﴾ يراد بالمتقين، المؤمنون الذين يجتنبون الشرك والمعاصي، فالله ولي هؤلاء أي نصيرهم ومؤيدهم وغير خاذلهم.
.
﴿ أم ﴾ هي المنقطعة بمعنى بل، والهمزة لإنكار الحسبان. و ﴿ اجترحوا ﴾ بمعنى اكتسبوا، من الاجتراح وهو الاكتساب ١.
والمعنى : أم يظن هؤلاء المشركون الذين كذبوا نبيهم، واتخذوا من دون الله اندادا، واكتسبوا الآثام والمعاصي في هذه الدنيا – أن نجعلهم في الآخرة كالمؤمنين المتقين. أو أن نسوّي بين الظالمين الفجار، والمتقين الأبرار فيكونوا في الآخرة سواء.
قوله :﴿ سوآء محياهم ومماتهم ﴾ ﴿ سوآء ﴾ بالنصب، على الحال من ضمير ﴿ نجعلهم ﴾ أي نجعلهم سواء. و ﴿ محياهم ومماتهم ﴾ مرفوع على الفاعلية، وتقرأ ( سواء ) بالرفع، على أنها خبر مقدم، و ﴿ محياهم ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿ ومماتهم ﴾ معطوف عليه٢.
وقد نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، وفي ثلاثة من المشركين هم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة قالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء، ولو كان ما تقولون حقا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أننا أفضل حالا منكم في الدنيا. فأنكر الله عليهم هذا الكلام وبين أنه لا يستوي حال المؤمن المطيع وحال المشرك العاصي عند الله في الآخرة. فالمشركون فاسقون ضالون، ظالمون لأنفسهم، فهم صائرون إلى النار، أما المؤمنون فهم مصدقون بالنبيين، موقنون بيوم القيامة، مذعنون لله بالطاعة والامتثال، فإنما يجزون الجنة ورضوان ربهم. واختلفوا في المراد بقوله :﴿ محياهم ومماتهم ﴾ فقال ابن عباس : يعني أحسبوا أن حياتهم ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم، كلا فإنهم يعيشون كافرين، ويموتون كافرين. والمؤمنون يعيشون مؤمنين، ويموتون مؤمنين، ذلك لأن المؤمن ما دام في الدنيا فإنه يكون وليه هو الله، وأنصاره المؤمنون. أما الكافر فهو خلاف ذلك. وعند الدنوّ من الموت فحال المؤمن كما ذكره الله ﴿ الذين تتوافهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة ﴾ أما حال الكافر فهو ما ذكره الله في قوله :﴿ الذين تتوافهم الملائكة ظالمي أنفسهم ﴾ أما في الآخرة فقال الله في التمييز بين الصنفين ﴿ وجوه يومئذ مسفرة ٣٨ ضاحكة مستبشرة ٣٩ ووجوه يومئذ عليها غبرة ٤٠ ترهقها قترة ﴾ وذلك يشير إلى التفاوت بين المؤمنين السعداء، والظالمين الأشقياء. وقيل : المراد إنكار التسوية بين الفريقين في الممات كما استووا في الحياة، وذلك لأن المؤمن والكافر قد يستوي محياهم في الصحة والرزق والكفاية بل ربما يكون الكافر أرجح حالا من المؤمن، وإنما يظهر الفرق بينهما في الممات.
قوله :﴿ سآء ما يحكمون ﴾ إن جعلت ﴿ ما ﴾، معرفة فهي في موضع رفع، فاعل ﴿ سآء ﴾ وإن جعلت نكرة كانت في موضع نصب على التمييز٣ وذلك إنكار من الله لهذه التسوية المزعومة، أي بئس الحكم الذي ظنوا أنا نجعل الذين اكتسبوا السيئات والمؤمنين الذين عملوا الصالحات، سواء محياهم ومماتهم، أو ساء حكمهم الذي حكموا به. فأنّى للفريقين المتضادين المختلفين أن يستويا.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٣٦٥..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٣٦٥..
وبذلك فإن الهوى إحساس عميق يستشري في صميم الكينونة البشرية، ويترسخ في صميم الجهاز النفسي لدى الإنسان. وأيما إنسان فإنه يهوى، أي يعشق ويحب ويتمنى العديد من الأماني على اختلافها. وإذا ما تمنى الإنسان لنفسه فعل الخيرات والطاعات كان هواه طيبا صالحا. وإذا تمنى فعل الموبقات والمعاصي مما تستطيبه وتتلذذ به نفسه الجانحة الضالة كان هواه مغويا مرديا، بل إن هواه حينئذ شيطان غويّ مضل مبين.
وللعلماء في المراد بهذه الآية أقوال، فقد قال ابن عباس : المراد به الكافر قد اتخذ دينه ما يهواه فلا يهوى شيئا إلا ركبه. وقال سعيد بن جبير : كان أحدهم يعبد الحجر فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر. وقال ابن عباس أيضا : ما ذكر الهوى في القرآن إلا ذمه. واختار ابن جرير أن المعنى هو : أفرأيت يا محمد من اتخذ معبوده هواه فيعبد ما هوى من شيء دون إله الحق الذي له الألوهة من كل شيء.
وجملة ذلك : أن الهوى يستميل الإنسان ليجنح للشهوات وما تعشقه نفسه من المفاسد والشرور والآثام وغير ذلك من المحظورات والأباطيل. والإنسان في غالب أمره جانح للهوى، سارب خلف ما تشتهيه النفس ويميل إليه الطبع. ولا يستثنى من ذلك إلا من رحم الله فهداه، وخوّله التوفيق والسداد والاستقامة ومجانبة الهوى المردي.
وليت شعري هل تفيض الحياة الدنيا بالمعضلات والبلايا والأرزاء النفسية والاجتماعية والشخصية والسياسية والاقتصادية إلا بضلال الإنسان وظلمه لأخيه الإنسان بغية الشهوات الضالة العمياء. أو ليس سبب ذلك كله اتباع الهوى أو عبادته من دون الله، فإن اتباع الهوى بغير حق، والإفراط في طاعته والانقياد خلفه من غير قيد ولا تورع ولا ضوابط، لهو صورة من صور العبادة لغير الله. ولا جرم أن ذلك ضلال وغواية وتجاوز يفضي إلى الشقاء والتعس في الدنيا حيث الظلم والطمع والبطر والطغيان والجور والهموم والمكابدة. وكذلك في الآخرة، إذ يصير الظالم الخاسر، الذي اتخذ إلهه هواه إلى جهنم.
إن ما تتجرعه البشرية في هذا الزمان وكل زمان من كؤوس المرارة والشقاء والهوان، كان سببه عبادة الإنسان لهواه، وجنوحه للشهوات، والمنافع الذاتية. وهي منافع في إسفافها وخساستها دائمة التغير والتبدل تبعا لاختلاف الأهواء وتبدلها. فما كان هذا الإنسان الضال بذلك إلا عابدا لهواه أو متخذا إلهه هواه.
وقد ندد النبي صلى الله عليه وسلم باتباع الهوى، لأنه يودي بصاحبه إلى الخسران والهاوية. قال عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " وقال أبو أمامة : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى " وقال صلى الله عليه وسلم : " ثلاث مهلكات وثلاث منجّيات. فالمهلكات : شحّ مطاع وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه. والمنجيات : خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب ".
قوله :﴿ وأضله الله على علم ﴾ أي خذله الله عن المحجة البيضاء وعن سبيل الحق المستقيم في سابق علمه. إذ يعلم الله أنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية ﴿ وختم على سمعه وقلبه ﴾ أي طبع الله على سمعه فلا يسمع المواعظ أو العبر ولا يتفكر أو يتدبر. وكذلك طبع على قلبه فلا يعي به حقا أو يقينا ﴿ وجعل على بصره غشاوة ﴾ فلا يرى الآيات والدلائل على وحدانية الخالق، وعلى أنه الصانع الموجد الحكيم.
قوله :﴿ أفلا تذكّرون ﴾ أفلا تتدبرون وتتعظون فتعلموا أن من خذله الله بالختم على سمعه وقلبه وبما جعل على بصره من الغشاوة فليس من أحد بعد الله يهديه٢.
٢ تفسير الرازي جـ ٢٧ ص ٢٦٧، ٢٦٨ وتفسير الطبري جـ ٢٥ ص ٩٠، ٩١ وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٤ ص ١٦٨٣ وتفسير القرطبي جـ ١٦ ص ١٦٦- ١٦٩..
يخبر الله عن مقالة المشركين الذين يكذبون بيوم القيامة، إذ كانوا يقولون :﴿ ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ﴾ يعني ليس من حياة غير حياتنا الدنيا هذه التي نحن فيها، فإنه لا حياة أخرى سواها، فهم بذلك يكذبون بيوم البعث والحساب. وقالوا أيضا :﴿ نموت ونحيا ﴾ أي نموت نحن ويحيا أبناؤنا، فهم بحياة أبنائهم أحياء.
قوله :﴿ وما يهلكنا إلا الدهر ﴾ أي ما يفنينا أو يميتنا إلا مرّ الأيام والليالي، ، فهم بذلك يكذبون بالبعث ويجحدون يوم الحساب. قوله :﴿ وما لهم بذلك من علم ﴾ أي ليس لهؤلاء المشركين المكذبين فيما يقولونه من علم أو دليل وإنما يقولون ما يقولون تخريصا وظنا ما لهم به من حجة ولا برهان ﴿ إن هم إلا يظنون ﴾ أي ينكرون البعث بعد الممات ظنا وارتيابا، فهم بذلك حائرون مترددون.
الله الذي يملك السماوت والأرض وما فيهن من مختلف الخلائق والعجائب والأجرام، فهو سبحانه مالك كل شيء، ولا يملك الذين يعبدون من دونه من الآلهة والأنداد أيما شيء، بل الله وحده صاحب الملكوت والجبروت لا ينازعه في شيء من ذلك أحد من خلقه.
قوله :﴿ ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون ﴾ ﴿ يوم ﴾، الأول منصوب بالفعل ﴿ يخسر ﴾ و ﴿ يومئذ ﴾ للتأكيد١ والمعنى : إذا قامت الساعة وجمع الله الأولين والآخرين ليلاقوا الحساب، حينئذ يخسر الظالمون وهم أهل الباطل الذين جحدوا وارتابوا وكذبوا بالساعة، لا جرم أنهم هم المفرطون الأخسرون.
قوله :﴿ كل أمة تدعى إلى كتابها ﴾ ﴿ كل ﴾ تقرأ بالرفع على أنها مبتدأ وخبره ﴿ تدعى ﴾ وتقرأ بالنصب على البدل من ﴿ كل ﴾ الأولى. ﴿ تدعى ﴾، في موضع نصب على الحال٢. يعني : كل أهل ملة أو دين يدعون إلى كتاب الحفظة ليقرأوه. وقال الجاحظ : تدعى كل أمة إلى كتاب نبيها فينظر هل عملوا به أم لا. وقيل : تدعى أمة قبل أمة، وقوم قبل قوم، ورجل قبل رجل. وذكر من حديث طويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :" يمثل لكل أمة يوم القيامة ما كنت تعبد من حجر أو وثن أو خشبة أو دابة ثم يقال : من كان يعبد شيئا فليتبعه، فتكون، أو تجعل تلك الأوثان قادة إلى النار حتى تقذفهم فيها ".
قوله :﴿ اليوم تجزون ما كنتم تعملون ﴾ يقال لكل أمة من الأمم عقب ندائها إلى كتاب أعمالها : اليوم تعطون جزاء أعمالكم التي عملتموها في الدنيا، فتجزون الإحسان بالإحسان، والإساءة بالإساءة. أو تثابون الخير بالخير، والشر بالشر. فلا ظلم يومئذ ولا بخس ولا جور.
٢ البيان الابن الأنباري جـ ٢ ص ٣٦٦..
قوله :﴿ إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ﴾ ﴿ نستنسخ ﴾ من النسخ وهو النقل والكتابة ٢ والمعنى : كنا نستكتب الحفظة أعمال العباد فتثبتها في الكتب. أو أن الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم.
٢ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٩١٧..
يبين الله في ذلك حال المشركين من الشك والارتياب في الساعة وهم في ذلك غير موقنين، فهم بذلك صائرون إلى النار بسبب تكذيبهم وعدم يقينهم من هذه الحقيقة الساطعة الكبرى وهي الساعة. فقال سبحانه :﴿ وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها ﴾ الساعة تقرأ بالرفع على أنها مبتدأ. وتقرأ بالنصب على العطف على اسم إنّ ١.
والمعنى : إذا قيل لهؤلاء المشركين المكذبين بالبعث والمعاد : إن وعد الله بإحياء الموتى وبعثهم من قبورهم أحياء وعد حق، والساعة آتية لا شك فيها، والناس مجموعون ليوم الحساب، فكان جوابهم أن قالوا :﴿ ما ندري ما الساعة ﴾ أي لا نعرف الساعة ولا ندري أحق هي أم باطل، فهم بذلك مرتابون متحيرون. وقالوا أيضا :﴿ إن نظن إلا ظنا ﴾ أي نظن قيام الساعة إلا ظنا لا يؤدي إلى العلم واليقين ﴿ وما نحن بمستيقنين ﴾ أي لسنا على يقين أن الساعة جائية أو أنها تكون.
قوله :﴿ فاليوم لا يخرجون منها ﴾ أي لا يخرجون من النار بل هم ماكثون في العذاب لا يبرحون ﴿ ولاهم يستعتبون ﴾ أي لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم، أي يرضوه ولا هم يردون إلى الدنيا ليتوبوا.