تفسير سورة الجاثية

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

مصدر القرآن وإثبات الخالق ووحدانيته
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦)
الإعراب:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ تَنْزِيلُ: مبتدأ، وخبره مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ...
آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (آيات) بالضم: مرفوع بالابتداء، وَفِي خَلْقِكُمْ: خبره، أو بالعطف على موضع إن واسمها وخبرها، أو مرفوع بالظرف. ومن قرأ بالكسر: جعله منصوبا بالعطف على لفظ اسم إِنَّ، أو بالعطف بالجر على السَّماواتِ أو منصوب على البدل من آياتٌ الأولى. وكذا قوله وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يقرأ بالكسر وبالضم بالأوجه السابقة.
نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ متعلق ب «نتلو» ونَتْلُوها: حال، عاملها معنى الإشارة.
البلاغة:
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ فيها تأكيد ب إِنَّ واللام للرد على المخاطبين منكري وحدانية اللَّه.
وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ أي مطر، مجاز مرسل علاقته المسببية، لأن المطر النازل من السماء هو سبب الرزق والنبات، أما الرزق فلا ينزل من السماء.
249
المفردات اللغوية:
حم هذه الحروف للتنبيه على إعجاز القرآن وعلى أهمية ما يتلى بعدها تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ أي تنزيل القرآن من اللَّه تعالى الْعَزِيزِ القوي الغالب في ملكه الْحَكِيمِ في صنعه، لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة للعباد.
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي إن في خلق السموات والأرض، بدليل قوله وَفِي خَلْقِكُمْ لَآياتٍ لدلائل دالة على قدرة اللَّه ووحدانيته تعالى لِلْمُؤْمِنِينَ لأنهم الذين ينتفعون بهذه الدلائل وَفِي خَلْقِكُمْ أي في خلق كل واحد منكم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة إلى أن يصبح إنسانا وَما يَبُثُّ أي وخلق ما ينشر ويفرق في الأرض مِنْ دابَّةٍ هي ما يدب على الأرض من الناس وغيرهم يُوقِنُونَ يصدقون عن يقين وإذعان بقدرة اللَّه على البعث وغيره.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي وفي تعاقبهما مِنْ رِزْقٍ مطر يكون سبب الرزق تَصْرِيفِ الرِّياحِ تقليبها وتحويلها جنوبا وشمالا، حارة وباردة يَعْقِلُونَ يفكرون ويتدبرون الدليل، فيؤمنون تِلْكَ الآيات المذكورة آياتُ اللَّهِ حججه ودلائله الدالة على وحدانيته نَتْلُوها نقصها بِالْحَقِّ أي متلازمة ملتبسة بالحق الواضح الذي لا غموض فيه ولا التباس فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ أي بعد حديث اللَّه وهو القرآن، وتقديم اسم اللَّه للمبالغة والتعظيم، كقول اللَّه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر ٣٩/ ٢٣] وَآياتِهِ حججه يُؤْمِنُونَ يصدقون، وهم كفار مكة، وقرئ «تؤمنون».
قال الصاوي على الجلالين: ذكر اللَّه سبحانه وتعالى من الدلائل ستة في ثلاث آيات، ختم الأولى ب لِلْمُؤْمِنِينَ والثانية ب يُوقِنُونَ والثالثة ب يَعْقِلُونَ ووجه التغاير بينها في التعبير: أن الإنسان إذا تأمل في السموات والأرض، وأنه لا بد لهما من صانع آمن، وإذا نظر في خلق نفسه ونحوها ازداد إيمانا فأيقن، وإذا نظر في سائر الحوادث كمل عقله واستحكم علمه. وهذا مأخوذ من كلام الزمخشري «١».
وقال البيضاوي: لعل اختلاف الفواصل الثلاث لاختلاف الآيات في الدقة والظهور.
التفسير والبيان:
حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ حم: تقدم شرحها
(١) الكشاف: ٣/ ١١٢
250
إن هذا القرآن منزل من عند اللَّه القوي الغالب الذي لا يقهر، الحكيم في كل شيء بتدبيره ووضعه في المكان المناسب له، وتحقيقه المصلحة لعباده. ويقتضي إثبات هاتين الصفتين للَّه عز وجل: كونه قادرا على جميع الممكنات، عالما بجميع المعلومات، غنيا عن كل الحاجات، فلا يصدر منه العبث والباطل.
ثم ذكر اللَّه تعالى ما تقتضيه العزة والحكمة، فقال:
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ أي إن في خلق السموات وخلق الأرض لدلائل قاطعة على وجوده ووحدانيته وقدرته العظيمة، وهذا دليل من الكون، ثم ذكر تعالى دليلا من الأنفس، فقال:
وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي وإن في خلقكم دون وجود سابق، ومروركم في أطوار مختلفة من الخلق، من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، إلى أن يصير الواحد منكم إنسانا كامل الذات والصفات البشرية، وفي خلق ما يفرق وينشر من دابة في نواحي الأرض المختلفة، وأقاليمها المتفاوتة حرارة وبرودة واعتدالا، وأراضيها الرطبة والجافة، وأنواع حيواناتها الإنسية والوحشية، البرية والبحرية والجوية، آيات ودلائل أخرى شديدة الوضوح، تدل على قدرة الصانع العظيم وحكمته، التي يعتبر بها أهل اليقين، الذين آمنوا ثم قبلوا الحق، ثم ازدادوا إيمانا وأذعنوا ورسخ الإيمان في قلوبهم كالجبال الثوابت، فأيقنوا يقينا تاما لا يخالطه أي شك.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ، آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي وإن في اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما، وتفاوتهما في الطول والقصر، والحرارة والبرودة، والضياء والظلمة، وفيما أنزل اللَّه من السحاب من مطر يكون سببا لرزق العباد وإحياء الأرض بإخراج النبات، وفي تقليب الرياح وتغييرها من
251
جهة إلى جهة، ومن حال إلى حال، مرة من الجنوب ومرة من الشمال، وتارة تكون حارّة، وتارة تكون باردة، وأحيانا نافعة، وأحيانا ضارة، كل ذلك أيضا لأدلة عظيمة وحجج باهرة دالة على وجود اللَّه ووحدانيته وقدرته، التي ينتفع بها عادة أهل العقول الراجحة، المتأملون بها، الفاهمون لحقائقها، ولا ينتفع بها أهل الجهل والعناد.
وهكذا يترقى المتأملون في تلك الآيات من إثبات أصل الإيمان في قلوبهم، إلى اليقين، إلى اكتمال العقل والنظر، وهو ترقّ من حال إلى ما هو أعلى منها، وهذه سمة المؤمنين الكمّل الذين استخدموا طاقاتهم الفكرية والنظرية للوصول إلى أسمى الغايات وأمثل الحالات.
وهذه الآيات شبيهة بقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ، وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة ٢/ ١٦٤].
ثم أوجز اللَّه تعالى العبرة من تلك الآيات بقوله:
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ أي هذه الآيات المذكورة هي حجج اللَّه وبراهينه وبيناته نتلوها عليك أيها النبي متضمنة الحق المبين، ونحن محقون صادقون فيما ننزله عليك من القرآن المتلو، ليستفيد منها البشر قاطبة، فإذا كانوا لا يؤمنون بها، ولا ينقادون لها، فبأي حديث أو كلام بعد حديث اللَّه وكلامه وآياته وهو القرآن يؤمنون ويصدقون؟! وعبّر ب تِلْكَ إشارة إلى علو مرتبة الآيات.
والخلاصة: من لم يؤمن بكلام اللَّه فلن يؤمن بحديث بعده.
252
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- كون مصدر القرآن الكريم هو اللَّه عز وجل، وليس له أي مصدر آخر سواه.
٢- إثبات وجود اللَّه تعالى ووحدانيته وقدرته بأدلة ستة في ثلاث آيات:
الدليل الأول من الكون- خلق السموات والأرض فهو يدل على وجود الإله- كما ذكر الرازي من ستة وجوه «١» :
أولا- أنها أجسام حادثة، وكل حادث له محدث.
ثانيا- أنها مركبة من أجزاء متماثلة في مواضع متفاوتة عمقا وسطحا، مما يدل على أن وقوع كل جزء في موضعه لا بد له من مرجح ومخصص.
ثالثا- أن الأفلاك والعناصر مع تماثلها في ماهيتها الجسمية اختص كل واحد منها بصفة معينة كالحرارة والبرودة، واللطافة والكثافة الفلكية والعنصرية، وذلك لا بد له من مرجح.
رابعا- أن أجرام الكواكب مختلفة في الألوان مثل كمودة زحل، وبياض المشتري، وحمرة المريخ، والضوء الباهر للشمس، ودرية الزهرة، وصفرة عطارد، ونور القمر ومحوه، واختلافها في تلك الصفات دليل على أن الإله القادر المختار هو الذي خصص كل واحد منها بصفته المعينة.
خامسا- أن كل فلك مختص بحركة إلى جهة معينة، ومختص بمقدار واحد من السرعة والبطء، وذلك دليل على مخصص فاعل مختار وهو اللَّه وحده.
(١) تفسير الرازي: ٢٧/ ٢٥٧- ٢٥٨
253
سادسا- أن كل فلك مختص بمهمة معينة، فلا بد من مخصص فاعل مختار.
الدليل الثاني والثالث من الأنفس- وهما خلق الإنسان والدواب بتركيب عضوي عجيب، وخواص وطاقات مادية ومعنوية مذهلة، يدلنا ذلك على أن هناك خالقا مبدعا لتلك الأنفس وهو اللَّه تعالى.
الدليل الرابع والخامس والسادس من الظواهر الكونية- وهي تعاقب الليل والنهار بنحو دائم وتفاوتهما، وإنزال الأمطار والثلوج لإحياء الأرض بالنبات وتغذية الينابيع والأنهار، وتقليب الرياح وتغييرها، كل ذلك دليل واضح على وجود اللَّه القادر القاهر، الحكيم الصنع، البديع الخلق والإتقان.
٣- هذه آيات اللَّه، أي حججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وقدرته، أنزلها اللَّه في قرآنه بيانا متلوا إلى يوم القيامة، مشتملا على الحق الذي لا ريب فيه، والصدق الذي لا باطل ولا كذب فيه، فإذا لم يؤمن الناس بها، ولم يصدقوا بالقرآن وآياته البينات، فلن يجدوا سواها طريقا للإيمان وتصحيح العقيدة.
ولقد قال اللَّه تعالى في هذه الآيات عبارات ثلاثا أولها يُؤْمِنُونَ وثانيها يُوقِنُونَ وثالثها يَعْقِلُونَ والمقصود بها كما قال الرازي: إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم من المؤمنين بل أنتم من طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين، فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين، فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل.
أو أن الآيات النفسية تحتاج إلى الإيقان، لقربها من الإنسان، وأما الآيات الخارجية الفلكية فيكفي فيها التصديق لبعدها عن الإنسان، وأما العلوية فتحتاج إلى النظر والاستدلال.
254
وهذا دليل قاطع على أن القرآن اشتمل على أصول العقيدة والإيمان ودلائل التوحيد والنبوة والبعث والقيامة، كما اشتمل في مواضع أخرى على الأحكام الفقهية الجزئية في العبادات، والمعاملات، وأحكام الأسرة، والدولة، والأخلاق، والاجتماع، والسياسة، والحكم، وغير ذلك.
وعيد المكذبين بآيات اللَّه وجزاؤهم
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٧ الى ١١]
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١)
الإعراب:
لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ أَلِيمٌ بالرفع: صفة عَذابٌ ويقرأ بالجر: صفة رِجْزٍ.
البلاغة:
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ من صيغ المبالغة على وزن فعّال وفعيل.
فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أسلوب تهكمي، لأن استعمال البشارة التي تكون عادة بالخير في الشر تهكم.
يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها تشبيه مرسل، أي كأنه لم يسمع آيات القرآن.
هذا هُدىً وصف القرآن بالمصدر الذي هو هدى للمبالغة، كأنه لوضوح حجته عين الهدى.
255
المفردات اللغوية:
وَيْلٌ كلمة عذاب أَفَّاكٍ كذاب، أي كثير الكذب والإفك أَثِيمٍ كثير الإثم والمعصية آياتِ اللَّهِ القرآن ثُمَّ يُصِرُّ على كفره، والإصرار على الشيء: ملازمته مُسْتَكْبِراً متكبرا متعاظما عن الإيمان بالآيات، وثُمَّ لاستبعاد الإصرار بعد سماع الآيات.
كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي كأنه لم يسمعها، فخففت وحذف ضمير الشأن، والجملة في موقع الحال، أي يصرّ مثل غير السامع فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ على إصراره، والبشارة للتهكم مِنْ آياتِنا القرآن اتَّخَذَها هُزُواً أي مهزوءا بها أُولئِكَ أي الأفاكون لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ذو إهانة، أي عذاب مخز مذل.
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ أي أمامهم وقدامهم، لأنهم متوجهون إليها، أو من خلفهم، لأنه بعد آجالهم وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ لا يدفع عنهم ما كَسَبُوا من المال والأولاد والفعال شَيْئاً من عذاب اللَّه وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام أَوْلِياءَ نصراء وأعوان وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لا يتحملونه.
هذا هُدىً أي هذا القرآن هاد من الضلالة لَهُمْ عَذابٌ لهم حظ من العذاب مِنْ رِجْزٍ الرجز: أشد العذاب أَلِيمٌ موجع.
سبب النزول: نزول الآية (٨) :
يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ: نزلت في النضر بن الحارث الذي كان يشتري أحاديث الأعاجم، ويشغل بها الناس عن استماع القرآن. والآية عامة في كل من صد عن الدين وتكبر عن هديه.
المناسبة:
بعد بيان الآيات للكفار، وبيان أنهم إن لم يؤمنوا بها مع ظهورها، فلا يؤمنوا بعدها بشيء، أتبعه تعالى بوعيد عظيم بالعذاب الشديد لكل من كذب بتلك الآيات، ثم أصر على كفره بها، ثم ذكر أن جزاءهم جهنم، دون أن تنفعهم أصنامهم شيئا، وأن القرآن العظيم هو الهدى فقط من الضلالة.
256
التفسير والبيان:
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أي الهلاك وأشد العذاب لكل كذاب بآيات اللَّه، كثير الإثم والمعاصي، ولهذا الأفاك حالتان:
الأولى- الإصرار والاستكبار: يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي إن هذا الأفاك إذا سمع آيات القرآن تتلى على مسامعه، وفيها الدلالة الواضحة على وحدانية اللَّه وقدرته، ووعده ووعيده، بقي مصرا على كفره، وأقام على ما كان عليه إقامة بقوة وشدة، ولم يتعظ بما يسمع من كلام اللَّه، وتكبر وتعاظم عن الإيمان بالآيات، معجبا بنفسه، وكأنه لم يسمعها، مشبها حاله بحال غير السامع في عدم الالتفات إليها، فأخبره بأن له عند اللَّه عذابا شديد الإيلام، جزاء إصراره واستكباره وعدم استماعه إلى الآيات.
والتعبير عن هذا الخبر المحزن بالبشرى تهكم شديد واحتقار لهم.
ونظير الآية: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام ٦/ ١].
الحال الثانية- الاستهزاء بالآيات: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي وإذا علم هذا الأفاك من آيات اللَّه شيئا، اتخذ ذلك الشيء هزوا، أي موضوعا للسخرية والتندر مما حوته من المعاني، أولئك الأفاكون الذين سبقت صفاتهم لهم عذاب موصوف بالإهانة والذل والخزي بسبب إصرارهم واستكبارهم عن سماع آيات اللَّه واتخاذها موضوع استهزاء واستهانة بالقرآن. والعذاب المهين: هو المشتمل على الإذلال والفضيحة.
روي- كما تقدم- أن أبا جهل حين سمع قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ دعا بتمر وزبد وقال لأصحابه: تزقموا من هذا، ما يعدكم محمد إلا
257
شهدا- عسلا- وحين سمع قوله تعالى عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ أي على النار قال:
إن كانوا تسعة عشر، فأنا ألقاهم وحدي.
ثم وصف تعالى كيفية ذلك العذاب المهين، فقال:
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ، وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً، وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أي إن أمام أولئك الأفاكين جهنم يوم القيامة، لأنهم متوجهون إليها مثل قوله تعالى: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ، وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ [إبراهيم ١٤/ ١٦] أي من أمامه، أو إن وراء تعززهم بالدنيا وتكبرهم عن الحق جهنم، فإنها خلفهم وستدركهم، ولا يدفع شيئا من العذاب عنهم ما كسبوا في الدنيا من الأولاد والأموال: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [آل عمران ٣/ ١٠، ١١٦]، ولا ينفعهم أي نفع، ولا تنفعهم أيضا الأصنام التي اتخذوها آلهة يعبدونها من دون اللَّه، يرجون منها النفع، ودفع الضرر، ولهم عذاب عظيم دائم مؤلم في جهنم التي هي من ورائهم. وكل ما توارى عنك فهو وراء، تقدّم أو تأخر، كما ذكر في غرائب القرآن.
وسبب التفرقة بين قوله لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وقوله وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أن الوصف الأول يدل على حصول الإهانة مع العذاب، والوصف الثاني يدل على كونه بالغا أقصى المراتب في كونه ضررا.
ثم وصف اللَّه تعالى القرآن بقوله:
هذا هُدىً، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ، لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ أي هذا القرآن والآيات المتقدمة في هذه السورة هي هادية إلى الحق، ومرشدة إلى الصواب، وموجهة إلى النور من الظلمة والضلال، والذين كفروا بآيات اللَّه القرآنية لهم أشد العذاب يوم القيامة.
فقوله هذا هُدىً أي كامل في كونه هدى، والرجز: أشد العذاب
258
لقوله تعالى: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [البقرة ٢/ ٥٩] وقوله سبحانه: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ [الأعراف ٧/ ١٣٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- توعد اللَّه تعالى بوعيد شديد كل من ترك الاستدلال بآيات اللَّه بالرغم من وضوحها التام، ثم كفر بها وكذب بما جاءت به، وتمادى في كفره، متعظما في نفسه عن الانقياد لها، وجحد بها استكبارا وعنادا.
والآية عامة في مثل هؤلاء، وإن كان سبب نزولها الخاص هو النضر بن الحارث، أو الحارث بن كلدة، أو أبو جهل وأصحابه.
٢- يتضمن الوعيد أيضا حال كل من استهزأ بآيات اللَّه، وتحدى قدرة اللَّه، فوصف الزقوم بأنه الزبد والتمر، وقال في خزنة جهنم: إن كانوا تسعة عشر، فأنا ألقاهم وحدي.
٣- وصف اللَّه تعالى نوع عذاب هؤلاء (لأفاكين الكذابين الآثمين الكفرة المعاندين بأوصاف أربعة هي: فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ، مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ.
٤- احتاط اللَّه تعالى لحرمة كتابه القرآن، فلم يعرضه للاستهانة والاستهزاء به، ولهذا
روى مسلم في صحيحة عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: «نهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن يناله العدو».
٥- لن يغني ولن يفيد هؤلاء الكافرين في تخليصهم من ذلك العذاب كل
259
ما كسبوه في الدنيا من المال والولد، ولا الأصنام التي اتخذوها آلهة وعبدوها من دون اللَّه.
٦- القرآن الكريم هدى للبشرية من الضلالة، ثم أكد تعالى وعيده للذين جحدوا دلائله بأن لهم عذابا هو أشد العذاب.
والخلاصة: إن اللَّه تعالى جعل مؤيدات جزائية صارمة وشديدة لكل من كفر بالقرآن، ولم يتفكر بآيات اللَّه ودلائله الدالة على وجوده ووحدانيته وقدرته، وذلك إنذار دائم شديد التأثير لكل من حاد عن منهج القرآن وعقيدة الإسلام.
من نعم اللَّه تعالى على عباده:
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٢ الى ١٥]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥)
الإعراب:
مِنْهُ متعلق بحال، أي كائنة منه تعالى.
يَغْفِرُوا مجزوم، لأن تقديره: قل للذين آمنوا اغفروا يغفروا، وحقيقة جزمه بتقدير حرف شرط مقدر.
260
لِيَجْزِيَ قَوْماً أي ليجزي اللَّه، وهو فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وقَوْماً: مفعول به. وقرئ: «ليجزين» بفتح الياء وكسر الزاي، و «ليجزي» بضم الياء وفتح الزاي، و «لتجزي» بفتح التاء، ومن قرأ «ليجزي» بالبناء للمجهول، نصب قوما على تقدير: ليجزي الجزاء قوما، وهذا جائز على مذهب الأخفش والكوفيين، وغير جائز على مذهب البصريين، لأن المصدر لا يجوز إقامته مقام الفاعل مع مفعول صحيح. وقرئ: «لنجزي» بالنون على التعظيم.
البلاغة:
سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ.. إطناب لإظهار الامتنان.
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
سَخَّرَ هيأ وذلل الْفُلْكُ السفن بِأَمْرِهِ بإذنه وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لتطلبوا بالتجارة والغوص والصيد وغيرها وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النعم وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ من شمس وقمر ونجوم وماء وغيره وَما فِي الْأَرْضِ من دابة وشجر ونبات وأنهار وغيرها، والمراد:
خلق ذلك لمنافعكم جَمِيعاً تأكيد مِنْهُ حال، أي سخرها كائنة منه تعالى يَتَفَكَّرُونَ في صنائعه.
يَغْفِرُوا يعفوا ويصفحوا، وقد حذف المقول لدلالة الجواب عليه، والمعنى: قل لهم:
اغفروا للكفار أذاهم لكم يغفروا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لا يخافون وقائعه بأعدائه، يقال:
أيام العرب، أي وقائعهم لِيَجْزِيَ أي اللَّه قَوْماً هم المؤمنون بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من المغفرة للكفار أذاهم، أو الإساءة.
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أي لها ثواب العمل، وعليها عقابه، والمراد:
فلنفسه عمل، وعليها أساء ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ تصيرون، فيجازيكم على أعمالكم، يجازي المصلح والمسيء.
261
سبب النزول:
نزول الآية (١٤) :
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا: ذكر الواحدي النيسابوري والقشيري عن ابن عباس: أن الآية نزلت في عمر بن الخطاب وعبد اللَّه بن أبيّ وجماعتهما، وذلك أنهم نزلوا في غزاة بني المصطلق على بئر يقال لها: المريسيع، فأرسل عبد اللَّه غلامه ليستقي الماء، فأبطأ عليه، فلما أتاه قال: ما حبسك؟ قال:
غلام عمر قعد على قفّ- فم- البئر، فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي وقرب أبي بكر وملأ لمولاه، فقال عبد اللَّه: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل:
سمّن كلبك يأكلك، فبلغ عمر رضي اللَّه عنه، فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا...
وذكر الواحدي والثعالبي عن ابن عباس وميمون بن مهران سببا آخر قال: لما نزلت هذه الآية: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال يهودي بالمدينة يقال له: فنحاص بن عازوراء: احتاج رب محمد، فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه، فجاء جبريل عليه الإسلام إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إن ربك يقول: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ. فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في طلب عمر، فلما جاء قال: يا عمر ضع سيفك، قال: صدقت يا رسول اللَّه، أشهد أنك أرسلت بالحق، ثم تلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الآية، فقال عمر: لا جرم- حقا- والذي بعثك بالحق، ولا يرى الغضب في وجهي «١».
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ٢١٥، غرائب القرآن للحسن بن محمد النيسابوري: ٢٥/ ٧٦
262
المناسبة:
بعد إيراد أدلة وجود اللَّه ووحدانيته، أورد اللَّه تعالى بعض نعمه الدالة أيضا على قدرته وهي تسخير السفن في البحار لحمل التجارات والركاب، وتسخير ما في السموات والأرض، ثم أمر المؤمنين بالعفو عن الكفار، وأبان أن جزاء العمل الصالح والسيء يعود على نفس العامل خيرا أو شرا.
التفسير والبيان:
يذكر اللَّه تعالى نعمه على عباده وهي:
١- اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي إن اللَّه الذي ثبت لكم وجوده ووحدانيته بالأدلة السابقة هو الذي ذلل لكم البحر لجريان السفن فيه بإذنه، والاتجار بين الأقطار، والغوص للدرّ، وصيد الأسماك وغير ذلك، أي للمتاجر والمكاسب، ولتشكروا نعم اللَّه الحاصلة لكم بسبب هذا التسخير، ومنافعه المجلوبة لكم من البلاد النائية.
وتسخير البحر بثلاثة أشياء: هي أولا- الرياح المساعدة على مسيرة السفن في الماضي وثانيا- قدرة تحمل الماء لآلاف الاطنان بل أكثر من خمس مائة الف طن، وثالثا- وجعل الخشب طافيا على وجه الماء دون غوص فيه.
٢- وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي وذلل لكم أيضا جميع ما في السموات من كواكب وغيرها، وجميع ما في الأرض من جبال وبحار وأنهار ورياح وأمطار ومنافع أخرى فضلا منه ورحمة، إن في ذلك التسخير لدلائل واضحة على قدرة اللَّه وتوحيده، لقوم يتفكرون فيها ويستدلون بها على التوحيد.
وهذا كقوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ، فَإِلَيْهِ
263
تَجْئَرُونَ
[النحل ١٦/ ٥٣].
وبعد بيان أدلة التوحيد والقدرة الإلهية أمر اللَّه تعالى بمحاسن الأخلاق، فقال:
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ، لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي قل أيها النبي للمؤمنين المصدقين بالله ورسوله: اعفوا واصفحوا وتحملوا أذى هؤلاء المشركين الذين لا يخافون وقائع اللَّه وأنواع عذابه، ليجزي اللَّه أولئك المؤمنين بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي منها الصبر على أذى الكفار وكظم الغيظ واحتمال المكروه. وتنكير قَوْماً لتعظيم شأن المؤمنين المذكورين في قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا. وقوله: لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ معناه: لا يخشون مثل عذاب الأمم الخالية.
ثم أوضح اللَّه تعالى أن الإحسان والإساءة يعودان على المحسن والمسيء، فقال مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي من عمل الأعمال الصالحة التي أمر اللَّه بها وانتهى عما نهى عنه، فلنفسه عمل، ومن اقترف السيئات والمعاصي، فعلى نفسه جنى، ثم تعودون إلى اللَّه يوم القيامة، فتعرضون بأعمالكم عليه، فيجزيكم عليها خيرها وشرها.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- امتن اللَّه تعالى على عباده بما أنعم عليهم من تسخير البحر لجريان السفن فيه بإذنه ومشيئته، ولتحقيق المكاسب ومنافع المتاجر، والغوص على اللؤلؤ والمرجان، واصطياد الأسماك، لكي يشكروه على نعمه.
٢- وكذلك امتن اللَّه تعالى على العباد بتسخير جميع ما في السموات وما في
264
الأرض من شمس وقمر ونجوم وكواكب، وجبال وسهول وأنهار ومعادن وزروع وأشجار ونباتات وغيرها، ففي ذلك كله دلائل واضحة على توحيد اللَّه وقدرته.
٣- الأخلاق الحسنة تابعة للعقيدة الصالحة، لذا بعد أن علّم تعالى عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة، علمهم محاسن الأخلاق وفضائل الأفعال، فأمر بالعفو والصفح عن المشركين والمنافقين واليهود، ليكون ذلك سببا لجزاء المؤمنين على ما كسبوا في الدنيا من الأعمال الطيبة. والآية ليست منسوخة بناء على أنها نزلت بالمدينة، أو في غزوة بني المصطلق.
٤- إن ثواب العمل الصالح، وعقاب العمل السيء يرجع إلى صاحبه، فينفعه أو يضره في آخرته، وإن جميع الخلائق عائدون إلى ربهم للحساب والجزاء، فالعمل الصالح يعود بالنفع على فاعله، والعمل الرديء يعود بالضرر على فاعله، وأنه تعالى أمر بهذا، ونهى عن ذلك، لحظّ العبد، لا لنفع يرجع إليه.
وهذا ترغيب منه تعالى في العمل الصالح، وزجر عن العمل الباطل.
نعم الدين وإنزال الشرائع
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٦ الى ٢٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)
265
الإعراب:
هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ مبتدأ وخبر.
البلاغة:
فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ بين الفعلين الأول والثاني ما يسمى بطباق السلب.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ أي التوراة وَالْحُكْمَ أي والحكمة النظرية والعملية، أو الفهم والقضاء والفصل في الخصومات بين الناس، لأنهم كانوا ملوكا وحكاما وَالنُّبُوَّةَ النبوة لموسى وهارون وكثير من الأنبياء، إذ كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثر في غيرهم وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ المباحات اللذائذ كالمن والسلوى وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ عالمي زمانهم البشر، حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم.
بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ دلائل واضحات في أمر الدين، ومنها المعجزات فَمَا اخْتَلَفُوا في ذلك الأمر الديني إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ العلم بحقيقة الحال عداوة وحسدا إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ.. بالمؤاخذة والمجازاة.
ثُمَّ جَعَلْناكَ يا محمد عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ طريقة ومنهج من أمر الدين، وأصل الشريعة: مورد الماء، ثم أستعير للدين، لأن الناس يردون فيه ما تحيا به نفوسهم فَاتَّبِعْها اتبع شريعتك الثابتة بالحجج وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ آراء الجهال التابعة للشهوات.
لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ لن يدفعوا عنك مِنَ اللَّهِ من عذابه وَإِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين
266
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي إن جنس الظلم علة موالاة بعضهم بعضا، فلا توالهم باتباع أهوائهم وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ نصير المؤمنين هذا القرآن بَصائِرُ لِلنَّاسِ معالم للدين يتبصرون بها وجه الفلاح في الأحكام والحدود وَهُدىً من الضلال وَرَحْمَةٌ ونعمة من اللَّه لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يطلبون اليقين.
المناسبة:
بعد بيان بعض نعم اللَّه في الدنيا على الناس جميعا فهي نعم عامة، ذكر تعالى نعم الدين والدنيا على بني إسرائيل فهي نعم خاصة، وبما أن نعم الدين أفضل من نعم الدنيا، بدأ تعالى بتعداد نعمه الدينية عليهم، وأتبعها بالنعمة العظمى على الإنسانية وهي الشريعة الإسلامية التي لم يبق في الوجود دليل آخر سواها على صحة مصدريتها من اللَّه سبحانه، فكانت هي البصائر والهدى والرحمة.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ... أي تا للَّه لقد أعطينا بني إسرائيل نعما خاصة، أذكر منها هنا ستا وهي:
١- إنزال التوراة على موسى عليه السلام التي فيها هدى ونور.
٢- الفهم والفقه لفصل القضاء والخصومات بين الناس، لأنهم جمعوا بين حكم الدين وحكم الدنيا، فجعل الملك فيهم.
٣- إرسال الرسل إليهم، كموسى وهارون عليهما السلام وغيرهما من الأنبياء الكثيرين.
٤- إمدادهم بطيبات الرزق المباحة المستلذة من المآكل والمشارب كالمن والسلوى.
267
٥- تفضيلهم على عالمي زمانهم من الناس، حيث كثر فيهم الأنبياء، وجمعوا بين الملك والنبوة، وأوتوا من المعجزات العامة المادية الباهرة، كفلق البحر وتظليل الغمام، والإنجاء من ظلم فرعون وجنوده، فكانوا أرفع درجة وأعلى منقبة بين الشعوب في عصرهم.
٦- إيتاؤهم الحجج والبراهين والمعجزات والأدلة القاطعة، والأحكام والمواعظ والشرائع الواضحة في الحلال والحرام.
ومع كل هذا لم يشكروا تلك النعم، بل اختلفوا في أمر الدين، كما قال تعالى:
فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ أي فما وقع الاختلاف بينهم في أمر الدين إلا بعد العلم بحقيقة الحال، وبعد قيام الحجة عليهم، حبا للرئاسة، وعداوة وحسدا وعنادا، وبغيا منهم على بعضهم بعضا.
والخلاف في الأشياء يستتبع القضاء، لذا قال تعالى:
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن اللَّه سيفصل بينهم بحكمه العدل يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبيّن المحقّ من المبطل.
وفي هذا تحذير للأمة الإسلامية أن تختلف مثل اختلاف بني إسرائيل، لذا قال تعالى:
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي ثم جعلناك يا محمد على طريقة ومنهاج من أمر الدين يوصلك إلى الحق، فاتبع ما أوحي إليك من ربك، واعمل بأحكام شريعتك المؤيدة بالأدلة الواضحة في أمتك، ولا تتبع ما لا حجة فيه من أهواء الجهال المشركين الذين
268
لا يعلمون توحيد الله وشرائعه لعباده، وهم كفار قريش ومن وافقهم. قال الكلبي: إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة: ارجع إلى ملة آبائك، وهم كانوا أفضل منك وأسنّ، فزجره الله تعالى عن ذلك بقوله: وَلا تَتَّبِعْ الآية، أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة لصرت مستحقا للعذاب، وهم لا يقدرون على دفعه عنك.
وعلة النهي عن اتباع أهوائهم هي ما قال تعالى:
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي إن هؤلاء المشركين الجهلة لن يدفعوا عنك من الله شيئا أراده بك إن اتبعت أهواءهم وخالفت شريعتك.
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ أي وإن هؤلاء الكافرين ينصر بعضهم بعضا، فالمنافقون أولياء اليهود في الدنيا، ولكن تناصرهم لا يفيدهم شيئا في الآخرة، ولا يزيدونهم إلا خسارا ودمارا وهلاكا، والله ناصر المؤمنين الذين اتقوا الشرك والمعاصي، فيخرجهم من الظلمات إلى النور، أما الذين كفروا فأولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات. وهذه تفرقة واضحة بين ولاية الله للمتقين، وولاية الظالمين لبعضهم.
ثم بيّن الله تعالى فضل القرآن الدائم الخالد، قائلا:
هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ، وَهُدىً، وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي هذا القرآن المشتمل على شرائع الله الخالدة إلى يوم القيامة هو دلائل وبراهين للناس جميعا فيما يحتاجون إليه من أحكام الدين، وهاد إلى الجنة من عمل به، ورحمة من الله وعذابه في الدنيا والآخرة لقوم من شأنهم الإيقان وعدم الشك بصحته وتعظيم ما فيه.
وإنما خص الموقنين بذلك، لأنهم المنتفعون به.
269
فقه الحياة أو الأحكام:
اشتملت الآيات على ما يأتي:
١- امتن الله تعالى على بني إسرائيل بنعم ست هي التوراة، وفهم الكتاب أو الحكم بين الناس والقضاء في الخصومات، وإرسال كثير من الأنبياء فيهم وهم من عهد يوسف عليه السلام إلى زمن عيسى عليه السلام، ورزقهم من طيبات الحلال من الأقوات والثمار وأطعمة الشام، وتفضيلهم على عالمي زمانهم، وإيتاؤهم بيّنات الأمر، أي دلائل الحق الواضحة، وشرائع الحلال والحرام، والمعجزات الداعية إلى الصدق والإيمان.
٢- لم يقع الخلاف بين بني إسرائيل بإيمان بعضهم وكفر بعضهم إلا بعد قيام الحجة عليهم، وتعريفهم بحقيقة الحال، وإدراكهم صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم بوثائقهم الدينية وإخبار كتبهم وبشائرها بنبي آخر الزمان.
وكان خلافهم نابعا من الأغراض الذاتية، كالحسد والعداوة وحب الرياسة، لا من أجل المصلحة العامة.
وتحذيرا من هذا الخلاف توعدهم الله بقضائه الحاسم وحكمه العادل يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين في الدنيا.
٣- وبما أن الأمر المختلف فيه عقيدة وشريعة لا يصلح للبقاء والاستمرار، أوصى الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلّم وأمته والبشرية كلها باتباع شريعة القرآن. والشريعة:
ما شرع الله لعباده من أمر الدين. وتلك الشريعة منهاج واضح يؤدي إلى الحق والسعادة والنجاة في الآخرة، لأنها تتضمن أوامر الله ونواهيه وحدوده وفرائضه الثابتة ثبوتا قطعيا لا شك فيه، أما ما قبلها فلم يقم دليل واحد على صحة ما يتناقله أهلها منها، أو ثبوته ثبوتا صحيحا من عند الله تعالى، لضياع
270
التوراة، وكتابة الإنجيل كتابة متأخرة عن تاريخ نزوله على السيد المسيح عليه السلام. فإن فرض ثبوت شيء من شرائع من قبلنا، فلا خلاف في أن الله تعالى جعل الشريعة واحدة في أصولها في التوحيد ومكارم الأخلاق ومصالح الناس، وإنما خالف بينها في الفروع الجزئية لا في الأصول حسبما تقتضي المصلحة في علم الله تعالى.
٤- قال ابن العربي المالكي الذي يرى كغيره من المالكية أن شرع من قبلنا شرع لنا: ظن بعض من يتكلم في العلم «١» أن هذه الآية: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، لأن الله تعالى أفراد النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته في هذه الآية بشريعة، ولا ننكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته منفردان بشريعة، وإنما الخلاف فيما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم عنه من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء، هل يلزم اتباعه أم لا؟ ولا إشكال في لزوم ذلك «٢».
٥- إن القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على قلب نبيه براهين ودلائل ومعالم للناس في الحدود والأحكام، بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعل في سائر الآيات روحا وحياة، وهو هدى من الضلالة، ورشد وطريق يؤدي إلى الجنة، ورحمة من العذاب في الآخرة لمن آمن واتقى.
جعلنا الله تعالى من القائمين بشرعه، المهتدين بهديه، المخلصين في اتباع أمره ونهيه، الظافرين بفضل الله ورحمته في الآخرة والدنيا.
(١) وهو رد على الشافعية الذين يرون أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا لقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ولهذه الآية.
(٢) أحكام القرآن: ٤/ ١٦٨٢
271
الفارق بين المحسنين والمسيئين في المحيا والممات
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣)
الإعراب:
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ...
أَنْ
وصلتها: سدت مسد مفعول حَسِبَ
. وسَواءً
: حال من ضمير نَجْعَلَهُمْ
ومَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
: مرفوعان بسواء، لأنه بمعنى مستو، ويقرأ بالرفع «سواء» على أنه خبر مقدم، ومَحْياهُمْ
: مبتدأ مؤخر، ومَماتُهُمْ
: عطف عليه. وساءَ ما يَحْكُمُونَ
إن كانت ما
معرفة، كانت في موضع رفع ب ساءَ
وإن كانت نكرة، كانت في موضع نصب على التمييز.
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ بِالْحَقِّ: في موضع نصب على الحال، وليست باؤه للتعدية.
أَفَرَأَيْتَ يقدر له مفعول ثان بعد قوله غِشاوَةً أي لرأيت أيهتدي.
فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أي من بعد هداية الله.
البلاغة:
مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
بينهما طباق. وكذا بين السَّيِّئاتِ
والصَّالِحاتِ.
المفردات اللغوية:
أَمْ
الهمزة: همزة الإنكار، وأم منقطعة عما قبلها، أي أبل، والمراد إنكار الحسبان.
272
اجْتَرَحُوا
اكتسبوا ومنه الجارحة: أعضاء الإنسان. السَّيِّئاتِ
الكفر والمعاصي. أَنْ نَجْعَلَهُمْ
هذا الضمير وما قبله في اجْتَرَحُوا
للكفار، والمعنى: إنكار أن يستوي الفريقان بعد الممات في الكرامة، أو ترك المؤاخذة، كما استووا في الرزق والصحة في الحياة. ساءَ ما يَحْكُمُونَ
أي ليس الأمر كذلك، فهم في الآخرة في العذاب على خلاف عيشهم وحالهم في الدنيا، أي ساء حكمهم هذا، أو بئس شيئا وحكما حكمهم هذا، وما
مصدرية.
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ كأنه دليل على الحكم السابق، لأن الخلق بالحق يستدعي العدل والتفاوت بين المسيء والمحسن. وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ من المعاصي والطاعات، فلا يساوي الكافر المؤمن، وهي عطف على بِالْحَقِّ لأنه في معنى العلة لما سبق، أي ليستدل بذلك على قدرته، وليعدل ويجزي.
أَفَرَأَيْتَ أخبرني. مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى من عبادة الحجر، لأنه كان يعبده، فإذا رأى أحسن منه رفضه وعبد الآخر، والهوى: ما تهواه نفسه.
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ خذله عالما بضلاله، وفساد استعداده وحاله قبل خلقه. وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ طبع عليهما بالخاتم بعد كفره، فلم يسمع الهدى والمواعظ، ولم يتفكر في الآيات. وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً ظلمة، فلم ينظر بعين الاستبصار والاعتبار، ولم يبصر الهدى.
فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ من بعد هداية الله وإضلاله إياه، أي لا يهتدي. أَفَلا تَذَكَّرُونَ تتعظون. وقرئ «تتذكرون».
سبب النزول:
نزول الآية (٢١) :
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ..
: قال الكلبي: نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، وفي ثلاثة من المشركين: عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، قالوا للمؤمنين: والله ما أنتم على شيء، ولو كان ما تقولون حقا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أنّا أفضل حالا منكم في الدنيا، فأنكر الله عليهم هذا الكلام، وبيّن أنه لا يمكن أن يكون حال المؤمن المطيع مساويا لحال الكافر العاصي في درجات الثواب، ومنازل السعادات «١».
(١) تفسير الرازي: ٢٧/ ٢٦٦
273
نزول الآية (٢٣) :
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ: أخرج ابن المنذر وابن جرير عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش تعبد الحجر حينا من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه، طرحوا الأول وعبدوا الآخر، فأنزل الله: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ الآية، وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين، لأنه كان يعبد ما تهواه نفسه.
نزول بقية الآية (٢٣) :
وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ... قال مقاتل: نزلت في أبي جهل، ذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة، ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه صادق، فقال له: مه، وما دلّك على ذلك؟
قال: يا أبا عبد شمس كنا نسمّيه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكمل رشده نسمّيه الكذاب الخائن، والله إني لأعلم أنه صادق، قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عني بنات قريش أني اتّبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللّات والعزّى إن اتبعته أبدا، فنزلت: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ «١».
المناسبة:
بعد بيان الفرق بين الظالمين الكافرين وبين المتقين في الولاية، بيّن الفرق بينهما من وجه آخر وهو الرحمة والثواب في الآخرة، ثم ذكر تعالى دليل التفاوت بين المحسنين والمسيئين وهو خلق الكون بالحق المقتضي للعدل، وجعل الجزاء منوطا بالكسب والعمل، ثم أخبر تعالى عن المسيء المتبع هواه بأنه موضع تعجب، وأنه لا سبيل إلى هدايته بعد هدايته الله تعالى.
(١) تفسير القرطبي: ١٦/ ١٧٠
274
التفسير والبيان:
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
أي بل أظن هؤلاء الذين اقترفوا الإثم والشرك والمعاصي في الدنيا، فكفروا بالله ورسله، وعبدوا غيره، أن نجعلهم كالذين صدقوا بالله ورسله، وعملوا الأعمال الصالحة من إقامة الفرائض واجتناب المحارم، بأن نسوّي بينهم في الجزاء والثواب والرحمة في دار الدنيا والآخرة، كلا لا يستوون، فإن حال أهل السعادة في الآخرة غير حال أهل الشقاوة، لقد ساء ما ظنوا، وبئس ما حكموا أن نسوي بين الأبرار الطائعين وبين الفجار العاصين في الدنيا والآخرة. والمعنى: إنكار أن يستوي الفريقان حياة وموتا، لأن المحسنين عاشوا على الطاعة، وإنهم عاشوا على المعصية، ومات أولئك على البشرى والرحمة ومات هؤلاء على الضدّ. وقيل: معناه إنكار أن يستويا في الممات، كما استووا في الحياة من حيث الصحة والرزق، بل قد يكون أحسن حالا من المؤمن، فالفرق المقتضي لسعادة المؤمن وشقاوة الكافر إنما يظهر بعد الوفاة.
ونظير الآية قوله تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر ٥٩/ ٢٠] وقوله سبحانه: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم ٦٨/ ٣٥- ٣٦] وقوله عز وجل: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص ٣٨/ ٢٨].
وهذا دليل واضح أيضا على التفرقة في مصير المؤمن الطائع والمؤمن العاصي.
أخرج الطبراني عن مسروق أن تميما الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
275
وبعد بيان التفاوت بين المؤمن والكافر في الآخرة والدنيا، أقام الدليل على صحة هذا المبدأ وحكمته، فقال تعالى:
١- وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي أوجد الله وأبدع السموات والأرض بالحق المقتضي للعدل بين العباد، فلو لم يوجد البعث والحساب والجزاء، لما كان ذلك الخلق بالحق بل كان بالباطل، ومن العدل: اختلاف الجزاء بين المحسن والمسيء ٢- وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي خلق الله السموات والأرض بالحق، ليدل بهما على قدرته، ولكي تجزي كل نفس بما قدمت من عمل صالح أو سيء، وهم أي المخلوقون لا يظلمون بنقص ثواب أو زيادة عقاب، فلو ترك الظالم الذي ظلم غيره في الدنيا، ولم يقتص منه في الآخرة، لما كان خلق السموات والأرض بالحق.
فيكون قوله وَلِتُجْزى معطوفا على قوله: بِالْحَقِّ والتقدير:
وخلق الله السموات والأرض لأجل إظهار الحق، ولتجزي كل نفس، والمعنى أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة، وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث والقيامة، وحصل التفاوت في الجزاء والدرجات والدركات بين المحقين وبين المبطلين.
ثم أبان الله تعالى أحوال الكفار وقبائحهم وسوء جناياتهم، فقال:
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ، وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ، وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ أي أخبرني عن حال ذلك الكافر الذي أطاع هواه، وترك الهدى، واتخذ دينه ما يهواه، فكأنه جعل الهوى إلهه يعبده من دون الله، فلا يهوى شيئا إلا تبعه، دون مراعاة لما يحبه الله ويرضاه، فهذا مما يدعو إلى العجب، وكان الحارث بن قيس لا يهوى
276
شيئا إلا فعله، والعبرة بعموم لفظ الآية، لا بخصوص السبب الذي نزلت الآية من أجله.
وقد أضله الله وخذله مع علمه بالحق، ومعرفته الهدى من الضلال، وقيام الحجة عليه، وطبع على سمعه، حتى لا يسمع الوعظ، وعلى قلبه، حتى لا يفقه الهدى، وجعل غطاء على بصره وبصيرته، حتى لا يبصر الرشد ويدرك آيات الله في الكون التي تدل على وحدانية الله تعالى.
فمن يوفقه للصواب والحق من بعد إضلال الله له بسبب انحرافه واتباعه هواه، أفلا تتذكرون تذكر اعتبار، وتتعظون حتى تعلموا حقيقة الحال؟! ونظير مطلع الآية قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات ٧٩/ ٤٠- ٤١].
ونظير وسط الآية قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة ٢/ ٦- ٧].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- كما أن هناك فرقا في الولاية بين المتقين والظالمين، هناك فرق آخر بين المحسنين والمسيئين في الجزاء في الدنيا والآخرة، فالله ولي المتقين وناصرهم في الدنيا والآخرة، والظالمون الكافرون يوالي بعضهم بعضا في الدنيا، وتنقطع ولاياتهم في الآخرة، والمحسنون المؤمنون سعداء الدنيا والآخرة، والمسيؤون الكفار أشقياء في الآخرة، وإن تساووا في الدنيا مع المؤمنين في الصحة والرزق والكفاية، أو كانوا أحسن حالا من المؤمنين فيها.
277
٢- لا بد من التفاوت في الجزاء والدرجات والدركات بين المحسنين والمسيئين، عدلا من الله، لأنه بالعدل قامت السموات والأرض، ولكي تجزى كل نفس في الآخرة بما كسبت في الدنيا، وهم لا يظلمون فيها بنقص ثواب أو زيادة عقاب.
٣- إن اتباع أهواء النفس مذموم دائما، قال ابن عباس رضي الله عنهما:
ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمّه، قال الله تعالى: وَاتَّبَعَ هَواهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف ٧/ ١٧٦] وقال تعالى: وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف ١٨/ ٢٨] وقال تعالى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [الروم ٣٠/ ٢٩] وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [القصص ٢٨/ ٥٠] وقال: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص ٣٨/ ٢٦].
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما ذكره النووي في كتاب الحجة للمقدسي عن عبد الله بن عمرو: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به»
وقال أبو أمامة رضي الله عنه: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى».
وقال شدّاد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم عن شداد بن أوس: «الكيّس: من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والفاجر: من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله»
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني: «إذا رأيت شحّا مطاعا، وهوى متّبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة»
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر، وهو ضعيف: «ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، فالمهلكات: شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه، والمنجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر:
والعدل في الرضا والغضب»
.
278
٤- لا يضلّ الله قوما إلا بعد أن هداهم وبعد أن أعلمهم وعلمهم، ولا يمنع عنهم فضله ورحمته إلا بسبب جحودهم وظلمهم وكفرهم، ولا يحجب عنهم منافذ الهداية من الاستبصار بنور البصيرة والقلب، والنظر في أسباب الرشد، وسماع المواعظ ليفقه الهدى إلا بعد إعراضهم وعنادهم وغيهم.
قال المفسرون: هذه الآية رد على القدرية الذين يقولون: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه من الاعتقاد وفعل الخير وارتكاب الشر، لأن الله تعالى صرح بمنعه إياهم عن الهدى حين أخبر أنه ختم على سمع هذا الكافر وقلبه وبصره، أي فالله هو الخالق لأفعال الإنسان، وليس العبد خالقا لها، وإنما هو كاسب وآخذ ومختار أيّ الطريقين من الخير أو الشر.
٥- إن أسباب ضلال المضلين إما اتباع الإنسان ما تدعو إليه نفسه الأمّارة بالسوء: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وإما تجاهل الحقائق بعد العلم بوجوه الهداية: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وإما العناد: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ وإما إنكار البعث باعتقاد ألا حياة إلا هذه: نَمُوتُ وَنَحْيا [٢٤] وإنكار المبدأ قائلين: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [٢٤].
وقد أجاب الله على شبهتهم بقوله فيما يأتي من الآيات: وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي ليس لهم على ما قالوه دليل، وإنما ذكروا ذلك ظنا وتخمينا واستبعادا، فلا ينبغي لعاقل أن يلتفت إلى قولهم، لأن الحجة قامت على نقيض ذلك، وهي دليل المبدأ والمعاد المذكور مرارا، وليس قولهم: ائْتُوا بِآبائِنا [٢٤] من الحجة في شيء، لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال، فإنه يمتنع حصوله في الاستقبال».
(١) غرائب القرآن: ٢٥/ ٧٨- ٧٩
279
الدهرية وإنكار البعث وأهوال القيامة
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٢٤ الى ٢٩]
وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨)
هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)
الإعراب:
بَيِّناتٍ حال.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَوْمَ الأول: منصوب ب يَخْسَرُ ويَوْمَئِذٍ:
للتأكيد.
كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا كُلَّ بالرفع: مبتدأ، وخبره: تُدْعى إِلى كِتابِهَا ويقرأ بالنصب على أنه بدل من كُلَّ الأولى، وتُدْعى في موضع نصب على الحال، إن جعلت تَرى من رؤية العين، أو في موضع المفعول الثاني إذا جعلته من رؤية القلب.
هذا كِتابُنا يَنْطِقُ مبتدأ وخبر، ويَنْطِقُ حال من (الكتاب) أو من (ذا) ويجوز جعله خبرا ثانيا ل (ذا). ويجوز جعل كِتابُنا بدلا من هذا ويَنْطِقُ: خبر المبتدأ.
280
البلاغة:
نَمُوتُ وَنَحْيا بينهما طباق.
هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ يَنْطِقُ: استعارة تصريحية، أي يشهد عليكم بالحق، وهذا أبلغ من شهادة اللسان، لأن شهادة الكتاب ببيانه أقوى من شهادة الإنسان بلسانه.
المفردات اللغوية:
وَقالُوا: أي المشركون منكر والبعث. ما هِيَ أي الحياة. إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي إلا حياتنا التي في الدنيا. نَمُوتُ وَنَحْيا أي يموت بعضنا ويحيا بعضنا بأن يولدوا. وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أي إلا مرور الزمان، والدهر في الأصل: مدة بقاء العالم، مأخوذ من دهره:
غلبه. وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ ليس لهم بذلك المقول من دليل علمي. إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ أي ما هم إلا يظنون، إذ لا دليل لهم عليه، وإنما قالوه بناء على التقليد.
آياتُنا من القرآن الدالة على قدرتنا على البعث. بَيِّناتٍ واضحات. حُجَّتَهُمْ متشبث. ائْتُوا بِآبائِنا أحياء. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أننا سنبعث، وإنما سماه حجة على حسبانهم. يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بناء على ما هو معروف من الحجج. ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ أحياء.
لا رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه، فإن من قدر على الابتداء في الخلق قادر على الإعادة، لحكمة معروفة هي إقامة العدل التام والجزاء. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لقلة تفكرهم وقصور نظرهم على المحسوسات أمامهم.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تعميم أو إعمام للقدرة بعد تخصيصها. الْمُبْطِلُونَ الكافرون. كُلَّ أُمَّةٍ أهل دين. جاثِيَةً باركة على الرّكب، أو مجتمعة من الجثوة وهي الجماعة، وقرئ «جاذية» أي جالسة على أطراف الأصابع. إِلى كِتابِهَا صحيفة أعمالها.
الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يقال لهم ذلك.
هذا كِتابُنا ديوان الحفظة الذي كتبناه عليكم، وأضافه إلى نفسه لأنه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم. يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة ولا نقصان.
نَسْتَنْسِخُ نستكتب الملائكة، ونثبت ونحفظ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أعمالكم.
سبب النزول: نزول الآية (٢٤) :
وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا..: أخرج ابن المنذر عن أبي هريرة رضي
281
اللَّه عنه قال: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، فأنزل اللَّه:
وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ.
المناسبة:
بعد بيان حجب المشركين عن الوصول إلى الحق والخير، بسبب كفرهم وعنادهم، ذكر اللَّه تعالى بعض مفاسد اعتقاداتهم وهي إنكار البعث، وإنكار الإله القادر، معتمدين على مجرد الظنون والأوهام والتخمينات، والتقليد، مطالبين بإعادة إحياء آبائهم للدلالة على البعث، وتلك شبهة ضعيفة جدا.
فرد اللَّه عليهم بالتنبيه على ما هو الدليل القاطع في الواقع ونفس الأمر، وليس مجرد إثبات الإله بقول الإله، وهو قدرة اللَّه على الإعادة بناء على ثبوت قدرته على الإحياء الأول، ثم عمم تعالى الدليل ببيان قدرته على جميع الممكنات في السموات والأرض. ثم ذكر تعالى بعض أهوال يوم القيامة من الجثو على الركب بسبب المخاوف، والاحتكام إلى صحائف الأعمال المسجلة في الدنيا، والشاهدة على أصحابها.
التفسير والبيان:
وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ هذا قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب وأمثالهم في إنكار المعاد أو القيامة، فقال منكر والبعث هؤلاء المشركون: ما الحياة الحاصلة إلا الحياة التي نحن فيها في الدنيا، فليس ثم دار إلا هذه الدار، يموت قوم، ويعيش آخرون، ولا معاد ولا قيامة، وليس وراء ذلك حياة. وهذا تكذيب واضح للبعث، وإنكار صريح للقيامة. وما يميتنا إلا مرور الأيام والليالي، فمرورها هو المفني والمهلك للأنفس، أي بالطبيعة. وهذا إنكار بيّن للإله الفاعل المختار.
282
وكان العرب في الجاهلية يعتقدون أن الدهر هو الفاعل، فكانوا إذا أصابهم ضر أو ضيم أو مكروه، نسبوا ذلك إلى الدهر، فقيل لهم: لا تسبوا الدهر، فإن اللَّه هو الدهر، أي إن اللَّه هو الفاعل لهذه الأمور التي تنسبونها إلى الدهر، فيرجع السب إليه سبحانه.
أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يقول اللَّه تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار».
وفي رواية: «لا تسبوا الدهر، فإن اللَّه تعالى هو الدهر»
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: «كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، فقال اللَّه في كتابه: وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا.. الآية.
وذكر محمد بن إسحاق عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يقول اللَّه تعالى: استقرضت عبدي، فلم يعطني، وسبني عبدي، يقول:
ووا دهراه، وأنا الدهر»
.
وفي الموطأ عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر، فإن اللَّه هو الدهر».
وفسر الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا تسبوا الدهر فإن اللَّه هو الدهر»
بقولهم: كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو اللَّه تعالى، فكأنهم إنما سبوا اللَّه عز وجل، لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار، لأن اللَّه تعالى هو الدهر الذي يعنونه، ويسندون إليه تلك الأفعال «١».
ثم فنّد اللَّه تعالى قولهم مبينا عدم اعتماده على دليل، فقال:
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ١٥١
283
وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ أي ما قالوا هذه المقالة، إلا شاكين غير عالمين بالحقيقة، فلا دليل لهم من نقل أو عقل، وما مستندهم إلا الظن والتخمين من غير حجة أصلا.
قال الرازي: وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بغير حجة وبينة قول باطل فاسد، وأن متابعة الظن والحسبان منكر عند اللَّه تعالى «١».
ثم ذكر تعالى شبهتهم ودليلهم على إنكار البعث قائلا:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إذا تليت عليهم بعض آيات القرآن واضحات الدلالة على قدرة اللَّه والبعث، واستدل عليهم، وبيّن لهم الحق، وأن اللَّه تعالى قادر على إعادة الحياة إلى الأنفس بعد فنائها، لم يكن لهم حجة إلا طلب إعادة إحياء آبائهم الذين ماتوا، إن كنتم أيها المؤمنون صادقين في إمكان البعث، وأحيوهم إن كان ما تقولونه حقا، ليشهدوا لنا بصحة البعث.
وهذا كلام ساقط، فإن البعث يكون بعد نهاية الدنيا، ولا يلزم من عدم حصول الشيء في الحال امتناع حصوله في المستقبل يوم القيامة.
ثم ذكر اللَّه تعالى دليل إمكان البعث قائلا:
قُلِ: اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، لا رَيْبَ فِيهِ أي قل أيها النبي لهؤلاء المشركين منكري البعث: إن اللَّه أحياكم في الدنيا، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يجمعكم جميعا يوم القيامة جمعا لا شك فيه، فإن الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى، كما قال: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم ٣٠/ ٢٧].
(١) تفسير الرازي: ٢٧/ ٢٧٠ [.....]
284
وهذا إشارة إلى الآية المتقدمة: وهو أن كونه تعالى عادلا منزها عن الجور والظلم، يقتضي صحة البعث والقيامة.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي أكثر الناس وهم مشركو العرب حينذاك ينكرون البعث، من غير تأمل وتدبر وروية، ولا يدركون الحقيقة العلمية، ويقصرون نظرهم على المحسوسات، دون تفكر بالغيبيات، فاستبعدوا قيام الأجساد أحياء، كما قال تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً، وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج ٧٠/ ٦- ٧]. كذلك لا يعلمون دلالة حدوث الإنسان والحيوان والنبات على وجود الإله القادر الحكيم.
ثم ذكر اللَّه تعالى دليلا أعم على قدرته بعد التخصيص، فقال:
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ أي إن اللَّه مالك السموات والأرض، والحاكم فيهما والمتصرف بهما وحده في الدنيا والآخرة، من غير مشاركة أحد من عباده، ولا من الأصنام المعبودة.
وبعد بيان إمكان القول بالحشر والنشر، بدأ تعالى بذكر أحوال القيامة، وأولها وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ.. أي ويوم تقوم القيامة يخسر المكذبون الكافرون المتعلقون بالأباطيل، بدخول جهنم، يظهر خسرانهم في ذلك اليوم، لصيرورتهم إلى النار.
ثم أبان اللَّه تعالى أهوال يوم القيامة قائلا:
١- وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً أي وتنظر أصحاب كل ملة ودين واحد جاثين على الركب من شدة الخوف والرعب، فالناس لشدة الأمر يجثون بين يدي اللَّه عند الحساب.
٢- كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا أي كل أمة تدعى إلى كتابها المنزل على
285
رسلهم، أو إلى صحيفة أعمالها، كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ، وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر ٣٩/ ٦٩].
٣- الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في يوم القيامة يجزيكم اللَّه بما عملتم في الدنيا من خير وشر، تجازون بها من غير زيادة ولا نقص.
٤- هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي هذه صحيفة الأعمال التي أمرنا الملائكة الحفظة بكتابتها، تشهد عليكم، وتذكر جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص، كقوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف ١٨/ ٤٩].
إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم وتثبتها وتحفظها عليكم. قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما وغيره: تكتب الملائكة أعمال العباد، ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابلون الملائكة الذين هم في ديوان الأعمال على ما بأيدي الكتبة، مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة في القدم على العباد، قبل أن يخلقهم، فلا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا، ثم قرأ: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- هذا خبر صريح يتضمن إنكار المشركين والدّهرية للآخرة، وتكذيبهم للبعث، وإبطالهم للجزاء، مأخوذ من قولهم: نَمُوتُ وَنَحْيا أي يموت بعضنا ويحيا بعضنا، أو نموت نحن، وتحيا أولادنا، وما يفنينا إلا السنون والأيام.
286
٢- ليس لهم دليل نقلي أو عقلي على إنكار الآخرة، فما هم قوم إلا يتكلمون بالظن والتخمين.
قال القرطبي: وكان المشركون أصنافا، منهم هؤلاء منكر والبعث، ومنهم من كان يثبت الصانع وينكر البعث، ومنهم من كان يشك في البعث ولا يقطع بإنكاره. وحدث في الإسلام أقوام ليس يمكنهم إنكار البعث خوفا من المسلمين، فيتأولون ويرون القيامة موت البدن، ويرون الثواب والعقاب خيالات تقع للأرواح بزعمهم، فشرّ هؤلاء أضرّ من شر جميع الكفار، لأن هؤلاء يلبسون على الحق، ويغتّر بتلبيسهم الظاهر، والمشرك المجاهر بشركه يحذره المسلم «١».
٣- إذا قرئت على المشركين آيات اللَّه المنزلة في جواز البعث لم يكن لهم دفع وحجة أو شبهة إلا أن قالوا: ائتوا بآبائنا الموتى نسألهم عن صدق ما تقولون.
فرد اللَّه عليهم بأن اللَّه يحييكم بعد أن كنتم نطفا أمواتا، ثم يميتكم، ثم يجمعكم يوم القيامة كما أحياكم في الدنيا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن اللَّه يعيدهم كما بدأهم، ومن كان قادرا على ذلك، كان قادرا على الإتيان بآبائهم، وكان أهون شيء عليه.
وسمي قولهم حجة على سبيل التهكم، أو لأنه في حسبانهم وتقدير هم حجة، أو لأنه أسلوب يراد به: ما كان حجتهم إلا ما ليس حجة. والمراد نفي أن تكون لهم حجة أصلا.
٤- ومن أدلته تعالى على قدرته الفائقة وإمكان البعث خلق السموات والأرض وملكها والتصرف بها، ويوم تقوم القيامة يظهر خسران الكافرين الجاحدين.
(١) تفسير القرطبي: ١٦/ ١٧٢
287
٥- ليوم القيامة أهوال عظام ومخاوف جسام منها:
أن كل أهل ملة يجثون على الركب خوفا من شدة الأمر، قال سلمان الفارسي: إن في يوم القيامة لساعة هي عشر سنين، يخرّ الناس فيها جثاة على ركبهم، حتى إن إبراهيم عليه السلام لينادي: «لا أسألك اليوم إلا نفسي».
ومنها: أن كل أمة تدعى إلى حسابها وكتابها الذي كان يستنسخ لها فيه ما عملت من خير وشر.
ومنها: أن الجزاء على قدر العمل ونوعه من خير أو شر.
ومنها: قطعية الإثبات للأقوال والأفعال، فإن صحائف الأعمال التي تسجلها الملائكة الحفظة على كل إنسان في الدنيا تشهد على أصحابها.
ومنها: المفاجأة بالحقيقة والواقع وهو أن اللَّه كان يأمر ملائكته بنسخ ما يعمله بنو آدم في الدنيا،
قال علي رضي اللَّه عنه: إن لله ملائكة ينزلون كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم.
جزاء المؤمنين المطيعين وجزاء الكافرين العصاة
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٣٠ الى ٣٧]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤)
ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)
288
الإعراب:
وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها السَّاعَةُ بالرفع: مبتدأ ومعطوف على موضع إِنَّ وما عملت فيه، وقرئ بالنصب عطفا على لفظ اسم إن، وهو وَعْدَ اللَّهِ.
قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا السَّاعَةُ بالرفع: مبتدأ، وما:
خبره، وقرئ بالنصب على أنه مفعول نَدْرِي وما: زائدة. وإِنْ نَظُنُّ إلا ظنا تقديره: إن نظن إلا ظنا لا يؤدي إلى العلم واليقين. وإنما افتقر إلى هذا التقدير، لأنه لا يجوز أن يقتصر على أن يقال: ما قمت إلا قياما، لأنه بمنزلة: ما قمت إلا قمت، وذلك لا فائدة فيه.
رَبِّ الْعالَمِينَ بدل من رَبِّ الأول.
وَلَهُ الْكِبْرِياءُ، فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَهُ الْكِبْرِياءُ: مبتدأ وخبر مقدم، فِي السَّماواتِ: حال، أي كائنة.
البلاغة:
أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي استفهام توبيخ.
وَقِيلَ: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا استعارة تمثيلية، مثّل تركهم في العذاب بمن سجن في مكان ثم نسيه السجّان من غير طعام ولا شراب، ووجه الشبه منتزع من متعدد.
والمراد: نترككم في العذاب ونعاملكم معاملة الناسي، لأن اللَّه تعالى لا ينسى.
فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها التفات من الخطاب إلى الغيبة، لإهمالهم وعدم العناية بشأنهم.
289
المفردات اللغوية:
فِي رَحْمَتِهِ في جنته الْفَوْزُ الْمُبِينُ الظفر البين الظاهر، لخلوصه عن الشوائب أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي أي يقال لهم ذلك، وآياتي: آيات القرآن وما قبله من الكتب المنزلة الثابتة المتضمنة شرائع اللَّه فَاسْتَكْبَرْتُمْ تكبرتم عن الإيمان بها وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ كافرين، فالمجرم: ضد المسلم، فهو المذنب بالكفر.
وَإِذا قِيلَ أي قيل للكفار إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي وعده بالبعث وبأنه محيي الموتى من القبور، ووَعْدَ اللَّهِ: إما الموعود أو المصدر، وحَقٌّ: ثابت كائن لا محالة لا رَيْبَ لا شك إِنْ نَظُنُّ ما نظن أو إن نحن إلا نظن ظنا، دخل حرفا النفي والاستثناء لإثبات الظن ونفي ما عداه وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ بمتحققين أن الساعة آتية.
وَبَدا ظهر لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ظهر لهم في الآخرة جزاء أو عقوبات أعمالهم، أو عرفوا مدى قبح أعمالهم وَحاقَ بِهِمْ نزل أو حل وأحاط بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي الجزاء والعذاب نَنْساكُمْ نترككم في النار كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا تركتم العمل للقاء هذا اليوم، وإضافة اللقاء إلى اليوم: إضافة المصدر إلى ظرفه وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ مانعين منه يخلصونكم من أهواله.
اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً استهزأتم بها ولم تتفكروا فيها، وآياتِ اللَّهِ: القرآن وَغَرَّتْكُمُ خدعتكم الْحَياةُ الدُّنْيا أي زينتها، حتى قلتم: لا بعث ولا حساب لا يُخْرَجُونَ مِنْها الفعل مبني للمجهول، وقرئ بالبناء للمعلوم، ومنها أي من النار وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم بأن يرضوه بالتوبة والطاعة، لفوات الأوان، وعدم النفع يومئذ.
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ الشكر والثناء بالجميل على وفاء وعده في المكذبين رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ خالق هذه الأشياء، والعالم: كل ما سوى اللَّه، وجمع لاختلاف أنواعه. وهذه الأشياء نعمة من اللَّه ودالة على كمال قدرته الْكِبْرِياءُ العظمة والسلطان الْعَزِيزُ الذي لا يغلب الْحَكِيمُ فيما قدّر وقضى.
المناسبة:
بعد بيان أحوال القيامة وأهوالها، أبان اللَّه تعالى أحوال المؤمنين الطائعين وما أعد لهم من الرحمة أي الثواب، وأحوال الكافرين وما أعد لهم من العقاب، والتوبيخ على تفريطهم في الدنيا، وما حل بهم جزاء استهزائهم بالعذاب
290
وانخداعهم بالدنيا، ومعاملتهم معاملة المنسي بتركهم في النار، دون انتظار الخروج منها أو التوبة واسترضاء اللَّه عن الذنوب السالفة.
التفسير والبيان:
هذه الآيات تبين حكم اللَّه في خلقه يوم القيامة، سواء أكانوا مؤمنين أم كافرين، فقال تعالى مبينا حكم الفريق الأول:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ أي فأما المصدقون بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، والذين عملوا الأعمال الصالحة وهي الخالصة الموافقة للشرع، فيدخلهم ربهم الجنة، وذلك أي الإدخال فيها هو الظفر بالمطلوب، وهو الفلاح والنجاح الظاهر الواضح.
وسمى الثواب رحمة، والرحمة جنة،
لقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «إن اللَّه تعالى قال للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء».
ثم قال تعالى مبينا حكم الفريق الثاني وموبخا إياهم:
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ، فَاسْتَكْبَرْتُمْ، وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ أي وأما الذين أنكروا وحدانية اللَّه والبعث، فيقال لهم تقريعا وتوبيخا: أما قرئت عليكم آيات اللَّه تعالى، فاستكبرتم وأبيتم الإيمان بها، وأعرضتم عن سماعها واتباعها، وكنتم قوما مجرمين في أفعالكم، ترتكبون الآثام والمعاصي، وتكذبون في قلوبكم بالمعاد والثواب والعقاب؟ لذا أردف ذلك بقوله:
وَإِذا قِيلَ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها، قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا، وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أي وإذا قيل لهؤلاء الكفار من طريق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم والمؤمنين: إن وعد اللَّه بالبعث والحساب، وبجميع
291
الأمور المستقبلة في الآخرة حق ثابت، وواقع لا محالة، والقيامة لا شك في وقوعها، فآمنوا بذلك، واعملوا لما ينجيكم من العذاب، قلتم: لا نعرف ما القيامة، إن نتوهم وقوعها إلا توهما مرجوحا أو ظنا لا يقين فيه ولا علم، وما نحن بمتحققين ولا موقنين أن القيامة آتية، أي كأنهم نفوا كل الظنون إلا الذي لا ثبوت علم فيه، وأكدوا هذا المعنى بقوله: وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ.
وبعد هذا التوبيخ والنقاش، ذكر اللَّه تعالى ما يفاجؤون به من العذاب:
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي وظهر لهم قبائح أعمالهم وعقوبة أفعالهم السيئة، وأحاط بهم، ونزل عليهم جزاء أعمالهم بدخولهم النار، وعوقبوا بما كانوا يهزؤون به في دار الدنيا من العذاب والنكال، ويقولون: إنه أوهام وخرافات.
ثم أيأسهم تعالى من النجاة قائلا:
وَقِيلَ: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، وَمَأْواكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي ويقال لهم: اليوم نعاملكم معاملة الناسي لكم وكالشيء المنسي الملقى غير المبالى به، فنترككم في العذاب، كما تركتم العمل لهذا اليوم، وتجاهلتم ما جاء عنه في كتب اللَّه، لأنكم لم تصدقوا باليوم الآخر، ومسكنكم ومستقركم الذي تأوون إليه هو النار، وليس لكم من أنصار ينصرونكم فيمنعون عنكم العذاب.
وبذلك جمع اللَّه تعالى عليهم من وجوه العذاب الشديد ثلاثة ألوان هي:
الأول- أنه قطع رحمة اللَّه تعالى عنهم بالكلية.
الثاني- أنه جعل مأواهم النار.
الثالث- فقدان الأعوان والأنصار.
292
ثبت في الصحيح: «أن اللَّه تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة: ألم أزوجك، الم أكرمك، ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟
فيقول: بلى يا رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول: لا، فيقول اللَّه تعالى: فاليوم أنساك كما نسيتني»
.
ثم ذكر اللَّه تعالى أسباب هذا العقاب أو الجزاء، فقال:
ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً، وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي ذلك العذاب الذي وقع بكم بسبب أنكم اتخذتم القرآن هزوا ولعبا، وخدعتكم الدنيا بزخارفها وزينتها، فاطمأننتم إليها، وظننتم ألا دار غيرها، ولا بعث ولا نشور، فاليوم لا يخرجون من النار، ولا يطلب منهم العتبى بالرجوع إلى طاعة اللَّه، واسترضائه، لأنه يوم لا تقبل فيه التوبة، ولا تنفع فيه المعذرة.
وبعد أن أثبت تعالى قدرته على البعث بدلائل الآفاق والأنفس، وذكر حكمه في المؤمنين والكافرين، أثنى على نفسه بما هو أهل له تعليما لنا، فقال:
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ، وَرَبِّ الْأَرْضِ، رَبِّ الْعالَمِينَ أي الحمد الخالص والشكر الكامل على النعم الكثيرة لله خالق ومالك السموات، ومالك الأرض، ومالك ما فيهما من العوالم المختلفة المخلوقة من إنس وجن وحيوان، وأجسام وأرواح، وذوات وصفات.
وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي ولله العظمة والجلال والسلطان في أرجاء السموات والأرض، وهو سبحانه القوي القاهر في سلطانه فلا يغالبه أحد، الحكيم في كل أقواله وأفعاله وشرعه وجميع أقضيته في هذا العالم.
ورد في الحديث القدسي الصحيح عند أحمد ومسلم وأبي داود وابن ماجه عن
293
أبي هريرة وأبي سعيد رضي اللَّه عنهما عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يقول اللَّه تعالى: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما، أسكنته ناري».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات الكريمات على ما يأتي:
١- إن ثواب المؤمنين الذين عملوا صالح الأعمال، فأدوا الفرائض، واجتنبوا المعاصي والمنكرات هو دخول جنات الخلد والنعيم.
٢- إن جزاء الكافرين الذين أشركوا بالله إلها آخر، واقترفوا المعاصي، وتكبروا عن طاعة اللَّه وقبول أحكامه واتباع شرائعه هو دخول نار جهنم.
وهذا يدل على أن استحقاق العقوبة لا يحصل إلا بعد مجيء الشرع.
٣- يوبخ الكفار ويقرّعون على تركهم اتباع آيات اللَّه في قرآنه وكتبه المنزلة على رسله والاستماع إليها.
٤- إذا قام المؤمنون بتذكير الكفار بوعد اللَّه بالثواب والعقاب وتأكيد أن الساعة آتية لا ريب فيها، أنكروا ذلك وكذبوه، وأجابوا بأنا لا ندري هل الساعة (القيامة) حق أم باطل؟ وإن نحن إلا نظن ظنا لا يؤدي إلى العلم واليقين، ولسنا متحققين ولا واثقين بأن القيامة آتية، وهؤلاء من المشركين هم الفريق الشاكون بالبعث والقيامة، وهم غير أولئك الفريق المذكورين سابقا القاطعين بنفي البعث في قوله تعالى: وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا...
٥- في الآخرة تنكشف الحقائق وتنجلي الأمور بنحو قاطع، ويظهر لهؤلاء الكفار جزاء سيئات ما عملوا، وقبح جرم ما ارتكبوا، ويحيط بهم إحاطة تامة ما كانوا يستهزئون به من عذاب اللَّه.
294
٦- للعذاب ألوان ثلاثة: قطع رحمة اللَّه تعالى عنهم بالكلية، وصيرورة مسكنهم ومستقرهم النار، وفقدانهم الأعوان والأنصار.
٧- يقال لهم: استحقاقهم ألوان العذاب الثلاثة المذكورة بسبب إتيانكم ثلاثة أنواع من الأعمال القبيحة: وهي الإصرار على إنكار الدين الحق، والاستهزاء به والسخرية منه، والاستغراق في حب الدنيا، والإعراض بالكلية عن الآخرة والوجهان الأول والثاني داخلان في قوله تعالى: ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً والوجه الثالث هو المراد من قوله تعالى: وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا.
٨- لا خروج إلى الأبد من النار، ولا أمل في استرضاء اللَّه والتوبة والإنابة إليه والاعتذار منه، كما قال تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السجدة ٣٢/ ٢٠].
٩- الحمد والثناء بالجميل كله على اللَّه تعالى الخالق والمالك لكل الكون سمائه وأرضه، وعوالمه، والمتفرد بالعظمة والجلال، والبقاء والسلطان، والقدرة والكمال، والحكمة الباهرة والرحمة والفضل والكرم، وذلك يدل على أنه لا إله للخلق إلا هو، ولا رب سواه، ولا محسن ولا متفضل إلا هو.
295

[الجزء السادس والعشرون]

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأحقاف
مكيّة، وهي خمس وثلاثون آية.
تسميتها:
سميت (سورة الأحقاف) للحديث فيها عن الأحقاف: وهي مساكن عاد في اليمن الذين أهلكهم اللَّه بريح صرصر عاتية بسبب كفرهم وطغيانهم، في قوله تعالى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ.. [٢١].
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة هي:
١- تطابق مطلع السورتين في: حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
٢- تشابه موضوع السورتين وهو إثبات التوحيد والنبوة والوحي والبعث والمعاد.
٣- ختمت السورة السابقة بتوبيخ المشركين على الشرك، وبدئت هذه السورة بتوبيخهم على شركهم، ومطالبتهم بالدليل عليه، وبيان عظمة الإله الخالق المجيب من دعاه، على عكس تلك الأصنام التي لا تستجيب لدعاتها إلى يوم القيامة.
5
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السور المكية وهو إثبات أصول العقيدة الإسلامية الثلاثة: وهي التوحيد، والرسالة والوحي، والبعث والجزاء.
بدأت السورة بالحديث عن تنزيل الكتاب وهو القرآن من اللَّه تعالى، وإنما كرر لأنه بمنزلة عنوان الكتب (الكتابة) ثم أقامت الأدلة على وجود الإله والتوحيد والحشر، وذمّت المشركين عبدة الأصنام، وردّت عليهم ردا دامغا مقنعا، وأجابت عن شبهاتهم حول الوحي والنبوة.
ثم ذكرت حال فريقين: فريق أهل الاستقامة الذين أقروا بتوحيد اللَّه واستقاموا على ملّته، وأطاعوا والديهم وأحسنوا إليهم، فكانوا أصحاب الجنة، وفريق الكافرين الخارجين عن هدي الفطرة، المنهمكين في شهوات الدنيا، المنكرين البعث والحساب، العاقين لوالديهم، بالتنكر للإيمان والمعاد، فكانوا أصحاب النار.
ثم ضربت المثل بقصة هود عليه السلام مع قومه «عاد» الطغاة الذين اغتروا بقوتهم، وأصروا على عبادة الأصنام، فأهلكهم اللَّه بريح عاتية، تدمّر كل شيء بأمر ربها، إرهابا لكفار قريش، وتحذيرا من استبدادهم وتكذيبهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإنذارا بعذاب مماثل جزاء استهزائهم.
كما ذكّرتهم بإهلاك القرى المجاورة، وبمبادرة الجن إلى الإيمان بما سمعوه من آيات القرآن، ودعوة قومهم إلى إجابة نبي اللَّه والإيمان برسالته، فإن من عاند وأعرض عن إجابة داعي اللَّه، فهو في ضلال مبين.
ثم ختمت السورة بالتأكيد على قدرة اللَّه على البعث، لأنه خالق السموات والأرض، وبأن تعذيب الكافرين بالنار حق كائن لا محالة، وبالتهديد بأهوال القيامة، وبأن العذاب أو الهلاك لا يكون إلا للقوم الفاسقين الخارجين عن حدود
6
Icon