تفسير سورة الجاثية

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ
سورة الجاثية
مكية١
١ اتفق على مكية هذه السورة بإطلاق في الإيضاح ٤٠٩، والمحرر الوجيز ١٤/٣٠٣، وتفسير ابن كثير ٤/١٤٨، والإتقان ١٠١١.
وذكر القرطبي في جامعه ١٥/١٥٦ أنها مكية في قول الحسن وجابر وعكرمة، وأن ابن عباس استثنى آية واحدة هي قوله تعالى: ﴿قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله﴾ الآية ١٣..

سورة الجاثية
مكية
قوله تعالى: ﴿حم* تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله﴾ - إلى قوله - ﴿مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ﴾، قد تقدم ذكر الاختلاف في " حم ".
والمعنى هذا تنزيل القرآن من عند العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبيره.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي السماوات والأرض لأيات لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: إن فيها لعبراً وحُججاً للمصدقين بها، أي: إن لها خالقاً لم يخلقها عبثاً.
ثم قال تعالى: ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءايات لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾، أي: وإن في خلقكم أيها الناس، وما ينشر الله تعالى في الأرض من دابة تدب عليها من غير
6765
جنسكم آيات لقوم يوقنون بحقائق الخلق، وأن الله تعالى اخترع جميع ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿واختلاف الليل والنهار وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾، أي: وإن في تعاقب الليل والنهار، وما ينزل من السماء من مطر يكون عنه من النبات رزقكم. وسمي الماء رزقاً لأن عنه يتكون الرزق في الأرض.
وقوله: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾، أي: أنزل الماء فاهتزت الأرض بالنبات بعد أن كانت لا نبات فيها.
ثم قال: ﴿وَتَصْرِيفِ الرياح﴾، أي: وكون الرياح مرة شمالاً ومرة جنوباً، ومرة صبّا ومرة دَبُوراً، ونحو ذلك من اختلافها لمنافع الخلق.
﴿ءايات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾، أي عبراً وحججاً لقوم يعقلون عن الله تعالى أمره ونهيه، فيتبعون رسله، ويفهمون عنهم وحيه.
وقوله: ﴿وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءايات﴾ النصب في " ءايات " حسن على معنى: وإن في
6766
خلقكم آيات. وحسن ذلك لإعادة حرف الجر مع خلقكم.
ويجوز الرفع من ثلاثة أوجه.
أحدها: أن (تعطفها على الموضع) مثل قراءة الجماعة: ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ والساعة﴾ [الجاثية: ٣٢] بالرفع، عطف على موضع ﴿وعْدَ﴾.
والوجه الثاني: ترفع " الآيات " بالابتداء، وما قبلها خبرها. وتكون قد عطفت (جملة على) جملة منقطعة كما تقول إن زيداً خارج، وأن أجيئك غداً.
والوجه الثالث: أن ترفع على الابتداء والخبر والجملة في موضع الحال. مثل قوله: ﴿يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٤].
6767
وأما قوله: ﴿واختلاف الليل والنهار﴾ - إلى قوله - ﴿ءايات﴾، فالرفع حسن على ما تقدم من الأوجه.
والنصب عند سيبويه (والأخفش والكسائي) جائز على العطف على عاملين وهما " إن " وحرف الجر لأنك لم تُعِدْ " في مع " الاختلاف " كما أعدت أولا " في " مع " خلقكم ". فصرت تعطف بالواو على ما عملت فيه " إن " وعلى ما عمل فيه حرف الجر. فتخفض " الاختلاف " وتنصب " الآيات ".
ونظير هذا من الكلام قولك: في الدار والحجرة عمرو فتعطف بالواو على ما عملت فيه " في " وعلى ما عمل فيه الابتداء فتخفض الحجرة وترفع عمراً، فتعطف على عاملين (بحذف واحد.
ولو أعدت " في " لم يكن عطف
6768
على عاملين.
ومنع المبرد القراءة بالنصب وقال: لا يجوز العطف على عاملين.
وكان الزجاج يحتج لسيبويه بأن قال: إن من رفع يقول: إنما قطعته مما قبله فرفعته بالابتداء وما قبله رفع فهو أيضاً عطف على عاملين لأنه عطف " واختلاف " على " خلقكم " وعطل " آيات " على موضع " آيات " الأولى.
قال: / فقد صار العطف على عاملين إجماعاً.
وهذا، لا يلزم، لأن من رفع يقول: إنما قطعته مما قبله فرفعته بالابتداء وما قبله خبر.
وحكى الفراء رفع " الاختلاف " ورفع " الآيات ". جعل " الآيات " هو " الاختلاف ". وهذا وجه حسن ظاهر لولا أن القراءة سنة.
وإنما بعد العطف على عاملين (عند المبرد وغيره لأن حرف العطف إنما أتى به لينوب مناب العامل للاختصار. فلم يقرأ أن يجعل ينوب مناب عاملين مختلفين،
6769
ولو جاز أن ينوب مناب عاملين) لجاز أن ينوب مناب ثلاثة وأكثر (وهذا لا يقوله أحد) لأنه لو ناب مناب رافع وناصب لكان [رافعاً (ناصباً) في حال، وللزوم أن ينوب مناب رافع وناصب وجار فيكون] ناصباً ورافعاً جاراً في حال. وهذا محال ظاهر على أنهم قد أجمعوا أنه لا يجوز إذا تأخر المجرور، نحو قولك: زيد في الدار وعمرو الحجرة، وإنما أجازه من أجازه إذا كان المجرور يلي حرف العطف. وهذا تحكم بغير علة.
ثم قال تعالى: ﴿تَلْكَ ءايات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق﴾، أي: تلك حجج الله نتلوها عليك يا محمد، أي: نخبرك عنها بالحق لا الباطل كما يخبر مشركو قريش عن آلهتهم بالباطل يقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ [الزمر: ٣].
6770
ثم قال تعالى: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وءاياته يُؤْمِنُونَ﴾، أي: فبأي حديث يا محمد بعد قرآن الله تعالى وكتابه وآياته يؤمن هؤلاء المشركون.
ومن قرأ بالتاء فمعناه: فبأي حديث بعد قرآن الله سبحانه تؤمنون أيها المشركون.
ثم قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ ءايات الله تتلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً﴾؟
روي أنها نزلت في النضر بن الحارث كان يخلف النبي ﷺ في مجلسه ويحدث قريشاً. بأخبار ملوك العجم ويقول: أنا أحسن حديثاً من محمد ﷺ.
فالمعنى: الواد سائل من صديد أهل جهنم لكل كذاب، ذي إثم سامع
6771
لآيات الله تُقرأ عليه ثم يتمادى وتجبره على ربه سبحانه، فلا يذعن لأمره ونهيه كأن لم يسمع ما قرئ عليه ﴿كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً﴾
[لقمان: ٧]، أي: صمماً، فلا يسمع شيئاً لإصراره على كفره.
فبشره يا محمد بعذاب مؤلم، أي: موجع يوم القيامة. قال ابن عباس نزلت في الحارث بن كلدة ".
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً اتخذها هُزُواً﴾، أي: وإذا علم عذا الأفاك الأثيم من آيات الله شيئاً اتخذها هزواً، أي: يسخر منها، وذلك كفعل أبي جهل حين نزلت: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم * طَعَامُ الأثيم﴾ [الدخان: ٤٣ و ٤٤]، إذ دعا بزبد (وثمر) فقال: تزقموا من هذا، فما يفزعكم محمد إلا بهذا.
6772
ثم قال: ﴿أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾، أي: لهم في الآخرة عذاب يهينهم، ويذلهم في نار جهنم.
وجمع في قوله: ﴿أولئك﴾ رداً على قوله: ﴿لِّكُلِّ أَفَّاكٍ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ﴾، أي: أمامهم جهنم.
﴿وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم﴾ من عذابها. ﴿مَّا كَسَبُواْ﴾ في الدنيا من الأموال والأولاد شيئاً.
﴿وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ﴾ أي: ولا تغني عنهم آلهتهم التي اتخذوها أولياء من دون الله فعبدوها، ولا رؤساؤهم الذين أطاعوهم في الكفر فاتخذوهم أولياء على ذلك من عذاب الله شيئاً.
ثم قال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، يعني: نار جهنم وما فيها من أصناف العذاب.
ثم قال تعالى: ﴿هذا هُدًى والذين كَفَرُواْ بآيات رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ﴾، أي: هذا القرآن الذي أنزلنا هدى لمن وفقه الله إلى الإيمان به والعمل بما فيه. والذين جحدوا آيات ربهم ولم يؤمنوا بها، لهم عذاب مؤلم من الرجز.
قال المبرد: " الرجز: أغلظ العذاب وأشده ".
6773
قوله تعالى: ﴿الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ﴾ - إلى قوله - ﴿سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾، أي: الذي تجب له العبادة والخضوع والطاعة هو الله الذي سخر لكم البحر لتجري السفن فيه بأمره وبقدرته فتنتفعون بذلك لمتجركم، ومعائشكم، وتصرفكم في البلدان، وتبتغون من فضله فهو الذي يجب له الشكر على نعمه دون غيره.
ثم قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ﴾، أي: سخر لكم أيضاً - أيها الناس - ما في السماوات من شمس وقمر ونجوم وليل ونهار وما في الأرض من دابة وشجر وجبل وغير ذلك لمنافعكم ومصالحكم جميعاً منه، أي: نعمة منه عليكم، فإياه فاحمدوا واشكروا.
وقرئت: " جميعاً منة "، أي من " عليكم بذلك منة).
6774
ثم قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، أي: إن في تسخير ما تقدم ذكره لمنافع الخلق ومصالحهم لعبراً لقوم يتفكرون في آيات الله تعالى وحججه سبحانه وأدلته فيعتبرون بها وينطقون.
و ﴿جَمِيعاً مِّنْهُ﴾ (وقف جيد).
ومن قرأ " منة " وقف على " جميعاً "، ثم ابتدأ " منة " إن في ذلك "، أي: من عليكم بذلك منة.
ثم قال تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله﴾، أي: قل لهم اغفروا يغفروا. فهو جواب أمر محمول على المعنى.
والمعنى: قل يا محمد للذين صدقوك: اغفروا للذين لا يخافون أيام الله، أي: بأس الله ووقائعه فمن كفر به ونقمه منهم يغفروا.
﴿لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾، أي: ليجزي الله تعالى في الآخرة هؤلاء /
6775
الذين يؤذون المؤمنين بما اكتسبوا في الدنيا من أذى المؤمنين (ومن غير) ذلك.
وروي عن عاصم أنه قرأ ﴿لِيَجْزِيَ قَوْماً﴾ بنصب قوم والفعل لما لم يسم فاعله. وهذا بعيد جداً لم يجزه سيبويه ولا جميع البصريين.
وإنما تقديره عنده: ليجزي الجزاء قوماً. فيقيم المصدر مقام ما لم يسم فاعله ويضمره وينصب الاسم المقصود بالمعنى وهو شاذ في النظر والقياس.
6776
ولم يجز النحويون: " شُرِبَ الضربُ زيداً " برفع الضرب ونصب زيد، ولو جاز هذا لجازت هذه القراءة ولكن لا يجيزونه إلا في شعر على بعد.
قال ابن عباس: كان النبي ﷺ يعرض عن المشركين إذا آذوه، وكانوا يستهزؤون به ويكذبونه، ثم أمره الله تعالى أن يقاتلهم كافة. فكان هذا من المنسوخ. وعن ابن عباس أيضاً، وهو قول الضحاك: إن الآية نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ
6777
شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة، فأراد أن يبطش به فنزلت: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ - يعني عمر - ﴿يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله﴾، ثم نسخ هذا في " براءة " بالأمر بالقتال والقتل للمشركين، وهو أيضاً قول قتادة، إلا أنه قال: نسخها قوله:
﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٧] وقاله الضحاك.
وعن أبي هريرة أنه قال نسخها قوله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ﴾ [الحج: ٣٩] وقاله الضحاك.
وقيل: معنى " لا يرجون أيام الله ": لا يخافون البعث.
ثم قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ﴾، أي: لخلاص نفسه يعمل، والله تعالى غني عن عمله، إنما عمله له.
﴿وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا﴾، أي: ومن عمل عملاً سيئا فعلى نفسه جنى وفي عطبها
6778
سعى، لا يضر الله سبحانه ذلك ولا ينقصه من ملكه. ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ﴾ أيها الناس.
﴿تُرْجَعُونَ﴾، (أي: تردون) في الآخرة فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب والحكم والنبوة﴾، أي: ولقد أعطينا بني إسرائيل التوراة والإنجيل.
﴿والحكم﴾ يعني: الفهم بالكتاب والعلم بما فيه من السنن التي لم تنزل في كتاب. قال مجاهد: " الحكم: اللب ".
وقوله: ﴿والنبوة﴾، أي: وجعلنا منهم الأنبياء والرسل إلى الخلق، فأكثر الأنبياء والرسل من بني إسرائيل.
ثم قال: ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات﴾، يعني: المَنَّ والسَّلْوَى وغير ذلك من المطاعم.
ثم قال تعالى: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين﴾، أي: على عالم زمانهم.
ثم قال: ﴿وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأمر﴾، أي: وأعطيناهم واضحات من أمرنا بتنزيلنا التوراة عليهم فيها تفصيل كل شيء.
ثم قال: ﴿فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ أي: لم يختلفوا في دينهم إلا من بعد ﴿مَا جَآءَهُمُ العلم﴾، أي: إلا من بعد ما أنزلت عليهم التوراة فاختلفوا
6779
للرياسة بعد علمهم بالحق مما اختلفوا فيه فتنافسوا في الدنيا ورياستها فبغوا بغياً فيما بينهم، وتركوا تبيين ما أنزل الله عليهم.
ثم قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة﴾، أي: يحكم (ويفصل بينهم) فيما اختلفوا فيه يوم القيامة، فيعلي المحق على المبطل.
ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر فاتبعها﴾، أي: ثم جعلناك يا محمد بعد بني إسرائيل على طريقة وسنة ومنهاج من أمرنا الذي أمرنا من قبلك من الرسل، فاتبع تلك الشريعة ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾، أي: ولا تتبع ما يدعوك إليه الجاهلون بالله.
قال ابن عباس: ﴿على شَرِيعَةٍ﴾: " على هدى من الأمر وبينة ".
وقال قتادة: " الشريعة: الفرائض والحدود والأمر والنهي ".
وقال ابن زيد: الشريعة: الدين، وقرأ ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ [الشورى: ١٣] فنوح أولهم ومحمد آخرهم صلى الله على جميع النبيين وسلم.
6780
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً﴾ أي إن هؤلاء الجاهلين بربهم لن ينفعوك من الله شيئا إن ابتعت أهواءهم وما يدعونك إليه.
ثم قل تعالى: ﴿وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾، أي: وإن الكافرين بعضهم أنصار بعض وأعوانهم على أهل الإيمان بالله تعالى.
﴿ والله وَلِيُّ المتقين﴾، أي: هو ولي من اتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
ثم قال تعالى: ﴿هذا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾، أي: هذا القرآن بصائر يبصر به من العمى وهو الضلالة، ويهتدي به من جار عن طريق / الحق، وتاه في ميدان الباطل ﴿وَرَحْمَةٌ﴾، أي: وهو رحمة لمن آمن به واتبعه.
(وقوله: ﴿لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾، أي هو نور ورشاد ورحمة لمن أيقن أنه من عند الله فآمن به واتبعه).
ثم قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾، أي: أيحسب بالكفار بالله تعالى المكتسبون الكبائر أن يكونوا كالمؤمنين بالله تعالى
6781
المجتنبين للكبائر.
ويدل على أن المراد بالمكتسبين السيئات في هذه الآية الكفار قوله: " كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ". فذكر الإيمان مع العمل، ولو كانوا مؤمنين لقال: كالذين عملوا الصالحات ولم يذكر الإيمان.
ثم قال: ﴿سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾.
قال مجاهد معناه: إن المؤمن يموت على إيمانه ويبعث على إيمانه والكافر يموت على كفره ويبعث عليه. وقال أبو الدرداء: " يبعث الناس على ما ماتوا عليه ".
هذا معنى قراءة من رفع " سواء " فجعله مبتدأ " ومحياهم " خبر، ومماتهم عطف على " محياهم ".
6782
وإنما حَسُنَ الرفع في " سواء " (لأن الفعل) قد استوفى مفعوليه فارتفع " سواء " على الابتداء، كما قيل " سَوَاءُ العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِي ".
وإنما اختير الرفع في " سواء " لأنه اسم في معنى المصدر فلم يحسن جريه على الأول فارتفع بالإبتداء إذ الفعل قد تعدى إلى مفعوليه.
ولو كان في موضع " سواء " مستو لحسن النصب لأنه يجري على الأول، فينصب مع المعرفة على الحال وهذا هو الاختيار عند سيبويه وجميع النحويين.
ويجوز النصب عند سيبويه وغيره كما أجاز: مررت برجل سواءً عليه الخير والشر، فإذا نصبت على الحال، إذ قبله معرفة.
فكما جاز أن يكون صفة للنكرة جاز أن يكون حالاً للمعرفة وهو بعيد، لأن الأسماء التي ليست بجارية على الفعل، الرفع الاختيار فيها عند النحويين إذا رفعت ظاهراً بعدها.
6783
وبالنصب قرأ حفص وحمزة والكسائي على الحال من الهاء والميم في " نجعلهم ".
وقرأ الأعمش ﴿سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ﴾ بالنصب في ذلك كله ينصب " سوا " على الحال، وينصب " محياهم ومماتهم " على تقدير في محياهم ومماتهم كأنه يجعله ظرفاً.
ويجوز أن يكون ﴿مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ﴾ بدلا من الهاء والميم في ﴿نَّجْعَلَهُمْ﴾ فيصير المعنى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعل محياهم ومماتهم سواء)، أي كمحيى الذين آمنوا ومماتهم.
والوقف على " الصالحات " حسن عند نافع وأبي
6784
عبيدة على قراءة من رفع.
وقال غيرهما: من نصب سواء وقف عليه. وهو بعيد لا وجه له، لأن " محياهم " مرتفع " بسواء ". والتمام عند الأخفش: " ومماتهم " وعند غيره " يحكمون ".
ومعنى " ساء ما يحكمون: " بيس الحكم يحكمون إن حسبوا ذلك وظنوه.
و" ما " في موضع رفع إن جعلتها نكرة.
قال مجاهد في معنى الآية: محيى المسلمين ومماتهم، كلاهما محمود، محيى الكفار ومماتهم مذموم، فلا يستويان.
قوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق﴾ - إلى قوله -: ﴿مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، أي: خلق ذلك للعدل والحق لا لما يحسب هؤلاء الجاهلون بالله تعالى من أن يجعل من اكتسب السيئات بالكفر كمن آمن بالله تعالى وعمل صالحاً في المحيى والممات، لأن هذا من فعل غير أهل العدل والإنصاف. فمن
6785
الحق والعدل عند الذي خلق السماوات والأرض لهما، أن يخالف بين حكم من كفر ومن آمن في العاجل والآجل.
ثم قال: ﴿ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾، أي: وخلق ذلك لتجزى كل نفس في الآخرة بما كسبت في الدنيا من خير وشر. ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾، أي: لا يظلمون جزاء أعمالهم.
وروى أبو هريرة حديثاً يرفعه إلى النبي ﷺ أنه قال: " إِذَا كانَ يَوْمَ القِيَامَةِ بَعَثَ اللهُ تعالى مَعْ كَلِّ امْرِئٍ عَمَلَهُ، فَلاَ يَرَى المُؤْمِنُ شَيْئاً (يُرَوِّعُهُ وُلا شَيْئاً) يَخَافُهُ إِلاَّ قَالَ لَهُ عَمَلُهُ: لاَ تَخَفْ إِنَّكَ وَالله مَا أَنْتَ بِالَّذِي هُوَ يُرَادُ بِالَّذِي هضا هُنَا، وَلاَ أَنْتَ المَعْنِي بِهِ. فَإِذَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ مِرَاراً قَالَ لَهُ المُؤْمِنُ: مَنْ أَنْتَ رَحِمَكَ اللهُ، فَوَالله مَا رَأَيْتُ شَيْئاً قَطْ هُوَ أَحْسَنُ مِنْكَ وَجْهاً وَلاَ أَطْيَبُ مِنْكَ لَفْظاً. فَيقول: / أَتَعْجَبُ مِنْ حُسْنِي؟ إِنَّ عَمَلَكَ وَالله -، كَانَ حُسْناً في الدُّنْيَا، وَإِنِّي عَمَلُكَ، وَإِنَّكَ كُنْتَ تَحْمِلُنِي في الدُّنْيا عَلَى ثِقْلِي، وَإِنِّ وَالله لأَحْمُلَكَ اليَوْمَ وأُدَافِعُ عَنْكَ، قال: (وَإِنَّهَا لِلَّتِي) يَقُولُ اللهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ".
6786
ثم قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ﴾.
قال ابن عباس: " ذلك الكافر اتخذ بغير هدى من الله ولا برهان ".
قال قتادة: " لا يهوى شيئاً إلا ركبه، لا يخاف الله ".
وقال ابن جبير: " كانت قريش تعبد العزى - وهو حجر أبيض - حيناً من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأول وعبدوا الآخر فأنزل الله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ﴾.
قال الحسن: " هو الذي كلما اشتهى شيئاً لم يمتنع منه ".
ثم قال تعالى: ﴿وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ﴾، أي: وخذ له الله عن طريق الحق في سابق علمه على علم منه بأنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية.
6787
قال ابن عباس: " أضله الله في سابق علمه ".
وقال ابن جبير: " أضله على عدم قد علمه منه ".
وقيل المعنى: أضله الله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه.
وقيل المعنى: على علم منه بأن عبادته لا تنفعه ".
ثم قال تعالى: جل ذكره: ﴿وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾، أي: وطبع على اسمه أن يسمع (مواعظ الله وما) ينتفع به، وطبع على قلبه (فلا يعي) شيئاً من الخير، وجعل على بصره غكاءً أن يبصر به حجج الله تعالى، يعني: بصر قلبه. فهو لا يهتدي لخير، نسأل الله ألا يخذلنا عما فيه رشدنا عنده.
ثم قال: ﴿فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله﴾، أي: فمن يوفقه لإصابة الحق بعد إضلال الله تعالى له، وخذلانه إياه.
﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ أيها الناس ما يذكر لكم وما توعظون به.
6788
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾، وقال هؤلاء المشركون ما حياتنا الدنيا التي نحن فيها، لا حياة سواها، تكذيباً بالبعث والجزاء. قال قتادة: " هذا قول مشركي العرب ".
وقوله: ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ أي نموت نحن ويحيى أبناؤنا بعدنا.
وقيل: هو كلام فيه تقديم وتأخير. والتقدير: نحيى ونموت.
وقيل المعنى: نكون أمواتاً، يعني: النطق، ثم نحيى، أي: نصير أحياء في الدنيا ثم لا يهلكنا إلا الدهر، أي: إلا مرور الزمان وطول العمر.
وقيل المعنى: نموت (ونحيا على قولكم أيها المؤمنون) - على طريق الاستبعاد للبعث - بعد الموت، قاله علي بن سليمان.
وهؤلاء قوم لم يكونوا يعرفون الله فنسبوا ما يلحقهم من الموت إلى الدهر.
6789
وقيل: بل كانوا يعرفون الله سبحانه، ولكن نسبوا الآفات والعلل التي تلحقهم فيموتون بها إلى الدهر.
جهلوا أن الآفات مقدرة من عند الله تعالى.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " لاَ تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللهُ ".
ومعنى ذلك: أنهم كانوا يسبون الدهر ويقولون: هو يهلكنا فنهى النبي ﷺ عن ذلك.
فيكون معنى نهيه: لا تسبوا الدهر فإن الله هو مهلككم لا الدهر الذي نسبتم ذلك إليه.
وقيل المعنى: لا تسبوا خلقاً من خلق الله فيما لا ذنب له، فإن الله تعالى هو خالق الدهر. فيكون على حذف مثل ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
وقيل معنى ذلك، فإن الله مقيم الدهر، أي: مقيم أبداً لا يزول.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾، أي: وما لهم - بقولهم: لا نبعث - من
6790
علم، إنما ينكرون ذلك ويقولون: ما هي إلا حياتنا الدنيا - تخرصاً بغير خبر أتاهم من الله تعالى. ما هم إلا في ظنون، أي: في شك من ذلك وحيرة.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيِّنَاتٍ﴾، أي: وإذا تتلى على هؤلاء المكذبين بالبعث آيات الله تعالى ظاهرات تخبرهم بالبعث بعد الموت. لم تكن حجتهم على رسول الله ﷺ ظاهرات تخبرهم بالبعث بعد الموت. لم تكن حجتهم على رسول الله ﷺ إلا قولهم: جئ بآبائنا الذين هلكوا وانشرهم لنا إن كنت صادقاً في قولك: إنا نبعث بعد الموت.
وروى هارون وحسين عن أبي بكر عن عاصم: " ما كان حجتهم " بالرفع.
6791
ثم قال تعالى: ﴿قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة﴾، أي: قل لهم يا محمد: الله يحييكم ما شاء أن يحييكم في الدنيا ثم يميتكم فيها إذا شاء، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة، أولكم وآخركم لا شك في ذلك، فلا تشكوا فيه.
ثم قال: ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي: أكثر الناس الذين هم أهل تكذيب بالبعث لا يعلمون حقيقة ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض﴾، أي: سلطان ذلك دون من تدعون من دون الله من الآلهة.
ثم قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة﴾، أي: وله الملك يوم تقوم الساعة.
والعامل في " يومئذ ": " يخسر ". وقيل: العامل في " يوم تقوم ": " يخسر " و " يومئذ " بدل منه. فيبتدئ بـ " يوم تقوم الساعة ".
قوله: ﴿يَخْسَرُ المبطلون﴾، أي: يغبن / ذلك اليوم الذين أبطلوا في الدنيا في أقوالهم ودعواهم أن (لله شريكا) فيخسرون منازلهم في الجنة، ويبدلون بها منازل في النار كانت للمحقين في أقوالهم ودعواهم أن الله لا شريك له فأبدلوا منها بمنازلهم في الجنة. فمفعول " يخسر " محذوف، وهو المنازل.
ثم قال تعالى: ﴿وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا﴾، أي: وترى يا محمد
6792
ذلك اليوم أهل كل أمة ودين جاثية على رُكَبِها مجتمعة (مستوفرة) من هول ذلك اليوم.
قال مجاهد: جاثية على الركب (مستوفزين): وهو قول الضحاك وابن زيد وغيرهما.
وعن مجاهد أن " الأمة: هنا: الواحد ".
ثم قال تعالى: ﴿كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، أي أهل كل أمة يدعون إلى كتابهم الذي أَمْلَت حفظتهم في الدنيا من أعمالهم وألفاظهم،
6793
يقال لهم: اليوم تجزون ثواب أعمالكم في الدنيا، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
فالمعنى: كل يجزى بما تضمنه كتابه من عمله في الدنيا، وهو مثل قوله: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣].
ويدل على صحة هذا التفسير قوله بعد ذلك: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
وقيل معنى الآية: كل أمة تدعى إلى كتابها الذي فرض عليها من حلال وحرام فتجازى بما عملت فيه.
قال ابن عباس: يعرض من خميس إلى خميس ما كتبته الملائكة عليهم السلام من أفعال بني آدم. فينسخ منه ما يُجْزَى عليه من الخير والشر، ويُلغى سائره.
ثم قال: ﴿هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق﴾، أي يقال لهم في ذلك اليوم إذا عُرِضَت عليهم أعمالهم في كتبهم التي أحصتها عليهم الحفظة: هذا كتابنا ينطق عليكم بما أٍلفنم في الدنيا من الأعمال، قد أحصته عليكم الحفظة، فاقرؤوه.
6794
﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، أي: كانت حفظتنا تكتب أعمالهم فتثبتها في الكتب عليكم.
وقال ابن عباس: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق، (هو أم) الكتاب فيه أعمال بني آدم.
وقوله: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، قال هم الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم من اللوح المحفوظ قبل أن يَعمَلوها، ثم يقابلون بذلك أعمال بني آدم فلا يزيدون شيئاً ولا ينقصون شيئاً قد كتبه الله تعالى ذلك قبل خلقهم وعلمه وقضاه.
قال ابن عباس " إن الله جل ذكره خلق النون - وهي الدواة - وخلق القلم فقال: اكتب قال: ما أكتب، فقل: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول، بر أو فجور ورزق مقسوم من حلال (أو حرام)، ثم الزم كل شيء
6795
من ذلك شأنه: دخوله في الدنيا ومقامه فيها كم، وخروجه منها كم هو، ثم جعل على العباد حفظة، وعلى الكتاب خزاناً، فالحفظة ينسخون كل يوم من الخزان عَمَلَ ذلك اليوم فإذا فنى الرزق وانقطع الأثر، وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم (من الخزنة) فتقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحلكم عندنا شيئاً، فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا.
قال ابن عباس: " ألستم قوماً عرباً تسمعون الحفظة تقول: إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون، وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل ".
وعنه أيضاً أنه قال: فرغ الله تعالى مما هو كائن فتنسخ الملائكة ما يعمل يوماً بيوم من اللوح المحفوظ، فيقابل به عمل الإنسان لا يزيد على ذلك ولا ينقص.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: " إن الملائكة ينزلون في كل يوم بشيء يكتبون
6796
فيه أعمال بني آدم ".
وقيل لابن عباس: ما توهمنا إلا أنهم يكتبونه بعدما يعمل. فقال: أنتم قوم عرب والله يقول: إنا كنا نستنتخ ما كنتم تعملون " وهل يكون الاستنساخ إلا من نسخة.
وروى مجاهد عن عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال: " أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللهُ تعالى القَلَمُ، فَأَخَذَهُ بِيَمِينِهِ - وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِين - فَكَتَبَ: الدُّنْيَا وَمَا يَكُونَ فِيها مِنْ عَمَلٍ (مَعْمُوٌ بِرٍّ) أَوْ فُجُورٍ، رَطْبٍ أَو يَابِسٍ، فَأَمْضَاهُ عَنِدَهُ (فِي الذِّكْرِ). ثُمَّ قَالَ: اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فَهَلْ تَكُونُ النَّسْخَةُ إِلاَّ مِنْ شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ ".
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ﴾ - إلى آخر السورة، فأما الذين وحدوا الله تعالى وعملوا بطاعته فدخلهم ربهم
6797
في رحمته، يعني: في جنته يوم القيامة.
﴿ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين﴾، أي: دخولهم في رحمته يومئذ هو الظفر الظاهر.
ثم قال: ﴿وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ ءاياتى تتلى عَلَيْكُمْ﴾، / جواب " أما " محذوف، والتقدير: فيقال لهم ألم تكن آياتي تتلى عليكم، أي تقرأ عليكم فاستكبرتم عن اتباعها والإيمان بها. والاستكبار في اللغة: الأنفة عن اتباع الحق.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " قَالَ اللهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: الكِبْرَيَاءُ رِدَّائِي، وَالعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِداً مَنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ ".
6798
قوله: ﴿وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ﴾، أي: قوماً تكسبون الآثام والكفر سبحانه، لا تؤمنون بمعادٍ ولا بثواب ولا عقاب.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ والساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا الساعة﴾، أي: ويقال لهم يومئذ: وإذا قيل لكم إن وعد الله حق في بعثكم ومجازاتكم على أعمالكم، قلتم مجيبين: ما ندري ما الساعة، أي: ما ندري ما البعث والجزاء تكذيباً منكم بوعيد الله ووعده وإنكار القدرة على إحيائكم بعد موتكم.
﴿إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً﴾، أي: وقلتم (ما نظن) أن الساعة آتية إلا ظناً.
﴿وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ أنها جائية.
وتقديره في العربية: إن نحن إلا نظن ظنا ونظيره من الكلام ما حكاه (أبو عمرو) بن العلاء وسيبويه من قولهم: ليس الطيب إلا المسك، (على تقدير: ليس إلا الطيب المسك). هذا مذهب المبرد وتقديره.
6799
وسيبويه يقول (إن " ليس ") في هذا جرت مجرى " ما " فارتفع ما بعد " إلا " كما يرتفع مع " ما "
وقيل التقدير في الآية: إن نظن إلا أنكم تظنون ظناً. وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأنه لا يجوز في الكلام: ما ضربت إلا ضرباً، وما ظننت إلا ظناً، إذ فائدة المصدر فائدة الفعل فكما لا يجوز: ما ضربت إلا ضربت، وما ظننت إلا ظننت، كذلك لا يجوز مع المصدر، فكذلك لا تجوز إن نظن إلا نظن.
وإذا لم يجز مع الفعل لم يجز مع المصدر، فلا فائدة في المصدر أن يقع بعد حرف الإيجاب وليس قبله اسم، كما لا فائدة في الفعل أن يقع بعده. فلذلك احتيج إلى تقدير محذوف ليقع بعد الحرف اسم أو فعل قبله اسم.
ثم قال تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ﴾، أي: وظهر لهؤلاء المكذبين بالبعث عقاب سيئات أعمالهم في الآخرة.
6800
﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾، أي: وحل بهم من عذاب الله عقاب استهزائهم بآيات الله تعالى في الدنيا.
ثم قال تعالى: ﴿وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ﴾، أي: نترككم في نار جهنم كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا، وتشاغلتم بلذاتكم في الدنيا، واتبعتم أهواءكم.
ثم قال: ﴿وَمَأْوَاكُمُ النار﴾، أي: ومنزلكم الذي تأوون إليه نار جهنم.
وما لكم من ناصر ينصركم من العذاب فينقذكم منه.
ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم ءايات الله هُزُواً﴾، أي: هذا الذي حل بكم من (العذاب والهوان) باتخاذكم آيات الله - (في الدنيا) - هزؤا تسخرون منها.
ثم قال ثم قال: ﴿وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا﴾، أي: وخدعتكم الحياة الدنيا فآثرتموها على العمل بما ينجيكم من العذاب.
ثم قال تعالى: ﴿فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ﴾، لا يخرجون من نار جهنم، ولا يستعتبون فيردون إلى الدنيا ليعملوا صالحاً ويتوبوا من كفرهم.
ثم قال تعالى: ﴿فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوات وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين﴾، أي: فلله على
6801
نعمه وأياديه عند خلقه الحمد، فإياه فاحمدوا أيها الناس، فهو رب السماوات ورب الأرض، أي: مالكها ومالك العالمين، وهم جميع أصناف الخلائق.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات والأرض﴾، أي: وله العظمة والسلطان والجلال في السماوات السبع والأرضين السبع.
﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾، أي: وهو العزيز في نقمته من أعدائه، القاهر مل ما دونه، الحكيم في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم فيما شاء كيف شاء لا يقدر (على ذلك) ولا على شيء منه أحد غيره، لا إله إلا هو.
6802
الهداية إلى بلوغ النهاية
لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة ٤٣٧ هـ
المجلد الحادي عشر
الأحقاف - الصف
١٤٢٩ هـ - ٢٠٠٨ م
6803
Icon