تفسير سورة الجاثية

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سُوْرَةُ الجَاثِيَة
مكية إلا ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا﴾ الآية، وآيها: سبع وثلاثون آية، وحروفها: ألفان ومئة وواحد وتسعون حرفًا، وكلمها: أربع مئة وثمان وثمانون كلمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿حم (١)﴾.
[١] ﴿حم﴾ مبتدأ.
...
﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢)﴾.
[٢] خبره ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ في شدةِ أخذه إذا انتقم، ودفاعِه إذا حمى ونصر ﴿الْحَكِيمِ﴾ المحكِم للأشياء.
...
﴿إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣)﴾.
[٣] ﴿إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: في خلقها ﴿لَآيَاتٍ﴾ لدلالاتٍ على قدرته تعالى وتوحيده ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ المصدِّقين.
﴿وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤)﴾.
[٤] ﴿وَفِي﴾ تغيير ﴿خَلْقِكُمْ﴾ من حال إلى حال دلالة أيضًا على ذلك.
﴿وَمَا يَبُثُّ﴾ يفرِّق في الأرض ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ هي كل حيوان يدب.
﴿آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ بالبعث. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (آيَاتٍ) بكسر التاء ردًّا على قوله: (لآيَاتٍ)، وهي موضع النصب، وقرأ الباقون: بالرفع على الاستئناف (١).
﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥)﴾.
[٥] ﴿وَاخْتِلَافِ﴾ جر بـ (في) غير الأولى، التقدير: وفي اختلاف.
﴿اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ بالنور والظلام.
﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ﴾ أي: مطر؛ لأنه سبب الرزق.
﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ يبسها.
﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ باختلاف جهاتها وأحوالها.
﴿آيَاتٌ﴾ قرأ حمزة، والكسائي: (الرِّيحِ) بغير ألف على التوحيد (آيَاتٍ) بكسر التاء، وقرأ خلف: (الرِّيحِ) على التوحيد، (آيَاتٌ) بالرفع، وقرأ يعقوب: (الرِّيَاحِ) بألف على الجمع، (آيَاتٍ) بالكسر، وقرأ الباقون:
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٩٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٨)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٤٧)، وقراءة (آياتٍ) بكسر التاء هي قراءة يعقوب أيضًا.
(الرِّيَاحِ) على الجمع، (آيَاتٌ) بالرفع (١)، تلخيصه: إن في المذكور لدلالاتٍ على الوحدانية ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ الدليلَ، فيؤمنون.
...
﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦)﴾.
[٦] ﴿تِلْكَ﴾ الآيات المذكورات.
﴿آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ بالصدق والإعلام بحقائق الأمور في أنفسها.
﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ﴾ أي: بعد كتابه ﴿وَآيَاتِهِ﴾ معجزاتِ أنبيائِه ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ توبيخ وتقريع، وفيه قوة التهديد. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، وروح، وحفص: (يُؤْمِنُونَ) بالغيب موافقة لما قبله، وقرأ الباقون: بالخطاب (٢) على معنى: قل لهم يا محمد: فبأي حديث تؤمنون؟
...
﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧)﴾.
[٧] ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ﴾ كذاب ﴿أَثِيمٍ﴾ وهو النضر بن الحارث.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٤٨).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٩٤)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٢٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧١ - ٣٧٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٤٨ - ١٤٩).
﴿يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٨)﴾.
[٨] ﴿يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ﴾ صفة أثيم ﴿تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرّ﴾ يقيم على كفره.
﴿مُسْتَكْبِرًا﴾ عن الإيمان، وجيء بـ (ثم) هنا؛ لاستبعاد الإصرار على الكفر بعد سماع القرآن.
﴿كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا﴾ أي: كأنه، فخفف، وحذف ضمير الشأن، المعنى: يصر على الكفر مثلَ غير السامع.
﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ فقتل يوم بدر صبرًا.
...
﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩)﴾.
[٩] ﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا﴾ أي: جميعَ الآيات؛ لمبالغته في الكفر ﴿هُزُوًا﴾ سخرية؛ كفعل أبي جهل حيث أطعمهم الزبد والتمر، وقال: تزقَّموا، فهذا ما يتوعدكم به محمد. قرأ حفص: (هُزُوًا) بضم الزاي ونصب الواو بغير همز، وحمزة وخلف: بإسكان الزاي والهمز، والباقون: بضم الزاي والهمز (١) ﴿أُولَئِكَ﴾ أي: الأفاكون.
﴿لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ ذكر بلفظ الجمع إشارة إلى كل أفاك أثيم؛ لشموله الأفاكين.
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٨٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٤٩).
﴿مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿مِنْ وَرَائِهِمْ﴾ أي: أمامهم ﴿جَهَنَّمُ﴾ وأصله ما توارى عنك من خلف أو قدام ﴿وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا﴾ من الأموال.
﴿شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ من الأصنام.
﴿أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ لا يتحملونه.
...
﴿هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١)﴾.
[١١] ﴿هَذَا﴾ أي: القرآن ﴿هُدًى﴾ بيانٌ من الضلالة.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾ والرجز: أشد العذاب.
قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: (أَلِيمٌ) بالرفع صفة (عَذَابٌ) والباقون: بالجر صفة (رِجْزٍ) (١).
...
﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ﴾ على ضعفكم.
﴿لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ﴾ بتسخيره وأنتم راكبوها.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٨٠)، و"الكشف" لمكي (١/ ٢٠١ - ٢٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٥٠).
﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ بالتجارة والصيد وغيرهما.
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ هذه النعم.
...
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من الشمس والقمر والنجوم، والسحاب والرياح والهواء، والملائكة الموكلة بهذا كله ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ من البهائم والمياه والأودية والجبال، وغير ذلك ﴿جَمِيعًا مِنْهُ﴾ أي: كلُّ إنعام فهو من فضله تعالى؛ لأنه لا يستحق أحد عليه شيئًا، بل هو يوجبه على نفسه تكرمًا.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ في صنع الله تعالى.
...
﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ اغفروا ﴿يَغْفِرُوا﴾ يعفوا ويصفحوا.
﴿لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ﴾ يخافون ﴿أَيَّامَ اللَّهِ﴾ وقائعَه في الأمم الماضية، ولا يخشون نقمته.
﴿لِيَجْزِيَ﴾ الله ﴿قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ من الإحسان والغفر للكافر، نزلت في عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وذلك أن رجلًا من بني غفار
شتمه بمكة، فهمَّ عمر أن يبطش به، فأنزل الله الآية، وأمره أن يعفو عنه (١).
قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف: (لِنَجْزِيَ) بالنون التي للعظمة، وقرأ الباقون، ومنهم أبو جعفر: بضم الياء وفتح الزاي مجهولًا، وجاءت أيضًا عن عاصم (٢)، وهذا على أن يكون التقدير: ليُجْزى الجزاءُ قومًا، ونظيره (وَنُجِّي الْمُؤْمِنِينَ) على قراءة ابن عامر وأبي بكر في سورة الأنبياء؛ أي: نُجِّي النَّجاءُ المؤمنين، وتقدم التنبيه على ذلك في محله.
...
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾ ثوابُه ﴿وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ عقابُه.
﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ فيجازيكم بأعمالكم. قرأ يعقوب: (تَرْجِعون) بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون: بضم التاء وفتح الجيم (٣).
...
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ﴾ التوراة.
(١) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٥/ ٨٣).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٨)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٢٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٢)، و "معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٥١).
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٠٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٥٢).
﴿وَالْحُكْمَ﴾ الحكمة والفقه ﴿وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ الحلالات؛ كالمن والسلوى.
﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ عالَمي زمانهم.
...
﴿وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧).
[١٧] {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ﴾
دلالاتٍ على العلم بمبعث محمد - ﷺ -.
﴿فَمَا اخْتَلَفُوا﴾ في محمد - ﷺ -، وكفروا ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ به، وبالدين ﴿بَغْيًا﴾ أي: لبغي حدث ﴿بَيْنَهُمْ﴾ حسدًا وعداوة - ﷺ -.
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ بالمؤاخذة والمجازاة.
...
﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ﴾ يا محمد ﴿عَلَى شَرِيعَةٍ﴾ سنة وطريقة مسلوكة.
﴿مِنَ الْأَمْر﴾ أمر الدين.
﴿فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ هم رؤساء قريش كانوا يقولون له: ارجع إلى دين آبائك.
﴿إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا﴾ لن يدفعوا.
﴿عَنْكَ مِنَ اللَّهِ﴾ أي: من عذاب الله (١).
﴿شَيْئًا﴾ إن اتبعت أهواءهم.
﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ فَوالِهِ بالتقوى واتباع الشريعة.
...
﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿هَذَا﴾ أي: القرآن ﴿بَصَائِرُ﴾ معالِمُ ﴿لِلنَّاسِ﴾ يتبصرون بها دينهم.
﴿وَهُدًى﴾ من الضلال ﴿وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ بالبعث.
...
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٢١)﴾.
[٢١] ولما قال نفر من مشركي مكة للمؤمنين: لئن كان ما تقولون من البعث حقًّا، لنُفَضلَنَّ عليكم في الآخرة كما فُضِّلنا في الدنيا، نزل إنكارًا
(١) "الله": لفظ الجلالة لم يرد في "ت".
عليهم، وأنْ لا مساواة بينهم: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا﴾ (١) اكتسبوا.
﴿السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ﴾ أن نُصَيِّرهم.
﴿كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ مثلَهم.
﴿سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (سَوَاءً) بالنصب؛ أي: نجعلهم سواءً؛ يعني: أحسبوا أن حياة الكافرين ومماتهم كحياة المؤمنين سواء؟ كلا، وقرأ الباقون: بالرفع على الابتداء والخبر (٢)؛ أي: محياهم ومماتهم سواء، فالضمير فيهما يرجع إلى المؤمنين والكافرين جميعًا، وقرأ الكسائي: (مَحْيَاهُمْ) بالإمالة، والباقون: بالفتح (٣)، المعنى: لا يستويان في موتهما كما استويا في حياتهما، لأن المؤمن والكافر قد استويا في الرزق والصحة والمرض وغيرها في الدنيا، وافترقا في الآخرة بالجنة والنار ﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ بئس ما يقضون.
...
﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ لما فيه من فيض الخيرات، وليدل على قدرته تعالى ﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ من خير وشر ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ بنقص ثواب، ولا بتضعيف عقاب.
(١) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٥/ ٨٥).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٨)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٢٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٥٢ - ١٥٣).
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٥٣).
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٣)﴾.
[٢٣] ونزل توبيخًا لمن عبد غيرَ الله كالأصنام بهوى نفسه:
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ كانت العرب يعبدون الحجارة والذهب والفضة، فإذا وجدوا شيئًا أحسن من الأول، رموه أو كسروه وعبدوا الآخر.
﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ من الله تعالى بأنه من أهل النار، وقيل: على علم من الضال بطريق الهداية بأن ضل عنادًا.
﴿وَخَتَمَ﴾ طبع ﴿عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ﴾ فلم يسمع ولم يعقل الهدى.
﴿وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ ظلمة، فهو لا يبصر الهدى. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (غَشْوَةً) بفتح الغين وإسكان الشين من غير ألف، وقرأ الباقون: بكسر الغين وفتح الشين وألف بعدها (١).
﴿فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ﴾ إضلال ﴿اللَّهِ﴾ إياه.
﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (تَذِكَّرُونَ) بتخفيف الذال، والباقون: بتشديدها (٢).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٩٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٩٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٢٦ - ١٢٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٥٤ - ١٥٥).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٥٤ - ١٥٥).
﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿وَقَالُوا﴾ يعني: منكري البعث:
﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ التي نحن فيها.
﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ أي: يموت البعض، ويحيا البعض.
﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ أي: ممر السنين والأيام، وكانت العرب إذا أصابهم سوء، نسبوه إليه اعتقادًا منهم أنه الفعال له، فقال - ﷺ -: "لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ الله (١)، بيده الأمرُ" (٢)؛ أي: الله الفعال لذلك.
﴿وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ﴾ القولِ ﴿مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ ذلك ظنًّا بلا تحقيق.
(١) في "ت": "فإن الله هو الدهر".
(٢) رواه البخاري (٤٥٤٩)، كتاب: التفسير، باب: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾، ومسلم (٢٢٤٦)، كتاب: الألفاظ من الآدب وغيرها، باب: النهي عن سب الدهر، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. قال ابن حجر رحمه الله في "الفتح" (١٠/ ٥٦٥): معنى النهي عن سب الدهر: أنَّ من اعتقد أنه الفاعل للمكروه فسبَّه أخطأ، فإن الله هو الفاعل، فإذا سببتم من أنزل ذلك بكم رجع السبُّ إلى الله... ومحصَّل ما قيل في تأويله ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن المراد أن الله هو الدهر: أي المدبر للأمور، ثانيها: أنه على حذف مضاف، أي صاحب الدهر، ثالثها: التقدير: مقلِّب الدهر. اهـ.
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ واضحاتِ الدلالة.
﴿مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ﴾ ما كان لهم متشبَّثٌ يعارضونها به.
﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَنَّا نُبعث. قراءة الجمهور: (حُجَّتَهُمْ) بالنصب خبر (كانَ)، واسمها (إِلَّا أَنْ قَالُوا)، وانفرد ابن العلاف عن رويس راوي يعقوب بالرفع، ووردت عن أبي بكر وابن عامر، فتكون (حُجَّتُهُمْ) في هذه القراءة اسمَ (كان)، والخبر (إِلَّا أَنْ قَالُوا) (١).
...
﴿قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ فإن القادر على الإبداء قادر على الإعادة.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لقلة تفكرهم، وقصور نظرهم.
...
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ تبدل منه
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٢)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٥٦).
﴿يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ﴾ أي: يظهر خسرانُهم ثَمَّ.
...
﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ بارِكَةً على الرُّكَب، وهي جلسة المخاصِم بين يدي الحاكم ينتظر القضاء.
﴿كُلُّ أُمَّةٍ﴾ قرأ يعقوب: (كُلَّ) بنصب اللام على أنه بدل الأول، و (تُدْعَى) صفة، وقرأ الباقون: برفعها على أنه مبتدأ (١)، خبره:
﴿تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا﴾ الذي فيه أعمالُها؛ لتحاسب، ويقال لهم:
﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا.
...
﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿هَذَا كِتَابُنَا﴾ ديوان الحفظة، أو القرآن.
﴿يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ يشهد عليكم ببيان شافٍ.
﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ﴾ نستكتب الحفظةَ.
﴿مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ لأنا لا نهمل شيئًا.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٢٨)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٥٦ - ١٥٧).
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ﴾ جنته.
﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ الظَّفَرُ الظاهر.
...
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يُقال لهم تهديدًا: ﴿أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ بالإنذار على لسان رسلي.
﴿فَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ عن الإيمان ﴿وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ كافرين (١).
...
﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿وَإِذَا قِيلَ﴾ لكم: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ كائنٌ ﴿وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾ أي: لا شكَّ في البعث. قرأ حمزة: (السَّاعَةَ) بالنصب عطفًا على (وَعْدَ)، والباقون: بالرفع على الابتداء (٢).
(١) "كافرين" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٩٩)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٢٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٥٧).
﴿قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا﴾ أي: لا اعتقادَ لنا إلا الشكُّ، والظن أحد طرفي الشك بصفة الرجحان، ويجيء الظن بمعنى اليقين؛ نحو قوله: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧١]؛ أي: أيقنوا أن الجبل واقع بهم.
﴿وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ أنها كائنة.
...
﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿وَبَدَا﴾ ظهر ﴿لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا﴾ في الدنيا.
﴿وَحَاقَ﴾ نزل ﴿بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ وهو الجزاء. قرأ أبو جعفر: (يَسْتَهْزُونَ) بضم الزاي بغير همز، والباقون: بكسر الزاي والهمز (١).
...
﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ﴾ نترككم في العذاب كالشيء المنسيِّ الذي لا يُلتفت إليه.
﴿كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ أي: كما تركتم العمل للقاء هذا اليوم.
﴿وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ يخلِّصونكم من عذابها.
(١) سلفت عند تفسير الآية (٦٤) من سورة التوبة.
﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿ذَلِكُمْ﴾ العذابُ النازل بكم ﴿بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ﴾ أي: بسبب اتخاذكم.
﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾ القرآنَ ﴿هُزُوًا﴾ استهزأتم بها. قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (اتَّخَذْتُمْ) بإظهار الذال عند التاء، والباقون: بالإدغام، وقرأ حفص: (هُزُوًا) بإبدال الهمزة واوًا، والباقون: بالهمز (١).
﴿وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ حتى قلتم: لا بعثَ ولا حساب.
﴿فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (يَخْرُجُونَ) بفتح الياء وضم الراء، والباقون: بضم الياء وفتح الراء (٢).
﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ لا يطلب منهم أن يُعتبوا ربهم؛ أي: يُرضوه بالطاعة؛ لأنه لا عذر في ذلك اليوم ولا توبة.
...
﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ تحميدٌ لله، وتحقيق لألوهيته، وفي ذلك كسر لأمر الأصنام.
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٥٥١)، و "معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٥٨).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٥)، و "تفسير البغوي" (٤/ ١٢٩)، و "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٦٧ - ٢٦٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ١٥٨).
﴿وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ﴾ العظمة ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إذ ظهر فيهما آثارها.
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الغالب ﴿الْحَكِيمُ﴾ فيما قضى.
وفي الحديث الشريف: يقول الله تعالى: "الكبرياءُ ردائي، والعَظَمة إزاري، فمن نازعني شيئًا منهما، قَصَمْتُه" (١)، والله أعلم.
(١) رواه أبو داود (٤٠٩٠)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في الكبر، وابن ماجه (٤١٧٤)، كتاب: الزهد، باب: البراءة من الكبر والتواضع، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ورواه مسلم (٢٦٢٠)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الكبر، من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما بلفظ: "العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته".
Icon