ﰡ
وقِيْلَ : الشاهدُ جميع الأنبياءِ كما قال تعالى :﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ﴾[النحل : ٨٤] والمشهودُ جميعُ الأُمَم. ويقال : الشاهدُ يوم الجمُعة، والمشهودُ يومُ عرفَةَ كما قال ﷺ :" خَيْرُ الأَيَّامُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَهُوَ الشَّاهِدُ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ " ويقالُ : الشاهدُ يوم النَّحرِ، والمشهودُ يوم الجمُعةِ.
وقصَّة ذلك ما رُوي : أنَّ رَجُلاً مِنَ النَّصَارَى كَانَ أجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ لِيَعْمَلَ لَهُ عَمَلاً، فَرَأتِ ابْنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ النُّورَ فِي الْبَيْتِ لِقِرَاءَةِ الأَجِيرِ الإنْجِيلَ، فَذكَرَتْ ذلِكَ لأَبيهَا فَرَمَقَهُ حَتَّى رَآهُ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذلِكَ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَلَمْ يَزَلْ بهِ حَتَّى أخْبَرَهُ أنَّهُ عَلَى دِينِ عِيسَى، وَكَانَ ذلِكَ قَبْلَ مَبْعَثِ نَبيِّنَا ﷺ، فَتَابَعَهُ هُوَ وَسَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ إنْسَاناً مِنْ بَيْنِ رَجُلٍ وَامْرَأةٍ.
فَأَخْبَرَ مَلِكَ الْيَهُودِ وَاسْمُهُ يُوسُفُ بْنُ ذِي نُؤَاسٍ الْحِمْيَرِيِّ، فَخَدَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَأوْقَدَ فِيْهِ النَّارَ، وَطَرَحَ فِيهِ النِّفْطَ وَالْقَصَبَ والْقَطِرَانَ، وَعَرَضَهُمْ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ، فَمَنْ أبَى مِنْهُمْ أنْ يَتَهَوَّدَ دَفَعَهُ فِي النَّار، وَمَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِ عِيسَى تَرَكَهُ. وَكَانَ فِي آخِرِهُمْ امْرَأةٌ مَعَهَا صَبيٌّ رَضِيعٌ، فَلَمَّا رَأتِ النَّارَ صَدَّتْ، فَقَالَ لَهَا الصَّبيُّ : يَا أُمَّاهُ قِفِي فَمَا هِيَ إلاَّ غُمَيْضَةٌ، فَصَبَرَتْ فَأُلْقِيَتْ فِي النَّار، وَارْتَفَعَتِ النَّارُ أرْبَعِينَ ذِرَاعاً، فَأَحْرَقَتِ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانوُا حَوْلَ الأُخْدُودِ.
قال ابنُ عبَّاس :(كَانُوا يَطْرَحُونَهُمْ فِي النَّار، فَمَنْ أبَى مِنْهُمْ ضَرَبُوهُ بالسِّيَاطِ حَتَّى ألْقَوْهُمْ جَمِيعاً فِي النَّار، فَأَدْخَلَ اللهُ أرْوَاحَهُمُ الْجَنَّةَ قَبْلَ أنْ تَصِلَ أجْسَامُهُمْ إلَى النَّار).
وعن وهب بن منبه، (أن رجُلاً كان على دينِ عيسى، فوقعَ في نجرانَ فدعاهُم فأجابوهُ، فسارَ إليه ذو نُؤَاسٍ اليهوديِّ بجنُودهِ من حِميَرَ، وخيَّرهم بين النار واليهوديَّة، فخدَّ لهم الأخَادِيدَ وحرَّقَ اثنى عشرَ ألفاً). وقال الكلبيُّ :(كَانَ أصْحَابُ الأُخْدُودِ سَبْعِينَ ألْفاً).
ورُوي : أن اليهودَ لَمَّا ألقوا مَن كان على دينِ عيسى، كان معهم امرأةٌ معَها ثلاثةُ أولادٍ أحدُهم رضيعٌ، فقالَ لها الملِكُ : ارجعِي عن دينكِ وإلاَّ ألقيتُكِ وأولادَكِ في النار. فأَبَتْ. فأخذ ابنَها الأكبرَ فألقاهُ في النار، ثم قالَ لها : ارجعِي عن دينكِ، فَأَبتْ.
فأخذ ابنَها الثانِي فألقاهُ في النار، ثم قالَ لها : ارجعِي عن دينكِ، وأخذ الطفلَ منها ليُلقيَهُ في النار، فهمَّتْ بالرُّجوع عن دينِها، فقال لها الطفلُ : يا أماهُ لا ترجعِي عن الإسلامِ واصبرِي فإنَّكِ على الحقِّ، فأُلقِيَ الطفلُ وأُمُّه في النار، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ﴾ الأخدودُ : هي الْحُفَرُ المشقوقةُ في الأرضِ مستطيلةٌ وجمعها أخَادِيدُ، يقال : خَدَدْتُ في الأرضِ ؛ أي شققتُ فيها حفرةً طويلة، وعن عطيَّة قال :(خَرَجَتْ عُنُقٌ مِنَ النَّار فَأَحْرَقَتِ الْكُفَّارَ عَنْ آخِرِهِمْ).
وفي الآية تنبيهٌ على أنَّ هؤلاءِ الكفَّارَ لو تابُوا بعدَ الكفرِ والقتلِ لقُبلَتْ توبتُهم، وفيه دليلٌ أيضاً على أنَّ الأَولى بالْمُكْرَهِ على الكفرِ أنْ يصبرَ على ما خُوِّفَ به، وإنْ أظهرَ كلمةَ الكُفرِ كالرُّخصة له في ذلك، ولو صبرَ حتى قَُتل كان أعظمَ لأجرهِ، لأنه تعالى أثْنَى على الذين قُتلوا في الأخدودِ، وبيَّن أن لهم جناتٍ تجري من تحتها الأنْهارُ، قال الله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾؟
قرأ نافعُ (مَحْفُوظٌ) بضمِّ الظاء، نعتُ القرآنِ، وقرأ الباقون بالخفضِ على نعت اللُّوح، فمَن جعلَ قولَهُ تعالى ﴿ مَّحْفُوظٍ ﴾ للقرآنِ فمعناهُ محفوظٌ من الزِّيادة والنُّقصان والتبديلِ والتغيُّر ؛ لأنه معجِزٌ لا يقدرُ أحدٌ أن يزيدَ فيهن وعن ابنِ عبَّاس أنه قال :((إنَّ فِي صَدْر اللَّوْحِ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَدِينُهُ الإسْلاَمُ، وَمُحَمَّدٌ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَمَنْ آمَنَ باللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَدَّقَ وَعَبَدَهُ وَاتَّبَعَ رَسُولَهُ، أدْخَلَهُ الْجَنَّةَ)).
قال :((وَاللَّوْحُ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، طُولُهَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَعَرْضُهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِب، حَافَّتَاهُ الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ، وَدَفَّتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ، قَلَمُهُ نُورٌ وَكَلاَمُهُ نُورٌ مَعْقُودٌ بالْعَرْشِ، وَأصْلُهُ فِي حِجْرِ مَلَكٍ مَحْفُوظٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ))، وبالله التوفيقُ.