تفسير سورة العاديات

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة العاديات من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
وهي مكية في قول جماعة من أهل العلم، وقال المهدوي عن أنس بن مالك : هي مدنية١.
١ في القرطبي أنها مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء، ومدنية في قول ابن عباس وأنس ومالك وقتادة. وذكر ذلك أيضا أبو حيان في البحر المحيط والشوكاني في فتح القدير..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة العاديات
وهي مكية في قول جماعة من أهل العلم، وقال المهدوي عن أنس بن مالك: وهي مدنية.
قوله عز وجل:
[سورة العاديات (١٠٠) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)
اختلف الناس في المراد: ب الْعادِياتِ، فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة: أراد الخيل لأنها تعدو بالفرسان وتصيح بأصواتها، قال بعضهم: وسببها أن رسول الله ﷺ بعث خيلا إلى بني كنانة سرية فأبطأ أمرها عليه حتى أرجف بهم بعض المنافقين، فنزلت الآية معلمة أن خيله عليه السلام قد فعلت جميع ما في الآية، وقال آخرون: القسم هو بالخيل جملة لأنها تعدو ضابحة قديما وحديثا، وهي حاصرة البلاد وهادمة الممالك، وفي نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وإبراهيم وعبيد بن عمير: الْعادِياتِ في هذه الآية: الإبل لأنها تضبح في عدوها، قال علي: والقسم بالإبل العاديات من عرفة ومن مزدلفة إذا وقع الحاج وبإبل غزوة بدر فإنه لم يكن في الغزوة غير فرسين: فرس المقداد وفرس الزبير بن العوام، والضبح: تصويت جهير عند العدو الشديد ليس بصهيل ولا رغاء ولا نباح، بل هو غير المعتاد من صوت الحيوان الذي يضبح. وحكي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ليس يضبح من الحيوان غير الخيل والكلاب، وهذا عندي لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنه، وذلك أن الإبل تضبح والأسود من الحيات والبوم والصدى والأرنب والثعلب، والقوس هذه كلها قد استعملت لها العرب الضبح، وأنشد أبو حنيفة في صفة قوس: [الرجز]
حنانة من نشم أو تالب تضبح في الكف ضباح الثعلب
والظاهر في الآية، أن القسم بالخيل أو بالإبل أو بهما، قوله تعالى: فَالْمُورِياتِ قَدْحاً قال علي بن أبي طالب وابن مسعود: هي الإبل، وذلك أنها في عدوها ترجم الحصى بالحصى فيتطاير منه النار فذلك القدح. قال ابن عباس: هي الخيل، وذلك بحوافرها في الحجارة وذلك معروف. وقال عكرمة:
513
الموريات قَدْحاً: هي الألسن، فهذا على الاستعارة أي ببيانها تقدح الحجج وتظهرها. وقال مجاهد:
الموريات قَدْحاً، يريد به مكر الرجال، وقال قتادة: «الموريات»، الخيل تشعل الحرب، فهذا أيضا على الاستعارة البينة، وقال ابن عباس أيضا وجماعة من العلماء: الكلام عام يدخل في القسم كل من يظهر بقدحه نارا، وذلك شائع في الأمم طول الدهر وهو نفع عظيم من الله تعالى، وقد وقف عليه في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ [الواقعة: ٧١] معناه: تظهرون بالقدح، قال عدي بن زيد:
[الخفيف]
فقدحنا زنادا وورينا فوق جرثومة من الأرض نار
وقوله تعالى: فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً قال علي وابن مسعود: هي الإبل من مزدلفة إلى منى أو في بدر، والعرب تقول: أغار إذا عدا جريا ونحوه، وقال ابن عباس وجماعة كثيرة: هي الخيل واللفظة من الغارة في سبيل الله وغير ذلك من سير الأمم، وعرف الغارات أنها مع الصباح لأنها تسري ليلة الغارة والنقع: الغبار الساطع المثار، وقرأ أبو حيوة: «فأثّرن» بشد الثاء، والضمير في: بِهِ ظاهر أنه للصبح المذكور، ويحتمل أن يكون للمكان والموضع الذي يقتضيه المعنى وإن كان لم يجر له ذكر، ولهذا أمثلة كثيرة، ومشهورة إثارة النقع هو للخيل ومنه قول الشاعر [البسيط]
يخرجن من مستطير النقع دامية كأن آذانها أطراف أقلام
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو هنا الإبل تثير النقع بأخفافها، وقوله تعالى: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً قال ابن عباس وعلي: هي الإبل، وجَمْعاً: هي المزدلفة، وقال ابن عباس: هي الخيل، والمراد جمع من الناس هم المغيرون، وقرأ علي بن أبي طالب وقتادة وابن أبي ليلى: «فوسّطن» بشد السين. وقال بشر بن أبي حازم: [الكامل]
فوسطن جمعهم وأفلت حاجب تحت العجاجة في الغبار الأقتم
وذكر الطبري عن زيد بن أسلم: أنه كان يكره تفسير هذه الألفاظ، ويقول: هو قسم أقسم الله به، وجمهور الأمة وعلماؤها مفسرون لها كما ذكرنا، والقسم واقع على قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «أتدرون ما الكنود؟ قالوا لا يا رسول الله، قال: هو الكفور الذي يأكل وحده ويمنع رفده، ويضرب عبده». وقد يكون من المؤمنين الكفور بالنعمة، فتقدير الآية: إن الإنسان لنعمة ربه لكنود، وأرض كنود لا تنبت شيئا، وقال الحسن بن أبي الحسن: الكنود اللائم لربه الذي يعد السيئات وينسى الحسنات، والكنود العاصي بلغة كندة، ويقال للخيل كنود، وقال أبو زبيد: [الخفيف]
إن تفتني فلم أطب بك نفسا غير أني أمنى بدهر كنود
وقال الفضيل: الكنود الذي تنسيه سيئة واحدة حسنات كثيرة ويعامل الله على عقد عوض، وقوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ يحتمل الضمير أن يعود على الله تعالى، وقاله قتادة: أي وربه شاهد عليه، وتفسير هذا الخبر يقتضي الشهادة بذلك، ويحتمل أن يعود على «الإنسان» أي أفعاله وأقواله وحاله
514
المعلومة من هذه الأخلاق تشهد عليه، فهو شاهد على نفسه بذلك، وهذا قول الحسن ومجاهد، والضمير في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ عائد على «الإنسان» لا غير، والمعنى من أجل حب الخير إنه لَشَدِيدٌ، أي بخيل بالمال ضابط له، ومنه قول الشاعر [طرفة بن العبد] :[الطويل]
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
والْخَيْرُ المال على عرف ذلك في كتاب الله تعالى، قال عكرمة: الْخَيْرُ حيث وقع في القرآن فهو المال، ويحتمل أن يراد هنا الخير الدنياوي من مال وصحة وجاه عند الملوك ونحوه، لأن الكفار والجهال لا يعرفون غير ذلك، فأما المحب في خير الآخرة فممدوح له مرجو له الفوز وقوله تعالى: أَفَلا يَعْلَمُ، توقيف على المال والمصير أي أفلا يعلم مآله فيستعد له، و «بعثرة ما في القبور» : تقصيه مما يستره والبحث عنه، وهذه عبارة عن البحث، وفي مصحف ابن مسعود: «بحث ما في القبور»، وفي حرف أبي:
«وبحثرت القبور»، و «تحصيل ما في الصدور» : تمييزه وكشفه ليقع الجزاء عليه من إيمان وكفر ونية، ويفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يبعث الناس يوم القيامة على نياتهم»، وقرأ يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم: بفتح الحاء والصاد، ثم استؤنف في الخبر الصادق، الجزم بأن الله تعالى خبير بهم يَوْمَئِذٍ، لكن خصص يَوْمَئِذٍ لأنه يوم المجازاة، فإليه طمحت النفوس، وهذا وعيد مصرح.
نجز تفسير سورة «العاديات».
515
Icon