ﰡ
مكية إلا قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ نزلت فى نبهان التمار بالمدينة، وهى مائة وثلاث وعشرون آية. ووجه المناسبة لما قبلها: قوله تعالى: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ «١» وهو كتاب أحكمت آياته.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الر.
[سورة هود (١١) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥)
قال فى القوت، فى تفسير الر: هذه ثلاثة أسماء: (الله، لطيف، رحيم). وقيل: هى حرف من اسم الرحمن.
قلت: أو مختصرة من الرسول خطابا للنبى صلّى الله عليه وسلّم. ويمكن أن يشير بالحروف للعوالم الثلاثة فالألف لوحدة الجبروت، واللام لتدفق أنوار الملكوت، والراء لسريان أمداد الرحموت فى سائر الموجودات، وأعظمها وعنصرها:
نزول الكتاب العزيز. ولذلك بدأ بذكره، فقال:
الر كِتابٌ...
قلت: (كتاب) : خبر، أي: هذا كتاب. و (أحكمت) : صفة. و (من لدن) : خبر ثان، أو خبر «كتاب» إن جعل مبتدأ، أو صفة له، إن كان خبراً. و (أَلاَّ تعبدوا) :«أن» : مفسرة، أو مصدرية في موضع مفعول لأجله، أو بدل من الآيات، أو مستأنف. و (أن استغفروا) : عطف عليه. و (حين) : متعلق بمحذوف، أي: ألا إنهم يثنونها حين يستغشون... الخ. و (يعلم) : استئناف لبيان النقض عليهم.
يقول الحق جلّ جلاله: أيها الرسول المصطفى، هذا الذي تقرؤه كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ أتقنت، ونظمت نظماً محكماً، لا يعتريه خلل من جهة اللفظ ولا المعنى، أو أحكمت من النسخ بشريعة أخرى، أو أحكمت
قائلاً ذلك الكتاب: ألا تعبدوا معه غيره. وقال في القوت: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ يعني: بالتوحيد، ثُمَّ فُصِّلَتْ أي: بالوعد والوعيد. ثم قال: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ أي: بالإحكام للأحكام، خَبِيرٍ بالتفصيل للحلال والحرام. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ هذا هو التوحيد الذي أحكمه. إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ بالعذاب، وَبَشِيرٌ بالثواب لمن آمن به. هذا هو الوعد والوعيد. قال البيضاوي: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ أي: من الله، (نذير وبشير) بالعقاب على الشرك والثواب على التوحيد. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ: عطف على «ألاَّ تعبدوا»، ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ثم توصلوا إلى مطلبكم بالتوبة فإن المعرض عن طريق الحق لا بد له من رجوع. وقيل: استغفروا من الشرك، ثم توبوا إليه بالطاعة، ويجوز أن يكون «ثم» : للتفاوت بين الأمرين. هـ.
قال ابن جزي: (استغفروا ربكم) مما تقدم من الشرك والمعاصي، ثم ارجعوا إليه بالطاعة والاستقامة. هـ.
وقال الواحدي: (استغفروا ربكم) من ذنوبكم السابقة، (ثم توبوا إليه) من المستأنفة متى وقعت. هـ. يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً يحييكم حياة طيبة بالأرزاق والنعم والخيرات، فتعيشوا في أمن ودعة. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى تمام أجلكم، فلا يستأصلكم بالعذاب، أو يمتعكم بالرجاء فيه والرضا بقضائه لأن الكافر قد يمتع بالأرزاق في الدنيا استدراجاً، وَيُؤْتِ في الآخرة كُلَّ ذِي فَضْلٍ عمل صالحاً، فَضْلَهُ أي: جزاء فضله، فيوفى ثواب عمله، أو يعطي كل ذي فضل في دينه جزاء فضله في الدنيا والآخرة. وهو وعد للمؤمن التائب بخير الدارين.
وَإِنْ تَوَلَّوْا أي: وإن تتولوا عما أمرتكم به، فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ يوم القيامة، أو يوم الشدة بالقحط والجوع، وقد نزل بهم حتى أكلوا الجيف. أو يوم بدر إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ أي: رجوعكم في ذلك اليوم الكبير، أو بالموت، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على بعثهم وعذابهم أشد العذاب. وكأنه تقرير لكبر اليوم.
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يلوونها عن الحق وينحرفون عنه، أو يعطفونها على الكفر وعداوة النبي صلى الله عليه وسلّم، أو يولون ظهورهم إلى النبي صلى الله عليه وسلّم لئلا يروه من شدة البغض والعداوة، لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أي: من الرسول- عليه الصلاة والسلام- أو: من الله بسرهم، فلا يطلع رسوله والمؤمنين عليه. قيل: إنها نزلت في طائفة من المشركين، قالوا: إن أرخينا ستورنا، واستغشينا ثيابنا، وطوينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلّم كيف يعلم ذلك؟
وقوله: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ: يحتمل أن يكون عند النوم، فيكون الإثناء عن الحق، أو عن الله، أو عند مواجهة الرسول، فيكون الإثناء عن رؤيته- عليه الصلاة السلام، أو عن سماع القرآن. قال تعالى: يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ في قلوبهم، وَما يُعْلِنُونَ بأفواههم، - فقد استوى في علمه سرهم وعلانيتهم، فكيف يخفى عليه أمرهم واستخفاؤهم منه؟ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بالأسرار صاحبة الصدور، أو بحقائق الصدور وما احتوت عليه.
الإشارة: يقول الحق جلّ جلاله: هذا كتاب أحكمت آياته بالتعريف بالذات، ثم فصلت ببيان الصفات، أو:
أحكمت بتبيين الحقائق، ثم فصلت بتبيين الشرائع. أو: أحكمت ببيان ما يتعلق بعالم الأرواح من التعريف، ثم فصلت ببيان ما يتعلق بعالم الأشباح من التكليف، أو: أحكمت ببيان أسرار الملكوت، ثم فصلت ببيان أحكام الملك. ثم بيَّن ما يتعلق بالذات فقال: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وبيَّن ما يتعلق بالصفات من التفصيل فقال: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه)، أو: بيَّن ما يتعلق بالحقائق، ثم ما يتعلق بالشرائع، وهكذا. فإن جمعتم بين الحقائق والشرائع يمتعكم متاعاً حسناً بشهود ذاته، والتنزه في أنوار صفاته، إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى، وهو: النزول في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ويؤت كل ذي فضل من المعرفة جزاء فضله من الشهود، فمن تولى عن هذا خاف من عذاب يوم كبير، وهو: غم الحجاب، والتخلف عن الأحباب. ثم عاتب أهل الشهود حيث تركوا مقام المشاهدة وتنزلوا إلى مقام المراقبة، بقوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم... ) الآية.
ثم بيّن كمال علمه تكميلا لقوله: (يعلم ما يُسرون وما يعلنون)، فقال:
[سورة هود (١١) : آية ٦]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ أي: كل ما يدب عليها عاقلاً أو غيره، إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها غذاؤها ومعاشها لتكفله إياه بذلك تفضلاً وإحساناً. وإنما أتى بعلى التي تقتضي الوجوب تحقيقاً لوصوله، وتهييجاً على التوكل وقطع الوساوس فيه، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها أماكنها في الحياة والممات، أو الأصلاب والأرحام. أو: مستقرها في الأرض بعد وجودها، ومستودعها: موادها قبل إيجادها. أو بالعكس: مستقرها: موادها في العلم قبل الظهور، ومستودعها: إقامتها في الدنيا بعد الوجود. كُلٌّ واحد من الدواب على اختلاف أجناسها وأصنافها فِي كِتابٍ مُبِينٍ مذكور في اللوح المحفوظ، أو في العلم القديم المبين للأشياء، قال البيضاوي: وكأنه أريد بالآية كونه عالماً بالمعلومات كلها، وبما بعدها بيان كونه قادراً على الممكنات بأسرها، تقريراً للتوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد. هـ.
واعلم ان الرزق على قسمين: رزق الأرواح، ورزق الأشباح. فرزق الأرواح معنوي، وهو: قوت الروح من المعرفة وعلم اليقين. ورزق الأشباح حسي، وهو: الطعام والشراب. وقد تكفل الله بالأمرين معاً، وأمر بالتسبب فيهما، قياماً برسم الحكمة. فالتكفل حقيقة، والتسبب شريعة، فالعامة اشتغلوا بالتسبب في الرزق الحسي والبحث عنه، ولم يعبأوا بالرزق المعنوي، ولا عرفوه من شدة إعراضهم عنه، مع أنهم لو فقدوا الرزق المعنوي لماتت أرواحهم. والخاصة اشتغلوا بالتسبب في الرزق المعنوي والبحث عنه، ولم يعبأوا بالرزق الحسي من شدة إعراضهم عنه، مع أنهم لو فقدوا الرزق الحسي لهلكت أشباحهم. وخاصة الخاصة يتسببون في الرزق الحسي والمعنوي، وليس هم مع إرادتهم في واحد منهما، وإنما هم أبداً مع إرادة مولاهم راتِعين أبداً، حيث دفعتهم إرادة سيدهم في الحسي أو في المعنوي من غير تبرم ولا التفات لغيره، كما قال القائل «١».
آرَانِي كالآلات وَهو مُحَرَّكي | أَنَا قَلَمٌ، والاقتِدارُ أصَابِعُ |
قد انمحت إرادتهم في إرادة الله، فصارت إرادتهم إرادة الله، وفعلهم فعله. وهذا المقام يقال له: التمكين بالتلوين.
هـ. قاله شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل العمراني رضى الله عنه في كتابه، نفعنا الله بهم جميعاً.
قوله تعالى: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها أي: يعلم مستقرها في العلم، ومستودعها في العمل، أو مستقرها في الحال، ومستودعها في المقام، أو مستقرها في الفناء، ومستودعها في البقاء، أو مستقرها في التلوين ومستودعها في التمكين، أو مستقرها في عالم الأشباح، ومستودعها في عالم الأرواح. وأنشدوا:
كُلُّ شَيْءٍ سَمِعْتَهُ أو تَرَاه | فَهوَ للقبضتين يُشيرُ |
ضع قميصي عن العيون ترى ما | غاب عنك فقد أتاك البشير |
فالحس رداء للمعاني. وسماه هنا قميصاً لأنه يستر كالرداء، فإذا رفع القميص عن عُيون البصيرة رأت ما غاب عنها من أنوار الملكوت وأسرار الجبروت، وهذا معنى قوله: ضع قميصي عن العيون. إلخ... وَرَفْعُ حجاب المعنى عن البصيرة هو بشير الولاية وعنوانها. والله تعالى أعلم.
ولما بيّن كمال علمه ذكر كمال قدرته، فقال:
[سورة هود (١١) : آية ٧]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
يقول الحق جلّ جلاله: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وما بينهما وما فيهما فِي مقدار سِتَّةِ أَيَّامٍ من أيام الدنيا، أو خلق العالم العلوي والسفلي في مقدار ذلك. وجمع السموات دون الأرض لاختلاف العلويات بالأصل والذات دون السفليات. وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قيل: لم يكن بينهما حائل، وكان موضوعاً على متن الماء. واستدل به على إمكان الخلاء، وعلى أن الماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم. وقيل: كان الماء على متن الريح. والله أعلم بذلك. قاله البيضاوي.
قلت: الخلاء هو الفضاء الخارج عن دائرة الأكوان. وهو عند المتكلمين من جملة الممكنات، ووجه الاستدلال من الآية على إمكانه: أن العرش والماء لما كانا محصورين لزم أن يكون ما خرج عنهما خلاء، وكل ما سوى الله فهو ممكن. وعند الصوفية: هو أسرار الذات الأزلية الجبروتية، كما أن الأكوان هي أنوار الصفات الملكوتية، ولا شيء معه، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. ونقل بعض أهل التاريخ: إنّ اللهَ تعالى خَلَقَ بعد العرش ياقوته صفراء، ذكروا من عظمتها وسعتها، ثم نظر إليها، فذابت من هيبته، فصارت ماء، فكان العرش مرتفعاً فوقها، ثم اضطرب ذلك الماء، فعلته زبدة، خلق منها الأرض، ثم ارتفع من الماء دخان خلق منه السموات «١». هـ.
خلق ذلك لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي: ليختبركمْ اختباراً تقوم به الحجة عليكم، أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا بالزهد في هذا العالم الفاني، وتعلق الهمه بالعالم الباقي قال البيضاوي: أي: يعاملكم معاملة المبتلى لأحوالكم، كيف تعملون؟ فإن جملة ذلك أسباب ومواد لوجودكم ومعاشكم، وما تحتاج إليه أعمالكم، ودلائل
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. الآية ٥١ من سورة الكهف.
«أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله.» والمعنى: أكمل علماً وعملاً. هـ.
قال المحشي: ويتجه كون المعنى: أيكم أكثر شكراً لله على تمهيد تلك المنافع والمصالح. والشكر يشمل الطاعات القلبية والبدنية. ويحتمل أنه كآية: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «١». وأن بقاء الدنيا وخلقها إنما هو للتكليف، فإذا لم يبق في الأرض مَن يعبد الله انقضت الدنيا، وجاءت الساعة، كما تقتضيه الأحاديث الصحاح «٢» والمتبادر ما قدمناه، وحاصله: أنه خلق الأشياء من أجل ابن آدم، ولتدله على خالقه فيجني بها ثمار معرفته تعالى، ويعترف بشكره، وإفراد عبادته. وقد جاء. «خلقت الأشياء من أجلك وخلقتك من أجلي».
قلت: فيكون المعنى: هو الذي أظهر الوجود من عرشه إلى فرشه، ليختبركم أيكم أحسن عملاً بالاشتغال بالله، والعكوف في حضرته دون الوقوف مع ظاهر الكون، والاشتغال بحسه، مع كونه خُلق من أجله. ثم قال: وقوله تعالى: (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ... ) الآية، هو: تنبيه على أن إنكار الكفار للبعث بعد إقرارهم بأن الله تعالى خالق العالم، الذي هو أعظم من البعث، تناقض منهم لأن إقرارهم بقدرته على الأكبر، ثم إنكارهم لما هو أيسر تناقض هـ أي: ولئن ذكرت لهم البعث بعد الموت لقالوا ما هذا إلا سحر ظاهر. أي: ما البعث أو القول به، أو القرآن المتضمن لذكره إلا كالسحر في الخديعة أو البطلان. وقرأ حمزة ساحر أي: القائل بهذا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في صحيح البخاري قال صلّى الله عليه وسلّم: «كان الله ولا شيء مَعه، وكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء» الحديث.
فأخبر صلّى الله عليه وسلّم أن الحق جل جلاله كان في أزله لا شيء معه، ثم أظهر الأشياء من نوره بنوره لنوره، فهو الآن على ما كان عليه. وعن أبي رَزِينٍ: قلنا: يا رسول الله! أين كان ربُّنَا قَبْل أنْ يَخْلُقَ خَلقَهُ؟ قال: «كَان في عَمَاءٍ ما فَوْقَه هَوَاءٌ، ومَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ، وخَلَق عَرشَه عَلَى المَاءِ» «٣» والعماء هو: الخفاء، قال تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ «٤»، أي: خفيت. ويقال للسحاب عماء لأنه يخفى ما فيه، وقال الششتري: في المقاليد «٥» : كان في عمّى، ما فوقه هواء وما تحته هواء. هي الوحدة المُصْمتة الصّمدية، البحر الطامس «٦» الذي هو الأزل والأبد، فلم يكن موجود غير الوجود الذي هو هو. هـ.
(٢) ومنها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض: الله الله». أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، باب ذهاب الإيمان آخر الزمان).
(٣) أخرجه الترمذي فى سننه، (كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة هود)، وحسنه. وأخرجه ابن ماجه (المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية). قلت: وهذا من حديث الصفات. نؤمن به ونكل علمه إلى الله تعالى.
(٤) من الآية: ٦٦ من سورة القصص.
(٥) اسمه كاملا: المقاليد الوجودية فى أسرار الصوفية.
(٦) يقال: طريق طامس، أي: بعيد لا مسلك فيه.
صفاءٌ ولا ماءٌ، ولُطفٌ ولاَ هواً | ونورٌ ولا نارٌ، وروحٌ ولا جِسمٌ |
تَقَدَّمَ كلَّ الكائنات حديثُها | قديماً ولا شكلٌ هناك، ولا رَسْم |
وقامت بها الأشياءُ ثمَّ لحكمَةِ | بها احتَجَبَت عن كلّ من لا له فَهْمُ |
هو العرش والكرسىّ والمَنْظَرُ البهي | هو السِّدرةُ التي إِليهَا المَرَاجعُ |
هُوَ المُوجِدُ الأَشْيَاءِ وهو وجودها | وعين ذوات الكُلّ وهْوَ الجَوَامعُ |
فَأوْصَافُهُ والاسْمُ والأثَرُ الذي | هُو الكَونُ عَيْنُ الذَّات والله جَامِعُ |
وإن لَمْ ترَ الهلالَ فسَلِّم | لأناس رَأوْهُ بالأبْصارِ |
[سورة هود (١١) : آية ٨]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨)
قلت: (يوم) : معمول لخبر ليس، وهو دليل جواز تقديمة إن كان ظرفاً.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ الموعود في الدنيا، أو في الآخرة، إِلى أُمَّةٍ أي: أوقات معدودة قلائل، لَيَقُولُنَّ استهزاء: ما يَحْبِسُهُ؟ أي: ما يمنعه من الوقوع الآن؟ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ وينزل بهم كيوم بدر، أو يوم القيامة لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ليس مدفوعاً عنهم حين ينزل بهم، وَحاقَ نزل وأحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ، وضع الماضي موضع الاستقبال تحقيقاً للوقوع، ومبالغة في التهديد.
الإشارة: إمهال العاصي ليس بإهمال له فإن الله تعالى يمهل ولا يهمل. فإمهاله إما استدراج، أو انتظار لتوبته، فليبادر العبد بالتوبة قبل الفوات، وبالعمل الصالح قبل الممات. فما أبعد ما فات، وما أقرب ما هو آت، وبالله التوفيق.
ومما وقع به الاختبار: الوقوف مع النعم دون شهود المنعم، كما أبان ذلك بقوله:
[سورة هود (١١) : الآيات ٩ الى ١١]
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)
قلت: (ولئن) : شرط وقسم، ذكر جواب القسم، واستغنى به عن جواب الشرط.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أي: أعطيناه نعمة يجد لذتها. ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ أي: سلبنا تلك النعمة منه إِنَّهُ لَيَؤُسٌ قنوط، حيث قلَّ رجاؤه من فضل الله لقلة صبره، وعدم ثقته بربه، كَفُورٌ: مبالغ في كفران ما سلف له من النعم، كأنه لم ير نعمة قط. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ كصحة بعد سقم، وغنى بعد فقر، أو علم بعد جهل، لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ. أي: المصائب التي مستثنى، عَنِّي، ونسي مقام الشكر. إِنَّهُ لَفَرِحٌ أي: بطر متعزز بها، فَخُورٌ على الناس، متكبر بها، مشغول بذلك عن شكرها، والقيام بحقها. قال البيضاوي: وفي لفظ الإذاقة والمس تنبيه على أن ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا على الضراء إيماناً بالله، واستسلاماً لقضائه، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ شكراً لآلائه، سابقها ولا حقها، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم، وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أقلة الجنة، وغايته النظرة. والاستثناء مِن الإنسان لأنَّ المراد به الجنس. ومن حمله على الكافر- لسبق ذكرهم- جعله منقطعاً. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للعبد أن يكون شاكراً للنعم، صابراً عند النقم، واقفاً مع المنعم دون النعم. إن ذهبت من يدة نعمة رَجَى رجوعها، وإن أصابته نقمة انتظر انصرافها. والحاصل: أنه يكون عبد الله في جميع الحالات.
حُكي أن سيدنا موسى عليه السلام قال: يا رب دلني على عمل إذا عملته رضيت عني. قال: إنك لا تطيق ذلك، فخر موسى ساجداً متضرعاً، فقال: يا ابن عمران إن رضاي في رضائك بقضائي. هـ. وقال ابن عباس- رضى الله عنه- أول شيء كتبه الله في اللوح المحفوظ: أنا اللهُ لا إِله إلاّ أنا، محمد رسولي، فمن استسلم لقضائي، وصبر على بلائي، وشكر نعمائي، كتبته صديقاً، وبعثته مع الصديقين، ومن لم يستسلم لقضائي، ولم يَصْبِرْ على بَلائِي، ولم يشكر نعمائي، فليتخذ رباً سوائي. هـ. ورُوي عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: ثلاث من رزقهن رزق خير الدنيا والآخرة:
الرضا بالقضاء، والصبر على الأذى، والدعاء في الرخاء. هـ.
من جملة الأذى: التكذيب والإنكار، كما أبان ذلك بقوله تعالى لنبيه- عليه الصلاة والسلام-:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢ الى ١٤]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)
يقول الحق جلّ جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلّم: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ، فلا تبلغه وهو ما فيه تشديد على المشركين، مخافة ردهم واستهزائهم به. ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه. فالعصمة مانعة من ذلك. فالرسول- عليه الصلاة والسلام- لم يترك شيئاً من الوحي إلا بلغه، ولكن الحق تعالى شجعه وحرضه على التبليغ في المستقبل. ولو قوبل بالإنكار.
ضائِقٌ ليدل على اتساع صدره صلّى الله عليه وسلّم، وقلة ضيقه في الحال. إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، ولا عليك، ردوا أو اقترحوا، فلا يضيق صدرك بذلك. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ فتوكل عليه، فإنه عالم بحالهم ومجازيهم على أقوالهم وأفعالهم.
أَمْ بل يَقُولُونَ افْتَراهُ أي: ما يوحى إليه، قُلْ لهم: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ في البيان وحسن النظم. تحداهم أولاً بعشر سور، فلما عجزوا سهل الأمر عليهم وتحداهم بسورة. وتوحيد المثل باعتبار كل واحد. مُفْتَرَياتٍ مختلقات من عند أنفسكم، إن صح أني اختلقته من عند نفسي فإنكم عرب فصحاء مثلي.
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ للمعاونه على المعارضة، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه مفترى. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فإن عجزوا عن الإتيان، فَاعْلَمُوا أيها الرسول والمؤمنون أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ بإذنه، أو بما لا يعلمه إلا الله من الغيوب. والمعنى: دوموا على إيمانكم، وزيدوا يقيناً فيه.
قال البيضاوي: وجمع الضمير إما لتعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو لأن المؤمنين كانوا يتحدونهم، فكان أمر الرسول- عليه الصلاة والسلام- متناولاً لهم من حيث إنه يجب اتباعه عليهم في كل أمر إلا ما خصّه الدليل. أو للتنبيه على أن التحدي مما يوجب رسوخ إيمانهم وقوة يقينهم. ولذلك رتب عليه قوله: فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله، لأنه العالم والقادر بما لا يعلم ولا يقدر عليه غيره. وَأَنْ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ لظهور عجز آلهتهم. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟ ثابتون على الإسلام، راسخون مخلصون فيه، إذا تحقق عندكم إعجازه مطلقاً.
ويجوز أن يكون الكل خطاباً للمشركين، والضمير في يَسْتَجِيبُوا لمن استطعتم، أي: فإن لم يستجيبوا لكم، أي: من استعنتم به على المعارضة لعجزهم، وقد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعارضة، فَاعْلَمُوا أنه نظم لا يعلمه إلا الله وأنه منزل من عنده، وأن ما دعاكم إليه من التوحيد حق، فهل أنتم داخلون في الإسلام بعد قيام الحجة القاطعة؟ وفي مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب، والتنبيه على قيام الموجب، وزوال العذر. هـ. وقال في الوجيز: فإن لم يستجيبوا لكم من تدعون إلى المعاونة، ولا تهيأ لكم المعارضة، فقد قامت عليكم الحجة، فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أي: أنزل والله عالم بإنزاله، وعالم أنه من عنده، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟ استفهام، معناه الأمر، كقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «١». هـ.
ولا ينفع الوعظ والإنذار إن كانت همته كلها مصروفة للدنيا، كما قال تعالى:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٥ الى ١٦]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)
قلت: «ما صنعوا فيها» : الضمير يعود على الدنيا، والظرف يتعلق بصنعوا. أو يعود على الآخرة، ويتعلق الظرف بحبط، أي: حبط في الآخرة ما صنعوا من الأعمال في الدنيا.
يقول الحق جلّ جلاله: مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها، فكان إحسانه وبره رياء وسمعَة، نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها أي: نوصل إليهم جزاء أعمالهم في الدنيا، من الصحة والرئاسة، وسعة الأرزاق، وينالُون ما قصدوا من حمد الناس، وإحسانهم وبرهم، وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ لا يُنقصون شيئاً من أجورهم، فيحتمل: أن تكون الآية نزلت في أهل الرياء من المؤمنين الذين يراؤون بأعمالهم كما ورد في حديث الغازي والغني القارئ المرائين، وأنهم أول من تُسعر بهم جهنم. ويحتمل أن تكون نزلت في الكفار، وهو أليق بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ لأنهم استوفوا ما تقتضيه صور أعمالهم الحسنة، وبقيت لهم أوزار العزائم السيئة. وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها أي: في الدنيا، فكل ما صنعوا في الدنيا من الإحسان حبط يوم القيامة لأنهم لم يريدوا به وجه الله. والعمدة في انتظار ثواب الأعمال هو الإخلاص، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لأنه لم تتوفر فيه شروط الصحة التي من جملتها الإخلاص.
الإشارة: في الحديث: «مَنْ كَانَت الدُّنيا هَمَّهُ: فَرَّقَ اللهُ عَلَيْه أمْرَه، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ولَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلا ما قُسِمَ لَهُ. ومَن كَانَتِ الآخرةُ نيته: جَمَعَ اللهُ عليه أمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبه، وأتتْهُ الدُنيَا وهى صاغرة» «٢».
(٢) أخرجه الترمذي فى [صفة القيامة، باب ٣٠] من حديث أنس بن مالك. وابن ماجه: [الزهد، باب الهمّ بالدنيا] من حديث زيد بن ثابت.
ثم ذكر ضد من تقدم، فقال:
[سورة هود (١١) : آية ١٧]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧)
قلت: (أفمن كان) : مبتدأ، والخبر محذوف، أي: كمن كان يريد الدنيا وزينتها.
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ، طريقة واضحة مِنْ رَبِّهِ وهو النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنون، كمن ليس كذلك، ممن همه الدنيا؟! والمراد بالبينة: ما أدرك صحتَه العقلُ والذوقُ، أي: على برهان واضح من ربه، وهو الدليل العقلي والأمر الجلي. أو برهان من الله يدله على الحق والصواب فيما ياتيه ويذره، وَيَتْلُوهُ ويتبع ذلك البرهان- الذي هو دليل العقل، شاهِدٌ مِنْهُ أي: من الله يشهد بصحته، وهو: القرآن، لأنه مصباح البصيرة والقلب فهو يشهد بصحة ما أدركه العقل من البرهان.
وَمِنْ قَبْلِهِ أي: مِن قبل القرآن، كِتابُ مُوسى يعنى: التوراة، فإنها أيضاً متلوة شاهدة بما عليه الرسول ومن تبعه من البينة الواضحة. أو البينة: القرآن، والشاهد: جبريل عليه السلام، أو عَلِيٌّ- كرم الله وجهه-، أو الإنجيل. وهو حسن، لقوله: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى فإن التوراة قبل الإنجيل. قال ابن عطية: وهنا اعتراض وهو أن الضمير فى «قبله» عائد على القرآن، فَلِمَ لَمْ يذكر الإنجيل- وهو قبله- بينه وبين كتاب موسى؟
فالانفصال عنه: أنه خَصَّ التوراة بالذكر لأن الملّتين متفقتان على أنها «١» من عند الله، والإنجيل قد خالف فيها.
فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الكتابين أولى. وهذا كقول الجن: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى «٢». وقول النجاشي: «إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاه واحدة». هـ. وإذا فسرنا الشاهد بالإنجيل سقط الاعتراض.
(٢) من الآية ٣٠ من سورة الأحقاف.
أُولئِكَ أي: من كان على بينة من ربه، يُؤْمِنُونَ بِهِ أي: بالقرآن، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ:
كأهل مكة، ومن تحزب منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ يدخلها لا محالة، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ شك مِنْهُ أي: من ذلك الموعد، أو القرآن، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الثابت وقوعه، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لقلة نظرهم، وإخلال فكرتهم.
الإشارة: لا يكون العبد على بينة من ربه حتى يتحقق فيه أمران، أولهما: التوبة النصوح، والثاني: الزهد التام. فإذا تحقق فيه الأمران كان على بينة من ربه. وهي درجات أولها: بينة ناشئة عن صحيح النظر والاعتبار، وهي لقوم نظروا في الحجج والبراهين العقلية والدلائل السمعية، فأدركوا وجود الحق من طريق الإيمان بالغيب، وهم: أهل الدليل والبرهان. وثانيها: بينة ناشئة عن الرياضات والمجاهدات والاعتزال في الخلوات، فخرقت لهم العوائد الحسيات فرأوا كرامات وخوارق عادات، فأدركوا وجود الحق على وجه التحقيق والبيان، مع رقة الحجاب والوقوف بالباب. وهم: العُبّاد، والزهاد، والصالحون من أهل الجد والاجتهاد. وثالثها: بينة ناشئة عن الذوق والوجدان، والمكاشفة والعيان، وهي لقوم دخلوا في تربية المشايخ، فتأدبوا وتهذبوا، وشربوا خمرة غيبتهم عن حسهم ورسمهم فغابوا عن الأكوان بشهود المكون. فهم يستدلون بالله على غيره. قَدَّّسُوا الحق أن يحتاج إلى دليل، وهؤلاء هم الأفراد وخواص العباد، وإليهم أشار الشاعر بقوله:
الطُّرقُ شَتَّى وطَريقُ الحَقِّ مُقفِرَةٌ | والسَّالكون طَريق الحقّ أَفرادُ |
لا يُعرفُون ولا تُدرَى مَسالِكُهم | فهم على مَهَلٍ يَمشُونَ قُصّادُ |
والنَّاسُ في غفلة عما يراد بِهِم | فَجُلُّهم عَن سَبِيل الحَقِّ رُقَّادُ |
حقيقة يؤيدها ظاهر العلم. هـ.
ثم ذكر وعيد مَن كذّب بها فقال:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٨ الى ٢٤]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)
قلت: (مثلاً) : تمييز.
يقول الحق جلّ جلاله: وَمَنْ أَظْلَمُ أي: لا أحد أظلمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن أسند إليه مالم يقله، وكذب بما أنزله، أو نسب لله ما لا يليق بجلاله. أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ يوم القيامة، بأن يحبسوا فى الموقف، وتعرض عليهم أعمالهم على رؤوس الأشهاد، وَيَقُولُ الْأَشْهادُ من الملائكة والنبيين، أو كل من شهد الموقف: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وهو تهويل عظيم لما يحيق بهم حينئذٍ، لظلمهم بالكذب على الله، ورد الناسَ عن طريق الله.
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دينه، وَيَبْغُونَها عِوَجاً يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب.
أو يبغون أهلها أن يعوجوا عنها بالردة والكفر، أو يطلبون اعوجاجها بالطعن فيها. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أي:
والحال أنهم كافرون بالبعث. وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به.
حين اشتروا عبادة الأصنام بعبادة الله، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
من أن الأصنام تشفع لهم، أو خسروا بما بدلوا وضاع عنهم ما أملوا، فلم يبق لهم سوى الحسرة والندامة. لا جَرَمَ لا شك، أو لا بد أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ: فلا أحد أكثر خسراناً منهم حيث حرموا النعيم المخلد، واستبدلوه بالعذاب المؤيد.
ثم ذكر ضدهم فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا، أي: اطمأنوا أو خشعوا، أو تابوا إِلى رَبِّهِمْ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون.
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ المتقدمين فريق الكافر، وفريق المؤمن: كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، فمثل الكافر كمن جميع بين العمى والصمم، ومثل المؤمن كمن جمع بين السمع والبصر. فالواو لعطف الصفات، ويجوز أن يكون شبه الكافر بمن هو أعمى فقط، وبمن هو أصم فقط، والمؤمن بضدهما، فهو تمثيل للكافرين بمثالين، قاله ابن جزي. وقال البيضاوي: يجوز أن يراد به تشبيه الكافر بالأعمى لتعاميه عن آيات الله، وبالأصم لتصاممه عن استماع كلام الله، وتأبيه عن تدبره معانيه. وتشبيه المؤمن بالسميع والبصير لأن أمره بالضد، فيكون كل منهما مشّبهاً باثنين باعتبار وصفين. أو تشبيه الكافر بالجامع بين العمى والصمم، والمؤمن بالجامع بين ضديهما، والعاطف لعطف الصفة على الصفة، كقوله: فالأيب الصَّابُح فالغانم «١» فهذا من بيان اللف والطباق. هـ. هَلْ يَسْتَوِيانِ: هل يستوي الفريقان؟ مَثَلًا أي: من جهة التمثيل، بل لا استواء بينهما، أَفَلا تَذَكَّرُونَ تتعظون بضرب الأمثال فترجعون عن غيكم.
الإشارة: كل من ترامى على مراتب الرجال، أو ادعى مقاماً من المقامات وهو لم يدركه، يريد بذلك إمالة وجوه الناس إليه، يُفضح يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، ويقال له: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ...
الآية. فكل آية في الكفار تجر ذيلها على عُصاة المؤمنين. وقد تقدم أمارات من كان على بنية من ربه، فمن ادعى مقاماً من تلك المقامات وهو يعلم أنه لم يصله نادت عليه الآية.
فقال:
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧)
قلت: من قرأ: إني بالكسر، فعلى إرادة القول، ومن قرأ بالفتح، فعلى إسقاط الخافض، أي: بأني، و (بادي الرأي) : ظرف ل (اتبعك)، على حذف مضاف أي: وقت حدوث أول رأيهم. وهو من البدء أي: الحدوث، أو من البُدُوِّ، أي: الظهور. أي:
اتبعوك في ظاهر الرأي دون التعمق في النظر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فقال لهم: إِنِّي لَكُمْ، أو بأني لكم نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: بين ظاهر، أو أبين لكم موجبات العذاب، ووجه الخلاص منه، قائلا: أَنْ لاَّ تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، ولا تعبدوا معه غيره، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ مُؤلم، وهو في الحقيقة صفة للعذاب، ووصف به زمانه على طريقة [جَدَّ جَدُّه، ونهاره صائم] للمبالغة.
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا لا مزية لك علينا تخصك بالنبوءة ووجوب الطاعة، وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا أخساؤنا وسُقَّاطنا جمع ارذل. بادِيَ الرَّأْيِ من أول الرأي من غير تفكر ولا تدبر، أي: اتبعك هؤلاء بادي الرأي من غير ترو. أو ظاهراً رأيهم خفيفاً عقلهم. وإنما استرذلوهم، لأجل فقرهم، جهلاً منهم، واعتقاداً أن الشرف هو المال والجاه. وليس الأمر كذلك. بل الشرف إنما هو بالإيمان والطاعة، ومعرفة الحق. وقيل: إنهم كانوا حاكة وحجامين. وقيل: أراذل في أفعالهم، لقوله: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «١». ثم قالوا: وَما نَرى لَكُمْ أي: لك ولمتبعيك عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ يؤهلكم للنبوءة، واستحقاق المتابعة. بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ أنت في دعوى النبوءة، وهم في دعوى العلم بصدقك. فغلب المخاطب على الغائبين.
ثم أجابهم بقوله:
[سورة هود (١١) : آية ٢٨]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨)
قلت: «أنلزمكموها» : يصح في الضمير الثاني الوصل والفصل لتقدم الأخص.
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ نوح لقومه: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ: أخبروني، إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي على طريقة واضحة من عند ربي، أو حجة واضحة شاهدة بصحة دعواي، وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ النبوة، فَعُمِّيَتْ خفيت عَلَيْكُمْ فلم تهتدوا إليها، أَنُلْزِمُكُمُوها أنكرهكم على الاهتداء بها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ لا تختارونها ولا تتأملون فيها. ولم يؤمر بالجهاد، بل تركهم حتى نزل بهم العذاب.
الإشارة: طريقة أهل التذكير- الذين هم على بينة من ربهم-: أنهم يُذكرون الناس، ولا يكرهون أحداً على الدخول في طريقهم، إذا عميت عليهم. والله تعالى أعلم.
ثم قال:
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠)
يقول الحق جلّ جلاله، حاكياً عن نوح عليه السلام: وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على التبليغ المفهوم من السياق، مالاً: جُعلاً أنتفع به، إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فإنه المأمول منه. ثم طلبوا منه طرد الضعفاء ليجالسوه، فقال لهم: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيخاصموني إن طردتهم، أو: إنهم ملاقوه
أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتعلموا أن التماس طردهم، وتوقيف الإيمان عليه ليس بصواب.
الإشارة: قال القشيري: قوله تعالى: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً، فيه تنبيه للعلماء- الذين هم ورثة الأنبياء أن يتأدبوا بأنبيائهم، وألا يطلبوا من الناس شيئا في بث علومهم، ولا يرتفقوا منهم بتعليمهم، والتذكير لهم، وما ارتفق من المستمعين في بث فائدة يذكر بها من الدين، ويعظ بها المسلمين فلا يبارك الله فيما يُسمعون به عن الله، ولا ينتفعون به، ويحصلون به على سخط من الله هـ «١».
قلت: هذا إن كان له تشوف وتطلع بذلك، بحيث لو لم يُعلم، أو لم يُذكر. وأما إن كان يعلم ويذكر لله، ثم يتصدق عليه لله، فلا بأس به إن شاء الله. وما زالت الأشياخ والأولياء يقبضون زيارات الفقراء، وكل من يأتيهم، ويذكرونهم ويعرفونهم بالله، لأن ذلك ربح للمعطي وتقريب له. وما ربح الناس إلا من فلسهم ونفسهم بذلوها لله، فأغناهم الله. وقد تقدم عند قوله:
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً | «٢» بعض الكلام على هذا المعنى، والله تعالى أعلم. |
[سورة هود (١١) : آية ٣١]
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١)
يقول الحق جلّ جلاله: قال نوح لقومه: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ حتى أنفق منها متى شئت، فأستغني عن مباشرة الأسباب، بل ما أنا إلا بشر، أو لا أدعي ما ليس لي فتنكروا قولي، أي: لا أفوه لكم، ولا أتعاطى غير ما ألهمني الله له، فلست أقول: عندي خزائن الله، أي: القوة التي توجد بها الأشياء بعد عدمها. أو:
عندي خزائن الله التي ينزل منها الأشياء، كالريح والمياه ونحوها، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ «٣» فتبرأ عليه السلام من هذه الدعوى.
(٢) من الآية: ١٠٣ من سورة التوبة.
(٣) من الآية ٢١ من سورة الحجر.
قال البيضاوي: وإسناده إلى الأعين للمبالغة، والتنبيه على أنهم استرذلوهم بادي الرأي من غير روية، مما عاينوه من رثاثة حالهم وقلة منالهم، دون تأمل في معانيهم وكمالاتهم. وقال أيضاً: وإنما استرذلوهم لفقرهم لأنهم لمَّا لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا كان الأحظ «٢» بها أشرف عندهم، والمحروم منها أرذل. هـ.
الإشارة: لا يشترط في وجود الخصوصية ظهور الكرامة فقد تظهر الكرامة على من لم تكمل له الاستقامة، فلا يشترط فيه الاطلاع على خزائن الغيوب، وإنما يشترط فيه التطهير من نقائص العيوب، لا يشترط فيه الإنفاق من الغيب، وإنما يشترط فيه الثقة بما ضمن له في الغيب. والله تعالى أعلم.
ثم استعجلوا العذاب، كما قال تعالى:
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)
قلت: إِنْ أَرَدْتُ: شرط حذف جوابه لتقدم ما يدل عليه، وكذا (إن كان الله يريد أن يُغويكم)، والتقدير: إن كان الله يريد أن يُغويكم لا ينفعكم نصحي إن أردت ان أنصح لكم. أي: فكذلك. فهو من تعليق الشرط، كقولك: إن دخلتِ الدار، إن كلمت زيداً، فأنتِ طالق. فلا تطلق إلا بهما، ثم استأنف: (هو ربكم).
يقول الحق جلّ جلاله: قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا: خاصمتنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا: خصامنا ومخاطبتنا، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب، إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في الدعوى والوعيد، فإن مناظرتك
(٢) فى الأصول: (اللاحظ لها). والمثبت هو الذي فى تفسير البيضاوي.
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أعمالكم.
الإشارة: ينبغي لأهل الوعظ، والتذكير أن لا يملوا- ولو أكثروا- إذا قابلهم الناس بالبعدُ والإنكار، وليقولوا: ولا ينفعكم نصحنا إن أردنا ان ننصحكم إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ...
الآية.
ولما كان المقصود من القصة تسلية رسوله صلّى الله عليه وسلّم خاطبه فى أثنائها بقوله:
[سورة هود (١١) : آية ٣٥]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)
يقول الحق جلّ جلاله: أَمْ يَقُولُونَ أي: كفار قريش: هذا الذي يقرؤه محمد علينا، ويقصه من خبر مَن قبلنا افْتَراهُ من عنده. قُلْ لهم: إِنِ افْتَرَيْتُهُ تقديراً فَعَلَيَّ إِجْرامِي اي: وباله عليَّ دونكم، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ مما ترتكبون من الإجرام بتكذيبكم وكفركم.
الإشارة: ينبغي لمن قوبل بالتكذيب والإنكار أن يكتفي بعلم الله، ويقول لمن كذبه ما قال نبيه صلى الله عليه وسلّم لمن كذبه: (إن افتريته فعلي إجرامي... ) الآية. وفي الحِكَم: «متى آلمك عدم إقبال الناس عليك، أو توجههم بالذم إليك، فارجع إلى علم الله فيك، فإن كان لا يقنعك علمه فمصيبتك بعدم قناعتك بعلمه أشد من مصيبتك بوجود الأذى منهم..».
قال الشيخ زروق رضى الله عنه: وذلك لأن عدم قناعتك بعلمه يُصيبك في قلبك ودينك، وأذاهم يُصيبك في عرضك وبدنك ودنياك، وأيضاً: أذاهم يردك إليه، فهو فائدتك، وعدم القناعة بعلمه يردك إليهم، فهى مصيبة توجب ثلاثاً، هي علامة عدم القناعة بعلمه: أولها: التصنع والمراءة، الثاني: طلب رضاهم بما أمكن في جميع الحالات. الثالث: إظهار علمه وعمله وحاله، ليعلموا برتبته.
والقناعة بعلمه علامتها ثلاث: أولها: قصد الإخلاص في كلٍّ، بحيث لا يبالي أين رآه الخلق، وكيف رأوه.
الثاني: طلب رضاه بالعمل بطاعته، وترك ما لا يرضيه، رضوا بذلك أو سخطوا. الثالث: الاكتفاء بعلمه فيما يجري عليه من حكمه وحكمته، قال إبراهيم التيمي رضى الله عنه لبعض أصحابه: ما يقول الناس فِيّ؟ فقال:
وقال الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه. لا تنشر علمك، ليصدقك الناس، وانشر علمك ليصدقك الله. وإن كان لام العلة موجوداً، فَعِلَّةٌ تكون بينك وبين الله من حيث أمرك، خير لك من عِلَّة تكون بينك وبين الناس، من حيث نهاك.
ولعِلَّةٌ تردك إلى الله خير لك من علة تقطعك عن الله. هـ. المراد منه.
ثم تمم قصة نوح عليه السلام، فقال:
[سورة هود (١١) : الآيات ٣٦ الى ٣٩]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ بعد هذا إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ قبل، وكان هذا الوحي بعد ان مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله تعالى. فكان الرجل منهم يأتيه بابنه، ويقول: يا بُني لا تصدق هذا الشيخ، فهكذا عَهد إليَّ أبي وجَدّي. فلما نزل الوحي وأيس من إيمانهم دعا عليهم، وقال: رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «١». قال له تعالى: فَلا تَبْتَئِسْ: تحزن وتغتم بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من التكذيب والإيذاء، أقنطه أولاً من إيمانهم، ونهاه أن يغتم لأجلهم.
ثم أمره بصنع السفينة، فقال: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا بحفظنا ورعايتنا، أو بمرأى منا ومسمع غير محتاج إلى آلة حفظ وحرس، وَوَحْيِنا إليك، كيف تصنعها، رُوي أنه لما جهل صنعها أوحى الله إليه: أن اصنعها على مثال جُؤجؤ الطائر. وروي أيضا: أنها كانت مربعة الشكل، طويلة في السماء، ضيقة الأعلى، وأن المراد منها إنما كان الحفظ، لا سرعة المشي. والأول أرجح. أعني: على صورة ظهر الطائر. قال في الأساس: عملت سفينة نوح عليه السلام
ثم إن نوحاً عليه السلام لما تحقق هلاك قومه، رق عليهم، فَهَمَّ ان يُراجع الله في شأنهم، فقال له تعالى: وَلا تُخاطِبْنِي ولا تراجعني فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا، ولا تدع باستدفاع العذاب عنهم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ: محكوم عليهم بالغرق لا محالة. فلا سبيل إلى كفه.
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ، حكي ما وقع بصيغة الحال استحضاراً لتلك الحال العجيبة، وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ:
جماعة مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ: استهزءوا به، لأنه كان يعمل السفينة في برية بعيدة من الماء. أو أن عزته تنفى صنعته، فكانوا يضحكون منه، ويقولون له: صرت نجاراً بعد أن كنت نبياً. قالَ لهم: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ، فنسخر منكم حين يأخذكم في الدنيا الغرق، وفي الآخرة الحرق. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ، وهو: الغرق، والحرق بعده، وَيَحِلُّ أي: ينزل عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ: دائم، وهو النار يوم القيامة.
الإشارة: إذا تحقق الولي بإعراض الخلق عنه، وأيس منهم أن يتبعوه. فلا يحزن، ولا يغتم منهم، ففي الله غنى عن كل شيء، وليس يُغني عنه شيء. وفي إعراض الخلق راحة لقلب الولي ولبدنه، فإذا سخروا منه فليقل في نفسه:
إن تسخروا منا اليوم، فنسخر منكم حين تحقق الحقائق، فيرتفع المقربون، وينسفل الباطلون، وكان شيخ أشياخنا سيدي علي العمراني رضى الله عنه كثيراً ما يقول: ليت القيامة قامت، حتى يظهر الرجال من غيرهم. أو ما هذا معناه.
ثم ذكر مبدأ الطوفان، فقال:
[سورة هود (١١) : آية ٤٠]
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)
قلت: حتى: غاية لقوله: (ويصنع الفلك)، أو ابتدائية. و (اثنين) مفعول باحمل، و (أهلك) : عطف عليه.
يقول الحق جلّ جلاله: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا بغرقهم، أو أمرنا للأرض بالفوران وللسحاب بالإرسال، وَفارَ التَّنُّورُ نبع الماء منه وارتفع كالقدر تفور. والتنور: تنور الخبز، ابتدأ منه النبوع، على خرق العادة، أرادت ابنته أن تسجره ففار الماء في النار، رُوي أنه كان تنور آدم، خلص إلى نوح، فكان يوقد فيه، وقيل: كان في الكوفة في موضع مسجدها. وقيل: في الهند، وقيل: التنور: وجه الأرض «١». قاله ابن عباس.
وَاحمل أيضاً أَهْلَكَ أي: امرأتك وبنيك ونساءهم، إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أنه من المغرقين يريد: ابنه كنعان وأمه وَاعِلة، فإنهما كانا كافرين. وَاحمل مَنْ آمَنَ بك. قال تعالى: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ، قيل: كانوا تسعةَ وسبعين: زوجته المسلمة، وبنوه الثلاثة: حام وسام ويافث، ونساؤهم، واثنان وسبعون رجلاً وامرأة من غيرهم. وفي بعض الآثار: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش» «٢».
قاله ابن عطية. وسيأتي خلافه في سورة الصافات. وهو الراجح. وقال البيضاوي: روي أن نوحا عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين، وكان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين، وسمكها ثلاثين. وجعل لها ثلاثة بطون. فحمل في أسفلها الدواب والوحش، وفي وسطها الإنس، وفي أعلاها الطير. هـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: حتى إذا جاء أمرنا بكمال الطهارة من العيوب، وفار تنور القلب بعلم الغيوب، وجرت سفينة الفكرة في بحار التوحيد، وأسرار التفريد، قلنا: احمل فيها من كل زوجين اثنين علم الشريعة والحقيقة، وعلم الحكمة والقدرة، وعلم الحس والمعنى، وعلم الأشباح والأرواح، وعلم الملك والملكوت. وتحمل من تمسك بها من أهل المحبة والوداد، إلا من سبق عليه القول بالمكث في مقام البعاد، وتحمل من آمن بخصوصيتها من العباد، فتقربه من مسلك التوفيق والتسديد، حين يمن الحق تعالى عليها بالقرب من أهل المحبة والوداد. وبالله التوفيق.
ثم أمرهم بالركوب فى السفينة، فقال:
[سورة هود (١١) : الآيات ٤١ الى ٤٣]
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣)
(٢) أخرجه الإمام أحمد فى المسند ٩/ ٥ والترمذي وحسنه فى (المناقب، باب فضل العرب) والحاكم فى المستدرك (٢/ ٥٤٦) وصححه ووافقه الذهبي، عن سمرة بن جندب- رضى الله عنه.
مبتدأ، و (بسم الله) : خبر. فيوقف على (فيها) أي: إجراؤها وإرساؤها حاصل بسم الله.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ نوح لمن كان معه: ارْكَبُوا في السفينة وسيروا فيها. رُوي أنهم ركبوا أول يوم من رجب، وقيل: يوم العاشر منه، واستوت على الجودي يوم عاشوراء، بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها أي: متبركين بسم الله وقت إجرائها، أو قائلين بسم الله وقت إجرائها وإرسائها، رُوِي: أنه عليه السلام كان إذا أراد أن يجري السفينة قال: بسم الله، فتجري، وإن أراد أن يوقفها قال: بسم الله، فتوقف. إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، فلولا مغفرته لما فرط منكم، ورحمته إياكم، لَما أنجاكم. فركبوا مسلمين وساروا.
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ، والموج: ما يرتفع من الماء عند اضطرابه، أي: كل موجة من الطوفان كالجبال في تراكمها وارتفاعها، وما قيل من أن الماء أطبق ما بين السماء والأرض، وكانت السفينة تجري في جوفه، لم يثبت. وكيف يكون الموج كالجبال؟ والمشهور أنه علا شوامخ الجبال، خمسة عشر ذراعاً، وإنْ صح ذلك فلعل ارتفاع الموج كالجبال كان قبل التطبيق.
وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ، كان كنعان. وقيل: كان لغير رشدة، وهو خطأ لأن الأنبياء عُصمت من أن تزني أزواجهم. والمراد بالخيانة في قوله: فَخانَتاهُما «١». في الدين. وَكانَ فِي مَعْزِلٍ في ناحية، عزل نفسه فيها عن أبيه، أو عن دينه، فقال له أبوه: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا في السفينة، وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ في الدين، أو في الأعتزال عنا، وكان يظنه مؤمناً، لإخفاء كفره. قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي يمنعني مِنَ الْماءِ، فلا أغرق، قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ أي: إلا الراحم، وهو الله، فلا عاصم إلا أرحم الراحمين. أو: لا عاصِمَ لا ذو عصمة إلا من رحم الله، فلا معصوم إلا من رحمه الله. فالاستثناء حينئذٍ متصل. أو: لا عاصم اليوم من أمر الله لكن من رحمه الله فهو المعصوم. أو: لا ذو عصمة لكن الراحم يعصم من شاء، والاستثناء منقطع.
وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ بين نوح وابنه، فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ فصار من المهلكين بالماء. رُوي أنه صنع بيتاً من زجاج، وحمل معه طعامه وشرابه، وصعد على وجه الماء فسلط الله عليه البول حتى غرق في بوله «٢».
والله تعالى أعلم بشأنه.
(٢) الآية صريحة فى أن الولد أراد أن يأوى إلى جبل يعصمه من الماء.. فماذا ينفع الزجاج هنا. وما ذكره الشيخ المفسر لا دليل عليه.
وآخرون حال بينهم الموج، فكانوا من المغرقين، فالتبس الأمر عليهم، فقالوا بالحلول والاتحاد، أو نفي الحكمة والأحكام. وهذا في حق مَن ركب بلا رئيس ماهر، وإلا رده إلى سفينة النجاة، وهي: التمسك بالشريعة المحمدية في الظاهر، والتحقق بالحقيقة الأصلية. وبالله التوفيق.
ثم ذكر انتهاء الطوفان، فقال:
[سورة هود (١١) : آية ٤٤]
وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)
قلت: (بعداً) : منصوب على المصدر، أي: أبعَدوا بعداً.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقِيلَ أي: قال الله: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ الذي خرج منك، فانفتحت أفواهاً، فرجع إليها ما خرج منها، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي: أمسكي عن الإمطار. رُوي أنها أمطرت من كل موضع، فبقي ما نزل منها بحاراً على وجه الأرض.
قال البيضاوي: نوديا بما ينادى به أولو العلم، وأُمرا بما يؤمرون به، تمثيلاً لكمال قدرته، وانقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما، بالأمر المطاع، الذي يأمر المنقاد لحكمه، المبادر إلى امتثال أمره، مهابة من عظمته، وخشية من أليم عقابه. والبلع: النشف، والإقلاع: الإمساك. هـ.
وَغِيضَ الْماءُ نقص ولم ينشف ما خرج منها، وَقُضِيَ الْأَمْرُ: وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين، وإنجاء المؤمنين، وَاسْتَوَتْ: استقرت السفينة عَلَى الْجُودِيِّ جبل بالموصل. وقيل: بالشام. وتقدم أنه
بعد، إذا بعد بعداً بعيداً، بحيث لا يرجى عوده، ثم استعير للهلاك. وخص بدعاء السوء.
والآية- كما ترى- في غاية الفصاحة لفخامة لفظها وحسن نظمها، والدلالة على كنه الحال مع الإيجاز الخالي عن الإخلال. وإيراد الأخبار على البناء للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل، وأنه متعين في نفسه، مستغن عن ذكره، إذ لا يذهب الوهم إلى غيره للعلم به، فإن مثل هذه الأفعال لا يقدر عليها سوى الواحد القهار. قاله البيضاوي.
فإن قلت: قد عم الغرق الدنيا كلها، مع أن دعوة نوح عليه السلام لم تكن عامة، وقد قال تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «١» ؟ فالجواب: أن الكفر قد كان عم الموجودين في ذلك الزمان، مع تمكنهم من النظر والاستدلال على الصانع وتوحيده، ومع قدرتهم على الإتيان إلى نوح في أمر الشرائع، فقصروا في الجهتين.
وأيضاً: لم تكن الأرض كلها معمورة بالناس، فكل من كان موجوداً سمع بدعوة نوح فجحدها. والله تعالى أعلم.
وانظر ابن عطية عند قوله: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا توالت على القلب الواردات الإلهية السماوية، والأحوال النفسانية المزعجة، خيف على العقل الاختطاف والاصطلام، فقيل يا أرض النفس ابلعي ماءك واسكني، ويا سماء الواردات أقلعي، وغيض الماء، أي:
نقص هيجان الحال، وقضي الأمر بالاعتدال، واستوت سفينة الفكرة على جبل العقل، فحاز الشرف والكمال لكونه برزخاً بين بحرين، يعطي الحقيقة حقها والشريعة حقها، فيعطي كلّ ذي حق حقه، ويُوفي كل ذي قسط قسطه.
وقيل: بُعداً لمن تخلف عن هذا المقام، وظلم نفسه بإلقائها في سجن الهوى وغيهب الظلام. والله تعالى أعلم.
ولما غرق كنعان مع من غرق، استفهم نوح عليه السّلام ربه عن الوعد الذي وعده بإنجاء أهله، كما قال تعالى:
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧)
يقول الحق جلّ جلاله: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ بعد تعميم الغرق، أي: أراد النداء بدليل عطف قوله: فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، فإنه هو النداء، أو تكون فصيحة جواباً عن مقدَّر، كأن قائلاً قال: ماذا قال في ندائه؟
فقال: إن ابني من أهلي وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ لا يتطرقه الخلف، فما باله غرِق؟
وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ لأنك أعلمهم وأعدلهم، فلم أعرف وجه حكمك عليه بالغرق. أو لأنك أكثر حكمة من ذوي الحكم، فلم أفهم حكمة غرقه.
قالَ تعالى: يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ لأنه خالفك في الدين، ولا ولاية بين الكافر والمؤمن، إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ أي: ذو عمل فاسد. جعل ذاته نفس العمل مبالغةً. وقرأ الكسائي ويعقوب: (عَمِلَ) بلفظ الماضي. أي: عمل عملاً فاسداً، استحق به البعد عنك. أو: إنه- أي سؤالك- عملٌ غير صالح. ويقوي هذا قراءة ابن مسعود: «إنه عمل غير صالح أن تسألني ما ليس لك به علم». وقراءة الجماعة: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أصواب هو أم لا، حتى تقف على كنهه. وإنما سمي نداءه سؤالاً لتضمنه معنى السؤال، بذكر الوعد واستنجازه واستفسار المانع.
ثم وعظه بقوله: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أي: إني أعظك كراهة أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، الذين يسألون ما لا يوافق القدر. وقد استثنيته بقولي: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ. وليس فيه وصفه بالجهل، بل وعظه لئلا يقع فيه، والحامل له على السؤال، مع أنه استثنى له غلبة الشفقة على الولد، مع كونه لم يتحقق أنه ممن سبق عليه القول.
قالَ نوح: يا رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ في المستقبل ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ما لا علم لي بصحته. وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ما فرط مني من السؤال، وَتَرْحَمْنِي بالتوبة تفضلاً وإحساناً، وبالتوفيق والعصمة في المستقبل، أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ بسوء أدبي معك.
الإشارة: قال الورتجبي: أدَّب نبيه نوحاً عليه السلام بأن لا يسأل إلا ما وافق القدر. وكل دعاء لم يوافق مراده تعالى في سابق علمه لم يؤثر في مراد الداعي. وقوله: (إنه عمل غير صالح) أي: ليس عمله على موافقة السنة، ثم وعظه، وقال: (إِنّيَ أَعِظُكِ أَن تَكُونَ من الجاهلين)، الجاهل: من جهل قدر الله، أي: أنزهك عن سوء الأدب في السؤال، على غير قاعدة مرادك. هـ. وقال في الحكم: «ليس الشأن وجوب الطلب، إنما الشأن أن ترزق حسن الأدب».
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)
قلت: «تلك» : مبتدأ. و «من أنباء» : خبر. و «نُوحيها» : خبر ثان، و «ما كنت تعلمها» : خبر ثالث، أو حال من الهاء، أي: حال كونها مجهولة عندك وعند قومك.
يقول الحق جلّ جلاله: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ من السفينة إلى عمارة الأرض بِسَلامٍ مِنَّا، أي:
متلبساً بسلامة من المكاره، من جهة حفظنا ورعايتنا. أو مسلماً عليك. وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وزيادات في نسلك حتى تصير آدماً ثانياً. فالبركة هي: الخير النامي. أو: مباركاً عليك، وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أي: هم الذين معك، أو ناشئة ممن معك، فقد تشعبت الأمم ممن معه من ذريته. والمراد: المؤمنون، بدليل قوله: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ في الدنيا، ونوسع عليهم فيها، ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة، وهم الكفار ممن نشأ من ذريته. وقيل:
هم قوم هود وصالح ولوط وشعيب، والعذاب: ما نزل بهم في الدنيا.
تِلْكَ القصة، أو خبر نوح عليه السلام، هي مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي: بعض أخبار الغيب نُوحِيها إِلَيْكَ لا طريق إلى معرفتها إلا الوحي، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا الوقت لولا إيحاؤنا إليك بها، فهي من دلائل نبوتك لأنك لم تغب عنهم، ولم تخالط غيرهم، فتعين أنه من عند الله. فإن كذبوك فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وأنت أعظمهم. فالعاقبة لك في الدنيا بالنصر والعز، وفي الآخرة بالرفيق الأعلى. أو فاصبر على مشاق التبليغ مع إيذاية قومك، كما صبر نوح عليه السلام. إن العاقبة للمتقين بالنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة.
الإشارة: يقال للمريد إذا تمكن من الفناء، وارتفعت فكرته عن عالم الأكوان: اهبط إلى مقام البقاء لتقوم بآداب العبودية بعد مشاهدة عظمة الربوبية، انزل إلى سماء الحقوق، أو أرض الحظوظ بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، لا بقصد متابعة الشهوة والمتعة. اهبط بسلام منا أي: بسلامة من الرجوع أو الشقاء، وبركات عليك وعلى من تبعك. ولذلك قيل: من رجع إلى البقاء أمن من الشقاء. وأمم قد ضلوا عن متابعتك، سنمتعهم في الدنيا بمتابعة الهوى، ثم يمسهم منا عذاب الحجاب وسوء الحساب. تلك الواردات الإلهيةُ نُوحيها إليك، ما كنت تعلمها أيها العارف من قبل هذا، أنت ولا من تبعك، فاصبر فإن الجمال مقرون بالجلال، والعاقبة للمتقين. والله تعالى أعلم.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لآَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)
قلت: «أخاهم» : عطف على نوح في قوله: (ولقد أرسلنا نوحاً)، و (هوداً) : بدل.
يقول الحق جلّ جلاله: وَأرسلنا إِلى قبيلة عادٍ أَخاهُمْ هُوداً، قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده، ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يستحق أن يعبد، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ على الله، باتخاذ الأوثان آلهة.
يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ: على التبليغ أَجْراً حتى يثقل عليكم، أو تتهموني لأجله، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي خلقني. بهذا خاطب كل رسول قومَه إزاحةً للتهمة، وتمحيصاً للنصيحة، فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع. أَفَلا تَعْقِلُونَ: أفلا تستعملون عقولكم فتعرفوا المحق من المبطل، والصواب من الخطأ.
وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الشرك، ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، ثم ارجعوا إليه بطاعته فيما أمر ونهى. أو: ثم توبوا من المعاصي لأن التوبة من الذنوب لا تصح إلا بعد الإيمان، والتطهير من الشرك، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي: كثير الدر، أي النزول، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ: يضاعف قوتكم، ويزدكم فيها. وإنما دعاهم إلى الله، ووعدهم بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وعمارات. وقيل: حبس اللهُ عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم ثلاثين سنة فوعدهم هود عليه السلام على الإيمان والتوبة بالأمطار وتضاعف القوة بالتناسل. قاله البيضاوي.
وقال ابن جزي: وفي الآية دليل على أن التوبة والاستغفار سبب لنزول المطر. رُوي: أن عاداً كان المطر قد حُبس عنهم ثلاث سنين، فأمرهم بالتوبة والاستغفار، ووعدهم على ذلك بالمطر. هـ. وَلا تَتَوَلَّوْا: ولا تُعرضوا عما أدعوكم إليه، مُجْرِمِينَ مصرين على إجرامكم.
الإشارة: في تكرير القصص والأخبار وَعظ وتذكير لأهل الاعتبار، وزيادة إيقان لأهل الاستبصار، وتهديد وتخويف لأهل الإصرار، وحث على المبادرة إلى التوبة والاستغفار. قوله تعالى: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه)، أي: استغفروا ربكم من الشرك الخفي، ثم توبوا إليه من النظر إلى وجودكم، ورؤية أعمالكم، يرسل سحاب
وقال الورتجبي: استغفروا من النظر إلى غيري، وتوبوا إليَّ من نفوسكم، ورؤية طاعتكم وأعواضها، يرسل سماء القدم على قلوبكم مدرار أنوار تجليها، ويزدكم، أي: يزد قوة أرواحكم في طيرانها. انظر تمامه.
ثم ذكر ما أجابه به قومه، فقال:
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٣ الى ٥٧]
قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧)
قلت: (إِن نَّقٌولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ) : الاستثناء مفرغ، و «اعتراك» : مقول لقول محذوف، أي: ما نقول إلا قولنا اعتراك، و (ما من دابة) :«ما» نافية، و «من» صلة و «دابة»، مبتدأ مجرور بمن الزائدة، وجملة (إلا هو آخذ) : خبر.
يقول الحق جلّ جلاله: قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ بمعجزة واضحة تدل على صدق دعواك، وهذا كذب منهم وجحود لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات. وفي الحديث: «مَا مِنْ نَبي إلاَّ أُوتي من المعجزات مَا مِثلُه آمَنِ عَليه البشرُ، وإَنَّما كَان الذِي أُوتيتُه وحيا أوحى إلى، فأرجو أن أكُون أكَثَرهُم تَابِعاً يوم القِيَامةِ» «١». كما في الصحيح. ويحتمل أن يريدوا: ما جئتنا بآية تضطر إلى الأيمان بك، وإن كان قد أتاهم بآية نظرية. ولم يذكر في القرآن معجزة معينة لهود عليه السلام، مع الاعتقاد أنه لم يخل من معجزة لما في الحديث.
ثم قالوا: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا بتاركي عبادتهم عَنْ قَوْلِكَ أي: بسبب قولك، أو صادرين عن قولك، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أبداً، وهو إقناط له عن الإجابة والتصديق. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ أصابك بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ بجنون لما سببْتها، ونهيت عن عبادتها، ولذلك صرت تهذو وتتكلم بالخرافات.
ثم برهن عليه بقوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها: إلا وهو مالك لها، قادرٌ عليها، يصرفها على ما يريد بها. والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك. قاله البيضاوي. وقال ابن جزي: أي: هي في قبضته وتحت قهره، وهذه الجملة تعليل لقوة توكله على الله، وعدم مبالاته بالخلق. هـ. إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: إنه على الحق والعدل، ولا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم. وقال في القوت: أخبر عن عدله في محله، وقيام حكمته، وأنه وإن كان آخذاً بنواصي العباد في الخير والشر، والنفع والضر لاقتداره، فإن ذلك مستقيم في عدله، وصواب من حكمه. هـ.
فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: فإن تتولوا وتُعرضوا عما جئتكم به، فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ. أي: فقد أديت ما عليّ من الإبلاغ، فلا تفريط مني، ولا عذر لكم فقد جاءكم النذير، وقامت الحجة عليكم، وما بقي إلا هلاككم. وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ يسكنون دياركم، ويعمرون بلادكم، فإن عتوا وطغوا سلك بهم مسلككم، وَلا تَضُرُّونَهُ بتوليكم عن الإيمان به، شَيْئاً من الضرر. أو لا تضرونه شيئاً إذا أهلككم واستخلف غيركم، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ رقيب، فلا يخفى عليه أعمالكم، ولا يغفل عن مجازاتكم.
أو حافظ مستول عليه، فلا يمكن أن يضره شيء. قاله البيضاوي.
الإشارة: ما يقال للأولياء إلا ما قيل للرسل، فإذا توجه العبد إلى مولاه، وسقط على من هو أهل للتربية، وترك ما كان عليه قبل من الانتساب إلى غيره، وخرق عوائد نفسه، أو إصابة شيء من المكاره، قال الناس: ما اعتراه إلا بعض الصالحين بسوء، فيقول لهم: إني أُشهد الله، واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه. فإن أجمعوا على إضراره أو قتله قال لهم: فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون.
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، وأنتم دواب مقهورون تحت قبضة الحق، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا ينتقم إلا من أهل الانتقام، «من عاد لي وَلِياً فقَد آذنْتُهُ بالحرب»، فإن ذكرهم بالله ودلهم على الطريق، فكذبوه وأعرضوا عنه، قال: عسى أن يذهب بكم، ويستخلف قوماً غيركم، يكونون متوجهين إليه أكثر منكم، ولا تضرونه شيئاً. وبالله التوفيق.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)
قلت: إنما قال هذا وفي قصة شعيب: (ولما)، بالواو، وفي قصة صالح ولوط: (فلما)، بالفاء لأن قصة صالح ولوط ذكرهما بعد الوعيد، فى بالفاء التي تقتضي التسبب، كما تقول: وعدته فلما جاء الوعيد كان.. الخ، بخلاف قصة هود وشعيب لم يتقدم ذلك فيهما، فعطف بالواو. قاله الزمخشري.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا: عذابنا، أو أمرنا بالعذاب، نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وكانوا أربعة آلاف، وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ، وهو ريح السموم، وكانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطع أمعاءهم. والتكرير لبيان ما نجاهم منه، وإعلاماً بأنه عذاب غليظ، وتعديداً للنعمة في نجاتهم. ويحتمل أن يريد بالنجاة الأولى: من عذاب الدنيا، وهو الريح الذي نزل بقومهم، وبالنجاة الثانية: عذاب الآخرة، وهو العذاب الغليظ، ولذلك عطفه على النجاة الأولى التي أراد بها النجاة من الريح.
وَتِلْكَ عادٌ الإشارة إلى القبيلة، أو إلى قبورهم وآثارهم تهويلاً وتهديداً، جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ كفروا بها، وَعَصَوْا رُسُلَهُ، والجمع إما لأنَّ من عصى رسولاً فكأنما عصى الكل لأنهم متفقون في الدعوة، مع أنهم أُمروا بطاعة كل رسول. وإمَّا على إرادة الجنس، كقولك: فلان يركب الخيل، وإن لم يركب إلا فرساً واحداً. وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يعني: كبراءهم الطاغين، والعنيد: الطاغي، والمعنى: عصوا من دعاهم إلى الإيمان وما ينجيهم، وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم، وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي: جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين في الدنيا أهلكتهم، وفي الآخرة أحرقتهم.
أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ جحدوه، أو كفروا نعمه. وفيه تشنيع لكفرهم وتهويل لأمرهم، بالإتيان بحرف التنبيه، وتكرار اسم عاد أَلا بُعْداً لِعادٍ أي: هلاكاً لهم، دعا عليهم بالهلاك بعد أن هلكوا للدلالة على أنهم كانوا مستحقين له، مستوجبين لما نزل بهم بسبب ما حكي عنهم. وإنما كرر «ألا»، وأعاد ذكرهم تفظيعاً لأمرهم، وحثاً على الاعتبار بحالهم. ثم بيَّنهم بقوله: قَوْمِ هُودٍ. فهو عطف بيان لعاد، وفائدته: تمييزهم عن عاد الثانية، التي هي عاد إرم، والإيماء إلى [استحقاقهم للبعد] «١» بما جرى بينهم وبينه. قاله البيضاوي.
كل من يحول بينك وبين الله، ويغفلك عن ذكر الله. وقوله تعالى: (أَلا بُعداً لعاد) وأخواتها، فيها تخويف لأهل القرب والوصال.
قال في الإحياء: ولخصوص المحبين مخاوف في مقام المحبة، ليست لغيرهم، وبعض مخاوفهم أشد من بعض، فأولها: خوف الإعراض، وأشد منه: خوف الحجاب، وأشد منه: خوف الإبعاد، وهذا المعنى من سورة هود هو الذي شيب سيد المحبين، أنه سمع: (ألا بُعداً لعاد)، (ألا بُعداً لمدين)، وإنما تعظم هيبةُ البُعد وخوْفُه في قلب من ألف القرب وذاقه، وتنعَّم به. ثم قال: ثم خوف الوقوف وسلب المزيد، فإنا قَدَّمنا: أن درجات القرب لا نهاية لها. هـ.
ثم ذكر قصة صالح عليه السّلام فقال:
[سورة هود (١١) : الآيات ٦١ الى ٦٣]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣)
قلت: قال الشطيبي: صالح: هو ابن عبيد بن عابرَ بن أرْفَخْشد بن سام بن نوح. وثمود هم أولاد ثمود بن عوص بن عاد بن إرم بن سام بن نوح. هـ. وفيه نظر فقد ذكر البيضاوي في سورة الأعراف أن بين صالح ونوح تسعة أجداد، فانظره.
يقول الحق جلّ جلاله: وَأرسلنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً، قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ كونكم من الأرض لأنه خلق آدم منها، والنطف التي هي مواد نسله أصلها منها، وَاسْتَعْمَرَكُمْ عمركم فِيها وجعلكم تعمرونها بعد من مضى قبلكم، ثم تتركونها لغيركم. أو استبقاكم فيها مدة أعماركم، ثم ترحلون عنها. فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ من كل شيء، مُجِيبٌ لمن دعاه.
الإشارة: كل من وجهه الحق تعالى يدعو إلى الله فإنما يدعو إلى خصلتين: إفراد الحق بنعوت الألوهية، والقيام بوظائف العبودية شكراً لنعمة الإيجاد، وتوالي الإمداد. فقول صالح عليه السلام: (اعبدوا الله مالكم من إله غيره)، هذا إفراد الحق بالربوبية، وقوله: (هو أنشأكم من الأرض)، هذه نعمة الإيجاد. وقوله: (واستعمركم فيها) هي: نعمة الإمداد، وقوله: (فاستغفروه ثم توبوا إليه)، هو القيام بوظائف العبودية شكراً لتلك النعمتين. وفي قوله: (إن ربي قريب مجيب) : ترهيب وترغيب.
وقوله تعالى: (قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا) : يؤخذ من الآية: أن شُعاع الخصوصية، وآثارها، تظهر على العبد قبل شروق أنوارها، وهو جار في خصوص النبوة والولاية، فلا تظهر على العبد في الغالب حتى يتقدمها آثار وأنوار، من مجاهدة أو أنس، أو اضطرار أو انكسار، أو عرق طيب. والله تعالى أعلم. وكل من واجهه منهم تكذيب أو إنكار يقول:
(أرأيتم إن كنت على بينة من ربي | ) الآية. وبالله التوفيق. |
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٤ الى ٦٨]
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨)
و (من خزي يومئذٍ) - حذف المعطوف، أي: ونجيناهم من خزي يومئذٍ، ومن قرأ بكسر الميم أعربه، ومن قرأ بالفتح بناه لاكتساب المضاف البناء من المضاف إليه. قاله البيضاوي. وقال في الألفية:
وابْن، أَو اعربْ ما كَإِذْ قَدْ أُجرِيا | واختَرْ بنَا متَلُو فعْل بُنيا |
وقَبل فَعل مُعَرب أو مُبْتَدأ | أعربْ، ومنْ بَنَى فَلَنْ يُفنَّدا |
يقول الحق جلّ جلاله: قال صالح لقومه بعد ظهور آية الناقة، وقد تقدم في الأعراف قصتها: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً تدل على صدقي، فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ أي: ترعى نباتها وتشرب ماءها، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ، فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ: عاجل، لا يتأخر عن مسكم لها بالسوء إلا ثلاثة أيام.
فَعَقَرُوها وقسموا لحمها فَقالَ لهم: تَمَتَّعُوا: عيشوا فِي دارِكُمْ منازلكم ثَلاثَةَ أَيَّامٍ الأربعاء والخميس والجمعة. وقيل: عقروها يوم الأربعاء، وتأخروا الخميس والجمعة والسبت، وهلكوا يوم الأحد.
ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فيه، بل هو حق.
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا: عذابنا، أو أمرنا بهلاكهم، نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، قيل: كانوا ألفين وثمانمائة رجل وامرأة. وقيل: أربعة آلاف، وقال كعب: كان قوم صالح أربعة عشر ألفاً، سوى النساء والذرية، ولقد كان قوم عاد مثلهم ست مرات. انظر القرطبي. قلت: وقول كعب: كان قوم صالح... الخ، لعله يعني الجميع: من آمن ومن لم يؤمن، فآمن ألفان وثمانمائة، وهلك الباقي. وكذا هود، أسلم أربعة آلاف، وهلك الباقي.
قال تعالى: فنجينا صالِحاً ومن معه بِرَحْمَةٍ مِنَّا، ونجيناهم مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ وهو: هلاكهم بالصيحة، أو من هوان يوم القيامة، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ القادر على كل شيء، الغالب عليه، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ باركين على ركبهم، ميتين، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا: يعيشوا، أو يقيموا فِيها ساعة، أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ جحدوه، أَلا بُعْداً لِثَمُودَ هلاكاً وسحقاً لهم.
الإشارة: ما رأينا أحداً ربح من ولي وهو يطلب منه إظهار الكرامة، بل إذا أراد الله أن يوصل عبداً إليه كشف له عن سر خصوصيته، بلا توقف على كرامة. وقد يظهرها الله له بلا طلب تأييداً له، وزيادةً في إيقانه، فإن طلب الكرامة، وظهرت له، ثم أعرض عنه، فلا أحد أبعدُ منه. قال تعالى، في حق من رأى المعجزة ثم أعرض:
(ألا بعداً لثمود). وبالله التوفيق.
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٩ الى ٧٣]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)
قلت: «سلاماً» : منصوب على المصدر، أي: سلمنا سلاماً. ويجوز نصبه بقالوا لتضمنه معنى ذكروا. (قال سلام) : إما خبر، أي: أمرنا سلام، أو جواب سلام، وإما مبتدأ، أي: عليكم سلام. وكسر السين: لغة. وإنما رفع جوابه ليدل على ثبوت سلامة فيكون قد حياهم بأحسن مما حيوه به. (فما لبث أن جاء). «ما» : نافية و «أن جاء» :
فاعل «لبث». ونكر وأنكر بمعنى واحد. والإيجاس: الإدراك أو الإضمار. و (من وراء إسحاق يعقوب) : من قرأ بالنصب فبفعل دل عليه الكلام، أي: ووهبنا لها يعقوب. ومن رفعه فمبتدأ، أي: ويعقوب مولود من بعده. و (شيخاً) :
حال، والعامل فيه: الإشارة، أي: أشير إليه شيخاً. و (أهل البيت) : نصب على المدح والاختصاص، أو على النداء.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ، وهم الملائكة، قيل: ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل: تسعة، جاءوه بِالْبُشْرى بالولد. فلما دخلوا عليه قالُوا سَلاماً أي: سلمنا عليك سلاماً، أو ذكروا سلاماً، قالَ سَلامٌ أي: عليكم سلام، فَما لَبِثَ أي: أبطأ، أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ مشوي بالرضف، أي: بالحجر المحمي. وقيل: حنيذ بمعنى يقطر ودكه «١». كقوله: بِعِجْلٍ سَمِينٍ «٢»، فامتنعوا من أكله، فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ لا يمدون إليه أيديهم، نَكِرَهُمْ أي: أنكر ذلك منهم، وَأَوْجَسَ: أدرك، أو أضمر مِنْهُمْ خِيفَةً أي: خوفاً، خاف أن يريدوا به مكروهاً لامتناعهم من طعامه، وكان من عادتهم إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوه، وإلا خافوه.
والظاهر أنه أحس بأنهم ملائكة ونكرهم لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه فأمنوه، وقالوا:
لا تَخَفْ إِنَّا ملائكة أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ لنعذبهم، وإنما لم نأكل طعامك لأنا لا نأكل الطعام. وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ من وراء ستر تسمع محاورتهم، أو على رؤوسهم للخدمة، فَضَحِكَتْ سروراً بزوال الخيفة، أو بهلاك
(٢) من الآية ٢٦ من سورة الذاريات.
قال تعالى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ولد ولدها. وتوجيه البشارة إليها لأنه من نسلها، ولأنها كانت عقيمة حريصة على الولد، قالَتْ يا وَيْلَتى يا عجباً، وأصله في الشر، فأطلق على كل أمر فظيع. وقرىء بالياء على الأصل، أي: يا ويلتي أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ابنة تسعين، أو تسع وتسعين وَهذا بَعْلِي: زوجي، وأصله: القائم بالأمر، شَيْخاً ابن مائة أو مائة وعشرين سنة، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ يتعجب منه لكونه نشأ الولد من هرمين.
وهو استغراب من حيث العادة، لا من حيث القدرة، ولذلك قالوا: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ منكرين عليها، فإن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة، ومهبط الوحي ومظهر المعجزات. وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس ببدع، ولذلك قالوا: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ أي: بيت إبراهيم، فلا تستغرب ما يظهر منهم من خوارق العادات، لا سيما من نشأت وشابت في ملاحظة الآيات، إِنَّهُ تعالى حَمِيدٌ فاعل ما يستوجب به الحمد، أو محمود على كل حال، مَجِيدٌ كثير الخير والإحسان. أو ممجَّد بمعنى العلو والشرف التام. قال ابن عطية هنا: إن في الآية دليلاً على ان الذبيح إسماعيل لا إسحاق. وفيه نظر «١». وسيأتي في سورة الصافات ما هو الحق، إن شاء الله تعالى.
الإشارة: من شأن أهل الكرم والامتنان: المبادرة إلى من أتاهم بالبر والإحسان إما بقوت الأرواح، أو بقوت الأشباح. من أتاهم لقوت الأرواح بادروه بإمداد الروح من اليقين والمعرفة، ومن أتاهم لقوت الأشباح بادروه بالطعام والشراب، كُلاً ما يليق به، ومن شأن الضيف اللبيب المبادرة إلى أكل ما قُدِّمَ إليه، من غير اختيار، إلا لمانع شرعي أو عادي. ومن شأن أهل التحقيق والتصديق ألا يتعجبوا مما يظهر من القدرة من الخوارق إذ القدرة صالحة لكل شيء، حاكمة على كل شيء، هي تحكم على العادة، لا العادة تحكم عليها. وهذا شأن الصديقين لا يتعجبون من شيء ولا يستغربون شيئاً، ولذلك توجه الإنكار إلى سارة من الملائكة، ولم يتوجه إلى مريم حيث سألت استفهاماً، ولم تتعجب، ووصفت بالصديقية دون سارة. والله تعالى أعلم.
ولما تحقق إبراهيم عليه السّلام بهلاك قوم لوط أسف عليهم، كما قال تعالى:
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)
إِذا ما قمتُ أرحَلُهَا بليلٍ | تأوّهُ آهةَ الرجل الحزين «١» |
بيان الحامل له على المجادلة، وهي: رقة قلبه وفرط ترحمه. قال تعالى على لسان الملائكة: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا، الجدال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بهلاكهم، ونفذ قضاؤه الأزلي فيهم، ولا مرد لما قضى، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ غير مصروف بجدال ولا دعاء، ولا غير ذلك.
الإشارة: قال الورتجبي: قوله تعالى: (إن أبراهيم لحليم أواه) حليم بأنه كان لا يدعو على قومه، بل قال:
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «٣». وتأوه زفرة قلبه من الشوق إلى جمال ربه، هكذا وصْف العاشقين. ثم قال: ومجادلته كمال الانبساط، ولم يكن جهلاً، ولكن كان مُشفقاً، باراً كريماً، رأى مكانة نفسه في محل الخلة والاصطفائية القديمة، وهو تعالى يُحب غضب العارفين، وتغير المحبين، ومجادلة الصديقين، وانبساط العاشقين حتى يحثهم على ذلك.
وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لما أُسري بي رأيت رجلاً في الحضرة يتذمر، فقلت لجبريل: من هذا؟ فقال: أخوك موسى يَتَذَمَّرُ عَلَى ربهِ- أي: يجترىء عليه انبساطا- فقلت: وهل يليق له ذلك؟ فقال: يعرفه فيتحمل عنه». ثم قال: ولا يجوز الانبساط إلا لمن كان على وصفهم. هـ. قال في الصحاح: يَتَذَمَّرُ على فلان: إذا تَنَكَّرَ له وأَوعَدَهُ. قاله المحشي.
والحاصل أن إبراهيم عليه السلام حملته الشفقة والرحمة، حتى صدر، منه ما صدر مع خلته واصطفائيته، فالشفقة والرحمة من شأن الصالحين والعارفين المقربين، غير أن العارفين بالله مع مراد مولاهم، يشفقون على عباد الله، مالم يتعين مراد الله، فالله أرحم بعباده من غيره. ولذلك قال لخليله، لما تعين قضاؤه: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا.
(٢) من الآية: ٣٢ من سورة العنكبوت.
(٣) من الآية: ٣٦ من سورة ابراهيم.
قال جعفر الصادق- رحمه الله-: ست خصال لا تحسن بستة رجال: لا يحسن الطمع في العلماء، ولا العجلة في الأمراء، ولا الشح في الأغنياء، ولا الكبر في الفقراء، ولا الشفقة في المشايخ، ولا اللؤم في ذوي الأحساب. وقولنا:
الشفقة لا تليق بالأولياء، يعني إذا تعين مراد الله، أو إذا ظهرت المصلحة في عدمها، كأمر الشيخ المريد بما تموت به نفسه، فإذا كان الشيخ يحن على الفقراء في هذا المعنى لا تكمل تربيته. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة هلاك لوط، فقال:
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)
قلت: «سيء» : مبني للمفعول، صله: سوىء، نُقلت حركة الواو إلى السين بعد ذهاب حركتها، ثم قلبت الواو ياء. و (ذرعاً) : تمييز محول عن الفاعل، أي: ضاق ذرعه، وهو كناية عن شدة الانقباض عن مدافعة الأمر المكروه، وعجزه عن مقاومته. و (لو أن لي بكم قوة) : إما للتمني فلا جواب له، أو محذوف، أي: لدفعت.
فمن رفع ذهب إلى أنه أخرجها. ومن نصب ذهب إلى أنه لم يسر بها، وهما روايتان.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا، وهم الملائكة المتقدمون، لُوطاً سِيءَ بِهِمْ ساءه مجيئهم لأنهم أتوه في صورة غلمان حسان الوجوه، فظن أنهم بشر، فخاف عليهم من قومه أن يقصدوهم للفاحشة، ولا يقدر على مدافعتهم، وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي: ضاق صدره بهم، وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ:
شديد، من عصبه: إذا شده، ورُوي أن الله تعالى قال لهم: لا تهلكوا قومه حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله، قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله أنها شرُّ قرية في الأرض عملاً. قال ذلك أربع مرات. فدخلوا منزله، ولم يعلم بذلك أحد، فخرجت امرأته فأخبرتهم، وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ يُسرعون إِلَيْهِ كأنهم يُدفعون إليه دفعاً، لطلب الفاحشة من أضيافه. وَمِنْ قَبْلُ ذلك الوقت كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الفواحش، كاللواطة وغيرها، مستمرين عليها مجاهرين بها، حتى لم يستحيوا، وجاءوا يهرعون إليها.
قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي تزوجوهن، وكانوا يطلبونهن قبل، فلا يجيبهم لخبثهم، وعدم كفاءتهم، لا لحرمة المسلمات على الكفار، فإنه شرع طارئ قال ابن جزي: وإنما قال لهم ذلك ليقي أضيافه ببناته. قيل: إن اسم بناته، الواحدة: ريثا، والأخرى: غوثاً. هـ. ولم يذكر الثالثة، فعرضهن عليهم «١»، وقال: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أحل لكم، أو أقل فحشاً، كقولك: الميتة أطيب من المغصوب، فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك الفواحش، وَلا تُخْزُونِ لا تفضحوني فِي ضَيْفِي في شأنهم، فإن افتضاح ضيف الرجل خزي له. أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ عاقل يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح.
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ من حاجة، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ وهو إتيان الذكران، قالَ لَوْ أَنَّ لِي ليت لي بِكُمْ قُوَّةً طاقة على دفعكم بنفسي، أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أو ألجأ إلى أصحاب أو عشيرةٍ يحمونَني منكم، شبه ما يتمتع بهم بركن الجبل في شدته، قال صلّى الله عليه وسلّم: «رَحِمَ اللَّهُ أَخي لُوطاً لقد كَانَ يأوي إِلى رُكنٍ شَديدٍ» «٢» يعني: الله تعالى.
(٢) أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء، باب: «ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون» ).
والنهي في المعنى يتوجه إلى لوط، وإن كان في اللفظ مسنداً إلى أحد.
إِلَّا امْرَأَتَكَ، اسمها: واهلة. أي: فلا تسر بها، أو: ولا ينظر أحد منكم إلى ورائه إلا امرأتك فإنها تنظر.
رُوي أنها خرجت معه، فلما سمعت صوت العذاب التفتت وقالت: يا قوماه، فأدركها حجر فقتلها، ولذلك قال:
إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ من العذاب، إِنَّ مَوْعِدَهُمُ وقت الصُّبْحُ في نزول العذاب بهم، فاستبطأ لوط وقتَ الصبح، وقال: هلا عُذبوا الأن؟ فقالوا: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ.
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا عذابنا، أو أمرنا به، جَعَلْنا مدائنهم عالِيَها سافِلَها، رُوي أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت مدائنهم، ورفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب، وصياح الديكة، ثم قلبها بهم.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْها على المدائن، أي: أهلها، أو على ما حولها. رُوي أنه من كان منهم خارجَ المدائن أصابته الحجارة من السماء، وأما من كان في المدائن، فهلك لمّا قلبت. فأرسلنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ: من طين طبخ بالنار، أو من طين متحجر كقوله: حِجارَةً مِنْ طِينٍ «١»، وأصلها: سنكِين «٢»، ثم عرب، وقيل: إنه من أسجله إذا أرسله، أي: من مثل الشيء المرسل، وقيل: أصله من سجين، أي: جهنم، ثم أبدلت نونه لاماً، مَنْضُودٍ: مضموم بعضه فوق بعض، معداً لعذابهم، أو متتابع يتبع بعضه بعضاً في الإرسال، كقطر الأمطار.
مُسَوَّمَةً أي: معلمة للعذاب، وقيل: معلمة ببياض وحمرة، أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض، أو باسم من يرمي به فكل حجارة كان فيها اسم من ترمى به، وقوله: عِنْدَ رَبِّكَ، أي: في خزائن علمه وقدرته، وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ، بل هي قريبة من كل ظالم.
قال ابن جزي: الضمير للحجارة، والمراد بالظالمين: كفار قريش، فهذا تهديد لهم، أي: ليس الرمي بالحجارة ببعيد منهم لأجل كفرهم، وقيل: الضمير للمدائن، أي: ليست مدائنهم ببعيد منهم أفلا يعتبرون بها. كقوله:
(٢) فى البيضاوي: «سنك كل».
الإشارة: الاعتناء بشأن الأضياف، وحفظ حرمتهم: من شأن الكرام، والاستخفاف بحقهم، والتجاسر عليهم، من فعل اللئام. وفي الحديث: «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَليُكرمْ ضَيفَهُ». والإسراع إلى الفواحش من علامة الهلاك، لا سيما اللواطَ والسفاح. والإيواء إلى الله والاعتصام به من علامة الفلاح، والبعد عن ساحة أهل الفساد من شيم أهل الصلاح، وكل من اشتغل بالظلم والفساد فالرمي بالحجارة إليه بالمرصاد.
ثم ذكر قصة شعيب، فقال:
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)
قلت: «مفسدين» : حال مؤكده لمعنى عاملها، وهو: «لا تعثوا». وفائدة ذكره: إخراج ما يقصد به الإصلاح، كما فعله الخضر عليه السلام.
يقول الحق جلّ جلاله: وَأرسلنا إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً، أراد أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام أو أهل مدين، وهي بلدهُ، فسميت باسمه، قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ، وكانوا مطففين. أمرهم أولاً بالتوحيد فإنه رأس الأمر، ثم نهاهم عما اعتادوه من: البخس المنافي للعدل، المخل بحكمة المعاوضة، ثم قال لهم: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ بسعة كرخص الأسعار، وكثرة الأرزاق، فينبغي أن تشكروا عليها، وتتعففوا بها عن البخس، لا أن تنقضوا الناس حقوقهم، أو بسعة ونعمة، فلا
(٢) عزاه فى الفتح السماوي (٢/ ٧٢١) للثعلبى مرفوعا، بغير إسناد.
وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ بالعدل من غير زيادة ولا نقصان. صرح بالأمر بالاستيفاء بعد النهي عن ضده مبالغةً، وتنبيهاً على أنهم لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف، بل يلزمهم السعي في الإيفاء ولو بالزيادة، حيث لا يتأتى دونها، وقد تكون الزيادة محظورة، ولذلك أمرهم بالعدل في قوله: (بالقسط)، بلا زيادة ولا نقصان.
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ لا تنقصوهم حقهم، وهو تعميم بعد تخصيص، فإنه أعم من أن يكون في الميزان والمكيال وفي غيره، وكذا قوله: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فإن العثو- وهو الفساد- يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد. وقيل: المراد بالبخس: المكس، كأخذ العشور في المعاملات، والعثو: السرقة وقطع الطريق والغارة، وأكده بقوله: مُفْسِدِينَ وفائدته: إخراج ما يقصد به الإصلاح، كما فعل الخضر عليه السلام، وقيل:
معناه: مفسدين أمر دينكم ومصالح آخرتكم. قاله البيضاوي.
بَقِيَّتُ اللَّهِ أي: ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عن الحرام، خَيْرٌ لَكُمْ مما تجمعون بالتطفيف، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يقتضي الاكتفاء بالحلال عن الحرام. أو إن كنتم مؤمنين فالبقية خير لكم، فإن خيريتها تظهر باعتبار الثواب والنجاة من العذاب، وذلك مشروط بالإيمان، أو: إن كنتم مصدقين لي في قولي لكم.
وقيل: البقية: الطاعة، كقوله: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ «١». وقرىء، «تقية الله» بالتاء المثناة، وهى تقواه التي تكف عن المعاصي، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظ عليكم أعمالكم، وأجازيكم عليها، إنما أنا نذير وناصح مبلغ، وقد أعذرت حين أنذرت. أو: أحفظكم عن القبائح وأمنعكم منها. أو: لست بحافظ عليكم نعم الله إن سلبت عنكم بسوء صنيعكم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما أمر الحق تعالى بالوفاء في الموازين أمر بالوفاء في الأعمال والأحوال والمقامات. ولذلك قيل للجنيد في النوم: [أفضل ما يُتقرب به إلى الله عمل خفي، بميزان وفي]، فالوفاء في الأعمال: إتقانها في الظاهر، باستيفاء شروطها وآدابها، وإخلاصها في الباطن مع حضور القلب فيها. والوفاء في الأحوال: ألا تخرج عن قواعد الشريعة، بأن لا تكون محرمة ولا مكروهة، وأن يقصد بها موت النفوس وحياة الأرواح، والوفاء في المقام: ألا ينتقل عن مقام إلى غيره حتى يتحقق بالمقام الذي أنزل فيه. وفيه خلاف بين الصوفية: هل يصح الانتقال عن مقام قبل التحقق به، ثم يحققه في المقام الذي بعده، أم لا؟.
وقول الجنيد رضى الله عنه: (عمل خفي)، اعلم أن الخفاء على ثلاثة أقسام: خفاء عوام الصالحين، وهو: إخفاء الأعمال عن الناس مخافة الرياء. وخفاء المريدين، وهو: الإخفاء عن ملاحظة الخلق ومراقبتهم، ولو كانوا بين أظهرهم، فإخفاؤهم قلبي لا قالبي. وخفاء العارفين الواصلين، وهو: الإخفاء عن رؤية النفس، فهم يغيبون عن أنفسهم ووجودهم، في حال أعمالهم، فليس لهم عن نفوسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ما أجابه به قومه فقال:
[سورة هود (١١) : آية ٨٧]
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧)
قلت: «تأمرك أن نترك» : على حذف مضاف، أي: تأمرك بتكليف أن نترك لأن الرجل لا يُؤمر بفعل غيره. و (أن نفعل) : عطف على (ما) أي: أو نترك فعلنا في أموالنا ما نشاء.
يقول الحق جلّ جلاله: قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ التي تُكثر منها هي التي تَأْمُرُكَ أن تأمرنا أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام، وندخل معك في دينك المحدث، أجابوا به ما أمرهم به من التوحيد بقوله: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، على وجه التهكم والاستهزاء بصلواته. وكان كثير الصلاة، ولذلك جمعوها وخصوها بالذكر. وقرأ الأخوان وحفص بالإفراد المراد به الجنس.
ثم أجابوه عن نهيهم عن التطفيف وأمرهم بالإيفاء، فقالوا: أَوْ نترك أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا من البخس وغيره؟ وقيل: كانوا يقطعون الدراهم والدنانير، فنهاهم عن ذلك.. إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ، تهكموا به وقصدوا وصفه بضده، من خفة العقل والسفه لأن العاقل عندهم هو الحريص على جمع الدنيا وتوفيرها، وهو الحمق عند العقلاء، أو إنك موسوم بالحلم والرشيد فلا ينبغي لك أن تنهانا عن تنمية أموالنا والتصرف فيها. والله تعالى أعلم.
وبالله التوفيق.
ثم ذكر موعظة شعيب لقومه، فقال:
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٨ الى ٩٠]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠)
قلت: جواب «إن كنت» : محذوف، أي: فهل ينبغي أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره.
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ شعيب لقومه: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وهي النبوة والعلم والحكمة، وَرَزَقَنِي مِنْهُ من عنده، وبإعانته، بلا كد في تحصيله، رِزْقاً حَسَناً: حلالاً، إشارة إلى ما آتاه من المال الحلال. فهل يسع لِي بعد هذا الإنعام، الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية، أن أخون في وحيه، وأخالفه في أمره ونهيه، حتى لا أنهاكم عن عبادة الأوثان، والكف عن العصيان، والأنبياء لا يبعثون إلا بذلك، وهذا منه اعتذار لما أنكروا عليه من الأمر بالخروج عن عوائدهم، وترك ما ألفوه من دينهم الفاسد، أي: كيف أترك ما أمرني به ربي من تبليغ وحيه، وأنا على بينة منه، وقد أغناني الله عنكم وعن غيركم.
ولذلك قال إثره: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي: وما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه لأَستبد به دونكم، فتتهموني إن أردت الاستبداد به. يقال: خالفني فلان إلى كذا: إذا قصده وأنت مول عنه، وخالفني عنه:
إذا ولى عنه وأنت قاصده. إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ أي: ما أريد إلا أن أصلحكم بأمري لكم بالمعروف، ونهيي لكم عن المنكر جهد استطاعتي.
قال البيضاوي: ولهذه الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة: أهمها وأعلاها: حق الله تعالى. وثانيها: حق النفس، وثالثها: حق الناس. هـ.
ثم قال: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ وما توفيقي لإجابة الحق، والصواب، إلا بهدايته ومعونته، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فإنه القادر على كل شيء، وما عداه عاجز بل معدوم، ساقط عن درجة الاعتبار. وفيه إشارة إلى محض التوحيد، الذي هو أقصى مراتب العلم بالله. وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع في جميع أموري. وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ: لا يُكسبنكم شِقاقِي: معاداتي، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق، أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح، أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الصيحة، والمعنى: لا تخالفوني فيجركمْ ذلك إلى الهلاك كما هلك الأمم قبلكم، وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ زماناً ولا مكاناً، فإن لم تعتبروا بمن قبلكم، فاعتبروا بهم إذ هم ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساويء، فلا يبْعد عنكم ما أصابهم. وإنما أفرد «بعيد» لأن المراد: وما إهلاكهم، أو وما هم بشيء بعيد.
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ عما أنتم عليه إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ عظيم الرحمة للتائبين، وَدُودٌ متودد إليهم، فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل البليغ المودة بمن يوده، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار. قاله البيضاوي.
الإشارة: قد تضمنت خطبة شعيب عليه السلام ست خصال، من اجتمعت فيه فاز بسعادة الدارين:
الأولى: فتح البصيرة، ونفوذ العزيمة، وتنوير القلب بمعرفة الله، حتى يكون على بينة من ربه.
الثانية: تيسير الرزق الحلال، من غير تعب ولا مشقة، يستعين به على طاعة ربه، ويقوم به بمؤنة أمره.
الثالثة: السعي في إصلاح عباد الله وإرشادهم، ودعاؤهم إلى الله من غير طمع ولا حرف، ويكون حاله يصحح مقاله، فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نهى عنه.
الرابعة: الاعتماد على الله والرجوع إليه في توفيقه وتسديده، وفي أمر دنياه ودينه، بحيث لا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا منه.
الخامسة: الحذر والتحذير من مخالفة ما جاءت به الرسل من عند الله، والتمسك بما أمروا به من طاعة الله، والاعتبار بمن هلك قبله ممن خالف أمر الله.
السادسة: تحقيق التوبة والانكسار، والإكثار من الذكر والاستغفار. فذلك سبب المودة من الكريم الغفار. ولأجل هذه الخطبة سُمي شعيب خطيب الأنبياء. والله تعالى أعلم.
[سورة هود (١١) : الآيات ٩١ الى ٩٣]
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣)
قلت: «سوف تعلمون» : ذكره هنا بغير فاء، وفي الأنعام بالفاء «١» لأن الكلام في سورة الأنعام مع الأمة المحمدية، فأتى بالفاء لمطلق السببية، وهنا مع قوم شعيب عليه السلام، فحذفها لأنه أبلغ في التهويل. فكأن الجملة بيانية لجواب سائل قال: فما يكون بعد ذلك؟ فقال: سوف تعلمون... الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ ما نفهم كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ من أمر التوحيد، وترك التبخيس، وما ذكرت من الدليل عليها وذلك لانهماكهم في الهوى، وقصور عقلهم، وعدم تفكرهم. وقيل: قالوا ذلك استهانة بكلامه، أو لأنهم لم يلقوا إليه أذهانهم لشدة نفرتهم. ثم قالوا: وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً لا قوة لك تمتنع بها منا إن أردنا بك سوءاً، أو: نراك ناحل البدن، أو: ضرير البصر. وضعفه ابن عطيه «٢». وَلَوْلا رَهْطُكَ أي: قومك، الذين هم باقُون على ملتنا، وكونهم في عزة عندنا، لَرَجَمْناكَ: لقتلناك بالحجارة.
أو بأصعب وجه، وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ فتمنعنا عزتك من رجمك.
قال البيضاوي: وهذا ديدن السفيه المحجوج، يقابل الحجج والآيات بالسب والتهديد. وفي إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على أن الكلام فيه لا في ثبوت العزة، وأن المانع لهم من إيذائه عزة قومه. ولذلك قال:
يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا، وجعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء الظهر، بإشراككم به، والإهانة لرسوله. وهو يحتمل الإنكار والتوبيخ والرد والتكذيب. والظهري: منسوب إلى الظهر، والكسر من تغيير البناء. هـ. قال ابن جزي: فإن قيل: إنما وقع الكلام فيه وفى رهطه، بأنهم هم الأعزة دونه، فكيف طابق جوابه كلامهم؟ فالجواب: أن تهاونهم به، وهو رسول الله، تهاون بالله. فلذلك قال: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ. هـ.
(٢) قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لا تقوم عليه حجة بضعف بصره أو بدنه، والظاهر من قولهم «ضعيفا» أنه ضعيف الانتصار والقدرة.
الإشارة: لا يفقه المواعظ والتذكير إلا أهل الإيمان والتنوير. وأما القلب القاسي بالكفر والمعاصي فلا يسمع إلا ما تسمعه البهائم من الناعق والراعي. فبقدر ما يرق القلب يتأثر بالمواعظ، وبقدر ما يغلظ باتباع الحظوظ والهوى يغيب عن تدبر المواعظ. وسبب تنوير القلب ورقته: قربه من الله، وتعظيمه لحرمات الله، وتعظيم من جاء من عند الله من أنبيائه ورسله، وورثتهم القائمين بحجته، كالأولياء والعلماء الأتقياء. وسبب ظلمة القلب وقساوته: بعده من الله، وإهانته لحرمات الله، واتخاذه أمره ظهرياً، وجعل ذكره نسياً منسياً. وبالله التوفيق.
ثم ذكر هلاك قوم شعيب، فقال:
[سورة هود (١١) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا: عذابنا لقوم شعيب، نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، لا بعمل استحقوا به ذلك إذ كل من عنده، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ قيل: صاح بهم جبريل فهلكوا، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ: ميتين. وأصل الجثوم: اللزوم في المكان. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها كأن لم يقيموا فيها ساعة، أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ، شبههم بهم لأن عذابهم كان أيضاً بالصيحة، غير أن صيحة ثمود كانت من فوق، وصيحة مدين كانت من تحت، على ما قيل، ويدل عليه: التعبير عنهما بالرجفة في آية أخرى «١»، والرجفة في الغالب إنما تكون من ناحية الأرض. وفي البيضاوي خلاف هذا، وهو غير جَيد.
قال قتادة: بعث الله شعيباً إلى أمتين: أصحاب الأيكة، وأصحاب مدين، فأهلك أصحاب الأيكة بالظلة، على ما يأتي، وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة فهلكوا أجمعين. قيل: وآمن بشعيب من الفئتين: تسعمائة إنسان. وكان أهل الأيكة أهل غيطة وشجر، وكان شجرهم الدَّوْم «٢» - وهو شجر المقل.
(٢) الدّوم: شجر يشبه النخلة.
الإشراك بالله، وإهانة من عظمه الله. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر رسالة موسى عليه السلام بعد شعيب لأنه من تلامذته، فقال:
[سورة هود (١١) : الآيات ٩٦ الى ٩٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا بمعجزاتنا الدالة على صدقه، وَسُلْطانٍ مُبِينٍ وتسلط ظاهر على فرعون، أو برهان بيِّن على نبوته. قال البيضاوي: والفرق بينهما: أن الآية نعم الأمارة والدليل القاطع، والسلطان يخص بالقاطع، والمبين يخص بما فيه جلاء. هـ. أرسلناه إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ جماعته، فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي: اتبعوا أمره بالكفر بموسى، أو: فما اتبعوا موسى الهادي إلى الحق، المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة، واتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلالة والطغيان، الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل لفرط جهالتهم، وعدم استبصارهم، وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي: ليس أمره برشد وصواب، وإنما هو غي وضلال.
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ إلى النار، كما يتقدمهم في الدنيا إلى الضلال، فَأَوْرَدَهُمُ: أدخلهم النَّارَ ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحققه، ونزّل النار لهم منزلة الماء، فسمى إتيانها مورداً. ثم قال: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ أي: بئس المَوْرد الذي وردوه، فإنَّ المورد إنما يراد لتبريد الأكباد، وتسكين العطش، والنار بضد ذلك.
والآية كالدليل على قوله: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ فإنَّ من هذا عاقبته لم يكن في أمره رشد، أو تفسير له، على أن المراد بالرشيد: ما يكون مأمون العاقبة حميدها. قاله البيضاوي. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي: تتبعهم اللعنة في الدارين بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ: بئس العون المعان، أو العطاء المعطى. فالرفد: العطاء، والإرفاد: المعونة، ومنه: رفادة قريش، أي: معونتهم للفقراء في الحج بالطعام. والمخصوص بالذم محذوف، أي:
رفدهم، وهو اللعنة في الدارين.
الإشارة: إذا أردتَ أن تعرفَ قدر الرجل في مرتبة الخصوصية فاسأل عن إمامه الذي يقتدى به، فإن كان من أهل الخصوصية فصاحبه من الخصوص، إن دامت صحبته معه، وإن كان من العموم فصاحبه من العموم.
وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ، وفي الخبر: «المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيله» وقال الشاعر:
عَن المرءِ لا تَسْأَلْ وسَلْ عن قَرِينه | فكلُّ قرينٍ بالمُقارَنِ يَقْتَدي «١» |
ثم وعظ نبيه بما جرى على الأمم المتقدمة آنفا، فقال:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٤]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤)
قلت: (ذلك) : مبتدأ. و (من أنباء) : خبر، و (نقصه) : خبر ثان. وجملة: (منها قائم وحصيد) : استئنافية لا حالية لعدم الرابط.
يقول الحق جلّ جلاله: ذلِكَ النبأ الذي أخبرناك به في هذه السورة، هو مِنْ أَنْباءِ الْقُرى الماضية المهلَكة، نَقُصُّهُ عَلَيْكَ، ونخبرك به تهديداً لأمتك وتسلية لك. مِنْها ما هو قائِمٌ البناء باقي الأثر، وَمنها حَصِيدٌ أي: محصود عافي الأثر، كالزرع المحصود. أو: منها ما هو ساكن بقوم آخرين، قائم العمارة بغير من هلك، ومنها ما هو دارس على أثره، واندرست أطلالُه.
قال تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكنا إياهم، وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بأن عرضوها له بارتكابهم ما يوجب هلاكهم، فعبدوا معي غيري، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ: ما نفعتهم، ولا قدرت أن تدفع عنهم العذاب، آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من ذلك العذاب، لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ- حين جاءهم عذابه
ثم قرأ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ.... الآية. فالآية تعم قرى المؤمنين حيث عبَّر بظالمة دون كافرة. قاله ابن عطية. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ وجيع عظيم، غير مرجو الخلاص منه، وهو مبالغة في التهديد والتحذير.
إِنَّ فِي ذلِكَ الذي نسرده عليك من قصص الأمم الدارسة، لَآيَةً لعبرة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ فيعتبر به ويتعظ لعلمه بأن ما حاق بهم أنموذج مما أعد الله للمجرمين في الآخرة. وأما من أنكر الآخرة فلا ينفعه هذا الوعظ والتذكير لفساد قلبه، وموت روحه.
ذلِكَ أي: يوم القيامة الذي وقع التخويف به، يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ: محشورون إليه أينما كانوا.
وعبَّر باسم المفعول دون الفعل للدلالة على الثبوت والاستقرار، ليكون أبلغ لأن «مجموع» أبلغ من «يجمع».
وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي: تشهده أهل السموات وأهل الأرض لفصل القضاء، ويحضره الأولون والآخرون، لاقتضاء الثواب والعقاب. فاليوم مشهود فيه،. فحذف الظرف اتساعاً.. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي: إلا لانتهاء مدة معدودة في علم الله، لا يتقدم ولا يتأخر عنها، قد اختص الله تعالى بها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: التفكر والاعتبار من أفضل عبادة الأبرار لأنه يزهد في الدنيا الفانية، ويشوق إلى الدار الباقية، ويرقق القلب، ويستدعي مخافة الرب، فلينظر الإنسان بعين الاعتبار في الأمم الخالية، والقرون الماضية، والأماكن الدارسة كيف رحل أهلها عن الدنيا أحوج ما كانوا إليها، وتركوها أحب ما كانت إليهم؟ وفي بعض الخطب الوعظية: أين الفراعين المتكبرة، وأين جنودها المعسكرات؟ أين الأكاسير المنكسرة؟ وأين كنوزها المقنطرات؟ أين ملوك قيصر والروم؟ وأين قصورها المشيدات؟ أين ملوك عدن، أهل الملابس والحيجان «١» ؟ وأين ملوك اليمن، أهل العمائم والتيجان؟ قد دارت عليهم- والله- الأقدار الدائرات، وجرت عليهم برياحها العاصفات، وأسكنتهم تحت أطباق الرجام «٢» المنكرات، وصيرت أجسامهم طعمة للديدان والحشرات، وأيمت منهم الزوجات، وأيتمت منهم البنين والبنات. أفضوا إلى ما قدموا، وانقادوا قهرا إلى القضاء وسلموا. فلا ما كانوا أملوا أدركوا، ولا إلى ما فاتهم من العمل الصالح رجعوا. وبالله التوفيق.
ثم ذكر شأن ذلك اليوم المشهود، فقال:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٨]
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)
(٢) أي: الحجارة.
وقال الزمخشري: يعود على «الله» لعود الضمير عليه في قوله: (إلا بإذنه)، وضمير «منهم» على أهل الموقف المفهوم من قوله: (لا تكلم نفس).
يقول الحق جلّ جلاله: يَوْمَ يَأْتِ ذلك اليوم المشهود، وهو: يوم الجزاء لا تَكَلَّمُ لا تتكلم نَفْسٌ بما ينفع وينجي في جواب أو شفاعة إِلَّا بِإِذْنِهِ تعالى، وهذا كقوله: لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ «١»، وهذا فى موقف، وقوله: هذا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «٢»، في موقف آخر.
والمأذون فيه هي الجوابات الحقية، أو الشفاعات المرضية، والممنوع منه هي الأعذار الباطلة.
ثم قسّم أهل الموقف، فقال: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وجبت له النار بمقتضى الوعيد لكفره وعصيانه. وَمنهم سَعِيدٌ وجبت له الجنة بمقتضى الوعد لإيمانه وطاعته. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، الزفير: إخراج النفس، والشهيق: رده. ويستعملان في أول النهيق وآخره. أو الزفير: صوت المحزون، والشهيق: صوت الباكي. أو الزفير من الحلق، والشهيق من الصدر. والمراد بهما: الدلالة على شدة الكرب والغم، وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه، وانحصرت فيه روحه، أو تشبيه حالهم بأصوات الحمير. قاله البيضاوي.
خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي: سموات النار وأرضها. وهي دائمة أبداً، ويدل عليه قوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ «٣»، أو يكون عبارة عن التأبيد: كقول العرب: ما لاح كوكب وما ناح الحمام، وشبه ذلك بما يقصد به الدوام، وهذا أصح.
وقوله: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ، للناس هنا كلام واختلاف. وأحسن ما قيل فيه ما ذكره البقاعي، قال: والذي ظهر لي- والله أعلم- أنه لما تكرر الجزم بالخلود في الدارين، وأن الشرك لا يغفر، والإيمان موجب للجنة، فكان
(٢) الآيتان: ٣٥- ٣٦ من سورة المرسلات.
(٣) من الآية: ٤٨ من سورة ابراهيم.
وقال الجلال السيوطي، في «البدور السافرة في أمور الآخرة» : اعلم أن للعلماء في هذا الاستثناء أقوالاً، أشبهها بالصواب: أنه ليس باستثناء، وإنما «إلا» بمعنى «سوى»، كما تقول: لي عليك ألف درهم إلا ألفان، التي لي عليك، أي: سوى الألفين، والمعنى: خالدين فيها قدر مدة السموات والأرض في الدنيا سوى ما شاء ربك من الزيادة عليها، فلا منتهى له. وذلك عبارة عن الخلود. والنكتة في تقديم ذكر مدة السموات والأرض: التقريب إلى الأذهان بذكر المعهود أولاً، ثم أردفه بما لا إحاطة للدهر به. والجري على عادة العرب في قولهم في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده: لا آتيك ما دامت السموات والأرض. هـ. ومثله لابن عطية. قال: ويؤيد هذا التأويل قوله بعدُ:
عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي: غير مقطوع، وهذا قول الفراء، فإنه يقدر الاستثناء المنقطع بسوى، وسيبويه بلكن.
هـ. وقال الورتجبي: قال ابن عطاء: (إلا ما شاء ربك) من الزوائد لأهل الجنة من الثواب. ومن الزوائد لأهل النار من العقاب. هـ. (إن ربك فعال لما يريد) من غير حجر ولا اعتراض.
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ كما تقدم.
عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ: غير مقطوع، وهو تصريح بأن الثواب غير مقطوع، وتنبيه على أن المراد من الاستثناء تعليم الأدب فقط. والله تعالى أعلم.
الإشارة: السعادة على قسمين: سعادة الظاهر، وسعادة الباطن. والشقاوة كذلك. أما سعادة الظاهر ففي الدنيا بالراحة من التعب، وفي الآخرة بالنجاة من العذاب. وأما سعادة الباطن ففي الدنيا براحة القلب من كد الهموم والأحزان، باليقين والاطمئنان، في حضرة الشهود والعيان، وفي الآخرة بدوام النظر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر. وشقاوة الظاهر باتصال الكد والتعب. وشقاوة الباطن بالبعد عن الله، وافتراقه عن حضرة مولاه.
قال في نوادر الأصول: الشقاوة: فراق العبد من الله، والسعادة اندساسه إليه. هـ. وقال الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه في حزبه الكبير: والسعيد من أغنيته عن السؤال منك، والشقي حقاً من حرمته مع كثرة السؤال لك.
نعم، إن رد إليه تصور منه الدعاء على وجه العبودية، وأداء الأمر وإظهار الفاقة، لا على وجه الاقتضاء والسببية.
«جل حكم الأزل أن ينضاف إلى الأسباب والعلل».
ثم قال: وعلى ما تقرر في السعادة، فالشقاوة: احتجاب العبد بوجوده عن شهوده، فلا يَنفَكُّ عن أمل، ولا عن خوف عطب. فيستحثه الطبع للسؤال جلباً أو دفعاً. وهو في ذلك في شقاء، سواء أعطى أو منع لفقده قرةَ عينه وراحة قلبه، لأسْره في طبعه، ومكابدة أمره وهلعه. كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ «١». فلم يستثن من كد الطبع ومكابدته غير أهل الصلاة الدائمة، وهم أهل الوجهة لله، المواجَهين بعناية الله، المتحققين بذكر الله. وقد وَرَدَ: «هُمُ القَوْم لا يشقى جَلِيسُهُم» فضلاً عنهم. وعلى الجملة: فالمراد بالسعادة والشقاوة في كلامه- أي: الشاذلي- الباطنة لا الظاهرة، والقلبية لا القالبية.
وإن كان قد تطلق على ذلك أيضاً، لكن لكل مقام مقال. وقد قال تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى «٢».
قال في نوادر الأصول: تَابعُ القرآن قد أجير من شقاء العيش في الدنيا لراحة قلبه من غموم الدنيا وظلماتها، وسَيره في الأمور بقلبه في راحة لأنه منشرحُ الصدر واسعه، وبدنه في راحة لأنه ميسر عليه أمور الدنيا، تُهيأ له في يسر لضمان الله، واكتنافه له. وكذا يجار في الآخرة من شقاء العيش في سجون النيران. أعاذنا الله من ذلك. هـ.
ثم حذَّر من الشرك، الذي هو سبب الخلود فى النار، فقال:
[سورة هود (١١) : آية ١٠٩]
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)
(٢) من الآية ١٢٣ من سورة طه.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: فلا تكن أيها العارف في مرية مما يعبد هؤلاء العوام، من جمع الدنيا، والتكاثر منها، وصرف الهمة إلى تحصيلها، واستعمال الفكر في أسباب جمعها، وانهماك النفس في حظوظها وشهواتها. ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل، ممن سلك هذا المسلك الذميم، وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص، بانحطاط درجتهم عن درجة المقربين. قال بعض الحكماء: دار الدنيا كأحلام المنام، وسرورها كظل الغمام، وأحداثها كصوائب السهام، وشهواتها: كمشرب الشمام، وفتنتها كأمواج الطوام. هـ.
ولما ذكر رسالة موسى عليه السّلام، وشأن فرعون ووبال من تبعه، ذكر نزول التوراة عليه، فقال:
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)
قلت: (وإنَّ كلاًّ لما ليوفينهم) : إن: مخففة عاملة، والتنوين في (كُلا) عوض عن المضاف. و «ما» : موصولة، واللام: لام الابتداء، و (ليوفينهم) : جواب لقسم محذوف، وجملة القسم وجوابه: صلة «ما»، أي: وإن كان الفريقين للذين، والله، ليوفينهم ربك أعمالهم. ومن قرأ: «لمَّا» بالتشديد، فعلى أن (إن) نافية، و «لَمَّا» بمعنى إلا، وقيل: غير هذا.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ: التوراة، فَاخْتُلِفَ فِيهِ فآمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف هؤلاء في القرآن، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهي: كلمة الإنظار إلى يوم القيامة، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بإنزال ما يستحقه المبطل من الهلاك، ونجاة المحق. وَإِنَّهُمْ أي: قوم موسى، أو كفار قومك، لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي: التوراة، أو من القرآن، مُرِيبٍ: مُوقع في الريبة. وَإِنَّ كُلًّا من
الإشارة: الاختلاف على الأنبياء والأولياء سنة ماضية. ولولا أن الله سبحانه حكم في سابق علمه أنه لا يفضح الضمائر إلا يوم تُبلى السرائر، لفضح أسرار البطالين، وأظهر منار الذاكرين من السائرين أو الواصلين.
لكنه سبحانه أخر ذلك بحكمته وحلمه، إلى يوم الدين. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن أصل الأعمال وأفضلها، وهى الاستقامة، فقال:
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٢ الى ١١٥]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)
قلت: (ومن تاب) : عطف على فاعل (استقم) للفصل، (فَتَمَسَّكُمُ) : جواب النهي. ويقال: ركن يركن:
كعَلِم يعلم، وركن يركن: كدخل يدخل. و (ثم لا تنصرون) : مستأنف لا معطوف، و (طرفي) : منصوب على الظرفية. و (زلفا) : جمع زلفة، كقربة، أزلفه: قربة.
يقول الحق جلّ جلاله: فَاسْتَقِمْ يا محمد كَما أُمِرْتَ، وَليستقم مَنْ تابَ مَعَكَ من الكفر وآمن بك. وهي شاملة للاستقامة في العقائد كالتوسط بين التشبيه والتعطيل، بحيث يبقى العقل مصوناً من الطرفين، وفي الأعمال من تبليغ الوحي، وبيان الشرائع كما أنزل، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط ولا إفراط. وهي في غاية العسر. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «شَيَّبَتنِي هُود» «١». قاله البيضاوي.
قال المحشي الفاسي: واللائق أن إشفاقه- عليه الصلاة والسلام- من أجل أمته لا من أجل نفسه لأجل عصمته، وإنما أشفق عليهم لتوعد اللعين لهم بقوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ «٢». هـ. قلت: ولا يبعد
(٢) من الآية: ١٦ من سورة الأعراف.
ثم قال تعالى: وَلا تَطْغَوْا ولا تخرجوا عما حد لكم، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، فيجازيكم على النقير والقطمير، وهو تهديد لمن لم يستقم، وتعليل للأمر والنهي. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا: لا تميلوا إليهم أدنى ميل، فإن الركون: هو الميل اليسير، كالتزيي بزيهم، وتعظيم ذكرهم، وصحبتهم من غير تذكيرهم ووعظهم.
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ لركونهم إليهم. قال الأوزاعي: ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عَالِم يَزورُ عَاملاً «٢». هـ.
وقال سفيان: في جهنم وادٍ لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. هـ. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من دَعَا لِظَالٍمٍ بالبَقَاءِ- أي: بأن قال: بارك الله في عمرك- فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى الله في أرضهِ» «٣» وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية، هل يسقى شربة ماء؟ فقال: لا. فقيل له: يموت؟! فقال: دعه يموت. هـ. وهذا إغراق، ولعله في الكافر المحارب، والله أعلم.
قال البيضاوي: وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلماً موجباً للنار، فما ظنك بالركون إلى الظالمين الموسومين بالظلم، ثم بالميل إليهم، ثم بالظلم نفسه، والانهماك فيه. ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه. وخطاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومَن معه من المؤمنين بها للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط أو تفريط، ظلم على نفسه أو غيره، بل ظلم في نفسه. هـ.
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ من أنصار يمنعون العذاب عنكم، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ: ثم لا ينصركم الله إن سبق في حكمه أنه يعذبكم.
ولمَّا كان الركون إلى الظلم، أو إلى من تلبس به فتنة، وهي تكفرها الصَّلاَةِ، كما في الحديث «٤»، أمر بها أثره، فقال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ غدوة وعشية، وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ساعات منه قريبة من النهار.
والمراد بالصلاة المأمور بها: الصلوات الخمس. فالطرف الأول: الصبح، والطرف الثاني: الظهر والعصر، والزلف من الليل: المغرب، والعشاء، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يكفرنها قال ابن عطية: لفظ الآية عام فى
(٢) المراد بالعامل هنا: الحاكم أو الوالي.
(٣) قال الحافظ العراقي فى المغني: لم أجده مرفوعا، وإنما أورده ابن أبى الدنيا فى كتاب الصمت، من قول الحسن البصري.
(٤) سيذكر الشيخ الحديث بعد قليل.
قال ابن جزي: رُوي أن رجلاً قََبّل امراة، [قلتُ: هو نبهان التمار]، فذكر ذلك للنبى صلّى الله عليه وسلّم وصلَّى معه الصلاة، فنزلت الآية، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أين السائل؟» فقال: ها أنا ذا، فقال: «قد غفر اللَّهُ لَكَ بِصَلاتِكَ مَعَنا». فقال الرجل: أَلِيَ خاصَّةً، أو للمسلمين عامة؟ فقال: «للمسلمين عَامَّةً» «٢». والآية على هذا مدنية. وقيل: إن الآية كانت قبل ذلك، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلّم للرجل مستدلاً بها. والآية على هذا مكية كسائر السورة، وإنما تُذهب الحسناتُ- عند الجمهور- الصغائر إذا اجتنبت الكبائر. هـ. قلت: وقيل: تكفر مطلقاً اجتُنِبَت الكبائر أم لا، وهو الظاهر، لأنه إذا حصل اجتناب الكبائر كفرت بلا سبب لقوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ.... «٣» الآية. وقوله عليه الصلاة والسلام: «ما اجتنبت الكبائر». معناه: أن الصلوات والجمعة مكفرة لما عدا الكبائر.
والحاصل: أن من اجتنب الكبائر كفرت عنه الصغائر بلا سبب لنص الآية. ومن ارتكب الكبائر والصغائر وصلى، كفرت الصغائر دون الكبائر، وبهذا تتفق الآية مع الحديث. والله تعالى أعلم.
قال ابن عطية في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى... «٤» الآية: الشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد. وقد روي: «أن الله يتحمل عن الشهيد مظالم العباد، ويجازيهم عنه». ختم الله لنا بالحسنى. انتهى.
ذلِكَ أي: ما تقدّم من وعظ ووعد ووعيد، وأمر الاستقامة، أو القرآن كله، ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ: عظة للمتقين. وخص الذاكرين لمزيد انتفاعهم بالوعظ، لصقالة قلوبهم. وفي الخبر: «لكل شيء مصقلة، ومصقلة القلوب ذكر الله». وَاصْبِرْ على مشاق الاستقامة، ودوامها فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وهم: أهل الاستقامة ظاهراً وباطناً.
الإشارة: الاستقامة على ثلاثة أقسام: استقامة الجوارح، واستقامة القلوب، واستقامة الأرواح والأسرار.
أما استقامة الجوارح فتحصل بكمال التقوى، وتحقيق المتابعة للسنة المحمدية. وأما استقامة القلوب
(٢) أخرجه بنحوه البخاري فى (التفسير، سورة هود) ومسلم فى (التوبة، باب قوله: إن الحسنات يذهبن السيئات) من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه. أما قول المفسر: [هو نبهان التمار) فقد جاء فى سياق آخر، للثعلبى فى تفسيره، وقال الحافظ ابن حجر فى الفتح ٨/ ٢٠٧: وهذا إن ثبت حمل على واقعة أخرى، لما بين السياق من المغايرة.
(٣) من الآية: ٣١ من سورة النساء. [.....]
(٤) من الآية: ١١١ من سورة التوبة.
فإذا تطهر القلب من هذه العيوب اتصف بأضدادها من الكمالات: كالتواضع لله، والخشوع بين يديه، والتعظيم لأمره، والحفظ لحدوده، والتذلل لربوبيته، والإخلاص في عبوديته، والرضى بقضائه، ورؤية المنة له في منعه وعطائه. ويتصف فيما بين خلقه بالرأفة والرحمة، واللين والرفق، وسعة الصدر والحِلم، والاحتمال والصيانة، والنزاهة والأمانة، والثقة والتأني، والوقار، والسخاء والجود، والحياء، والبشاشة والنصيحة. إلى غير ذلك من الكمالات.
وأما استقامة الأرواح والأسرار، فتحصل بعدم الوقوف مع شيء سوى الله تعالى، وعدم الالتفات إلى غيره حالاً كان أو مقاماً أو كرامة، أو غير ذلك: كما قال الششترى رضى الله عنه:
فلا تلْتَفِت في السَّير غيراً، وكلُّ ما | سوى الله غيرٌ، فاتخذ ذِكرَه حِصنا |
وكلُّ مقامٍ لا تُقمْ فيهِ إنّه | حجابٌ، فجد السَّير واستَنجد العونا |
ومهما ترى كل المراتب تجتلي | عليك فحل عنها، فعن مثلها حلنا |
ليس لي في غير ذاتك مطلب | فلا صورة تُجلى ولا طُرفة تُجنا |
قلت لبعض الأبدال: كيف الطريق إلى التحقيق، والوصول إلى الحق؟ قال: لا تنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة، قلت: لا بد لي، قال: لا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة، قلت: لا بُد لي، قال: لا تعاملهم لأن معاملتهم خسران وحسرة ووحشة، قلت: أنا بين أظهرهم لا بد لي من معاملتهم؟ قال: لا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة. قلت: هذا لعله يكون؟ قال: يا هذا أتنظر إلى اللاعبين، وتسمع كلام الجاهلين، وتعامل البطَّالين، وتسكن إلى الهلكى، وتريد أن تجد حلاوة الطاعة، وقلبك مع غير الله عز وجل!! هيهات! هذا ما لا يكون أبداً. هـ. ونقل الورتجبي عن جعفر الصادق: ولا تركنوا إلى نفوسكم فإنها ظلمة. هـ.
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا منهم وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)
قلت: (لولا)، تحضيضية، ويقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف، كقوله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ «١»، و «إلا قليلاً» : منقطع، ولا يصح اتصاله، إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض. أي: ما كان في القرون الماضية أولو بقية إلا قليل. يقال: فلان من بقية القوم، أي: خيارهم، وإنما قيل فيه «بقية» لأن الشرائع والدول تقوى أولاً ثم تضعف. فمن ثبت في وقت الضعف على ما كان في أوله، فهو بقية الصدر الأول. قاله ابن عطية.
وقوله: «بظلم» : حال من «ربك» أي: ما كان ربك ليهلك القرى ظالماً لهم، أو متعلق بيُهلك.
يقول الحق جلّ جلاله: فَلَوْلا: فهلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ كقوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكرهم، أُولُوا بَقِيَّةٍ من الرأي، والعقل يُنكرون عليهم، أي: فهلا وجد فيهم من فيه بقية من العقل والحزم والثبوت، يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ، لكن قليلاً ممن أنجينا منهم كانوا كذلك، فأنكروا على أهل الفساد، واعتزلوهم في دينهم فأنجيناهم. وفي هذا تحريض على النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وأنه سبب النجاة في الدارين. وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ: ما أنعموا فيه من الشهوات، واهتموا بتحصيل أسبابها، وأعرضوا عما وراء ذلك، وَكانُوا مُجْرِمِينَ كافرين. قال البيضاوي: كأنه أراد أن يُبين ما كان السبب لاستئصال الأمم الماضية، وهو: فشو الظلم فيهم، واتباع الهوى، وترك النهي عن المنكرات مع الكفر. هـ.
وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ أي: متلبساً بظلم، وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ، فيعذبهم بلا جرم، أي: ما كان ليعذبهم ظالماً لهم بلا سبب. أو ما كان ليهلك القرى بشرك وأهلها مصلحون فيما بينهم، لا يضمون إلى شركهم فساداً وبغياً، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه. ومن ذلك قدَّم الفقهاءُ، عند تزاحم الحقوق، حقوق العباد. وقال بعضهم: [الذنوب ثلاثة: ذنب لا يغفره الله، وهو الشرك. وذنب لا يعبأ الله به، وهو ما كان بينه وبين عباده، وذنب لا يتركه الله، وهو حقوق عباده]. وقالوا: قد يبقى المُلك مع الشرك ولا يبقى مع الظلم.
الإشارة: أولو البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض هم: أهل النور المخزون المستودع في قلوبهم من نور الحق، إذا قابلوا منكراً دمغوه بالحال أو المقال، وإذا قابلوا فسادا أصلحوه، وإذا قابلوا فتنة أطفأوها. وإذا قابلوا بدعة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «والذي نفس محمد بيده لئن شئتُم لأُقسِمَنَّ لكم: إنَّ أحبَّ عبادِ اللهِ إلى الله الذين يُحَبَّبُون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، ويمشُون في الأرضِ بالنَّصيِحَة» أما كونهم يحببون الله إلى عباده فلأنهم يَذكرون لهم آلاءه وإحسانه وبره. والنفسُ تحب بالطبع من أحسن إليها. وأما كونهم يحببون عباد الله إلى الله فلأنهم يردونهم عن غيهم وحظوظهم، التي تبعدهم عن ربهم. فإذا رجعوا إليه أحبهم.
وسئل ذو النون المصري رضى الله عنه عن وصف الأبدال، فقال: سألتَ عن دياجي الظلام لأكشف لك عنهم، هم قوم ذكروا الله بقلوبهم، تعظيماً لربهم لمعرفتهم بجلاله، فهم حجج الله تعالى على خلقه، ألبسهم الله- تعالى- النور الساطع من محبته، ورفع لهم أعلام الهداية إلى مواصلته، وأقامهم مقام الأبطال لإرادته، وأفرغ عليهم من مخافته، وطهَّر أبدانهم بمراقبته، وطيبهم بطيب أهل معاملته، وكساهم حُللاً من نسج مودته، ووضع على رؤوسهم تيجان مبرته، ثم أودع القلوب من ذخائر الغيوب، فهي متعلقة بمواصلته، فهممهم إليه ثائرة، وأعينهم بالغيب ناظرة، قد أقامهم على باب النظر من رؤيته، وأجلسهم على كراسي أطباء أهل معرفته، ثم قال لهم: إن أتاكم عليل من فقدي فداووه، أو مريض من فراقي فعالجوه، أو خائف مني فانصروه، أو آمن مني فحذروه، أو راغب في مواصلتي فمنوه، أو راحل نحوي فزودوه، أو جبان في متاجرتي فشجعوه، أو آيس من فضلي فرجوه، أو راج لإحساني فبشروه، أو حسن الظن بي فباسطوه، أو محب لي فواصلوه، أو معظم لقدرتي فعظموه، أو مسيء بعد إحساني فعاتبوه، أو مسترشد فأرشدوه. هـ.
وهذا بقدر الله ومشيئته، كما قال تعالى:
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٨ الى ١١٩]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩)
قلت: الاستثناء من ضمير «يزالون».
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً، متفقين على الإيمان، أو الكفران، لكن مقتضى الحكمة وجود الاختلاف ليظهر مقتضيات الأسماء في عالم الشهادة فاسمه: الرحيم والكريم يقتضي وجود من يستحق الكرم والرحمة، وهم: أهل الإيمان. واسمه: المنتقم والقهار يقتضي وجود من يستحق الانتقام
وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ بعضهم على الحق، وهم أهل الرحمة والكرم، وبعضهم على الباطل، وهم أهل القهرية والانتقام. أو مختلفين في الأديان والملل والمذاهب، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ إلا ناساً هداهم الله من فضله، فاتفقوا على ما هو أصل الدين والعمدة فيه، كالتوحيد والإيمان بجميع الرسل وبما جاءوا به، وهم المؤمنون.
وقوله: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ إن كان الضمير للناس، فالإشارة إلى الاختلاف، واللام للعاقبة، أي: ولتكون عاقبتهم الاختلاف خلقهم، وإن كان الضمير يعود على «من»، فالإشارة إلى الرحمة، أي: إلا من رحم ربك وللرحمة خلقه. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الأزلية على ما سَبق له الشقاء، أي: نفذ قضاؤه ووعيده في أهل الشقاء، أو هي قوله للملائكة: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
أي: من أهل العصيان منهما، لا من جميعهما.
الإشارة: الاختلاف بين الناس حكم أزلي، لا محيدَ عنه. وقد وقع بين أهل الحق وبين أهل الباطل. فقد اختلفت هذه الأمة في الأصول والفروع. أما الأصول فأهل توحيد الدليل وقع بينهم تخالف في صفات الحق، كالمعتزلة والقدرية والجهمية والجبرية مع أهل السنة. وأما الفروع فالاختلاف بينهم شهير. فقد كان في أول الإسلام اثنا عشر مذهباً. ولا تجد علماً من علم الفروع إلا وبين أهله اختلاف، إلا أهل التوحيد الخاص، وهم:
المحققون من الصوفية، فكلهم متفقون في الأذواق والوجدان، وإن اختلفت طرقهم، وكيفية سيرهم. فهم متفقون في النهايات، التي هي معرفة الشهود والعيان، على طريق الذوق والوجدان، وفي ذلك يقول ابن البنا- رحمه الله-:
مذاهبُ الناسِ على اخْتلاف | ومَذْهَبُ القَوْمِ على ائْتِلاَف |
ثم ذكر حكمة سرد قصص الأنبياء، فقال:
قلت: «وكُلاً» مفعول «نقص»، و «ما نثبت به» : بدل، أو «ما» مفعول «نَقُصُّ»، و «كلا» : مصدر. أي: ونقص
[سورة هود (١١) : آية ١٢٠]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وكل نبأ نَقُصُّ عَلَيْكَ من أخبار الرسل، ونخبرك به ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، ليزيدك يقيناُ وطمأنينة وثباتاً بما تسمع من أخبارهم، وما جرى لهم مع قومهم، وما لقوا من الأذى منهم، فتتسلى بهم، وتثبت على أداء الرسالة، واحتمال أذى الكفار. وَجاءَكَ فِي هذِهِ السورة، أو الأنباء المقتصة عليك، الْحَقُّ أي: ما هو حق، وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ، فيتحملون، ويصبرون لما يواجههم من الأذى والإنكار.
الإشارة: ذكر أحوال الصالحين، وسيرهم وكراماتهم جند من جنود القلب، وذكر أشعارهم ومواجيدهم جند من جنود الروح، وقد ورد: أن عند ذكرهم تنزل الرحمة، أي: رحمة القلوب باليقين والطمأنينة. والله تعالى أعلم.
ثم أمره بتهديد من خالفه، فقال:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢١ الى ١٢٣]
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ: حالكم إِنَّا عامِلُونَ على حالنا، وَانْتَظِرُوا وقوع ما نزل بمن قبلكم ممن خالف رسوله فإنه نازل بكم، إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ما وعدنا ربنا من النصر والعز.
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يعلمه غيره فلا يعلم غيب العواقب، ووقت وقوع المواعد إلا هو.
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فيرجع لا محالة أمرهم وأمرك إليه، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فإنه كافيك أمرهم وأمر غيرهم. وفي تقديم العبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع التوكل العابد دون البطال. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أنت وهم، فيجازي كلاّ ما يستحقه. أو عما يعمل الكافرون، فيمهلهم ولا يهملهم.
الإشارة: (فاعبده وتوكل عليه) : يقول تعالى: يا عبدي قُم بخدمتي أقم لك بقسمتي، قف ببابي وانتسب لجنابي أكفك شئونك، وتكن من أحبابي. أأدعوك لدارى، وأمنعك من وجود إبراري، أأكلفك بخدمتي، ولا أقوم لك بقسمتي، فثق بي كفيلاً، واتخذني وكيلاً، أعطك عطاء جزيلاً، وأمنحك فخراً جليلاً. قال القشيري: ويقال: إن التوكل: سكون القلب بضمان الربِّ. ويقال: سكون الجأش في طلب المعاش، ويقال: الاكتفاء بوعده عند عدم نَقْدِه، أو الاكتفاء بالوعد عند فقد النقد. وسيأتي تمامه في سورة الفرقان، إن شاء الله. وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً.